1 - نشر كتاب «أصل الأنواع»
2 - كتاب «أصل الأنواع» (تكملة)
3 - انتشار التطور
4 - انتشار نظرية التطور
5 - نشر كتاب «تباين الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين»
6 - العمل على كتاب «نشأة الإنسان»
7 - نشر كتاب «نشأة الإنسان»
8 - متفرقات، تتضمن طبعات ثانية من كتاب «الشعاب المرجانية» وكتاب «نشأة الإنسان» وكتاب «تباين الحيوانات والنباتات»
9 - متفرقات (تكملة)
10 - تلقيح الأزهار
11 - نشر كتاب «تأثيرات التلقيح المتبادل والتلقيح الذاتي في المملكة النباتية»
12 - نشر كتاب «الأشكال المختلفة للزهور في نباتات من النوع نفسه»
13 - نشر كتابي «النباتات المتسلقة» و«النباتات الآكلة للحشرات»
14 - نشر كتاب «قوة الحركة في النباتات»
15 - خطابات متنوعة متعلقة بعلم النبات
16 - خاتمة
الملحق الأول
الملحق الثاني
الملحق الثالث
الملحق الرابع
مصادر الصور
1 - نشر كتاب «أصل الأنواع»
2 - كتاب «أصل الأنواع» (تكملة)
3 - انتشار التطور
4 - انتشار نظرية التطور
5 - نشر كتاب «تباين الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين»
6 - العمل على كتاب «نشأة الإنسان»
7 - نشر كتاب «نشأة الإنسان»
8 - متفرقات، تتضمن طبعات ثانية من كتاب «الشعاب المرجانية» وكتاب «نشأة الإنسان» وكتاب «تباين الحيوانات والنباتات»
9 - متفرقات (تكملة)
10 - تلقيح الأزهار
11 - نشر كتاب «تأثيرات التلقيح المتبادل والتلقيح الذاتي في المملكة النباتية»
12 - نشر كتاب «الأشكال المختلفة للزهور في نباتات من النوع نفسه»
13 - نشر كتابي «النباتات المتسلقة» و«النباتات الآكلة للحشرات»
14 - نشر كتاب «قوة الحركة في النباتات»
15 - خطابات متنوعة متعلقة بعلم النبات
16 - خاتمة
الملحق الأول
الملحق الثاني
الملحق الثالث
الملحق الرابع
مصادر الصور
تشارلز داروين: حياته وخطاباته (الجزء الثاني)
تشارلز داروين: حياته وخطاباته (الجزء الثاني)
تحرير
فرانسيس داروين
ترجمة
أحمد سمير درويش
مراجعة
الزهراء سامي
تشارلز داروين في عام 1881. (مأخوذة من صورة فوتوغرافية من تصوير السيدين: إليوت، وفراي.)
مقتطف من مفكرة كتبها تشارلز داروين عام 1837 بخط يده قال فيها: ... أدى ذلك إلى فهم أوجه التشابه الحقيقية. ستبعث نظريتي النشاط في التشريح المقارن للحفريات والكائنات الحديثة؛ فهي سوف تؤدي إلى دراسة الغرائز والوراثة ووراثة القدرات العقلية، والكثير مما وراء الطبيعة، وسوف تؤدي إلى دراسة أكثر دقة للتهجين والتوالد ومسببات التغيير حتى نعلم مم نشأنا وإلى أين نتجه - ما الظروف المواتية للتهجين، وما الذي يمنعها - وقد يؤدي هذا، إلى جانب الفحص المباشر للتحولات المباشرة في بنية الأنواع، إلى الوصول إلى قوانين التغير؛ وهو ما سيكون الموضوع الرئيسي للدراسة، التي سترشد تخميناتنا.
الفصل الأول
نشر كتاب «أصل الأنواع»
3 أكتوبر 1859-31 ديسمبر 1859
1859 [في دفتر يوميات أبي بتاريخ 1 أكتوبر 1859، يرد الإدخال التالي: «أنهيت بروفات طباعة ملخص كتاب «أصل الأنواع» (بعدما استغرقت ثلاثة عشر شهرا وعشرة أيام)؛ طبعت من الكتاب 1250 نسخة. نشرت الطبعة الأولى في 24 نوفمبر، وبيعت النسخ كلها في اليوم الأول.»
في الثاني من أكتوبر، سافر إلى مصحة للعلاج المائي في بلدة إلكلي بالقرب من ليدز؛ حيث مكث مع أسرته حتى شهر ديسمبر، وفي التاسع من ذلك الشهر، عاد مجددا إلى داون. ولا يوجد بعد ذلك في مفكرته اليومية عن هذا العام سوى الإدخال التالي: «إبان نهاية نوفمبر وبداية ديسمبر، كنت منشغلا بالتصحيح لطرح الطبعة الثانية التي تكونت من 3000 نسخة، وبالعديد من الخطابات.»
يشير الخطاب الأول وبضعة من الخطابات التالية إلى بروفات الطباعة، وإلى باكورة نسخ كتاب «أصل الأنواع» التي أرسلت إلى بعض الأصدقاء قبل نشر الكتاب.]
من سي لايل إلى تشارلز داروين
1
3 أكتوبر 1859
عزيزي داروين
لقد انتهيت حالا من كتابك، وأنا في منتهى السعادة؛ لأنني بذلت قصارى جهدي مع هوكر لإقناعك بنشره دون أن تنتظر وقتا لم يكن ليأتي أبدا على الأرجح وإن عشت مائة عام، في حين أنك أعددت بالفعل كل حقائقك التي أقمت عليها قدرا هائلا من التعميمات العظيمة.
إنه مثال رائع على الاستدلال المنطقي المقنع، وحجة متينة طويلة تمتد عبر العديد من الصفحات، صحيح أن التكثيف هائل، بل ربما يكون صعبا للغاية على غير المتخصصين، لكنه بيان تمهيدي فعال ومهم، وهذا سيسمح - حتى قبل ظهور بروفاتك التفصيلية - بإدراج بعض التوضيح المفيد بالأمثلة في بعض الحالات، كما فعلت في أمثلة الحمام وهدابيات الأرجل، التي استخدمتها ببراعة شديدة.
أعني أنه حين تطلب منك طبعة جديدة قريبا، وهو ما أتوقع حدوثه بكل تأكيد، ربما يمكنك أن تورد في الكتاب حالات فعلية لتخفيف هذا الكم الهائل من الافتراضات المجردة. بالنسبة إلي ، فأنا مستعد جدا للتسليم بصحة البيانات التي تذكرها إلى حد أنني لا أظن أن نشر «الدلائل الداعمة» سيشكل فارقا كبيرا، ولطالما كنت أرى بوضوح شديد أننا إذا أقررنا بصحة شيء ما، فسوف ينطبق الأمر نفسه على جميع ما تدعيه في صفحاتك الختامية. وهذا ما جعلني أتردد لفترة طويلة جدا؛ بسبب شعوري الدائم بأن حالة الإنسان وأعراقه هي نفسها حالة الحيوانات الأخرى، وحالة النباتات أيضا، وأننا إذا اعترفنا بوجود «سبب حقيقي» لإحداها، بدلا من سبب تخيلي مجهول تماما، مثل كلمة «الخلق»، فستنطبق النتائج نفسها على الحالات الأخرى.
ولأنني سأغادر هذا المكان الآن، يؤسفني القول إنني لا أملك وقتا للاسترسال بشأن الكثير من التعليقات، وللتعبير عن مدى إعجابي البالغ بفصل «الجزر المحيطية» و«الأعضاء الأثرية» و«علم الأجنة» و«المفتاح النسبي للنظام الطبيعي»، و«التوزيع الجغرافي»، وإذا واصلت فسوف أنسخ عناوين كل فصولك. لكني سأدلي برأي عن جزء «التلخيص»، إذا كان لا يزال ممكنا إجراء شيء من التعديل الطفيف، أو على الأقل حذف كلمة أو اثنتين في ذاك الجزء.
بادئ ذي بدء، في الصفحة رقم 480، لا يمكن بالطبع القول إن أبرز علماء التاريخ الطبيعي رفضوا الرأي القائل بأن الأنواع قابلة للتغير، أليس كذلك؟ أظنك لا تقصد تجاهل جي. سانت إيلير ولامارك! بخصوص ذلك الثاني، يمكن القول إنك تضع الانتقاء الطبيعي محل الإرادة لدى الحيوانات إلى حد كبير، لكنه لم يستطع تقديم فكرة الإرادة في نظريته عن التغيرات في النباتات؛ لا شك أنه ربما بالغ دون داع في التأكيد النسبي على تغيرات الظروف الطبيعية، فيما كان تأكيده على التغيرات المتعلقة بالكائنات المتنافسة أقل مما ينبغي. لكنه على الأقل كان مؤيدا للرأي القائل بقابلية الأنواع جميعها للتغير، ومؤيدا لوجود رابط نسبي بين الأنواع الأولى والأنواع الحالية. ثم إن المنتسبين إلى نفس مدرسته قد استشهدوا بالضروب المدجنة. (هل تقصد علماء التاريخ الطبيعي «الأحياء»؟)
2
إن الصفحة الأولى من هذا الملخص المهم للغاية تمنح الخصم أفضلية؛ وذلك بما تحمله من طرح مفاجئ وتقريبي لاعتراض صادم مثل تكون «العين» لا من خلال وسيلة تشبه العقل البشري، ولا حتى قوة تفوق العقل البشري بدرجة كبيرة للغاية، بل من خلال تباينات مستحثة كتلك التي يستفيد منها مربو الماشية. وبذلك سيستلزم الأمر صفحات عديدة لذكر الاعتراض وإزالته. وبما أنك تريد الإقناع، فسيكون من الأفضل أن تصمت عن ذلك. احذف عدة جمل، ثم اطرح المسألة بدرجة أكبر من التفصيل في طبعات مستقبلية. وبين رمي حجر العثرة هذا في طريق القارئ، وصولا إلى النمل العامل، في صفحة 460، ينبغي أن تضيف بعض الصفحات؛ وسيمنح موضوع النمل هذا القارئ فرصة للهدوء حتى يتعافى من صدمة دعوته إلى تصديق أن العين وصلت إلى الكمال بعد حالة من العمى التام أو العمى الجزئي، عبر مثل هذه التحولات التي نشهدها. أظن أن قليلا من الحذف سيقلل بشدة من إمكانية أن تثير هذه الجمل اعتراضات، هذا إن لم يكن لديك وقت لإعادة الصياغة وإضافة مزيد من التفاصيل. ... لكن هذه أمور صغيرة، مجرد بقع على الشمس. أرى أن تشبيهك للحروف التي تظل باقية في هجاء الكلمات، بينما تنتهي فائدتها في النطق، بالأعضاء الأثرية ممتاز؛ فكلاهما يتعلق بالنسب بالفعل.
إن عدم وجود طيور غير مألوفة في ماديرا يمثل إشكالية أكبر مما بدا لي عليه الأمر. أستطيع أن أستشهد بفقرات توضح فيها أن التباينات قد استحثت من الظروف الجديدة للمستعمرين الجدد؛ مما يقتضي أن تكون بعض طيور ماديرا غير مألوفة، شأنها في ذلك شأن طيور جالاباجوس. وقد كان الوقت وفيرا في حالة ماديرا وبورتو سانتو ...
لقد وضعت أوراقك داخل مخطوطة قديمة؛ لذا يفرض مكتب البريد عليها رسوما إضافية، قدرها بنسان، كالخطابات، وهذا ملائم تماما. ليتهم يفرضون الرسوم نفسها على جميع المخطوطات. لقد دفعت أربعة شلنات وستة بنسات قبل بضعة أيام مقابل هراء أتاني من باريس، من رجل يستطيع إثبات وجود 300 طوفان في وادي نهر السين.
مع خالص تهاني القلبية لك على عملك العظيم.
صديقك الودود دائما
تشارلز لايل
من تشارلز داروين إلى سي لايل
إلكلي، يوركشاير،
11 أكتوبر [1859]
عزيزي لايل
أشكرك من أعماق قلبي لأنك منحتني الكثير من وقتك الثمين في كتابة الخطاب الطويل المؤرخ باليوم الثالث من الشهر، والخطاب الأطول المؤرخ باليوم الرابع. لقد كتبت خطابا قصيرا وأرسلته مع بروفة الطباعة الناقصة إلى بلدة سكاربورو. لقد اعتمدت، مع جزيل شكري، كل تصحيحاتك الصغيرة في الفصل الأخير، وطبقت التصحيحات الكبرى قدر استطاعتي، دون عناء كبير. خففت أيضا من وقع الفقرة الاستهلالية المتعلقة بمسألة العين (سأعرض في عملي الأكبر ما حدث من تدرج في بنية العين)، واكتفيت باستخدام مصطلح «الأعضاء المعقدة» فحسب. يا لك من وزير عدل رائع؛ إذ تخبر محامي أحد الطرفين بأفضل السبل للفوز بقضية! لقد كان إغفال ذكر كلمة «الأحياء» بعد علماء التاريخ الطبيعي البارزين خطأ فادحا.
بخصوص عدم وجود طيور غير مألوفة في ماديرا وبرمودا. أنت محق، ثمة حلقة ناقصة، ولم أكن أظن أن أحدا سيكتشفها، لقد ارتكبت خطأ غبيا في حذف مناقشة كنت قد كتبتها كاملة. لكن دعني ألتمس العذر لنفسي في النهاية بأن تحديد الأشياء الجديرة بالحذف كان صعبا للغاية. إن الطيور التي واجهت صعوبات في مواطنها الأصلية، حين تستقر مجتمعة في بلد جديد وفي الوقت نفسه تقريبا، لن تتعرض لكثير من التعديلات؛ لأن العلاقات المتبادلة بينها لن تضطرب بشدة. غير أنني أوافقك الرأي تماما في أنها لا بد أن تتعرض لبعض التعديلات بمرور الزمن. أعتقد أنها بقيت على حالها في ماديرا وبرمودا بسبب استمرار طيور مهاجرة من النوع نفسه لم تتغير صفاتها في الوصول من البر الرئيسي، وتهاجنها مع الطيور التي استقرت في الجزر. يمكن إثبات ذلك في برمودا، وهو مرجح جدا في ماديرا، مثلما اتضح لي من خطابات أرسلها إي في هاركورت. وعلاوة على ذلك، توجد أسباب كثيرة للاعتقاد بأن النسل الهجين للمهاجرين الجدد (أو الدم الجديد كما يقول المربون) والمستعمرين القدامى من الأنواع نفسها سيكون أشد حيوية، وستكون احتمالية بقائه على قيد الحياة أكبر؛ مما سيعزز كثيرا من أثر هذا التهاجن في إبقاء المستعمرين القدامى محتفظين بصفاتهم.
بخصوص اتسام كائنات جالاباجوس بطابع أمريكي في ضوء فرضية الخلق. لا أستطيع أن أوافقك الرأي في أنه إذا كانت الأنواع قد خلقت لتتنافس مع أشكال أمريكية، كانت ستخلق ولا بد على النمط الأمريكي. لكن الحقائق تشير إلى العكس تماما. انظر إلى الأرض غير المزروعة وغير المحروثة في لابلاتا، إنها «مغطاة» بكائنات أوروبية لا تجمعها علاقة قريبة بالكائنات الأصلية. معنى هذا أنها ليست أنماطا أمريكية تغزو الكائنات الأصلية. ينطبق هذا على كل جزيرة في أنحاء العالم. من المهم جدا أن نراعي نتائج «ألفونس دي كاندول» على الدوام (وإن كان لا يرى أهميتها الكاملة)، التي تشير إلى أن [النباتات] المتوطنة تختلف للغاية في العموم عن النباتات الأصلية (التي تنتمي في جزء كبير من الحالات إلى أجناس غير أصلية). إنني متيقن تماما من أنك ستفهم أنني لذلك أكتب بطريقة افتراضية من أجل الاختصار.
بخصوص الخلق المستمر للكائنات الوحيدة الخلية. هذا الاعتقاد زائد عن الحاجة (ولا أساس له) وفقا لنظرية الانتقاء الطبيعي، التي تشير ضمنيا إلى عدم وجود نزعة «ضرورية» إلى التطور. إذا لم يحدث انحراف مفيد في بنية أي كائن وحيد الخلية، تحت ظروف حياته «البسيطة للغاية»، فربما يظل حتى يومنا هذا على حالته التي كان عليها قبل العصر السيلوري بوقت طويل، دون أي تغير. أعترف بأنه ستوجد نزعة إلى الارتقاء في تعقيد التكوين بوجه عام، لكنه سيكون طفيفا وبطيئا في الكائنات المتكيفة على الظروف البسيطة للغاية. فأنى لتكوين معقد أن يفيد كائنا وحيد الخلية؟ وإذا لم يفده، فلن يحدث ارتقاء. ولهذا لا تختلف نقعيات الحقبة الوسطى عن النقعيات الحية سوى اختلاف طفيف. قد ينجح الشكل الأصلي من الكائن الوحيد الخلية في البقاء على قيد الحياة دون أن يتغير، ويظل متكيفا على ظروفه البسيطة، في حين أن نسل هذا الكائن الوحيد الخلية قد يتكيف على ظروف أشد تعقيدا. من الممكن أن يكون النموذج الأولي البدائي لجميع الكائنات الحية والمنقرضة، على قيد الحياة الآن! إضافة إلى ذلك، فالأشكال الأرقى قد تتدنى أحيانا مثلما تقول؛ إذ «يبدو» (؟!) أن الأفعى الثعبانية العمياء لديها عادات ديدان الأرض. ولهذا يبدو لي أن فكرة الخلق الجديد للأشكال البسيطة غير ذات صلة إطلاقا. «أليس لزاما علينا أن نفترض وجود قوة قديمة بادئة مبدعة لا تتصرف بطريقة موحدة، وإلا فكيف أمكن أن يظهر الإنسان لاحقا؟» لست متيقنا من أنني أفهم ما قلته بعد الجملة المذكورة أعلاه. لا بد لنا، في ظل ما نعرفه حاليا، أن نفترض خلق شكل واحد أو بضعة أشكال بالطريقة نفسها التي يفترض بها الفلاسفة وجود قوة جذب بلا أي تفسير. لكني أرفض تماما، لأنني أرى ذلك غير ضروري على الإطلاق، أي إضافة لاحقة لأي «قدرات وسمات وقوى جديدة»، أو لأي «مبدأ تحسين»، إلا من حيث أن كل صفة من الصفات المنتقاة طبيعيا أو المحتفظ بها تمثل ميزة أو تحسينا بطريقة ما، وإلا فما كانت ستنتقى. ولو أنني كنت مقتنعا باحتياجي إلى مثل هذه الإضافات في نظرية الانتقاء الطبيعي، لرفضتها باعتبارها محض هراء، لكني أومن بصحتها؛ لأنني لا أستطيع تصديق أنها كانت ستفسر فئات بأكملها من الحقائق التي أرى، إن كنت في كامل قواي العقلية ورشدي، أنها تفسرها إذا كانت خاطئة. بقدر ما أفهمه من ملاحظاتك ورسوماتك التوضيحية، فأنت تشك في احتمالية تدرج القوى الفكرية. حسنا، يبدو لي، عند النظر إلى الحيوانات الحالية، كل على حدة، أن لدينا تدرجا دقيقا جدا في القوى الفكرية للفقاريات، مع وجود فجوة واسعة بعض الشيء (لكنها لا تضاهي نصف اتساع الفجوات في العديد من حالات البنية الجسدية) بين أحد أفراد الهوتنتوت وأحد أفراد إنسان الغاب على سبيل المثال، حتى وإن كان ذاك الفرد قد تطور عقليا بقدر ما تطور الكلب عقليا من الذئب. أفترض أنك لا تشك في أن القدرات الفكرية مهمة لرفاهية كل كائن قدر أهمية البنية الجسدية؛ وإن صح ذلك، فلا أرى صعوبة في أن ينتقى الأفراد ذوو القدرات الفكرية العليا في أحد الأنواع باستمرار، وبذلك تتحسن القدرات الفكرية للأنواع الجديدة، ويساعدها في ذلك على الأرجح تأثيرات التمرين العقلي المتوارثة. وأنا أرى أن هذه العملية تجري الآن مع أعراق الإنسان؛ إذ تفنى الأعراق ذات القدرات الفكرية الأقل. لكن المجال لا يسمح بمناقشة هذه النقطة هنا. إذا كنت أفهمك، فلا بد أن النقطة المفصلية في خلافنا هي أنك تعتقد أنه من المستحيل أن تتحسن القدرات الفكرية لأي نوع تحسنا كبيرا بالانتقاء الطبيعي المستمر للأفراد ذوي القدرات الفكرية العليا. لكي تتضح لك كيفية تدرج العقول، ما عليك سوى تأمل مدى الصعوبة الهائلة التي واجهت جميع من حاولوا تحديد الاختلاف بين عقل الإنسان والحيوانات الأدنى منه حتى الآن؛ إذ يبدو أن هذه الحيوانات تتمتع بالسمات العقلية نفسها، لكنها على درجة من الكمال أدنى بكثير من السمات العقلية التي يتمتع بها الإنسان في أكثر حالاته همجية. ما كنت لأعتد بنظرية الانتقاء الطبيعي إطلاقا إذا كانت ستتطلب إضافات خارقة عند أي مرحلة من مراحل الانحدار. أظن أن علم الأجنة وعلم التنادد والتصنيف، وما إلى ذلك، كلها توضح لنا أن الفقاريات جميعها قد انحدرت من أصل واحد، أما عن كيفية ظهور هذا الأصل فنحن لا نعرف ذلك. أعتقد وإذا اعترفت، ولو أدنى اعتراف، بالتفسير الذي طرحته فيما يتعلق بعلم الأجنة وعلم التنادد والتصنيف، فستجد صعوبة في القول بأن التفسير صالح حتى الآن، لكن صحته تتوقف عند هذا الحد، وهنا يجب أن نستعين ب «إضافة قوى مبدعة جديدة». أظن أنك إما سترفض التفسير بأكمله أو ستقره بأكمله؛ وأخشى، بناء على خطابك الأخير، أن يتحقق الاحتمال الأول، وفي هذه الحالة سأكون متيقنا من أن ذلك خطئي، لا عيب في النظرية، وسيكون هذا عزاء لي بالتأكيد. وبخصوص انحدار الممالك الكبرى (كالفقاريات والمفصليات وما إلى ذلك) من أصل واحد، فقد قلت في الختام إن التشابه وحده يجعل من ذلك احتمالا مرجحا لدي، وأرى في تقديري الشخصي أن صحة حججي وحقائقي تقتصر على كل مملكة منفصلة على حدة.
بخصوص الأشكال التي تغلب وتشترك في وراثتها للدونية. أظن أنني لم أكن حذرا بما يكفي، ولكن ألا يمكن أن يشير مصطلح الدونية إلى درجة أقل من التكيف مع الظروف الطبيعية؟
إن ملاحظاتي لا تنطبق على نوع مفرد، بل على مجموعات أو أجناس؛ إذ تتكيف أنواع معظم الأجناس على الأقل مع مناخات أشد حرارة بعض الشيء، وأخرى أقل حرارة بعض الشيء، ومع مناخات أشد رطوبة بعض الشيء، وأخرى أجف بعض الشيء، وعندما تغلب أنواع متعددة لمجموعة ما وتفنى بفعل عدد من أنواع مجموعة أخرى، فلا أعتقد أن السبب في العادة هو تكيف «كل» نوع جديد مع المناخ؛ بل لأن كل الأنواع الجديدة تحظى بأفضلية شائعة بينها في الحصول على القوت أو الهروب من الأعداء. وبخصوص المجموعات، فثمة توضيح أنسب من مثال الزنوج وذوي البشرة البيضاء في ليبيريا؛ ألا وهو الانقراض المستقبلي شبه الأكيد لجنس إنسان الغاب بأيدي جنس الإنسان، وليس ذلك لأن الإنسان أصلح للتكيف مع المناخ؛ بل بسبب ما يرثه جنس إنسان الغاب من دونية فكرية مقارنة بجنس الإنسان الذي يستطيع بقدراته الفكرية اختراع الأسلحة وإزالة الغابات. أعتقد، بناء على الأسباب الواردة في مناقشتي، أن التأقلم مع المناخات المختلفة يحدث بسهولة تحت تأثير الطبيعة. لقد استغرق الأمر سنوات كثيرة جدا كي أحرر عقلي من وهم أهمية المناخ الكبيرة «المبالغ فيها» - لأن تأثيره المهم جلي جدا، في حين أن التأثير المهم للتناحر بين كائن وآخر مستتر جدا - حتى إنني أرغب في سب القطب الشمالي، وإهانة خط الاستواء، كما قال سيدني سميث. أناشدك مرارا أن تفكر (مع العلم أنني لم أجد «أي شيء» أكثر إفادة من ذلك) في حالة آلاف النباتات في النقطة الوسطى من نطاقاتها الخاصة بها، والتي نعلم يقينا أنها تستطيع تحمل قدر أكبر بقليل من الحرارة أو البرودة، وقدر أكبر بقليل من الرطوبة والجفاف تحملا مثاليا، لكنها لا توجد بأعداد كبيرة في البؤر الرئيسية الكبيرة من نطاق انتشارها، مع أنها ستغطي الأرض كلها إذا فنيت الأنواع الأخرى التي تسكن تلك المنطقة. وهكذا يتبين لنا أن أعدادها تظل محجمة، في جميع الحالات تقريبا، وليس ذلك بسبب المناخ، بل بسبب تناحرها مع الكائنات الحية الأخرى. ربما ستظن أن كل هذا واضح جدا ، لكني كنت أتبنى فكرة خاطئة تماما عن اقتصاد الطبيعة، على حد ظني، إلى أن ظللت أكرر ذلك لنفسي آلاف المرات ...
بخصوص التهجين. لقد سررت جدا باستحسانك هذا الفصل، وستذهل من الجهد المضني الذي كلفني إياه؛ فكثيرا ما كنت أتبع مسارا خاطئا، حسبما أعتقد.
بخصوص الأعضاء الأثرية. يوجد وفق نظرية الانتقاء الطبيعي فارق كبير بين الأعضاء الأثرية وما تسميه أجنة الأعضاء، وما أسميه في كتابي الأكبر الأعضاء «الوليدة». ينبغي ألا يوصف العضو بأنه أثري إلا إذا كان عديم الفائدة، مثل الأسنان التي لا تبرز من خلال اللثة أبدا، أو الحليمات، التي تمثل المدقة في الأزهار المذكرة، أو جناح طائر أبتريكس
Apteryx ، أو الأجنحة الصغيرة تحت أغمدة الخنافس المقواة، وهذا مثال أفضل. فمن الواضح أن هذه الأعضاء عديمة الفائدة الآن، ومن باب أولى، أنها ستكون عديمة الفائدة في حالة أقل تطورا. يقتصر عمل الانتقاء الطبيعي على حفظ تعديلات طفيفة «مفيدة» متتالية. ومن ثم، فلا يمكن أن يصنع الانتقاء الطبيعي عضوا عديم الفائدة أو أثريا. وبذلك فالسبب الوحيد وراء وجود هذه الأعضاء هو الوراثة (كما هو موضح في مناقشتي)، وهي دلالة واضحة على وجود سلف كان لديه هذا العضو في حالة مفيدة. وربما يمكن أن تستخدم لأداء أغراض أخرى، وهو ما حدث في أحيان كثيرة، وحينئذ لا تكون أثرية إلا فيما يتعلق بأداء وظيفتها الأصلية، ويبدو ذلك جليا في بعض الأحيان. ويجب أن يكون العضو الوليد، وإن كان ناقص التطور، مفيدا في كل مرحلة من مراحل التطور، ما دام تطوره ضروريا. ولأننا لا نستطيع التنبؤ، لا يمكننا تحديد أي الأعضاء وليد الآن، ونادرا ما ستورث الأعضاء الوليدة من أفراد معينين في إحدى المجموعات من أمد بعيد إلى الوقت الحاضر؛ وذلك لأن الكائنات التي تمتلك عضوا مهما لكنه ناقص التطور سيستبدل به عادة لدى أحفادها صورة مكتملة التطور من ذلك العضو. ربما تعد الغدد الثديية لحيوانات خلد الماء وليدة مقارنة بضرع البقرة، وكذلك تعد مثبتات البويضات في بعض هدابيات الأرجل خياشيم وليدة، وفي [نص غير مقروء]، تكاد مثانة السباحة أن تعد أثرية في أداء هذا الغرض، وهي عضو وليد بمثابة رئة. قد يكون جناح البطاريق الصغير، الذي لا يستخدم إلا كزعنفة، وليدا كجناح، لكني لا أظن ذلك؛ لأن البنية الكلية للطائر مهيأة للطيران، والبطريق يشبه بعض الطيور الأخرى بشدة إلى حد أننا قد نستنتج أن جناحيه قد عدلا على الأرجح وتقلصا بالانتقاء الطبيعي، تماشيا مع عاداته شبه المائية. ومن ثم، فتشابه الوظائف كثيرا ما يعد بمثابة دليل مرشد في تحديد ما إذا كان العضو أثريا أم وليدا. أعتقد أن العصعص العظمي يثبت عضلات معينة، لكني لا أشك في أنه ذيل أثري. وريش الفص القاعدي للجناح
Alula
لدى الطيور يعد إصبعا أثرية، وأعتقد أنه إذا اكتشفت طيور متحفرة في مواضع منخفضة جدا من تسلسل الطبقات، فسيلاحظ أن لديها جناحا مزدوجا أو متشعبا إلى جزأين. ها أنا ذا أتنبأ بنبوءة جريئة!
إن الاعتراف بأجنة الأعضاء التنبئية يكافئ رفض نظرية الانتقاء الطبيعي.
إنني في غاية السعادة لأنك ترى كتابي جديرا بالمطالعة مرة أخرى، من أجل موضوع الكتاب نفسه بقدر ما هو من أجلي أيضا، أو أكثر. لكني أعتبر انشغالك بعض الوقت القليل بالموضوع - أي انهماكك في طرح بعض المشكلات التي واجهتك شخصيا في استيعابه، وحلها - أهم بكثير من قراءة كتابي. وأتوقع أنك، إذا فكرت فيه باستغراق كاف، فستحيد عن رأيك، وإذا حدث ذلك في أي وقت على الإطلاق، فسأعرف أن نظرية الانتقاء الطبيعي موثوقة عموما؛ من شبه المؤكد أنها تتضمن أخطاء عديدة، كما طرح الآن، وإن كنت لا أستطيع رؤيتها. لا تفكر بالطبع في الرد على هذا الخطاب، ولكن إذا أتيحت لك أي «فرصة» أخرى لإرسال خطاب آخر، فلتخبرني فقط بما إذا كنت قد زحزحتك عن أي من اعتراضاتك ولو قيد أنملة. إلى اللقاء. مع خالص شكري على خطاباتك الطويلة وتعليقاتك القيمة.
تفضل بقبول أصدق مشاعري الودودة وأطيب تحياتي
سي داروين
ملحوظة:
إنك تشير كثيرا إلى عمل لامارك، لا أعرف رأيك فيه، لكنه بدا لي عملا فقيرا للغاية؛ إذ لم أستخلص منه أي حقيقة أو فكرة.
من تشارلز داروين إلى إل أجاسي
داون، 11 نوفمبر [1859]
سيدي العزيز
لقد تجرأت على أن أبعث إليك بنسخة من كتابي (الذي ما زال مجرد نبذة حتى الآن) عن «أصل الأنواع». ونظرا إلى أن الاستنتاجات التي توصلت إليها بشأن عدة نقاط تختلف بشدة عن استنتاجاتك، ظننت أنك (إذا قرأت مجلدي في أي وقت) ربما تظن أني أرسلته إليك بدافع من التحدي أو التبجح، لكني أؤكد لك أنني أتصرف بنية مختلفة تماما. وأرجو، على الأقل، أن أنال تقديرك، بغض النظر عن مدى الخطأ الذي قد تراه في استنتاجاتي؛ لأنني سعيت بكل جد إلى بلوغ الحقيقة.
أستأذنك أن أظل
صديقك المخلص
تشارلز داروين
من تشارلز داروين إلى إيه دي كاندول
داون، 11 نوفمبر [1859]
سيدي العزيز
ارتأيت أنك ستسمح لي بأن أرسل إليك نسخة من عملي (الذي لا يزال نبذة فحسب حتى الآن) عن «أصل الأنواع» (بواسطة دار «ويليامز آند نورجيت» لنشر الكتب وبيعها). أود فعل ذلك؛ لأنه الطريقة الوحيدة، وإن كانت غير مناسبة تماما، التي أستطيع أن أثبت لك بها الاهتمام البالغ الذي تملكني، والفائدة العظيمة التي جنيتها، من دراسة عملك العظيم والنبيل عن «التوزيع الجغرافي». يمكنني القول إنك إذا اقتنعت بقراءة مجلدي، فلن تجده مفهوما إلا إذا قرأته كله دفعة واحدة حتى نهايته بلا توقف؛ لأنه مكثف للغاية. سأكون في منتهى السرور إذا نال أي جزء منه اهتمامك. لكني أعي تماما أنك ستختلف كليا مع الاستنتاج الذي توصلت إليه.
من المرجح أنك قد نسيتني تماما، لكنك شرفتني منذ سنوات عديدة بتناول العشاء في بيتي في لندن لتلتقي السيد سيسموندي والسيدة سيسموندي،
3
وهما زوج خالة زوجتي وخالتها. تفضل بقبول فائق احترامي، وأرجو أن أظل محبك المخلص.
تشارلز داروين
من تشارلز داروين إلى هيو فالكونر
داون، 11 نوفمبر [1859]
عزيزي فالكونر
لقد طلبت من موراي أن يبعث إليك بنسخة من كتابي عن «أصل الأنواع»، الذي لا يزال محض نبذة حتى الآن.
إذا قرأته، فيجب أن تقرأه كله دفعة واحدة حتى نهايته بلا توقف، وإلا فستجده غير مفهوم لأنه مكثف للغاية.
يا إلهي! ما أشد الوحشية الضارية التي ستنتابك حين تقرؤه! وكم سترغب في أن تصلبني حيا! يؤسفني القول إن هذا هو التأثير الوحيد الذي سيحدثه فيك، لكن إذا زحزحك محتواه عن موقفك ولو قيد أنملة، فعندئذ سأكون مقتنعا تماما بأنك ستصبح، سنة تلو الأخرى، أقل ثباتا على موقفك المؤمن بعدم قابلية الأنواع للتغير. وبهذه القناعة الجريئة المتجاسرة.
سأظل يا عزيزي فالكونر
صديقك المخلص
تشارلز داروين
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، 11 نوفمبر [1859]
عزيزي جراي
قد طلبت أن ترسل إليك نسخة من كتابي عن «أصل الأنواع» (الذي لا يزال نبذة فحسب حتى الآن). أعرف أن ليس لديك متسع من الوقت، لكن إن استطعت قراءته، فسأكون سعيدا للغاية ... إذا قرأته في أي وقت على الإطلاق، واستطعت استقطاع بعض الوقت لترسل إلي أي رسالة، مهما كانت قصيرة (لأنني أقدر رأيك للغاية)، تخبرني فيها بأضعف أجزائه وأفضلها من وجهة نظرك، فسأكون في منتهى الامتنان. ولأنك لست جيولوجيا، فستسامحني على غروري في إخبارك بأن لايل استحسن الفصلين الجيولوجيين، ويرى أن الفصل المتعلق ب «قصور السجل الجيولوجي» ليس مبالغا فيه. إنه على مشارف التحول إلى اعتناق آرائي ...
دعني أضيف أنني أعترف تماما بوجود صعوبات عديدة لم تشرحها نظريتي عن الانحدار مع التعديل شرحا وافيا، لكني لا أستطيع تصديق أن نظرية خاطئة يمكنها أن تشرح عددا هائلا من مجموعات الحقائق، وهو ما أرى أن نظريتي تشرحه بالتأكيد. فعلى هذه الأرض، أنزل مرساتي، وأعتقد أن الصعوبات ستتلاشى رويدا ...
من تشارلز داروين إلى جيه إس هنزلو
داون، 11 نوفمبر [1859]
عزيزي هنزلو
لقد طلبت من موراي أن يرسل نسخة من كتابي عن «الأنواع» إليك يا أستاذي العزيز القديم في التاريخ الطبيعي، لكني مع ذلك أخشى ألا تستحسن تلميذك هذه المرة. فالكتاب في حالته الحالية لا يدل على مقدار الجهد المضني الذي بذلته في موضوعه.
إذا كان لديك متسع من الوقت لتقرأه بإمعان، وتكبدت عناء الإشارة إلى أردأ أجزائه وأفضلها من وجهة نظرك، فسيكون ذلك عونا مهما جدا لي في كتابة كتابي الأكبر، الذي أرجو أن أبدأه في غضون بضعة أشهر. تعرف أيضا مدى تقديري الكبير لرأيك. لكن من غير المنطقي أن أرغب في الحصول على انتقادات مفصلة وطويلة وأتوقع منك ذلك، بل ملاحظات عامة فحسب، تشير فيها إلى أردأ الأجزاء.
وإذا «تزحزحت ولو قيد أنملة»، عن إصرارك على عدم قابلية الأنواع للتغير (وإن كنت لا أتوقع ذلك)، فسأكون مقتنعا حينها بأنك ستتزحزح أكثر فأكثر كلما فكرت في الأمر؛ لأن هذه هي العملية التي مر بها عقلي.
عزيزي هنزلو
لك خالص مودتي وامتناني
سي داروين
تشارلز داروين إلى جون لوبوك
4
إلكلي، يوركشاير،
السبت [12 نوفمبر 1859] ... شكرا جزيلا لك على دعوتي إلى القدوم إلى برايتون. أرجو من كل قلبي أن تستمتع بإجازتك. لقد طلبت من موراي أن يرسل إليك نسخة في شارع مانشن هاوس، وفوجئت بأنك لم تتسلمها. يوجد كم هائل من الحجج المنطقية الوجيهة التي تعارض أفكاري، إلى حد أنك، أو أي أحد آخر من المعارضين، ستقنع نفسك بسهولة بأنني مخطئ تماما، وصحيح أنني مخطئ جزئيا بالطبع، أو ربما حتى كليا، لكني لا أستطيع رؤية ضلال الأساليب التي اتبعتها. أظن أنه حين ثبت لأول مرة أن الرعد والبرق يحدثان بأسباب ثانوية، حزن البعض للتخلي عن فكرة أن كل ومضة من البرق كانت تحدث بفعل مباشر من يد الرب.
إلى اللقاء؛ فأنا أشعر بتوعك شديد اليوم؛ لذا لن أزيد على ذلك.
المخلص لك دائما
سي داروين
تشارلز داروين إلى جون لوبوك
إلكلي، يوركشاير، الثلاثاء [15 نوفمبر 1859]
عزيزي لوبوك
أرجو أن تعذرني على إزعاجك مجددا. لا أعرف كيف أخطأت في التعبير عما بداخلي إلى الحد الذي جعلك تعتقد أننا قبلنا دعوتك الكريمة إلى برايتون. كل ما قصدته هو أن أشكرك من أعماق قلبي على رغبتك في أن ترى رجلا عجوزا منهكا مثلي. فأنا لا أعرف متى سنغادر هذا المكان، ليس قبل أسبوعين، وسنرغب عندئذ في الاستراحة تحت قمة سقفنا الهرمي المدبب.
لا أظن أنني أعجبت بأي كتاب تقريبا أكثر مما أعجبت بكتاب «اللاهوت الطبيعي» الذي ألفه بالي. كان بإمكاني في الماضي أن أسرد محتواه عن ظهر قلب تقريبا.
أنا سعيد بأنك حصلت على كتابي، ولكن يؤسفني القول إنك تبالغ في تقديره. سأكون ممتنا لأي انتقادات. لا أكترث بالمقالات النقدية، وإنما برأيك أنت وهوكر وهكسلي ولايل، وأمثالكم.
إلى اللقاء، مع جزيل شكرنا المشترك للسيدة لوبوك ولك. وداعا.
سي داروين
من تشارلز داروين إلى إل جينينز
5
إلكلي، يوركشاير،
13 نوفمبر 1859
عزيزي جينينز
يجب أن أشكرك على رسالتك اللطيفة جدا التي أرسلتها إلي من داون. لقد مرضت بشدة هذا الصيف، وأخضع للعلاج المائي هنا منذ ستة أسابيع، لكن مفعوله طفيف جدا حتى الآن. سأبقى هنا أسبوعين آخرين على الأقل. أرجو أن تتذكر أن كتابي مجرد نبذة ومكثف للغاية، ويجب أن يقرأ بإمعان لكي يفهم ولو قدرا ضئيلا منه. سأكون ممتنا جدا لأي انتقادات. لكني أعي تماما أنك لن تتفق معي بالكامل على الإطلاق. فقد استغرق تحويل قناعاتي إلى الإيمان بهذه الأفكار سنوات عديدة. صحيح أنني ربما أكون مخطئا بفداحة، لكني لا أستطيع إقناع نفسي بأن النظرية التي تشرح فئات كثيرة من الحقائق (كما أرى أنها تشرحها بكل تأكيد) يمكن أن تكون خاطئة تماما؛ بالرغم من الصعوبات العديدة التي يجب التغلب عليها بطريقة أو بأخرى، والتي تحيرني شخصيا حتى إلى يومنا هذا.
ليت حالتي الصحية قد سمحت لي بنشر الكتاب كاملا، إذا تعافيت بما يكفي في أي وقت، فسأفعل ذلك؛ لأنني أتممت كتابة الجزء الأكبر، وهذا المجلد الحالي ملخص لمخطوطته.
يؤسفني أن تجد هذه الرسالة غير قابلة للقراءة تقريبا، لكني متوعك، ولا أستطيع القعود منتصبا إلا بصعوبة بالغة. إلى اللقاء، مع جزيل شكري لك على رسالتك اللطيفة والذكرى السارة للأيام الخوالي.
صديقك المخلص
سي داروين
من تشارلز داروين إلى إيه آر والاس
إلكلي، 13 نوفمبر 1859
سيدي العزيز
لقد أخبرت موراي أن يرسل إليك نسخة من كتابي بالبريد (إن أمكن)، وآمل أن تتسلمها بالتزامن تقريبا مع هذه الرسالة. (ملحوظة: إحدى أصابعي مصابة؛ لذا أكتب بخط سيئ للغاية.) إذا لم يكن لديك مانع، فسأود بشدة أن أسمع انطباعك العام عن الكتاب، نظرا إلى أنك فكرت في الموضوع بإمعان، وأفكارنا تكاد تكون متماثلة. أرجو أن تجد فيه بعض المعلومات الجديدة عليك، لكن يؤسفني القول إنها لن تكون كثيرة. تذكر أنه ليس سوى ملخص، ومكثف للغاية. الرب وحده يعلم ما سيكون انطباع الجمهور عنه. لم يقرأه أحد سوى لايل، الذي ظللت أراسله كثيرا. يعتقد هوكر أن لايل قد غير رأيه تماما واعتنق فكرتي، لكنه لا يبدو كذلك في خطاباته إلي، غير أنه شديد الاهتمام بالموضوع، وذلك جلي للغاية. لا أظن أن الحكام الحقيقيين، أمثال هوكر ولايل وآسا جراي، سيغفلون إسهامك في النظرية. سمعت من السيد سلاتر أن ورقتك عن أرخبيل الملايو قد قرئت في الجمعية اللينية، وأنه كان في «غاية» الاهتمام بها.
لم ألتق أيا من علماء التاريخ الطبيعي منذ ستة أشهر أو تسعة بسبب حالتي الصحية؛ لذا ليس لدي أي أخبار جديدة أخبرك بها. أكتب هذا الخطاب في إلكلي ويلز، حيث أقيم مع أسرتي منذ ستة أسابيع، وسأبقى بضعة أسابيع أخرى. لكني لم أتحسن إلا قليلا حتى الآن. الرب وحده يعلم متى سأتعافى بما يكفي لنشر كتابي الأكبر.
أتمنى من كل قلبي أن تدوم صحتك، وأظنك ستفكر في العودة قريبا بمجموعاتك الرائعة،
6
وبما تحفظه في عقلك من مواد أروع بكثير. ستكون متحيرا بشأن كيفية النشر. سيكون صندوق الجمعية الملكية خيارا جديرا بأن تفكر فيه. مع أطيب أمنياتي، وأصدق تحياتي.
صديقك المخلص
تشارلز داروين
ملحوظة:
أظنني قد أخبرتك من قبل بأن هوكر قد غير قناعاته تماما واعتنق الأفكار الجديدة. إذا استطعت أن أغير قناعات هكسلي، فسأكون راضيا للغاية.
من تشارلز داروين إلى دبليو دي فوكس
إلكلي، يوركشاير،
الأربعاء [16 نوفمبر 1859] ... يعجبني المكان للغاية، وقد استمتع به الأطفال كثيرا، وعاد بالنفع على زوجتي. وعاد بالنفع على هنرييتا في البداية أيضا، لكن حالها ساء مجددا. أما أنا فتعرضت لسلسلة من الحوادث: التواء في الكاحل أولا، ثم تورم شديد في ساقي كلها ووجهي، وطفح جلدي شديد، ومجموعة متتالية بشعة من الدمامل، أربعة أو خمسة في المرة الواحدة. لقد مرضت بشدة، وليس لدي إيمان بأن هذه «المحنة الفريدة»، كما يصفها الطبيب، تنفعني كثيرا ... الأرجح أنك تلقيت كتابي الممل عن الأنواع، أو ستتلقاه قريبا جدا، وأعتقد بطبيعة الحال أنه يحوي الحقيقة بدرجة كبيرة، لكنك لن تتفق معي إطلاقا. لقد غير الدكتور هوكر، الذي أعتبره أحد أفضل الخبراء في أوروبا، رأيه وصار مقتنعا تماما بأفكاري، ويظن أن لايل أيضا أصبح كذلك؛ وأؤكد لك أن لايل، بناء على خطاباته إلي عن الموضوع، قد تزحزح عن قناعته السابقة وصار مترددا بشدة. إلى اللقاء. إذا أثر الكتاب في أفكارك، فلتخبرني ...
من تشارلز داروين إلى دبليو بي كاربنتر
إلكلي، يوركشاير،
18 نوفمبر [1859]
عزيزي كاربنتر
يجب أن أشكرك على خطابك بالأصالة عن نفسي، وإذا كنت أعرف نفسي، يجب أن أوجه إليك شكرا أشد حرارة نيابة عن الموضوع. ذلك أنك، حسبما يبدو، قد فهمت فصلي الأخير دون قراءة الفصول السابقة، فلا شك أنك فكرت في الموضوع في قرارة نفسك بنضج وعمق شديد؛ إذ إنني وجدت صعوبة هائلة في أن أجعل حتى أبرع الرجال يفهمون مقصدي. ستلقى آرائي معارضة قوية. وإذا كنت مصيبا في العموم (مع مراعاة وجود بعض الأخطاء الجزئية لم ألحظها بالطبع)، فإن الاعتراف بصحة آرائي سيتوقف على ذوي السمعة الراسخة من أمثالك بأكثر مما يتوقف على كتاباتي نفسها. ومن ثم، بافتراض أنك اعتقدت بصحة آرائي في العموم حين قرأت كتابي، لك مني خالص الشكر والاحترام على استعدادك للمجازفة باحتمالية انخفاض شعبيتك في سبيل الدفاع عن هذه الآراء. لا أعرف إطلاقا ما إذا كان أي شخص سيكتب مراجعة عن الكتاب في أي من الدوريات العلمية. وأنا لا أعرف كيف يمكن لمؤلف أن يستفسر عن شيء كهذا أو يتدخل فيه، لكن إذا كنت راغبا في كتابة مقال عن الكتاب في أي مكان، فأنا متيقن، بناء على الإعجاب الذي لطالما شعرت به وأعربت عنه تجاه كتابك عن «علم وظائف الأعضاء المقارن »، من أن مقالك النقدي سيكون ممتازا، وسيقدم عونا جليلا للقضية التي أظن أنني مهتم بها اهتماما عميقا غير أناني. أشعر بتوعك شديد اليوم، وصحيح أن هذه الرسالة مكتوبة بخط سيئ، وربما يكاد يكون غير مقروء، لكن اعذرني لأنني لم أستطع تفويت البريد دون أن أشكرك على رسالتك. ستواجهك مهمة صعبة في زحزحة السير إتش هولاند عن رأيه ولو قيد أنملة. لا أظن (وأقول هذا سرا بيننا) أن الرجل العظيم لديه معرفة كافية لمعالجة الموضوع.
مع أصدق تحياتي وإخلاصي، صديقك الممتن
سي داروين
ملحوظة:
نظرا إلى أنك لست جيولوجيا فعليا، دعني أضيف أن لايل يظن أن الفصل المتعلق بقصور السجل الجيولوجي «ليس» مبالغا فيه.
من تشارلز داروين إلى دبليو بي كاربنتر
إلكلي، يوركشاير،
19 نوفمبر [1859]
عزيزي كاربنتر
أرجو أن تعذرني على إزعاجك مجددا. إذا استطعت، بعد قراءة كتابي، التوصل إلى استنتاج قاطع بأي درجة كانت، فهل يكون من غير الملائم أن أطلب منك إرسال خطاب إلي؟ لا أطلب مناقشة مطولة، بل فكرة موجزة فحسب عن انطباعك العام. فبناء على معرفتك الواسعة، وعادتك في تحري الحقيقة، وقدراتك، فإنني أكن لرأيك أعلى درجات التقدير. وبالرغم من أنني أومن بصحة اعتقادي بالطبع، فأنا أرى أن الاعتقاد لا يكون حيويا إلا حين يتشارك أناس آخرون في الإيمان به. وحتى الآن لا أعرف سوى مؤمن واحد، لكني أعتبره صاحب الخبرة الأكبر، وأقصد هنا هوكر. حين أتأمل الحالات العديدة التي عكف فيها رجال على دراسة موضوع واحد على مدار سنوات، وأقنعوا أنفسهم بصحة أكثر الاعتقادات حماقة، أحيانا ما يراودني قليل من الخوف حيال احتمالية أن أكون واحدا من هؤلاء المجانين المهووسين بفكرة واحدة.
أرجو مجددا أن تعذرني على هذا الطلب الذي أخشى أن تراه غير ملائم. تكفيني رسالة قصيرة، وأستطيع أن أتحمل رأيا معارضا مخالفا، فسيتحتم علي تحمل الكثير من مثل هذه الآراء.
صديقك المخلص
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
إلكلي، يوركشاير،
الأحد [نوفمبر 1859]
عزيزي هوكر
قرأت للتو مقالا نقديا عن كتابي في دورية «ذا أثنيام»،
7
وأتحرق فضولا لمعرفة هوية كاتبه. ليتك تخبرني بمن يكتب في «ذا أثنيام»، إذا كنت تعرف. أرى أن المقال كتب بإتقان، لكن الناقد لا يقدم اعتراضات جديدة، ولأنه يتسم بالعدائية، يتجاهل كل حجة تؤيد الاعتقاد ... أخشى، بناء على لهجة المقال النقدي، أن أكون قد كتبت الكتاب بأسلوب مغرور متعجرف، وهذا يخجلني قليلا. ويوجد مقال نقدي آخر أود معرفة كاتبه؛ أقصد مقال إتش سي واطسون في دورية «ذا جاردنرز كرونيكل». فبعض التعليقات تشبه تعليقاتك، وكاتبه يستحق العقاب، لكن المقال أقسى مما ينبغي بكل تأكيد. ألا تظن ذلك؟
آمل أن تكون قد تلقيت النسخ الثلاث المخصصة لعلماء النبات الأجانب قبل موعد الطرد الذي تود إرساله، ونسختك أنت أيضا. لقد تلقيت خطابا من كاربنتر، الذي أظنه من المحتمل أن يغير رأيه ويعتنق فكرتي. وكذلك تلقيت خطابا من كاتريفاج، الذي يميل إلى الاتفاق معنا. يقول إنه عرض في محاضرته رسما بيانيا يشبه رسمي البياني بشدة!
سأبقى هنا أسبوعين آخرين، ثم سأذهب إلى داون، وسأمكث أسبوعا على الطريق في «شروزبري». لقد كنت تعيسا جدا؛ فمن أصل سبعة أسابيع، بقيت حبيس المنزل خمسة أسابيع. خلف ذلك في نفسي أثرا سيئا؛ لأنني لم أستطع التوقف عن التفكير في كتابي إلى حد أحمق. إذا غير أربعة رجال «بارعين» أو خمسة قناعتهم وصاروا أميل إلى الاقتناع برأينا، فسأكون متيقنا من النجاح في نهاية المطاف. إنني متلهف لمعرفة رأي هكسلي. هل نشرت مقدمتك؟
8
أظنك ستبيعها على حدة. أرجو أن تجيب عن هذا؛ لأنني أريد نسخة إضافية كي أرسلها إلى والاس. أعرف أنني أزعجك جدا. إلى اللقاء.
صديقك المحب
سي داروين
كنت في غاية السعادة بفوز السيد بينثام بالقلادة الملكية.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 21 نوفمبر 1859
عزيزي هوكر
أرجو أن تبلغ السيدة هوكر شكري لها على رسالتها اللطيفة جدا، التي أسعدتني بشدة. نحن في غاية الأسف لأنها لا تستطيع المجيء إلى هنا، لكننا سنسعد برؤيتك هنا في الأسبوع الثاني من يناير أو أي وقت آخر، وسيسعدنا أيضا أن يأتي دبليو معك (سيكون أولادنا في المنزل). سأستمتع جدا بمناقشة أي نقاط في كتابي معك ...
أكره سماعك تسيء إلى عملك. فأنا، على عكس ذلك، أكن خالص التقدير الصادق تجاه كل كتاباتك. إنني أحمل في قرارة نفسي قناعة قديمة راسخة بأن علماء التاريخ الطبيعي الذين يجمعون الحقائق ويتوصلون إلى الكثير من التعميمات الجزئية هم من ينفعون العلم «حقا». أما أولئك الذين يكتفون بجمع الحقائق، فلا يسعني أن أحترمهم كثيرا.
كنت آمل أن أذهب إلى النادي غدا، لكني لا أظن أنني سأكون قادرا على ذلك. يبدو أن «إلكلي» لم تجد أي نفع حقيقي لي. حضرت جلسة قضاة الصلح يوم الإثنين، وظللت عالقا أفصل في بعض القضايا المزعجة وقتا أطول من المعتاد بساعة ونصف، ثم عدت إلى المنزل منهكا تماما غير قادر على استجماع قواي. يا لي من شخص عديم القيمة! ... لك جزيل شكري على رسالتك المبهجة.
صديقك الدائم
سي داروين
ملحوظة:
أنا متيقن من أن قبول علماء التاريخ الطبيعي النشطين من أمثالك للفكرة، والحجج والحقائق التي يقدمونها أهم بكثير من كتابي، فيما يتعلق بتقدم موضوع أصل الأنواع وكيفية تكونها في المستقبل؛ لذا لا تسيئن إلى كتابك من أجل الرب.
من إتش سي واطسون إلى تشارلز داروين
تيمز ديتون، 21 نوفمبر [1859]
سيدي العزيز
حالما بدأت قراءة كتاب «أصل الأنواع»، لم أستطع التوقف حتى أنهيت قراءته كله دفعة واحدة. سأبدأ الآن في قراءته من جديد بترو أكبر. وفي هذه الأثناء، أردت أن أرسل إليك الانطباعات الأولى التي من المؤكد أنها، في الغالب، ستكون انطباعات دائمة:
الأول:
من المؤكد أن فكرتك الأساسية؛ أي «الانتقاء الطبيعي» سوف تنال اعترافا بأنها حقيقة راسخة في العلم. إنها تحمل سمات كل الحقائق الطبيعية العظيمة؛ إذ توضح ما كان غامضا، وتبسط ما كان معقدا، وتضيف معلومات هائلة إلى المعرفة السابقة. إنك أعظم ثوري في التاريخ الطبيعي في هذا القرن، إن لم يكن في جميع القرون.
