يجرحه اللحظ بتكراره ... ويشتكي الإيماء بالطرف
قال السيّد المرتضى: وشبيه مقالة النظّام في وصف الزجاجة والنخلة خبر لبيد المشهور في هجائه للبقلة التي امتحن بهجائها واختبر بذمّها فقال فيها أبلغ ما يقال في مثلها وذلك أنّ عمّارًا وأنسًا وقيسًا والربيع بن زياد العبسيين وفدوا على النعمان بن المنذر، ووفد عليه العامريّون بنو أُمّ البنين وعليهم أبو البراء عامر بن جعفر بن كلاب؛ وهو ملاعب الأسنّة، وكان العامريّون ثلاثين رجلًا وفيهم لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب وهو يومئذ غلام له ذؤابة، وكان الربيع بن زياد العبسي ينادم النعمان ويكثر عنده ويتقدّم على من سواه وكان يُدعى الكامل لسطاطه وبياضه وكماله، فضرب النعمان قبّة على أبي البراء وأجرى عليه وعلى من كان معه النزل، فكانوا يحضرون النعمان لحاجتهم، فافتخروا يومًا بحضرته، فكاد العبسيّون يغلبون العامريّين، وكان الربيع إذا خلال بالنعمان طعن فيهم وذكر معائبهم، ففعل ذلك مرارًا لعداوته لبني جعفر لأنّهم كانوا أسروه، فصدّ النعمان عنهم حتّى نزع القبّة عن أبي البراء وقطع النزل، فدخلوا عليه يومًا فرأوا منه جفاء، وقد كان قبل ذلك يكرمهم ويقدم مجلسهم، فخرجوا من عنده غضابًا وهمّوا بالإنصراف، ولبيد في رحالهم يحفظ أمتعتهم ويغدوا بإبلهم فيرعاها فإذا أمسى إنصرف بها.
فأتاهم تلك الليلة وهم يتذاكرون أمر الربيع، فقال لهم: مالكم تتناجون؟ فكتموه وقالوا له: إليك عنّا، فقال لهم: أخبروني فلعلّ لكم عندي فرجًا، فزجروه، فقال: والله لا أحفظ أمتعتكم ولا أسرح بإبلكم أو تخبروني، وكانت أُمّ لبيد عبسيّة في حجر الربيع، فقالوا له: خالك قد غلبنا على الملك وصدّ عنّا وجهه، فقال: هل تقدرون على أن تجمعوا بيني وبينه غدًا حين يقعد الملك فأرجز به رجزًا ممضًّا مؤلمًا لا يلتفت إليه النعمان بعده أبدًا؟ قالوا له: وهل عندك ذاك؟ قال: نعم، قالوا: فإنّا نبلوك بشتم هذه البقلة، وقدّامهم بقلة دقيقة القضبان، قليلة الورق، لاصقة فروعها بالأرض، تدعى الترِبة، فاقتلعها من الأرض فأخذها بيده وقال: هذه البقلة التفلة الرذلة لا تذكي نارًا، ولا تأهل دارًا، ولا تسر جارًا، عودها ضئيل، وفرعها ذليل، وخيرها قيل، بلدها شاسع، ونبتها خاشع، وآكلها جائع، والمقيم عليها قانع، أقصر البقول فرعا، وأخبثها مرعى، وأشدّها قلعًا، فحرَبًا لجارها وجدعًا، ألقوا بي أخا عبس أرجعه عنكم بتعس ونكس، وأتركه من أمره في لبس.
فقالوا: نصبح ونرى فيك رأينا، فقال لهم عامر: أُنظروا إلى غلامكم هذا، فإن رأيتموه نائم فليس أمره بشيء وإنّما تكلّم بما جرى على لسانه، وإن رأيتموه ساهرًا فهو صاحبكم، فرمقوه بأبصارهم فوجدوه قد ركب رحلًا يكدم واسطته حتّى أصبح، فلمّا أصبحوا قالوا: والله أنت صاحبنا، فحلّقوا رأسه وتركوا له ذؤابتين، وألبسوه حلّة وغدوا به معهم فدخلوا على النعمان، فوجدوه يتغذّى ومعه الربيع ليس معه غيره، والدار والمجلس مملوئة بالوفد، فلمّا فرغ من الغذاء أذن للجعفريين فدخلوا عليه، والربيع وإلى جانبه، فذكروا للنعمان حاجتهم، فاعترض الربيع في كلامهم، فقام لبيد وقد دهن أحد شقّي رأسه وأرخى إزاره وانتعل نعلًا واحدة، وكذلك العرب كانت تفعل شعرائها في الجاهليّة إذا أرادت الهجاء، فمثّل بين يديه ثمّ قال:
يا ربّ هيجا هي خير من دعه ... إذ لا تزال هامتي مقزّعه
نحن بني أُمّ البنين الأربعه ... ونحن خير عامر بن صعصعه
المطعمون الجفنة المدعدعه ... والضاربون الهام تحت الخيضعه
مهلًا أبيت اللعن لا تأكل معه ... إن استه من برص ملمّعه
وإنّه يدخل فيها إصبعه ... يدخلها حتّى يواري أشجعه
فلمّا فرغ لبيد، إلتفت النعمان - كأنّه يطلب شيئًا ضيّعه - إلى الربيع يرمقه شزرًا وقال: أكذلك أنت؟ قال: والله كذب ابن الحمق اللئيم، فقال: أُفٍّ لهذا الطعام لقد خبث على نفسي، فقال الربيع: أبيت اللعن، أمّا إنّي فعلت بأُمّه لا يكنى، وكانت في حجره، فقال لبيد: أنت لهذا الكلام أهل، أمّا إنّها ممن نسوة غير فعّل وأنت المرء.
1 / 23