Ilmu Adab Jiwa
علم أدب النفس: أوليات الفلسفة الأدبية
Genre-genre
كان من نتائج البغض الطبيعي القديم بين القبائل ما كان يتلافى هذا البغض نفسه، فكأنه كان قاتلا لنفسه أو محولا نفسه إلى تواد أممي؛ فقد علمت أن الحروب بين القبائل كانت أمرا طبيعيا لا ندحة منه لكيانها. ومن نتائج الحرب أن القبيلة الغالبة تفني القبيلة المغلوبة تنكيلا لكي تحل محلها، وتغنم مقتنياتها.
هكذا كانت نتيجة الحرب في أدوار الهمجية الأولى، ثم لما ترقت العقلية البشرية اكتشفت أمرا أفضل من التنكيل بالأعداء المغلوبين كلهم؛ وهو أن يسبي الغالبون نساء المغلوبين كأنهن من ضمن الغنائم، ثم صاروا يستبقون أولادهن أيضا فيربونهم كعبيد لهم، وينتفعون بتشغيلهم، ثم صاروا يعفون عن الرجال أيضا ويأسرونهم ويستعبدونهم. فالرق حل محل التنكيل بالأعداء المكسورين، وكان من نتائج الاسترقاق اختلاط الغالبين والمغلوبين، واندماجهم على التمادي كشعب واحد في الدم والعادات والأخلاق.
وبعد أن يكون البغض علة علاقة عدائية بين القومين يصبح الوئام علاقة ودادية بينهما. ترى شاهدا واضحا على هذا التطور العجيب في القرون الوسطى حين كان الرق يتحول إلى نظام اقتطاع الأراضي؛ فقد تحول العبيد إلى مزارعين بالمحاصة، ثم تحول هؤلاء المزارعون إلى ملاك أراض. (3-4) ارتقاء الروحانية
هذا مجمل أهم التطورات الرئيسية التي حدثت في تاريخ المجتمع الإنساني، ولا يخفى أن كل تطور اجتماعي إنما هو نتيجة تفاعلات عقلية داخلية وبيئية خارجية؛ ولذلك لا بد أن يصحبه تطور عقلي وتطور جسماني أيضا. والتطور الروحاني إنما هو نتيجة تفاعل العقلية بالنوابض الجسمانية تحت تأثير العوامل الخارجية. إذن هو مصاحب حتما لكل تطور اجتماعي، ففي غضون تلك التطورات التي تقلبت عليها الأنظمة الاجتماعية والمبادئ الأدبية كانت الروحانية البشرية تتطور أيضا وتترقى، متدرجة من القسوة الوحشية والفظاظة الهمجية، إلى المصادقة فالمؤاخاة ضمن القوم الواحد، إلى المسالمة بين الأقوام، إلى المعاملة العادلة بين الإنسان والإنسان من أي سلالة كان، إلى الرفق والرحمة بكل إنسان، إلى الإنسانية العامة المطلقة.
فبين نفسية الإنسان الهمجي القديم الذي كان يستحل دم إنسان آخر من غير قبيلته ومقتناه وعرضه واسترقاق ذريته، ويعد هذه الاستباحة شريعة محترمة فيها ضمانة لبقاء هيئات عشيرته ونفسه، وبين روحانية إنسان اليوم الذي يعتقد أن جميع الناس على اختلاف دمائهم وألوانهم، وتفاوتهم في العقلية والرقي ، هم إخوة متساوون في الحقوق والواجبات والحرية، والذي يتألم لألم أمة إذا نكبت نكبة مهما كانت بعيدة عنه، والذي يضحي بكثير من سروره لأجل خدمة الإنسانية العامة إلخ. بين تلك النفسية الوحشية وهذه الروحانية الصافية فرق عظيم كالفرق بين الثريا والثرى.
فهذا الرقي العظيم الذي تدرجت فيه روحانية الجنس البشري المتمدن إلى أن بلغ إلى هذه الدرجة من الإنسانية التي هي المثل الأعلى، كان دائما مصاحبا للرقي الاجتماعي، وفي كثير من الأحوال قائدا له. وكان لهذه الروحانية تأثير عظيم في ترقية المجتمع الإنساني العام، وربما كانت الآن أعظم فعلا منها في كل زمان.
فمقاومة النخاسة وتحريمها، والرفق بالحيوان، وملاجئ الضعفاء، والمستشفيات الخيرية، ومعاهد العلم التي يتبرع بها الخيرون، والإسعاف المجاني العاجل، والصليب الأحمر والهلال الأحمر والمياتم، إلى غير ذلك مما لا يحصى من المبرات المجانية التي يتبرع بها ذوو تلك الروحانية الملائكية؛ إنما هي نماذج ذلك المبدأ الأدبي الأسمى «الإنسانية».
ففي أثناء ارتقاء المبدأ الأدبي واقترابه إلى مثله الأعلى كانت نفسانية الجنس البشري نفسها تترقى أيضا، كما أن العقلية الإنسانية كانت تترقى مع ترقي الاجتماعية. ومجمل الارتقاء الإنساني إنما هو حاصل تفاعل هذه العناصر الأربعة: الأدبية والروحانية والعقلية والاجتماعية متساوقة. وفي يقيني أن الروحانية في مقدمتها لأنها مادة الجمال الذي هو غرض الطبيعة الأقصى. (3-5) اعتراض على تأثير الروحانية ورده
وهنا قد يلوح في خاطر القارئ المدقق ما لاح في خاطر بعض الباحثين الأدبيين؛ وهو: إذا كان المبدأ الأدبي يتطور ويترقى بمقتضى حاجة المجتمع إلى العوامل التي تحفظ كيانه، فإذا تغير ظرف من ظروف الاجتماع اقتضى تغير المبدأ الأدبي وتغير العادة؛ لكي تتوافق عناصر الحياة الاجتماعية الثلاثة! إذا كان الأمر كذلك؛ فيكون الفضل في تطور الأدبية أو المبدأ الأدبي للظروف البيئية وغيرها، ولا شأن للروحانية الأدبية في هذا التطور، بل إن هذه الروحانية هي نتيجة ذلك التطور.
وقد مثل بعضهم على هذه النظرية بمسألة إلغاء الرق والنخاسة، فقال: إن هذا الإلغاء حدث بعد الاقتناع أن تحرير العبيد أفيد للمجتمع من الرق ، في هذا العصر الذي اتسع فيه مجال الصناعة كل الاتساع، وأصبحت الحاجة إلى العمال أشد منها في كل زمان؛ فالعامل الحر يعمل أكثر جدا مما يعمله العبد، ناهيك عن أن العبد المقيد بسيده لا يذهب إلى المعمل، كذلك يقال: إن تحرير المرأة اقتضته الحالة الاقتصادية أيضا على هذا النحو، فلم يحدث بتأثير الروحانية المتعشقة الإنسانية.
Halaman tidak diketahui