الثاني:
ربما ستحتاج، بعض الشيء، إلى أن تحجم تطبيقاتك الحالية لمبدأ الانتقاء الطبيعي أو أن تعدلها، وربما ستحتاج بعض الشيء أيضا إلى توسيع نطاقها. من دون الخوض في مسائل تفصيلية بدرجة أكبر، أرى أن الكتاب يتضمن مثالا أساسيا على عدم الاتساق، نشأ من قصور المقارنة بين الضروب والأنواع، ومثالا آخر يتمثل في افتراض وجود شيء أشبه بالحاجز لدى الطبيعة ينشأ من «التشعب»، غير أنه لا توجد أسس كافية تدعم هذا الافتراض. ومع ذلك، ربما تكون هذه أخطاء من وحي تصوري الشخصي؛ لأن إدراكي لآرائك لا يزال منقوصا. ومن الأفضل ألا أزعجك بشأنها قبل أن أقرأ الكتاب مرة أخرى.
الثالث:
الآن وقد عرضت هذه الآراء الجديدة بإنصاف أمام جمهور العلماء، يبدو من اللافت للنظر حقا كيف أن الكثيرين منهم لم يروا طريقهم الصحيح قبل ذلك. فكيف ظل السير سي لايل، على سبيل المثال، يقرأ عن موضوع الأنواع و«تعاقبها»، ويكتب عنه ويفكر فيه طوال ثلاثين عاما، ومع ذلك ظل يبحث باستمرار في الطريق الخطأ!
قبل ربع قرن، لا بد أننا كنا، أنا وأنت، نحمل الرأي نفسه فيما يتعلق بالمسألة الرئيسية، لكنك استطعت التوصل إلى «كيفية» التعاقب، التي تعد هي أهم شيء على الإطلاق، بينما فشلت أنا في استيعابها. أرسل إليك ضمن هذه الدفعة البريدية كتيبا صغيرا قديما مثيرا للجدل عن كومب وسكوت. وإذا كلفت نفسك عناء إلقاء نظرة خاطفة على الفقرات المدونة على الهامش، فستجد أنني منذ ربع قرن، كنت أيضا أحد القلائل الذين شككوا آنذاك في التميز المطلق للأنواع، وخلقها خلقا خاصا. لكني، كالبقية، عجزت عن اكتشاف «الكيفية» التي ظلت محجوزة ل «تكتشفها» فطنتك و«تطبقها» بصيرتك.
لقد أجبت عن استفساري بشأن الفجوة بين قرد الساتيروس والبشر كما كان متوقعا. والحق أن التفسير الواضح لم يخطر ببالي قط إلا بعدما قرأت الأوراق البحثية في دورية «لينيان بروسيدينجز» ببضعة أشهر. فلا شك أن الأنواع الأولى من «أشباه البشر» سرعان ما شنت حربا مباشرة على أبناء عمومتهم من أنواع «ما دون البشر» أدت إلى فنائهم. وهكذا تشكلت الفجوة، ثم استمرت في الاتساع وصولا إلى الفجوة الحالية الهائلة التي لا تزال تتسع. وكم سيكون ذلك، إضافة إلى التسلسل الزمني الذي اقترحته لحياة الحيوانات، صادما لأفكار الكثيرين من الرجال!
تفضل بقبول فائق إخلاصي
هيويت سي واطسون
من جيه دي هوكر إلى تشارلز داروين
نادي الأثنيام، الإثنين [21 نوفمبر 1859]
عزيزي داروين
أذنبت بعدم إرسال خطاب إليك قبل هذا الحين، ولو لكي أشكرك فيه على كتابك العظيم فحسب - يا له من كتلة من الاستدلال المنطقي المحكم بشأن حقائق غريبة وظواهر جديدة! - لقد كتب بأسلوب ممتاز، وسيحقق نجاحا كبيرا. أقول هذا بناء على المرات القليلة التي قضيتها في مطالعة فصلين أو ثلاثة؛ لأنني لم أتمكن من قراءته إلى الآن. لايل، الذي يمكث معنا، مسحور تماما، ويبالغ في إبداء سعادته به بكل زهو. يجب أن أتقبل مجاملاتك لي، واعترافك بالمساعدة المزعومة مني، باعتبار ذلك تعبيرا عن مودة حارة من رجل صادق (وإن كان موهوما)، ثم إنني أتقبله لأنه مشبع جدا لغروري، ولكن، يا صديقي العزيز، لا اسمي ولا رأيي ولا مساعدتي تستحق أيا من مثل هذه الإطراءات، وإذا كنت غير أمين بما يكفي لأفرح بما لا أستحق، فيجب أن يتوقف ذلك فحسب. ما أشد اختلاف صياغة الكتاب عن صياغة المخطوطة! أرى أنني سأحتاج إلى مناقشة الكثير معك. لم تنه الطابعات الكسولة طباعة مقالتي المنحوسة، التي ستبدو، بجوار كتابك، كمنديل رث ممزق بجوار إحدى رايات شعار النبالة الملكي ...
أتمنى أن تكونوا كلكم بخير.
صديقك المحب
جوس دي هوكر
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
إلكلي، يوركشاير [نوفمبر 1859]
عزيزي هوكر
لا يسعني إلا أن أشكرك على رسالتك الودودة اللطيفة للغاية. ستملؤني بالزهو. يا إلهي! يجب أن أحاول التحلي بقليل من التواضع. لقد استأت قليلا من المقال النقدي.
9
آمل «ألا» يتضح أن الكاتب هو ... ربما يظن، بصفته محاميا، أن ذلك يبرر له تقديم الحجج التي تؤيد طرفا واحدا فقط. لكن الطريقة التي يقحم بها مسألة الخلود بلا داع، ويحرض بها القساوسة علي، ويتركني تحت رحمتهم، خسيسة. صحيح أنه لن يحرقني بأي حال من الأحوال، لكنه سيجهز الحطب، ويخبر الوحوش السوداء بكيفية الإمساك بي ... سيكون من الرائع إلى حد لا يوصف إذا أمكن أن يلقي هكسلي محاضرة عن الموضوع، لكن ذلك احتمال فحسب، فربما يرى فاراداي أن ذلك درجة كبيرة من الهرطقة. ... تلقيت خطابا من [هكسلي] يثني فيه على كتابي ثناء كبيرا إلى حد أن تواضعي (إذ إنني أحاول زراعة تلك النبتة الصعبة في نفسي) يمنعني من إرساله إليك، مثلما كنت أرغب في ذلك؛ لأنه متواضع جدا في الحديث عن نفسه.
لقد جرأتني إلى حد أنني صرت أشعر الآن بأنني أستطيع أن أواجه ثلة من النقاد المتوحشين. أظنك ما زلت مع آل لايل. أرسل إليهم أطيب تحياتي. إنني أشعر بالانتصار إذ أسمع أنه لم يزل يستحسن أفكاري.
مع خالص صدقي، صديقك الذي يحاول التحلي بالتواضع
سي دي
من تشارلز داروين إلى سي لايل
إلكلي ويلز، يوركشاير،
23 نوفمبر [1859]
عزيزي لايل
يبدو أنك أبليت بلاء مثيرا للإعجاب في العمل على مسألة الأنواع؛ فلا خطة أفضل من أن يقرأ المرء كثيرا عن الطرف المعارض. أشعر بسعادة بالغة لأنك تنوي إقرار مذهب التعديل في طبعتك الجديدة؛
10
فأنا متيقن تماما من أن ذلك سيكون أهم عامل على الإطلاق لنجاحه. أكن لك احتراما بالغا صادقا. فأن يبقى المرء على مدار ثلاثين عاما أستاذا جليلا يتبنى رأيا معينا بشأن مسألة ما، ثم يتخلى عن رأيه هذا بمحض إرادته، لهو حقيقة لا أظن أن السجلات العلمية تحمل مثيلا لها. ثم إنني أشعر بسعادة عميقة لنفسي أيضا؛ وذلك لأنني، كثيرا ما كنت أفكر في حالات كثيرة لرجال ظلوا يلاحقون سرابا طيلة سنوات، فتسري في جسدي قشعريرة باردة، وأسأل نفسي عما إن كنت أكرس حياتي لوهم لا وجود له. أما الآن، فأعتبر أنه من المستحيل أخلاقيا أن يكون متحرو الحقيقة، مثلك أنت وهوكر، مخطئين تماما، وذلك يمنحني الطمأنينة والسلام. أشكرك على انتقاداتك، التي سأهتم بها إذا نويت إصدار طبعة ثانية. كنت أفكر، في ظل سيل اللعنات التي تنهال علي وتصفني بأنني ملحد وغير ذلك، فيما إذا كان إقرارك لمذهب الانتقاء الطبيعي سيضر بأعمالك، لكني أرجو ألا يحدث ذلك وأظنه لن يحدث؛ ذلك أن ضراوة التعصب، على حد ما أتذكر، تصب على المذنب الأول فقط، أما أولئك الذين يتبنون وجهة نظره، فيكتفي المتعصبون الحكماء المرحون بأن يشفقوا عليهم معتبرين إياهم من المضللين.
لا أستطيع منع نفسي من اعتقاد أنك تبالغ في تقدير أهمية الأصل المتعدد للكلاب. الفارق الوحيد أنه، في حالة الأصول المفردة، نشأ اختلاف الأعراق كاملا منذ أن دجن الإنسان الأنواع. أما في حالة الأصول المتعددة، فقد نشأ جزء من الاختلاف تحت ظروف طبيعية. وأنا أفضل نظرية الأصل المفرد في كل الحالات «تفضيلا مطلقا»، إذا كانت الحقائق تسمح بتقبلها. لكن يبدو لي (نظرا إلى مدى ولع الهمج بترويض الحيوانات) أنه من المستبعد «بديهيا» أن يكون الإنسان، على مر كل العصور وفي كل أنحاء العالم، قد دجن نوعا واحدا فقط بمفرده من جنس الكلبيات الموزع على نطاق واسع. إضافة إلى ذلك، يبدو أن التشابه الشديد بين ثلاثة أنواع على الأقل من الكلاب الأمريكية المدجنة مع أنواع برية لم تزل تعيش في البلدان التي تدجن فيها الآن، يكاد يحتم علينا الاعتراف بأن الإنسان قد دجن أكثر من جنس بري واحد من الكلبيات.
أشكرك من أعماق قلبي على ما أبديته تجاه كتابي من حماسة هائلة واهتمام بالغ، وسأظل يا عزيزي لايل، صديقك ومريدك المحب.
تشارلز داروين
سوف يقرأ السير جيه هيرشل، الذي أرسلت إليه نسخة، كتابي. يقول إنه يميل إلى الجانب الذي يعارضني. إذا التقيته بعدما يقرؤه، فأرجو أن تعرف رأيه؛ لأنه بالطبع لن يبعث إلي بخطاب، وأنا متلهف لمعرفة ما إذا كان لي أي تأثير في عقل كعقله.
من تي إتش هكسلي إلى تشارلز داروين
جيرمين ستريت، ويستمنستر،
23 نوفمبر 1859
عزيزي داروين
أتممت كتابك بالأمس؛ فقد حالفني الحظ في أحد الفحوصات، مما أتاح لي بضع ساعات من فراغ متواصل.
منذ أن قرأت مقالات فون بار
11
قبل تسع سنوات، لم يترك أي عمل في علم التاريخ الطبيعي من الأعمال التي صادفتها انطباعا عظيما مثل هذا الذي تركه كتابك في نفسي، وأشكرك من أعماق قلبي على هذا المخزون العظيم من الآراء الجديدة الذي منحتني إياه. أظن أن طابع الكتاب هو الأفضل على الإطلاق؛ فهو يترك أثرا حتى لدى أولئك الذين لا يعرفون شيئا عن الموضوع. أما بخصوص مذهبك، فأنا مستعد لفعل أي شيء وتكبد عناء كل المخاطر، إن لزم الأمر، في سبيل تأييد الفصل التاسع ومعظم أجزاء الفصول الخامس والسادس والسابع، وأرى أن الفصل الثالث عشر يحوي الكثير من النقاط المثيرة جدا للإعجاب، لكني أدرجت «ملحوظة تنبيهية» عن نقطة أو اثنتين ريثما أستطيع التعمق في كل جوانب المسألة.
وبخصوص الفصول الأربعة الأولى، فأنا أتفق مع المبادئ المذكورة فيها تماما وكليا. أعتقد أنك قد قدمت سببا حقيقيا يفسر نشأة الأنواع، ورميت على كاهل خصومك عبء إثبات أن الأنواع لم تنشأ بالطريقة التي تفترضها.
لكني أشعر بأنني لم أدرك على الإطلاق حتى الآن مغزى الفصول الثالث والرابع والخامس، والتي أراها لافتة جدا وبديعة، لكني لن أكتب المزيد عنها الآن.
لم يخطر ببالي سوى اعتراضين وحيدين وهما: أولا، أنك أثقلت كاهلك بمشكلة بلا داع حين تبنيت مبدأ «لا قفزات في الطبيعة» بكل صراحة ... وثانيا أنني لا أرى ما يدعو إلى حدوث التباين أصلا، إذا كانت الظروف الطبيعية ذات أهمية ضئيلة جدا كما تفترض.
ومع ذلك، يجب أن أقرأ الكتاب مرتين أخريين أو ثلاثا قبل أن أتجرأ على البدء في اكتشاف الأخطاء.
إنني على يقين أنك لن تسمح لنفسك إطلاقا بأن تستاء أو تنزعج مما قد تتعرض له، إذا لم أكن مخطئا في توقعي، من إساءة بالغة وتحريف شديد. فلتثق بأنك كسبت امتنانا دائما من كل الرجال المفكرين. أما بخصوص الكلاب الوضيعة التي ستنبح وتعوي، فعليك أن تتذكر أن بعض أصدقائك، على أي حال، قد منحوا قدرا من نعمة التأهب للشجار، التي قد تنفعك جدا، وإن كنت قد استنكرتها مرارا كما ينبغي لك.
وها أنا ذا أشحذ مخالبي ومنقاري استعدادا لذلك.
عندما أعيد قراءة خطابي، أجد أنه ضعيف للغاية في التعبير عن كل خواطري تجاهك وتجاه كتابك النبيل إلى حد يخجلني بعض الشيء، لكنك ستفهم أنني، كما قال الببغاء في القصة، «أكن ما هو أكثر من ذلك».
صديقك الوفي دائما
تي إتش هكسلي
من تشارلز داروين إلى تي إتش هكسلي
إلكلي، 25 نوفمبر [1859]
عزيزي هكسلي
أرسل إلي خطابك من داون. وككاثوليكي طيب تلقى مسحة بزيت الزيتون المبارك، أستطيع الآن أن أرنم «نشيد شمعون». كنت سأسر جدا حتى ولو بربع ما قلته. فقبل خمسة عشر شهرا بالضبط، حين بدأت كتابة هذا الكتاب، كانت تراودني شكوك فظيعة، وظننت أنني ربما أوهمت نفسي، كما أوهم الكثيرون أنفسهم من قبل، ثم حددت في ذهني ثلاثة حكام، عازما في قرارة نفسي على تقبل حكمهم مهما كان. وهؤلاء الحكام هم لايل وهوكر وأنت. وهذا ما جعلني متلهفا جدا لمعرفة حكمك. صرت راضيا الآن، ويمكنني الترنم بنشيد شمعون. كم سيكون من المضحك إذا أشدت بك حين تهاجم بعض المؤمنين بالخلق إيمانا راسخا! لقد تطرقت بذكاء شديد إلى نقطة أرقتني كثيرا، وهي: إذا لم يكن للظروف الخارجية، سوى درجة طفيفة من التأثير «المباشر»، فما الذي يحدد بحق السماء كل تباين بعينه؟ ما الذي يجعل خصلة من الريش تظهر على رأس ديك أو يؤدي إلى ظهور الطحلب على رجلة الزهور؟ وأنا أرغب بشدة في أن أناقش ذلك معك ...
عزيزي هكسلي، أشكرك من أعماق قلبي على خطابك.
صديقك المخلص جدا
سي داروين
ملحوظة:
من الآن فصاعدا، سأكون متلهفا جدا لمعرفة رأيك في شرحي لتشابه الأجنة. يؤسفني القول إن آراءنا مختلفة بشأن التصنيف. هل أدركت الآن يا هكسلي تورطك في الحجاج بناء على معتقدك الشخصي فيما يتعلق بمثال الدب والكنغر؟
من إيرازموس داروين (شقيقه) إلى تشارلز داروين
23 نوفمبر [1859]
عزيزي تشارلز
إنني مصاب بدوار شديد جدا إلى حد أنني لا أعرف ما إذا كنت أستطيع الكتابة أم لا، لكني على أي حال سأدون بإيجاز بضعة تعليقات قالها الدكتور.
12
لم يتجاوز قراءة نصف الكتاب إلا بقليل؛ لذا يقول إنه لا يستطيع التصريح باستنتاج معين، وأرى من وجهة نظري أنه يود البقاء هكذا ... من الواضح أنه في حيرة فظيعة، ويواصل القول إنه لم يحسم موقفه بتبني أي من الرأيين، وإنه دائما ما يترك لنفسه مهربا بالطريقة التي يتحدث بها عن الضروب. تصادف أنني تحدثت عن مسألة العين قبل أن يقرأ هذا الجزء، وقد عبر عن انبهاره ببنيتها ووظيفتها وما إلى ذلك، ورأى ذلك مستحيلا تماما، لكنه حين قرأه، همهم وتلعثم، وربما رآه ممكنا بعض الشيء، ثم نكص عائدا إلى ما كان عليه عند جزء عظام الأذن، الذي فاق كل حدود المحتمل أو الممكن. ذكر عيبا طفيفا، لاحظته أنا أيضا، ألا وهو أنك، عند حديثك عن النمل المستعبد الذي يحمل بعضه بعضا، تغير النوع دون سابق إنذار؛ مما يجعل القارئ يعيد القراءة إلى جزء سابق ... ... أما عن رأيي، فصدقا أراه أكثر الكتب التي قرأتها إثارة للاهتمام على الإطلاق، ولا يمكن أن يضاهيه إلا باكورة معرفتي بالكيمياء، التي أدخلتني عالما جديدا، أو بالأحرى أغوارا خفية لا يعرفها أحد. من وجهة نظري، أجد أن التوزيع الجغرافي، أعني علاقة الجزر بالقارات، هو أشد الأدلة إقناعا، وكذلك علاقة الأشكال الأقدم من الأنواع بالأشكال الموجودة حاليا. يمكنني القول إني لا أشعر أن عدم وجود بعض الضروب دليل كاف، لكني على كل حال لا أعرف إطلاقا، لو كان كل شيء حي الآن متحفرا، أكان علماء الحفريات يستطيعون تمييزه أم لا. وفي الحقيقة، الاستدلال المنطقي البديهي مقنع لي تماما إلى حد أنني، إذا لم تكن الحقائق متماشية معه، حسنا، كنت سأشعر بأن الحقائق خاطئة ولا أكترث بها. لقد جعلتني الحمى في حالة من الفتور الشديد إلى حد أنني أقول يا ليتني درست مسألة الانتقاء الطبيعي بإمعان قبل ذلك.
شقيقك المحب
إي إيه دي
من تشارلز داروين إلى سي لايل
إلكلي، [24 نوفمبر 1859]
عزيزي لايل
أود أن أشكرك مجددا على مجموعة قيمة للغاية من الانتقادات التي أوردتها في خطاب بتاريخ 22 نوفمبر.
لقد سمعت أيضا من موراي صباح اليوم أنه باع الطبعة كلها
13
في أول أيام البيع. إنه يريد طبعة جديدة فورا، وهذا يربكني بشدة. فالآن، في ظل خضوعي للعلاج المائي وتوجيه كل قوتي العصبية إلى الجلد، لا أستطيع أن أبذل مجهودا ذهنيا، ويجب أن أكتفي بإجراء التصحيحات الضرورية بالفعل. لكني سأستفيد من اقتراحاتك دون الاستعانة بمخطوطتي بقدر ما أستطيع؛ يجب ألا أبذل جهدا كبيرا. هلا ترسل إلي رسالة قصيرة تخبرني فيها بما إذا كان يجب أن أحذف الفقرة المتعلقة بالحيتان في الحقبة الثانوية أم لا؛
14
فهي قريبة إلى قلبي. أما بخصوص الأفعى المجلجلة، فطالع عملي «يوميات الأبحاث»، تحت عنوان «ترايجونوسيفالوس»، وسترى الأصل المرجح للجلجلة، وعادة ما تكون الخطوة الأولى هي الأصعب في التحولات.
ترغب السيدة بيلوك في ترجمة كتابي إلى الفرنسية؛ فعرضت عليها أن ألقي نظرة سريعة على البروفات لاكتشاف أي أخطاء «علمية». هل سمعت عنها من قبل؟ أعتقد أن موراي وافق بناء على نصيحتي الملحة، لكني أخشى أن يكون هذا تهورا وتسرعا مني. لقد أرسل إلي كاتريفاج خطابا قال فيه إنه يتفق مع معظم آرائي. إنه اختصاصي ممتاز في التاريخ الطبيعي. أنا في عجلة من أمري وليس لدي متسع من الوقت. هل يمكنك أن ترسل إلينا رسالة قصيرة بخصوص مسألة الحيتان؟ أشكرك مجددا على ما تسديه إلي من نصائح ومساعدة بلا كلل أو ملل، وأكن تبجيلا صادقا لحبك الخالص غير الأناني للحقيقة.
سأظل يا عزيزي لايل، صديقك المخلص على الدوام
سي داروين [بخصوص ترجمة الكتاب إلى الفرنسية، أرسل داروين خطابا إلى السيد موراي في نوفمبر 1859 قال فيه: «إنني متلهف «جدا» على ترجمة كتابي؛ من أجل الموضوع نفسه (لا للشهرة فحسب والرب وحده يعلم)؛ فذيوع صيته في الخارج سيعود بنفع غير مباشر على مبيعات النسخة الإنجليزية. لو كان القرار بيدي، لوافقت من دون أجر، وأرسلت نسخة على الفور، واكتفيت بأن ألتمس منها [السيدة بيلوك] أن تستعين بمختص في العلوم ليلقي نظرة سريعة على الترجمة ... ربما تقول إنني، وإن كنت سيئا جدا في الفرنسية، أستطيع اكتشاف أي خطأ علمي، وإنني سألقي نظرة سريعة على البروفات الفرنسية.»
غير أن هذه الترجمة المقترحة لم تنجز، وفشلت خطة ثانية لإنجازها في العام التالي. أرسل خطابا إلى السيد دي كاتريفاج قائلا: «السيد الفاضل الذي أراد ترجمة كتابي «أصل الأنواع» فشل في إقناع أي ناشر. لقد رفضته كل من دار «باليير» ودار «ماسون» ودار «هاشيت» بازدراء. كان أملي في ظهور الكتاب بثوب فرنسي حماقة وتجرؤا متماديا مني، لكن الفكرة ما كانت لتخطر لي لولا أنها اقترحت علي. يا لها من خسارة فادحة! سأعزي نفسي بالطبعة الألمانية التي يطرحها البروفيسور برون.»
15
ترد في رسالة أخرى إلى السيد دي كاتريفاج جملة تبين مدى تلهفه الشديد لتغيير رأي أحد أعظم علماء الحيوان المعاصرين وإقناعه بمذهبه: «كم أود أن أعرف ما إذا كان ميلن إدواردز قد قرأ النسخة التي أرسلتها إليه، وما إذا كان يرى أنني قدمت حججا مقنعة تؤيد الجانب الذي نتبناه من المسألة! فلا يوجد في الدنيا عالم تاريخ طبيعي أكن لرأيه مثل ذلك الاحترام العميق. ولست ساذجا بالطبع إلى حد أن أتوقع تغيير رأيه.»]
من تشارلز داروين إلى سي لايل
إلكلي، [26 نوفمبر 1859]
عزيزي لايل
تلقيت خطابك الذي أرسلته في يوم الرابع والعشرين. لا فائدة من أن أحاول شكرك؛ فأي شكر لن يوفي لطفك حقه. سوف أحذف موضوع الحوت والدب بالتأكيد ...
كانت الطبعة مكونة من 1250 نسخة. حينما كنت أصبح في حالة معنوية جيدة، أحيانا ما كنت أتخيل أن كتابي سينجح، لكني لم أبن قلاعا على الرمال قط، وأتوقع هذا النجاح الذي حققه، ولست أقصد بهذا حجم المبيعات، بل الانطباع الذي تركه فيك (وأنت الذي دائما ما أعتبره حكما كبيرا)، وكذلك هوكر وهكسلي. لقد تجاوز الأمر برمته أشد طموحاتي جموحا وبفارق هائل.
إلى اللقاء، إنني متعب؛ لأنني كنت عاكفا على تفحص الأوراق.
إلى اللقاء يا صديقي العزيز
صديقك سي داروين
من تشارلز داروين إلى سي لايل
إلكلي، يوركشاير،
2 ديسمبر [1859]
عزيزي لايل
لقد أثارت جميع الرسائل التي أرسلتها إلي بالغ اهتمامي. أرجو أن تشكر الليدي لايل على تعليقها. في الفصول التي تشير الليدي إليها، لم أستطع تعديل الفقرة وفق اقتراحك، لكني عدلت ثلاث فقرات أو أربعا في الفصل الأخير. لقد كتب كينجسلي في رسالة إلي
16
فقرة ممتازة عن أن أفكارا كأفكاري «لا» تتناقض مع تبني تصور سام عن الإله. لقد أدرجتها في الكتاب بوصفها مقتطفا من رسالة تلقيتها من مؤلف ورجل دين شهير. وكتبت أيضا عن فكرة الأعضاء الوليدة. واجهت صعوبة هائلة في فهم خطاب سيجويك، ولو جزئيا، وأظن أنني بخسته قدره من الوضوح. بالرغم من أني أبذل ما بوسعي، يؤسفني أني سأتعرض لإساءة شديدة. وردا على تعليق سيجويك بأن كتابي سيكون «مؤذيا»، سألته عما إذا كان يمكن معرفة الحقيقة إلا بالانتصار على كل الهجمات. لكن من دون جدوى. يقول لي إتش سي واطسون إن أحد علماء الحيوان قال إنه سيقرأ كتابي، «لكني لن أصدق ذلك أبدا». ما أغربه من سلوك يتبناه المرء عند قراءة كتاب! لقد كتب كروفورد
17
رسالة إلي قائلا إن مقالته النقدية ستكون عدائية، لكنه «لن يشوه سمعة المؤلف بالباطل.» يقول إنه قرأ كتابي، «أو على الأقل بعض الأجزاء التي استطاع فهمها.» أرسل إلي بعض الملاحظات والاقتراحات (غير مهمة إلى حد كبير)، وهي توضح لي أنني ألحقت بالموضوع ضررا لا مناص منه حين نشرت ملخصا له. إنه يؤمن كليا بمبدأ «بالاس»؛ القائل بأن كل أعراقنا الداجنة تقريبا قد انحدرت من عدد كبير من الأنواع البرية التي صارت الآن ممتزجة. توقعت أن يكون موركيسون عنيفا. إنه لم يحاول حتى فهم موضوع التعرية إلا قليلا! كم هو غريب أن يكون عالم جيولوجيا عظيم مثله وعقله غير فلسفي إطلاقا! تلقيت عدة رسائل من ... كانت مهذبة جدا وأقل عدائية. يقول إنه لن يذمني دون أن يفكر مليا، «ربما لن يقول شيئا» عن الموضوع. يقول إكس إن ... سيذهب إلى ذاك الجزء من الجحيم، الذي يخبرنا دانتي بأنه مخصص لأولئك الذين ليسوا من أتباع الرب ولا من أتباع الشيطان.
أعتقد يقينا أنني مدين براحتي في السنوات القليلة القادمة من حياتي لدعمك السخي، ودعم قلة قليلة من أناس آخرين. لا أظن أنني شجاع بما يكفي لتحمل أن أكون مكروها بلا دعم؛ أشعر الآن بأني جريء كالأسد. ولكن ثمة شيء واحد أرى أنني يجب أن أتعلمه؛ ألا وهو أن أقلل من إعجابي بنفسي وبكتابي. إلى اللقاء، مع خالص شكري.
أصدق التحيات من صديقك
سي داروين
سأعود إلى الديار في السابع من الشهر، وسأبيت في منزل إيرازموس. سأزورك في حوالي الساعة العاشرة من يوم الخميس، الذي يوافق الثامن من الشهر، وأجلس معك أثناء فطورك، كما جلسنا مرارا.
أتمنى لو كانت توجد أي احتمالية لزحزحة بريستويتش عن رأيه، لكن يؤسفني القول إنه متعصب في إيمانه بنظرية التغير بالكوارث. [في ديسمبر، نشرت في مجلة «ماكملان ماجازين» مقالة بعنوان «الزمن والحياة» بقلم البروفيسور هكسلي. يتناول الجزء الأكبر من المقالة تحليل حجة «أصل الأنواع»، لكنها تعرض أيضا مضمون محاضرة ألقيت في المعهد الملكي قبل نشر ذلك الكتاب. أيد البروفيسور هكسلي فكرة التطور بكل قوة في محاضرته، وهو يوضح أنه كان يعتمد في فعل ذلك اعتمادا كبيرا على معرفة «الطابع العام للبحوث التي كان السيد داروين منهمكا في إجرائها لفترة طويلة»، وقد دعمه في ذلك ثقته الكاملة في معرفته ومثابرته و«حبه الفاضل النبيل للحقيقة». ومن الواضح أن والدي فرح جدا بكلمات السيد هكسلي، وكتب قائلا في خطاب إليه: «يجب أن أشكرك على تعليقك اللطيف للغاية الذي أوردته في «ماكملان» عن كتابي. لا يمكن لأحد أن ينال إطراء أكثر إبهاجا وتشريفا من ذلك. لم أسمع بمحاضرتك بسبب حياتي المنعزلة. إنك تنسب إلي الفضل بدرجة أكبر مما أستحقه بكثير، من واقع صداقتنا المتبادلة. لقد شرحت فكرتي الرئيسية بوضوح مثير للإعجاب. كم أن موهبتك عظيمة في الكتابة (أو بالأحرى) في التفكير بوضوح!»]
من تشارلز داروين إلى دبليو بي كاربنتر
إلكلي، يوركشاير،
3 ديسمبر [1859]
عزيزي كاربنتر
أسعدني خطابك للغاية. ما أعظم أن ينضم إلى صفنا عالم فسيولوجيا عظيم! أتحدث بصيغة الجمع لأننا صرنا الآن مجموعة كبيرة ملتحمة من رجال رائعين حقا، ومعظمهم ليسوا مسنين. سوف ننتصر ، على المدى البعيد. لا أحب التعرض للإساءة، لكني أشعر بأنني صرت أستطيع تحملها الآن، وأنا على قناعة تامة، كما أخبرت لايل، بأن المذنب الأول هو من ينال النصيب الأكبر من الإساءة. لقد كان لطفا حقيقيا منك أن تكبح الكراهية الدينية في دورية «ذي إدنبرة ريفيو».
18
فهي تؤذي أقربائي من النساء، وتضر بالقضية.
أرى أن مسألة وصولنا إلى درجة الاقتناع نفسها من عدمه غير مهمة، وأظن، بناء على خبرتي، أنك ستقتنع بدرجة أكبر عندما تفكر في جماعة من أشكال الحيوانات مثل خلد الماء، وعندما تفكر في البنية التناددية والجنينية المشتركة لرتب الفقاريات العديدة. لكن هذا غير مهم. فأنا أوافق تماما على أن المبدأ هو أهم شيء. لقد تحدثت عن كم هائل من الغرائز في مخطوطتي الأكمل، لكن المؤكد أنه سيوجد بها فجوات غير مكتملة أكثر مما يوجد في البنية الجسدية؛ لأننا ليس لدينا غرائز متحفرة، ولا نعرف أيا منها تقريبا سوى تلك الموجودة لدى الحيوانات الأوروبية. حين أتأمل مدى البطء الشديد الذي غيرت أنا شخصيا به رأيي، أدهش في الحقيقة من الموضوعية التي أبديتموها، أنت ولايل وهوكر وهكسلي. أراها عظيمة جدا. أشكرك من أعماق قلبي على تكبد عناء كتابة مقال نقدي في «ناشونال». الرب يعلم أن قلة قليلة جدا من النقاد ستكتب عني بأي قدر من الاستحسان.
19
من تشارلز داروين إلى سي لايل
السبت [5 ديسمبر، 1859] ... تلقيت صباح اليوم خطابا من كاربنتر. إنه يكتب مقالا نقديا عني لمجلة «ناشونال». لقد غير رأيه وصار مقتنعا بفكرتي إلى حد كبير، وإن لم يكن بقدر اقتناعي بها؛ فهو يقر بأن كل الطيور من سلف واحد، ويرجح أن كل الأسماك والزواحف من سلف آخر. غير أن الجرعة الأخيرة تخنقه. إنه لا يستطيع الاعتراف بأن الفقاريات كلها جاءت من سلف واحد. من المؤكد أنه سيصل إلى ذلك بناء على الأدلة المستقاة من علم التنادد وعلم الأجنة. أرى أن إقناع عالم فسيولوجيا عظيم برأيي شيء رائع؛ لأنني أظنه عظيما في ذلك المجال بالتأكيد. ما أشد فضولي لمعرفة الصف الذي سينحاز إليه أوين! يؤسفني القول إنه سيكون ضدنا بكل تأكيد، رغم أنه أرسل إلي رسالة فضفاضة عن استقبال كتابي، وقال إنه على أتم استعداد لدراسة استدلالي بإنصاف ودون تحيز.
من جيه دي هوكر إلى تشارلز داروين
كيو، الإثنين
عزيزي داروين
أعرف أن الخطابات تنهال عليك منذ نشر كتابك؛ لذا سأحجم عن الإسهام في ذلك. آمل أن تكون الآن قد أنهيت الطبعة الثانية على أكمل وجه، وسمعت أنك كنت تتعافى في لندن. لم أصل إلى نصف الكتاب بعد، لا من افتقار إلى الإرادة، بل الوقت؛ لأنه أصعب الكتب التي صادفتها في القراءة إن أراد المرء أن يحصل منها الفائدة الكاملة؛ فهو زاخر بالمادة العلمية والاستدلال. إنني سعيد للغاية بأنك نشرته في هذه الصورة؛ فلو أنك نشرت الأجزاء الثلاثة، دون التمهيد لها بتلك النبذة؛ لاختنق بها أي عالم تاريخ طبيعي من علماء القرن التاسع عشر، ولتحلل دماغي في محاولة استيعاب محتوياتها. لقد تعبت من الإعجاب بكم الحقائق المدهش الذي استخدمته، ومهارتك في تنظيم تلك الحقائق ورميها على الخصوم؛ الكتاب واضح جدا إلى الحد الذي بلغته في القراءة، لكن من الصعب جدا استيعابه بالكامل. ذلك أنه يبدو مختلفا بعض الشيء عن المخطوطة، وكثيرا ما أتخيل أنني غبي ولا بد لأنني لم أفهمه فهما كاملا في المخطوطة. أخبرني لايل بانتقاداته. لم أفهمها كلها، ويوجد العديد من الأمور البسيطة التي آمل أن أناقشها معك يوما ما. رأيت مقالة نقدية مفعمة بالإطراء في صحيفة «إنجلش تشيرشمان»، صحيح أنها قصيرة ولا تعرض مناقشة جدية للموضوع، لكنها تكيل المديح لك ولكتابك، وتتحدث عن مذهبك بتأييد! ... أتصور أن بينثام وهنزلو لا يزالان معترضين ...
صديقك المحب دائما
جوس دي هوكر
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، السبت [12 ديسمبر 1859] ... خضت لقاءات حوارية طويلة جدا مع ... ربما ستود أن تسمع عنها ... أستنتج من عدة تعبيرات أنه يتفق معنا بشدة في الأساس ...
قال ما معناه أن تفسيري كان أفضل التفسيرات التي نشرت على الإطلاق بشأن كيفية تكون الأنواع. فقلت إن سماع ذلك يسعدني جدا. فأوقفني فجأة قائلا: «يجب ألا تفترض إطلاقا أنني أتفق معك في كل النقاط.» فقلت إنني أظن أن احتمالية أن أكون مصيبا في كل النقاط تقريبا ليست أكبر من احتمالية أن أرمي عملة معدنية في الهواء ويظهر لي الوجه ذو الصورة عشرين مرة متتالية. سألته بعد ذلك عن الجزء الأسوأ في رأيه. فقال إنه ليس لديه اعتراض معين على أي جزء. وأضاف: «إذا كان لا بد أن أنتقد، فينبغي أن أقول: «لا نريد أن نعرف ما يعتقده داروين وما هو مقتنع به، بل ما يستطيع إثباته».» فوافقت تماما وبكل صدق على أنني أخطأت بشدة في هذا الجانب، ودافعت عن حجتي العامة المتمثلة في ابتكار نظرية، وملاحظة عدد مجموعات الحقائق التي ستشرحها هذه النظرية. وأضفت أنني سأسعى إلى تعديل الكلمات التي تعبر عن «الاعتقاد» و«الاقتناع». فأوقفني فجأة قائلا: «إذن تفسد كتابك؛ إذ إن سر جاذبيته (!) أنه يعبر عن داروين ذاته.» وأضاف اعتراضا آخر مفاده أن الكتاب كان أكثر كمالا مما ينبغي؛ بمعنى أنه شرح كل شيء، وأنه كان من المستبعد جدا أن أنجح في هذا. أتفق تماما مع هذا الاعتراض الغريب، وهو يعني شيئا من الاثنين: إما أن كتابي سيئ جدا أو جيد جدا ...
لقد سمعت، بطريقة غير مباشرة، أن هيرشل يقول إن كتابي «هو قانون العشوائية الفوضوية.» لا أعرف معنى ذلك بالضبط، لكن من الواضح أنه يحمل احتقارا شديدا. إذا صح ذلك، فسيكون بمثابة ضربة موجعة وتثبيط بالغ.
من تشارلز داروين إلى جون لوبوك
14 ديسمبر [1859] ... لقد استفدت كثيرا في الفترة الأخيرة من إقامتي في إلكلي، لكني أظن أنني لن أستعيد تمام عافيتي أبدا؛ لأن العمل الذي أؤديه منذ عودتي قد أنهكني قليلا أكثر من مرة. إنني مشغول بالحصول على طبعة جديدة (فيها عدد قليل جدا من التصحيحات).
لقد حقق كتابي حتى الآن نجاحا أكبر «بكثير» مما كنت أحلم به؛ موراي يطبع الآن 3000 نسخة. هل أنهيت قراءته؟ إذا كنت أنهيت القراءة، فأرجو أن تخبرني بما إذا كنت تتفق معي بشأن القضية «العامة»، أم تعارضني. إذا كنت تعارضني، فأنا أعرف جيدا أنك ستكون خصما شريفا منصفا نزيها جدا، وهذا أكثر بكثير مما أستطيع قوله عن كل خصومي ...
أرجو أن تخبرني بما كنت تفعله. هل كان لديك متسع من الوقت لأي عمل في التاريخ الطبيعي؟ ...
ملحوظة:
يوجد عدد لا بأس به من الرجال المنحازين إلى صفي في الجدال بشأن مسألة قابلية الأنواع للتغير؛ هذا ما آمله وأرجوه.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 14 ديسمبر [1859]
عزيزي هوكر
إن استحسانك كتابي، يغمرني بالرضا لأسباب عديدة، لكن يجب أن أضع في حسباني لطفك وتعاطفك. أعتقد أن أي شخص ذي قدرات عادية، لو كان لديه «صبر» كاف ومتسع من الوقت، لاستطاع أن يكتب كتابي. إنك لا تعرف مدى تقديري الشديد لما أبديتماه، أنت ولايل، من تعاطف سخي إيثاري، لا أعتقد أن أيا منكما كان سيهتم بعمل له بمثل هذه الدرجة. إن النجاح الذي حققه كتابي حتى الآن أكبر بكثير من أي نجاح تجرأت على توقعه من قبل على الإطلاق في أشد أحلامي جموحا. سنكون عما قريب مجموعة كبيرة من العلماء الفاعلين، وأنا متيقن من أن كل علماء التاريخ الطبيعي الشباب الصاعدين سينضمون إلى صفنا. سأكون مهتما جدا بمعرفة إذا ما كان لكتابي أي تأثير في إيه جراي؛ فبناء على ما عرفته من مراسلاتي مع لايل، أتصور أن مراسلاتك معه قد أقنعته إلى حد ما بالفعل. يؤسفني أن زعزعة بينثام عن رأيه أمر مستبعد. هل سيقرأ كتابي؟ ألديه نسخة؟ سأرسل إليه إحدى نسخ الطبعات الجديدة إذا لم يكن لديه. لقد هاجمني جيه إي جراي الكبير،
20
الذي يعمل في المتحف البريطاني، بأسلوب راق قائلا: «كل ما فعلته أنك استنسخت مذهب لامارك ليس إلا، وقد ظل لايل وآخرون يهاجمونه على هذا لعشرين عاما، ثم تأتي «أنت» (بسخرية وضحك) تقول الشيء نفسه بالضبط، فيغيرون رأيهم جميعا؛ يا له من تناقض عجيب للغاية!»
من المؤكد أنك سعيد جدا بالاستقرار في بيتك، وآمل أن تكون راضيا عن كل التحسينات. واقع خبرتي أن التحسينات لا تصل إلى الكمال أبدا. يؤسفني بشدة سماع أنك ما زلت مشغولا جدا، ولديك كم هائل من العمل. والآن سأتطرق إلى مغزى رسالتي الأساسي، وهو أنني أطلب منك ومن السيدة هوكر (التي لم أرها منذ زمن طويل حقا) وأتوسل إليكما، أنتما وكل أطفالكما، أن تأتوا وتقضوا أسبوعا هنا، إن كان هذا ممكنا. هذا سيسعدنا أنا وزوجتي للغاية ... يبدو أننا سنظل في المنزل طوال الشتاء، ويناسبنا مجيئكم في أي وقت، لكن لا تؤجل الزيارة إلى وقت متأخر جدا، إن استطعت؛ لأنك قد تسهو عنها. فكر في هذا، وأقنع السيدة هوكر، وكن رجلا طيبا وتعال.
إلى اللقاء يا صديقي العزيز الطيب.
صديقك المحب
سي داروين
ملحوظة:
أتحرق فضولا لمعرفة رأيك في مناقشتي بشأن التصنيف في الفصل الثالث عشر؛ أعتقد أن هكسلي يعترض عليها كلها، ويقول إنه صرح بآرائه علانية دون استسلام، وإنني أفضل الموت على الاستسلام؛ لذا فنحن في حالة ذهنية جيدة لمناقشة هذه المسألة كأي اثنين متدينين متشددين.
إن علم الأجنة هو جزئي المفضل في كتابي، ويؤسفني أن أيا من أصدقائي لم يذكر لي ذلك.
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، 21 ديسمبر [1859]
عزيزي جراي
لقد تلقيت خطابك الثمين الطويل اللطيف جدا. سأرسل إليك مجددا في غضون أيام؛ لأنني الآن متوعك ولدي الكثير من الأمور العاجلة التي ينبغي القيام بها، رسالة اليوم شخصية فحسب. أعتقد أن صدور طبعة أمريكية سيسرني لأسباب عديدة. لقد حسمت أمري ورضيت بالتعرض لإساءات بالغة، لكني أرى أنه من المهم أن يقرأ أفكاري رجال أذكياء يألفون الجدل العلمي، وإن «لم» يكونوا متخصصين في التاريخ الطبيعي. ربما يبدو ذلك غير منطقي، لكني أظن أن هؤلاء الرجال سيجرون وراءهم علماء التاريخ الطبيعي الذين تترسخ في عقولهم فكرة أن كل نوع كيان مستقل بذاته. لقد بيعت الطبعة الأولى المكونة من 1250 نسخة في اليوم الأول، والآن تعكف دار النشر التي أتعامل معها على طبع 3000 نسخة أخرى، ب «أقصى سرعة ممكنة». لا أقول ذلك إلا لأنه قد يجعل طرحه للبيع في أمريكا مربحا على الأرجح. سيكون امتناني لك بلا حدود إذا استطعت أن تساعد في إصدار طبعة جديدة أمريكية، وأن تتخذ أي تدابير لازمة لجني أي أرباح، من أجلي ومن أجل دار النشر التي أتعامل معها. ليست الطبعة الجديدة سوى نسخة معاد طبعها من نظيرتها الأولى، لكني أجريت «بضعة» تصحيحات مهمة. سوف أرسل النسخة المنقحة في غضون بضعة أيام من طبع أكبر قدر ممكن منها، والبقية بعد ذلك، وتستطيع أن تفعل أي شيء تريده، وإذا لم ترغب في فعل شيء، فلا بأس أيضا. سأكون سعيدا بإصدار الطبعة الجديدة لا القديمة، على عجل شديد، ومع خالص شكري.
صديقك المخلص
سي داروين
سأرسل إليك مجددا عما قريب.
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، 22 [ديسمبر، 1859]
عزيزي لايل
أشكرك على «الدببة»،
21
وهي كلمة ذات فأل سيئ من وجهة نظري.
إنني متوعك جدا إلى حد يعجزني عن مغادرة المنزل؛ لذا لن ألقاك.
أشعر بسعادة غامرة بتعليقاتك على هوكر.
22
لم أحصل على المقالة بعد. لكني أعتقد أن الأجزاء التي قرأتها في البروفات رائعة، لا سيما التعميم المطروح عن النباتات الأسترالية نفسها. كم أنها أروع من مقالة روبرت براون المرموقة! لم أر ورقة نودين البحثية،
23
ولن أتمكن من ذلك إلا بعدما أمشط المكتبات بحثا عنها. إنني متلهف جدا للاطلاع عليها. يبدو أن دوكين يظن أنه يقدم في هذه الورقة نظريتي بحذافيرها. لا أعرف متى سأحظى بالوقت والعافية لأقرأ كتاب هوكر ...
ملحوظة:
تلقيت خطابا من السير دبليو جاردين، وانتقاداته غير مهمة إلى حد كبير؛ إذ يقول إن بعض ما يسمى أنواعا في أرخبيل جالاباجوس يجب أن يسمى ضروبا، وهذا ما كنت أتوقعه تماما، ويقول إن بعض الأجناس الفرعية، التي يظن أنها متوطنة بالكامل، وجدت في أوروبا (هذا لا يعني أنه يذكر المصدر الموثوق الذي استمد منه معلوماته)، لكني لا أدعي أن الأنواع سواء. خطابه مقتضب وغامض، لكنه يقول إنه سيرسل إلي مرة أخرى.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون [23 ديسمبر 1859]
عزيزي هوكر
لقد تلقيت في الليلة الماضية «مقدمتك» التي أشكرك عليها شكرا جزيلا، لقد فوجئت بحجمها الكبير؛ لن أستطيع قراءتها قريبا. كان لطفا بالغا منك أنك أرسلت ورقة نودين البحثية؛ لأنني كنت متلهفا للاطلاع عليها. إنني مندهش من أن دوكين يقول إنها مطابقة لنظريتي. فالآلية التي يطرحها نودين هو ومجموعة من الكتاب الإنجليز فيها، هي الانتقاء الاصطناعي، وعندما يقول إن الأنواع تكونت بالطريقة نفسها، ظننت أنه سيثبت في ورقته الكيفية التي أطرحها بالضبط. لكني لا أجد أي كلمة على غرار الصراع من أجل البقاء والانتقاء الطبيعي. وعلى العكس من ذلك، يقدم في (صفحة 103) مبدأ الغائية (الذي لا أفهمه)، والذي، بحسب قوله، يرى بعض المؤلفين أنه يعني القدرية، فيما يرى آخرون أنه يعني العناية الإلهية، والذي يكيف أشكال جميع الكائنات الحية، وينشر التناغم بينها على مستوى الطبيعة كلها.
إنه يفترض كعلماء الجيولوجيا القدامى (الذين افترضوا أن قوى الطبيعة كانت أشد في الماضي) أن الأنواع كانت أكثر قابلية للتغير في البداية. وصحيح أن تشبيهه المتعلق بالشجرة والتصنيف مماثل لتشبيهي (أنا وآخرين)، لكني أعتقد أنه لم يفكر مليا في الموضوع، وإلا لكان قد رأى أن علم الأنساب في حد ذاته لا ينتج تصنيفا؛ لذا فأنا لا أرى في ورقة نودين نهجا «شديد» القرب إلى نهجي ونهج والاس بأكثر مما أراه في ورقة لامارك؛ فكلنا نتفق في مسألة التعديل والانحدار. إذا لم أتلق خطابا منك، فسأرد ورقة «ريفيو أورتيكول» في غضون بضعة أيام (مع الغلاف). أظن أن لايل سيفرح برؤيتها. بالمناسبة، سأظل محتفظا بالمجلد إلى أن تخبرني بما إذا كان لي أن أرسله إلى لايل أم لا. أود أن يرى لايل هذه الرسالة، مع أن دفاع المرء عن استقلال أفكاره وأسبقيتها فعل أحمق.
صديقك الدائم
سي داروين
من إيه سيجويك
24
إلى تشارلز داروين
كامبريدج، 24 ديسمبر، [1859]
عزيزي داروين
أرسل إليك لأشكرك على كتابك «أصل الأنواع». أظنه قد وصل في أواخر الأسبوع الماضي، لكنه ربما يكون قد وصل قبل ذلك ببضعة أيام، ولم ألحظه وسط طرود الكتب المرسلة إلي، التي غالبا ما تظل غير مفتوحة عندما أكون كسولا أو مشغولا بأي عمل لدي. لقد بدأت في قراءته حالما فتحته، وأنهيته يوم الخميس بعد مقاطعات كثيرة. كنت منشغلا يوم أمس؛ أولا، بالتحضير لمحاضرتي، وثانيا، بحضور اجتماع لإخوتي من الزملاء من أجل مناقشة المقترحات النهائية للمفوضين البرلمانيين، وثالثا، بإلقاء محاضرة، ورابعا، بسماع ملخص المناقشة ورد الكلية، الذي وافقنا عليه، تماشيا مع رغبتي الشخصية، على مخطط المفوضين، وخامسا، بتناول العشاء مع صديق قديم في كلية «كلير كوليدج»، وسادسا، بالذهاب بعد انتهاء العشاء إلى الاجتماع الأسبوعي لنادي راي، الذي عدت منه في العاشرة مساء، منهكا للغاية، غير قادر على صعود درج بيتي إلا بجهد جهيد. وأخيرا، بمطالعة صحيفة «ذا تايمز» لرؤية ما يجري في العالم الحافل.
لا أذكر ذلك بهدف ملء فراغ فحسب (وإن كنت أعتقد أن الطبيعة تكره الفراغات)، ولكن لإثبات أنني أرسل إليك ردي وشكري في أبكر وقت فراغ سنح لي، وإن كان ذاك الوقت السانح ضئيلا جدا. إذ لولا أنني أراك رجلا هادئ الطبع ومحبا للحقيقة، لما أخبرتك بأن قراءة كتابك (بالرغم مما يحويه من معرفة عظيمة، ومخزون من الحقائق، وآراء ممتازة عن الأجزاء المختلفة من الطبيعة العضوية، وتلميحات مثيرة للإعجاب عن انتشار العديد من الكائنات العضوية التي تجمعها صلة قرابة عبر مناطق واسعة، إلى آخر ذلك) أشعرتني بألم أكثر مما أشعرتني به من لذة. لقد أعجبت جدا بأجزاء منه، وضحكت من أجزاء أخرى حتى كادت ضلوعي تؤلمني، فيما قرأت أجزاء أخرى بحزن بالغ؛ لأنني أظنها خاطئة تماما ومؤذية بشدة. فبعدما بدأت السير بنا في عربة ترام هادئة، تتمثل في الحقيقة الطبيعية الراسخة، «تخليت» عن نهج الاستقراء الحقيقي، وفاجأتنا بآلية جامحة، في رأيي، كقاطرة الأسقف ويلكينس التي كانت ستسافر بنا إلى القمر. يستند العديد من استنتاجاتك على افتراضات لا يمكن إثباتها ولا إثبات بطلانها، فلماذا إذن تعبر عنها بلغة الاستقراء الفلسفي وترتيبه؟ وبخصوص مبدئك العام - الانتقاء الطبيعي - فماذا يكون سوى نتيجة ثانوية لحقائق أولية مفترضة، أو معروفة! أرى أن استخدام كلمة «التطوير» أفضل منه؛ لأنها أقرب إلى سبب الحقيقة. إنك لا تنكر السببية. وأنا أصف السببية (في العموم) بأنها مشيئة الرب، وأستطيع إثبات أن الرب يتصرف من أجل مصلحة مخلوقاته. وهو يتصرف أيضا بموجب قوانين نستطيع دراستها وفهمها. وأظن أن التصرف بموجب قانون، وتحت ما يسمى العلل الغائية، يشمل مبدأك كله. إنك تكتب عن «الانتقاء الطبيعي» كما لو أنه يحدث بوعي بواسطة العامل المنتقي. إنه ليس سوى نتيجة للتطوير المفترض، وما يتبعه من صراع على الحياة. لقد عرضت هذا الرأي عن الطبيعة عرضا مثيرا للإعجاب، وإن كان كل علماء التاريخ الطبيعي يعترفون به ولا ينكره كل ذي حس منطقي رشيد. فكلنا نعترف بأن التطوير حقيقة تاريخية، ولكن كيف حدث؟ انتبه إلى كلامي، إننا نواجه مشكلة مباشرة في اللغة، ومشكلة أكبر منها في المنطق. يوجد جزء معنوي أو ميتافيزيقي في الطبيعة إضافة إلى الجزء المادي. وأي رجل ينكر ذلك فهو غارق في الحماقة. ثم إن درة تاج العلوم العضوية وعظمتها أنها تربط المادي بالمعنوي عبر «علة غائية»، ولكنها «لا» تسمح لنا بخلطهما في مفهومنا الأول المتعلق بالقوانين، وتصنيفنا لهذه القوانين، سواء أتناولنا أحد جانبي الطبيعة، أم الجانب الآخر. غير أنك تجاهلت هذا الرابط، وإذا لم أكن مخطئا في فهم مغزاك، فأنت بذلت قصارى جهدك في حالة أو اثنتين من الحالات التي تحمل دلالة معينة لتكسره. ولو كان من الممكن كسره (ونحمد الرب أنه ليس كذلك) لعانت الإنسانية، في رأيي، من ضرر ربما كان سيجعلها وحشية، ويهوي بالعرق البشري إلى درجة انحطاط أدنى من أي درجة أخرى سقط إليها منذ أن أخبرتنا سجلاته المكتوبة عن تاريخه. لتتأمل حالة خلايا النحل على سبيل المثال. إذا أسفر تطويرك عن التعديل المتعاقب للنحلة وخلاياها (وهو تعديل لا يستطيع أي إنسان إثباته) فسوف تظل العلة الغائية سارية باعتبارها العلة التوجيهية التي تصرفت الأجيال المتعاقبة وتحسنت وفقا لها. لقد صدمت نزعتي الأخلاقية صدمة كبيرة ببعض فقرات كتابك، كتلك التي أشرت إليها، (وفقرات غيرها تكاد تضاهيها سوءا ). أظن أنك «تعظم» من أهمية الدليل الجيولوجي في تكهنك بشأن الانحدار العضوي، وأنك «تقلل» من أهميته في مناقشتك للروابط المفقودة في تسلسل النسب الطبيعي، لكن ورقتي شارفت على الانتهاء، ويجب أن أذهب إلى قاعة المحاضرات. لذا سأختتم الخطاب قائلا إنني أكره الفصل الختامي بشدة - ليس بصفته ملخصا؛ فهو جيد في هذا الصدد - بل بسبب نبرة الثقة المنتصرة التي تناشد بها الجيل الصاعد (بنبرة استنكرتها عندما استخدمها مؤلف كتاب «بقايا») والتنبؤ بأشياء لم توجد بعد في رحم الزمن، وإذا كان لنا أن نثق في خبرة الحس البشري المتراكمة واستدلالات منطقه، فمن المستبعد جدا أن توجد في أي مكان سوى الرحم الخصب لخيال الإنسان. والآن حان الوقت لأقول شيئا عن ابن قرد وأحد أصدقائك القدامى: لقد صرت أفضل، بل أفضل بكثير، مما كنت في العام الماضي. أحاضر ثلاث مرات في الأسبوع (بعدما كنت أحاضر ستة أيام في الأسبوع سابقا) دون الشعور بإرهاق شديد، لكني أجد، بسبب فقدان النشاط والذاكرة وكل القدرات الإنتاجية، أن هيكلي الجسدي ينهار رويدا نحو الأرض. غير أنني أحمل رؤى للمستقبل. وهي جزء لا يتجزأ مني بقدر معدتي وقلبي، وستتحقق هذه الرؤى بما هو أفضل وأعظم. ولكن بشرط واحد؛ أن أقبل الوحي الإلهي الذي يكشف به الرب عن نفسه في أفعاله وكلامه بكل تواضع، وأبذل قصارى جهدي لأتصرف وفق تلك المعرفة التي لا يستطيع سواه أن يمنحني إياها، ولا يستطيع سواه أن يساعدني في فعل ذلك. إذا فعلنا أنا وأنت كل ذلك، فسنلتقي في الجنة.
