Ciqd Mufassal
العقد المفصل في قبيلة المجد المؤثل
فقال له أبو جعفر ﵇: قتله في حلّ أو حرم؟ عالمًا كان المحرم أم جاهلًا؟ قتله عمدًا أم خطأ؟ حرًّا كان المحرم أم عبدًا؟ صغيرًا كان أم كبيرًا؟ مبتدئًا بالقتل أم معيدًا؟ من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها؟ من صغار الصيد أم من كبارها؟ مصرًّا على ما فعل أم نادمًا؟ في الليل كان قتله للصيد أم في النّهار؟ محرمًا كان بالعمرة إذ قتله أم الحج كان محرمًا؟ فتحيّر يحيى بن أكثم وبان في وجهه العجز والإنقطاع ولجلج حتّى عرف جماعة أهل المجلس أمره، فلمّا تفرّق الناس وبقي الخاصة قال المأمون لأبي جعفر ﵇: إن رأيت جعلت فداك أن تذكر ما فصّلته من وجوه قتل المحرم لنعلمه ونستفيده؟ فقال أبو جعفر: نعم، إذا قتل صيدًا في الحلّ وكان من ذوات الطير وكان من كبارها فعليه شاة، فإن أصابه في الحرم فعليه الجزاء مضاعفًا، وإذا قتل فرخًا في الحل فعليه جمل قد فطم من اللبن، فإذا قتله في الحرم فعليه الجمل وقيمة الفرخ، فإن كان من الوحش وكان حمار وحش فعليه بقرة، وإن كان نعامة فعليه بدنة، وإن كان ظبيًا فعليه شاة، وإن كان قتل شيئًا من ذلك في الحرم فعليه الجزاء مضاعفًا هديًا بالغ الكعبة، وإذا أصاب المحرم ما يجب عليه الهدي فيه وكان إحرامه للحج نحره بمنى، وإن كان إحرامه للعمرة نحره بمكّة، وجزاء الصيد على العالم والجاهل سواء، وفي العمد عليه الإثم وهو موضوع عنه في الخطأ، والكفّارة على الحرّ في نفسه وعلى السيّد في عبده، والصغير لا كفّارة عليه وهي على الكبير واجبة، والنادم يسقط ندمه عنه عقاب الآخرة.
فقال له المأمون: أحسنت يا أبا جعفر! أحسن الله إليك! فإن رأيت أن تسأل يحيى عن مسألة كما سألك؟ فقال أبو جعفر ليحيى: أسألك؟ قال: ذاك إليك جعلت فداك، فإن عرفت جواب ما تسألني عنه وإلاّ استفدته منك. فقال له أبو جعفر: أخبرني عن رجل نظر إلى امرأة في أوّل النّهار فكان نظره إليها حرامًا عليه، فلمّا ارتفع النهار حلّت له، فلمّا زالت الشمس حرمت عليه، فلمّا كان وقت العصر حلّت له، فلمّا كان غروب الشمس حرمت عليه، فلمّا دخل وقت العشاء الآخرة حلّت له، فلمّا كان وقت انتصاف الليل حرمت عليه، فلمّا طلع الفجر حلّت له، ما حال هذه المرأة وبماذا حلّت له وحرمت عليه؟ فقال له يحيى والله لا أهتدي إلى جواب هذا السؤال ولا أعرف الوجه فيه فإن رأيت أن تفيدنا؟ فقال له أبو جعفر ﵇: هذه أمة لرجل من الناس نظر إليها أجنبي في أوّل النّهار فكان نظره إليها حرامًا عليه، فلمّا ارتفع النّهار ابتاعها من مولاها فحلّت له، فلمّا كان عند الظهر أعتقها فحرمت عليه، فلمّا كان وقت العصر تزوّجها فحلّت له، فلمّا كان وقت المغرب ظاهرها فحرمت عليه، فلمّا كان وقت العشاء الآخرة كفّر عن الظهار فحلّت له، فلمّا كان من نصف الليل طلّقها طلقة واحدة فحرمت عليه، فلمّا كان عند الفجر راجعها فحلّت له.
فقول تمامة: إنّما عليك أن تجيب في مسألة طلاق أو محرم قتل صيدًا تعريض له بذلك، معناه أنّك مع ما تسمّيت به من الفقه ولا تعرف الجواب عن مسائله، فكذلك أنت من أهل العشق ولا تحسن وصفه.
وذكر ابن خلّكان عن بعض المؤرّخين أنّه لم يكن في يحيى بن أكثم ما يعاب به سوى ما كان يتّهم به من الهناة الشائعة عنه المنسوبة إليه.
قال: ونقلت من أمالي أبي بكر محمّد بن القاسم الأنباري أنّ القاضي يحيى بن أكثم قال لرجل يأنس به ويمازحه: ما تسمع الناس يقولون فيّ؟ قال: ما أسمع إلاّ خيرًا. قال: ما أسألك لتزكّيني، قال: أسمعهم يرمون القاضي بالأُبنة، قال: اللهمّ غفرًا، المشهور عنّا غير هذا.
وذكر عنه أنّه كان يحسد حسدًا شديدًا وكان متفنّنًا، فإذا نظر إلى رجل يحفظ الفقه سأله عن الحديث، وإذا رآه يحفظ الحديث سأله عن النحو، وإذا رآه يعلم النحو سأله عن الكلام ليقطعه ويخجله، فدخل إليه رجل من أهل خراسان ذكيٌّ حافظ، فناظره فرآه متفنّنًا، فقال له: نظرت في الحديث؟ قال: نعم، قال: تحفظ من الأُصول؟ قال: نعم أحفظ عن شريك عن أبي إسحاق عن الحارث أنّ عليًّا ﵇ رجم لوطيًّا، فأمسك يحيى عنه ولم يكلّمه.
قال الخطيب: ودخل على يحيى بن أكثم ابنا مسعدة وكانا على نهاية الجمال، فلمّا رآهما يمشيان في صحن الدار أنشد:
1 / 106