ونظير قول المعتصم: من كان منكم يحسن أن يقول مثل قول النميري الخ ما رواه ميمون بن هارون قال: رأيت أبا جعفر أحمد بن يحيى بن جابر بن داود البلاذري المؤرخ وحاله متماسكة، فسألته فقال: كنت من جلساء المستعين، فقصده الشعراء فقال: لست أقبل إلاّ ممّن قال مثل قول البحتري في المتوكّل:
فلو أنّ مشتاقًا تكلّف فوق ما ... في وسعه لسعى إليك المنبر
فرجعت إلى داري وأتيته وقلت: قد قلت فيك أحسن ممّا قاله البحتري في المتوكّل، فقال: هاته، فأنشدته:
ولو أنّ برد المصطفى إذ لبسته ... يظنّ لظنّ البرد أنّك صاحبه
وقال قد أعطيته ولبسته ... نعم هذه أعطافه ومناكبه
وقال: ارجع إلى منزلك وافعل ما آمرك به، فرجعت فبعث إليّ سبعة آلاف دينار وقال: أذخر هذه للحوادث من بعدي ولك عَلَيّ الجراية والكفاية ما دمت حيًّا.
ويناسب هذه الحكاية ما روي عن ابن هرمة أنّه دخل على المنصور ممتدحًا له، فقال له المنصور: وما عسى أن تقول فيّ بعد قولك في عبد الواحد بن سليمان:
إذا قيل من عند ريب الزمان ... لمقتر فهر ومحتاجها
ومن يعجل الخيل يوم الهياج ... بإلجامها قبل إسراجها
أشارت نساء بني مالك ... إليك به دون أزواجها
قلت: يا أميرالمؤمنين فإنّي قلت فيك أحسن من هذا، وأنشده:
إذا قيل أيّ فتىً تعلمون ... أهشّ إلى الطعن بالذابل
وأضرب للقرن يوم الوغى ... وأطعم في الزمن الماحل
أشارت إليك أكفّ الأنام ... إشارة غرقى إلى الساحل
قال المنصور: أمّا هذا فمسروق من ذاك، وأمّا نحن فلا نكافىء إلاّ بالتي هي أحسن، ثمّ أنعم عليه وأحسن جائزته.
ومثل ذلك ما رواه يموت به المزرع أنّ أحمد بن محمّد بن عبد الله أباالحسن الكاتب المعروف بابن المدبّر الضبي كان إذا مدحله شاعر ولم يرض شعره قال لغلامه: إمض به إلى المسجد ولا تفارقه حتّى يصلّي مأة ركعة، فتحاماه الشعراء إلاّ الأفراد المجيدون، فجائه أبو عبد الله الحسن بن عبد السلام المصري فاستأذنه في النشيد، فقال له: قد عرفت الشرط؟ قال: نعم، ثمّ أنشده هذه الأبيات:
أردنا في أبي حسن مديحًا ... كما بالمدح تنتجع الولاة
فقلنا أكرم الثقلين طرًّا ... ومن كفّيه دجلة والفرات
فقالوا يقبل المدحات لكن ... جوائزه عليهنّ الصّلاة
فقلت لهم وما يغني عيالي ... صلاتي إنّما الشّأن الزكاة
فيأمر لي بكسر الصاد منها ... فتصبح لي الصلاة هي الصلاة
فضحك ابن المدبّر واستظرفه، فقال: من أين أخذت هذا؟ قال: من قول أبي تمام الطائي:
هنّ الحمام فإن كسرت عيافة ... من حائهنّ فانّهنّ حمام
فاستحسن ذلك وأجزل طلبته.
وتكلّم خالد بن صفوان بين يدي هشام بن عبد الملك بكلام استحسنه هشام، فحسده بعض جلسائه فقال له: ما اسمك؟ فقال: خالد بن صفوان بن الأهتم، فقال الرجل: اسمك كاذب وما أحد بخالد، وأبوك صفوان وهو حجر صلد، وجدّك أهتم والصحيح خير من الأهتم. فقال خالد: قد سألت فأجبناك، فممّن أنت؟ قال: من أهل الحجاز، قال: بخّ بخّ بلد العرب، ومنشأ أهل الأدب، فمن أيّ الحجاز؟ قال: من مكّة، قال: بخّ بخّ حرم الله وأمنه ومهجر إبراهيم ومولد إسماعيل، فمن أيّ أهل مكّة أنت؟ قال: من عبد الدار، قال: لم تصنع شيئًا يا أخا عبد الدار، هشمتك هاشم، وأمتك أُميّة، وخزمتك مخزوم، وجمحت بك جمح، وسهمتك سهم، وألوت بك لوي، وغلبتك غالب وأنافت بك مناف، وزهرت عليك زهرة، فأنت ابن عبد دارها، ومنتهى عارها، فتفتح لها إذا دخلت، وتغلق ورائها إذا خرجت. فمرض الرجل بعد ذلك أيّامًا ثمّ مات، فادّعى أهله على خالد ديته لأنّه مات بسبب كلامه.
1 / 20