أكتب إليك على عجل، وبروح المحبة الأخوية؛ لذا فلتسامحني على أي جملة قد يتصادف أنها لا تعجبك، وصدقني، بالرغم من أي خلاف في بعض النقاط ذات الأهمية الأخلاقية الشديدة، فأنا صديقك القديم المخلص.
إيه سيجويك
من تشارلز داروين إلى تي إتش هكسلي
داون، 25 ديسمبر [1859]
عزيزي هكسلي
لقد سررت بجزء من رسالتك سرورا بالغا إلى حد يحتم علي أن أشكرك عليها. لم يكن السير إتش إتش [هولاند] وحده من هاجمني بشأن التشابه الذي يؤدي إلى الإيمان بوجود شكل أولي «مخلوق» واحد.
25 (لست أقصد بذلك سوى أننا لا نعرف شيئا حتى الآن [عن] كيفية نشأة الحياة.) أظن أن الجميع استنكرني بسبب هذه المسألة. لكني أجبت بأنني لن أحذفها مع أن ذلك هو الخيار الأحكم على الأرجح؛ لأنني أراها احتمالية ممكنة، ولست أقدمها على أي أساس آخر. سترى في عقلك نوعية الحجج التي جعلتني أظنها احتمالية مرجحة، وما من حقيقة قد تركت في نفسي أثرا كبيرا بقدر ما تركته تعليقاتك المثيرة للفضول بشأن التناددات الظاهرة بين رأس الفقاريات والمفصليات.
لقد قدمت نفعا حقيقيا في مهام الوكالة التي تؤديها
26 (لم أسمع من قبل عن وكيل دءوب يعمل بلا أجر غيرك) بتحدثك إلى السير إتش إتش؛ لأن تأثيره سيكون عظيما على الكثيرين. لقد جعلني مذهولا من جهلي بعظام الأذن، وقد عزمت في نفسي على أن أسألك عن الحقائق وما كانت عليه.
مع عميق شكري على حماستك تجاه الموضوع، وخالص تقديري لذلك.
تقبل أصدق تحياتي
سي داروين
ربما ستبتسم على ما اتخذته من حذر واحتياطات بشأن مخطوطتي القبيحة،
27
لا أعتبرها قيمة جدا بحد ذاتها، بل تذكارا للجهد المضني للغاية، الذي بذل، على سبيل المثال، في تتبع تاريخ سلالات الحمام.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 25 [ديسمبر، 1859] ... لن أرسل إلى دوكين؛
28
فدائما ما كان لدي شعور قوي بأنه من الأفضل للمرء ألا يدافع عن أسبقيته. لا أستطيع القول إنني لست مباليا بالموضوع كما ينبغي لي، لكني أستطيع تفادي فعل أي شيء تعقيبا على ذلك.
لا أصدق إطلاقا أنك استوعبت أيا من أفكاري لا إراديا. دائما ما كنت توفيني حقي وزيادة. لكني أظنني ظلمتك؛ إذ جعلتك تقرأ المخطوطة القديمة؛ لأنها كبحت أفكارك الأصلية بالتأكيد. ثمة شيء واحد أقتنع به تمام الاقتناع؛ ألا وهو أن التقدم المستقبلي (الذي يعد النقطة البالغة الأهمية) للموضوع سيعتمد على أن يهتم أناس مجدون أكفاء ومشهورون حقا، مثلك، ومثل لايل وهكسلي، بالموضوع بأكثر مما يتوقف على كتابي. أرى بوضوح أن هذا هو ما يؤثر في أصدقائي غير المتخصصين في العلم.
قلت لنفسي الليلة الماضية إنني سأكتفي بإلقاء نظرة سريعة على مقدمتك، لكني لن أقرأ، ولكني لم أستطع المقاومة، وظللت أقرأ طوال ساعة كاملة.
إلى اللقاء، صديقك المحب
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
28 ديسمبر 1859 ... هل رأيت المقالة الرائعة التي تقيم كتابي في صحيفة «ذا تايمز»؟
29
لا أستطيع تجنب ظن قوي يراودني بأن هكسلي هو من كتبها، لكني لم أسمع من قبل أنه كتب في «ذا تايمز». ستقدم هذه المقالة خدمة جليلة ...
من سي داروين إلى تي إتش هكسلي
داون، 28 ديسمبر [1859]
عزيزي هكسلي
حين قرأت مساء أمس عدد اليوم السابق من صحيفة «ذا تايمز»، ذهلت بالعثور على مقالة رائعة عن كتابي. فمن يمكن أن يكون كاتبها يا ترى؟ أتحرق فضولا لمعرفة ذلك. لقد تضمنت ثناء لمس قلبي حقا، وإن كنت لست مغرورا بما يكفي لأظن أنني أستحقه تماما. المؤلف رجل أدبي وباحث ألماني. قرأ كتابي بإمعان شديد، لكن الشيء اللافت جدا أنه يبدو عالما متبحرا في التاريخ الطبيعي. إنه يعرف كتابي الذي ألفته عن البرنقيلات، ويقدره أشد التقدير. وعلاوة على ذلك، يكتب ويفكر بإقناع ووضوح استثنائيين جدا، بل والأندر أن أسلوب كتابته ثري ببديهة طريفة مبهجة. لقد ضحكنا كلنا من أعماق قلوبنا على بعض الجمل. إنني أتعجب للغاية من هؤلاء الأشخاص غير العقلانيين الذين لا يعرفون شيئا عن الموضوع ويرون أنه من الملائم الانحياز إلى أحد الجانبين.
30
من قد يكون يا ترى؟ كان يجدر بي بالطبع أن أقول إنه لا يوجد سوى رجل واحد في إنجلترا قد يكتب هذه المقالة، وإنك «أنت» هذا الرجل. لكني أظن أنني مخطئ، وأن لدينا عبقريا خفيا شديد البراعة. فأنى لك أن تتمكن من إقناع «جوبيتر أوليمبيوس» بتخصيص ثلاثة أعمدة لنشر محتوى علمي خالص؟ سيظن الرجعيون المسنون أن الدنيا شارفت على الانتهاء. حسنا، أيا كان هذا الرجل، فقد قدم خدمة عظيمة للقضية، أعظم بكثير من مجموعة من المقالات التحليلية في الدوريات المعتادة. فأنا أرى أن سموه فوق التحيزات الدينية الشائعة، والسماح بنشر مثل هذه الآراء في صحيفة «ذا تايمز»، أهم شيء على الإطلاق، بغض النظر عن مسألة الأنواع بحد ذاتها. فهلا تخبرني، من أجل الرب، بهوية هذا الكاتب إذا تصادف أنك «تعرفه»؟
تقبل أصدق التحيات يا عزيزي هكسلي من صديقك المخلص
سي داروين [لن يكفي حيز ضئيل لتقديم فكرة وافية عن مقالة السيد هكسلي في صحيفة «ذا تايمز» بتاريخ 26 ديسمبر. فهي مصممة تصميما مثيرا للإعجاب، من أجل أن تؤكد أحقية كتاب «أصل الأنواع» في الإنصات إليه باحترام، وتنأى بنفسها عن أي شكل من أشكال الدوجماتية في تأكيد صحة المذاهب التي تؤيدها في تلك المسألة. يمكننا الآن الاستشهاد ببضع فقرات منها: «يبدو لنا بلا جدال أن هذه الفرضية العبقرية تمكننا من تقديم سبب للعديد من حالات الشذوذ الجلية في توزيع الكائنات الحية عبر الزمان والمكان، وأنها لا تتعارض مع ظواهر الحياة والتكوين الأساسية.» ويواصل السيد هكسلي المضي قدما ليوصي قراء كتاب «أصل الأنواع» بأن يتبنوا حالة من «التشكك النشط»: وهي حالة من «شك يعشق الحقيقة إلى حد أنه لا يجرؤ على أن يستريح مؤقتا في تشكيكه، ولا على إخماد نفسه بتصديق اعتقاد لا مبرر له.» وتتناقض الفقرة الأخيرة تناقضا صارخا مع البروفيسور سيجويك وفرضية «حبال الفقاعات» التي ذكرها. إذ كتب السيد هكسلي قائلا: «إن السيد داروين يكره التخمينات المجردة مثلما تكره الطبيعة الفراغ. ثم إن نهمه للحجج والحالات المشابهة السابقة يضاهي نهم أي محام دستوري لها، وكل المبادئ التي يرسيها قابلة للرصد والتجربة. ويدعي المسار، الذي يطلب منا اتباعه، أنه ليس مجرد سبيل عرضي سطحي، بل جسر راسخ واسع من الحقائق. وإذا كان كذلك حقا، فسوف يحملنا بأمان فوق العديد من الفجوات الموجودة في معرفتنا، ويقودنا إلى منطقة خالية من فخاخ العلل الغائية، تلك العذارى الفاتنات العاقرات التي حذرتنا منها مرجعية عليا موثوقة، وكانت محقة تماما في ذاك التحذير.»
لا شك أن ظهور هذه المقالة القوية في الجريدة اليومية الرائدة، كان له تأثير قوي بكل تأكيد في جمهور القراء. وقد سمح لي السيد هكسلي بأن أقتبس من أحد الخطابات كلامه عن الصدفة السعيدة التي ألقت بين يديه فرصة كتابة هذه المقالة. «أرسلت نسخة كتاب «أصل الأنواع» إلى السيد لوكاس، أحد العاملين بصحيفة «ذا تايمز» آنذاك في إطار سير العمل الطبيعي، على ما أظن. ومع أن السيد لوكاس كان صحفيا ممتازا، ثم صار في وقت لاحق محررا لمجلة «وانس إيه ويك»، فقد كان بريئا من أي معرفة بالعلوم كطفل رضيع، وندب حظه لأحد معارفه بسبب اضطراره إلى التعامل مع كتاب كهذا. وعندئذ، أوصاه أحدهم بأن يطلب مني إخراجه من ورطته، ومن ثم تقدم إلي بطلبه، لكنه أوضح لي أن الضرورة ستحتم عليه من الناحية الرسمية أن يصدق على أي شيء قد أرغب في كتابته، وذلك بأن يصدره بمقدمة تمهيدية من فقرتين أو ثلاث من وحي قريحته.
كنت متلهفا جدا على اغتنام هذه الفرصة التي عرضت علي هكذا لأمنح الكتاب فرصة عادلة أمام الكم الهائل من قراء جريدة «ذا تايمز»؛ فلم أشترط أي شيء بخصوص شروط كتابة المقالة، ولما كنت منخرطا للغاية في التفكير في الموضوع، وأعتقد أنني كتبت هذه المقالة أسرع مما كتبت أي شيء آخر في حياتي، وأرسلتها إلى السيد لوكاس، الذي أضاف في بدايتها فقرته الاستهلالية حسب اتفاقنا السابق.
وعندما ظهرت المقالة، نشأت تكهنات كثيرة حول هوية كاتبها. تسرب السر مع مرور الوقت، كما تتسرب كل الأسرار، لكني لم أسهم في ذلك، ثم اعتدت أن أستمد قدرا كبيرا من التسلية البريئة من التأكيدات الحادة المتحمسة التي كان يطلقها بعض من أذكى أصدقائي، قائلين إنهم كانوا يعرفون من الفقرة الأولى أن المقالة من تأليفي!
ونظرا إلى أن صحيفة «ذا تايمز» أشارت منذ بضع سنوات إلى صلتي بالمقالة، فأظن أن نشر هذه القصة التاريخية الصغيرة لن يكون انتهاكا للثقة، هذا إذا كنت ترى أنها تستحق الحيز الذي ستشغله.»]
هوامش
الفصل الثاني
كتاب «أصل الأنواع» (تكملة)
1860 [أقتبس بعض الإدخالات من مفكرة يوميات أبي: «7 يناير. نشرت الطبعة الثانية من كتاب «أصل الأنواع»، التي تكونت من 3000 نسخة.» «22 مايو. نشرت الطبعة الأولى من كتاب «أصل الأنواع» في الولايات المتحدة مكونة من 2500 نسخة.»
دون والدي هنا المبالغ المالية التي حصل عليها من مبيعات كتاب «أصل الأنواع».
الطبعة الأولى: 180 جنيها
الطبعة الثانية: 636 جنيها و13 شلنا و4 بنسات
الإجمالي: 816 جنيها و13 شلنا و4 بنسات.
بعد نشر الطبعة الثانية، بدأ فورا، في 9 يناير، في تفحص مواده العلمية لإعداد كتاب «تباين الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين»، فيما كان عمله الآخر الوحيد في هذا العام عن نباتات جنس الندية.
ظل في داون طوال هذا العام كله، باستثناء زيارة إلى مصحة الدكتور لين للعلاج المائي في سودبروك، وباستثناء شهر يونيو، وزياراته إلى منزل الآنسة إليزابيث ويدجوود في هارتفيلد، في مقاطعة ساسكس (في يوليو)، وإلى إيستبورن، من 22 سبتمبر إلى 16 نوفمبر.]
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 3 يناير [1860]
عزيزي هوكر
لقد أنهيت مقالتك
1
ولأنك على الأرجح تريد معرفة رأيي، مع أنني لست متخصصا في علم النبات، فسأدلي به دون أي مبالغة. أرى أنها أعظم المقالات التي قرأتها على الإطلاق عن موضوعات الطبيعة التي نوقشت، وأكثرها إثارة للاهتمام بفارق كبير عن أقرب نظيراتها. تعرف مدى إعجابي البالغ بمقالاتك السابقة، لكني أرى هذه أعظم بكثير. لقد أعجبت بالجزء الذي يلي الصفحة السادسة والعشرين أكثر من إعجابي بالجزء الأول، وسبب ذلك على الأرجح أنه أكثر جدة بالنسبة إلي. أعتقد أنك ستتحفظ على ذلك؛ لأنني أعتقد أن جميع المؤلفين يحبون الأجزاء التخمينية في كتاباتهم بدرجة أكبر. كما أنها أروع من مقالة براون الشهيرة (ستكون هنا أول ملاحظة ساخرة من جانبك). لقد أوضحت كل استنتاجاتك توضيحا مثيرا جدا للإعجاب إلى حد أنه لن توجد أي جدوى إطلاقا من أن يكون المرء متخصصا في علم النبات (الملاحظة الساخرة الثانية). يا إلهي! سيكون من المضر جدا أن نربط أي فكرة بالأسماء الطويلة للرتب الغريبة. يمكن للمرء أن ينظر إلى استنتاجاتك بالتجريد الفلسفي الذي ينظر به عالم رياضيات إلى معادلة تقول:
إلخ، إلخ. لا أعرف أي الأجزاء كانت أكثر إثارة لاهتمامي من غيرها؛ لأنني صرخت متعجبا مرارا وتكرارا وأنا أقول: «هذا أفضل من كل شيء آخر.» لقد تركت المقارنة العامة بين نباتات أستراليا وبقية العالم في نفسي انطباعا (كالذي تركته من قبل) بأنها أصلية وجيدة وتوحي بأفكار كثيرة. ... صحيح أن الجزء المتعلق بالنباتات الهندية الغازية مثير جدا للاهتمام، لكني أظن أن الحقيقة التي ذكرتها قرب نهاية المقالة؛ ألا وهي أن الغطاء النباتي الهندي، على عكس الغطاء النباتي لأرخبيل الملايو، يوجد في أجزاء منبسطة ومنخفضة من جزر الملايو، يخفف «جدا» من الصعوبة التي بدت هائلة في البداية (الصفحة الأولى). فما من شيء يضاهي الموضوع المفضل بشدة لدى المرء. أظن أن هذا نفسه هو ما حدث في حالة الهجرة الجليدية، وحالة الإنتاج المستوطن - أي تغلب ما تنتجه مساحة أكبر من الكائنات على ما تنتجه مساحات أصغر؛ لا شك أن الأشكال الهندية واجهت صعوبة أشد في الاستيلاء على الأجزاء الباردة من أستراليا. أتحفظ على تعليقاتك (الصفحة الأولى)؛ لأنها «لا ترسم تصورا عن أي شيء في تربة الهند أو مناخها أو غطائها النباتي»، مما يستطيع أن يعطل ظهور النباتات الأسترالية. وقرب نهاية المقالة (الصفحة 104)، لديك تعليقات رائعة على جهلنا العميق بعلة الاستيطان أو الدخول المحتمل؛ سأجيب عن الصفحة الأولى بصفحة لاحقة، أقصد الصفحة 104.
إن إبرازك التباين بين الركنين الجنوبي الغربي والجنوبي الشرقي يعد إحدى أروع الحالات التي سمعت بها على الإطلاق ... إنك تعرض الحالة بتأثير قوي رائع. أما مناقشتك للأنواع المختلطة التي غزت الركن الجنوبي الشرقي (ونيوزيلندا)، فهي مشكلة غريبة ومعقدة كمشكلة أعراق الإنسان في بريطانيا. وبخصوص تعليقك على أن النباتات الغازية المختلطة تمنع نمو النباتات الأصلية، التي كانت أغنى بعدد الأنواع، أو تدمرها، فيبدو لي «جديدا ومهما جدا». لست متيقنا مما إذا كانت مناقشتك لنباتات نيوزيلندا أكثر تثقيفا لي، أم لا. لا أستطيع المبالغة في الإعجاب بكلتيهما. لكن استيعاب كل الحقائق سيتطلب وقتا طويلا. أرى أن مثالك الذي ذكرت فيه أن أكبر الرتب الأسترالية ليس لها أي أنواع في أستراليا، أو بضعة أنواع قليلة جدا، مذهل حقا . على أي حال، لقد «بينت» الآن (مع عدم وجود ثدييات في نيوزيلندا) (الملاحظة الساخرة اللاذعة الثالثة) أن نيوزيلندا لم تكن قط ملتحمة التحاما متصلا، ولا شبه متصل حتى، بأستراليا برا! في الصفحة 89، توجد الجملة الوحيدة في المقالة كلها (عن هذا الموضوع) التي أرغب بشدة في دخول جدال محتدم بشأنها؛ أقصد أنه لا توجد نظرية عن الهجرة عبر المحيطات تستطيع تفسير ذلك وما شابه. الآن أعلن أمام العالم كله أن أحدا لا يعرف أي شيء عن قوة تأثير الهجرة عبر المحيطات. فأنت لا تعرف ما إذا كانت الرتب غير الموجودة تحوي بذورا تدمرها مياه البحر، ككل البقوليات تقريبا، وكرتبة أخرى نسيتها، أم لا. لا تهاجر الطيور من أستراليا إلى نيوزيلندا؛ ولذا «يبدو» أن الطفو على الماء هو الوسيلة الوحيدة الممكنة، لكني أصر على أننا لا نعرف ما يكفي من المعلومات لنناقش المسألة، لا سيما أننا لا نعرف الحقيقة الرئيسية؛ أي ما إذا كانت بذور الرتب الأسترالية تقتلها مياه البحر.
النقاش بخصوص الأجناس الأوروبية مثير جدا للاهتمام، لكني، هنا فقط، ألتمس مزيدا من المعلومات؛ أقصد أني أريد معرفة أي هذه الأجناس غير موجود في المناطق المدارية في العالم، بمعنى أيها مقصور وجوده على المناطق المعتدلة. أرغب بشدة في أن أعرف مقدار التعديل الذي حدث في أستراليا «بناء على مفهوم الهجرة الجليدية». من الأفضل أن أشرح عندما نلتقي، وأجعلك تتفحص القائمة وتميز محتوياتها بعلامات. ... قائمة النباتات المستوطنة مثيرة جدا للاهتمام، ولكن لماذا، باسم كل ما هو طيب وكل ما هو شرير، لا تلخص حقائق وتعلق عليها في النهاية؟ هيا بربك، سأسخر منك مرة ردا على السخريات الكثيرة التي ستبديها تجاه هذا الخطاب. ألا ينبغي أن تعلق على عدد النباتات التي استوطنت أستراليا والولايات المتحدة «تحت ظروف مناخية شديدة الاختلاف»؛ لتوضيح ما للمناخ من أهمية كبيرة، و[على] انتشار نباتات من الهند وأمريكا الشمالية وجنوب أفريقيا بقدر لا بأس به، لتوضيح أن الإدخال المتكرر للبذور مهم جدا؟ وبخصوص «وفرة الأراضي غير المأهولة بالنباتات في أستراليا»، هل تعتقد أن النباتات الأوروبية التي أدخلها الإنسان تنمو الآن في أستراليا على بقع كانت جرداء تماما؟ لكني كلب وقح، يجب على المرء أن يدافع عن نظرياته الخيالية ضد الرجال القاسين أمثالك. أظن أن هذا الخطاب سيبدو مغرورا جدا، ولكن يجب على المرء أن يكون رأيا عما يقرؤه بإمعان، والحق أنني لا أستطيع إيجاد كلمات قوية بما يكفي للتعبير عن إعجابي بمقالتك.
تفضل بقبول خالص مودتي يا صديقي العزيز القديم
سي داروين
ملحوظة:
أختلف بشأن صحيفة «ساترداي ريفيو».
2
لا يمكن للمرء أن يتوقع الإنصاف من ناقد؛ لذا لا أشكو تجاهل كل الحجج الأخرى، إضافة إلى «السجل الجيولوجي». بعض التعليقات عن انقضاء السنين جيدة جدا، والناقد يقول عني بعض الأشياء الطيبة التي أراها مستحقة تماما، سحقا لذلك. يؤسفني الاعتراف بالحقيقة؛ لكن المقال غير ذي صلة إطلاقا بالحجة الرئيسية. كان ذلك مقالا نقديا لطيفا في دورية «ذا جاردنرز كرونيكل». آمل أن يكون ليندلي على مشارف تغيير رأيه وأتخيل ذلك. لا تنس إخباري بما إذا كان بينثام يصبح أكثر ترددا من ذي قبل.
بخصوص النباتات المدارية في الفترة الجليدية، سأذكرك بالحقائق التي ذكرتها بنفسك، فيما يتعلق بسفح جبال الهيمالايا، وإمكانية وجود بعض من أشكال المناطق المدارية وأشكال المناطق المعتدلة على الأقل معا في آن واحد. أستطيع ذكر حالة مشابهة لحيوانات في المكسيك. آه يا طفلي المدلل الصغير، ما أقسى الرجال عليك! إنني سعيد جدا باستحسانك الفصول الجغرافية ...
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، [4 يناير 1860]
عزيزي إل
لقد عادت دورية «ذا جاردنرز كرونيكل» سالمة. شكرا على رسالتك. تغمرني سعادة بالغة بأنك تزداد حماسة تجاه موضوع الأنواع بدرجة أكبر؛ وذلك لأنني، كما أقول دائما، مقتنع تماما بأن آراءك وكتاباتك ستسهم في إقناع العالم بدرجة أكبر كثيرا مما ستسهم بها آرائي وكتاباتي. سوف تطرح نقاشا عظيما عن الإنسان. إنك جريء جدا في هذا، وأنا أكن لك احتراما بالغا. دهشت تماما، مثلك من الافتقار إلى الأصالة في الحجج المعارضة والحجج المؤيدة أيضا. جوين جيفريس يهاجمني في خطابه عن حق، بخصوص عدم وجود بعض الأصداف الساحلية تماما في كثير من الأحيان، في رواسب العصر الجيولوجي الثالث على الأقل. كنت متحيرا؛ لأنني كنت أفكر في الحقبة الجيولوجية الثانية، لكن حالة جنس الخملوس كانت تنطبق على الحقبة الجيولوجية الثالثة ...
ربما ترغب في الاطلاع على الرسالة المرفقة من هيوويل، باعتبارها توضيحا على أنه ليس مصدوما للغاية من آرائنا. تستطيع الرد عليها وقتما تسنح لك فرصة للكتابة؛ كي لا تضيع وقتك.
3
سي دي
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، [4 يناير، 1860] ... تلقيت رسالة موجزة من كايزرلينج،
4
لكنها لا تستحق أن أرسلها إليك. إنه يؤمن بتغير الأنواع ويسلم بأن الانتقاء الطبيعي يفسر تكيف الأشكال جيدا، لكنه يعتقد أن الأنواع تتغير بانتظام مبالغ فيه، كما لو كانت تتغير بموجب قانون كيميائي ما، إلى حد استحالة أن يكون الانتقاء الطبيعي هو السبب الوحيد للتغير. لا أستطيع فهم رسالته الموجزة، لكني أظن أن هذه هي الخلاصة. ... سأرسل ورقة إيه موراي البحثية وقتما تنشر. إنها تحوي تخمينات متسرعة جدا (ربما سيعدلها)، وبلا حقيقة واحدة تؤيدها، ولو كنت أنا من طرحها، لانهال علي هو أو نقاد آخرون بانتقادات لاذعة جدا. يؤسفني القول إنني لا أحمل «رأيا مواسيا» عن كرامة الإنسان. أنا قانع بأن الإنسان سيرتقي على الأرجح، ولا أكترث كثيرا بما إذا كنا سنرى على أننا همج فحسب في مستقبل بعيد جدا. شكرا جزيلا على رسالتك الأخيرة.
لك خالص مودتي
سي داروين
لقد تعرضت، في إحدى صحف مانشستر، لسخرية لاذعة جيدة بعض الشيء، تظهر أنني أثبت أن «الأقوياء على حق»، وبالتبعية فإن نابليون على حق، وكل تاجر مخادع على حق أيضا.
من تشارلز داروين إلى دبليو بي كاربنتر
داون، 6 يناير [1860]؟
عزيزي كاربنتر
قرأت للتو مقالتك الممتازة في مجلة «ناشيونال». وأرى أنها ستقدم نفعا جليلا، لا سيما إذا عرف أنها من تأليفك. يبدو لي أنها تقدم وصفا واضحا بامتياز لآراء السيد والاس وآرائي. ما أشد براعتك في التفافك من وراء خطوط المعارضين اللاهوتيين بعرض مقارنة مع أعمال رجال أمثال بينثام والمصنفين الأكثر تبنيا للفلسفة! أشكرك من أعماق قلبي على الطريقة المشرفة «للغاية» التي ذكرتني بها. كنت أرغب في رؤية بعض الانتقادات أو التعليقات بخصوص موضوع علم الأجنة؛ إذ إنك خبير به. لا أظن أن أي شخص نزيه يمكن أن يقرأ مقالتك دون أن يتأثر بها بشدة. لا شك أن المذهب القديم المتمثل في الاعتقاد بعدم قابلية أشكال معينة للتغير سيندثر، لكن ذلك سيحدث ببطء. كم يخجلني أن أكبدك أي عناء! لكني سأكون ممتنا جدا إذا استطعت إخباري بموضع ذكر البيض ذي الألوان المختلفة في أفراد فصيلة الوقواق، ومصدر المعلومة القائلة بأن هذا البيض يوضع في سبعة وعشرين نوعا من الأعشاش. هل تعلم أيضا، بناء على ما رصدته بنفسك، أن أطراف الأغنام التي وردت إلى الهند الغربية يتغير لونها؟ حصلت على معلومات مفصلة عن فقدان الصوف، لكن تقاريري المدونة قدرت أن التغيير أبطأ مما تصفه.
مع خالص شكري واحترامي من أعماق قلبي، تقبل أصدق تحياتي يا عزيزي كاربنتر، صديقك المخلص.
سي داروين
من تشارلز داروين إلى إل جينينز
5
داون، 7 يناير 1860
عزيزي جينينز
أنا ممتن جدا لرسالتك. يفيدني كثيرا ويهمني أن أعرف الانطباع الذي يتركه كتابي على العقول الفلسفية والمثقفة. أشكرك على ما تقوله من كلمات طيبة، وأنت تتفق معي إلى حد أبعد مما كنت أتوقعه. ربما تعد ذلك تجرؤا مني، لكني مقتنع بأن «الظروف إذا دفعتك إلى الاستمرار في التفكير بشأن الموضوع»، فستتفق معي بدرجة أكبر حتى من ذلك. لم يشكك أحد حتى الآن في تفسيري لتبعية جماعة لجماعة أخرى، بناء على التناددات، وعلم الأجنة، والأعضاء الأثرية؛ وإذا كان توضيحي لهذه المجموعات من الحقائق صحيحا أصلا، فلا شك بأن فئات كاملة من الكائنات العضوية تنحدر من سلالة نسبية واحدة.
يعد قصور السجل الجيولوجي إحدى أصعب المشكلات ... يبدو هذا القصور في أعلى درجاته خلال أبكر الفترات، ويبدو لي هذا كافيا لتفسير عدم وجود أشكال وسيطة بين الفئات في الممالك الكبرى نفسها. من المؤكد أنه كان تصرفا متسرعا مني أن أذكر اعتقادي بأن كل الكائنات قد انحدرت من شكل أولي «واحد»، لكني لا أرغب في حذفه؛ لأنني أراه احتمالا مرجحا. هكسلي وحده يؤيدني في ذلك، وهو احتمال ينطوي على بعض المزايا. أما بخصوص الإنسان، فلست راغبا على الإطلاق في أن أفرض اعتقادي بالقوة، لكني رأيت أن إخفاء رأيي تماما سيكون تصرفا غير نزيه. يحق لأي شخص بالطبع أن يعتقد أن الإنسان ظهر بمعجزة منفصلة، وإن كنت شخصيا لا أرى ضرورة ذلك ولا رجحانه.
أرجو أن تتفضل بقبول خالص شكري على رسالتك اللطيفة. اتفاقك معي إلى حد ما يمنحني ثقة كبيرة بأنني لست مخطئا جدا. ظللت فترة طويلة متوقفا في منتصف الطريق، لكني لا أعتقد أن أي عقل باحث سيخلد إلى الراحة في منتصف الطريق. سيتعين على الناس إما أن يرفضوا الكل أو يعترفوا بصحة الكل، وما أقصده بكلمة «كل» هنا هو أعضاء كل مملكة كبرى فقط.
تفضل يا عزيزي جينينز بقبول تحيات صديقك المخلص
سي داروين
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، 10 يناير [1860] ... صحيح أنني مدين لك بكل التصحيحات
6
تقريبا ومدين أيضا لك ولآخرين بالعديد من التصحيحات الشفهية، لكنني سعيد من أعماق قلبي بأنك تستحسنها، ولا يزعجني حتى الآن سوى شيئين؛ هذه الملايين
7
اللعينة من السنوات (وليس ذلك لأنني أظنها خاطئة على الأرجح)، وإغفالي (دون قصد) ذكر والاس قرب نهاية الكتاب في الملخص، وهذا لا يعني أن أي أحد قد ذكر هذا لي. وضعت الآن اسم والاس في الصفحة 484 في مكان واضح. لا أستطيع إحالتك إلى جداول وفيات الأطفال، وما شابه ذلك. لدي ملاحظات في مكان ما، لكن ليست لدي أي فكرة «إطلاقا» أين يمكنني البحث عنها، وستكون ملاحظاتي قديمة الآن. سوف أسعد حقا بقراءة أي مخطوطة عن الإنسان، والإدلاء برأيي. عادة ما كنت تنبهني إلى توخي الحذر بشأن موضوع الإنسان. أظن أنه سيتحتم علي أن أعيد هذا التنبيه مضاعفا 100 مرة! ستكون المناقشة التي ستطرحها عظيمة بلا شك، لكنها سترعب العالم في البداية رعبا أشد مما سيحدثه كتابي بأكمله ، مع أنني أوضح (في صفحة 489، الطبعة الجديدة)
8
أنني أعتقد أن الإنسان في المأزق نفسه مع حيوانات أخرى. الحق أنه لا يمكن الشك في ذلك. لقد فكرت في موضوع الإنسان (بشكل عام فحسب). أما بخصوص الأعراق، فقد تلاشت واحدة من أفضل فرص معرفتي الحقيقة بسبب استحالة الحصول على الحقائق. لدي تخمين جيد، ولكن لا بد أن يكون أي إنسان مؤمنا تماما بصحة الانتقاء الطبيعي قبل حتى أن يستمع إليه. وفيما يتعلق بالجانب النفسي، فلم أفعل أي شيء تقريبا. لقد جمعت الكثير جدا من الحقائق عن هذا الموضوع، وتوصلت إلى بعض التخمينات، لكني أظن أنني لن أنشره أبدا ما لم أتمكن من إدراج تعبيرات الملامح، غير أنه موضوع غريب للغاية. بالمناسبة، أرسلت كثيرا من الأسئلة أول من أمس إلى تييرا ديل فويجو بخصوص التعبيرات! أظن (لأنني لم أقرأه قط) أن كتاب «مبادئ علم النفس» لهربرت سبنسر يتناول علم النفس بالطريقة التي ينبغي أن ننظر إليه بها. بأي حال من الأحوال، فلتقرأ مقدمة قاموس هينزلي ويدجوود الجديد، المكونة من حوالي 20 صفحة، عن أصل اللغة الأول، إيرازموس سوف يعيرك إياه. أتفق بخصوص كاربنتر؛ إذ أراها مقالة جيدة جدا، لكنها لا تتسم بدرجة كبيرة من الأصالة ... لقد انتقد أندرو موراي، في خطاب موجه إلى جمعية إدنبرة المعنية بعلم النبات، المقال النقدي المنشور في دورية «جورنال أوف ذا بروسيدينجز أوف ذا لينيان سوسايتي»، و«قوض» النظرية كلها بإبراز مشكلة فيها تنم عن ذكاء كبير، مشكلة كنت غبيا جدا لأنني لم أفكر فيها؛ وذلك لأنني أعبر عن دهشتي من عدم معرفة مزيد من الحالات المشابهة. تتمثل المشكلة في أن بعض الحشرات العمياء في الكهوف الواقعة في أجزاء بعيدة من العالم تنتمي إلى الجنس نفسه، لكن لا يعثر على الجنس خارج الكهوف، ولا يعثر عليه حيا في العالم الحر. لا أشك كثيرا في أن تلك الحشرات، مثلها مثل سمك الإجهير، وسمك البروتوس في أوروبا، تعد من «بقايا حطام الحياة القديمة» أو «حفريات حية» أنقذت من التناحر والإفناء. لكن تلك الحشرات التي كانت «مبصرة» سابقا من الجنس نفسه قد هامت في كل أرجاء المنطقة التي توجد فيها هذه الحالات.
إلى اللقاء، لك خالص مودتي
سي داروين
ملحوظة:
كان سلفنا حيوانا يتنفس الماء، وكانت لديه مثانة سباحة، وذيل سباحة كبير، وجمجمة غير كاملة، ومن المؤكد أنه كان خنثى!
يا له من نسب رفيع للبشرية!
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، 14 يناير [1860] ... سأكون مهتما جدا بقراءة المناقشة التي طرحتها عن الإنسان، وسأدلي برأيي بعناية، بغض النظر عن مدى فائدته، لكني طالما حسبتك حصيفا جدا في ملكة التقدير العلمي (وهذه في رأيي إحدى أسمى الصفات وأنفعها) إلى حد أنني أظن أن رأيي لن يجدي في شيء. أضحك إذ أفكر إنها لمزحة أن أحذرك بعد تحذيراتك لي بشأن الموضوع نفسه!
سأطلب كتاب أوين؛
9
تغمرني سعادة بالغة لمعرفة رأي هكسلي في تصنيفه للإنسان؛ فحتى من دون امتلاك المعرفة الوافية، بدا لي سخيفا من الوهلة الأولى؛ ذلك أني أعتقد أن كل التصنيفات التي بنيت على صفات فردية قد فشلت. ... يا لها من فائدة عظيمة هائلة تلك التي منحتني إياها حين جعلت موراي ينشر كتابي! لم أكن أدرك حتى اليوم أنه لقي رواجا كبيرا؛ لأن إحدى السيدات تقول، في رسالة إلى إي اليوم، إنها سمعت رجلا يسأل عنه في «محطة القطار»! في طريق «ووترلو بريدج»، وقال بائع الكتب إنه لن يكون لديه أي نسخة حتى تصدر الطبعة الجديدة. قال بائع الكتب إنه لم يقرأه، لكنه سمع أنه كتاب مميز جدا! ...
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 14 [يناير 1860] ... تلقيت خطابا من لايل صباح اليوم، وأخبرني فيه ببعض المستجدات. أنت رجل عديم الجدوى؛ فها أنت ذا تستعبد نفسك حتى اليوم، وليس لديك أي وقت فراغ تقريبا، ثم تكتب مقالا نقديا عن كتابي! رأيته
10
مقالا رائعا جدا، وقد تأثرت به تأثرا بالغا جدا إلى حد أنني أرسلته إلى لايل. لكني افترضت، بطبيعة الحال، أن ليندلي هو من كتبه. والآن بعدما عرفت أنه من تأليفك، أعدت قراءته ، وقد سرني كثيرا يا صديقي اللطيف الطيب، بكل الأشياء المشرفة النبيلة التي تقولها عني وعنه. لقد فوجئت بشدة أن يكون ذهن ليندلي هو من تفتق عن بعض التعليقات الواردة، لكني لم أتصور قط أن تكون أنت الكاتب. لقد كان أحد الأسباب الرئيسية التي جعلته ينال إعجابي أنه كيف جيدا جدا ليؤثر في قراء دورية «ذا جاردنرز كرونيكل»، لكني الآن صرت معجبا به بدافع آخر. إلى اللقاء، مع جزيل الشكر ... لايل يتعامل مع موضوع الإنسان بجرأة تخيفني. إنها مزحة مضحكة؛ إذ كان هو من ينصحني دائما بعدم مناقشة موضوع الإنسان. [في دورية «ذا جاردنرز كرونيكل»، 21 يناير 1860، ظهر خطاب قصير من أبي كتب ردا على ما أرسله السيد ويستوود إلى العدد السابق من الدورية، حيث نوقشت بعض ظواهر التهجين في سياق كتاب «أصل الأنواع». فكتب السيد ويستوود ردا على ذلك (في 11 فبراير) وطرح مزيدا من الأدلة ضد مذهب الانحدار، مثل ظهور رسومات للنعام في «سجلات مصرية» قديمة بشكل الطائر كما نعرفه الآن. ولا تستحق المراسلات الذكر، إلا باعتبارها واحدة من الحالات القليلة جدا التي استدرج فيها أبي إلى أي شكل من أشكال النزاع.]
من آسا جراي إلى جيه دي هوكر.
كامبريدج، ماساتشوستس،
5 يناير 1860
عزيزي هوكر
لقد ضاع خطابك الأخير، الذي وصل إلي قبيل أعياد الميلاد بفترة قصيرة للغاية، في أثناء التحسينات التي تجرى في غرفة مكتبي في هذا الموسم، ولم يعثر عليه حتى الآن. إنني آسف جدا على فقدانه؛ لأنه كان يحوي بعض المذكرات المتعلقة بعلم النبات، ولم أحتفظ بها في حوزتي ...
كان الجزء الرئيسي من خطابك إشادة بالغة بكتاب داروين.
حسنا، لقد وصل إلي الكتاب، وأنهيت قراءته بإمعان قبل بضعة أيام، وأقول بكل صراحة إن إشادتك في محلها.
لقد كتب ب «براعة شديدة». ربما استغرق إنتاجه عشرين عاما. إنه مكتظ بمادة علمية جديرة جدا بالاهتمام قد استوعبها الكاتب تماما وشرحها جيدا، وهي أيضا مكثفة ومقنعة، وإجمالا، يقدم الكتاب حجة أفضل مما كنت أظنه ممكنا ...
كان أجاسي، في آخر مرة رأيته فيها ، قد قرأ جزءا منه فحسب. يقول إنه «سيئ، بل سيئ جدا»! (هذا بيني وبينك). الحقيقة [هي] أنه منزعج منه بشدة ... ولا عجب في ذلك. ذلك أن تضمين جميع الأنظمة «المثالية» في نطاق العلم، وإعطاء تفسيرات مادية أو طبيعية وجيهة لكل نقاطه المهمة لا يقل سوءا عن أن يعزى إلى فوربس الفضل في جميع المواد المتعلقة بالأنهار الجليدية ... وتقديمه لتفسيرات علمية لكل الظواهر.
أخبر داروين بكل هذا. سأبعث إليه بخطاب عندما تسنح لي فرصة. كما وعدت، ستحظيان أنت وهو بمعاملة متساوية في هذا الشأن ... يجب أن أكتب بنفسي مقالا نقديا عن كتاب داروين وأبعث به إلى «دورية سيليمان» (لا سيما أنني أظن أن أجاسي يعتزم التصريح علانية برأيه فيه) لينشر في عدد شهر (مارس) المقبل، وأنا أشرع في ذلك الآن (في الوقت الذي يجب أن أستغل فيه كل لحظة في العمل على موضوع الفصيلة المركبة في كتاب «البعثة الاستكشافية»، والتي أعرف عنها أكثر بكثير). وليست تلك بالمهمة السهلة، مثلما قد تتصور.
أظن أنني قد لا أرضيك تماما. وأعلم أنني لن أرضي أجاسي إطلاقا. سمعت أن ثمة طبعة جديدة من الكتاب في المطبعة، وسوف يثير الكتاب اهتماما بالغا هنا، وبعض الجدل أيضا ...
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، 28 يناير [1860]
عزيزي جراي
لقد بعث إلي هوكر بخطابك الذي أرسلته إليه، ولا أستطيع التعبير عن مدى سروري العميق به. فنيل استحسان رجل لطالما احترمه المرء بكل إخلاص، والجميع يسلم بصواب تقديره ومعرفته، لهو أسمى مكافأة يمكن أن يتمناها مؤلف، وأشكرك من أعماق قلبي على تعبيراتك اللطيفة جدا.
كنت غائبا عن البيت بضعة أيام؛ لذا لم أستطع الرد قبل الآن على خطابك الذي أرسلته إلي في العاشر من يناير. كان لطفا بالغا منك أن تتكبد عناء كبيرا بخصوص الطبعة واهتمامك الشديد بها. أخطأت دار النشر التي أتعامل معها إذ لم تفكر في إرسال الأوراق. لقد نسيت تماما وكليا عرضك الذي عرضت فيه تسلم الأوراق مطبوعة. لكني يجب ألا ألوم دار النشر التي أتعامل معها ؛ لأنني لو كنت قد تذكرت عرضك الكريم جدا، فأنا متيقن من أنني ما كنت لأغتنمه؛ لأنني لم أتصور قط أن يلقى كتابي هذا النجاح الباهر لدى قراء عاديين، وكان يجدر بي أن أضحك من فكرة إرسال الأوراق إلى أمريكا.
11
بعدما فكرت مليا، وبناء على نصيحة قوية من لايل وآخرين، قررت أن أترك الكتاب الحالي كما هو (باستثناء تصحيح الأخطاء، أو إدراج جمل قصيرة في أماكن متفرقة) وأن أستخدم كل عافيتي «التي لم يتبق منها سوى القليل»، لنشر الجزء الأول (أي تكوين مجلد منفصل مع فهرس، وما إلى ذلك) من المجلدات الثلاثة التي ستكون قوام عملي الأكبر؛ لذا فأنا غير مستعد إطلاقا لاستهلاك الوقت في إجراء تصحيحات من أجل نشر طبعة في أمريكا. أرفق قائمة ببضعة تصحيحات في الطبعة الجديدة الثانية، ستكون قد تسلمتها كاملة بحلول هذا الوقت، وأستطيع إرسال أربعة تصحيحات أو خمس أو بضع إضافات على القدر نفسه من الأهمية الضئيلة، أو بالأحرى على القدر نفسه من الإيجاز. أعتزم أيضا كتابة مقدمة «قصيرة» مع نبذة تاريخية عن الموضوع. سأشرع في القيام بهذه الأشياء؛ إذ لا بد من القيام بها يوما ما، وسأرسلها إليك في غضون وقت قصير؛ التصحيحات القليلة أولا، ثم المقدمة بعد ذلك، هذا إن لم أعرف أنك تخليت تماما عن فكرة إصدار طبعة منفصلة. ستستطيع حينئذ أن تقرر ما إذا كان من المفيد استهلال الطبعة الجديدة بتعليقك عليها. ومهما كانت طبيعة تعليقك، أؤكد لك أني أتشرف «جدا» بأن يستهل به كتابي ...
من آسا جراي إلى تشارلز داروين
كامبريدج، 23 يناير 1860
عزيزي داروين
أكتب لك على عجل لأخبرك بوصول بقية أوراق الطبعة الجديدة، وبما أحدثته من جلبة حيال إصدار طبعة جديدة في بوسطن. حسنا، لقد بدا كل شيء على ما يرام، عندما، ويا للعجب، وجدنا دار نشر ثانية في نيويورك أعلنت إصدار طبعة جديدة أيضا! أرسلت حينئذ إلى كلتا داري النشر في نيويورك، طالبا منهما التراجع وإفساح الطريق بدلا من ذلك «للمؤلف» وطبعته الجديدة التي تمثل نسخة منقحة. فتلقيت ردا من دار «هاربرز» بأنهم يتراجعون، ومن دار «أبلتونس» بأنهم قد «نشروا» الكتاب بالفعل (وقد رأيت نسخة في اليوم التالي)، لكنهم أضافوا أنهم، «إذا حقق الكتاب مبيعات كبيرة، فسيكونون راغبين بالتأكيد في إعطاء المؤلف مبالغ مالية عادلة وطائلة.»
وهكذا نشرت دار «أبلتونس» طبعتها الجديدة، ورفضت دار «بوسطن» المضي قدما. لذا أرسلت إلى دار «أبلتونس»، مصدقا ما قالوه تماما، وعارضا عليهم المساعدة في أي شيء يخص طبعتهم الجديدة، والسماح لهم باستخدام التعديلات الواردة في طبعة لندن، حالما أعرف بها، وما إلى ذلك. أرسلت إليهم الصفحة الأولى، وطلبت منهم أن يدرجوا في طبعتهم المقبلة النص الإضافي المقتطف من باتلر،
12
وهو على صواب في كل ما ورد فيه. هكذا هو الموقف. إذا وفرت أي مواد مطبوعة قبل طبعة لندن الثالثة، فسوف أجعلهم يدفعون ثمنها.
ربما أستطيع عقد صفقة لصالحك. كل ما تحقق ربح خالص، لكنه لن يكون كثيرا جدا، على ما أظن.
الملاحظات الناقدة الصغيرة التي ظهرت في الصحف حتى الآن تتسم بالبراعة وعمق التفكير.
آمل أن أحصل في الأسبوع المقبل على أوراق مقالي النقدي من نيوهافن، وأرسلها إليك، وسأطلب منك إرسالها إلى الدكتور هوكر.
تلبية لطلبك، يجب أن أذكر أردأ أجزاء كتابك، وأفضلها من وجهة نظري. غير أن ذلك ليس مهمة سهلة، ولا يمكن تنفيذها بكلمة أو اثنتين. «الجزء الأفضل»، في رأيي، هو «مجمل الكتاب»، أقصد «نهجه» و«طريقته في المناقشة»، والكم الهائل من الحقائق، والاستدلالات الفطنة التي تعاملت معها كما لو كنت على دراية تامة بها. لا أظن أن عشرين عاما تعد بالمدة الطويلة لإنتاج كتاب كهذا.
الأسلوب واضح وجيد، لكنه يحتاج عند مواضع متفرقة إلى مراجعة تفاصيل بسيطة (الصفحة 97، يلقح نفسه ذاتيا ب «نفسه»، وما إلى ذلك).
ثم إن صراحتك تعد بمثابة كل شيء لقضيتك. إنه لمما ينعش النفس أن يجد المرء شخصا يطرح نظرية جديدة ويعترف بكل صراحة أنه يجد صعوبات لا يمكن التغلب عليها، حاليا على الأقل. أعرف أناسا لم يتحدثوا قط عن أي صعوبات لديهم.
حالما فهمت افتراضاتك، تأكدت أن لديك أساسا حقيقيا يمكنك مواصلة البناء عليه. حسنا، لست أدري كيف يمكن لأحد أن يقر بصحة افتراضاتك، ثم يمتنع عن الاعتراف بصحة استنتاجاتك، بصفتها فرضية مرجحة على الأقل.
من المؤكد بالطبع أن مقالي النقدي عن كتابك لا يعبر تماما عن القوة الكاملة للانطباع الذي تركه الكتاب في نفسي. وفي ظل الظروف الحالية، أظن أنني أقدم لنظريتك نفعا بتقديم دراسة منصفة مستحسنة لها مع عدم تأييد استنتاجاتها الكاملة، بدرجة أكبر مما كنت سأقدمه لو أعلنت أنني غيرت رأيي وصرت مقتنعا بها، والحق أني لا أستطيع قول هذه العبارة الأخيرة، بصدق.
حسنا، أما الجزء الأسوأ في الكتاب من وجهة نظري، فهو محاولة تفسير تكون الأعضاء، وتكون العيون، وما إلى ذلك، بالانتقاء الطبيعي. فبعض هذه الأجزاء مكتوب بأسلوب لاماركي تماما.
فصل «التهجين» ليس «سيئا»، بل «جيد». لقد كنت مدهشا في بعض أجزائه. بالرغم من ذلك، فأنت لم تفسر بعد، كما قد يطلب منك أن تفسر، السبب في أن التشعب حتى حد معين يؤدي إلى زيادة في خصوبة الأنواع المهجنة، لكنه إذا تخطى هذا الحد بمقدار ضئيل يكاد يكون غير ملحوظ، يسبب عقما أو يعكس النزعة. من المرجح جدا أنك تسير على المسار الصحيح، ولكن لا يزال ينقصك أن تفعل شيئا ما في هذا الجزء.
هذا يكفي حاليا. ... لست غافلا عن مجاملاتك، المجاملة البالغة جدا التي تمنحني إياها في تقدير قيمة رأيي. من الواضح أنك تقدره بأكثر مما أقدره، وإن كنت أرى أن استنتاج ذلك من قراءة خطاباتي أمر مستبعد؛ بسبب الطريقة التي أكتب بها خطاباتي [إليك]، ولا سيما [إلى] هوكر.
لا شيء يمنعني من القول بكل صراحة إنني لم أتعلم في حياتي من كتاب واحد هذا القدر الهائل الذي تعلمته من كتابك، ولم يزل لدي آلاف الأشياء التي أرغب بشدة في قولها عنه.
صديقك الدائم
آسا جراي
من تشارلز داروين إلى آسا جراي [فبراير؟ 1860] ... سأكتفي الآن بأن أعرج سريعا على بعض النقاط في خطابك. ما تقوله عن كتابي يغمرني بسعادة بالغة، وليتني كنت أستطيع أن أشعر بأنني أستحق كل ما تقوله. أعتقد أن الرأي الناقد من رجل لم يغير قناعته السابقة تماما ويعتنق الفكرة الجديدة، إذا كان رأيا عادلا ومستحسنا إلى حد كبير، هو الأفضل من كل النواحي. أتفق معك في الرأي بشأن النقاط الرديئة. فمسألة العين تقلقني حتى اليوم، لكني عندما أفكر في التدرجات المعروفة الدقيقة، يخبرني حسي المنطقي بأنه يجب علي التغلب على هذا الخوف.
أرجو أن تتذكر وتخبر البروفيسور وايمان بمدى امتناني الشديد لأي تلميحات أو معلومات أو انتقادات. فأنا أكن لرأيه أقصى درجات الاحترام. أشعر بحزن شديد على حالة دانا الصحية. لقد طلبت منه بالفعل أن يزورني.
إلى اللقاء، لقد وضعت فوق كاهلي حمل دين الامتنان، لكني لا أشعر به عبئا علي. أشعر بأقصى سعادة ممكنة لأنك وجدت كتابي جديرا بالقراءة والتأمل؛ لأنني أعتقد في قرارة نفسي أنكم، أنت وثلاثة آخرين، الحكام الذين أعتبر رأيهم هو الأقيم على الإطلاق.
تقبل أصدق تحياتي يا عزيزي جراي
سي داروين
ملحوظة:
أنا متيقن تماما، من واقع تجربتي الشخصية، من أنك، إذا دفعتك دراساتك إلى الاستمرار في التفكير بموضوع أصل الأنواع، فسوف يزيد اقتناعك به بدرجة أكبر. لقد استغرق مني ذلك سنوات طويلة، وأؤكد لك أنني مندهش من الانطباع الذي خلفه كتابي في عقول الكثيرين. يؤسفني القول إنني، قبل عشرين عاما، ما كنت سأتسم بنصف هذه الصراحة أو الاستعداد للاقتناع.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، [31 يناير 1860]
عزيزي هوكر
لقد عقدت العزم على نشر ملخص صغير عن تقدم الآراء بشأن تغير الأنواع. هلا أسديت إلي، أنت أو السيدة هوكر، صنيعا بنسخ جملة واحدة من ورقة «نودين» البحثية الواردة في مجلة «ريفيو أورتيكول»، 1852، صفحة 103، أعني تلك الورقة المتعلقة بمبدأ الغائية. هل تستطيع إرسالها إلي قريبا، مع وضع تلك الشرط اللعينة التي توضع فوق الحروف المتحركة على نحو دقيق؟ أعتقد أن آسا جراي سينجح في الترتيب لطبعة ثانية من كتابي، وأريد أن أرسل إليه هذه المقدمة الصغيرة قريبا. لم تخطر ببالي ضرورة إدراج جملة نودين عن الغائية، وإلا كنت قد نسختها.
تقبل خالص مودتي
سي داروين
ملحوظة:
سأنهي الخطاب بالاكتفاء بذكر مقدمتك عن النباتات الأسترالية. ماذا كان تاريخ نشرها؛ ديسمبر 1859 أم يناير 1860؟ أرجو الإجابة عن هذا.
