هلاّ برزت إلى غزالة في الوغى ... أم كان قلبك في جناحي طائر
قم فاخرج، فقام فخرج.
وروي عن محمّد بن عمّار بن ياسر قال: بلغ الحرث بن حجر الكندي عن الخنساء ابنة عوف بن محلم جمالًا وكمالًا، فأرسل إليها امرأة من كندة يقال لها عصام وقال لها: إذهبي واعلمي لي علم الجارية، قالت: فأتيت أُمّها فإذا أنا بامرأة كأنّها جازية من الضباء، وحولها بنات لها كأنّهنّ الغزلان، فأعلمتها الذي جئت له، فأرسلت إلى ابنتها: يا بنيّتي هذه خالتك قد أتتك تنظر إلى بعض شأنك فلا تستري عنها وجهًا، ولا تخفي عليها خلقًا، وناطقيها إن استنطقتك، فأذنت لها، فلمّا دخلت عليها وتوسّمت خلقها رأيت أحسن الناس وجهًا وجسمًا، ثمّ خرجت وهي تقول: تركَ الخداع مَن كشف القناع، حتّى دخلت على الحرث، فقال لها: ما ورائك يا عصام؟ فقالت: أصلح الله الملك، صرّح المخض عن الزّبد، أقول حقًّا وأخبرك صدقًا، رأيت وجهًا كالمرآة الصينيّة الوضيئة، يزينه شعر حالك كأذناب الخيل، إن أرسلته قلت سلاسل، وإن مشطته قلت عناقيد جلاها وابل، لها حاجبان كأنّما خطّا بقلم أو سوّدا بحمم، تقوّسا على مثل عيني الظبية العبهرة التي لم تَرَ قانصًا ولم يذعرها قسورة، تبهتان المتوسّم إن فتحتهما، وتجللان بأشفارهما ما تحتهما، بينهما أنف كحدّ السيف المصقول، لم يخنس به قصر ولم يعبه طول، حفّت به وجنتان كالأرجوان في بياض محض، كالجمال شقّ فيه فم لذيذ المتبسّم، فيه ثنايا ذات أشر، وأسنان كالدرر، ينطق فيه لسان ذو فصاحة، وبيان يحرّكه عقل وافر بجواب حاضر، تنطبق عليه شفتان حمراوان كأنّهما في اللين الزبد، تحملان ريقًا كالشهد، ركّب ذلك على عنق بيضاء بضّه مثل سبيكة الفضّة، على صدر كصدر التمثال، قدّ منه عضدان مدمجتان ممتليتان لحمًا مكسوّتان شحمًا، متّصل بينهما ساعدان رقيق قصبهما، لين عصبهما، وافر لحمهما، متّصل بهما كفّان ما فيهما عرق يمس، ولا عظم يجس، تعقد إن شئت منهما الأنامل وتغيب الفصوص في عقد تلك المفاصل، نتأ في ذلك الصدر ثديان كالرمانتين، يخرقان عنها ثيابها، ويمنعانها أن تقلّد سخابها، تحت ذلك كلّه بطن كالقباطي المدمجة، والطوامير المدرّجة، أحاطت تلك العكن بسرّة كمدهن العاج، خلف ذلك ظهرٌ فيه كالجدول ينتهي إلى خصر لطيف، لولا رحمة الله لانبتر لها كفل بنهضها إذا قعدت، ويقعد بها إذا نهضت، كأنّه دعص رمل لبّده سقيط الطل، تحمله فخذان لفّاوان، وإن قلبتا على نضيد جمان، تحملها ساقان خدلجتان فيهما شعر أسود كأنّه حلق الزرد، تحمل ذلك كلّه قدم كحذو اللسان، فتبارك الله مع صغرهما كيف تطيقان حمل ما فوقهما. قال: فتزوّجها فولدت له الأملاك الأربعة: حجرًا وشرجيلًا وسلمة ومعدي كرب.
ونظير ما وصفت به هذه المرأة وصف النابغة الذبياني المتجرّدة زوجة النّعمان بن المنذر، والنابغة هذا اسمه زياد بن معاوية بن ضباب، ينتهي نسبه لذبيان ثمّ لمضر، ويكنّى أبا أمامة، وإنّما سمّي النابغة لقوله: وقد نبغت لهم منّا شؤون، وهو أحد الأشراف الذين غضّ منهم الشعر، وهو من الطبقة الاُولى المتقدّمين على سائر الشعراء، وكان خاصًّا بالنّعمان بن المنذر وكان من ندمائه، فرأى زوجته المتجرّدة يومًا وقد غشيها شيء شبيه بالفجأة فسقط نصيفها واستترت بيدها وذراعها، فكانت ذراعها تستر وجهها لعبالتها وغلظها، فقال:
من آل أُميّة رائح أو مغتدي ... عجلان ذا زاد وغير مزوَّد
زعم البوارح أنّ رحلتنا غدًا ... وبذاك تنعاب الغراب الأسود
لا مرحبًا بغد ولا أهلًا به ... إن كان تفريق الأحبّة في غد
أزف الترحّل غير أنّ ركابنا ... لمّا تزل برحالنا وكأنّ قد
في أثر غانية رمتك بسهمها ... فأصاب قلبك غير أن لم تقصد
بالدرّ والياقوت زيّن نحرها ... ومفصل من لؤلؤ وزبرجد
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه ... فتناولته واتّقتنا باليد
بمخضب رخص كأنّ بنانه ... عنم على أغصانه لم يعقد
وبفاحم رجل أثيث نبته ... كالكرم مال على الدعام المسند
نظرت إليك لحاجة لم تقضها ... نظر السقيم إلى وجوه العوَّد
ومنها:
وإذا لمست لمستَ أختم جاثمًا ... متحيّزًا بمكانة ملأ اليد
وإذا طعنت طعنت في مستهدف ... رابي المجسّة بالعبير مقرمد
1 / 27