أو كان صرف الليالي رثَّ بزّته ... فبين ثوبيه منه ضيغم لبد
وإنّما أوردت ذلك المقدار من المقصيدة وإن كان فيه ما هو خارج عمّا نحن فيه لحسنها وجودتها.
ونظير تلك الحكاية أيضًا ما روي في عائشة بنت طلحة. أقول: هي عائشة بنت طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعيد بن تيم بن مرّة، أبوه ابن عمّ أبي بكر لحًّا، وكانت بارعة في الجمال، تامّة الخلق، موصوفة بحسن المعاشرة، محبّبة إلى الأزواج، وكانوا يتنافسون عليها، وتزوّجها عدّة من الرجال، فكان الثانيى من أزواجها يضاعف لها مهرها عن الأوّل حتّى بلغ مهرها عند الأخير ألوفًا كثيرة من المال، وهذا خلاف العادة، فإنّ العرف يقضي بانحطاط مهر الثيّب عن البكر والثالث عن الثاني وهلمّ جرّا، وما ذاك إلاّ لمعنىً في عائشة دون غيرها، ونحن نذكر شيئًا من أوصافها وبعضًا من أخبارها: حكى أبوالفرج في الأغاني قال: اجتمع مصعب بن الزبير وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر وعمرو بن سعيد بن العاص وأتتهم عزّة الميلاء، فقالوا لها: إنّا قد خطبنا وأردنا منك أن تنظري لنا نسائنا، فسألت مصعبًا عمّن خطب، قال: عائشة بنت طلحة، وسألت عمرو بن سعيد عمّن خطب، فقال: عائشة بنت عثمان، وسألت عبد الله فقال: أُمّ القاسم بنت زكريّا، فتوجّهت إليهنّ لتنظرهنّ، فبدأت بعائشة بنت طلحة، فدخلت عليها، فأكرمتها عائشة وسُرَّت بها فسألتها عن حاجتها، فقالت لها: إنّي كنت في نسوة من قريش فتذاكرنا جمال النساء وخلقهنّ فذكرناكِ فلم أدرِ كيف أصفكِ، فقالت: ماذا تريدين؟ فقالت لها: فديتك أقبلي وأدبري، فأقبلت وأدبرت، فارتجّ كلّ شيء منها، ثمّ قالت لها عزّه: خذي ثوبك، فأخذته فرأتها من أحسن النساء ثورة وأتمّهنّ محاسن، فعوّذتها وقالت: ما أظنّ أنّ الله تعالى خلق لصورتك هذه شبيهًا في الدّنيا، وودّعتها وانصرفت إلى أُمّ القاسم، فأكرمتها وسُرّت بها وسألتها عن حاجتها، فعرّفتها بمثل ذلك وسألتها أن تقبل فأقبلت وأن تدبر فأدبرت، فرأت منها ما أعجبها فعوّذتها وقالت لها: يا أُم القاسم والله ما رأيت حسنًا إلاّ وأنتِ أحسن منه، وودّعتها وانصرفت وفعلت مثل ذلك مع عائشة بنت عثمان، ورجعت إليهم وهم ينتظرونها.
فقالت لمصعب: أمّا عائشة فلا والله ما رأيت مثلها مقبلة ولا مدبرة، مخطوطة المتنين، عظيمة العجيزة، ممتلئة الترائب، نقيّة الثغر، وضيئة الوجه، فرعاء الشعر، لفّاء الفخذين، يرتجّ ما بين أعلاها إلى أسفلها، وفيها عيبان: اُذنان يحاذيان الخدّ في الكبر، وقدمان كذلك، ولكن الأوّل يواريه الخمار والثاني يواريه الخف. ثمّ قالت لعبد الرحمن: وأمّا أُم القاسم فكأنّها خوطة بان، أو جدول عنان، لو شائت أن تعقد وتعقد أطرافها لفعلت، ولكنّها شحّة الصدر وأنت عريض الصدر وإن قبيحًا لا والله حتّى يملأ كلّ شيء مثله. وقالت لعمرو بن سعيد: أمّا عائشة فوالله ما رأيت خلقتها قط لامرأة لكأنّما أفرغت في قالب الحسن إفراغًا غير أنّ في وجهها ردّة، فوصلوها وتزوّجوهنّ.
قولها: في وجهها ردّة بفتح الراء، تُريد أنّ وجهها ينقص في الحسن عن بدنها.
وذكر أنّ عائشة بنت طلحة كانت تستلقي على قفاها ثمّ تدحرج الاُترجة من تحت ظهرها فتخرج من الناحية الاُخرى لوفور عجيزتها، وقد قال فيها الحارث بن خالد المخزومي:
قرشيّة عبق العبير بها ... عبق الدهان بجانب الحقّ
وتنوء تثقلها عجيزتها ... نهض الضعيف ينوء بالوسق
قال مسلم بن قتيبة: رأيت عايشة بنت طلحة بمنى - أو قال بمسجد الخيف - ومعها امرأتان تنهضانها للقيام فانخزلت عجيزتها لعظمها، فقالت: إنّي لمعناة منكما. قال مسلم: فذكرت قول الحارث بن خالد المخزومي: وتنوء تثقلها عجيزتها، البيتان.
قالت سلافة: زرت مع مولاتي عائشة بنت طلحة وأنا يومئذ وصيفة، فرأيت عجيزتها خلفها وهي جالسة كأنّها غيرها، فوضعت يدي عليها لأعلم ما هي، فلمّا وجدت مسّ يدي قالت: من هذه التي تمسّني؟ فقلت: أنا، رأيت هذا الذي خلفك فخلت أنّها امرأة جالسة معك فجئت لأنظر من هي، فضحكت وقالت: ما أكثر ما يعجب ممّا تعجبين منه. قالت سلافة: ولم أر أحسن جسمًا من عائشة بنت طلحة.
1 / 29