ستكون مقدمتي مناسبة للطبعة الفرنسية أيضا، التي «أعتقد» أنه جرى الاتفاق عليها.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
فبراير [1860] ... بخصوص وضع كتاب «أصل الأنواع» الآن، فإن ورقة هارفي تعد انتقادا جيدا ضد إكثاري من الحديث عن التدرجات الدقيقة غير الملحوظة، وقد ذهلت بالطبع من قذفي بحقيقة أن نظريتي لم تسمح بحدوث تباينات مفاجئة بفعل الطبيعة وكبيرة بالدرجة الكافية. سأحتاج إلى أدلة أكثر بكثير لأتقبل أن الأشكال تغيرت في أغلب الأحيان من خلال «قفزات».
هل رأيت هجوم وولستن في مجلة «أنالز»؟
13
لقد بدأت الحجارة تتطاير. لكن هذين الهجومين أكثر صلة باللاهوت منهما بالعلم ... [في الخطاب أعلاه، يشار إلى ورقة بحثية كتبها هارفي في دورية «ذا جاردنرز كرونيكل»، بتاريخ 18 فبراير 1860. يصف هارفي حالة من التشوه الشديد في نباتات «بيجونيا فريجيدا»
Begonia frigida ، حيث تختلف النبتة «الشديدة التباين» عن نبتة بيجونيا العادية اختلافا بالغا إلى حد أنها قد تكون بمثابة رتبة طبيعية مميزة. ويمضي هارفي قدما في ذلك مدعيا أن حالة كهذه تنافي نظرية الانتقاء الطبيعي، التي من المفترض بموجبها ألا تحدث تغيرات كبيرة ب «قفزات» مفاجئة، ويضيف أن «بضع حالات كهذه تدحض [فرضية السيد داروين] تماما.» وفي العدد التالي من دورية «ذا جاردنرز كرونيكل»، أوضح السير جيه دي هوكر أن الدكتور هارفي أخطأ في فهم دلالة حالة بيجونيا، التي أوضح علاوة على ذلك أنها لا تزعزع بأي حال من الأحوال صحة مذهب التعديل بالانتقاء الطبيعي. يذكر أبي حالة نبات بيجونيا في خطاب إلى لايل (بتاريخ 18 فبراير 1860) قائلا: «أرسل إليك ضمن هذه الدفعة البريدية هجوما لاذعا في دورية «ذا جاردنرز كرونيكل» شنه هارفي (الذي يعد من صفوة علماء النباتات، كما تعرف على الأرجح). أراه غريبا بعض الشيء؛ إذ يفترض دوام النباتات المشوهة، في حين أن النباتات المشوهة عقيمة في العموم، وغالبا لا تورث. ولكن إذا سلمت بصحة حجته، فهذا يعني أنني بالغت في الحذر في عدم الاعتراف بوجود تباينات كبيرة مفاجئة. وبهذا يتضح لي ضرر آخر سببته «نبذتي». ففي مخطوطتي الكبرى، أناقش حالة مشابهة أصف فيها سمكة عادية تشبه السمكة الذهبية المشوهة.»
بخصوص رد السير جيه دي هوكر، كتب أبي الخطاب التالي:]
داون، [26 فبراير 1860]
عزيزي هوكر، أرى ردك على هارفي جيدا إلى حد «مثير للإعجاب». كنت ستجني ثروة طائلة إذا عملت محاميا. ما أغرب أن يغفل هارفي في ورقته البحثية عن التدرج في حالة الزهور! لكن أكثر ما يبهرني أنه يفترض بي بالطبع أن أكون أدرى بكتابي الذي ألفته بنفسي من أي شخص آخر، ومع ذلك، ويا للعجب، فإنك طرحت عددا هائلا من الحجج التي لم تخطر ببالي! أرى أن استشهادك بالتصنيف (أقصد ذلك الذي افترضته لحالات مثل نبات «أسبيكاربا»
Aspicarpa ) «ممتاز»؛ لأن نباتات بيجونيا المشوهة بكل تفاصيلها تنتمي إلى نوع بيجونيا بلا شك. لم يخطر ذلك ببالي، ولا الخطوة «الارتجاعية» من جنسين منفصلين إلى حالة خنثى، ولا انخفاض مستوى خصوبة النباتات المشوهة. يا له من عار علي!
سيقول العالم أي محام ذاك الذي فقدناه إذ صار عالم نباتات «فحسب»!
إلى اللقاء، يا أستاذي العزيز الذي تتفوق علي في موضوعي الذي ابتدعته بنفسي.
تقبل خالص مودتي
سي داروين
يملأ السرور أعماق قلبي بأن أراك تستحسن الفصل المتعلق بالتصنيف.
ترى ماذا سيكون رأي هارفي. لكني أظن أنه لا يمكن لأي شخص في البداية أن يدرك أنه هزم في جدال ما. [تشير الخطابات التالية إلى الترجمة الأولى (عام 1860) لكتاب «أصل الأنواع» إلى الألمانية، التي أشرف عليها إتش جي برون، المتخصص البارع في علم الحيوان وعلم الحفريات، والذي كان آنذاك في فرايبورج، ثم صار أستاذا جامعيا في هايدلبرج. قيل لي إن الطبعة المترجمة لم تكن ناجحة؛ إذ بقي أسلوب الترجمة جليا في الكلام؛ ولذا لم تكن القراءة ممتعة. أضاف برون إلى الترجمة ملحقا بالصعوبات التي واجهته. من هذه الصعوبات على سبيل المثال : كيف يمكن للانتقاء الطبيعي أن يفسر الاختلافات بين الأنواع، عندما يبدو أن هذه الاختلافات لا تفيد أصحابها، مثل طول الأذنين والذيل، أو الطيات في مينا الأسنان لدى أنواع مختلفة من القوارض؟ ينتقد كراوزه في كتابه، «أعمال تشارلز داروين»، الصفحة 91، معالجة برون لهذه المسألة، لكن سيتضح أن والدي اقترح إضافة تعليقات برون في واقع الأمر. ووجه كراوزه إلى برون اتهاما أخطر (المرجع السابق، الصفحة 87) بقوله إنه أهمل الفقرات التي لم يستحسنها، مثل الفقرة (الواردة في كتاب «أصل الأنواع» الطبعة الأولى، الصفحة 488) القائلة بأن «الضوء سيلقى على أصل الإنسان وتاريخه»، على سبيل المثال. ليس لدي أي دليل على ما إذا كان والدي على دراية بهذه التعديلات أم لا.]
من تشارلز داروين إلى إتش جي برون
داون، 4 فبراير [1860]
سيدي العزيز الموقر
أبعث إليك بأصدق آيات شكري على رسالتك اللطيفة جدا، كنت أخشى أن تستنكر كتاب «أصل الأنواع» بشدة، ولم أرسله إليك إلا تعبيرا عن احترامي الصادق. سأقرأ عملك عن كائنات الجزر باهتمام شديد حالما أتلقاه. أشكرك من أعماق قلبي على التقييم الناقد في دورية «نويس ياربوخ فير مينيرالوجي»، وأشكرك شكرا أشد بكثير على حديثك إلى دار نشر «شفايتزربارت» عن إصدار ترجمة؛ لأنني متلهف جدا لأن يطلع الألمان العظماء والمفكرون على كتابي.
طلبت من دار النشر التي أتعامل معها أن ترسل نسخة من الطبعة «الجديدة»
14
إلى «شفايتزربارت» فورا، وأرسلت خطابا إلى «شفايتزربارت» قائلا فيه إنني أتخلى عن أي حق لنفسي في الأرباح؛ لذا آمل أن تصدر نسخة مترجمة. يؤسفني أن ترجمة الكتاب ستكون مهمة صعبة، وإذا استطعت أن توصي «شفايتزربارت» بمترجم «جيد»، فستكون هذه خدمة جليلة جدا. وسوف تسدي خدمة أجل إذا استطعت أن تلقي نظرة على أصعب أجزاء الترجمة، لكن هذا سيكون صنيعا أكبر من أن أتوقعه. أنا متيقن من أنه سيكون صعب الترجمة؛ لأنه مكثف جدا.
أشكرك مجددا على تعاطفك النبيل السخي، وسأظل، مع كامل احترامي.
ممتن لك حقا
سي داروين
ملحوظة:
الطبعة الجديدة تتضمن بضعة تصحيحات، وسوف أرسل بعض التصحيحات الإضافية ، ومقدمة تاريخية قصيرة، في مخطوطة إلى شفايتزربارت.
سيكون الكتاب مثيرا للاهتمام بدرجة أكبر كثيرا إذا قمت ب «تحريره» (لا أقصد ترجمته)، وإلحاق ملاحظات «مفندة» أو مؤكدة. لقد حقق الكتاب مبيعات هائلة جدا في إنجلترا إلى حد يجعلني أظن أن أي محرر سيجني أرباحا من الترجمة.
من تشارلز داروين إلى إتش جي برون
داون، 14 فبراير [1860]
سيدي العزيز الموقر
أشكرك من أعماق قلبي على لطفك البالغ في تفضلك بالإشراف على الترجمة. لقد ذكرت هذا لبعض العلماء البارزين، وقد أجمعوا كلهم على أنك تؤدي خدمة نبيلة سخية. إذا ثبت أنني مخطئ تماما، فإني مع ذلك أعزي نفسي بالتفكير في أن كتابي قد يثمر نفعا ما؛ لأن الحقيقة لا يمكن أن تعرف إلا بالنهوض منتصرا من كل هجوم. أشكرك كذلك شكرا جزيلا على تقييمك الناقد، وعلى الطريقة اللطيفة التي تحدثت بها عني. أرسل مع هذا الخطاب بعض التصحيحات والإضافات إلى السيد شفايتزربارت، ومقدمة تاريخية قصيرة. لست على دراية كبيرة بالمؤلفين الألمان؛ لأنني أقرأ الألمانية ببطء شديد؛ لذا لا أعرف ما إذا كان أي منهم قد أعلن تأييده لآراء مشابهة لآرائي، وإن كان أي منهم قد فعل ذلك، فهلا تسدي إلي صنيعا بإدراج حاشية في المقدمة؟ الآن صارت الطبعة الجديدة جاهزة لدى السيد شفايتزربارت ليبدأ أحد المترجمين في العمل عليها. استحسن العديد من العلماء مصطلح «الانتقاء الطبيعي»؛ لأن معناه «ليس» واضحا، ولا يستطيع كل رجل أن يلبسه تفسيره الشخصي، ولأنه يربط في آن واحد بين التباين بفعل التدجين والتباين بفعل الطبيعة. هل يستخدم مربو الحيوانات الألمان أي مصطلح مشابه؟ ربما ستبدو كلمة
Adelung ، أو الارتقاء، ميتافيزيقية بدرجة أكبر مما ينبغي. هذه حماقة مني، لكني لا أستطيع منع نفسي من التشكك فيما إذا كان مصطلح
Wahl der Lebensweise
أو «انتقاء نمط الحياة»، سيعبر عن فكرتي. إنه يترك في ذهني انطباعا مشابها لما يتركه مذهب لامارك (الذي أرفضه) عن الأهمية البالغة للعادات الحياتية. لقد غير الإنسان من سمات أحصنة السباق الإنجليزية بواسطة «انتقاء» أفراد أسرع من أجيال متعاقبة فحسن من سماتها ، وأعتقد أن، بفعل الصراع على البقاء، ثمة تغيرات «طفيفة» مشابهة في الحصان البري كانت الطبيعة ستنتقيها أو «تبقي عليها» إذا كانت مفيدة له؛ ومن ثم حدث الانتقاء الطبيعي. لكني أعتذر عن إزعاجك بهذه التعليقات عن أهمية انتقاء مصطلحات ألمانية جيدة لترجمة مصطلح «الانتقاء الطبيعي». مع خالص شكري وأصدق احترامي.
سأظل يا سيدي العزيز مخلصا لك بشدة
تشارلز داروين
من تشارلز داروين إلى إتش جي برون
داون، 14 يوليو [1860]
سيدي العزيز الموقر
عند عودتي إلى المنزل، بعد غياب استمر لبعض الوقت، وجدت ترجمة الجزء الثالث من كتاب «أصل الأنواع»،
15
وقد سررت برؤية فصل أخير مكون من انتقادات طرحتها أنت. لقد قرأت بضعا من الفقرات الأولى والفقرة الأخيرة، وأنا راض تماما، بل أكثر من راض، عن الروح الكريمة النزيهة التي عالجت بها آرائي. إنك تتحدث عن عملي بإشادة مبالغ فيها. سأقرأ الفصل كله بإمعان بالتأكيد، لكني، وإن كنت أستطيع قراءة الكتب الوصفية ككتاب جيرتنير بسهولة، أجد صعوبة شديدة في فهم اللغة الألمانية إذا كان موضوع الكتابة يتضمن استدلالا منطقيا. أرغب بشدة في معرفة ردود الفعل على كتابي في ألمانيا وقتا ما في «المستقبل»، وأرجو من كل قلبي ألا يتكبد السيد شفايتزربارت أي خسائر مالية من نشر هذه الطبعة المترجمة. لقد عارضتني معظم المقالات النقدية في إنجلترا معارضة لاذعة، لكني استطعت إقناع بعض الأشخاص بأفكاري، وبعدما كان «العديد» من علماء التاريخ الطبيعي لا يصدقون أي كلمة منه، صاروا الآن يغيرون رأيهم رويدا، ويعترفون باحتمالية أن يكون للانتقاء الطبيعي دور ما. هذا يمنحني أملا في أن مزيدا من الأشخاص سيغيرون آراءهم ويقتنعون ببعض آرائي.
سأظل مدينا لك دائما بدرجة كبيرة على الخدمة الجليلة والشرف البالغ اللذين منحتني إياهما بترجمة كتابي هذه الترجمة الممتازة. أرجو أن تتقبل خالص صدقي وأصدق احترامي.
لك بالغ مودتي يا سيدي العزيز
تشارلز داروين
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، [12 فبراير 1860] ... أظن أنه كان من المؤسف جدا أن يهدر هكسلي في المحاضرة وقتا هائلا على التعليقات الأولية ... لكني أرى محاضرته رائعة جدا وجريئة جدا. لقد اعترضت (وهو يوافقني في ذلك) على الانطباع الذي سيتركه، وهو أن العقم معيار شامل ومؤكد النجاح في الحكم على الأنواع.
أنا متيقن من أنك ستطرح نقاشا عظيما عن مسألة تطور الإنسان. تغمرني السعادة بمعرفة أنك أنت والليدي لايل ستأتيان إلى هنا. أرجو أن تحدد الوقت الذي يناسبك، وإذا لم يناسبنا، فسنخبرك بذلك. نستطيع حينئذ أن نناقش موضوع الإنسان بإمعان ...
كم أنا مدين لك ولهوكر! أظن أنني لم أكن لأنشر إطلاقا لولاكما. [ألقيت المحاضرة المشار إليها في الخطاب الأخير في المعهد الملكي، بتاريخ 10 فبراير 1860. كتب الخطاب التالي ردا على طلب السيد هكسلي بالحصول على معلومات عن الاستيلاد والتهجين وغير ذلك. وهو مهم لأنه يعود بالأذهان إلى الماضي ليشكل فيها تصورا واضحا عن تجربة الكاتب بخصوص هذا الموضوع.]
من تشارلز داروين إلى تي إتش هكسلي
إلكلي، يوركشاير، 27 نوفمبر [1859]
عزيزي هكسلي، مؤلفات جيرتنير عظيمة ومؤلفات كولروتير عظيمة، لكن الأوراق البحثية متناثرة عبر مجلدات كثيرة وطويلة جدا. اضطررت إلى تشكيل ملخص للمحتوى كله. كتاب هربرت عن الفصيلة النرجسية جيد جدا، ولديه أيضا ورقتان بحثيتان ممتازتان في دورية «جورنال أوف ذا هورتيكالتشرال سوسايتي». بخصوص الحيوانات، ما من خلاصة يمكن الاعتماد عليها على الإطلاق، بل يجب جمع الحقائق من مصادر أصلية تماما. يؤسفني أنك تجد مخطوطتي عن الكتاب الأكبر (وهي أكبر من الكتاب الحالي مرتين أو ثلاثا)، بكل المراجع، غير قابلة للقراءة، لكنها ستوفر عليك جهدا غير محدود، سأعيرك إياها بكل سرور بالطبع، لكني لا أملك نسخة أخرى منها؛ لذا يجب أن تحافظ عليها. لكن خط يدي اللعين سيكون سيئا للغاية.
بخصوص الاستيلاد، لا أعرف أي كتاب. لا أرى أن عمل «لو» جيد، لكني لا أعرف أفضل منه. أعتقد أن «يوات» مرجعية أفضل و«أكثر عملية» بكثير، لكن آراءه وحقائقه متناثرة عبر ثلاثة مجلدات ضخمة أو أربعة. صحيح أنني عرفت معظمها من خلال قراءة أطروحات بحثية لا حصر لها، و«كل» الدوريات المتعلقة بالزراعة والمتعلقة بالبستنة، لكن ذلك قد استغرق سنوات طويلة. «تكمن الصعوبة في أن تعرف المصادر التي يمكن الوثوق بها.» أما تقديم ادعاء واحد أو اثنين، فذلك لا يساوي شيئا؛ إذ إن الحقائق معقدة جدا. آمل أن أكون حذرا بحق في كل ما أذكره عن هذا الموضوع، وأظنني كذلك، مع أن كل ما طرحته، حتى الآن، مختصر «إلى حد بعيد» جدا. لقد وجدت أهمية كبيرة في التواصل مع هواة الحيوانات ومربيها. فعلى سبيل المثال، كنت قاعدا ذات مساء في حانة فاخرة لبيع شراب الجن في «بوره» وسط مجموعة من هواة الحمام عندما أشير إلى أن السيد بول أنشأ نوعا هجينا من الطيور النفاخة والحمام البادن ليحصل على حجم أكبر، ولو أنك رأيت إيماءات الرءوس المتجهمة الغامضة المروعة التي أبداها كل هواة تربية الحمام حيال هذا الإجراء الشائن، لأدركت مدى ضآلة علاقة التهجين بتحسين السلالات، ومدى خطورة هذه العملية على عدد لا نهائي من الأجيال. كل هذا قد اتضح بدرجة أكبر كثيرا مما لو كان مكتوبا في صفحات لا تضم سوى ادعاءات وما شابهها. غير أنني أكتب بعشوائية حمقاء. لا أعرف حقا كيف أستطيع إسداء نصائح بشأن الحصول على حقائق عن استيلاد السلالات وتحسينها. يعد الذهاب إلى العروض إحدى الطرق الممكنة. ولتقرأ أيضا «كل» الأطروحات البحثية عن أي حيوان داجن «واحد»، ولا تصدق أي شيء دون أن يكون مؤكدا بشدة. أما بخصوص محاضراتك، فأستطيع أن أقترح عليك بعض الحكايات الطريفة والجمل المسلية، إذا كنت تريد أن تضحك الحاضرين.
أشكرك شكرا جزيلا على إخباري برأي علماء التاريخ الطبيعي. إذا استطعنا على الإطلاق تكوين أي مجموعة ملتحمة من المؤمنين بالفكرة، فسننتصر مع مرور الوقت. أشعر بسعادة «بالغة» لأن رامزي في صفنا؛ لأنه واحد من نخبة علماء الجيولوجيا، في رأيي. أرسلت إليه نسخة. وآمل أن يكون قد تلقاها. أتحرق فضولا لمعرفة ما إذا كان بريستويتش قد تأثر على الإطلاق، لقد أرسلت إليه نسخة، ليس بصفته صديقا، ولكن بسبب جملة أو اثنتين في ورقة بحثية، جعلتاني أظن أنه كان متشككا .
المبجل سي كينجسلي في الطريق إلى تغيير رأيه. لقد أخبرني كاتريفاج في خطاب أنه يتفق معي إلى حد بعيد، ويقول إنه عرض مخططات بيانية كمخططاتي. مع خالص شكري من أعماق قلبي.
صديقك المنهك
سي داروين [أذكر هنا خاتمة محاضرة البروفيسور هكسلي، بصفتها أحد أول الأحاديث التي ألقاها في تأييد كتاب «أصل الأنواع»، وأفصحها: «قلت إن رجل العلم هو المفسر المحلف للطبيعة في محكمة المنطق السليم العليا. ولكن ما جدوى كلامه الصادق، إذا كان الجهل هو مستشار القاضي، والتحيز هو رئيس المحلفين؟ لست أعرف أي حقيقة طبيعية كبرى لم يسبق تقبلها من كل الناس في حقبة زمنية كان فيها الأشخاص الأجدر بالاحترام على اعتقاد بأن الظواهر الخاضعة للدراسة تعتمد مباشرة على الإرادة الإلهية، وأن محاولة دراستها غير مجدية، بل ومهينة للذات الإلهية. ويتسم هذا النوع من معارضة العلوم الفيزيائية بإصرار عنيد عجيب على البقاء على قيد الحياة. لقد سحق وشوه في كل معركة، لكن يبدو أنه لا يهزم أبدا؛ فها هو ذا بعد مائة هزيمة، لم يزل متفشيا في عصرنا الحاضر قدر تفشيه في زمن جاليليو، وإن لم يعد مؤذيا بالقدر نفسه لحسن الحظ.» «بالرغم من ذلك، فلأولئك الذين انقضت حياتهم - وأستخدم هنا كلمات نيوتن النبيلة - في التقاط حصاة هنا وحصاة هناك على شواطئ محيط الحقيقة العظيم - الذين يشاهدون، يوما بعد يوم، التقدم البطيء، لكنه مؤكد، للمد العظيم الذي يحمل بين طياته آلاف الكنوز التي يرفع بها الإنسان قدر حياته ويجملها - سيكون مثيرا للضحك، إن لم يكن محزنا جدا، أن يروا أشباه الملك «كنوت» في العصر الحالي ينصبون عروشهم على الشاطئ بكل هيبة وجدية، طالبين من تلك الموجة العالية البقاء حيث هي، ومتوعدين بكبح تقدمها النافع. تعلو الموجة ويتطايرون، لكنهم، على عكس الملك الدنماركي العجوز الشجاع، لا يتعلمون درس التواضع؛ فينصبون عروشهم على المسافة التي تبدو لهم آمنة، وتتكرر الحماقة.» «لا شك أن واجب عموم الناس أن يثبطوا أي شيء من هذا القبيل، وألا يصدقوا هؤلاء المتطفلين الحمقى الذين يظنون أنهم يقدمون خدمة للرب بمنع دراسة ما صنعه دراسة شاملة دقيقة.» «ليس كتاب أصل الأنواع بالكتاب الأول الذي يناقش أحد الأسئلة الكبرى التي تولد من رحم العلم، والتي ستتطلب حسما من هذا الجيل، ولن يكون الأخير. العقل الجمعي يغلي على نحو غريب، ويبدو جليا لمن يراقبون علامات العصور أن القرن التاسع عشر سيشهد ثورات هائلة في الأفكار والأفعال كتلك التي شهدها القرن السادس عشر. فمن يدري أي محاكمات وتناحرات أليمة سيكون على العالم المتحضر أن يخوضها في مسار هذا الإصلاح الجديد؟» «لكني أومن بأنه مهما يكن من أمر، فسيكون الدور الذي يمكن أن تضطلع به إنجلترا في المعركة عظيما ونبيلا. ذلك أنها تستطيع أن تثبت للعالم أن ثمة شعبا واحدا يؤمن بأن الاستبداد والديماجوجية ليسا البديلين الضروريين للحكومة بأي حال من الأحوال، وأن الحرية والنظام غير متعارضين، وأن التبجيل هو خادم المعرفة، وأن النقاش الحر هو حياة الحقيقة، ويؤمن بالوحدة الحقيقية بين أفراد أمة واحدة.» «فهل ستؤدي إنجلترا هذا الدور؟ يتوقف هذا على كيفية تعاملكم، يا عموم الشعب، مع العلم. إذا أعززتموه وبجلتموه واتبعتم أساليبه اتباعا أمينا مطلقا في تطبيقها على كل فروع الفكر البشري، فسيكون مستقبل هذا الشعب أعظم من ماضيه.» «أما إذا أنصتم إلى أولئك الذين سيسكتونه ويسحقونه، فيؤسفني أن أطفالنا سوف يرون مجد إنجلترا وهو يتلاشى مثلما تلاشى آرثر في الضباب؛ سيصرخون بعد فوات الأوان صرخة «جوينيفير» المفعمة بالأسى، قائلين: «كان واجبي أن أحب الأسمى،
كان في ذلك نفعي ولا شك لو أنني أدركت،
ولكان فيه سروري لو أنني رأيت.»»]
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون [15 فبراير 1860] ... أنا مقتنع تماما (بعدما قرأت صباح اليوم) بأن المقال النقدي الوارد في مجلة «أنالز» من تأليف وولستون؛ فلا أحد غيره في العالم كان سيستخدم هذا الكم الهائل من الجمل الاعتراضية. لقد أرسلت إليه خطابا، وأخبرته بأن الرجل «المؤذي» يشكره على أسلوبه اللطيف في الحديث عنه. وأخبرته كذلك بأنه سيكون مسرورا بمعرفة أن أسقف أكسفورد يقول إن هذا هو أشد الكتب شذوذا عن الفلسفة
16
من بين جميع الكتب التي قرأها. أرى المقال ذكيا، ولا يسيء فهم مقصدي إلا في مواضع قليلة. فعلى غرار جميع الرجال المعادين، تجاهل التفسير المقدم للتصنيف وعلم التشكل وعلم الأجنة والأعضاء الأثرية، وغير ذلك. قرأت مخطوطة ورقة والاس البحثية
17
ورأيت أنها جيدة إلى حد مثير للإعجاب؛ إنه لا يعرف أن أحدا قد سبقه في موضوع تحديد عمق البحر الفاصل للتوزيع ... يبدو لي أن النقطة الأغرب في الورقة هي تلك المتعلقة بالطابع الأفريقي لكائنات سيليبز، لكني أحتاج إلى مزيد من التأكيد ...
هنزلو يقيم هنا، وقد تحدثت معه، إن رأيه يشبه رأي بانبري تقريبا،
18
وصحيح أنه يتفق معنا بقدر ضئيل، لكنه لا يطرح حجة حقيقية تمنع اتفاقه بقدر أكبر. هو أيضا لا يستحسن موضوع العين! من المثير للاهتمام بالفعل أن آراء مختلف المعارضين بشأن الموضوع تختلف اختلافا كبيرا (وربما يكون هذا حجة في مصلحتنا). كان هنزلو يستند في معارضته على قصور السجل الجيولوجي، لكنه الآن لا يكترث به كثيرا، ويقول إنني خرجت من هذا المأزق بنجاح؛ ليتني أستطيع الاتفاق معه في ذلك. يقول بادن باول إنه لم يقرأ في حياته شيئا دامغا بمقدار ادعائي الذي ذكرته عن العين! يرسل إلي شخص غريب خطابات عن الانتقاء الجنسي، ويتحسر على أنني متحير بشأن موضوع تافه ككتلة الشعر الشبيهة بالفرشاة الموجودة على ذكر الديك الرومي، وما إلى ذلك. لأن إل جينينز يتمتع بعقل فلسفي جدا، ولأنك تقول إنك تحب رؤية كل شيء، أرسل إليك خطابا قديما من خطاباته. وفي خطاب لاحق بعث به إلى هنزلو، رأيته بنفسي، كان أشد صراحة من أي معارض سمعت به؛ لأنه يقول فيه إنه، وإن كان «لا يستطيع» الإيمان بقناعاتي قدر إيماني بها، لا يستطيع ذكر سبب وجيه يمنعه من ذلك. كم هو غريب أن كل رجل يرسم خطه التخيلي الذي يتوقف عنده بنفسه! إن هذا يستدعي في ذهني ذكرى واضحة جدا عما قاله لي (البروفيسور هنزلو) بشأنك عندما بدأت في دراسة الجيولوجيا، وهو أن أصدق «القليل »، لكن لا أصدق كل شيء بأي حال من الأحوال.
تقبل خالص مودتي
سي داروين
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، 18 فبراير [1860]
عزيزي جراي
تلقيت منذ حوالي أسبوعين ورقتين من مقالك النقدي؛
19
فقرأتهما وأرسلتهما إلى هوكر، وقد عادتا إلي الآن وأنا أعيد قراءتهما بإمعان، وسأرسلهما غدا إلى لايل. أرى مقالك النقدي «جديرا بالإعجاب»، وهو أفضل ما قرأت من مقالات نقدية حتى الآن، وبفارق كبير عن نظرائه. أشكرك من أعماق قلبي من أجلي، وأشكرك من أجل الموضوع. إن إبرازك التناقض بين آراء أجاسي وآراء كآرائي مثير للاهتمام وتثقيفي جدا.
20 (بالمناسبة، أرجو أن تخبرني إذا كتب أجاسي أي شيء عن الموضوع. إنني مفتون باستعاراتك التشبيهية التي ذكرت فيها أن الجدول لا يجري عكس اتجاه قوى الجاذبية أبدا. وأرى تمييزك بين الفرضية والنظرية عبقريا جدا، لكني أظن أنه لا يستخدم على الإطلاق. الكل يتحدث الآن عن «نظرية» تموج الضوء، مع أن الأثير نفسه افتراضي، ولا يستدل على التموجات نفسها إلا من تفسير ظواهر الضوء. وحتى في «نظرية الجاذبية»، هل تعرف القوة الجاذبة بأي حال من الأحوال، إلا من خلال تفسير سقوط التفاحة وحركة الكواكب؟ أرى أن أي فرضية لا يمكن أن «تتطور» لتصبح نظرية إلا بتفسير كم هائل وافر من الحقائق. أشكرك مرارا وتكرارا على مساعدتك السخية في مناقشة رأي لم تزل غير متحيز له على نحو ملائم للغاية.
تقبل أصدق تحياتي يا عزيزي جراي
سي داروين
ملحوظة:
يتفق معي عدة من رجال الدين إلى حد بعيد. المبجل إل جينينز، عالم بارع جدا في التاريخ الطبيعي. هنزلو سيتفق معي بدرجة ضئيلة، وهو ليس مستاء مني. لقد كان في زيارة لي للتو. [بخصوص موقف ممثلي الكنيسة ذوي العقلية الأكثر تحررا، فهذا الخطاب (المشار إليه سلفا) من تشارلز كينجسلي مهم:]
من سي كينجسلي إلى تشارلز داروين
إيفرسلي ريكتوري، وينشفيلد،
18 نوفمبر 1859
سيدي العزيز
يجب أن أشكرك على تفضلك المفاجئ بمنحي شرف إرسال كتابك إلي. أن يرسل عالم التاريخ الطبيعي الذي - من بين كل علماء التاريخ الطبيعي الأحياء - أرغب بشدة في معرفته والتعلم منه، إلى عالم مثلي كتابه، لهو أمر يشجعني على أن أكون أشد حذرا، وربما أكثر تمهلا، في ملاحظاتي.
أشعر بتوعك شديد جدا (في دماغي)، إلى حد أنني لا أستطيع قراءة كتابك الآن كما ينبغي مع الأسف. كل ما رأيته منه يملؤني ب «دهشة ممزوجة بالرهبة»؛ رهبة من الحقائق الكثيرة ومن هيبة اسمك، وحدسك الصافي، وكل ذلك سيحتم علي التخلي عن الكثير مما كنت أومن به وكتبته، إذا تبين أنك محق.
لا أهتم بذلك كثيرا. فليكن الله صادقا وكل إنسان كاذبا! لنعرف ما «يوجد» لدينا، وكما قال سقراط القديم، إبسثاي تو لوجو؛ فلنتبع الثعلب الداهية الخبيث إلى أي ما قد يقودنا إليه من مستنقعات وغابات، إذا لم يكن بد من أن نلتقيه أخيرا.
سأكون متحررا من خرافتين شائعتين على الأقل وأنا أقيم كتبك: (1)
تعلمت منذ أمد بعيد - من مشاهدة تهجين الحيوانات الداجنة والنباتات - ألا أومن بعقيدة ثبات الأنواع على حالها دون تغير. (2)
تعلمت تدريجيا أن أومن بأن تصور المرء عن الإله بأنه خلق أشكالا أولية قادرة على تطوير نفسها إلى كل الأشكال الضرورية حسب الزمان وحسب المكان، لا يقل نبلا عن التصور القائل بأنه احتاج إلى إجراء تدخل جديد لسد الثغرات التي أنشأها بنفسه. أتساءل إن كان التصور الأول هو التصور الأسمى أم لا.
لكن بغض النظر عن مدى صحة ذلك، سأعتبر كتابك قيما جدا، سواء لمحتواه نفسه، أو بصفته دليلا على أنك تعرف وجود شخص مثلي.
خادمك المخلص
سي كينجسلي [يكتب صديق أبي القديم، المبجل جيه برودي إنيس، من قصر ميلتون برودي، الذي كان قسا لأبرشية داون على مدار سنوات عديدة، بالعقلية نفسها أيضا: «لم يهاجم أحدنا الآخر قط. قبل أن أعرف السيد داروين، كنت قد تبنيت المبدأ القائل بأنه ينبغي دراسة التاريخ الطبيعي والجيولوجيا والعلوم عموما دون الاستشهاد بالكتاب المقدس، وصرحت بذلك علانية. فلما كان كتاب الطبيعة والكتاب المقدس من المصدر الإلهي نفسه، فقد سارا في مسارين متوازيين، وعندما يفهمان فهما صحيحا، لن يتقاطعا أبدا ...» «كانت آراؤه بشأن هذا الموضوع تحمل المغزى نفسه، بدرجة كبيرة، من جانبه. صحيح أن أي محادثات أجريناها عن موضوعات دينية بحتة لم تزل تحمل حتى الآن خصوصية مقدسة كما كانت في حياته، لكني أستطيع الإفصاح عن خلاصة طريفة لإحداها. كنا نتحدث عن التناقض الظاهر بين بعض الاكتشافات المفترض صحتها وسفر التكوين، فقال لي: «أنت (كان من الأحرى أن يقول: «من المفترض بك أن تكون») عالم لاهوت، وأنا عالم تاريخ طبيعي، المساران منفصلان. أنا أسعى جاهدا إلى اكتشاف الحقائق دون أن أضع في الحسبان ما قيل في سفر التكوين. لا أهاجم موسى، وأعتقد أن موسى يستطيع الاعتناء بنفسه.» وكتب منذ وقت قريب كلمات تحمل المعنى نفسه قائلا: «لا أتذكر أنني قد نشرت طوال حياتي كلمة تهاجم الدين أو رجال الدين مباشرة، لكن لو أنك قرأت كتيبا صغيرا من تأليف أحد رجال الدين، تلقيته قبل يومين، لضحكت واعترفت بأن لي بعض الحق في استيائي. فبعدما أساء إلي طوال صفحتين أو ثلاث، بكلمات واضحة قاطعة بما يكفي لإرضاء أي رجل رشيد، يلخص كلامه قائلا إنه بحث في اللغة الإنجليزية ليجد مصطلحات مناسبة للتعبير عن ازدرائه لي ولكل الداروينيين، لكن بحثه كان بلا جدوى.» وكتب في خطاب آخر لي بعدما غادرت داون: «كثيرا ما اختلفنا، لكنك أحد أولئك الأناس النادرين الذين يمكن للمرء أن يختلف معهم ولا يكن لهم مثقال ذرة من العداء، وهذا شيء سأفتخر [به] جدا، لو كان بإمكان أي شخص أن يقوله عني.» «وفي زيارتي الأخيرة إلى داون، قال السيد داروين، على مائدة العشاء في بيته: «كنت أنا وبرودي إنيس صديقين مقربين جدا طوال ثلاثين عاما، ولم نتفق اتفاقا تاما على أي موضوع سوى مرة واحدة، وحينئذ حدق كلانا إلى الآخر بحدة، وظننا أن أحدنا كان مريضا جدا بكل تأكيد.»»]
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، 23 فبراير [1860]
عزيزي لايل
تلك إجابة رائعة من والد القاضي كرومبتون. ما أغرب أن يتوصل القاضي إلى النقاط نفسها التي توصلت إليها بالضبط ! هذا يوضح لي كم كنت ستصبح محاميا ممتازا، وكم من الأفعال الظالمة كنت ستجعلها تبدو عادلة! لكن العلم مجال أعظم بكثير من القانون، وإن كان هذا الثاني ربما جعلك اللورد كينوردي. إذا أصدرت طبعة أخرى من الكتاب، فسأذكر مزيدا من التفاصيل عن التدرج في العين، وعن كل الأشكال الآتية من نموذج أولي واحد، في محاولة لأن أنفي عنهما هذه الدرجة الصارخة من الاستبعاد ...
بخصوص اعتراض برون على عدم إمكانية الكشف عن كيفية نشأة الحياة، وكذلك تعليق آسا جراي، الذي يشبهه إلى حد ما، بأن الانتقاء الطبيعي ليس سببا حقيقيا، فقد أثار اهتمامي بشدة أنني وجدت بالصدفة في كتاب «حياة نيوتن»، الذي ألفه بروستر، أن لايبنيتس اعترض على قانون الجاذبية لأن نيوتن لم يستطع توضيح ماهية الجاذبية نفسها. وقد تصادف أنني استخدمت في الخطابات هذه الحجة نفسها بالضبط دون أن أعرف أن أي أحد قد اعترض بالفعل على قانون الجاذبية. يجيب نيوتن قائلا إنه من المنطق أن يفهم المرء حركات ساعة ما، مع أنه لا يعرف سبب نزول الوزن إلى الأرض. فيواصل لايبنيتس الاعتراض قائلا إن قانون الجاذبية يتعارض مع الدين الطبيعي! أليس هذا غريبا؟ أعتقد أنني سأستخدم هذه الحقائق من أجل بعض التعليقات التمهيدية في كتابي الأكبر. ... (أفهم) أنك تسأل عن السبب في غياب حالات التشوه في الحيوانات الأعلى رتبة، مع أنها حين تعيش، تكون عقيمة في الغالبية العظمى من الأحيان (حتى الحيوانات العملاقة والقزمة منها تكون عقيمة «في العموم»)، ولا نعرف أن الحالة المشوهة التي ذكرها هارفي كانت ستتزاوج وتتكاثر. أعتقد أن ثمة حالة واحدة مسجلة لزهرة متناظرة شعاعيا خصبة، ولا أستطيع تذكر ما إذا كانت هذه الزهرة قد تكاثرت ذاتيا أم لا.
بالعودة مجددا إلى موضوع العين. أعتقد أن عدم مواجهة المشكلة كان سيصير تصرفا غير أمين، بل والأسوأ (كما كان تاليران سيقول) أنه كان ليصبح تصرفا غير حكيم، في رأيي؛ لأنه كان سيؤخذ علي، مثلما أخذ علي إتش هولاند موضوع عظام الأذن، حتى أخرسه هكسلي بإظهار التدرج الدقيق الذي حدث بين الكائنات الحية.
أشكرك شكرا. جزيلا على خطابك المبهج جدا.
تقبل خالص مودتي
سي داروين
ملحوظة:
أرسل إليك خطابا تلقيته من هربرت سبنسر، تستطيع أن تختار قراءته أو لا، حسب ما تراه مناسبا. أرى أنه يطرح فلسفة الحجة في نهاية الخطاب أفضل من أي أحد آخر تقريبا. لم أستطع فهم شيء من أفكار دانا المثالية عن الأنواع، لكني على أي حال لا أتمتع برأس ميتافيزيقي، كما يقول وولستون.
بالمناسبة، ألقيت على عاتق وولستون ورقة بحثية كتبها ألكسندر جوردان، الذي يثبت ميتافيزيقيا أن كل سلالاتنا المزروعة أنواع خلقها الرب.
يحرف وولستون بعض فقرات كتابي تحريفا عجيبا من دون قصد. لقد كتب المقال النقدي دون أن يعيد قراءة بعض الفقرات.
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، 25 فبراير [1860] ... لا أستطيع منع نفسي من التعجب من حماستك تجاه كتابي. أقسم بالرب أنك تهتم بكتابي قدر اهتمامي أنا نفسي به. أنى لك أن تتحلى بهذه الدرجة من الإيثار؟! لقد أخرجت من حافظة أوراقي خطابا من خطابات رامزي؛ لأنني أعتقد أن كل جيولوجي غير رأيه واقتنع بأفكاري مهم جدا. بالمناسبة، رأيت منذ فترة خطابا من إتش دي روجرز
21
إلى هكسلي، يتفق فيه معنا إلى حد بعيد ...
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، السبت 3 مارس [1860]
عزيزي هوكر
يا له من عمل شاق ذاك الذي أديته يوم الخميس هذا! لم أستطع الذهاب إلى لندن حتى يوم الإثنين، وقد كان من الحماقة أن أذهب بعد ذلك؛ لأنني أصبت بنوبة حمى (مع درجة طفيفة من التهاب ذات الجنب) اعترتني بقوة الأسد، وزالت عني بوداعة الحمل، لكنها أنهكتني بشدة.
أثارت رسالتك الأخيرة بالغ اهتمامي ... أظنك تبالغ في توقعاتك بخصوص تغيير الآراء بشأن موضوع الأنواع. ذلك أن فئة واحدة كبيرة من الرجال لن تهتم أبدا ب «أي» مسألة عامة، وأظن هذا ينطبق بالأخص على علماء التاريخ الطبيعي، ومنهم جراي الكبير، أمين المتحف البريطاني، ثم إنني مقتنع تماما بأن كل الرجال تقريبا، بعدما يتخطون سنا متوسطة، سواء في سنوات أعمارهم الفعلية أو أعمارهم العقلية، يصبحون عاجزين عن تأمل الحقائق من وجهة نظر جديدة. إنني مندهش حقا بالتقدم الذي أحرزه الموضوع، ومبتهج جدا به؛ راجع المذكرة المرفقة.
22
يقول - إن كتابي سينسى في غضون عشر سنوات، ربما يكون ذلك صحيحا، لكن بوجود قائمة كهذه، فأنا على يقين تام من أن الموضوع لن يلقى هذا المصير. الدخلاء أقوياء، كما تقول.
تقول إنك تظن أن بينثام قد تأثر، «لكنه يمسك لسانه، كرجل حكيم.» ربما تقصد فقط أنه لا يستطيع حسم أمره والوصول إلى قرار محدد؛ فأنا أرى أن هذا الصمت مناف للمروءة؛ لأنه إذا تصرف الآخرون بالطريقة نفسها، فكيف ستتقدم الآراء أصلا؟ هذا تقصير في أداء واجب فعلي.
23
تغمرني السعادة بسماعي عن ثويتس ... تلقيت خطابا مذهلا من الدكتور بوت، قد يتحول إلى موضع سخرية منه ومني؛ لذا لن أرسله إلى أي أحد. إنه يكتب بدافع نبيل من حب الحقيقة.
أتساءل ما هو رأي ليندلي يا ترى، من المرجح أنه أشد انشغالا من أن يقرأ عن المسألة أو يفكر فيها.
أشعر بالضيق من تحفظ بينثام؛ لأن معرفة الأجزاء الأردأ من وجهة نظر رجل يتسم بقدراته على الرصد والملاحظة كانت ستصبح قيمة جدا.
إلى اللقاء يا عزيزي هوكر، تقبل خالص مودتي
سي داروين
ملحوظة:
أليس هارفي من فئة الرجال الذين لا يكترثون إطلاقا بالعموميات؟ أتذكر قولك إنك لم تستطع إقناعه بالكتابة عن موضوع «التوزيع». لقد وجدت أعماله عقيمة جدا من كل النواحي. [فيما يلي المذكرة المشار إليها:]
الجيولوجيون
علماء الحيوان وعلماء الحفريات
علماء وظائف الأعضاء
علماء النباتات
لايل
هكسلي
كاربنتر
هوكر
رامزي *
جيه لوبوك
السير إتش هولاند (إلى حد بعيد)
إتش سي واطسون
جوكس †
إل جينينز (إلى حد بعيد)
آسا جراي (إلى حد ما)
إتش دي روجرز
سيرلز وود ‡
الدكتور بوت (إلى حد بعيد)
ثويتس *
أندرو رامزي المدير العام الراحل لهيئة المسح الجيولوجي. †
جوزيف بيت جوكس، حاصل على ماجستير في الآداب، وزميل الجمعية الملكية، 1811-1869. تلقى تعليمه في كامبريدج، ومن عام 1842 إلى عام 1846، عمل متخصصا في التاريخ الطبيعي لدى سفينة إتش إم إس «فلاي» في رحلة استكشافية في أستراليا وغينيا الجديدة. وعين بعد ذلك مديرا لهيئة المسح الجيولوجي الأيرلندية. ألف العديد من الأوراق البحثية، وأكثر من كتيب مرجعي جيد في الجيولوجيا. ‡
سيرلز فالنتين وود، 14 فبراير 1798-1880. اشتهر في الأساس بكتابه عن رخويات «المنحدرات الصخرية». [الخطاب التالي مهم من حيث علاقته بذكر السيد بينثام في الخطاب الأخير:]
من جي بينثام إلى فرانسيس داروين
25 ويلتون بليس، جنوب غرب،
30 مايو 1882
سيدي العزيز
امتثالا لرسالتك التي تلقيتها الليلة الماضية، أرفق إليك هذه الرسالة التي تلقيتها من أبيك. كان ينبغي أن أفعل ذلك حين رأيت الطلب العام منشورا في الصحف، لكني لم أكن أظن أن أيا منها قد يكون مفيدا لك. صحيح أنني كنت أشعر بإطراء شديد عندما كان السيد داروين يشرفني من حين إلى آخر بأن يذكرني ذكرا لطيفا ودودا، لكني لم أمنح شرف الانضمام إلى دائرة أقرب المقربين إليه؛ لذا فهو لم يتواصل معي قط بخصوص آرائه وأعماله. كنت من أصدق المعجبين به، وتبنيت نظرياته واستنتاجاته بالكامل، بالرغم مما سببته لي من وجع شديد وإحباط بالغ في البداية. ففي اليوم الذي قرئت فيه ورقته الشهيرة في جمعية «لينيان سوسايتي»، بتاريخ 1 يوليو عام 1858؛ كانت ورقة طويلة من تأليفي قد أعدت للقراءة هناك، وكنت قد جمعت فيها، في سياق التعليق على النباتات البريطانية، عددا من الملاحظات والحقائق التي توضح ما كنت أعتقد آنذاك أنه ثبات الأنواع، بالرغم من الصعوبة المحتملة في تعيين حدودها، وتبين الورقة أيضا وجود نزعة لدى الأشكال الشاذة، الناتجة عن الزراعة أو غيرها من الطرق، إلى التراجع ضمن تلك الحدود الأصلية في حالة عدم التدخل بها. ولحسن الحظ الشديد أن ورقة السيد داروين قد حلت محل ورقتي آنذاك، وحالما قرئت، شعرت بأنني ملزم بإرجاء قراءة ورقتي لأعيد النظر فيها، فبدأت أفكر بجدية في بعض الشكوك المتعلقة بالموضوع وبظهور «أصل الأنواع»، فاضطررت على مضض، إلى التخلي عن قناعاتي التي لطالما كنت متمسكا بها، ونتائج كم هائل من الجهد المضني والدراسة، وألغيت من ورقتي كل ذلك الجزء الذي كان يؤيد ثبات الأنواع في الأصل، واكتفيت بنشر أجزاء من بقية الورقة في شكل آخر، معظمها في دورية «ناتشورال هيستوري ريفيو». وقد اعترفت منذ ذلك الحين في مناسبات مختلفة بإيماني التام بآراء السيد داروين، بالأخص في خطابي الرئاسي في عام 1863، وخطابي الثالث عشر والأخير، الذي صدر في شكل تقرير إلى الجمعية البريطانية في اجتماعها في مدينة بلفاست عام 1874.
إنني أحتفي بالخطابات التي تلقيتها من السيد داروين أشد الاحتفاء، إلى حد أنني سأكون ممتنا لك إذا أعدتها إلي عندما تقضي حاجتك منها. لم أحتفظ بالأظرف مع الأسف، وعادة ما كان السيد داروين يكتفي بتأريخها بالشهر فقط وليس بالسنة؛ لذا فهي ليست مرتبة زمنيا.
تفضل بقبول أصدق تحياتي
جورج بينثام
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون 12 [مارس] [1860]
عزيزي لايل
بالتفكير مليا فيما تحدثنا عنه، بشأن أن الدرجة العالية من التطور الفكري لدى الإغريق القدامى بما شهدته من تحسن لاحق طفيف أو بقائها دون تحسن أصلا تمثل مشكلة واضحة، خطر ببالي للتو أن الحالة في الواقع تتسق تماما مع آرائنا. صحيح أن الحالة ستكون مشكلة أكيدة وفقا للمذهب اللاماركي أو الأثري القائل بأن التقدم حتمي، ولكن وفق الرأي الذي أومن به والمتمثل في أن التقدم يحدث حسب الظروف، فهو ليس متعارضا معه إطلاقا، ويتسق مع حقائق التقدم الأخرى في البنية الجسدية لحيوانات أخرى. ذلك لأنه، في حالة الفوضى السياسية أو الاستبداد أو سوء الحكومة، أو بعد اجتياح الهمج، من المرجح أن تكون القوة أو الوحشية هي ما ينتصر في النهاية، وليس الفكر.
استمتعنا جدا بزيارتكما أنت والليدي لايل.
طابت ليلتك.
سي داروين
ملحوظة:
بمصادفة غريبة (لأنني لم ألمح حتى إلى هذا الموضوع) هاجمتني السيدات مساء اليوم، وألقين في وجهي موضوع رفعة الإغريق القدامى، على اعتقاد منهن أنها مشكلة لا أستطيع الرد عليها، لكن كانت إجابتي حاضرة تماما لحسن حظي، وأسكتهن. ومن ثم ارتأيت أن ذلك جدير بأن أكتب إليك على عجل وأخبرك به ...
من تشارلز داروين إلى جيه بريستويتش
24
داون، 12 مارس [1860] ... في وقت ما في المستقبل، عندما تحظى ببعض من وقت الفراغ، وعندما تقرأ كتاب «أصل الأنواع»، سأعتبر تفضلك بإرسال أي انتقادات عامة إلي صنيعا «استثنائيا» منك. لا أقصد انتقادات طويلة جدا، بل ما يمكن أن تورده في خطاب. دائما ما كنت معجبا جدا بأوراقك البحثية المختلفة، وسيسرني للغاية معرفة رأيك، الذي قد يقدم لي مساعدة حقيقية.
أرجو ألا تفترض أنني أتوقع أن «أغير قناعاتك» أو «أضلك»؛ وإنما سأكون راضيا إذا استطعت زحزحة قناعاتك الراسخة قيد أنملة، وأرجوك أيضا ألا تخشى إزعاجي بالانتقادات الحادة؛ فقد تلقيت ضربات عنيفة من بعض أقرب أصدقائي. إذا لم يكن مزعجا أن ترسل إلي رأيك، فسأكون ممتنا لك حقا بكل تأكيد ...
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، 3 أبريل [1860] ... أتذكر جيدا حين كان التفكير في العين يصيبني بالتوتر الشديد، لكني تجاوزت هذه المرحلة من الشكوى، والآن صارت التفاصيل الصغيرة التافهة في البنية هي التي غالبا ما تشعرني بانزعاج شديد. فرؤية ريشة ما في ذيل طاووس تصيبني بالغثيان، كلما حدقت إليها! ...
لعلك تود الاطلاع على أخبار المقالات النقدية التي تناقش كتابي. نشر سيجويك مقالا نقديا عن الكتاب في مجلة «ذا سبيكتاتور» يتسم بالوحشية وعدم الإنصاف (وأنا ولايل نعرف يقينا بناء على أدلة داخلية أنه من تأليفه).
25
يتضمن المقال إساءة بالغة، وهو ليس منصفا من عدة جوانب. الحق أنه قد يدفع أي شخص جاهل بالجيولوجيا إلى أن يظنني قد ابتدعت الفجوات الهائلة بين التكوينات الجيولوجية المتعاقبة، لا أنها مذهب معترف به بالإجماع تقريبا. لكن صديقي القديم العزيز سيجويك، رغم قلبه النبيل، مسن ومتعصب مفعم بالغضب. من الصعب إرضاء الجميع، لعلك تتذكر أنني طلبت منك في خطابي الأخير أن تتغاضى عن مسألة تعرية منطقة وايلد، لقد أخبرت جوكس (مدير هيئة المسح الجيولوجي الأيرلندية)، وعاتبني في ذلك بشدة؛ لأنه صدق كل كلمة بشأن هذا الموضوع، ولم ير فيه أي مبالغة! الحق أن الجيولوجيين لا يمتلكون أي وسيلة لقياس لانهائية الزمن الماضي. ثمة مقال نقدي واحد رائع ، وهو مقال «معارض» (كتبه بيكتت، عالم الحفريات، في دورية «بيبليوتيك يونيفيرسيل أوف جينيفا») يتسم ب «منتهى» الإنصاف والعدالة، وأنا أتفق مع كل كلمة يقولها كاتبه؛ فالاختلاف الوحيد بيننا أنه يعزو قيمة أقل للحجج المؤيدة وقيمة أعلى للحجج المعارضة. من بين كل المقالات النقدية المعارضة، أظن أن هذا هو الوحيد المنصف إلى حد كبير، ولم أتوقع قط أن أرى أي مقال معارض منصف. أرجو أن تلاحظ أنني لا أعد مقالك معارضا بأي حال من الأحوال، وإن كنت أنت نفسك تظن ذلك! ذلك أنه قد أسدى إلي خدمة أعظم «بكثير» من أن أراه في هذا التصنيف على الإطلاق. يؤسفني أنني أرهقك بالإكثار من الحديث عن كتابي. أظن، إلى حد ما، أنني كان من المحتمل أن أصبح الرجل الأشد اعتدادا بنفسه في أوروبا كلها! يا له من تفوق يدعو إلى الفخر! حسنا، لقد أسهمت في ذلك بنفسك؛ ولذا يجب أن تسامحني إذا استطعت.
عزيزي جراي، سأظل صديقك الممتن لك دوما
سي داروين [في خطاب إلى السير تشارلز لايل يرد ذكر مقال سيجويك النقدي في مجلة «ذا سبيكتاتور»، بتاريخ 24 مارس: «أنا الآن متيقن من أن سيجويك هو كاتب المقال المنشور في مجلة «ذا سبيكتاتور». فلا أحد سواه يستطيع استخدام هذه المصطلحات المسيئة. ويا له من تحريف لمفاهيمي! إن أي جاهل تماما بالموضوع سيفترض أنني طرحت «أولا» الاعتقاد القائل بأن الفواصل بين التكوينات المتعاقبة تشير إلى فترات بينية طويلة. ذلك جور عظيم. لكن العجوز العزيز المسكين سيجويك يبدو متعصبا بشأن المسألة. «فهم مشوش!» إذا جرى بيننا أي حديث على الإطلاق، فسأخبره بأنني لم أستطع قط تصديق أنه يمكن لمحقق أن يكون رجلا طيبا، لكني صرت أعرف الآن أن الرجل قد يسلخ جلد رجل آخر بانتقاداته اللاذعة، ويكون في الوقت ذاته نبيلا طيب القلب مثل سيجويك.»
الفقرات التالية مقتبسة من المقال النقدي: «لا داعي إلى أن أمضي قدما في هذه الاعتراضات. لكني لا أستطيع أن أختم المقال دون التعبير عن بغضي للنظرية بسبب ماديتها الراسخة العنيدة ، ولأنها هجرت المسار الاستقرائي، المسار الوحيد الذي يؤدي إلى الحقيقة الطبيعية، ولأنها تنكر العلل الغائية إنكارا تاما؛ مما يشير إلى أنها تترك في مؤيديها فهما مشوشا.» «لا يعني هذا أنني أعتقد أن داروين ملحد، لكن لا يسعني إلا أن أعتبر ماديته إلحادية. وأنا أرى أنها غير صحيحة؛ لأنها تتعارض مع مسار الطبيعة الواضح، وتتضاد تماما مع الحقيقة الاستقرائية. ثم إنها مؤذية بشدة.» «إن كل سلسلة من الحقائق ترتبط معا بسلسلة من الافتراضات وأشكال متكررة من المبدأ الوحيد الخاطئ. لا يستطيع المرء أن يصنع حبلا قويا من خيط من فقاعات هوائية.» «لكن أي مفارقة مذهلة وجديدة (مفترضة)، حين يجري التعبير عنها بوضوح شديد وبشيء كبير من المعقولية، تترك في عقول البعض نوعا من الإثارة الممتعة التي تجعلهم ينزعون إلى تأييدها، وإذا لم يكونوا معتادين التفكير المتمعن، وكرهوا تحمل مشقة التحقق الدقيق من مدى صحتها، فمن المحتمل أن يستنتجوا أن ما (يبدو) «أصيلا» لا بد أن يكون نتاج «نبوغ» أصيل، وأن أي شيء يتعارض بشدة مع المفاهيم السائدة لا بد أن يكون «اكتشافا» عظيما؛ أي إنهم سيستنتجون باختصار، أن أي شيء يأتي من «قاع بئر» ما، هو لا بد «الحقيقة» التي من المفترض أنها مخفية هناك.»
وفي مقال نقدي نشر في عدد ديسمبر من مجلة «ماكملان ماجازين» عام 1860، دافع فوسيت بضراوة عن أبي من تهمة استخدام أسلوب خاطئ في الاستدلال المنطقي، وهي تهمة وردت في مقال سيجويك، في بعض العبارات مثل: «ليست تلك طريقة بيكون الصحيحة.» وكرر فوسيت دفاعه في اجتماع الجمعية البريطانية في عام 1861.]
26
من تشارلز داروين إلى دبليو بي كاربنتر
داون، 6 أبريل [1860]
عزيزي كاربنتر
انتهيت للتو من قراءة مقالك النقدي في دورية «ميد شيرورج ريفيو».
27
لا بد لي أن أعبر عن إعجابي بهذه المقالة البارعة للغاية، وآمل من الرب أن يقرأه الكثيرون؛ لأنه سيحدث تأثيرا كبيرا. بالرغم من ذلك، لا ينبغي لي أن أعبر عن هذا الإعجاب الحار؛ لأنك تبالغ جدا في الإشادة بكتابي، مع الأسف . غير أنك أسعدتني بشدة ، وصحيح أنني أرجو ألا أبالي كثيرا باستحسان القراء غير المتخصصين في العلم، لكني أستطيع القول إن هذا لا ينطبق إطلاقا على قلة من الرجال أمثالك. ليس لدي أي انتقاد أذكره؛ لأنني لا أعترض على أي كلمة، والمقال كله يعجبني؛ لذا لا أستطيع تفضيل جزء معين على البقية. ذلك أنه متوازن على نحو جيد جدا. من المحال، رغم ذلك، ألا أبهر بمدى معرفتك الهائلة في الجيولوجيا وعلم النبات وعلم الحيوان. فالاقتباسات التي ذكرتها من كتابات هوكر منتقاة ب «براعة»، ومقنعة جدا. لقد سررت كثيرا أيضا بما تقوله عن لايل. الحق أن الحماسة تغمرني، ومن الأفضل ألا أكتب المزيد. مع خالص شكري.
تقبل أصدق تحياتي
سي داروين
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، 10 أبريل [1860]
عزيزي لايل
شكرا جزيلا على رسالتك التي أرسلتها في الرابع من الشهر؛ سررت جدا حين عرفت أنك في توركي. كان ينبغي أن أسلي نفسي بالكتابة إليك قبل الآن، لكن هوكر وهكسلي كانا يقيمان معي هنا، وقد شغلا وقتي كله؛ إذ إن القليل من أي شيء جرعة كاملة بالنسبة إلي ... نشر عدد هائل من المقالات النقدية، وقد مللت من نفسي بشدة. يوجد مقال نقدي طويل جدا كتبه كاربنتر في دورية «ميديكال آند شيرورج ريفيو»، وهو مقال جيد جدا ومتوازن جيدا، لكنه ليس ممتازا. يناقش كاربنتر كتب هوكر بتفصيل مطول لا يقل عن التفصيل الذي يوليه لكتابي، ويقتبس مقتطفات ممتازة، لكني لم أستطع أن أجعل هوكر يكترث البتة بتلقيه الإشادة.
يتحدث كاربنتر عنك بعبارات محترمة تماما. يوجد مقال نقدي «ممتاز» كتبه هكسلي،
28
وهو يحوي انتقادات ممتازة، لكني لست متيقنا من أنه يسهم في تقدم الموضوع تقدما كبيرا. «أظن» أنني أقنعته بأنه لا يولي أهمية كافية لحالة وجود درجات من العقم لدى ضروب النباتات.
لنتطرق الآن إلى موضوع آخر غير المراجعات النقدية؛ يرسل إلي آسا جراي من وايمان (الذي سيرسل خطابا) بشأن مثال جيد عن وجود خنازير كلها سوداء في منطقة «إيفرجليدز» في فرجينيا. وعند السؤال عن السبب، يبدو (ولدي حالات مشابهة ممتازة) أن الخنازير «السوداء»، عندما تأكل نوعا معينا من الجوز، تصير عظامها حمراء وتعاني بعض المعاناة، لكن الخنازير «البيضاء» تفقد حوافرها وتنفق، «ونحن نسهم في ذلك ب «الانتقاء»؛ لأننا نقتل معظم الخنازير البيضاء الصغيرة.» قال هذا رجال لا يستطيعون القراءة تقريبا. بالمناسبة، من الصادم لي بشدة أنك لا تستطيع الاعتراف بفعالية الانتقاء الطبيعي. فكلما فكرت فيه، قلت شكوكي في قدرته على إحداث تغييرات كبيرة وصغيرة. قرأت للتو مقال مجلة «إدنبرة»،
29
الذي لا شك في أن ... هو من كتبه. المقال يعج بالحقد والدهاء، ومن المؤسف أنه سيضر بالقضية ضررا بالغا. كاتبه يتكلم عن محاضرة هكسلي بقسوة ضارية، وينهال على هوكر بانتقادات لاذعة جدا. لذا «استمتعنا» به نحن الثلاثة معا. هذا لا يعني أنني استمتعت به حقا؛ لأنه أزعجني ليلة بأكملها، لكني تعافيت تماما من هذا الانزعاج اليوم. إن الإحاطة بكل ما تحمله التعليقات الكثيرة الموجهة ضدي من نكاية مريرة تحتاج إلى الكثير من الدراسة؛ فأنا لم أكتشفها كلها بنفسي بالطبع. إنه يحرف أجزاء كثيرة تحريفا شائنا فاضحا. يخطئ كاتب المقال أيضا في اقتباس بعض الفقرات، بتغييره كلمات موضوعة داخل علامات اقتباس ...
من المؤلم أن يكون المرء مكروها بهذا القدر الشديد الذي يكرهني به ...
الآن سأتطرق إلى شيء غريب بخصوص كتابي، وبه سأختتم الخطاب. في عدد يوم السبت الماضي من دورية «ذا جاردنرز كرونيكل»،
30
نشر رجل يدعى السيد باتريك ماثيو اقتباسا طويلا من كتابه عن «الأخشاب البحرية وزراعة الأشجار»، الصادر في عام 1831، يتنبأ فيه، تنبؤا موجزا لكن مكتملا، بنظرية الانتقاء الطبيعي. لقد طلبت الكتاب؛ لأنني وجدت بضع فقرات غامضة بعض الشيء، لكني أظنه تنبؤا كاملا وإن لم يكن مصقولا! دائما ما كان إيرازموس يقول إن هذا سيحدث يوما ما بالتأكيد. بالرغم من ذلك، فقد يكون لي العذر في أني لم أكتشف هذه الحقيقة في كتاب عن الأخشاب البحرية.
أرجو من أعماق قلبي أن يكلل عملك في توركي بالنجاح. أرسل أطيب تحياتي إلى فالكونر، وأرجو أن يكون بكل خير. كانت زيارة هوكر وهكسلي (مع السيدة هكسلي) مبهجة جدا. لكن عزيزي هوكر المسكين مل من كتابي للغاية، وإذا لم تكن أشد شعورا بالملل، فهذه أعجوبة ومعجزة، إذا كان ذلك ممكنا. إلى اللقاء يا عزيزي لايل.
لك خالص مودتي
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون [13 أبريل 1860]
عزيزي هوكر
غالبا ما تسفر مسائل الأسبقية عن شجارات بغيضة؛ لذا سأعتبره صنيعا جليلا منك إذا قرأت المرفق. إذا رأيت إرساله تصرفا مناسبا (وكنت متيقنا من ذلك بلا أي جدال)، وإذا رأيته كافيا وزيادة، فأرجو منك أن تغير التاريخ إلى اليوم الذي سترسله فيه بالبريد، وليكن ذلك قريبا. تبدو الحالة الواردة في دورية «ذا جاردنرز كرونيكل» أقوى «قليلا» من تلك الواردة في كتاب السيد ماثيو؛ لأن الفقرات الواردة في الكتاب متناثرة في ثلاثة مواضع؛ لكن ملاحظة ذلك لن تكون سوى إفراط في الانتباه إلى الفروق والتفاصيل البسيطة. إذا كنت معترضا على خطابي، فأرجو أن تعيده، لكني لا أتوقع أنك ستفعل ذلك، وإنما ظننت أنك لن تمانع في إلقاء نظرة سريعة عليه. عزيزي هوكر، من الرائع لي أن أحظى بصديق جيد صدوق قديم مثلك. إنني أدين كثيرا لأصدقائي بما لدي من علم.
شكرا جزيلا على محاضرة هكسلي. بدا لي الجزء الأخير فصيحا للغاية. ... تفحصت المقال النقدي في [«إدنبرة»] بإمعان مجددا، وقارنت بين الفقرات، وأنا مذهول من التحريفات. لكنني سعيد بأنني قررت عدم الرد. ربما يكون ذلك تصرفا أنانيا، لكن الرد على المقال وقضاء المزيد من الوقت للتفكير فيه مزعجان للغاية. أشعر بأسف بالغ لأن هكسلي تعرض لمثل هذا الهجوم الوحشي بسببي. لعلك لا تكترث كثيرا بالهجوم غير المبرر عليك.
ذكر لايل في خطابه أنك بدوت له كأنك منهك من الإفراط في العمل. أرجو أن تتوخى الحذر وتتذكر كم من رجال كثيرين جدا قد فعلوا ذلك، واستهانوا بالأمر حتى فوات الأوان. أنا أيضا كثيرا ما كنت أستهين به. تعرف أن صحتك كانت معتلة أصلا قبل رحلتك إلى الهند.
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون ، أبريل [1860]
عزيزي لايل
سررت جدا بتلقي رسالتك الطويلة اللطيفة من توركي. لقد منعني كم هائل من الخطابات المتتالية من إرسال رسالة إلى ويلز. شد ما سررت أيضا بمعرفة رأيك في تجاهل مقال [«إدنبرة ريفيو»] النقدي. ارتأى هوكر وهكسلي أنه من الواجب أن ألفت الانتباه إلى تغيير الاقتباسات المستشهد بها، وصحيح أنهما على صواب في هذا القول، لكني كرهت الفكرة بشدة إلى حد أنني قررت ألا أفعل ذلك. سوف آتي إلى لندن يوم السبت الموافق الرابع عشر؛ من أجل حفل السير بي برودي؛ لأن لدي كومة من الحاجات المكدسة التي أحتاج إلى قضائها في لندن، وسوف أزورك سريعا في حوالي الساعة العاشرة إلا ربعا من صباح الأحد (إذا لم أسمع منك ما يمنع ذلك)، وأقعد معك إلى الفطور، لكني لن أمكث طويلا، وبذلك لن آخذ الكثير من وقتك. يجب أن أقول ملاحظة أخرى عن الجدل شبه اللاهوتي المثار حول الانتقاء الطبيعي، ولتخبرني برأيك عندما نلتقي في لندن. هل تعتبر أن التباينات المتتالية في حجم حوصلة الحمام النفاخ، والتي راكمها الإنسان لإشباع هواه، كانت نتاج «القوى المبدعة الداعمة لدى الإله براهما؟» من منظور وجود إله قدير عليم لا بد أنه يسير كل شيء وفق أوامره ويعرف كل شيء، لن يكون ثمة مفر من الإقرار بهذا، لكني، بكل أمانة وصدق، لا أستطيع الإقرار به. فلا يبدو من المعقول لي على الإطلاق أن يهتم خالق الكون بحوصلة حمامة لا لشيء إلا لإرضاء أهواء الإنسان السخيفة. أما إذا كنت تتفق معي في رؤية أن هذا التوسط من الإله غير مبرر، فلا أرى أي سبب يدفع المرء إلى الإيمان بوجود مثل هذه التوسطات في حالة الكائنات الطبيعية، التي تنتقى فيها خصائص غريبة مثيرة للإعجاب انتقاء طبيعيا لتفيد الكائن نفسه. تخيل أن حمامة في الطبيعة تخوض في الماء، ثم تطفو إلى الأعلى بحوصلتها المنتفخة، وتبحر بحثا عن الطعام. ما الإعجاب الذي قد يثيره ذلك؟ التكيف مع قوانين الضغط الهيدروستاتيكي، وما إلى آخر ذلك . لا أستطيع إطلاقا أن أرى أي صعوبة في أن ينتج الانتقاء الطبيعي البنية الأشد إتقانا، «إذا كان من الممكن الوصول إلى مثل هذه البنية بالتدرج»، وأنا أعرف من واقع تجربتي وخبرتي مدى صعوبة تحديد أي بنية لا تعرف لها على الأقل بعض التدرجات التي أدت إليها في النهاية.
صديقك الدائم
سي داروين
ملحوظة:
الاستنتاج الذي توصلت إليه، كما أخبرت آسا جراي، هو أن مسألة كهذه التي ذكرتها بإيجاز في هذه الرسالة تفوق الفكر البشري، مثلها في ذلك مثل «القدر وحرية الإرادة» أو «أصل الشر».
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، [18 أبريل 1860]
عزيزي هوكر
أعيد خطاب ... إليك ... يقول بعض معارفي إن مقال «ذي إدنبرة ريفيو» لا «يمكن» أن يكون من تأليف ... لأن كاتبه يشيد إشادة بالغة ب... يا لهم من أعزاء بسطاء مساكين! يقول جاري الذكي، السيد نورمان، إن المقال مكتوب بأسلوب سيئ جدا، وليس له هدف واضح، ولن يقرأه أحد. لقد أرسل إلي آسا جراي مقالا نقديا
31
من الولايات المتحدة، وهو مكتوب ببراعة ومعارض لي تماما. غير أن إحدى حججه غريبة. ذلك أن مؤلف المقال يقول إنه لو كان المذهب صحيحا، لامتلأت الطبقات الجيولوجية بأنواع مشوهة لم تنجح في البقاء! هذا الكاتب يفهم الصراع على البقاء بوضوح شديد! ... أنا مسرور بأن رواية «آدم بيد» نالت إعجابك بشدة. فقد كنت مسحورا بها ...
نعتقد أنك أخذت عددي الثمين
32
من مجلة «ناشيونال ريفيو» مع أعدادك الخاصة بالخطأ. أتمنى أن تلقي نظرة لترى إن كانت لديك أم لا.
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، 25 أبريل [1860]
عزيزي جراي
يجب أن أشكرك بالطبع على نسخة المقال النقدي المنشور عن كتاب «أصل الأنواع» في مجلة «نورث أميريكان ريفيو». أراه ذكيا، وأنا متيقن من أنه سيضر بكتابي. كنت أعتزم إبداء بعض التعليقات عليه، لكن لايل كان يرغب بشدة في الاحتفاظ به، ورأسي مشوش تماما بين المقالات العديدة التي قرأتها مؤخرا. لا أشك في أن كاتب المقال مخطئ بشأن خلايا النحل، أقصد بشأن المسافة، صحيح أن أي مسافة أقصر، أو حتى أطول، ستكون مناسبة، لكن بعض المواضع حينئذ ستقع خارج نطاقات التكاثر، غير أن ذلك لا يضيف إلى الكتاب مشكلة عويصة. يتبنى كاتب المقال رأيا غريبا عن الغريزة؛ إذ يبدو أنه يعتبر الذكاء غريزة متطورة، وأنا أرى ذلك خاطئا تماما. أظنه لم يدرس موضوع الغريزة وعقول الحيوانات كثيرا من قبل، ربما قرأ عنه فحسب.
هدفي الرئيسي من هذا الخطاب هو أن أسألك عما إذا كنت تستطيع أن تشتري لي نسخة يوم الأربعاء، الموافق 28 مارس، من صحيفة «ذا نيويورك تايمز». ذلك أنها تتضمن مقالا نقديا «لافتا جدا» عن كتابي، وأرغب بشدة في الاحتفاظ بها. ما أغرب أن يظهر المقالان الأبرز لكتابي (أي مقالك وهذا المقال) في أمريكا! صحيح أن هذا المقال ليس مفيدا في الواقع، لكنه مبهر بعض الشيء. نشر مقال نقدي جيد في مجلة «ريفو دي دو موند»، بتاريخ الأول من أبريل، كتبه السيد لوجيل، الذي يقال إنه رجل شديد الذكاء.
منذ حوالي أسبوعين، مكث هوكر هنا بضعة أيام، وكان مؤنسا جدا، لكني أظنه يرهق نفسه بالإفراط في العمل. يا لها من مهمة هائلة تلك التي سيخوضها هو وبينثام في تأليف كتاب «أجناس النباتات»، حسب ما أتخيل! آمل ألا ينغمس فيها انغماسا بالغا إلى حد يعجزه عن تدبير بعض الوقت لمسألة التوزيع الجغرافي، وغير ذلك من المسائل المشابهة.
بدأت العمل بانتظام، لكن ببطء شديد كالعادة، على التفاصيل المتعلقة بالتباين تحت تأثير التدجين.
لك يا عزيزي جراي خالص تحيات صديقك الصدوق الممتن الدائم
سي داروين
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، [8 مايو 1860] ... أرسلت للحصول على دورية «كاناديان ناتشوراليست». وإذا لم أستطع الحصول على نسخة، فسأستعير نسختك. تلقيت صباح اليوم خطابا من هنزلو، الذي يقول إن سيجويك قرر في ليلة الإثنين الماضي أن يشن هجوما ضاريا علي في «جمعية كامبريدج الفلسفية». على أي حال، أتشرف جدا بأن أهاجم هناك، وفي «الجمعية الملكية» في إدنبرة.
لا أرى أي جدوى في أن يتكبد المرء عناء تفنيد حجج فردية، ولا أن يتكبد عناء مجادلة أولئك الذين لا يهتمون بما أقوله. إذا فكرت لحظة، فسيتبين لك (بناء على مذهبنا) أنه لا بد من وجود أجناس كبيرة لا تتغير (طالع الصفحة 56 بخصوص هذا الموضوع، في الطبعة الثانية من كتاب «أصل الأنواع»). مع أنني لا أناقش الحالة بالتفصيل.
ربما لا يكون هذا سوى تعصب لأفكاري، لكني لا أميل إلى تأييد فكرة وجود قارة أتلانتس، وأفضل عليها فكرتي التي تفيد بهجرة نباتات وحيوانات من العالم القديم إلى العالم الجديد، أو العكس، وذلك عبر مسار قريب من مضيق بيرينج حين كان المناخ أشد حرارة بكثير. من المهم جدا، كما تقول، رؤية أشكال حية من النباتات تعود إلى أزمنة ماضية قديمة جدا. أترانا سنتمكن على الإطلاق من اكتشاف نباتات اليابسة في حقبة الفحم، ونجدها لا تختلف كثيرا عن نباتات المستنقعات أو النباتات التي تصنع الفحم؟ أعمل عملا دءوبا على مخطوطة الحمام المباركة، لكني، لسبب أو آخر، أتقدم فيها ببطء شديد ...
تلقيت صباح اليوم خطابا من أكاديمية العلوم الطبيعية في فيلادلفيا، تعلن فيه اختياري مراسلا ... هذا يبين أن بعض علماء التاريخ الطبيعي هناك لا يرونني عالما فاسقا كما يراني الكثيرون هنا.
تقبل خالص امتناني يا عزيزي لايل
سي داروين
ملحوظة:
يا لها من حقيقة مهمة أن الإنسان استخدم قرون الأيل المنقرض!
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، [13 مايو 1860]
عزيزي هوكر
أرد إليك خطاب هنزلو، الذي سررت جدا برؤيته. يا لها من لفتة طيبة منه أن يدافع عني!
33
سأرسل إليه وأشكره.
لما قلت إنك تتحرق فضولا لمعرفة رأي تومسون،
34
أرسل إليك خطابه اللطيف. من الواضح أنه معارض قوي لنا ...
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، [15 مايو 1860] ... يا له من تصرف وضيع من رجال مثل «س» و«ص» والبقية ألا يقرءوا مقالتك. وضيع للغاية.
35
لهم جميعا أن يهاجموني كما يشاءون. فأنا قد صلبت روحي وجعلتها كالفولاذ. أما بخصوص أولئك الرجعيين المسنين في كامبريدج، فليس لذلك أي أهمية حقا. أرى هجماتهم دليلا على أن عملنا جدير بأن يؤدى. إنها تجعلني عازما على إحكام ربط درعي حول جسدي. أرى بوضوح أنها ستكون معركة ضروسا طويلة. لنتأمل، بالرغم من ذلك، التقدم الذي أحرزه لايل في الجيولوجيا. ثمة شيء واحد أراه بكل وضوح؛ وهو أنه لولا مساعدتك أنت ولايل وهوكر وكاربنتر، لكان نجاح كتابي مؤقتا قصيرا ليس إلا. أما إذا تمسكنا بمذهبنا وواصلنا الدفاع عنه، فسننتصر حتما في نهاية المطاف. أرى الآن أن المعركة جديرة بأن يخوضها المرء ويقاتل فيها باستماتة. أرجو من أعماق قلبي أن تكون متفقا معي في هذا. هل يحرز بينثام أي تقدم على الإطلاق؟ لا أعرف ماذا أقول بخصوص أكسفورد.
36
أود بشدة أن أحضره معك، لكن ذلك يعتمد على الحالة الصحية بالتأكيد ...
تقبل خالص مودتي
سي داروين
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، 18 مايو [1860]
عزيزي لايل
أرسل إليك خطابا من آسا جراي لتتبين منه مدى اشتداد المعركة هناك. وأرسل إليك أيضا خطابا آخر من والاس، إنه منصف جدا في كلامه، وإن كان يبالغ في المديح ويبالغ في التواضع، وهو بريء من الحسد والغيرة على نحو مثير للإعجاب. لا بد أنه رجل طيب. ربما أرفق خطابا من تومسون، البروفيسور في كلية «كلكتا»، وليس ذلك لأنه مهم، لكن هوكر شديد الإعجاب به ...
يبلغني هنزلو بأن سيجويك،
37
وكذلك البروفيسور كلارك
38
شنا هجوما معتادا ضاريا على كتابي في جمعية كامبريدج الفلسفية، لكن يبدو أن هنزلو دافع عني دفاعا جيدا، وأكد أن الموضوع جدير بالدراسة. ومنذ ذلك الحين، ألقى فيليبس محاضرات في كامبريدج عن الموضوع نفسه، لكنه تناوله بإنصاف شديد. ما أروع الطريقة التي يقاتل بها آسا جراي في المعركة! هذه الهجمات المتعددة لا تؤثر علي بأي شيء سوى أنها تريني أن الموضوع جدير بالقتال من أجله، وسأبذل كل ما بوسعي بالتأكيد ... آمل أن تجعلك كل هذه الهجمات تحافظ على شجاعتك؛ إذ إنك ستحتاج إلى الشجاعة بكل تأكيد ...
من تشارلز داروين إلى إيه آر والاس
داون، في 18 مايو 1860
عزيزي السيد والاس
تلقيت صباح اليوم خطابك الذي أرسلته من أمبوينا مؤرخا بتاريخ 16 فبراير، والذي تعرض فيه بعض الملاحظات وتعبر عن استحسانك المفرط لكتابي. لقد غمرني خطابك بالسعادة، وأتفق معك تماما بشأن أفضل أجزائه وأضعفها. صحيح أن قصور السجل الجيولوجي هو أضعف جزء على الإطلاق كما تقول، لكني رغم ذلك سعيد برؤية أن عدد الذين غيروا رأيهم وآمنوا بأفكاري من الجيولوجيين أكبر تقريبا من عدد الذين غيروا رأيهم من المتخصصين في الفروع الأخرى من العلوم الطبيعية ... أعتقد أن إقناع الجيولوجيين بتغيير رأيهم أسهل من إقناع علماء التاريخ الطبيعي في العموم؛ لأن الجيولوجيين أكثر اعتيادا على الاستدلال المنطقي. قبل أن أخبرك بمستجدات تقدم الآراء بخصوص الموضوع، لا بد أن أعبر لك عن مدى إعجابي البالغ بأسلوبك اللطيف في الحديث عن كتابي. أغلب الأشخاص لو كانوا في مثل مكانتك لشعروا ببعض الحسد أو الغيرة. تبدو طاهرا بكل نبل من هذا العيب الشائع لدى البشر. لكنك تتحدث عن نفسك بتواضع مبالغ فيه. لو أنك حظيت بما سنح لي من فراغ، لقدمت الموضوع بجودة لا تقل عن جودة كتابي، بل وربما أفضل ... ... أجاسي يرسل إلي رسالة مهذبة شخصية، لكنه لا يتوقف عن مهاجمتي، غير أن آسا جراي يدافع ببسالة في المعركة كالبطل. أما لايل، فلم يزل ثابتا راسخا كالبرج، وسينشر في خريف العام الحالي كتابا عن «التاريخ الجيولوجي للإنسان»، ثم سيعلن تغيير قناعاته واعتناق أفكاري، وهو ما صار معروفا للجميع الآن. أتمنى أن تكون قد تلقيت مقالة هوكر الرائعة ... تلقيت يوم أمس خطابا من لايل يقول فيه إن رجلا ألمانيا يدعى الدكتور شافهاوزن
39
أرسل إليه كتيبا نشر منذ بضع سنوات يحوي تنبؤا بالرأي نفسه تقريبا، لكني لم أر هذا الكتيب بعد. دائما ما كان أخي، الذي يتسم بحصافة بالغة، يقول: «ستجد أن شخصا ما قد سبقك إلى هذا.» أعمل على إنجاز كتابي الأكبر، الذي سأنشره في مجلد منفصل. لكني أتقدم فيه ببطء شديد بسبب المرض وأسراب الخطابات. آمل ألا أكون قد أصبتك بالملل بهذه التفاصيل. مع خالص شكري على خطابك، وأطيب الأمنيات من أعماق قلبي بأن يكون النجاح حليفك في العلم، وفي كل نواحي الحياة.
تفضل بقبول أصدق تحياتي وأطيب أمنياتي
سي داروين
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، 22 مايو 1860
عزيزي جراي
أود أن أشكرك مجددا على خطابك المبهج المؤرخ بتاريخ 7 مايو، وتضمن حوالة مالية مبهجة جدا مقدارها 22 جنيها. إنني مذهول حقا من كل العناء المحب الذي تكبدته من أجلي. أرد إليك كشف حسابات دار نشر «أبلتونس». وتحسبا لرغبتك في الحصول على إقرار رسمي بتسلم المال، أرسل إليك واحدا. إذا جرى بينك وبين دار «أبلتونس» أي تواصل آخر، فأرجو أن تعبر لهم عن خالص امتناني لكرمهم؛ لأنني أرى ذلك كرما. لست متفاجئا إطلاقا بتقلص حجم المبيعات، بل إن دهشتي الشديدة من ضخامتها. من المؤكد أن جمهور القراء قد تعرضوا للخديعة «على نحو مخز»! لقد ابتاعوا الكتاب ظنا منهم أنه سيكون سهلا لطيفا. أتوقع أن تتوقف المبيعات قريبا في إنجلترا، مع أن لايل أرسل إلي قبل بضعة أيام قائلا إنه زار موراي وعرف أن خمسين نسخة قد بيعت في الساعات الثماني والأربعين الماضية. يسرني للغاية أنك ستعلق في دورية «سيليمان» على الإضافات الواردة في كتاب «أصل الأنواع». استنادا إلى الخطابات (وقد رأيت للتو واحدا من ثويتس إلى هوكر)، وإلى التعليقات، فإن أهم النقاط التي غفلت عن ذكرها في كتابي، وأخطرها حسبما أعتقد، هي عدم شرح كيف أن الأشكال لا تتطور كلها بالضرورة، وكيف يمكن أن تظل كائنات «بسيطة» موجودة حتى الآن ... سمعت أن ثمة مقالا نقديا لاذعا «جدا» عني في دورية «نورث بريتيش ريفيو» من تأليف رجل يدعى المبجل السيد «دنس»
40
عضو في الكنيسة الاسكتلندية الحرة، وهاو في مجال التاريخ الطبيعي. سأسعد جدا برؤية أي مقالات نقدية أمريكية جيدة؛ لأنها كلها مفيدة نوعا ما. تقول إنك ستتحدث بإيجاز عن مقالات نقدية أخرى. هكسلي أيضا أخبرني منذ مدة بأنه سيكتب مقالا نقديا عن كل المقالات النقدية بعد فترة ما، لا أعرف ما إذا كان سيفعل ذلك أم لا. إذا ألمحت إلى مقال دورية «ذي إدنبرة ريفيو »، فأرجو أن تذكر «بعض » النقاط التي سأشير إليها في قصاصة منفصلة. في عدد يوم الخامس من مايو من مجلة «ساترداي ريفيو» (إحدى أبرع دورياتنا)، يوجد في الصفحة 573 مقال جيد عن المقال النقدي الوارد في دورية [«ذي إدنبرة ريفيو»] يدافع عن هكسلي، لكنه لا يدافع عن هوكر، الذي أظن أن ناقد [دورية «إدنبرة»] يعامله بفظاظة شديدة.
41
لكن المؤكد أنك ستمل للغاية مني ومن نقادي.
سأتطرق الآن إلى مناقشة الرأي اللاهوتي في المسألة. دائما ما كان هذا موجعا لي. إنني في حيرة من أمري. لم تكن لدي أي نية لأن أقدم نظرة إلحادية. لكني أعترف بأنني لا أستطيع أن أرى، كما يرى الآخرون، وكما كنت أتمنى أن أرى أنا أيضا، دليلا واضحا على وجود التصميم والإحسان من حولنا في جميع الجوانب. وإنما يبدو لي أن العالم مليء بكم هائل من الشقاء. لا أستطيع إقناع نفسي بأن ربا خيرا كلي القدرة كان سيصمم النمسيات ويخلقها مزودة بالرغبة الصريحة في أن تتغذى داخل أجساد اليساريع الحية، أو أن يجبل القط على اللعب بالفئران. ولما كنت لا أصدق ذلك، فلست أرى ضرورة للإيمان بأن العين قد صممت خصوصا لغرض معين. ومن ناحية أخرى، لا أستطيع بأي حال من الأحوال أن أرضى بالنظر إلى هذا الكون البديع، ولا سيما طبيعة الإنسان، واستنتاج أن كل شيء قد نتج من قوة غاشمة. أميل إلى رؤية أن كل شيء قد نتج من قوانين مصممة، وأن التفاصيل، سواء أكانت جيدة أم سيئة، تسير وفق مقادير ما يجوز لنا أن نسميه الصدفة. هذا لا يعني أنني قانع «تماما» بتلك الفكرة. إذ يراودني شعور عميق بأن الموضوع كله أعمق من أن يفهمه العقل البشري. إن كان للإنسان أن يدرك كنه هذا الموضوع؛ فللكلب أيضا أن يطرح نظريات عن عقل نيوتن. ليرجو كل إنسان ما يطيق، وليؤمن بما يطيق. أتفق معك بالتأكيد في أن آرائي ليست إلحادية إطلاقا بالضرورة. إن البرق يقتل الإنسان، سواء أكان صالحا أم طالحا؛ بسبب عمل قوانين الطبيعة على نحو شديد التعقيد. والطفل (الذي قد يصير أبله) يولد بفعل قوانين أشد تعقيدا، ولا أستطيع أن أرى سببا يمنع احتمالية أن يكون الإنسان، أو أي حيوان آخر، قد نشأ في الأصل بفعل قوانين أخرى، وأن تكون كل هذه القوانين قد صممت عمدا بقدرة خالق عليم توقع كل ما سيحمله المستقبل من أحداث ونتائج. لكني كلما فكرت، اشتدت حيرتي، كما اتضح ذلك بالفعل في هذا الخطاب على الأرجح.
أقدر مدى عمق لطفك واهتمامك البالغين.
تقبل خالص تحياتي ومودتي
تشارلز داروين [فيما يلي انتقادات والدي بخصوص مقال مجلة «إدنبرة ريفيو»]:
يا له من تصرف مراوغ منه أن يتظاهر بأنه لم يفهم ما قصدته ب «مستوطني» أمريكا الجنوبية! قد يظن أي شخص أنني لم أتطرق في مجلدي كله إلى مسألة التوزيع الجغرافي. ثم إنه يتجاهل كل ما قلته عن التصنيف، والتعاقب الجيولوجي، وأمثلة التنادد وعلم الأجنة والأعضاء الأثرية (الصفحة 496).
يخطئ الكاتب أيضا في قوله إن ما ذكرته (بوقاحة مبالغ فيها) عن «عمى الآراء المسبقة» ينطبق على المؤمنين بفكرة الخلق، في حين أنني لم أقصد به إلا من يرفضون فكرة وجود عدد كبير من الأنواع الحقيقية، لكنهم يؤمنون بالباقي (الصفحة 500).
إنه يغير كلامي قليلا؛ فأنا «أسأل» عما إذا كان المؤمنون بفكرة الخلق يعتقدون حقا أن ذرات العناصر قد انبثقت في الحياة فجأة. لكنه يقول إنني أصفهم بأنهم يعتقدون ذلك بالفعل، وهذا مختلف عن ذاك بالتأكيد (الصفحة 501).
إنه يتحدث عن أنني «أندد» بجميع المؤمنين بفكرة الخلق، وأنا أرى في هذا اتهاما جائرا (الصفحة 501).
يجعلني أبدو وكأنني أقول عن الفقرات الظهرية إنها متباينة، هذا خطأ تماما؛ فأنا لا أذكر في الكتاب بأكمله كلمة واحدة عن الفقرات الظهرية (الصفحة 522).
يا لها من جملة متعصبة تلك التي تقول إنني أتظاهر بالصراحة، وإنني أتعجل في الاندفاع عبر الحواجز التي أوقفت كوفييه! حجة كهذه قد توقف أي تقدم في العلم (الصفحة 525).
يا له من تصرف مخادع أن يقتبس جزءا من تعليقي لك على خطابي «الموجز» [المنشور في دورية «جورنال أوف ذا بروسيدينجز أوف ذا لينيان سوسايتي»]، وكأنه ينطبق على الموضوع كله (الصفحة 530).
كم هو تصرف مخادع أيضا أن يقول إننا مطالبون بقبول النظرية، بناء على قصور السجل الجيولوجي! في حين أنني [أذكر] مرارا وتكرارا مدى خطورة المشكلة التي يشكلها هذا القصور (الصفحة 530).»]
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 30 مايو [1860]
عزيزي هوكر
أرد إليك خطاب هارفي، وقد سررت جدا بمعرفة السبب الذي جعله لا يقرأ مقالك. كنت أخشى أن يكون التعصب هو السبب، ويسعدني أني أراه يتفق معنا قليلا (وبدرجة أكبر كثيرا مما كنت أعتقد) ...
لم أندم على الفرصة الطبيعية التي سنحت لي في كتابة خطاب إلى هارفي، لأريه فقط أنني لم أنزعج من تحويله إياي وكتابي إلى موضع سخرية،
42
وهذا لا يعني أن ذلك كان تصرفا أستحقه أو تصرفا لائقا به. يسعدني اهتمامك بمتابعة تقدم الآراء بشأن مسألة تغير الأنواع؛ إذ كنت أخشى أن تكون قد مللت من الموضوع، ولذا لم أرسل خطابات إيه جراي. الحق أن المعركة تحتدم في الولايات المتحدة. يقول جراي إنه كان يعد لخطاب سيستغرق إلقاؤه ساعة ونصفا، «وكله أمل بأن يكون باهرا مذهلا». إنه يقاتل ببسالة رائعة، ويبدو أنه خاض مناقشات عديدة مع أجاسي وآخرين في الاجتماعات. أجاسي يشفق علي بشدة إذ يراني في ضلال. أما بخصوص تقدم الآراء، فأرى بوضوح أنه سيكون بطيئا للغاية، بدرجة تكاد تضاهي بطء تغير الأنواع ... يعتريني السأم من عاصفة المقالات النقدية العدائية التي لا تحمل أي فائدة تقريبا ...
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، مساء الجمعة [1 يونيو 1860]
هل اطلعت على مقالة هوبكنز في العدد الجديد من مجلة «فريزر»؟ أظن أن جمهور القراء سيجدها ثقيلة. سيكون معارضا تماما لي، كما تنبأت، لكنه في العموم مهذب في تعامله معي على المستوى الشخصي. وفقا لمعيار البرهان الذي يؤمن به، لن يتقدم العلم «الطبيعي» أبدا؛ فأنا مقتنع تماما بأنه من دون وضع النظريات، لن توجد عمليات رصد وملاحظة. ... بدأت في قراءة مقال دورية «نورث بريتيش»،
43
وأراه بارعا حتى الآن.
ستنشر المحاضرة التي ألقاها فيليبس في كامبريدج.
ستحدث كل هذه الهجمات المتكررة تأثيرا جسيما؛ فلن يغير المزيد من الأشخاص قناعاتهم ولن يعتنقوا الفكرة الجديدة، بل ربما سيرتد البعض. آمل ألا تصاب بالإحباط؛ فأنا عازم على القتال حتى النهاية. وبالرغم من ذلك، سمعت أن باكل العظيم يستحسن كتابي بشدة.
تلقيت رسالة من بلايث المسكين، الذي يعمل في كلكتا، والذي أصيب بخيبة أمل كبيرة عندما سمع أن اللورد كانينج لن يمنح أي أموال؛ لذا أخاف بشدة أن تذهب كل جهودك المضنية سدى. يقول بلايث (وهو خبير بارع جدا من عدة جوانب) إن أفكاره عن الأنواع تغيرت جذريا ...
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 5 يونيو [1860]
عزيزي هوكر
أجد سرورا كبيرا في كتابة الخطابات إليك؛ إذ ليس لدي من أتحدث إليه عن مثل هذه المسائل التي نتراسل بشأنها. لكني أتوسل إليك بكل جدية ألا تراسلني إلا إذا كنت راغبا في ذلك؛ لأن حال كل منا مختلفة تماما عن حال الآخر؛ فأنت شديد الانشغال وتلتقي بأناس كثيرين ...
هل رأيت المقال المسيء الذي كتبه ... عني؟ ... إنه يتفوق حتى على مقال «نورث بريتيش» ومقال «إدنبرة» في سوء الفهم والتحريف. لم أشهد في حياتي ما هو أكثر جورا مما فعله في مناقشة مسألة خلايا النحل حين تجاهل حالة نحل ميليبونا، الذي يبني أقراص عسل تكاد تكون وسيطة بالضبط بين ما يبنيه نحل الخليات وما يبنيه النحل الطنان. ما الذي فعله ... حتى يشعر بأنه أفضل للغاية منا كلنا، نحن علماء التاريخ الطبيعي الحقراء وكل الاقتصاديين السياسيين، بمن فيهم ذاك الفيلسوف العظيم مالتوس؟ ومع ذلك، فهذا المقال النقدي وخطاب هارفي أقنعاني بأني شارح سيئ جدا بكل تأكيد. فلا هذا ولا ذلك يفهم حقيقة ما قصدته بالانتقاء الطبيعي. أميل إلى التخلي عن المحاولة لأنني أراها ميئوسا منها. يبدو أن أولئك الذين لا يفهمون لا يمكن إفهامهم.
بالمناسبة، أظن أننا نتفق تماما، باستثناء أنني ربما أستخدم مصطلحات أقوى من اللازم في حديثي عن الانتقاء. أتفق معك تماما، بل أكاد أذهب إلى حد أبعد مما تذهب إليه عندما قلت إن المناخ (أي القابلية للتباين بسبب كل الأسباب المجهولة) «وصيفة نشطة تؤثر في سيدتها تأثيرا مهما للغاية.» الواقع أنني لم ألمح قط إلى أن الانتقاء الطبيعي هو «السبب الفعال الغالب إلى حد يقصي السبب الآخر»؛ أي القابلية للتباين بسبب المناخ، وغير ذلك. فمصطلح «الانتقاء» نفسه يشير ضمنيا إلى أن شيئا ما؛ أي التباين أو الاختلاف، ينتقى ...
ما هي حال تقدم كتابك (أعني مجلدك العام عن النباتات)، أرجو من الرب أن تكون أنجح مني في جعل الناس يفهمون مقصدك. ربما ينبغي أن أبدأ في رؤية أنني مخطئ تماما، وأنني كنت أحمق تماما، لكني على أي حال لا أستطيع إقناع نفسي حتى الآن بأنك أنت ولايل وهكسلي وكاربنتر وآسا جراي وواطسون، والبقية، كلكم حمقى معا. حسنا، الزمن وحده هو ما سيبين الحقيقة. إلى اللقاء ...
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، 6 يونيو [1860] ... عزائي أن ... يسخر من مالتوس؛ لأن ذلك يوضح أنه، وإن كان عالم رياضيات، لا يستطيع فهم الاستدلال المنطقي الشائع. بالمناسبة، ما حدث مع مالتوس مثال محبط جدا على كيفية تحريف أوضح الحجج وإساءة فهمها على مر سنوات طويلة. لقد قرأت مقال دورية «فيوتشر»، ما أغرب أن يطرح العديد من نقادي حججا لا تستند إلى استدلال منطقي سليم كتلك القائلة إن ضروب الكلاب والقطط لا تمتزج، وأن يطرحوا العقيدة المدحوضة القديمة القائلة بالتشابهات المحددة ... لقد بدأ اليأس يراودني ويشعرني بأنني لن أنجح أبدا في جعل أغلب الناس يفهمون أفكاري. حتى هوبكنز لا يفهمها فهما تاما. بالمناسبة، سررت جدا أنه أشار إلي بنفسه. لا بد أنني شارح سيئ جدا. أرجو من الرب أن تحقق نجاحا أفضل. لقد بينت لي مقالات نقدية عديدة وخطابات عديدة، بوضوح صارخ، مدى قلة ما فهم من مقصدي. أظن أن «الانتقاء الطبيعي» كان مصطلحا سيئا، لكني أرى أن تغييره الآن سيفاقم الالتباس، ثم إنني لا أرى مصطلحا أفضل؛ فمصطلح «الحفاظ الطبيعي» لن يعني الحفاظ على ضروب معينة، وسيبدو شيئا بديهيا، ولن يضع انتقاء الإنسان وانتقاء الطبيعة ضمن منظور واحد. لا يسعني إلا أن أرجو أن أجعل المسألة أوضح في النهاية بالتفسيرات المتكررة. إذا تشعبت مخطوطتي، فأعتقد أنني سأنشر مجلدا واحدا يقتصر على مناقشة مسألة تباين الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين. أريد أن أوضح أنني لست متسرعا جدا كما يظنني الكثيرون.
مع أنني سئمت للغاية من المقالات النقدية، أود أن أطالع مقال لويل
44
يوما ما ... أظن أن الصعوبة التي يواجهها لويل في فهم مسألة الغريزة هي نفسها الصعوبة التي يواجهها بوين، لكن يبدو لي أنها برمتها قائمة على افتراض أن الغرائز لا يمكن أن تتدرج تدرجا دقيقا بنفس درجة تدرج البنى. ذكرت في مجلدي استحالة معرفة أيهما؛ الغريزة أم البنية، يتغير أولا بتدرجات طفيفة غير ملحوظة. ربما تكون الغريزة أحيانا، وربما البنية في أحيان أخرى. فعندما تتغذى حشرة بريطانية على نبات أجنبي، تتغير الغريزة بتدرجات طفيفة جدا، وربما تتغير بنيتها لتستفيد استفادة كاملة من الغذاء الجديد. أو ربما قد تتغير البنية أولا، مثل تغير اتجاه الأنياب في أحد ضروب الأفيال الهندية، مما يجعله يهاجم النمر بطريقة مختلفة عن أنواع الأفيال الأخرى. شكرا على خطابك الذي أرسلته في اليوم الثاني من الشهر، والذي كان معظمه عن موراي. (ملحوظة: يذكر لي هارفي، من دبلن، في أحد الخطابات حجة زواج رجال طوال القامة بنساء قصيرات، باعتبارها ذات قيمة كبيرة!)
لا أفهم تماما ما قصدته بقولك «إنهم كلما أثبتوا أنك تستهين بأهمية الظروف الطبيعية، كان ذلك أفضل لك؛ لأن الجيولوجيا تهب لإنقاذك.»
ثمة مغالطة واحدة مستمرة لدى موراي وكثيرين آخرين عند التلميح إلى اختلافات طفيفة في الظروف الطبيعية أرى أنها مهمة جدا؛ ألا وهي إغفال أن الأنواع كلها، باستثناء الأنواع المحلية جدا، تمتد على مساحة كبيرة، ورغم أنها معرضة لما يسميه العالم «تنوعات» كبيرة، تظل ثابتة على حالها. وقد اكتفيت بالتلميح إلى ذلك في كتاب «أصل الأنواع» في المقارنة بين كائنات العالمين القديم والجديد. إلى اللقاء. هل ستكون موجودا في أكسفورد؟ إذا تحسنت صحة إتش، فربما سأذهب إلى هناك.
تفضل بقبول خالص مودتي
سي داروين
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، [14 يونيو 1860] ... مقال لويل
45
مكتوب بأسلوب ممتع، لكن من الواضح أنه ليس عالما متخصصا في التاريخ الطبيعي. ذلك أنه يغفل إلى حد كبير أهمية تراكم الفروق الفردية وحدها، وأظنني أستطيع إثبات أن ذلك التراكم كان العامل المهم في التغيير تحت تأثير التدجين. لم أنته من قراءة مقال شافهاوزن لأنني سيئ جدا في قراءة الألمانية. طلبت نسخة لنفسي، وأود الاحتفاظ بنسختك ريثما تصل نسختي، لكني سأردها إليك فورا إن شئت. إنه يتسرع بعض التسرع في الاعتراف بصحة الادعاءات، مثلي على ما أظن. لم أر حتى الآن سوى جملة واحدة تقترب من فكرة الانتقاء الطبيعي بدرجة ضئيلة جدا.
ورد نقد قصير عني في العدد قبل الأخير من مجلة «أول ذا يير راوند»، لكنه لا يستحق استشارتك بشأنه؛ فمعظمه إعادة صياغة متقنة لكلامي. أثارت رسالتك الأخيرة اهتمامي بشدة وخففت عني كثيرا.
لقد ذكرت بصراحة أنني أعتقد أن تأثير الظروف الطبيعية المباشر في النباتات أكبر من تأثيرها المباشر في الحيوانات. لكني كلما أمعنت في الدراسة، دفعت إلى اعتقاد أن الانتقاء الطبيعي ينظم، في الحالة الطبيعية، فروقا ضئيلة جدا. فكما أن الحجر المربع أو الطوب أو الخشب مواد لا غنى عنها في تشييد أي مبنى، وتؤثر في طابعه، فإن القابلية للتباين أيضا لا غنى عنها، وتمثل قوة مؤثرة. وعلى الرغم من ذلك، فمثلما يعد المهندس المعماري «أهم» شخص في تشييد المباني، فإن الانتقاء هو الأهم أيضا في بناء الأجساد العضوية ... [يشتهر اجتماع الجمعية البريطانية في أكسفورد في عام 1860 بمعركتين محتدمتين بشأن كتاب «أصل الأنواع». بدأت كلتاهما في أوراق بحثية غير مهمة. ففي يوم الخميس الموافق 28 يونيو، عرض الدكتور دوبيني من أكسفورد أمام القسم «دي» بحثا بعنوان: «عن العلل الغائية لنشاط النباتات الجنسي، مع إشارة خاصة إلى كتاب السيد داروين عن «أصل الأنواع»». استدعى الرئيس السيد هكسلي، لكن هذا الأخير حاول (وفقا لتقرير دورية «ذا أثنيام») تجنب أي نقاش، بداعي أن «نقاشا كهذا ينبغي ألا يطرح أمام جمهور عام تختلط فيه المشاعر بالفكر اختلاطا أشد مما ينبغي». رغم ذلك، لم يسمح بعدم مناقشة الموضوع. ذلك أن السير آر أوين (أقتبس هنا من عدد يوليو 1860 من دورية «ذا أثنيام».) الذي «أراد التعامل مع الموضوع بروح الفيلسوف» عبر عن «قناعته بوجود حقائق يستطيع الجمهور بها أن يتوصل إلى استنتاج ما بشأن احتمالات صحة نظرية السيد داروين». وأضاف قائلا إن دماغ الغوريلا «عند مقارنته بدماغ الإنسان، يتسم باختلافات أكثر من تلك التي تظهر عند مقارنته بأدمغة ذوات الأيادي الأربع الأدنى رتبة، والتي تمثل معضلة أكبر.» رد السيد هكسلي وأنكر هذه الادعاءات «إنكارا مباشرا مطلقا» آخذا عهدا على نفسه بأن «يبرر هذا الإجراء غير المعتاد في كل مكان»
46
وقد أوفى بهذا العهد وزيادة.
47
حل سلام يوم الجمعة، لكن في يوم السبت الموافق الثلاثين من الشهر، نشبت المعركة بضراوة مضاعفة بسبب ورقة بحثية كتبها الدكتور درابر، من نيويورك، عن «دراسة التطور الفكري لأوروبا من حيث علاقته بآراء السيد داروين».
الرواية التالية مأخوذة عن شاهد عيان على المشهد. «كانت الإثارة بالغة. اتضح أن قاعة المحاضرات التي كان من المقرر إجراء النقاش فيها أصغر حجما من أن تستوعب الجمهور الغفير، ونقل الاجتماع إلى مكتبة المتحف، التي كانت مكتظة عن آخرها قبل وقت طويل من دخول الأبطال ساحة النزال. قدرت أعداد الجمهور بما يتراوح بين 700 فرد و1000 فرد. ولو أن هذا النقاش قد عقد في وقت الدراسة الجامعية، أو سمح فيه بحضور عامة الناس، لكان من المستحيل استيعاب تدفق الحاضرين القادمين لسماع خطبة الأسقف الجريء. تولى البروفيسور هنزلو، الذي كان رئيس القسم «دي»، رئاسة الاجتماع، وأعلن بكل حكمة في «بداية الجلسة» أنه لن يسمح لأي شخص ليس لديه حجج سليمة يطرحها في تأييد أحد الجانبين أو الجانب الآخر بأن يخاطب جموع الحاضرين، وتبين أن هذا التحذير كان ضروريا لأن هنزلو قد منع ما لا يقل عن أربعة مقاتلين من استكمال خطاباتهم بسبب غموض كلامهم.
حضر الأسقف في الوقت المحدد ، وتحدث طوال نصف ساعة كاملة بحماسة لا تضاهى، وكلام فارغ وظلم لا مثيل لهما. بدا واضحا من تناوله للموضوع أنه كان «حانقا» للغاية، وأنه لا يعرف أي شيء عن الموضوع بصورة مباشرة؛ فالواقع أن جميع الحجج التي استخدمها كانت مما ورد في مقاله في دورية «كورترلي». سخر من داروين بشدة، ومن هكسلي بضراوة، لكنه فعل ذلك كله بنبرة عذبة جدا، وأسلوب شديد الإقناع، مستخدما في ذلك عبارات تامة حسنة الصياغة، إلى حد أنني، أنا الذي كنت أميل إلى لوم الرئيس على السماح بإجراء نقاش لا يمكن أن يخدم أي غرض علمي، صرت الآن أسامحه من أعماق قلبي. ومع الأسف؛ فالأسقف الذي كان يتحدث بوتيرة سريعة مدفوعا بتدفق نهر فصاحته، نسي نفسه تماما لدرجة أن محاولاته في نيل الأفضلية كادت أن تصل إلى درجة الشخصنة، وذلك حين أدلى بفقرة كاشفة استدار فيها نحو هكسلي مخاطبا إياه؛ نسيت ما قاله بالتحديد؛ لذا سأقتبس من كلام لايل. «سأل الأسقف عما إذا كانت لهكسلي صلة قرابة بأحد القردة عبر فرع جده أو فرع جدته.»
48
رد هكسلي على الحجة العلمية لخصمه بقوة وفصاحة، وعلى تلميحه الشخصي بشيء من ضبط النفس، مما أضفى المهابة على رده السريع المفحم.»
جرى تداول خطبة هكسلي بروايات متعددة، وهذه الرواية التالية لما قاله في ختام خطبته مأخوذة من رسالة أرسلها الراحل جون ريتشارد جرين، الذي كان آنذاك طالبا جامعيا، إلى زميله الطالب بويد دوكينز، الذي صار الآن أستاذا جامعيا. «لقد أكدت أنه لا يوجد سبب يدفع أي إنسان إلى الخجل من أن يكون جده قردا، وها أنا ذا أكرر قولي هذا. إذا كان ثمة سلف سأشعر بالخجل عند تذكره، فسيكون «إنسانا»، إنسانا ذا فكر مضطرب متقلب لم يقنع بنجاحه المشكوك فيه في مجال نشاطه الخاص،
49
فيندفع مقحما نفسه في مسائل علمية ليست لديه أي دراية حقيقية بها، لا لشيء إلا ليحجب تلك المسائل بخطابة لا هدف منها، ويشتت انتباه المستمعين إليه عن النقطة الرئيسية محل الخلاف بانحرافات فصيحة عن الموضوع ، ومحاولات إقناع الناس باستجداء التحيز الديني ببراعة.»
يتبع الخطاب المقتبس أعلاه على النحو التالي: «كانت الإثارة آنذاك في ذروتها؛ إذ تعرضت سيدة للإغماء، ووجب حملها إلى الخارج، ثم استؤنف النقاش بعد وقت قليل. تعالت بعض الأصوات منادية هوكر، وبعدما مرر اسمه إلى منصة الرئيس، دعاه الرئيس إلى الإدلاء برأيه في النظرية من الناحية المتعلقة بعلم النبات. وقد فعل ذلك موضحا أن الأسقف، بناء على ما ذكره أمام الحاضرين بلسانه، لم يفهم مبادئ كتاب «أصل الأنواع»
50
على الإطلاق، وأنه كان جاهلا تماما بعناصر علم النبات. لم يرد الأسقف، وانفض الاجتماع.
شهد مساء ذلك اليوم جلسة نقاشية أدبية مزدحمة في غرف أستاذ علم النباتات المضياف الودود، الدكتور دوبيني؛ حيث كان الموضوع الوحيد تقريبا هو المعركة المثارة حول كتاب «أصل الأنواع»، وقد بهرت جدا بالطريقة المنصفة غير المتحيزة التي ناقش بها أساتذة أكسفورد ذوو المعاطف السوداء ورابطات العنق البيضاء المسألة، والصراحة التي قدموا بها تهنئتهم للمنتصرين في المعركة.»]
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
سودبروك بارك، مساء الإثنين [2 يوليو 1860]
عزيزي هوكر
تلقيت خطابك للتو. عندما وصل خطابك، لم أكن بخير بسبب إصابتي بصداع شديد شبه مستمر طوال ثمان وأربعين ساعة، وانخفاض معنوياتي، وتفكيري في أنني عبء عديم الجدوى على نفسي وعلى الآخرين، لكن خطابك أبهجني جدا؛ فلطفك ومحبتك جعلا عيني تغرورقان بالدموع. ما أهون الشهرة والشرف والسرور والثروة؛ فكلها أشياء وضيعة لا قيمة لها إذا ما قورنت بالمحبة، وهذا مبدأ أعرف، من خطابك، أنك ستتفق معه من صميم قلبك ... كم كنت سأتمنى أن أتجول معك في أنحاء أكسفورد، لو كنت بصحة جيدة، وكم كنت سأتمنى بشدة أكبر بكثير أن أسمعك تنتصر على الأسقف! أنا مذهول من نجاحك وجرأتك. لا أستطيع أن أفهم قدرة الأشخاص على الجدال أمام جمهور كالخطباء المفوهين. لم أكن أعرف أن لديك هذه القدرة. قرأت في الآونة الأخيرة كما هائلا من الآراء المعادية إلى حد أنني بدأت أظن أنني ربما كنت مخطئا تماما، وأن ... كان محقا عندما قال إن الموضوع برمته سيصبح طي النسيان في غضون عشر سنوات، لكنني وقد عرفت الآن أنك أنت وهكسلي ستقاتلان علانية (وهو شيء أنا متيقن من أنني لن أستطيع فعله أبدا) صرت مؤمنا تماما بأن قضيتنا ستنتصر على المدى البعيد. يسرني أنني لم أكن في أكسفورد؛ لأنني كنت سأهزم هزيمة نكراء، في ظل حالتي [الصحية] الحالية.
من تشارلز داروين إلى تي إتش هكسلي
سودبروك بارك، ريتشموند،
3 يوليو [1860] ... تلقيت خطابا من أكسفورد، كتبه هوكر في وقت متأخر من مساء الأحد، يخبرني فيه بالمعارك الرهيبة التي نشبت حول مسألة الأنواع في أكسفورد. يقول لي إنك قاتلت بشرف مع أوين (لكني لم أعرف أي تفاصيل)، وإنك رددت على أسقف أكسفورد بكل براعة. أفكر في كثير من الأحيان أن أصدقائي (وأنت بالذات بقدر أكبر بكثير من الآخرين) لديهم سبب وجيه ليكرهوني؛ لأنني حركت الوحل الراكد، وأوقعتهم في عناء بغيض جدا. لو كنت صديقا لنفسي، لكرهت نفسي. (وليست لدي أي فكرة عن كيفية كتابة هذه الجملة بلغة إنجليزية سليمة.) لكن تذكر أنني لو لم أكن قد حركت هذا الوحل الراكد، فمن المؤكد أن شخصا ما كان سيفعل ذلك في وقت قريب. لشد ما أحترم جرأتك؛ فلو كنت مكانك لمت فور محاولتي الرد على الأسقف وسط تجمع كهذا ... [في 20 يوليو، كتب والدي إلى السيد هكسلي يقول: «بناء على كل ما أسمعه من عدة أشخاص، يبدو أن أكسفورد قدمت لهذا الموضوع فائدة جليلة. فمن المهم جدا أن يعرف العالم أن بضعة رجال أفاضل لا يخشون التعبير عن آرائهم.»]
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر [يوليو 1860] ... قرأت للتو مقال «كورترلي». إنه ذكي للغاية؛ إذ ينتقي بكل مهارة الأجزاء الأكثر اعتمادا على التخمين، ويطرح كل المشكلات طرحا جيدا. يسخر مني ببراعة من خلال استشهاده بهجوم صحيفة «أنتي-جيكوبن» على جدي. لم يلمح كاتب المقال إليك، ولا إلى هكسلي، وهو أمر غريب للغاية، وأستطيع أن أرى بوضوح في مواضع متفرقة إسهام ... في كتابته. ستصيب الصفحات الختامية لايل بالخوف والقلق. يا إلهي، سيكون بطلا حقيقيا إذا انحاز إلى صفنا! طابت ليلتك. صديقك المحب الذي سخر منه بشدة، لكنه ليس حزينا.
سي دي
أستطيع أن أرى وجود تلاعب غريب في المقال النقدي؛ لأن إحدى الصفحات قد قصت وأعيدت طباعتها. [في كتابة أحد الخطابات في 22 يوليو إلى الدكتور آسا جراي، يشير والدي إلى موقف لايل: «بالنظر إلى عمره وآرائه السابقة ومكانته في المجتمع، أعتقد أن سلوكه إزاء هذا الموضوع كان بطوليا.»]
من تشارلز داروين إلى آسا جراي [هارتفيلد، ساسكس] 22 يوليو [1860]
عزيزي جراي
بسبب غيابي عن المنزل من أجل تلقي العلاج المائي، ثم اضطراري إلى نقل فتاتي المريضة إلى حيث أكتب هذا الخطاب الآن، لم أقرأ النقاش الوارد في دورية «بروسيدينجز أوف أميريكان أكاديمي»
51
إلا مؤخرا ولا أستطيع الآن مقاومة التعبير عن إعجابي الصادق بقدراتك الجلية جدا على الاستدلال المنطقي. ومثلما قال هوكر مؤخرا في رسالة إلي، أنت الخبير المطلق الأكثر إلماما من «أي أحد» آخر بهذا الموضوع. أقر بأنك تعرف كتابي قدر ما أعرفه أنا شخصيا، وتضيف إلى المسألة تنويعات جديدة من التوضيحات والحجج بطريقة تثير دهشتي وتكاد تثير حسدي! أظن أن إعجابي بهذه النقاشات يفوق إعجابي بمقالتك في دورية «سيليمان». من الجلي أن كل كلمة مدروسة بإمعان، ولها تأثير يضاهي تأثير قذيفة وزنها 32 رطلا. هذا يجعلني أرغب بشدة (لكني أعلم أنه ليس لديك وقت) في أن تكتب مزيدا من التفاصيل، وتذكر، على سبيل المثال، الحقائق المتعلقة بتنوع الثمار البرية الأمريكية. دورية «ذا أثنيام» هي الأكثر تداولا، وقد أرسلت نسختي إلى المحرر طالبا منه أن يعيد نشر المناقشة الأولى، أخشى بشدة ألا يفعل ذلك؛ لأنه نقد الموضوع بروح معادية جدا ... أتحرق فضولا للاطلاع على عدد أغسطس، و«سوف» أطلبه، حالما أعرف أنه يتضمن مقالك النقدي عن المقالات النقدية. أرى أنك أخطأت بأن أصبحت عالم نباتات؛ إذ كان يجب عليك أن تكون محاميا. ... هنزلو ودوبيني متزعزعان. سمعت من هوكر أنه سمع من هوخشتر أن آرائي تحقق تقدما كبيرا في ألمانيا، وأن بعض العلماء والباحثين الجيدين يناقشون المسألة. أضاف برون في نهاية ترجمته فصلا من الانتقادات، لكنه مكتوب بلغة ألمانية صعبة جدا إلى حد أنني لم أقرأه بعد. يظن أن مقال هوبكنز في «فريزر» هو أفضل ما ظهر من المقالات المعارضة لنا. أعتقد أن هوبكنز يعارض بشدة بالغة؛ لأن مسار دراسته لم يدفعه قط إلى التفكير مليا في موضوعات مثل التوزيع الجغرافي والتصنيف وأشكال التنادد، وما إلى ذلك؛ لذا فإن معرفته بوجود تفسير ما لا تشعره بالارتياح.
من تشارلز داروين إلى سي لايل
هارتفيلد [ساسكس]، 30 يوليو [1860] ... تلقيت الكثير من الخطابات المبهجة عن الجمعية البريطانية، ويبدو أن صفنا يحقق نجاحا جيدا جدا. يشهد الجانب الآخر من المحيط الأطلنطي الكثير من النقاشات بقدر ما يشهده هذا الجانب. أعتقد أن أحدا لا يفهم القضية برمتها أفضل من آسا جراي، وهو يقاتل بشرف. إنه ممتاز في الاستدلال المنطقي. لقد أرسلت إحدى مناقشاته المطبوعة إلى دورية «ذا أثنيام» البريطانية، والمحرر يقول إنه سينشرها. صدر مقال دورية «كورترلي» منذ مدة. إنه خال من الضغينة، وهذا شيء رائع ... يجعلني أبدو وكأنني أقول أشياء كثيرة لم أقلها بالفعل. وفي النهاية، يقتبس كل استنتاجاتك ضد لامارك، ويناشدك بكل جدية أن تظل مستمسكا بالعقيدة الصحيحة. أتصور أنه سيجعلك قلقا قليلا. يحرض ... عليك الأسقف (مع موركيسون) بدهاء شديد باعتبارك قائد مذهب الاتساقية. المقال النقدي الآخر الوحيد الجدير بالذكر، على حد ما أتذكر، وارد في العدد الثالث من مجلة «لندن ريفيو»، كتبه جيولوجي ما، والغريب أنه يستحسن الكتاب. لقد كتب ببراعة شديدة، وأرغب بشدة في معرفة هوية مؤلفه. أتلهف لأن أعرف، عند عودتك، ما إذا كانت ترجمة برون الألمانية لكتاب «أصل الأنواع» قد لفتت أي انتباه إلى الموضوع أم لا. هكسلي متلهف لمقال في دورية «ناتشورال هيستوري ريفيو» سيحرره مع آخرين، ولديه عدد هائل من المساعدين الممتازين؛ ولهذا أعتقد حقا أنه سيجعله منتجا ممتازا. لا أعمل الآن على شيء سوى القليل من الأعمال المتعلقة بعلم النبات على سبيل التسلية. سأكون متلهفا جدا من الآن فصاعدا لمعرفة مجريات جولتك وما أثمرته. أتوقع أن يكون كتابك عن التاريخ الجيولوجي للإنسان قذيفة مدوية بقوة هائلة. آمل ألا يتأخر طويلا. مع أطيب تحياتي إلى السيدة لايل. صحيح أن هذا ليس بالشيء الذي يستحق الإرسال، لكن ليس لدي شيء أفضل أقوله.
تقبل خالص مودتي
سي داروين
من تشارلز داروين إلى إف واتكينز
52
داون، 30 يوليو، [1860؟]
عزيزي واتكينز
منحتني رسالتك سعادة بالغة. في ظل ما أعيشه من حياة منعزلة، مع سوء حالتي الصحية، كثيرا ما أسرح بخيالي في الأيام الخوالي أكثر مما قد يفعل معظم الرجال على الأرجح، وها هو ذا وجهك اللطيف يبدو أمامي بقسماته القديمة المبهجة، وأراه بوضوح كما لو كنت أراك بالفعل.
لقد حظي كتابي بالإشادة وتعرض كذلك للإساءة البالغة، فضلا عن السخرية الشديدة من جانب أسقف أكسفورد، لكن بناء على ما أراه من تأثيره في علماء أكفاء حقا، أشعر بيقين أنني، «في الغالب»، على الطريق الصحيح. بخصوص سؤالك، أظن أن الحجج سليمة، وتوضح أن الحيوانات كلها قد انحدرت من أربعة أشكال أولية أو خمسة، وأن القياس والعلل الضعيفة تسهم في توضيح أنها كلها قد انحدرت من نموذج أولي واحد.
إلى اللقاء يا صديقي القديم. أعود بذاكرتي إلى أيام كامبريدج الخوالي بسرور خالص.
إليك خالص مودتي
صديقك المخلص لك دوما
تشارلز داروين
من تي إتش هكسلي إلى تشارلز داروين
6 أغسطس 1860
عزيزي داروين
لا بد أن أعلن حليفا جديدا عظيما انضم إليك ...
لقد كتب إلي فون بيير ما يلي: «وعلاوة على ذلك، أرى أنك لم تزل تكتب المقالات. كتبت مقالا نقديا عن كتاب السيد داروين لم أجد منه سوى نبذات في صحيفة ألمانية. لقد نسيت الاسم البشع للصحيفة الإنجليزية التي ورد فيها مقالك. وأنا لا أستطيع العثور على الصحيفة هنا على أية حال. ونظرا إلى أنني مهتم جدا بأفكار السيد داروين، التي تحدثت عنها علانية وربما أكون قد نشرت شيئا عنها، فسأكون ممتنا لك للغاية إذا استطعت أن ترسل إلي ما كتبته عن هذه الأفكار.
لقد ذكرت الأفكار نفسها التي ذكرها السيد داروين عن تغير الأنواع أو أصل الأنواع . (طالع الجزء الأول.) لكني استندت إلى الجغرافيا الحيوانية فقط. ستجد في الفصل الأخير من أطروحة «أوبر بابواس آند ألفورين» (عن البابواويين والفرس) أنني أتحدث عن هذا الموضوع بكل تأكيد دون أن أعرف أن السيد داروين كان مهتما به.»
لقد أعطاني فون بيير الأطروحة التي يشير إليها عندما كان هنا، لكني لم أستطع العثور عليها منذ أن تلقيت هذا الخطاب قبل يومين. عندما أجدها، سأخبرك بمحتواها.
لك إخلاصي الدائم
تي إتش هكسلي
من تشارلز داروين إلى تي إتش هكسلي
داون، 8 أغسطس [1860]
عزيزي هكسلي
تضمنت رسالتك أخبارا رائعة، وأشكرك من أعماق قلبي على إرسالها. إن فون بيير يحبط كل غل [ناقد دورية «إدنبرة»] وحجج أجاسي الضعيفة بقوة بالغة. إذا أرسلت خطابا إلى فون بيير، فمن أجل الرب قل له إننا نعتبر أي عون لصفنا، ولو بإيماءة استحسان واحدة، شيئا قيما للغاية، وإذا كتب أي شيء، فناشده أن يرسل إلي نسخة؛ لأنني سأحاول ترجمتها ونشرها في دورية «ذا أثنيام»، وفي دورية «سيليمان» كي أثير أجاسي ... هل رأيت هجوم أجاسي الميتافيزيقي اللاهوتي الضعيف على كتاب «أصل الأنواع» في العدد الأخير من دورية «سيليمان»؟
53
كنت سأرسله إليك، لكني أدرك أن إطلاعك عليه في لندن سيكبدك عناء أقل مما ستتحمله في سبيل أن تعيده لي. أرسل إلي آر فاجنر كتيبا ألمانيا
54
يعطي نبذة عن مقالة أجاسي «عن التصنيف» «من حيث علاقتها بآراء داروين»، إلى آخره. إنه لا يصل في الاتفاق معنا إلى «حد خطر» جدا، لكنه يظن أن الحقيقة تقع في المنتصف بين أجاسي وكتاب «أصل الأنواع». ولما قد وصل إلى هذا الحد، فإنه سيصل لا محالة، إلى حد أبعد. يقول إنه سيكتب مقالا عني في [تقريره] السنوي. مع تحياتي يا وكيلي الطيب اللطيف في نشر الإنجيل؛ أعني إنجيل الشيطان.
صديقك الدائم
سي داروين
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، 11 أغسطس [1860] ... ضحكت من اعتقاد وودورد بأنك رجل قد يتأثر رأيه بكلام الجمهور، لكني بعدما سخرت منه بشدة، كان علي الاعتراف لنفسي بأنني كنت خائفا من التأثير الذي قد يحدثه هذا الكم الهائل من الهجمات الضارية التي يشنها رجال عظماء. لما كنت أملك نسخة فائضة (أرسلها موراي) من دورية «ذا كورترلي ريفيو»، فأنا أرسلها إليك ضمن هذه الدفعة البريدية؛ ربما تستمتع بها. لقد استمتعت بالجزء المتعلق بصحيفة «أنتي-جيكوبن». إنه مليء بالأخطاء، وهوكر يفكر في الرد عليه. كان من المفترض أن يتضمن صفحة ما لكنها ألغيت، أود أن أعرف أي خطأ فادح كانت تحتوي عليه. يقول هوكر إن ... تلاعب بالأسقف، وجعله يعبر عن أي رأي أراد التعبير عنه، لقد أراد أن يجعل المقال مزعجا لك بأقصى درجة ممكنة. سأرسل عدد دورية «ذا أثنيام» في غضون يوم أو اثنين.
بما أنك تريد أن تعرف ما المقالات النقدية التي ظهرت، فربما يجوز لي أن أذكر أن أجاسي شن نقدا لاذعا في العدد الأخير من دورية «سيليمان»، وهو ليس جيدا على الإطلاق؛ إذ ينكر التباينات، ويستند إلى كمال الأدلة الجيولوجية. يقول لي آسا جراي إن ثمة صديقا ذكيا جدا صار على وشك تغيير رأيه والانضمام إلى صفنا بسبب هذا المقال الذي كتبه أجاسي ... نشر البروفيسور بارسنز
55
في العدد نفسه من دورية «سيليمان» ورقة بحثية تخمينية تصوب مفاهيمي، وهي ليست مهمة إطلاقا. يوجد في دورية «هايلاند أجريكالتشرال جورنال» مقال نقدي كتبه أحد علماء الحشرات، وهو لا يحمل أهمية كبيرة. هذا كل ما أستطيع تذكره ... مثلما يقول هكسلي، لا بد أن الهجمات المتناوبة المتواصلة ستتوقف قريبا. أرى أن هوكر وهكسلي وآسا جراي عازمون على التمسك بمواصلة القتال وعدم الاستسلام، إنني موقن تماما أنك، متى نشرت، ستحدث تأثيرا كبيرا في كل «المتلونين الانتهازيين»، وكثيرين آخرين. بالمناسبة، نسيت أن أذكر أن كتيب دوبيني
56
متحرر جدا ونزيه، لكنه ضعيف علميا. أعتقد أن هوكر لن يذهب إلى أي مكان هذا الصيف؛ فهو مشغول للغاية ... لقد أرسل إلي خطابات كثيرة لطيفة جدا. أنا متلهف جدا لسماع بعض الروايات، عن أنشطتك الجيولوجية حينما تعود. بمناسبة الحديث عن الجيولوجيا، أذكر أنك كنت مهتما ب «الأنابيب الرملية» الموجودة في الرواسب الطباشيرية. منذ حوالي ثلاث سنوات، ظهرت حفرة دائرية تماما فجأة في حقل عشبي مستو، مثيرة بذلك دهشة الجميع، وملئت بحمولات عدة عربات من التراب؛ والآن، منذ يومين أو ثلاثة، هبطت مجددا بشكل دائري لمسافة قدم أو اثنتين أخريين. ما أوضح تبيان ذلك للأشياء التي ما زالت تجري ببطء! استأنفت العمل صباح اليوم، وأنا عند الجزء المتعلق بالكلاب، حين أنهي كتابة مناقشتي القصيرة عنها، سأنسخها، وإذا شئت، يمكن حينئذ أن تقيم الحجة المتعلقة بالأصل المتعدد للكلاب. ونظرا إلى أنك ترى هذا مهما على ما يبدو، ربما يكون جديرا بأن تقرأه، مع أنني لست متيقنا من أنك ستصل إلى الاستنتاج المرجح نفسه الذي توصلت إليه. بالمناسبة، يطرح الأسقف حجة مؤثرة جدا ضدي؛ وذلك بتجميع حالات كثيرة أتحدث فيها بتشكك شديد، لكن هذا جور كبير؛ لأن الأدلة في بعض الحالات مثل حالة الكلب معضلة، ولا بد لهذا أن ينعكس في مناقشتي ...
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، 11 أغسطس [1860]
عزيزي جراي
عند عودتي إلى المنزل من ساسكس قبل حوالي أسبوع، وجدت عدة مقالات مرسلة منك. بخصوص المقال الأول، المنشور في مجلة «أتلانتيك مانثلي»، فأنا سعيد جدا بحيازته. بالمناسبة، أدرج محرر «ذا أثنيام»
57
ردودك على أجاسي وبوين والبقية، وعندما قرأتها هناك، أصبحت أشد إعجابا بها مما كنت في البداية. ذلك أنها مثيرة للإعجاب حقا في تكثيفها وقوتها ووضوحها وحداثتها.
يدهشني أن أجاسي لم ينجح في كتابة شيء أفضل. ما أسخف تلك المراوغة المنطقية: «إذا لم تكن الأنواع موجودة، فكيف يمكن أن تتباين؟» كما لو أن أي أحد يشكك في وجودها المؤقت. يا لروعته وهو يفترض وجود فارق محدد وواضح بين الفروق الفردية والضروب! لا عجب أن الرجل، الذي يصف أشكالا متطابقة بأنها أنواع مختلفة عندما تكون موجودة في بلدين، لا يستطيع أن يجد تباينا في الطبيعة. كما أنه يحيد عن المنطق ثانية بافتراضه أن الضروب الداجنة التي انتقاها الإنسان لإشباع أهوائه الشخصية (صفحة 147) من المفترض أن تشبه الضروب أو الأنواع الطبيعية. أرى المقال كله رديئا، ولا يستحق ردا تفصيليا (حتى وإن كنت أستطيع ذلك، وأشك بشدة في أنني أمتلك مهارتك في انتقاء أبرز النقاط الضعيفة ومهاجمتها)، وأنت قد رددت بالفعل على عدة نقاط. لا شك أن اسم أجاسي لا يستهان به إطلاقا في ميزان الكفة المعارضة لنا ...
إذا رأيت البروفيسور بارسنز، فلتشكره من فضلك على العقلية المتحررة المنصفة للغاية التي كتب بها مقالته.
58
أرجو منك أن تخبره أنني فكرت مليا في احتمالية نشوء كائنات مشوهة مناسبة (أي ظهور تباين كبير مفاجئ). ليس عندي أي اعتراض على هذا بالطبع، بل إنه سيقدم مساعدة كبيرة، لكني لا أشير إلى الموضوع لأنني بذلت الكثير من الجهد المضني، ولم أستطع إيجاد شيء يقنعني باحتمالية وجود مثل هذه الحالات. يبدو لي أن الحالات كلها تقريبا تتسم بدرجة هائلة من التكيف المعقد والجميل للغاية في جميع البنى إلى حد يعجزنا عن تصديق ظهورها المفاجئ. وقد ألمحت، تحت نقطة البذور البديعة ذات السنون المعقوفة إلى هذه الاحتمالية. غالبا ما تكون الأفراد الشاذة عقيمة؛ أي إنها «لا» تنقل عادة خصائصها الشاذة. وبالنظر إلى دقة التدرج في أصداف «مراحل فرعية» متعاقبة من التكوين الجيولوجي الكبير نفسه، أستطيع ذكر اعتبارات أخرى عديدة جعلتني أشك في مثل هذا الرأي. من المؤكد أن هذا يظل منطبقا، إلى حد ما، على الكائنات الداجنة، التي يحافظ فيها الإنسان على بعض التغيرات المفاجئة في البنية. لقد ذهلت من الاستشهاد بكلام السير آر موركيسون بصفته خبيرا في صلات القرابة لدى النباتات، وسرت القشعريرة في جسدي عندما سمعت أن أحدا ما يطرح تكهنات عن أن إحدى القشريات الحقيقية يمكن أن تلد سمكة حقيقية!
59
تقبل أصدق تحياتي
سي داروين
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، 1 سبتمبر [1860]
عزيزي لايل
أثار خطابك المؤرخ بتاريخ يوم الثامن والعشرين، والذي تلقيته صباح اليوم، بالغ اهتمامي. لقد «أسعدني»؛ لأنه يوضح أنك فكرت مليا في الانتقاء الطبيعي مؤخرا. شد ما أدهشتني قلة الاعتراضات والمشكلات؛ فهذا جديد علي تماما في المقالات النقدية المنشورة. تحمل تعليقاتك طابعا مختلفا وجديدا تماما علي. سأقرؤها سريعا، وأعرض بعض الحجج مثلما يرد على ذهني.
طرحت احتمالية أن أرخبيل جالاباجوس كان ملتحما «على نحو متصل» بأمريكا، لمجرد الإذعان للكثيرين الذين يؤمنون بصحة مذهب فوربس، ولم أر الخطر في إقراري بهذا، فيما يتعلق ببقاء ثدييات صغيرة على قيد الحياة هناك في مثل هذه الحالة. الواقع أن حالة أرخبيل جالاباجوس، بناء على حقائق معينة عن أصداف بحر ساحلية (أي أنواع ساحلية في المحيط الهادئ وأمريكا الجنوبية) أقنعتني أكثر من جميع حالات الجزر الأخرى بأن أرخبيل جالاباجوس لم يكن ملتحما بالبر الرئيسي على نحو متصل قط، وإنما كان هذا محض إذعان خسيس، وذعرا من هوكر والبقية.
بخصوص الجزر المرجانية، أظن أن الثدييات لم تبق على قيد الحياة «طويلا جدا»، حتى لو كانت الجزر الرئيسية تسكنها ثدييات (لأن المخطط العام لمجموعات الجزر المرجانية، كما قلت في كتابي عن الشعاب المرجانية، لا يبدو كمخطط «قارة» سابقة)، وذلك بناء على المساحة الصغيرة للغاية، والظروف الشديدة الخصوصية، واحتمالية أن تكون كل الجزر المرجانية أو الغالبية العظمى منها، في أثناء الهبوط، قد تشققت وغمرت بمياه البحر مرارا إبان وجودها كجزر مرجانية.
لا أستطيع تصور إمكانية تحول أي زاحف موجود إلى ثديي. فبناء على حالات التنادد، ينبغي أن أعتبر انحدار كل الثدييات من سلف واحد شيئا أكيدا. أما عن طبيعة هذا السلف، فيستحيل التكهن بها. أغلب الظن أنه أشبه بخلد الماء أو آكل النمل الشائك من أي شكل معروف آخر؛ وذلك لأن هذين الحيوانين يجمعان بين طباع الزواحف (وطابع الطيور بدرجة أقل) وطباع الثدييات. ومثلما تتوسط الذفافة حاليا بين الزواحف والأسماك، يجب أن نتخيل شكلا ما كوسيط بين الثدييات والطيور من ناحية (لأنها تحتفظ بالطابع الجنيني نفسه فترة أطول)، وبين الثدييات والزواحف من ناحية أخرى. وبخصوص عدم تطور أي كائن ثديي على أي جزيرة، إضافة إلى عدم توفر الزمن اللازم لتطور مذهل كهذا، فلا بد أن يكون السلف الضروري الخاص بهذه الجزيرة قد وصل إليها حاملا طابع جنين أحد الثدييات، لا أحد الزواحف «المتطورة بالفعل» أو الطيور أو الأسماك.
قد نكسب أحد الطيور عادات أحد الثدييات، لكن الوراثة ستحفظ جزءا من البنية الشبيهة ببنية الطيور إلى الأبد تقريبا، وتمنع تصنيف مخلوق جديد على أنه حيوان ثديي حقيقي.
كثيرا ما تكهنت بقدم عهد الجزر، لكن ليس بدقة تكهناتك؛ بل الأحرى أنني لم أتكهن بها على الإطلاق من منظور «عدم» قيام الانتقاء الطبيعي بما كان سيغدو متوقعا. إن حجة وجود أصداف ساحلية من العصر المايوسيني في جزر الكناري جديدة علي. لقد انبهرت بشدة (من مقدار التعرية) [ب] قدم عهد جزيرة سانت هيلينا، وعمرها يتوافق مع خصوصية النباتات. وبخصوص أن الخفافيش في نيوزيلندا (ملحوظة: يوجد اثنان أو ثلاثة من الخفافيش الأوروبية في ماديرا، وفي جزر الكناري على ما أظن) لم تتطور منها مجموعة من الخفافيش غير القادرة على الطيران، فأنا أجد هذا المثال مفاجئا، لا سيما أن جنس الخفافيش في نيوزيلندا خاص جدا بالمكان، ومن ثم فمن المرجح أنه وصل إليها منذ فترة طويلة، وثمة حديث الآن عن وجود حفريات من العصر الطباشيري هناك. وعلى الرغم من ذلك، يجب توضيح الخطوة الضرورية الأولى؛ أي بداية اعتياد الخفافيش أن تتغذى على الأرض، أو بأي طريقة كانت، وفي أي مكان، باستثناء الجو. أنا مضطر إلى الاعتراف بأنني أعرف بالفعل حقيقة واحدة مشابهة، ألا وهي وجود نوع هندي يقتل الضفادع. لاحظ أنني، في حالة الدب القطبي اللعينة التي ذكرتها، أوضح بالفعل أن الخطوة الأولى، التي سيكون بها التحول إلى حوت «سهلا»، «لن تشكل أي صعوبة»! ينطبق الأمر نفسه على الفقمات؛ فأنا لا أعرف أي حقيقة تظهر أي تباين بدائي يتمثل في تغذي الفقمات على الشواطئ. ثم إن الفقمات تتجول كثيرا؛ لقد بحثت بلا جدوى ولم أجد «أي» حالة لأي نوع من الفقمات يقتصر وجوده على جزيرة من الجزر. ومن ثم، فمن المرجح أن الفقمات المتجولة تهاجنت مع أفراد نوع كانت تمر بتغيير ما على جزيرة ما، مثلما هي الحال مع الطيور البرية في ماديرا وبرمودا. ينطبق التعليق نفسه حتى على الخفافيش؛ لأنها كثيرا ما تأتي إلى برمودا من البر الرئيسي، مع أنه يبعد عنها حوالي 600 ميل. وبخصوص الإجوانة البحرية في أرخبيل جالاباجوس، يمكن للمرء أن يستنتج، بناء على الندرة الشديدة للعادات البحرية لدى السحالي، واقتصار وجود الأنواع الأرضية على بضع جزر صغيرة، أن سلفها على الأرجح قد وصل أولا إلى جالاباجوس، لكن من المستحيل معرفة بلده الذي جاء منه؛ لأنني أعتقد أنه ليس ذا صلة قرابة واضحة بأي نوع معروف. من المرجح أن ذرية الأنواع الأرضية قد جعلت بحرية. الآن في هذه الحالة لا أدعي أنني أستطيع إظهار تباين في العادات، لكن يوجد لدينا في الأنواع الأرضية نوع يتغذى على النباتات (هذه في حد ذاتها حالة استثنائية بعض الشيء)، لا سيما على الأشنيات في العموم، ولن يكون تغييرا كبيرا لذريتها أن تتغذى أولا على الطحالب الساحلية ثم على الطحالب الواقعة تحت سطح البحر. لقد قلت ما أستطيع قوله في سياق الدفاع، لكن نهجك الهجومي جيد. رغم ذلك، يجب أن نتذكر دائما أنه لن يتحقق أي تغيير فعلي على الإطلاق إلا عندما «يتصادف» حدوث تباين في العادات أو البنية أو كليهما في الاتجاه الصحيح؛ لكي يمنح الكائن الحي المعني أفضلية على الكائنات الأخرى التي تسكن الأرض أو الماء، وقد يستغرق هذا، في أي حالة معينة، وقتا طويلا غير مسمى. إنني سعيد جدا بأنك ستقرأ مخطوطتي عن الكلاب؛ لأن معرفة رأيك في ميزان الأدلة ستكون مهمة لي. فغالبا ما يكون تقييم موضوع ما صعبا للغاية بعد التفكير فيه لفترة طويلة. أشكرك بكل صدق من أعماق قلبي على خطابك المثير جدا للاهتمام. إلى اللقاء.
يا أستاذي القديم العزيز
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 2 سبتمبر [1860]
عزيزي هوكر
إنني مشدوه من أخبارك التي تلقيتها صباح اليوم. لقد أصبحت رجعيا مسنا جدا إلى حد أنني مذهول من حيويتك. أستحلفك بالرب ألا تذهب وتلقي بنفسك إلى التهلكة. عجبا، أعتقد أن الجنون قد مسك بكل تأكيد . يجب أن أقر بأنها ستكون جولة مثيرة جدا للاهتمام، وإذا وصلت إلى قمة لبنان، التي أظنها مثيرة جدا للاهتمام، فيجب أن تجمع أي خنافس موجودة أسفل الحجارة هناك، لكن علماء الحشرات أشبه بعربات شديدة البطء. يمكنني القول إنه لا فائدة يمكن تحصيلها منهم. [إنهم] لم يستكشفوا جبال الألب البريطانية قط.
إذا صادفت أي بحيرات ملحية بشدة، فلتهتم بنباتاتها وحيواناتها البالغة الصغر؛ فأنا كثيرا ما فوجئت بمدى قلة الاهتمام بها.
تلقيت خطابا طويلا من لايل، الذي يطرح صعوبات عبقرية تعارض فكرة الانتقاء الطبيعي، بدعوى أن الانتقاء لم يحدث أكثر مما أحدثه. هذا جيد جدا؛ لأنه يبين أنه صار ملما بالموضوع تماما، وأنه جاد في نواياه. إنه خطاب باهر جدا في المجمل، ويغمر قلبي بالبهجة. ... كم سأفتقدك يا أعز أصدقائي وأطيبهم! ليباركك الرب.
تقبل خالص مودتي
سي داروين
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، 10 سبتمبر [1860] ... سوف تمل من مديحي، لكني أراها
60
معروضة بشكل مثير جدا للإعجاب، ومكتوبة بأسلوب جيد ورائع جدا. استعاراتك الكثيرة جيدة بقدر لا يضاهى. قلت في خطاب سابق إنك كنت محاميا، لكني ارتكبت خطأ جسيما؛ فأنا متيقن من أنك شاعر. كلا، يا إلهي، سأخبرك بماهيتك؛ أنت هجين؛ مزيج معقد من محام وشاعر وعالم تاريخ طبيعي وعالم لاهوت! أشهدت البشرية كائنا استثنائيا مثلك من قبل على الإطلاق؟
اكتفيت بإلقاء نظرة خاطفة على الفقرات التي ارتأيت أنها تبدو لي جيدة جدا، لكني أرى أنها كثيرة جدا إلى حد يعجزني عن ذكرها بالتحديد، وهذه ليست مبالغة. وقعت عيناي بالصدفة البحتة على التشبيه المبهج بين ألوان المنشور ومجموعاتنا الاصطناعية. أرى خطأ واحدا صغيرا في أحافير «الماشية» بأمريكا الجنوبية.
أستغرب كيف أن كل شخص يزن الحجج بميزان مختلف؛ فأنا أرى السمات والظواهر الجنينية أقوى فئة مفردة من الحقائق، بفارق كبير عن أقرب نظيراتها، في تأييد فكرة تغير الأنواع، ولا أظن أن أحدا من نقادي قد ألمح إلى ذلك. يبدو لي أن عدم بداية حدوث التباين في سن صغيرة جدا، وتوارثه في فترة مكافئة غير مبكرة جدا، يشرح أعظم الحقائق في التاريخ الطبيعي، أو بالأحرى في علم الحيوان؛ ألا وهي تشابه الأجنة. [كتب الدكتور جراي ثلاثة مقالات في مجلة «أتلانتيك مانثلي»، في أعداد يوليو وأغسطس وأكتوبر، وقد أعيدت طباعتها في صورة كتيب في عام 1861، وتمثل الآن الفصل الثالث في كتاب «داروينيانا» (1876)، بعنوان «عدم تعارض الانتقاء الطبيعي مع اللاهوت الطبيعي».]
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، 12 سبتمبر [1860]
عزيزي لايل
لم أفكر قط في أن أري أي شخص خطابك. ذكرت في خطاب إلى هوكر أن أحد خطاباتك قد أثار بالغ اهتمامي بما يحويه من اعتراضات أصلية، تستند بصفة أساسية إلى فكرة أن تأثير الانتقاء الطبيعي لم يكن كبيرا بالقدر الذي كان يحتمل توقعه ... أرى في خطابك الذي تلقيته للتو أنك حسنت حجتك المعارضة للانتقاء الطبيعي؛ وهي ستحدث تأثيرا ملحوظا بين الجمهور (لا تدع حداثتها تغريك بأن تجعلها أقوى مما ينبغي)، لكني أراها ليست مفحمة جدا «حقا»، مع أنني لا أستطيع الرد عليها، لا سيما سبب عدم بلوغ القوارض مرحلة عالية من التطور في أستراليا. لا بد أنك تفترض أنها سكنت أستراليا منذ فترة طويلة جدا، وقد يكون هذا صحيحا أو غير صحيح. لكني أشعر بأن جهلنا عميق جدا؛ فلماذا يحفظ أحد الأشكال وتبقى بنيته كما هي تقريبا أو يتقدم في تكوينه أو حتى يتراجع، أو ينقرض، إلى حد يعجزني عن إعطاء هذه الإشكالية أهمية كبيرة جدا؟ ثم إننا، كما تقول مرارا في خطابك، لا نعرف عدد العصور الجيولوجية التي ربما يكون قد استغرقها إحداث أي تقدم كبير في التكوين. تذكر القرود الموجودة في تكوينات العصر الإيوسيني الجيولوجية، لكني أعترف بأنك طرحت اعتراضا وصعوبة ممتازين، وليس بوسعي سوى إعطاء إجابات غير مقنعة ومبهمة تماما، كتلك التي وضعتها أنت، ومع ذلك، فإنك لا تولي أهمية كافية للضرورة المطلقة للتباينات التي تنشأ أولا في الاتجاه الصحيح؛ أي بداية تعود الفقمات على التغذي على الشواطئ.
أتفق تماما مع ما تقوله عن أن نوعا واحدا فقط من أنواع كثيرة يصبح معدلا. أتذكر أن هذا بهرني بشدة عند جدولة ضروب النباتات، ولدي مناقشة في مكان ما عن هذه النقطة. وهو يرد ضمنيا بالطبع في أفكاري عن التصنيف والتشعب المتمثلة في أن نوعا واحدا فقط أو اثنين من الأجناس، حتى الكبيرة منها، تتولد عنه أنواع جديدة، ويصبح العديد من أجناس كاملة منقرضا «تماما» ... رجاء فلتطالع الصفحة 341 من كتاب «أصل الأنواع». بالرغم من ذلك، لا أتذكر أنني ذكرت في كتاب «أصل الأنواع» حقيقة أن قلة قليلة فقط من الأنواع في كل جنس هي التي تتباين. لقد طرحت وجهة النظر طرحا أفضل بكثير في خطابك. فبدلا من القول، كما أقول مرارا، إن قلة قليلة من الأنواع هي التي تتباين في آن واحد، كان يجب أن أقول إن قلة قليلة من أنواع أي جنس هي التي تتباين «أصلا» لكي تصبح معدلة؛ لأن هذا هو التفسير الأساسي للتصنيف، وهو موضح في مخططي المنقوش ...
أتفق معك تماما بشأن الحقيقة الغريبة غير القابلة للتفسير التي تتجسد في حفظ خلد الماء والتريجونيا الأسترالية أو جنس اللينجولا السيلوري. دائما ما أكرر لنفسي أننا لا نعرف سبب ندرة أي نوع مفرد بعينه أو انتشاره في أشهر البلدان. لدي مجموعة ملاحظات في مكان ما عن الكائنات التي تسكن المياه العذبة، ومن الغريب أن الكثير من هذه الأشكال قديم أو وسيط، وأظن أن هذا يفسر بأن التناحر كان أقل حدة، وأن معدل تغير الكائنات كان أبطأ في المناطق المحصورة الصغيرة، مثل كل المناطق التي تشكلها المياه العذبة، مقارنة بالبحر أو اليابسة.
أرى أنك تشير في الصفحة الأخيرة إلى أن الجرابيات لم تصبح مشيميات في أستراليا، معتبرا هذه مشكلة في النظرية، لكني أرى من غير المنطقي إطلاقا أن تتوقع ذلك؛ لأننا يجب أن نعتبر أن الجرابيات والمشيميات قد انحدرت من شكل وسيط أدنى. إن الحجة القائمة على أن القوارض لم تبلغ مرحلة عالية من التطور في أستراليا (بافتراض أنها ظلت موجودة هناك فترة طويلة) أقوى بكثير. يؤسفني أن أراك تلمح إلى خلق «أنماط متتالية متمايزة، إضافة إلى عدد معين من الأنماط الأصلية متمايزة». تذكر أنك، إذا اعترفت بصحة ذلك، فستتخلى عن الحجة القائمة على علم الأجنة (الأهم عندي على الإطلاق)، والحجة القائمة على علم التشكل، أو الحجة القائمة على التنادد. لقد آذيتني وآذيت نفسك، وأعتقد أنك ستعيش إلى اليوم الذي ستأسف فيه على ذلك. سأكتفي الآن بهذا القدر من الحديث عن الأنواع.
الاقتباس اللافت الذي نسخته إي كان من تأليفك في رسالة إلي قبل سنوات عديدة! نسخته هي وأرسلته إلى السيدة سيسموندي؛ وبينما كانت عمتي تفرز خطاباتها مؤخرا، وجدت خطابات إي وأعادتها إليها ... صرت في الآونة الأخيرة عاطلا بصورة مخزية؛ إنني أراقب (نبات جنس الندية) بدلا من الكتابة، والملاحظة أمتع بكثير من الكتابة.
إليك خالص مودتي
سي داروين
من تشارلز داروين إلى سي لايل
15 مارين باريد، إيستبورن،
الأحد [23 سبتمبر 1860]
عزيزي لايل
تلقيت خطابك المؤرخ بتاريخ اليوم الثامن عشر قبيل سفري إلى هنا للتو. إنك تتحدث عن أنك لا تريد أن تكبدني عناء الرد على الخطابات. لا تفكر في هذا أبدا؛ لأنني أعتبر كل خطاب من خطاباتك شرفا وسرورا، وهذا أكثر بكثير مما أستطيع قوله عن بعض الخطابات التي أتلقاها. لدي الآن خطاب ينبغي أن أكتب ردا عليه، وهو مكون من «13 صفحة مطوية مليئة بكتابة مكدسة» عن موضوع الأنواع! ...
لدي قناعة راسخة بأن الثدييات كلها انحدرت من أصل أبوي «واحد» بلا شك. فعند التفكير مليا في الكم الهائل من التفاصيل، يتضح أن الكثير جدا منها لا يؤثر في عاداتها سوى تأثير تافه للغاية (مثل عدد عظام الرأس وغيرها، وتغطية الشعر، والتطور الجنيني المتطابق، وما إلى ذلك). الآن يجب أن أعتبر هذا القدر الكبير من التشابه ناجما عن الوراثة من أصل مشترك. أدرك أن بعض الحالات تشهد اكتساب عضو مشابه أو شبه مشابه بتأثيرات الانتقاء الطبيعي المستقلة. بالرغم من ذلك، يمكن في معظم هذه الحالات المتمثلة في اكتساب أعضاء شديدة التشابه، اكتشاف بعض الاختلافات التناددية المهمة. أرجو منك أن تقرأ الصفحة 193، التي تبدأ بكلمتي «الأعضاء الكهربائية »، وصدقني أن جملة «في كل من حالات النوعين المتمايزين جدا هذه» ... إلى آخره، لم توضع بتسرع؛ لأنني تفحصت كل حالة بإمعان. طبق هذه الحجة على هيكل الثدييات كله، الداخلي والخارجي، وسترى سبب اعتقادي القوي جدا بأنها قد انحدرت كلها من سلف واحد. أعدت قراءة خطابك للتو، ولست متيقنا من أنني أفهم قصدك.
أرفق مخططين بيانيين يوضحان الكيفية التي «أخمن» أن الثدييات تطورت بها. فكرت في ذلك قليلا عند كتابة الصفحة 429، التي تبدأ بكلمتي «السيد ووترهاوس». (يرجى قراءة الفقرة.) ليست لدي معرفة كافية لاختيار واحد من هذين المخططين. إذا كان دماغ الجرابيات في الحالة الجنينية يتشابه بشدة مع دماغ المشيميات، فسأفضل المخطط الثاني بقوة، وهذا يتسق مع قدم عهد خنافس «ميكروليستيس». بوجه عام، أفضل المخطط الأول؛ وبخصوص ما إذا كانت الجرابيات قد واصلت التطور، أو الارتقاء عبر المراتب، من فترة مبكرة جدا؛ فهذا يعتمد على ظروف معقدة للغاية، وهي أشد تعقيدا من أن يمكن تخمينها. لم يرتق جنس اللينجولا منذ العصر السيلوري، في حين أن رخويات أخرى ربما تكون قد ارتقت.
يمثل الحرف
A
في المخططين شكلا مجهولا، من المرجح أنه شكل وسيط بين الثدييات والزواحف والطيور، مثلما أن الذفافة الآن شكل وسيط بين الأسماك والضفدعيات. من المرجح أن هذا الشكل المجهول أقرب صلة بخلد الماء من أي شكل معروف آخر.
لا أظن أن أصل الكلاب المتعدد يتعارض مع أصل الإنسان المفرد ... فكل سلالات الإنسان بعضها أقرب إلى بعض بدرجة هائلة، منها إلى أي قرد، إلى حد يستوجب علي النظر إلى سلالات الإنسان كلها باعتبارها منحدرة من أصل أبوي واحد (مثلما هي الحال مع انحدار الثدييات كلها من سلف واحد). ينبغي أن أرتئي أرجحية أن سلالات الإنسان كانت أقل عددا وأقل تشعبا في الماضي مما هي الآن، وهذا بالطبع ما لم تكن بعض السلالات الأدنى والأشد شذوذا حتى من سلالة الهوتنتوت قد انقرضت. لنفترض، كما أعتقد أنا شخصيا أن كلابنا انحدرت من شكلين أو ثلاثة من الذئاب وحيوانات ابن آوى، وغير ذلك ، فإن هذه الحيوانات تظل رغم ذلك، من «وجهة نظرنا»، منحدرة من سلف واحد مجهول قديم جدا. بخصوص الكلاب الداجنة؛ فالسؤال يرتكز ببساطة حول ما إذا كان مقدار الاختلاف كله قد نتج منذ أن دجن الإنسان نوعا واحدا، أم إن جزءا من الاختلاف ينشأ في الطبيعة. يظن أجاسي والبقية أن الزنوج والقوقاز صارا الآن نوعين متمايزين، وهو محض عبث أن نناقش ما إذا كانا يستحقان أن يوصفا وفق هذا المعيار ذي القيمة المحددة، بأنهما نوعان، عندما كان أقل تمايزا بعض الشيء.
أتفق مع إجابتك التي أجبت بها على نفسك بخصوص هذه النقطة، وأرى التشبيه بما يمارسه الإنسان الآن من كبح تطور أي إنسان جديد قد يتطور تشبيها جيدا وجديدا. فالرجل الأبيض «يحسن وجه الأرض بأن يزيل من عليه» حتى الأعراق التي تكاد تكون مماثلة له. بخصوص الجزر، أظنني سأعتمد على حجة عدم توافر الوقت وحدها، وليس على الخفافيش والقوارض.
ملحوظة:
لا أعرف أي قوارض في الجزر المحيطية تكبح تطور فئات أخرى (باستثناء فأر أرخبيل جالاباجوس، الذي «ربما» يكون قد استقدمه الإنسان). ورغم ذلك، ينبغي أن أولي أهمية أكبر «بكثير» لافتقارنا الحالي، سواء في الجزر أو أي مكان آخر، ل [أي] حيوانات معروفة ذات درجة تكوين وسيطة بين الثدييات والأسماك والزواحف، وغيرها، يمكن أن يتطور منها كائن ثديي جديد. إذ تعرض كل كائن فقاري في أنحاء العالم كله للدمار، باستثناء «زواحفنا التي أصبحت الآن موجودة منذ فترة طويلة»، فربما تنقضي ملايين العصور قبل أن تبلغ الزواحف مرحلة عالية من التطور على مستوى مكافئ للثدييات، وبناء على مبدأ الوراثة، ستنشئ «فئة جديدة» تماما، وليس ثدييات، وإن كان «من الممكن» أن تكون أعلى في القدرات الفكرية منها! لا أعرف إطلاقا ما إذا كنت ستهتم بهذا الخطاب؛ فهو تخميني جدا.
تقبل أصدق تحياتي
سي داروين
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، 26 سبتمبر [1860] ... تلقيت خطابا من أربع عشرة ورقة بصفحتيها من هارفي يعارض فيه كتابي، وصحيح أنه يتضمن بعض التعليقات المبتكرة الجديدة، لكن الواقع أن هارفي لا يفهم إطلاقا ما أعنيه بالانتقاء الطبيعي، وهذا غريب. ناشدته أن يقرأ الحوار الذي سينشر في العدد القادم من دورية «سيليمان»؛ لأنك لا تتطرق إلى الموضوع أبدا إلا وتجعله أوضح. الأشد غرابة لي أنك دائما ما تقول كلمات وتستخدم صفات تعبر عن قصدي تماما. أما لايل وهوكر وأناس آخرون، فهم يفهمون كتابي تماما، لكنهم أحيانا ما يستخدمون مصطلحات أعترض عليها. حسنا، انتهى تعبك الاستثنائي، إذا كان لرأيي نصيب لا بأس به من الحقيقة، فكلي يقين من أن جهدك الهائل لن يذهب سدى ...
ما زلت آمل، وأكاد أكون واثقا، أنك ستصل يوما ما إلى الإيمان بفكرة تعديل الأنواع بدرجة أكبر من تلك التي وصلت إليها في البداية أو تؤمن بها الآن. هل تستطيع أن تخبرني بما إذا كنت قد بلغت حدا أبعد، أو درجة أشد رسوخا، في الإيمان بأفكاري مما بلغته في البداية؟ أود بشدة أن أعرف ذلك. أستطيع أن ألاحظ في مراسلاتي الكثيرة للغاية مع لايل، الذي كان يعترض كثيرا في البداية، أنه، ربما من دون وعي بنفسه، قد غير قناعاته بنفسه تغييرا كبيرا خلال الأشهر الستة الماضية، وأظن أن هذا الأمر نفسه ينطبق على هوكر. إن هذه الحقيقة تمنحني ثقة أكبر بكثير مما تمنحني إياه أي حقيقة أخرى.
من تشارلز داروين إلى سي لايل
15 مارين باريد، إيستبورن،
مساء الجمعة [28 سبتمبر 1860] ... إنني سعيد جدا بسماع أن الألمان يقرءون كتابي. لن يغير أي أحد قناعته ويعتنق الأفكار الجديدة ما لم يكن قد بدأ يتشكك من تلقاء نفسه بشأن الأنواع. أليس كرون
61
رجلا طيبا؟ أنوي منذ فترة طويلة أن أرسل إليه خطابا. كان يعمل على هدابيات الأرجل، واكتشف خطأين فادحين أو ثلاثة ... كنت قد تحدثت عنها ببعض التشكك، والشكر للرب على ذلك. يا له من تشريح صعب جدا حتى إن هكسلي نفسه قد أخفق فيه. يكمن جل الخطأ الجسيم في التفسير الذي أطرحه بشأن الأجزاء، وليس في الأجزاء التي أصفها. لكنها كانت أخطاء فادحة، والسبب الذي يجعلني أقول كل ذلك هو أن كرون، بدلا من أن يبدي أي تفاخر شامت بي، أشار إلى أخطائي بمنتهى اللطف والدماثة. لطالما نويت أن أرسل إليه وأشكره. أظن أن الدكتور كرون، من جامعة «بون»، سيتصل به.
لا أستطيع حتى الآن أن أرى كيف يمكن طرح الأصل المتعدد للكلاب باعتباره حجة للأصل المتعدد للإنسان بطريقة صحيحة. أليس شعورك هذا أثرا متبقيا من ذاك المترسخ عميقا في عقولنا كلها بأن النوع كيان مستقل بذاته، شيء متمايز عن الضرب؟ ألا يعني هذا أن حالة الكلب تضر بحجة الخصوبة، ومن ثم فإن إحدى الحجج الرئيسية المتمثلة في أن سلالات الإنسان ضروب وليست أنواعا؛ لأنها خصبة فيما بينها، تضعف بشدة؟
أتفق تماما مع ما يقوله هوكر بأن أي تباين ممكن تحت تأثير التربية والزراعة فهو «ممكن» في الطبيعة، وهذا لا يعني أن الانتقاء الرامي إلى تلبية رغبات الإنسان، والانتقاء الطبيعي الرامي إلى تحقيق مصلحة الكائن الحي سيؤديان على الإطلاق إلى تراكم الشكل نفسه أو الوصول إليه.
بمناسبة الحديث عن «الانتقاء الطبيعي»؛ لو أنني اضطررت إلى البدء من الأول مجددا، لاستخدمت مصطلح «الحفظ الطبيعي». ذلك أنني أجد رجالا، مثل هارفي من دبلن، لا يستطيعون فهم قصدي مع أنه قرأ الكتاب مرتين. قال لي الدكتور جراي، أمين المتحف البريطاني، إن «حدوث «الانتقاء» في النباتات يبدو مستحيلا بكل وضوح! ولا يمكن لأحد إخباره بالكيفية التي قد يتحقق بها ذلك!» ويمكن له الآن أن يضيف أن المؤلف لم يحاول توضيح ذلك له!
خالص مودتي دوما
سي داروين
من تشارلز داروين إلى سي لايل
15 مارين باريد، إيستبورن،
8 أكتوبر [1860]
عزيزي لايل
أرسل إليك الترجمة [الإنجليزية] لما كتبه برون (مخطوطة تضم ترجمة الاعتراضات التي طرحها برون في نهاية ترجمته الألمانية لكتاب «أصل الأنواع»)، مع العلم أن الجزء الأول من الفصل بما يحويه من عبارات عامة وإشادة لم يترجم. إنه يقدم بعض الانتقادات الوجيهة. ذلك أنه يقيم علي حجة تبدو قوية مؤثرة ظاهريا، وهو محق فيها إلى حد ما، بقوله إنني لا أستطيع تفسير سبب وجود ذيل أطول لدى فأر ما وأذنين أطول لدى فأر آخر، وما إلى ذلك. لكن يبدو أنه يرتبك بشأن افتراض أن هذه الأجزاء لم تتباين معا على الإطلاق، أو أن أحدها قد تباين قبل الآخر بوقت ضئيل جدا إلى حد أنه يعد في الحقيقة معاصرا له. لي أن أسأل المؤمن بفكرة الخلق عما إذا كان يظن أن هذه الاختلافات في الفأرين لها أي فائدة، أو أن لها علاقة ما بقوانين النمو، وإذا اعترف بذلك، فربما يأتي دور الانتقاء. من يظن أن الرب خلق الحيوانات مختلفة لا لشيء إلا للتسلية أو التنوع، كما يصمم الإنسان ملابسه، لن يعترف بأي قوة لحجة الشخصنة التي أطرحها.
يخطئ برون خطأ فادحا فيما يتعلق بافتراضي وجود عدة فترات جليدية، بغض النظر عن حدوث مثل هذه الفترات من عدمه.
إنه يخطئ فيما يتعلق بافتراضي أن التطور يحدث بالمعدل نفسه في كل أنحاء العالم. أفترض أنه أساء فهم ذلك بسبب مسألة الهجرة المفترضة إلى كل مناطق الأشكال الأكثر هيمنة.
لقد طلبت كتاب الدكتور بري،
62
وسأعيرك إياه، إذا شئت، وإذا اتضح أنه جيد. ... إنني سعيد جدا بأنني أسأت فهمك بشأن أن الأنواع لا تتحلى بالقدرة على التباين، مع أن قلة منها، في الواقع، تلد أنواعا جديدة. يبدو أنني ميال بشدة إلى إساءة فهمك، أفترض أنني دائما ما أتخيل اعتراضات. تبين لي حالة الهنود الحمر التي ذكرتها أننا متفقان تماما ...
بالأمس جاءني خطاب من سيلان أرسله إلي ثويتس الذي كان يعارضني بشدة. يقول الآن: «أجد أنني، كلما أصبحت أكثر دراية بآرائك المتعلقة بظواهر الطبيعة المختلفة، ازداد استحسان عقلي لها.»
من تشارلز داروين إلى جيه إم رودويل
63
15 مارين باريد، إيستبورن،
5 نوفمبر [1860]
سيدي العزيز
أنا في غاية الامتنان لخطابك، الذي لا يضاهي حلاوته عندي شيء سوى بودينج عيد الميلاد؛ فهو ممتلئ جدا بالأشياء الجيدة. لقد كنت متسرعا فيما كتبته عن القطط،
64
لكني تحدثت استنادا إلى ما بدا لي مرجعية موثوقة. فقد أعطاني المبجل دبليو دي فوكس قائمة بحالات سلالات أجنبية متنوعة لاحظ فيها هذا الارتباط، وظل يبحث عن استثناء طوال سنوات دون جدوى. ثمة ورقة بحثية فرنسية أيضا تذكر حالات عديدة، منها حالة شديدة الغرابة لهريرة فقدت لون عينيها الأزرق «بالتدريج» واكتسبت قدرة السمع بتدريج مشابه. لم أكن قد سمعت بالحالة التي تبين أثر العناية في تربية القطط، والتي ذكرها عمك السيد كيربي
65
الذي دائما ما كنت أبجله بشدة.
لا أعرف ما إذا كان السيد كيربي عمك بالمصاهرة، لكن خطاباتك تؤكد لي أنك تحمل دم كيربي في عروقك، وأنك، لو لم تتخصص في دراسة اللغات، لأصبحت من صفوة علماء التاريخ الطبيعي.
أرجو بكل صدق أن تتمكن من تنفيذ عزمك على الكتابة عن «ميلاد الكلمات وحياتها وموتها». لقد اخترت عنوانا ممتازا على أي حال، والبعض يرى أن هذا هو الجزء الأصعب في تأليف كتاب. أتذكر حين قال لي السير جيه هيرشيل قبل بضع سنوات في رأس الرجاء الصالح إنه يتمنى أن يعالج شخص ما اللغة كما يعالج لايل الجيولوجيا. لا بد أنك لغوي بارع إذ ترجمت القرآن! ولأنني سيئ إلى حد بشع في فهم اللغات، أكن احتراما بالغا لعلماء اللغويات. لا أعرف ما إذا كان «قاموس اشتقاق الكلمات»، الذي كتبه صهري هينزلي ويدجوود، سيكون ضمن مجال تخصصك على الإطلاق أم لا، لكنه يتناول نشأة الكلمات بإيجاز، وببراعة شديدة، كما يبدو لي. تتكرم بالقول إنك ستبلغني بأي حقائق قد تخطر ببالك، وأنا متيقن من أنني سأكون في غاية الامتنان. فمن بين الخطابات الكثيرة التي أتلقاها، لا يضاهي خطاباتك قيمة سوى قلة قليلة جدا.
مع خالص شكري واعتذاري على هذا الخطاب غير المنظم المكتوب على عجل، ولك مني أصدق تحياتي يا سيدي العزيز.
تقبل خالص امتناني
سي داروين
من تشارلز داروين إلى سي لايل
20 نوفمبر [1860] ... لم يطعني قلبي حتى الآن في أن أقرأ كتاب فيليبس («الحياة على الأرض»)، ولا مقالا نقديا عدائيا طويلا جدا بقلم البروفيسور بوين في مذكرة «الأكاديمية الأمريكية للعلوم» المطبوعة في كتيب ربعي (طوله 10 بوصات وعرضه 8 بوصات).
66 (بالمناسبة، سمعت أن أجاسي سينهال علي بانتقادات لاذعة في الجزء المقبل من كتاب «إسهامات».) شكرا على إخباري بمبيعات كتاب «أصل الأنواع» التي لم أكن قد سمعت بها. ستصدر طبعة جديدة بعد فترة على ما أظن، وأريد نصيحتك بالأخص بشأن نقطة واحدة، وأنت تعرف أنني أراك أحكم الرجال، و«من المؤكد أني سأسترشد بنصيحتك». خطر ببالي أنها «ربما» ستكون فكرة جيدة أن أدرج في كتاب «أصل الأنواع»، الذي لا يحوي أي حواش حتى الآن، مجموعة حواش (تتراوح بين عشرين وأربعين أو خمسين) مخصصة فقط لأخطاء نقادي. فقد خطر ببالي أن ما أخطأ فيه ناقد ربما يخطئ فيه قارئ عادي. وثانيا، ستوضح للقارئ أنه يجب ألا يثق بالنقاد ثقة عمياء. وثالثا، عندما تهاجم أي حقيقة خاصة، سأرغب في الدفاع عنها. لن أظهر أي نوع من الغضب. أرفق هنا مجرد عينة أولية يجب أن تمزق لاحقا؛ إذ أعددتها من الذاكرة بلا أي عناية أو دقة لأريك طبيعة الفكرة التي خطرت ببالي فحسب. «فهلا تتكرم وتسدي إلي صنيعا كبيرا بأن تمعن النظر فيها جيدا؟»
أرى أنها ستحدث تأثيرا جيدا، وتمنح القارئ بعض الثقة. سيكون إمعان النظر في كل المقالات النقدية مهمة مملة بشعة.
إليك خالص مودتي
سي داروين [فيما يلي عينات من الحواشي تركت فيها مواضع الإشارات إلى المجلد والصفحة فارغة. سيرى في بعض الحالات أنه نسي على ما يبدو أنه كان يكتب حواشي، وواصل الكتابة كما لو كان يكتب خطابا إلى لايل:
يؤكد الدكتور بري أنني أشرح بنية خلايا نحل العسل ب «نظرية الضغط المدحوضة». لكني لا أقول أي كلمة يمكن تفسيرها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على أنها إشارة إلى الضغط.
يستشهد ناقد دورية «إدنبرة» بكتابي قائلا إنني ذكرت فيه أن «فقرات الحمام الظهرية تتباين في عددها، ويعارض هذه الحقيقة». أنا لا ألمح في أي مكان إلى الفقرات الظهرية، بل أشرت إلى الفقرات العجزية والفقرات الذيلية فحسب.
يشكك ناقد دورية «إدنبرة» في أن تكون هذه الأعضاء خياشيم البرنقيلات. لكن البروفيسور أوين في عام 1854 يعترف، دون تردد، بأنها خياشيم، مثلما فعل جون هانتر منذ زمن بعيد.
سيحذف حساب منطقة وايلد اللعين، وستدرج ملحوظة مفادها أنني مقتنع بعدم دقته استنادا إلى مقال نقدي في صحيفة «ساترداي ريفيو»، واستنادا إلى فيليبس، كما أرى في جدول محتويات كتابه أنه يلمح إليه.
يقول السيد هوبكنز (مجلة «فريزر») - وأنا هنا أقتبس فقط مما أتذكره تذكرا واهيا غير دقيق - إنني «أحاجج تأييدا لآرائي استنادا إلى القصور الشديد في السجل الجيولوجي»، ويقول إن هذه هي المرة الأولى على الإطلاق في تاريخ العلم التي يسمع فيها بالاستشهاد بالجهل باعتباره حجة. لكنني أعترف مرارا، بأشد لهجة مؤكدة أستطيع استخدامها، بأن الدليل المنقوص الذي تقدمه الجيولوجيا بخصوص الأشكال المؤقتة يتعارض بشدة مع آرائي. يوجد فرق كبير بالطبع بين الاعتراف الكامل باعتراض ما، والقيام بعد ذلك بمحاولة إظهار أنه ليس قويا جدا قدر ما يبدو للوهلة الأولى، والسيد هوبكنز يؤكد أنني أقمت حجتي على ذاك الاعتراض.
سوف أضيف أيضا حاشية عن الانتقاء الطبيعي، وأوضح الطرق المتعددة التي أسيء بها فهمه.
يكذب أحد الكتاب في دورية «إدنبرة فيلوسوفيكال جورنال» قولي إن نقار الخشب في لابلاتا لا يرتاد الأشجار أبدا. لقد رصدت عاداته طوال عامين، لكن الأهم أن أزارا، الذي يقر الجميع بصحة ما يقوله، أكد بطريقة أكثر تشديدا مني أنه لا يرتاد الأشجار أبدا. ينفي السيد إيه موراي وجوب إطلاق تسمية «نقار الخشب» عليه؛ لديه إصبعا قدم أماميتان وأخريان خلفيتان، وريش ذيل مدبب، ولسان طويل مدبب، ونفس الشكل العام للجسم، وطريقة الطيران نفسها، واللون نفسه، والصوت نفسه. صحيح أنه كان مصنفا حتى وقت قريب ضمن الجنس نفسه - النقارات الحقيقية
- مع كل نقارات الخشب الأخرى، لكنه صار الآن مصنفا باعتباره جنسا مستقلا بين فصيلة نقارات الخشب
. وتختلف تلك الفصيلة عن جنس
النموذجي فقط في أن منقارها ليس قويا جدا، وأن فكها العلوي محدب قليلا. أظن أن هذه الحقائق تبرر تماما قولي إنه «في كل أجزاء تكوينه الأساسية» نقار خشب.]
من تشارلز داروين إلى تي إتش هكسلي
داون، 22 نوفمبر [1860]
عزيزي هكسلي
أناشدك بالرب ألا تكتب مقالا معاديا للداروينية؛ فأنت ستفعل ذلك بإتقان شديد لعين. أحيانا ما أسلي نفسي بالتفكير في أفضل الطرق التي أستطيع أن أنتقد بها نفسي، وأعتقد أنني أستطيع الإدلاء بتعليقين ساخرين جيدين أو ثلاثة، لكني سأراك ... أولا قبل أن أحاول ذلك. سأنتظر رؤية عدد دورية «ريفيو» متلهفا على أحر من الجمر.
67
إذا نجح، فربما يجدي نفعا هائلا، هائلا جدا حقا ...
سمعت اليوم من موراي أنني يجب أن أبدأ العمل فورا على طبعة جديدة
68
من كتاب «أصل الأنواع». يقول [موراي] إن المقالات النقدية لم تحسن المبيعات. سأرى دوما أن تلك المقالات النقدية المبكرة، التي كانت كلها تقريبا مقالاتك، أسدت إلى الموضوع خدمة «جليلة». إذا كانت لديك أي اقتراحات أو انتقادات مهمة تود طرحها بشأن أي جزء من كتاب «أصل الأنواع»، فسأكون ممتنا جدا [لها] بالطبع. لأنني أعتزم التصحيح قدر ما أستطيع، لكن من دون إسهاب. لا بد أنك سئمت الموضوع وصرت تكرهه بشدة، وهي محض نعمة من الرب إن لم تكرهني. إلى اللقاء.
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، 24 نوفمبر [1860]
عزيزي لايل
أشكرك شكرا جزيلا على خطابك. استمتعت كثيرا بالتفكير في أفضل الطرق التي أستطيع بها تجاهل نقادي، لكني كنت عازما، في كل الأحوال، على اتباع نصيحتك، وقبل أن أصل إلى نهاية خطابك، كنت مقتنعا بحكمة نصيحتك.
69
يا لها من ميزة أن أحظى بأصدقاء مثلك! سأتبع كل نصيحة واردة في خطابك بحذافيرها.
تلقيت خطابا من موراي للتو يقول إنه تلقى طلبات بشراء 700 نسخة، وإنه ليس لديه نصف العدد المطلوب إتاحته؛ لذا يجب أن أبدأ فورا
70 ...
ملحوظة:
يجب أن أخبرك بحقيقة صغيرة واحدة أسعدتني. لعلك تتذكر أنني أستشهد بالأعضاء الكهربية للأسماك معتبرا إياها إحدى أكبر الصعوبات التي واجهتني، و... يذكر الفقرة بروح ماكرة للغاية. حسنا، أرسل إلي ماكدونيل، من دبلن (وهو من صفوة الرجال)، خطابا يقول فيه إنه كان يشعر بأن صعوبة الحالة برمتها تشكل دليلا قويا ضدي. فالأمر لا يقتصر على أن الأسماك ذات الأعضاء الكهربائية يبتعد بعضها عن بعض جدا في الحجم، بل إن العضو يقع قرب الرأس في بعضها، ويقع قرب الذيل في بعضها الآخر، ويكون مزودا بأعصاب مختلفة تماما. يبدو مستحيلا أن يكون أي تحول قد حدث. يبدو أن أحد الأصدقاء، الذي يعارضني بشدة، شمت في ماكدونيل، الذي يذكر أنه قال لنفسه إنه، لو كان داروين محقا، فلا بد من وجود أعضاء متناددة بالقرب من كل من الرأس والذيل في الأسماء غير الكهربائية الأخرى. لقد شرع في العمل، ويا للعجب، قد وجدها!
71
لذا فقد زال جزء من الصعوبة، أوليس مرضيا أن تسفر أفكاري الافتراضية عن اكتشافات جميلة؟ يبدو ماكدونيل حذرا جدا؛ إذ يقول إنه لا بد أن تمر سنوات قبل أن يجرؤ على تسمية نفسه مؤمنا بعقيدتي، أما بخصوص الموضوعات التي يعرفها جيدا؛ أي علم التشكل وعلم الأجنة، تتفق آرائي معه بشدة، وتلقي ضوءا على الموضوع كله.
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، 26 نوفمبر 1860
عزيزي جراي
يجب أن أشكرك على خطابين. أعني الخطابين اللذين كان ثانيهما يحتوي على التصحيحات، واللذين كتبا قبل أن تتلقى خطابي الذي طلبت فيه إصدار طبعة جديدة أمريكية، وتقول فيه إنه لا جدوى من طباعة مقالاتك النقدية في صورة كتيب، بسبب استحالة نيل الكتيبات للشهرة. يسعدني جدا أن أقول إن مقال مجلة عدد أغسطس من دورية «أتلانتيك»، أو المقال الثاني، قد أعيد نشره في مجلة «أنالز آند ماجازين أوف ناتشورال هيستوري»، لكني لم أره هناك. قرأت المقال الثالث كله بإمعان يوم أمس، وأراه «مثيرا للإعجاب»، كما رأيته من قبل. ولكن يحزنني القول إنني لا أستطيع أن أقتنع بمسألة التصميم بالدرجة التي تقتنع بها. أعي أنني في حالة تشوش ميئوس منه تماما. لا أظن أن الدنيا، بشكلها الذي نراه، نتاج الصدفة، لكني رغم ذلك لا أستطيع أن أرى كل شيء على حدة نتاجا للتصميم. سأضرب لك هنا مثالا حاسما؛ إنك تدفعني إلى استنتاج أنك تعتقد أن ذاك التباين «قد سير في مسارات مفيدة معينة» (صفحة 414). لا أستطيع الإيمان بذلك، وأعتقد أنك ستضطر إلى رؤية أن ذيل الطيور الهزازة قد دفع إلى التباين في عدد ريشه واتجاه هذا الريش من أجل إشباع نزوة بضعة رجال. بالرغم من ذلك، لو كانت الطيور الهزازة برية، واستخدمت ذيلها غير الطبيعي من أجل غاية خاصة ما، كالإبحار في نفس اتجاه هبوب الريح، على عكس الطيور الأخرى، لقال الجميع: «يا له من تكيف جميل مصمم لحكمة!» أقول مجددا إنني في حالة حيرة ميئوس منها، وسأظل دائما.
شكرا جزيلا لك على نقدك لمقال بوين المطبوع في مذكرة ربعية («مذكرات الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم»، المجلد الثامن.) إن الهدوء الذي يزعم به أن كل الحيوانات تفتقر إلى العقل سخيف تماما. من الشنيع أنه يقدم حججا معارضة لإمكانية التباين التراكمي في الصفحة 103، ويتجاهل الانتقاء تماما بالفعل! إن احتمالية إنتاج حيوان محسن من الماشية القصيرة القرون، أو حمامة نفاخة محسنة، بالتباين التراكمي من دون الانتقاء البشري تكاد تكون معدومة، وكذلك هي احتمالية إنتاج أنواع طبيعية من دون الانتقاء الطبيعي. ما أبرع الطريقة التي تظهر بها في «ذا أتلانتيك» أن ظواهر الجيولوجيا والفلك، بحسب ما يقوله بوين، ظواهر ميتافيزيقية، لكنه يتجاهل ذلك في المذكرة الربعية.
ليس عندي الكثير لأخبرك به عن كتابي. سمعت للتو أن دو بوا-ريموند يتفق معي. يحقق كتابي مبيعات جيدة، وكثرة المقالات النقدية لم توقف البيع ... لذا يجب أن أبدأ العمل فورا على طبعة جديدة مصححة. سأرسل إليك نسخة تحسبا لتوافر أي فرصة تمكنك من إعادة قراءة الكتاب في أي وقت، لكن، يا إلهي، لا بد أنك ضجرت منه للغاية!
من تشارلز داروين إلى تي إتش هكسلي
داون، 2 ديسمبر [1860] ... سئمت المقالات النقدية العدائية. رغم ذلك، كانت مفيدة في أنها أوضحت لي متى ينبغي أن أسهب قليلا وأطرح بضعة نقاشات جديدة. بالطبع سأرسل إليك نسخة من الطبعة الجديدة.
أتفق معك تماما في أن الصعوبات الكامنة في مفاهيمي هائلة، لكن بعدما رأيت كل ما قالته المقالات النقدية ضدي، صرت أشد إيمانا من ذي قبل بأن العقيدة صحيحة «في العموم». ويوجد شيء آخر يعزز إيماني ؛ ألا وهو أن بعض الذين كانوا يتفقون معي بقدر ضئيل فحسب صاروا يتفقون معي بقدر أكبر الآن، وبعض الذين كانوا يعارضونني معارضة حادة قللوا من حدة معارضتهم. هذا يحبطني قليلا لأنك لا تميل إلى أن ترى الفكرة العامة أرجح ولو بقدر ضئيل مما كنت تراها في البداية. أعتبر هذا نذير شؤم بعض الشيء. وبخلاف ذلك، أنا راض عن درجة إيمانك. أستطيع أن أرى بكل وضوح أن آرائي، إذا لاقت قبولا عاما في أي وقت على الإطلاق، فسيكون من يتبنونها شبانا يكبرون ويحلون محل العلماء المسنين، وشبانا يجدون أنهم يستطيعون تجميع الحقائق والبحث بجد حتى يصلوا إلى مسارات بحثية جديدة تمكنهم من إجراء الدراسات العلمية بناء على فكرة الانحدار أفضل مما يمكن إجراؤها بناء على فكرة الخلق. ولكن فلتسامحني على إطالتي الحديث بهذا الغرور الشديد. فعندما يعيش المرء في عزلة شديدة مثلي، يفكر بطريقة سخيفة في عمله الذي صنعه بيديه.
تقبل أصدق تحياتي
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 11 ديسمبر [1860] ... تلقيت خطابا من إيه جراي صباح اليوم؛ وبناء على اقتراحي، سيعيد طباعة مقالات مجلة «ذا أتلانتيك» الثلاثة في شكل كتيب، وسيرسل 250 نسخة إلى إنجلترا أنوي أن أدفع مقابلها نصف تكلفة الطبعة كلها، وسيوزع نسخا مجانية، وسيحاول بيع نسخ أخرى بإدراج بضعة إعلانات، ومنشورات دعائية إن أمكن، في الدوريات. ... يدرس ديفيد فوربس جيولوجيا تشيلي بإمعان شديد منذ فترة، ولأنني أقدر الثناء على الملاحظة الدقيقة أكثر بكثير مما أقدر الثناء على أي خاصية أخرى، فلتسامحني (إذا استطعت) على غروري «الذي لا يطاق» في نسخ آخر جملة من رسالته هنا: «أرى أفرودتك البحثية المتعلقة بتشيلي واحدة من أجمل نماذج الاستقصاء العلمي الجيولوجي بلا استثناء.» أشعر برغبة في التبختر كديك رومي!
هوامش
الفصل الثالث
انتشار التطور
1861-1862 [حلت بداية عام 1861 وأبي لم يزل يعمل على إنهاء كتابة الفصل الثالث من كتاب «تباين الحيوانات والنباتات». كان قد بدأ كتابته في أغسطس السابق، ولم ينته منه حتى مارس 1861. غير أنه انشغل على مدار جزء من هذه المدة (خلال ديسمبر 1860 ويناير 1861 على ما أظن) في الإعداد لطبعة جديدة (بلغ قوامها 2000 نسخة) من كتاب «أصل الأنواع» شهدت تصحيحات وإضافات كثيرة، ونشرت في أبريل 1861.
وبخصوص هذه الطبعة الثالثة، أرسل خطابا إلى موراي في ديسمبر 1860: «سأسعد بمعرفة قرارك عندما تحدد عدد النسخ التي ستطبعها، كلما كانت أكثر، كان ذلك أفضل لي من جميع النواحي، حتى إنه يتوافق مع عدم حدوث أضرار؛ لأنني أرجو ألا أضطر بعد ذلك أبدا إلى إجراء مثل هذا الكم الهائل من التصحيحات أو بالأحرى الإضافات التي أجريتها على أمل أن أجعل العديد من المراجعين الأغبياء يفهمون المقصود على الأقل. أرجو أن أضفي على الكتاب تحسينا كبيرا، وأظن أن هذه التعديلات ستحقق ذلك.»
كانت إحدى السمات المثيرة للاهتمام في الطبعة الجديدة فصل «ملخص تاريخي لآخر مستجدات تقدم الآراء بشأن أصل الأنواع». الذي ظهر آنذاك لأول مرة، واستمر ظهوره في الطبعات اللاحقة من الكتاب.
1
يحمل هذا الفصل بصمة قوية لطابع المؤلف الشخصي في الرغبة الواضحة في إنصاف كل أسلافه إنصافا تاما، مع أنه لم ينج من الانتقادات السلبية بخصوص هذه النقطة حتى.
قرب نهاية ذاك العام الحالي (1861)، اكتملت الترتيبات النهائية لإصدار الطبعة الفرنسية الأولى من كتاب «أصل الأنواع»، وفي سبتمبر أرسلت نسخة من الطبعة الإنجليزية الثالثة إلى الآنسة كليمنس روييه، التي تولت مهمة الترجمة. كان الكتاب ينتشر آنذاك في قارة أوروبا؛ إذ صدرت طبعة هولندية، ونشرت ترجمة ألمانية في عام 1860 كما رأينا. فقد كتب في خطاب إلى السيد موراي (بتاريخ 10 سبتمبر 1861)، قائلا: «يبدو أن كتابي يثير اهتماما بالغا في ألمانيا، بناء على عدد النقاشات التي أرسلت إلي.» كان الصمت قد كسر، وفي غضون بضع سنوات، صار صوت العلم الألماني واحدا من أشد مؤيدي نظرية التطور.
طوال الجزء الأول من العام (1861) كان والدي يعمل على مجموعة هائلة من التفاصيل التي نظمت بالترتيب في الفصل الأول من كتاب «تباين الحيوانات والنباتات». ولذلك تظهر في مفكرة يومياته إدخالات مقتضبة مثل «16 مايو، الانتهاء من الدواجن (ثمانية أسابيع)؛ 31 مايو، البط».
في الأول من يوليو، سافر مع أسرته إلى توركي، حيث مكث حتى 27 أغسطس؛ وهي إجازة أدرجها إدراجا مميزا في مفكرة يومياته واصفا إياها بأنها «ثمانية أسابيع ويوم». كان البيت الذي سكنه موجودا في «هيسكيث كريسنت»، الذي كان صفا مقوسا من بيوت متراصة بشكل مبهج يقع شمال البحر بمسافة قصيرة، ومنعزلا بعض الشيء عن المنطقة التي كانت تمثل الجزء الرئيسي من البلدة آنذاك، وليس بعيدا عن الحد الساحلي الجرفي الجميل في حي «أنستيز كوف».
في أثناء إجازة توركي، وطوال الفترة المتبقية من العام، عمل على موضوع تلقيح السحلبيات. لن يعرض هذا الجزء من عام 1861 في الفصل الحالي؛ لأن سجل حياته (كما هو موضح في تقديم الكتاب) يبدو، كما ورد في خطاباته، أنه يصبح أوضح عندما توضع كل أعماله المتعلقة بعلم النباتات معا وتناقش على نحو منفصل. ومن ثم، فلن تتضمن مجموعة الفصول الحالية سوى تقدم أعماله نحو الاستفاضة في موضوعات كتاب «أصل الأنواع»، مثل نشر كتاب «تباين الحيوانات والنباتات»، و«نشأة الإنسان»، وغير ذلك.]
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 15 يناير [1861]
عزيزي هوكر
دائما ما تغمر السعادة قلبي عند رؤية خط يدك ...
أتفق تماما مع ما تقوله عن مقالة هكسلي، وقوة الكتابة ... أرى المقالة كلها ممتازة. يا لها من طريقة ممتازة تلك التي لخص بها أوليفر الكتب المتعلقة بعلم النبات! يا إلهي، ما أوسع اطلاعه وأكثر قراءته بكل تأكيد! ...
أتفق تماما أن كتاب فيليبس
2
ممل إلى حد أن المرء يعجز عن قراءته. لا داعي إلى أن تحاول قراءة ما كتبه بري ...
إذا صادفت كتاب «أصل الأنواع من خلال القرابة العضوية» الذي كتبه الدكتور فريك، فاقرأ بضع صفحات متفرقة منه ... إنه يطلب من القارئ ملاحظة أنه توصل إلى [نتيجته] بالاستقراء في حين أن نتائجي كلها مبنية على «القياس» فقط. أرى أن رجلا يدعى السيد نيل قد قرأ ورقة بحثية أمام جمعية علم الحيوان عن «الانتقاء النموذجي»؛ لكني لا أعرف ما يعنيه بذلك. لم أقرأ ما كتبه إتش سبنسر لأنني أجد أنني يجب أن أكون أشد وأشد اقتصادا في استخدام ما لدي من عافية ضئيلة جدا. أظن في بعض الأحيان أن صحتي ستنهار تماما عما قريب ... حالما يصبح هذا الطقس الشنيع أكثر اعتدالا بقليل، يجب أن أجرب الخضوع لقليل من العلاج المائي. هل قرأت رواية «ذات الرداء الأبيض»؟ حبكتها مثيرة للاهتمام إلى حد عجيب. أستطيع أن أرشح كتابا أثار بالغ اهتمامي؛ ألا وهو كتاب «رحلة في المناطق النائية»، الذي ألفه أولمستيد. إنه يرسم صورة واضحة مفعمة بالتفاصيل الباهرة للإنسان والعبودية في الولايات الجنوبية ...
من تشارلز داروين إلى سي لايل
2 فبراير 1861
عزيزي لايل
ارتأيت أنك ستود قراءة الفقرة المرفقة هنا والمقتبسة من خطاب من إيه جراي (الذي يطبع مراجعاته في شكل كتيب
3
وسيرسل نسخا منه إلى إنجلترا) لأنني أرى أن ما يقوله في صالحنا بدرجة كبيرة في الواقع: «ليتني كنت أملك وقتا لأحكي لك كثيرا عن المدى الذي يبلغه بوين وأجاسي، كل بطريقته الخاصة. فالأول ينكر وجود الوراثة كلها بجميع أنواعها (انتقال الصفات بأكمله خلا أمثلة محددة). والثاني يكاد ينكر أننا منحدرون وراثيا من أجداد أجداد أجدادنا، ويصر على أن اللغات التي يبدو من الواضح أنها منتسبة إلى أصل واحد، مثل اللاتينية واليونانية والسنسكريتية، لا تدين بأي من تشابهاتها لأصل مشترك؛ أي إنها كلها أصلية بذاتها؛ يعترف أجاسي بأن اشتقاق اللغات، واشتقاق الأنواع أو الأشكال، قائمان على أساس واحد، وأنه لا بد أن يقر بصحة الثاني إذا أقر بصحة الأول، وقد قلت له إن هذا منطقي تماما.»
أليس هذا رائعا؟
صديقك الدائم
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 4 فبراير [1861]
عزيزي هوكر
سررت بتلقي خطابك الطويل الودي، ومعرفة أن جمودك تجاه العلم يذوب. أكاد أتمنى لو أن ذاك الجمود قد استمر وقتا أطول بعض الشيء، لكن لا تذب بوتيرة أسرع مما ينبغي ولا قوة أشد. لا أحد يستطيع أن يعمل لفترات طويلة بمقدار ما كنت تفعل. فلتكن كسولا عاطلا، غير أنه لا يجدر بي أن أعظك في هذا؛ فأنا عن نفسي لا أستطيع أن أكون عاطلا رغم أنني أتمنى ذلك كثيرا، ولا أجد راحتي أبدا إلا عند العمل. فأنا أعتبر أن كلمة إجازة مكتوبة بلغة ميتة، وهذا يحزنني بشدة. نشكرك بكل صدق على تعاطفك اللطيف مع إتش المسكينة [ابنته] ... لقد شارفت الآن على العودة إلى حالها القديمة، وصارت تستطيع النهوض ساعة أو اثنتين مرتين يوميا في بعض الأحيان ... لقد أصبح عدم التفكير في المستقبل مطلقا، أو بأقل قدر ممكن، قاعدة حياتنا. ما أشد اختلاف الحياة عما كانت عليه في زمن الشباب؛ إذ كانت بلا خوف من المستقبل، ومليئة بآمال ذهبية، وإن كانت بلا أساس واقعي. ... بخصوص دورية «ناتشورال هيستوري ريفيو»، لا أظن أن السيدات سيكن حساسات جدا تجاه «أمعاء السحالي»؛ لكن الدورية في الوقت الحالي أشبه بهجين بكل تأكيد، ولا ينبغي أن تظهر الأوراق البحثية الأصلية المدعومة برسوم توضيحية في دورية نقدية على الإطلاق. أشك في أنه سيجدي أي نفع مادي على الإطلاق، لكني سأندم بشدة إذا مات ولم ينشر. كل ما تقوله يبدو معقولا جدا، ولكن هل يمكن لمقال نقدي، بالمعنى الحرفي للكلمة، أن يملأ بمادة تستحق القراءة؟
لا أفعل أشياء كثيرة، باستثناء إنهاء كتابة الطبعة الجديدة من كتاب «أصل الأنواع»، والتقدم زاحفا ببطء شديد في كتابي «التباين تحت تأثير التدجين» ... [يشير الخطاب التالي إلى ورقة السيد بيتس البحثية، «إسهامات في إحدى قوائم حشرات وادي الأمازون»، في دورية «ترانزاكشنس أوف ذا إنتومولوجيكال سوسايتي» المجلد الخامس، سلسلة جديدة. (قرئت الورقة في 24 نوفمبر 1860.) يشير السيد بيتس إلى أنه مع عودة مناخ أدفأ في المناطق الاستوائية بعد انقضاء الفترة الجليدية، «يفترض أن الأنواع التي كانت تعيش آنذاك بالقرب من خط الاستواء قد تراجعت شمالا وجنوبا إلى مواطنها السابقة، تاركة بعض الأنواع الأخرى المنتمية إلى الجنس نفسه، التي تغيرت بعد ذلك ببطء ... لتستوطن المنطقة التي كانت قد هجرتها بالفعل من جديد.» في هذه الحالة، ينبغي أن تظهر لدى الأنواع التي تعيش الآن عند خط الاستواء علاقة واضحة بالأنواع التي تسكن المناطق الواقعة حول خط عرض 25، والتي يفترض بالطبع أنها ذات صلة قرابة بعيدة بها. لكن هذا لا ينطبق في الواقع، وهذه هي الصعوبة التي يشير إليها والدي. طرح السيد بيلت تفسيرا لذلك في كتابه «عالم تاريخ طبيعي في نيكاراجوا» (1874)، الصفحة 266. فقال: «أعتقد أن الإجابة هي أن الفترة الجليدية قد شهدت إبادة شديدة إلى حد أن العديد من الأنواع (وبعض الأجناس، وما إلى ذلك، مثل الحصان الأمريكي) لم تنج منها ... لكن العديد من الأنواع قد وجدت ملجأ على أراض كشفت بانخفاض سطح البحر، وهي تقع الآن تحت المحيط بسبب كمية المياه الهائلة التي كانت محبوسة في كتل متجمدة على اليابسة.»]
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 27 [مارس 1861]
عزيزي هوكر
كنت أنوي إرسال مقال بيتس إليك اليوم بالتحديد. إنني سعيد جدا لأنه نال إعجابك. لقد بهرني للغاية. إنه يقدم حججا معارضة للنظرية الجليدية بطريقة ممتازة وقوة ساحقة. لا أستطيع التوقف عن التفكير فيه، إنني مشدوه للغاية، لكني أعتقد أن ثمة تفسيرا سيظهر يوما ما، ولا أستطيع التخلي عن فكرة انخفاض حرارة المناطق الاستوائية. ذلك أنها تفسر الكثير وتتسق مع الكثير. عندما ترسل إلي (وسأكون مهتما جدا بخطابك)، فأرجو منك أن تخبرني بمدى تماثل النباتات عموما في الطابع الجنسي من دائرة عرض 0 إلى دائرتي عرض 25 شمالا وجنوبا.
قبل أن أقرأ ما كتبه بيتس، كنت قد استأت تماما مما كتبته إليك. آمل أن تقنع بيتس بأن يكتب في دورية «لينيان».
سأخبرك بنكتة مضحكة: إتش سي واطسون (الذي أتصور أنه سيكتب مقالا نقديا عن الطبعة الجديدة)
4
مثلما آمل في ذلك، يقول إن الفقرات الأربع الأولى من مقدمة الكتاب وردت فيها كلمة «أنا» وضمائر المتكلم ثلاثا وأربعين مرة! لم أكن أعي هذه الحقيقة اللعينة. يقول إن ذلك يمكن تفسيره بواسطة علم فراسة الرأس، وأفترض أن المعنى المهذب لذلك أنني أشد الرجال تغطرسا وأنانية على قيد الحياة، ربما أكون كذلك. أتساءل عما إذا كان سينشر هذه الحقيقة السارة؛ فهي تتفوق تفوقا ساحقا على الجمل الاعتراضية فيما كتبه وولستون .
تقبل يا عزيزي هوكر تحيات صديقك الدائم
سي داروين
ملحوظة:
لا تنشر هذه النكتة السارة؛ فهي بالأحرى لاذعة بدرجة أشد مما ينبغي.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، [أبريل] 23؟ [1861] ... أتفق تماما مع ما قلته عن المقال النقدي الذي كتبه الملازم هوتون
5 (وأنا لا أعرفه)؛ أراه أصليا ومبتكرا جدا. إنه واحد من قلة قليلة ترى أنه لا يمكن إثبات تغير الأنواع بصورة مباشرة، وأن العقيدة لا بد أن تنجح أو تفشل حسب طريقة تجميعها للظواهر وتفسيرها بها. من الغريب حقا أن قلة قليلة فحسب هم من يرون الأمر بهذه الطريقة، التي من الواضح أنها الطريقة الصحيحة. لقد حازت ورقة بينثام البحثية
6
المنشورة في دورية إن إتش آر على اهتمامي، لكنها بالطبع لن تبهرك كما أبهرتني لأنك تألف ما فيها بالفعل. لقد أعجبت بها كلها؛ كل الحقائق عن طبيعة الأنواع المتشابهة والمتباينة. يا إلهي! أستغرب حين أفكر في أن علماء النبات البريطانيين تأنفوا وقالوا إنه لا يفقه شيئا عن النباتات البريطانية! سررت أيضا بتعليقاته على مسألة التصنيف؛ لأنها أوضحت لي أن ما كتبته عن هذا الموضوع في كتاب «أصل الأنواع» كان صحيحا. رأيت بينثام في الجمعية اللينية، وتحدثت إليه هو ولوبوك وإيدجوورث وووليك، وعدة أشخاص آخرين. طلبت من بينثام أن يذكر لنا أفكاره بخصوص الأنواع؛ فسواء أكان يعارضنا جزئيا أم كليا، سيكتب مادة «ممتازة». لم يرد، لكن أسلوبه جعلني أظن أنه قد يرد إذا ألححنا عليه؛ فهلا تهاجمه بالإلحاحات. كان الجميع يتحدث بمودة وقلق عن هنزلو.
7
تعشيت مع بيل في النادي الليني، وأعجبني العشاء ... فتناول العشاء في الخارج شيء جديد جدا علي فاستمتعت به. إن بيل لديه طيب القلب حقا. لقد نالت ورقة روليستون البحثية إعجابي، لكني لم أقرأ في حياتي أي شيء غامض وغير واضح مثل «معايير الأحكام».
8 ... زرت آر تشامبرز زيارة سريعة في بيته الرائع جدا في حي «سانت جونز وود»، ودار بيننا حوار ممتع جدا طوال نصف الساعة، إنه رجل ممتاز حقا. لقد أدلى بتعليق جيد وضحك عليه ضحكة مكتومة، وهو أن الأشخاص العاديين كلهم قد تعاملوا مع الجدل المثار حول كتاب «المقالات والكتابات الناقدة» على أنه موضوع مهني تخصصي بحت، ولم يشاركوا فيه، بل تركوه لرجال الدين. سأنتظر خطابك المقبل عن هنزلو بفارغ الصبر.
9
إلى اللقاء، مع أصدق تعاطفي يا صديقي القديم.
سي داروين
ملحوظة:
نحن في غاية الامتنان لمجلة «لندن ريفيو». نحب قراءتها كثيرا، ومادتها العلمية أفضل من دورية «ذا أثنيام» بدرجة لا تضاهى. يجب أن تتوقف عن إرسالها بعد وقت ليس ببعيد؛ لأن ما ستتكبده من عناء وأموال سيهلكك، لكنني مرتبط بدوريتي «ذا أثنيام» و«ذا جاردنرز كرونيكل» بتعويذة سحرية بشعة؛ إذ اعتدت قراءتهما طوال سنوات عديدة جدا إلى حد «يعجزني» عن الاستغناء عنهما. [يشير الخطاب التالي إلى زيارة لايل مقالع الحصى في قرية «بيدنهام» بالقرب من مدينة بيدفورد في أبريل 1861. أجريت الزيارة بدعوة من السيد جيمس وايات، الذي كان قد اكتشف مؤخرا أداتين حجريتين «على عمق ثلاثة عشر قدما من سطح التربة»، تستقران «مباشرة على طبقات صلبة من الحجر الجيري السرئي.»
10
وعن هذا يقول السير سي لايل إنه هنا «قد رأى للمرة الأولى دليلا مقنعا له على العلاقات المرتبة زمنيا لتلك الظواهر الثلاث: الأدوات العتيقة، والثدييات المنقرضة، والتكوين الجليدي.»]
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، 12 أبريل [1861]
عزيزي لايل
لقد أثار خطابك بالغ اهتمامي. يبدو أنك أنجزت عملا أعظم، واتخذت خطوة أعظم من أي شخص على الإطلاق فيما يتعلق بمسألة تطور الإنسان.
من بواعث الارتياح الشديد سماع أنك تظن الرواسب السطحية الفرنسية رواسب دلتا وشبه بحرية، لكني قبل يومين كنت أقول لصديق إن الكيفية المجهولة لتراكم هذه الرواسب بدت عيبا كبيرا في كل العمل الذي أنجز. لم أستطع تقبل النقاط المتعلقة بتكسرات الجليد أو الطبقات البحرية. فهذا هائل جدا. أتذكر أن فالكونر أخبرني أنه يظن أن بعض البقايا في كهوف «ديفونشير» تنتمي إلى ما قبل الفترة الجليدية، وهذا، على ما أفترض، هو استنتاجك بخصوص الفئوس الحجرية البدائية الأقدم إضافة إلى الضباع وأفراس النهر . هذا عظيم. يا له من نسب طويل رائع ذلك الذي منحت العرق البشري إياه!
أنا متيقن من أنني لم أفكر قط في أن طرقا متوازية قد تراكمت في أثناء الانحدار. أظن أنني أرى بعض المشكلات في هذا الرأي، مع أنني، عند قراءة رسالتك أول مرة، رحبت بالفكرة. بالرغم من ذلك، سأفكر في كل ما رأيته هناك. سوف آتي (بمشيئة المعدة) إلى لندن يوم الثلاثاء للعمل على الديوك والدجاج، وسأزورك في حوالي الساعة العاشرة إلا ربعا من صباح الأربعاء (ما لم أسمع منك ما يعارض ذلك)؛ لأنني أتوق لرؤيتك. أهنئك على عملك العظيم.
صديقك الدائم
سي داروين
ملحوظة:
أخبر الليدي لايل بأنني لا أستطيع تقبل مسألة وجود مراسم جنائزية لدى النمل، مع أن إيرازموس أخبرني مرارا بأنني سوف أكتشف يوما ما إن كان النمل لديه أساقفته الخاصة به. فبعد المعارك، دائما ما كنت أرى النمل يحمل النملات الميتة بعيدا ليأكلها. إن النمل يتسم بأقصى درجات الاقتصاد، ودائما ما يحمل النمل الميت من بني جنسه غذاء له. بالرغم من ذلك، فقد بعثت للتو بخطابين استثنائيين إلى باسك كانا قد ورداني من رجل يعيش في منطقة نائية معزولة في تكساس من الواضح أنه راقب بعض النمل بعناية، وأعلن بتأكيد واثق جدا أن النمل يزرع نوعا ما من العشب وينميه ليخزن فيه الغذاء، ويزرع شجيرات أخرى لتكون مأوى له! لم أحسم رأيي بعد، لكن الرجل العجوز لن يكذب عمدا. وقد أوكلت إلى باسك مسئولية تقرير قراءة الخطابات أو عدم قراءتها.
11
من تشارلز داروين إلى توماس ديفيدسون
داون، 26 أبريل 1861
سيدي العزيز
أرجو أن تسامحني على تجرئي على إرسال اقتراح إليك وأنا أدرك تماما أن موافقتك عليه مستبعدة جدا. لا أعرف ما إذا كنت قد قرأت كتابي «أصل الأنواع» أم لا؛ إذ طرحت في هذا الكتاب تعليقا، أتوقع أن يقر الجميع بصحته، مفاده أن حيوانات أي تكوين جيولوجي، «ككل»، ذات طابع وسيط بين طابع التكوينات العليا والتكوينات الدنيا. لكن عدة خبراء بارعين للغاية أشاروا علي بأنه سيكون من المستحسن جدا أن أذكر أمثلة على ذلك وأوضحه ببعض التفصيل وبمجموعة واحدة من الكائنات. والآن يقر الجميع بأنه ما من أحد يستطيع توضيح ذلك أفضل من أن توضحه أنت بمجموعة عضديات الأرجل. قد تأتي النتيجة معارضة بشدة للآراء التي أتبناها؛ وسيكون هذا مواتيا جدا لأولئك الذين يعارضونني.
12
لكني أميل إلى الاعتقاد بأنها ستكون مؤيدة في العموم لفكرة الانحدار مع التعديل؛ فمنذ حوالي عام، عرض السيد سولتر
13
في المتحف في شارع جيرمين بعض الملولبات، وما إلى ذلك، من ثلاث مراحل من العصر الباليوزي على لوح ما، ورتبها في خطوط مفردة ومتفرعة، واضعا خطوطا أفقية تحدد التكوينات (مثل المخطط البياني في كتابي، إذا كنت تعرفه)، وبدت النتيجة لي مدهشة جدا، مع أنني كنت جاهلا تماما إلى حد أعجزني عن فهم خطوط صلات القرابة. كنت أتوق إلى طباعة صور هذه الأصداف، حسب ما رتبها السيد سولتر، والتوصيل بينها بخطوط منقطة، لكني لم أستطع إقناع السيد سولتر بنشر ورقة بحثية صغيرة عن الموضوع. لا أشك في أن العديد من النقاط المثيرة للاهتمام ستخطر ببال أي أحد على دراية تامة بالموضوع، وسيرى مجموعة من الكائنات من منظور الانحدار مع التعديل. أظن أن كل هذه الأشكال التي انحدرت من عصر قديم ولم تخضع إلا لتغير طفيف جدا يجب أن تغفل، وألا تؤخذ في الحسبان سوى الأشكال التي خضعت لتعديل كبير في كل حقبة متعاقبة. ما أخشاه هو ما إذا كانت عضديات الأرجل قد شهدت تغييرا كافيا، أم لا. ينبغي أيضا مراعاة المقدار المطلق لاختلاف الأشكال في مثل هذه المجموعات على طرفين متضادين تماما من الزمن، وإلى أي مدى تكون الأشكال المبكرة وسيطة في طابعها بين تلك التي ظهرت بعدها بفترة زمنية طويلة. وعلى خلاف ما يراه البعض فيما يبدو، لا يتضاءل قدم مجموعة ما لأنها نقلت إلى عصرنا الحاضر أشكالا قريبة الصلة بعضها ببعض. ثمة نقطة أخرى تتمثل في مدى عدم انقطاع تعاقب كل جنس، من المرة الأولى التي ظهر فيها حتى انقراضه، مع مراعاة التكوينات غير الغنية بالحفريات مراعاة وافية. لا يسعني سوى أن أرى أن شخصا مثلك قد يكتب مقالة مهمة (أهم بكثير من مائة مقال نقدي أدبي)، ومن دون جهد مضن كبير. أعرف أنه من المرجح جدا ألا يكون لديك فراغ، أو ربما تكون غير مهتم بالموضوع أو غير معجب به، لكني أثق، معتمدا على لطفك، في أنك ستسامحني على تقديم هذا الاقتراح. إذا أردت، بفضل أي حسن حظ استثنائي، أن تنفذ هذه الفكرة، فسأطلب منك أن تقرأ فصلي العاشر عن التعاقب الجيولوجي. وأود في هذه الحالة أن تسمح لي بأن أرسل إليك نسخة من الطبعة الجديدة، التي نشرت للتو، والتي أدرجت فيها بعض الإضافات والتصحيحات في الفصلين التاسع والعاشر.
أرجو أن تسامحني على هذه الرسالة الطويلة، وتفضل بقبول أصدق تحياتي.
بالغ إخلاصي
سي داروين
ملحوظة:
أكتب بخط سيئ جدا إلى حد أنني طلبت من أحدهم نسخ هذه الرسالة.
من تشارلز داروين إلى توماس ديفيدسون
داون، 30 أبريل 1861
سيدي العزيز
أرسل إليك بأحر آيات شكري على خطابك، لم أكن أعرف إطلاقا أنك طالعت عملي. أؤكد لك أنني أعتبر الاهتمام الذي أوليته إياه، مع الأخذ في الحسبان بمعرفتك والطابع الفلسفي لعقلك (لأنني أتذكر جيدا خطابا لافتا أرسلته إلي، ولأنني طالعت منشوراتك المختلفة)، واحدا من أقيم الإطراءات التي تلقيتها، بل ربما يكون الأفضل على الإطلاق. إنني أعيش في عزلة شديدة إلى حد أنني قلما أعرف بما يجري، وأنا أرغب بشدة في معرفة العمل الذي نشرت فيه بعض التعليقات على كتابي. إنني مهتم جدا بالموضوع، ولعله لا يكون اهتماما مدفوعا بالأنانية فحسب؛ لذا أرجو أن تصدق أن خطابك أسعدني بشدة؛ إذ أكون قانعا تماما عندما ينظر أي أحد إلى الموضوع بعين الإنصاف، سواء أوافقني الرأي تماما أم بقدر ضئيل أم لم يتفق معي. أرجو ألا تظن أنني متفاجئ على الإطلاق من اعتراضك على التسليم السريع بصحة ما ورد في الكتاب؛ فالحق أنني لا أكن احتراما كبيرا لرأي من يفعل ذلك؛ أعني إذا تسنى لي أن أحكم على الآخرين بناء على الوقت الطويل الذي استغرقه تغيير قناعاتي. ذلك أن كل مرحلة من مراحل الاقتناع قد كلفتني سنوات. صحيح أن الصعوبات كثيرة وهائلة جدا كما تقول، لكني كلما فكرت، أراها ناجمة عن الاستهانة بمقدار ما نجهله. إنني أنتمي إلى العصر القديم، حتى إنني أولي الصعوبات الناجمة عن قصور السجل الجيولوجي أهمية أكبر مما يوليه إياها بعض الشبان. فمما يذهلني ويبهجني في الوقت ذاته أنني أجد رجالا جيدين مثل رامزي وجوكس وجيكي ولايل، وهو العجوز الوحيد من بينهم، لا يرون أنني بالغت إطلاقا في قصور السجل. إذا ثبتت صحة آرائي في أي وقت على الإطلاق، فسيجب تعديل آرائنا الجيولوجية الحالية تعديلا كبيرا. مشكلتي الكبرى هي عدم القدرة على الموازنة بين الآثار المباشرة لتأثير تغير ظروف الحياة المستمر منذ فترة طويلة دون أي انتقاء، وتأثير الانتقاء على التغير العرضي (إن جاز القول). أتردد كثيرا بشأن هذه المسألة، لكني عادة ما أعود إلى إيماني بأن التأثير المباشر لظروف الحياة لم يكن كبيرا. ربما أدى هذا التأثير المباشر على الأقل دورا صغيرا للغاية في إنتاج كل التعديلات التكيفية الجميلة التي لا حصر لها في كل كائن حي. وبخصوص إيمان الأشخاص، فما يفاجئني بعض الشيء هو أن يكون أي أحد (مثل كاربنتر) مستعدا «للاتفاق معي بدرجة كبيرة» إلى حد الاقتناع بأن الطيور كلها انحدرت من سلف واحد، ولا يزيد على هذا قليلا فحسب لينطبق ذلك أيضا على كل أعضاء التقسيم الكبير نفسه؛ ذلك أنه على هذا المستوى من الاعتقاد تصبح كل الحقائق في علم التشكل وعلم الأجنة (الأهم من بين كل الموضوعات، برأيي)، محض مهازل إلهية ... لا أستطيع التعبير عن مدى عمق سعادتي بأنك ستنشر يوما ما رأيك النظري عن تعديل نوع عضديات الأرجل وتحمله؛ أنا متيقن من أن هذا سيكون إضافة قيمة إلى المعرفة.
أرجو أن تسامحني على هذا الخطاب المفعم بالأنانية، لكنك تتحمل جزءا من اللوم على ذلك بإسعادي سعادة بالغة. طلبت من موراي أن يرسل إليك نسخة من الطبعة الجديدة، وكتبت اسمك.
أرجو يا سيدي العزيز أن تتقبل أصدق تحياتي.
مع خالص احترامي
سي داروين [في أفرودة السيد ديفيدسون البحثية عن عضديات الأرجل البريطانية، التي نشرتها جمعية علم الحفريات بعدئذ بوقت قصير، أتت النتائج على النحو الذي توقعه والدي إلى حد ما. «أظهر السيد ديفيدسون من خلال سلسلة طويلة من الأشكال الانتقالية أن ما لا يقل عن خمسة عشر نوعا من الأنواع المعترف بها عموما مرتبطة ب ... نوع واحد.»
14
في خريف عام 1860 والجزء الأول من عام 1861، تراسل والدي كثيرا مع البروفيسور آسا جراي بخصوص موضوع أشير إليه سلفا؛ ألا وهو نشر مقالات البروفيسور جراي الثلاث في أعداد يوليو وأغسطس وأكتوبر من مجلة «أتلانتيك مانثلي»، عام 1860، في صورة كتيب. تولى السادة تروبنر نشر الكتيب، وقد كتب والدي متحدثا عنهم: «كان السادة تروبنر للنشر في غاية الكرم واللطف، ويقولون إنهم لن يأخذوا أي نفقات بالرغم من مجهوداتهم. لقد حددت بضعة إعلانات دعائية، وسيدرجون أحدها في دورياتهم الخاصة مجانا.»
سيجد القارئ هذه المقالات وقد أعيد نشرها في كتاب «داروينيانا» الذي كتبه آسا جراي، في الصفحة 87، تحت عنوان «الانتقاء الطبيعي لا يتعارض مع اللاهوت الطبيعي». لاقى الكتاب إعجابا كبيرا بين الأشخاص الأقدر على إدراك محاسنه، وارتأى والدي أنه كان ذا فائدة كبيرة في تقليل المعارضة، وإقناع الناس بتغيير أفكارهم القديمة واعتناق فكرة التطور. ولا يتجلى استحسانه الشديد له في خطاباته فحسب، بل كذلك في حقيقة أنه أورد ذكرا خاصا له في مكان بارز جدا في الطبعة الثالثة من كتاب «أصل الأنواع». وقد اعترف لايل، من بين رجال آخرين، بقيمة الكتيب كترياق لنوعية النقد الذي كانت قضية التطور تعانيها. ومن ثم، أرسل والدي خطابا إلى الدكتور جراي، قائلا فيه: «سأذكر لك مثالا واحدا على فائدة كتيبك: كان أسقف لندن يسأل لايل عن رأيه في المقال النقدي الوارد في دورية «كورترلي»، وأجاب لايل قائلا: «اقرأ في مجلة «أتلانتيك» ما كتبه آسا جراي».» يتجلى بوضوح تام أن والدي، في مثل حالة منشورات الدكتور جراي، لم يفرح بنجاح رأيه الخاص عن التطور ، أي إن التعديل يحدث أساسا بسبب الانتقاء الطبيعي، بل على العكس من ذلك، كان يرى أن النقطة المهمة حقا هي أن يقبل مذهب الانحدار. ومن ثم أرسل خطابا إلى البروفيسور جراي (11 مايو 1863) بخصوص كتاب «عصور البشر القديمة»، الذي كتبه لايل، قائلا: «إنك تتحدث عن لايل معتبرا إياه حكما، ما أشكو منه الآن أنه يرفض أن يكون حكما ... أكاد أن أتمنى أحيانا أن يكون لايل قد انتقدني. عندما أتحدث بضمير المتكلم هنا، فأنا لا أقصد سوى مسألة «تغير الأنواع بالانحدار». فتلك هي النقطة التي أراها فارقة. صحيح أنني شخصيا مهتم جدا بالانتقاء الطبيعي، لكني أرى ذلك غير مهم تماما مقارنة بسؤال «الخلق أم التعديل».»]
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، 11 أبريل [1861]
عزيزي جراي
سررت جدا بتلقي صورتك، وأنا الآن في انتظار صورتي التي سأرسلها فور مجيئها. إنها قبيحة، ويؤسفني القول إن الذنب ليس ذنب المصور ... منذ آخر خطاب أرسلته، تلقيت عدة خطابات تعج بأعظم إشادة لمقالتك؛ إذ يقر الجميع بأنها أفضل ما كتب، وبفارق كبير عن أقرب نظيراتها، وأنا متيقن أنها قدمت لكتاب «أصل الأنواع» نفعا كبيرا. لم أسمع شيئا بعد عن قدر مبيعاته. سترى مقالا نقديا في دورية «ذا جاردنرز كرونيكل». عزيزي هنزلو المسكين، الذي أدين له بالكثير، يحتضر، وهوكر برفقته. شكرا جزيلا على مجموعتي أوراق المحاضر التي أرسلتها. لا أستطيع فهم ما يرمي إليه أجاسي. أظنك تحدثت ذات مرة عن البروفيسور بوين واصفا إياه بأنه رجل ذكي جدا. الحق أني أرى من كتاباته أنه يفتقر إلى مهارة الملاحظة تماما. لا يمكن أن يكون قد شاهد الحيوانات كثيرا، وإلا كان سيرى الفارق بين الكلاب المسنة الحكيمة والكلاب الصغيرة. ورقته البحثية عن الوراثية عجيبة للغاية. ذلك أنك إذا أخبرت أحد مربي الحيوانات بأن ينتقي أسوأ «أفراد» الحيوانات لديه، وينشئ منها نسلا، ثم يأمل في نيل مبتغاه، فسوف يظن أنك ... مجنون. [توفي البروفيسور هنزلو في 16 مايو 1861، جراء مضاعفات التهاب الشعب الهوائية واحتقان الرئتين وتضخم القلب. لم تستسلم بنيته الجسدية القوية سريعا ، وظل في حالة وهن مؤلمة طيلة أسابيع، وهو يدري بأن نهايته قريبة وينظر إلى الموت بعينين شجاعتين غير خائفتين. وفي كتاب «سيرة هنزلو» الذي كتبه السيد بلومفيلد (جينينز) (عام 1862)، ورد وصف جليل مؤثر لزيارة الوداع التي قام بها البروفيسور سيجويك إلى صديقه القديم. قال سيجويك فيما بعد إنه لم ير قط «إنسانا روحه أقرب إلى الجنة منه».
أرسل والدي خطابا إلى السير جيه دي هوكر عند سماعه بوفاة هنزلو، قائلا: «إنني على يقين تام أن هذه الأرض لم يسر عليها رجل أفضل منه قط.»
ذكر أبي انطباعاته عن شخصية هنزلو في كتاب «سيرة هنزلو» الذي كتبه بلومفيلد. وأرسل خطابا إلى السير جيه دي هوكر بخصوص هذه الذكريات (في 30 مايو 1861) قائلا: «كتبت صباح اليوم ذكرياتي وانطباعاتي عن شخصية عزيزي المسكين هنزلو في عام 1830 تقريبا. أحببت هذه المهمة؛ ولذا كتبت أربع صفحات أو خمسا تنسخ الآن. لا أظن أنك ستستخدمها كلها، لكنك بالطبع تستطيع أن تجزئها وتغيرها بقدر ما تشاء. إذا استخدمت أكثر من جملة واحدة، فسأود أن أرى بروفة طباعة؛ لأنني لا أستطيع أبدا أن أكتب على نحو جيد إلى أن أرى الموضوع مطبوعا. من المرجح جدا أن تبدو بعض تعليقاتي تافهة للغاية، لكني رأيت أنه من الأفضل أن أفصح عن أفكاري مثلما خطرت ببالي؛ لتستخدمها أنت وجينينز بالطريقة التي تريانها مناسبة.
سترى أنني قد تجاوزت ما طلبته، لكنني، كما قلت في البداية، كنت مستمتعا بكتابة انطباعي عن شخصيته الرائعة.»]
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، 5 يونيو [1861]
عزيزي جراي
كنت منشغلا بدرجة أكبر من المعتاد؛ لذا توانيت في الرد على رسالتك المؤرخة بتاريخ 6 مايو. آمل أن تكون قد تلقيت الطبعة الثالثة من كتاب «أصل الأنواع» منذ وقت طويل ... لم أسمع شيئا من دار نشر «تروبنر» عن مبيعات مقالتك؛ لذا أخشى ألا تكون كبيرة، وأرسلت إليك لأخبرك بأنك تستطيع توفير مزيد من النسخ. لقد أرسلت نسخة إلى السير جيه هيرشل، الذي وضع في طبعته الجديدة من كتابه «الجغرافيا الطبيعية» تعليقا على كتاب «أصل الأنواع»، وهو يتفق إلى حد ما، لكنه يدرج تحفظا بشأن مسألة التصميم - يشبه تحفظك كثيرا ... لقد دفعت إلى التفكير مليا في الموضوع مؤخرا، ويحزنني القول إنني أصبحت أكثر اختلافا في الرأي عنك. هذا لا يعني أن التباين المصمم يجعل القوة التي أعزو إليها الربوبية «الانتقاء الطبيعي» غير ضرورية، كما يبدو لي، لكن بناء على ما أجريته مؤخرا من دراسة التباين الحادث تحت تأثير التدجين، ورؤية المجال الهائل جدا لإمكانية التباين غير المصممة، والتي يمكن للانتقاء الطبيعي تخصيصها لأي غرض نافع لكل كائن.
أشكرك جزيل الشكر على إرسال مقالك النقدي عن فيليبس إلي.
15
أتذكر أنني أخبرتك ذات مرة بالمهن الكثيرة التي كان عليك ممارستها، لكني صرت مقتنعا الآن بأنك ناقد بالفطرة. يا إلهي، ما أحسن الطريقة التي تصيب بها عين الصواب وأكثر المرات التي تفعل فيها ذلك! إنك ترى كتاب فيليبس أعلى قيمة مما أراه، أو مما يراه لايل، الذي يظنه رجعيا إلى حد مخيف. لقد سليت نفسي بمحاكاة حجة فيليبس مثلما تنطبق على التباين الحادث تحت تأثير التدجين محاكاة ساخرة؛ ومن ثم، يمكن أن تثبت أن نوع البط أو الحمام لم يتباين لأن نوع الإوز لم يتباين، مع أنه دجن في عصور أقدم، ولا يمكن تحديد سبب وجيه لعدم إنتاجه ضروبا عديدة ...
لم أكن أعرف من قبل أن الصحف شائقة جدا إلى هذا الحد. أمريكا الشمالية لا تنصف إنجلترا؛ فأنا لم أر ولم أسمع بأي أحد ليس منحازا إلى أمريكا الشمالية. بل إن البعض، وأنا منهم، يتمنون من الرب أن تعلن أمريكا الشمالية حملة صليبية على العبودية، بالرغم من خسارة ملايين الأرواح. فعلى المدى البعيد، ستقدم هذه الوفيات التي تصل إلى الملايين خدمة جليلة لقضية الإنسانية. ما أروع الأوقات التي نعيش فيها! يبدو أن ماساتشوستس تبدي حماسة نبيلة. يا إلهي العظيم! كم أرغب في أن أرى أكبر لعنة على الأرض؛ أي العبودية، وقد زالت تماما!
إلى اللقاء. هوكر منهمك في شئون عزيزي هنزلو المسكين الموقر. وداعا.
خالص تحياتي
سي داروين
من هيو فالكونر إلى تشارلز داروين
31 شارع ساكفيل، ويستمنستر، 23 يونيو 1861
عزيزي داروين
زرت كهف أديلسبرج، وأحضرت معي فردا حيا من سمندل الكهوف الأوروبي، نويت أن أخصصه لك حالما حصلت عليه، هذا إن كان لديك حوض أسماك وكنت ترغب في الحصول عليه. لم أعد من أوروبا سوى الليلة الماضية فقط، وعندما سمعت من أخيك أنك على وشك الذهاب إلى توركي، لم أضيع وقتا في تقديم هذا العرض إليك. لا يزال الحيوان العزيز المسكين حيا - مع أنه بلا موارد تغذية كافية منذ شهر - وأنا متلهف بشدة للتخلص من مسئولية تجويعه وقتا أطول. أما بين يديك، فسينمو ويحظى بفرصة عادلة للتطور دون تأخير إلى أن يصير نوعا ما من الحماميات؛ ربما حمامة نفاخة أو حمامة بهلوانية على سبيل المثال.
عزيزي داروين، كنت أتجول في أنحاء شمال إيطاليا وألمانيا مؤخرا. سمعت آراءك ومقالتك الرائعة تناقش في كل مكان - صحيح أن أغلب الآراء كانت معارضة، وفقا للتحيز الخاص لدى المتكلم - لكن الكتاب، وصدق غايته، وعظمة فكرته، ولباقة إيضاحه، وجرأة شرحه دائما ما يشار إليه بأشد درجات الإعجاب. ومن بين أشد أصدقائك محبة وودا، لم يفرح أحد بذلك التقدير العادل لتشارلز داروين أشد مما فرحت لك.
صديقك الشديد الإخلاص
إتش فالكونر
من تشارلز داروين إلى هيو فالكونر
داون، [24 يونيو 1861]
عزيزي فالكونر
تلقيت خطابك للتو، ومن حسن الحظ أنه وصل قبل الموعد المحدد بيوم، ولم أضيع ثانية واحدة وسارعت بالرد عليك، لأشكرك من أعماق قلبي على عرضك هذه العينة القيمة علي، لكن ليس لدي حوض أسماك وسأسافر قريبا إلى توركي؛ لذا ستكون النتيجة مؤسفة جدا إذا أخذته. ومع ذلك، أرغب جدا في رؤيته بالتأكيد، لكن هذا مستحيل مع الأسف. ألن تكون جمعية علم الحيوان أفضل مكان؟ ومن ثم سيعوض الاهتمام الذي سيهتمه الكثيرون بهذا الحيوان الاستثنائي عن عنائك.
رغم أن تكبدك هذا العناء وعرضك العينة علي تصرف لطيف منك؛ فالحقيقة أنني أعتبر رسالتك نفسها أعلى قيمة من العينة. سأحتفظ برسالتك بين قلة قليلة من الرسائل القيمة. لقد أثر لطفك في وجداني بشدة.
تفضل بقبول خالص الاحترام والامتنان
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
2 بنايات «هيسكيث كريسينت»، توركي،
13 يوليو [1861] ... آمل أن تكون صحة هارفي قد تحسنت؛ لقد تلقيت مقاله النقدي
16
عني قبل يوم أو اثنين، واستنتجت منه أن صحته تتحسن بالتأكيد، إنه مقال جيد ومنصف، لكن من المضحك أن ترى رجلا يحاجج مؤيدا لمسألة تعاقب الحيوانات استنادا إلى طوفان نوح؛ فبما أن الرب لم يبد البشر كلهم آنذاك، فمن المرجح أنه لم يبد سلالات الحيوانات الأخرى كلها في كل حقبة جيولوجية! لم أتوقع قط أن أنال مساعدة من العهد القديم ...
من تشارلز داروين إلى سي لايل
2 بنايات «هيسكيث كريسينت»، توركي،
20 يوليو [1861]
عزيزي لايل
أرسلت إليك قبل يومين أو ثلاثة نسخة طبق الأصل من مقال نقدي جيد عن كتاب «أصل الأنواع» كتبه رجل يدعى السيد ماو،
17
ومن الواضح أنه رجل عميق التفكير، وقد أرسلت هذا المقال إليك لأنني ظننت أنك قد ترغب في الحصول عليه، مثلما رغبت في الحصول على الكثير جدا من المقالات النقدية ...
إن هذا المكان خلاب، وأعتقد أنني قد مشيت ميلين كاملين ذهابا وإيابا بالفعل، وهذا إنجاز رائع.
التقيت السيد بنجلي
18
منذ بضعة أيام، وسررت بحماسته. لا أعرف إطلاقا ما إذا كنت في لندن أم لا. من المؤكد أن مرضك أضاع عليك وقتا كثيرا، لكني أتمنى أن تكون قد أوشكت على إنهاء مهمتك العظيمة المتمثلة في إصدار الطبعة الجديدة. لا شك أنك مشغول جدا إذا كنت في لندن؛ لذا فسأكون كريما وأقسم بشرفي أنني لا أنتظر أي رد على هذه الرسالة التافهة المملة ...
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، 17 سبتمبر [1861؟]
عزيزي جراي
أشكرك بكل صدق على خطابك الطويل العلمي والسياسي الشائق جدا المؤلف من ثلاثة أجزاء بتاريخ 27 و29 أغسطس و2 سبتمبر، الذي تلقيته صباح اليوم. أتفق مع الكثير مما تقوله، وأتمنى من الرب أن نكون، نحن الإنجليز، مخطئين تماما فيما يراودنا من شكوك حيال: (1) ما إذا كان الشمال يستطيع غزو الجنوب، و (2) ما إذا كان الشمال لديه أصدقاء كثيرون في الجنوب، و(3) حيال ما إذا كنتم، أنتم يا نبلاء ماساتشوستس، محقين في نقل مشاعركم الطيبة الخاصة إلى رجال واشنطن. أقول مرة أخرى إننا نتمنى من الرب أن نكون مخطئين في التشكك بشأن هذه النقاط. النقطة الثالثة وحدها هي ما تجعل إنجلترا غير متحمسة لكم. لا أعرف ما قد يكون الوضع عليه في لانكشير، لكن في جنوب إنجلترا، ليس للقطن أي علاقة بشكوكنا. إذا تحقق انتصاركم متبوعا بإلغاء العبودية، فسيبدو العالم كله أكثر إشراقا في عيني، وعيون الكثيرين. إن وقف انتشار العبودية ومنع وصولها إلى الأقاليم فحسب سيكون مكسبا كبيرا، إذا أمكن ذلك دون الإلغاء، وهذا ما أشك فيه. ينبغي ألا تتعجب كثيرا من برود إنجلترا عندما تتذكر عدد المقترحات الكثيرة جدا التي طرحت في بداية الحرب لإعادة الأوضاع إلى حالتها القديمة مع الالتزام بحدود دائرة العرض القديمة، لكن يكفي هذا القدر من الحديث بخصوص هذه المسألة، كل ما أستطيع قوله إن ماساتشوستس والولايات المجاورة تحظى بالتعاطف الكامل من كل رجل صالح أقابله، وهذا التعاطف سيتسع ليشمل الولايات الفيدرالية كلها؛ إذا أمكن إقناعنا بأنهم يشاركونكم مشاعركم. ولكن يكفي هذا القدر من الحديث بخصوص هذه المسألة. فهي خارج نطاق اختصاصي، مع أنني قرأت كل كلمة من الأخبار، ودرست كتابات أولمستيد جيدا في الماضي ...
سؤالك عما قد يقنعني بمسألة التصميم محير. إذا رأيت ملاكا تنزل ليعلمنا الخير، واقتنعت أنني لست مجنونا عندما ينظر إليه آخرون فيرونه أيضا، فسوف أومن بوجود التصميم. إذا أمكن إقناعي إقناعا تاما بأن الحياة والعقل كانا معتمدين، بكيفية مجهولة ما، على قوى أخرى خفية، فسوف أقتنع. إذا كان الإنسان مصنوعا من نحاس أو حديد ولم يكن مرتبطا البتة بأي كائن حي آخر عاش على الإطلاق، فربما سأقتنع. غير أن هذه الطريقة في الكتابة طفولية فحسب.
أتراسل في الآونة الأخيرة مع لايل الذي، على ما أظن، يتبنى فكرتك عن أن تيار التباين موجه أو مصمم . لقد سألته (وهو يقول إنه سيفكر من هذه اللحظة فصاعدا ويجيبني) عما إذا كان يعتقد أن شكل أنفي قد صمم. إذا كان يعتقد ذلك، فليس لدي شيء آخر أقوله. أما إذا لم يكن كذلك؛ فبالنظر إلى ما فعله مربو الحيوانات بانتقاء فروق فردية في عظام أنوف الحمام، سوف أرى أن الافتراض القائل إن التباينات التي يحفظها الانتقاء الطبيعي مخطط لها ومقصودة من أجل مصلحة أي كائن، افتراض غير منطقي. بالرغم من ذلك، فأنا أعلم أني أعاني حالة التشوش نفسها (كما قلت من قبل) التي يبدو أن العالم كله يعانيها بخصوص مسألة الإرادة الحرة مقابل افتراض أن كل شيء متنبأ به ومحدد سلفا.
إلى اللقاء يا عزيزي جراي، مع جزيل الشكر على خطابك الممتع.
مراسلك العديم الرحمة
سي داروين
من تشارلز داروين إلى إتش دبليو بيتس
داون، 3 ديسمبر [1861]
سيدي العزيز
أشكرك على خطابك الممتع للغاية والمراجع القيمة التي أشرت إليها، مع أن الرب وحده يعلم متى سأعود مجددا إلى هذا الجزء من موضوعي. صحيح أن المرء لا يستطيع الحكم على الأسلوب عندما يسمع ورقة بحثية واحدة،
19
لكن ورقتك تبدو لي واضحة وجيدة جدا. فلتصدق أنني أعتبرها قيمة للغاية. فمن وجهة نظر عامة، أنا مقتنع تماما (وقد تبنى هوكر وهكسلي الرأي نفسه منذ بضعة أشهر) بأنه لا يمكن توجيه علماء التاريخ الطبيعي إلى تبني رؤية فلسفية محضة للطبيعة إلا بتناول موضوعات خاصة كيفما فعلت. ومن وجهة نظر خاصة، أظنك قد حللت واحدة من أصعب المشكلات حلا على الإطلاق. سررت عندما سمعت من هوكر أن الجمعية اللينية ستمنح ألواح طباعة الرسومات إذا استطعت الحصول على رسومات ...
لا تشك من نقص النصائح في أثناء رحلات سفرك؛ فأنا أظن أن جزءا من الأصالة العظيمة الكامنة في آرائك ربما يكون بسبب اضطرارك إلى التفكير بنفسك دون مساعدة. أتفهم أن كيفية استقبالك في المتحف البريطاني ستثبطك، صحيح أنهم جماعة جيدة جدا من الرجال، لكنهم ليسوا من النوعية التي تقدر عملك. الحق أنني لطالما ظننت أن «الإفراط» في العمل المنهجي [و] الوصف يضعفان الملكات الفكرية بطريقة ما. فعامة الناس يقدرون جرعة جيدة من الاستدلال المنطقي أو التعميم، مع تعليقات جديدة وغريبة على العادات والعلل الغائية، إلى آخر ذلك، تقديرا أكبر بكثير مما يوليه إياه علماء التاريخ الطبيعي النظاميين.
سررت للغاية بسماع أنك بدأت رحلات سفرك ... صحيح أنني مشغول جدا، لكني سأسعد «حقا» بتقديم أي مساعدة أستطيع تقديمها بقراءة أول فصل أو اثنين من كتابك. لا أظنني سأكون قادرا على تصحيح الأسلوب؛ لأنني وجدت، بعد تجارب متكررة، أنني لا أستطيع تصحيح أسلوبي أنا شخصيا إلا عندما أرى المخطوطة جاهزة للطباعة. يولد البعض بملكة إجادة الكتابة، مثل والاس، بينما يضطر آخرون، مثلي ومثل لايل، إلى كتابة كل جملة بجهد مضن جدا وبطء شديد. عندما لا أستطيع التوصل إلى أسلوب يرضيني لعرض نقاش صعب، أتبع خطة جيدة جدا بأن أتخيل أن شخصا ما قد دخل الغرفة ويسألني عما أفعل، فأحاول فورا أن أشرح لهذا الشخص المتخيل مقصدي الرئيسي. لقد فعلت هذا مع نفسي على نطاق فقرة واحدة مرات عديدة، وأحيانا ما كنت أفعل هذا مع السيدة داروين إلى أن أرى الكيفية التي ينبغي أن يطرح بها الموضوع. أظنه شيئا جيدا أن يقرأ المرء مخطوطته بصوت عال. لكن الأسلوب يمثل صعوبة كبيرة لي، وإن كان بعض الحكام البارعين يرون أنني نجحت، وأنا أقول هذا لأشجعك.
ما «أظن» أنني أستطيع فعله هو إخبارك بالأجزاء التي يستحسن أن تختصرها. أظن من الأفضل أن تدخل في «صلب الموضوع» سريعا بلا مقدمات، وأن تضيف أي أوصاف للبلد أو تفاصيل تاريخية ربما تكون ضرورية لاحقا. موراي يحب الكثير من الرسومات التوضيحية، فلتعطه بعض الرسومات التوضيحية للنمل، بأي طريقة ممكنة. يحمل الجمهور تقديرا للقردة؛ أبناء عمومتنا المساكين. ما الفروق الجنسية الموجودة لدى القردة؟ هل أبقيتها خاملة؟ إذا كان الأمر كذلك، فلتتحدث عن تعابيرها. يؤسفني القول إنك ستستطيع بالكاد قراءة خط يدي البغيض، لكني لا أستطيع الكتابة بخط أفضل دون تكبد عناء قاتل.
سأخبرك برأيي الصريح في مخطوطتك، ولكن تذكر أن الحكم استنادا إلى المخطوطة وحدها صعب، والأجزاء الثقيلة تبدو أثقل بكثير. كان أحد الحكام الممتازين يظن أن يومياتي سيئة جدا، والآن بعدما صارت مطبوعة، عرفت مصادفة أنها تنال إعجابه. أنا متيقن من أنك ستتفهم سبب غروري الأناني الشديد.
لقد خاب أملي «قليلا» في كتاب والاس
20
عن الأمازون؛ فهو لا يحوي حقائق كافية. وعلى الجانب الآخر، ففي كتاب جوس،
21
لا يوجد استدلال منطقي كاف بالدرجة التي تعجبني. الرب وحده يعلم ما إذا كنت ستهتم بقراءة كل هذه الخواطر المبعثرة ...
يسعدني أنك قضيت يوما مبهجا مع هوكر،
22
إنه رجل طيب إلى حد مثير للإعجاب بكل معنى الكلمة. [الفقرة التالية، المقتبسة من رسالة إلى السيد بيتس عن الموضوع نفسه مثيرة للاهتمام؛ لأنها تعطي لمحة عن الخطة التي اتبعها والدي في كتابة كتابه «رحلة عالم طبيعة حول العالم»: «بصفتي مؤلفا قديما بليت من كثرة العمل في التأليف، دعني أسدي إليك نصيحة؛ وهي أن تحذف كل كلمة ليست ضرورية تماما للموضوع الذي تناقشه، ولا يمكن أن تجذب اهتمام رجل لا يعرف شيئا عن الموضوع. دائما ما أسأل نفسي هل يمكن لهذا أن يجذب اهتمام شخص لا يعرف شيئا عن الموضوع؟ وأختار الجمل التي أحذفها أو أتركها وفقا لهذا. أظن أنه ينبغي علينا تحمل العناء كل العناء في سبيل جعل الأسلوب واضحا بكل شفافية، ولنترك البلاغة فريسة للنقاد ينشغلون بها.»
نشر كتاب السيد بيتس، «عالم التاريخ الطبيعي في الأمازون»، في عام 1865، لكن يمكن ذكر الخطاب التالي هنا وليس في موضعه الزمني المناسب:]
من تشارلز داروين إلى إتش دبليو بيتس
داون، 18 أبريل 1863
عزيزي بيتس
انتهيت من قراءة المجلد الأول. ربما يمكن أن ألخص انتقاداتي في جملة واحدة؛ ألا وهي أن هذا هو أفضل ما نشر في إنجلترا على الإطلاق من أعمال رحلات التاريخ الطبيعي. أرى أسلوبك مثيرا للإعجاب. لا شيء يمكن أن يكون أفضل من النقاش المتعلق بالصراع على البقاء، ولا شيء أفضل من وصف منظر الغابة.
23
إنه كتاب عظيم، وسواء أبيعت نسخه بسرعة أم لا، فسيبقى خالدا. لقد تحدثت بجرأة عن الأنواع، ويبدو أن الجرأة في الحديث عن هذا الموضوع تصبح أندر فأندر. ما أجمل كيفية شرح محتواه بالرسومات التوضيحية. الصورة المنقوشة على ظهر غلافه رائعة جدا أيضا. أهنئك من أعماق قلبي على نشره.
كانت دورية «ذا أثنيام»
24
باردة بعض الشيء، كما هي دائما، ووقحة إلى أقصى حد في الحديث عن حقائقك الرئيسية. هل رأيت دورية «ذا ريدر»؟ أستطيع إرسالها إليك إذا لم تكن قد رأيتها ...
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، 11 ديسمبر [1861]
عزيزي جراي
شكرا جزيلا حارا على رسالتيك الأخيرتين القيمتين جدا. ما أغرب أننا، عندما تتلقى هذا الخطاب، ربما نكون في حالة حرب، وسنضطر بصفتنا رجلين وطنيين صالحين، إلى أن يكره أحدنا الآخر، مع أنني سأجد كراهيتك مهمة شاقة جدا. ما أغرب أن نرى بلدين، كرجلين غاضبين سخيفين، يتبنيان رأيين متضادين تماما بشأن الصفقة التجارية نفسها! يؤسفني القول إننا سنخوض الحرب قطعا بلا أي شك إذا لم يسلم الرجلان الجنوبيان المارقان.
25
ويا للبشاعة إذا حاربنا في صف الجانب المؤيد للعبودية! سيقال بالطبع إننا نحارب من أجل الحصول على القطن، لكني موقن تماما أن هذا ليس جزءا من الدافع على الإطلاق. حسنا، أشكر الرب على أننا، نحن الأفراد العاديين، ليس لنا علاقة بمسئولية فظيعة كهذه. لا يسعني سوى التعبير مرة أخرى عن عجبي الشديد من أنكم تظنون على ما يبدو، أنكم تستطيعون غزو الجنوب رغم أنني لا أقابل أي إنسان، حتى من أولئك الذين يتمنون ذلك بشدة، يظن ذلك ممكنا؛ أي غزو الجنوب والاحتفاظ بالسيطرة عليه. لا أعتقد أن معظم أفراد الشعب في بلدكم سيصدق ذلك، لكني متيقن أننا إذا ذهبنا إلى الحرب فسيكون ذلك على مضض شديد من كل الطبقات ووزراء الحكومة والناس أجمعين. سيبين الزمن حقيقة الأمر، ولا جدوى من الكتابة عنه أو التفكير فيه. زرت الدكتور بوت قبل بضعة أيام، وسررت عندما وجدته مبتهجا وبخير حال. بالمناسبة، أرى أنه يتبنى رأيا إنجليزيا تماما بخصوص الشئون الأمريكية، مع أنه أمريكي في صميمه.
26
ربما قد يكتب باكل فصلا عن أن الرأي يعتمد كليا على خط الطول! ... بخصوص مسألة التصميم، أشعر بأن رغبتي في رفع الراية البيضاء تفوق رغبتي في إطلاق قذائفي البعيدة المدى كالعادة. أرغب في محاولة أن أطرح عليك سؤالا محيرا، لكنك عندما ترد المجاملة بمثلها، تراودني شكوك كبيرة حيال ما إذا كانت هذه طريقة عادلة للمناقشة. إذا كان كل شيء مصمما، فلا بد أن الإنسان مصمم؛ «الوعي الداخلي» للمرء (مع أنه دليل إرشادي خاطئ) يخبره بذلك، لكني مع ذلك لا أستطيع تقبل أن الأثداء الأثرية لدى ذكور البشر ... كانت مصممة لحكمة ما. وإذا حاولت القول إنني آمنت بذلك، ينبغي أن أومن به بتلك الطريقة غير المنطقية التي يصدق بها المتدينون الأرثوذكس وحدة الثالوث. تقول إنك تائه وسط ضباب، أنا عالق وسط وحل غليظ، أما المتدينون الأرثوذكس فسيقولون إنني عالق وسط وحل نتن بغيض، لكني مع ذلك لا أستطيع تجنب الخوض في المسألة. يا عزيزي جراي، لقد كتبت قدرا كبيرا من الهراء.
لك خالص مودتي
سي داروين
1862 [بسبب مرض أحد أولاده جراء إصابته بالحمى القرمزية، أخذ منزلا في بورنموث في الخريف. أرسل خطابا إلى الدكتور جراي من ساوثهامبتون (21 أغسطس 1862): «نحن أسرة بائسة، وينبغي إبادتنا. مكثنا هنا لإراحة ولدنا المسكين في رحلته إلى بورنموث، وزوجتي العزيزة المسكينة مرضت بالحمى القرمزية؛ إذ أصيبت بها إصابة حادة جدا، لكنها تتعافى جيدا. لا نهاية للعناء في هذا العالم المنهك. لن أشعر بالأمان إلى أن نصبح كلنا في ديارنا معا، ولا أعرف متى سيحدث ذلك. لكني أشكو بدافع من الحماقة فحسب.»
كان الدكتور جراي دائما ما يرسل طوابع بريدية إلى المريض بالحمى القرمزية، وقد كتب والدي في خطاب بخصوص هذا التصرف اللطيف الودود: «لا بد لي من العودة إلى ذكر مسألة الطوابع؛ لقد أجرى رجلي الصغير حساباته وتوصل إلى أنه سيكون قد حصل حتى الآن على ستة طوابع، وهو رقم لا يملكه أي ولد آخر في المدرسة. هذا انتصار. كان ملصوقا بخطابك الأخير العديد من الطوابع الملونة، وظل الصبي في فراشه يتفحص الظرف بكثير جدا من الرضا والهدوء.»
يتناول العدد الأكبر من خطابات عام 1862 الكتاب المتعلق بالسحلبيات، لكن موجة تغيير القناعات القديمة واعتناق فكرة التطور كانت لا تزال مستمرة في الانتشار، وظلت هذه الفترة تشهد الكثير من الخطابات والمقالات النقدية المتعلقة بالموضوع. وكمثال على الخطابات الغريبة التي تلقاها، يمكن ذكر خطاب وصل في يناير من هذا العام «من طبيب ألماني متخصص في الطب التجانسي، وهو معجب متحمس بكتاب «أصل الأنواع». وكان هذا الطبيب شخصيا قد نشر كتابا من النوعية نفسها تقريبا، لكنه يتطرق إلى تفاصيل أعمق بكثير. يشرح أصل النباتات والحيوانات استنادا إلى مبادئ الطب التجانسي في ألمانيا. لذا سأترجمه وأنشره في إنجلترا.»]
من تشارلز داروين إلى تي إتش هكسلي
داون، 14 [يناير؟] [1862]
عزيزي هكسلي
إنني سعيد من أعماق قلبي بنجاحك في الشمال،
27
وأشكرك على رسالتك وقصاصتك. يا إلهي، لقد هاجمت التعصب في معقله! ظننت أنك كنت ستتعرض لهجوم جماعي. أنا سعيد جدا بأنك ستنشر محاضراتك. يبدو أنك حافظت على نهج مناسب بين الجرأة البالغة والحذر. أنا سعيد من أعماق قلبي بأن كل شيء سار على أحسن ما يرام. أرجو أن تكون السيدة هكسلي بخير حال ... يجب أن أقول كلمة بشأن مسألة الهجائن. لا شك أنك محق في أن هذه النقطة تمثل فجوة كبيرة في الحجة، وإن كنت أظنك تبالغ في تقدير أهميتها، إنك لا تلمح أبدا إلى الدليل الممتاز المتمثل في أن «ضروب» نبات البوصير ونبات النيكوشيانا تصبح عقيمة جزئيا عند تلاقحها معا. من الغريب علي أن أقرأ (كما قرأت اليوم) أن أعظم «بستاني» متخصص في التهجين يستخف استخفافا تاما بالفارق المميز الذي يضعه «علماء النبات» بشأن هذه النقطة، ويصر على أن «الضروب» المهجنة تنتج ذرية عقيمة في كثير من المرات. هلا تسدي إلي معروفا بقراءة النصف الأخير من ورقتي البحثية عن زهور الربيع في دورية «جورنال أوف ذا لينيان سوسايتي»؛ لأنه يجعلني أظن أن العقم يجب من الآن فصاعدا أن ينظر إليه في العموم على أنه طابع مكتسب أو «منتقى»، وليتني كنت أملك حقائق هذا الرأي لأشدد عليه في كتاب «أصل الأنواع».
28
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 25 يناير [1862]
عزيزي هوكر
شكرا جزيلا على خطابك الذي أرسلته يوم الأحد الماضي، والذي كان واحدا من أمتع الخطابات التي تلقيتها في حياتي. لقد استرددنا جميعا عافيتنا، وأنا عاودت العمل. ارتأيت أنه من الأفضل أن أفصح عن مكنون صدري وما كنت أخفيه لآسا جراي، وأخبرته بأن عشاء بوسطن وما حدث فيه أزعجني للغاية، وأنني كنت على وشك أن أرى في تقسيم الولايات المتحدة نفعا سيعود على سلام العالم، لكني على الجانب الآخر قلت إن التفكير في أن مالكي العبيد سينتصرون قد آلمني، وإن صعوبات إنشاء حد فاصل كانت رهيبة. ترى ما الذي سيقوله؟ ... إن فكرتك عن أن الأرستقراطيين بارزون للغاية، وأن هذا يجعل صفوة الرجال في مجموعة كبيرة ينتقون بسهولة، جديدة علي ومدهشة. لقد ضحكنا كلنا من أعماق قلوبنا على فكرة أن كتاب «أصل الأنواع» قد جعلك في الحقيقة عجوزا من المؤيدين بشدة لحزب المحافظين. كنت أفكر أحيانا بشأن هذا الموضوع؛ البكورية
29
تتعارض تماما مع الانتقاء، تخيل أن جميع المزارعين قد جعلوا الثور البكر هو الوالد الذكر المنشئ لبقية أفراد سلالته بالضرورة! على الجانب الآخر، كما تقول، يرقى أقدر الرجال وأكثرهم أهلية إلى طبقة النبلاء باستمرار، ويتزاوجون مع ذرية اللوردات الأقدم، وينتقي اللوردات باستمرار أجمل النساء وأكثرهن فتنة من الرتب الأدنى؛ لذا يتحسن نسل اللوردات بفعل قدر كبير من الانتقاء غير المباشر. أتفق معك بالتأكيد في أن الخلاف الأمريكي الحالي يجعلنا كلنا ميالين بشدة إلى تأييد المحافظين. سررت جدا عند سماع أنك بدأت في طباعة كتاب «أجناس النباتات»؛ فمما يبعث في المرء الشعور بدرجة كبيرة من الرضا أن يولد الكتاب هكذا، بل إن ذلك مما يشعر المرء بأقصى درجات الرضا، وإن كان يعرف أن ثمة مولودا صغيرا سيصير في مرحلة التطور عما قريب ...
من تشارلز داروين إلى ماكسويل ماسترز
30
داون، 26 فبراير [1862]
سيدي العزيز
أنا ممتن جدا لك لأنك أرسلت إلي مقالك،
31
الذي قرأته للتو باهتمام بالغ. كان ما ورد فيه من محتوى تاريخي، إضافة إلى الكثير من المعلومات الأخرى، جديدا تماما علي. يبدو لي أنك أنجزته على نحو رائع وبأسلوب شديد الوضوح. ينبغي لك حقا أن تكتب كتابك الأكبر. إنك تتحدث عن كتابي بكرم مبالغ فيه، لكن يجب أن أعترف بأنك أسعدتني جدا؛ إذ لم يعلق أحد على الإطلاق، بحسب ما أعرف، على ما أقوله عن التصنيف، وهو جزء استمتعت كثيرا عندما كنت أكتبه. لك جزيل شكري على إرسال مقالك إلي، وأصدق تحياتي.
تقبل احترامي وإخلاصي يا سيدي العزيز
سي داروين [في ربيع هذا العام (1862)، قرأ والدي المجلد الثاني من كتاب باكل «تاريخ الحضارة». وربما يكون هذا الرأي التالي الذي عبر عنه بوضوح وقوة جديرا بأن نقتبسه هنا: «هل قرأت المجلد الثاني من كتاب باكل؟ لقد أثار بالغ اهتمامي، لا يهمني ما إذا كانت آراؤه صحيحة أم خاطئة، لكني أظنها تحوي قدرا كبيرا من الحقيقة. يشي الكتاب في جميع أجزائه بحب نبيل للتقدم والحقيقة، وباكل في رأيي هو أفضل كاتب باللغة الإنجليزية على الإطلاق، بصرف النظر عمن يقارن به.»]
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، 15 مارس [1862]
عزيزي جراي
أشكرك على الصحف (مع أنها كانت تتضمن انتقادات موجهة إلى إنجلترا)، وعلى خطابك المؤرخ بتاريخ 18 فبراير. أكاد حقا أستمتع بتلقي الطعنات من خنجر أملس مصقول حاد كقلمك. أتمنى من صميم قلبي لو كنت أستطيع أن أتضامن معكم بدرجة أكبر من هذا، بدلا من أن تقتصر مشاعري على كره الجنوب. لا نستطيع التعاطف مع مشاعركم؛ إذا أرادت اسكتلندا التمرد، فسوف نستشيط غضبا على ما أظن، لكني أرى أننا يجب ألا نكترث إطلاقا بآراء الأمم الأخرى. لا بد أن الألفية الجديدة ستأتي قبل أن تحب كلتا الأمتين الأخرى، ولكن حاول ألا تكرهني. فلتعتبرني أبله مسكينا معصوب العينين. أخشى أن يضعف الوضع الراهن المروع اهتمامك بالعلوم ...
أعتقد أن كتيبك قدم لكتابي نفعا «كبيرا»، وأشكرك من قلبي على ما قدمته لي شخصيا من نفع، ومن منطلق اعتقادي أن أغلب الآراء صحيح، أظن أنك أفدت العلوم الطبيعية كثيرا أيضا. يبدو أن الإيمان بموضوع الانتقاء الطبيعي ينتشر قليلا في إنجلترا والقارة؛ إذ طلبت طبعة ألمانية جديدة، وظهرت نسخة فرنسية للتو. أحد أفضل الرجال الذين تبنوا هذه الآراء، وإن كان غير معروف حاليا، هو السيد بيتس، أرجو منك أن تقرأ مجلدي كتابه «رحلات في الأمازون» عندما ينشران، وأعتقد بناء على مخطوطة الفصلين الأولين أنهما سيكونان جيدين جدا. ... مرة أخرى أرجو منك ألا تكرهني.
صديقك الأوفى إلى الأبد
سي داروين
من تشارلز داروين إلى سي لايل
1 شارع كارلتون تيريس، ساوثهامبتون،
32
22 أغسطس، [1862] ... أتمنى من صميم قلبي أن ينشر كتابك
33
في أكتوبر ... تقول إن الأسقف وأوين سينتقدانك انتقادا لاذعا، هذا الثاني لا يستطيع ذلك؛ لأن شخصا ما أكد لي أن أوين طرح في محاضراته التي ألقاها في ربيع العام الحالي فكرة جديدة جدا مفادها أن الطيور غير المجنحة قد فقدت أجنحتها بسبب عدم استخدامها، وأيضا أن طائر العقعق كان يسرق الملاعق، وما إلى ذلك؛ بسبب دافع من «أثر متبق» من غريزة كغريزة طيور التعريشة، التي تزين الممرات التي تبنيها بريش جميل. لقد قيل لي بالفعل إنه أشار بوضوح إلى أن جميع الطيور تنحدر من سلف واحد ...
تتطرق ملحوظتك، حسب ما يبدو لي، إلى نقاط شديدة الصعوبة. أنا سعيد برؤية [أنني] في كتاب «أصل الأنواع» لم أقل سوى إن علماء التاريخ الطبيعي عادة ما يرون أن درجة التباين فيما بين الكائنات الحية الأدنى مرتبة أكبر مما هي عليه لدى الكائنات الأعلى مرتبة، وأظن أن هذا هو الرأي العام بالتأكيد. أصوغ الكلام بهذه الطريقة لإظهار أنني اعتبرته مجرد رأي من المرجح أن يكون صحيحا. يجب أن أعترف بأنني لا أثق إطلاقا حتى في رأي هوكر المعارض؛ لأنني على يقين تام من أنه لم يجدول أي نتيجة. لدي بعض المواد في المنزل، أظن أنني حاولت أن أفهم هذه النقطة، لكني لا أستطيع تذكر النتيجة.
إن القابلية للتباين وحدها - وإن كنت أعتقد أن الأساس الضروري لكل التعديلات موجود بصفة شبه دائمة - كافية للسماح بحدوث أي قدر من التغيير المنتقى؛ لذا لا أرى أي تعارض إطلاقا في أن نجد مجموعة ما، وإن كانت أقل قابلية للتباين في أي فترة (أو في أثناء كل الفترات المتتالية)، قد خضعت لتعديلات أكثر مما خضعت لها مجموعة أخرى كانت أكثر قابلية للتباين في العموم.
فالمشيميات، مثلا، ربما كانت أقل قابلية للتباين من الجرابيات في جميع الفترات، لكنها مع ذلك قد خضعت لقدر من «التمايز» والتطور أكبر مما خضعت له الجرابيات؛ وذلك بسبب ميزة ما، هي تطور الدماغ على الأرجح.
أنا متفاجئ من تصريح هوكر بأن الأنواع العليا والأجناس إلى آخر ذلك، محدودة للغاية، لكني لا أدعي أنني كونت رأيا عنه. يبدو لي تصريحا جريئا.
بمطالعة كتاب «أصل الأنواع» أجد أنني صرحت بأن كائنات البر تبدو أسرع تغيرا من كائنات البحر (الفصل العاشر، الصفحة 339، الطبعة الثالثة)، وأضيف أن ثمة سببا وراء اعتقاد أن الكائنات الحية التي تعد أعلى في سلم التصنيف تتغير بوتيرة أسرع من الكائنات الأدنى. أتذكر أنني كتبت هذه الجمل بعد الكثير من التفكير المتروي ... أتذكر جيدا أنني شعرت بتردد كبير إزاء إدراج حتى الجمل الحذرة التي أدرجتها. أتذكر شكوكي المتعلقة بمعدل تغير الحيوانات الشعاعية التناظر في التكوين المنتمي إلى الحقبة الجيولوجية الثانية، وتغير المنخربات في أقدم طبقات الحقبة الثالثة ...
طابت ليلتك
سي داروين
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، 1 أكتوبر [1862] ... وجدت هنا
34
رسالة قصيرة لطيفة جدا من فالكونر، مع بعض صفحات من دراسته المطولة التي ستنشر «عن الأفيال»، والتي تناول فيها مسألة بقاء أحد أنماط الأنواع زمنا طويلا على قيد الحياة تناولا مثيرا للإعجاب. كنت أظنه سيشن هجوما ساحقا علي، لكن ما غمرني ببالغ الرضا أنه يختتم كلامه بالإشارة إلى إحدى الثغرات، ويضيف:
35 «أتفق معه بأنني لا أومن بأن حيوانات الماموث والأفيال المنقرضة الأخرى قد ظهرت فجأة ... يبدو الرأي الأكثر عقلانية هو أن هذه الحيوانات هي النسل المعدل لأسلاف سابقة، إلى آخر ذلك.» هذا ممتاز. قريبا لن يتبقى عالم حفريات كفء يؤمن بعدم قابلية الأنواع للتغير. لا يضع فالكونر في حسبانه أن مجموعة الخرطوميات تتضاءل في العدد؛ ولذا فمن المستبعد أن تنتج سلالات جديدة.
يضيف فالكونر أنه لا يظن الانتقاء الطبيعي كافيا. الحق أنني لا أرى قوة حجته، ومن الواضح أنه يتغاضى عما أقوله مرارا وتكرارا عن أن الانتقاء الطبيعي لا يستطيع فعل أي شيء من دون القابلية للتباين، وأن القابلية للتباين خاضعة لأشد القوانين الثابتة تعقيدا ... [توجد في خطاباته إلى السير جيه دي هوكر، قرب نهاية هذا العام، ملاحظات مذكورة من حين إلى آخر عما أحرزه من تقدم في كتابة كتاب «تباين الحيوانات والنباتات». وكتب في 24 نوفمبر، قائلا: «لا أعرف سبب شعوري ببعض الأسف، لكن كتابي الحالي يقودني إلى أن أكون أكثر إيمانا بعض الشيء بالتأثير المباشر للظروف الطبيعية. أظنني أشعر بالأسف؛ لأن ذلك يقلل من مجد الانتقاء الطبيعي، ولأنه محل شك إلى حد لعين جدا. ربما سيتغير رأيي مجددا عندما أجمع كل الحقائق التي أعرفها تحت لواء وجهة نظر واحدة، وكم هي مهمة في غاية الصعوبة.»
وكتب مجددا في 22 ديسمبر: «بدأت اليوم أفكر في ترتيب فصولي الختامية عن «الوراثة» و«الارتداد» و«الانتقاء»، ومثل هذه الموضوعات، وأنا عاجز بشدة عن معرفة ما أبدأ به مما لدي من أكوام المواد العلمية وما أنتهي به منها وما أفعله بها.»]
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، 6 نوفمبر [1862]
عزيزي جراي
عندما وصلت رسالتك المؤرخة بتاريخ 4 أكتوبر و13 أكتوبر (معظمها عن ماكس مولر)، كنت على وشك الانتهاء من الكتاب نفسه تقريبا
36
وكنت أنوي أن أوصيك بقراءته. أوافق تماما على أنه مثير جدا للاهتمام، لكن الجزء الأخير عن أصل اللغة «الأول» أقل إرضاء بدرجة كبيرة. إنها لمشكلة عجيبة ... [يتضمن] الكتاب ملاحظات ضمنية تهدف إلى السخرية مني، ويبدو أنه يستفيد منها قرب نهاية الكتاب. لا أستطيع أن أرى على الإطلاق كيف يمكن لذلك أن يدعم «قضيتي»، كما تسميها، لكني أستطيع أن أرى كيف يمكن لأي شخص ذي موهبة أدبية (لا طاقة لي بها) أن يستفيد استفادة كبيرة من الموضوع في التوضيح.
37
فما أجمل الاستعارات التي قد تغزلها منه! أتمنى أن يربي شخص ما مجموعة من أصخب القردة، على أن يسمح لها بجزء من الحرية، ويدرس وسائل تواصلها!
ظهر هنا للتو كتاب أظنه سيحدث ضجة، وهو من تأليف الأسقف كولنسو،
38
الذي يبدو من بعض المقتطفات المقتبسة أنه يدحض معظم ما جاء في كتاب العهد القديم. بمناسبة الحديث عن الكتب، أنا الآن في منتصف كتاب يمتعني، رغم أن محتواه بسيط جدا، ألا وهو كتاب «يوميات عالمة تاريخ طبيعي» للآنسة كوبر. من هي؟ تبدو امرأة ذكية جدا، وتطرح وصفا ممتازا للمعركة بين حشائش «أرضنا» وحشائش «أرضكم». ألا يجرح كبرياءكم الأمريكية أن نلحق بكم هزيمة نكراء هكذا؟ أنا متيقن من أن السيدة جراي ستدافع عن حشائشكم. اسألها عما إذا كانت هذه الحشائش ليست أكثر موثوقية وجودة من بين جميع أنواع الحشائش. يقدم الكتاب صورة جميلة للغاية عن إحدى قراكم، لكني أرى أن خريفكم، وإن كان أجمل بكثير من خريفنا، يأتي في وقت أقرب، وذلك ما أجد فيه عزائي ...
من تشارلز داروين إلى إتش دابليو بيتس
داون، 20 نوفمبر [1862]
عزيزي بيتس
انتهيت للتو من ورقتك البحثية بعدما قرأتها مرارا. إنها في رأيي إحدى أبرز الأوراق البحثية التي قرأتها في حياتي وأكثرها إثارة للإعجاب. إن حالات المحاكاة التنكرية عجيبة حقا، وأرى أنك تربط بطريقة ممتازة بين مجموعة كبيرة من الحقائق المتشابهة. الرسومات التوضيحية جميلة، وتبدو منتقاة بعناية شديدة، لكنها كانت ستجنب القارئ قدرا ليس بالقليل من العناء لو كان اسم كل منها قد نقش أسفل كل شكل منفصل. من المؤكد أن هذا كان سيصيب الناقش بالغضب الشديد؛ لأنه كان سيشوه جمال اللوح. لست متفاجئا على الإطلاق من أن ورقة كهذه قد استغرقت الكثير من الوقت. يسعدني أنني تجاهلت هذا الموضوع برمته في كتاب «أصل الأنواع»؛ لأنني كنت سأطرحه بطريقة رديئة للغاية. أما أنت فقد ذكرت مشكلة مذهلة بوضوح شديد وحللتها. من المؤكد أن هذا الجزء سيكون هو الأقيم في الورقة في رأي معظم الناس، لكني لست متيقنا من أن كل حقائقك واستدلالاتك المنطقية بشأن التباين والتمييز بين الأنواع الكاملة والأنواع شبه الكاملة ليست بأعلى قيمة منه، أو تضاهيه في القيمة على الأقل. لم أتخيل العملية بوضوح يقترب حتى من هذا الوضوح الشديد من قبل؛ فأنا أشعر وكأنني أشهد عملية خلق الأشكال الجديدة بنفسي. بالرغم من ذلك، أتمنى لو أنك أسهبت بدرجة أكبر قليلا فحسب بشأن مسألة اقتران الضروب المتشابهة، ويبدو لي أن هذا الجزء يستدعي إدراج المزيد من الحقائق. لكني على هذا معجب بمجموعة الملاحظات المتنوعة المثيرة للاهتمام التي تضمها الورقة، مثل تلك المتعلقة بقابلية التباين الفردية والجنسية ذات الصلة، ستكون هذه الملاحظات كنزا لي يوما ما، إذا عشت.
بخصوص انتشار التشبه التنكري بشدة بين الحشرات، ألا تظن أن هذا ربما يكون مرتبطا بحجمها الصغير؛ أي إنها لا تستطيع الدفاع عن نفسها، ولا تستطيع الهرب بالطيران، من الطيور على الأقل؛ لذا تهرب بالتحايل والخداع؟
لدي انتقاد جاد واحد أود طرحه، وهو متعلق بعنوان الورقة؛ لا يسعني سوى أنه كان ينبغي بك أن تشير في العنوان بوضوح إلى التشبهات التنكرية. ورقتك أفضل من أن تحظى بتقدير معظم العامة من علماء التاريخ الطبيعي العديمي الأرواح، لكن ثق في أن قيمتها ستظل «خالدة»، وأنا أهنئك من صميم قلبي على عملك العظيم الأول. أعتقد أنك ستجد أن والاس يقدرها تقديرا تاما. كيف حال تقدمك في تدوين كتابك؟ حافظ على معنوياتك عالية. ذلك أن تأليف كتاب ليس بمهمة سهلة. تحسنت مؤخرا، وأعمل بجد، لكن حالتي الصحية سيئة جدا. كيف حال صحتك؟ تقبل أصدق تحياتي يا عزيزي بيتس.
مع بالغ إخلاصي
سي داروين
هوامش
الفصل الرابع
انتشار نظرية التطور
العمل على كتاب «تباين الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين»
1863-1866 [كان كتاب والدي عن الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين هو شغله الشاغل في عام 1863. يسجل دفتر يومياته الوقت الطويل الذي قضاه في تكوين فصوله، ويوضح المعدل الذي كان يدون به أفكاره تدوينا تاما من أجل الترتيب لطباعة الملاحظات والاستنتاجات التي توصل إليها على مر عدة سنوات.
بدأت كتابة الفصول الثلاثة المتعلقة بالوراثة في الجزء الثاني، والتي تشغل 84 صفحة مطبوعة، في يناير وانتهت في الأول من أبريل، فيما كتبت الفصول الخمسة المتعلقة بالتهجين، التي تشغل 106 صفحات، في ثمانية أسابيع، أما الفصلان المتعلقان بالانتقاء، واللذان يغطيان 57 صفحة، فبدأت كتابتهما في 16 يونيو وانتهت في 20 يوليو.
قوطع أبي في العمل أكثر من مرة بسبب سوء صحته، واضطر في شهر سبتمبر بسبب ما ثبت لاحقا أنه بداية مرض استمر ستة أشهر، إلى مغادرة منزله لتلقي العلاج المائي في مولفرن. عاد بعد ذلك في أكتوبر وظل مريضا ومكتئبا، مع أن أحد أكثر الأطباء مرحا وأمهرهم آنذاك قد أبدى رأيا متفائلا بشأن صحته. وقد أرسل خطابا بهذا المفاد إلى السير جيه دي هوكر في نوفمبر، قائلا: «كان الدكتور برينتون (الذي رشحه لي باسك) هنا؛ إنه يعتقد أن عقلي وقلبي لم يتضررا في العموم، لكن حالتي الصحية تتدهور بلا توقف، ولا يمكنني تفادي التشكك حيال ما إن كنت سأستعيد عافيتي مرة أخرى ولو بدرجة ضئيلة. إذا لم أستطع استعادتها بما يكفي لقيامي بشيء قليل من العمل، فأرجو أن يكون ما تبقى من حياتي قصيرا جدا؛ لأن الاستلقاء على الأريكة طوال اليوم وعدم فعل أي شيء سوى التسبب في العناء للزوجة الأفضل والأطيب على الإطلاق وللأطفال الأعزاء، شيء بغيض لا يطاق.»
أنجز في هذا العام أيضا أعمالا أخرى ثانوية تضمنت ورقة بحثية قصيرة في دورية «ناتشورال هيستوري ريفيو» (سلسلة جديدة، المجلد الثالث، الصفحة 115)، بعنوان «عما يسمى ب «الكيس السمعي» لدى هدابيات الأرجل»، وورقة بحثية في دورية «جيولوجيكال سوسايتيس جورنال» (المجلد التاسع عشر)، عن «سمك التكوين البامباني بالقرب من بوينوس آيريس». كانت الورقة الأولى ردا على انتقادات عالم تاريخ طبيعي ألماني يدعى كرون،
1
وهي تفيد في توضيح استعداد والدي للاعتراف بالخطأ.
بخصوص انتشار الإيمان بفكرة التطور، لم يكن ممكنا آنذاك القول بأن المعركة قد حسمت بالانتصار بعد، لكن ازدياد الإيمان بالفكرة كان سريعا بلا شك. لذا، فعلى سبيل المثال ، كتب تشارلز كينجسلي خطابا إلى إف دي موريس
2
ورد فيه: «الحالة العقلية للوسط العلمي غريبة جدا؛ داروين يغزو كل مكان، وينتشر مجتاحا كالطوفان، بقوة الحقيقة والواقع وحدها.»
كان السيد هكسلي نشطا كالعادة في توجيه النزعة المتزايدة إلى التسامح مع الآراء المطروحة في كتاب «أصل الأنواع» أو تقبلها، وتحفيز هذه النزعة. إذ ألقى سلسلة من المحاضرات على بعض العلماء في كلية المناجم في نوفمبر 1862. وقد طبعت هذه المحاضرات، من ملاحظات مختصرة كان السيد ماي قد دونها، في صورة ستة كتب زرقاء صغيرة، سعر كل منها 4 بنسات، تحت عنوان «معرفتنا بعلل الطبيعة العضوية». وعندما نشرت، قرأها والدي باهتمام، ومن ثم أشار إليها في خطاب إلى السير جيه دي هوكر، قائلا: «سررت جدا بأن محاضرات هكسلي نالت إعجابك. لقد بهرت للغاية بها، لا سيما «فلسفة الاستقراء». تجادلت معه جدالا محتدما بسبب مبالغته في الحديث عن العقم وتجاهله حالات من جيرتنير وكولروتير عن الضروب العقيمة. المحتوى الجيولوجي الذي طرحه مبهم، ويراودني بعض الشك حيال تناوله لموضوع عقل الإنسان ولغته. لكني أرى أن المحاضرات «مثيرة للإعجاب»، ومثلما تقولون في الإشادة بكتاب «أصل الأنواع» أقول: «ما أروعها!» لا أستطيع تجنب الإعجاب بها، وهذا يجعلني خجلان من نفسي بعض الشيء.»
أعجب والدي بوضوح الشرح الذي طرح في المحاضرات، وفي الخطاب التالي، حث صاحبها على استخدام قدراته في نفع الطلاب:]
من تشارلز داروين إلى تي إتش هكسلي
5 نوفمبر [1864]
أريد أن أطرح عليك اقتراحا، لكنه ربما يكون قد خطر ببالك على الأرجح. كانت - تقرأ محاضراتك واختتمت قائلة: «ليته يكتب كتابا.» فأجبتها: «لقد كتب للتو كتابا رائعا عن الجمجمة.» فردت: «لا أعتبر ذلك كتابا»، وأضافت: «أريد شيئا يستطيع الناس قراءته؛ إنه بارع في الكتابة». الآن، بما أنك تستطيع الكتابة بسلاسة وتتمتع بالمعرفة اللازمة، أفلا ترى أنك تستطيع كتابة أطروحة مبسطة عن علم الحيوان؟ صحيح أن هذا سيضيع بعضا من وقتك، لكني سئلت عدة مرات أن أرشح كتابا يناسب مستوى المبتدئين، ولم يسعني حينئذ سوى التفكير في كتابات كاربنتر عن علم الحيوان. أنا متيقن من أن أطروحة باهرة على هذا النمط ستقدم خدمة جليلة للعلم بتثقيف علماء التاريخ الطبيعي. إذا أبقيت حافظة أوراقك مفتوحة لمدة عامين، وألقيت فيها قصاصات ورقية عن الموضوعات التي تخطر بعقلك، فسرعان ما سيكون لديك هيكل عظمي (وهذا هو الجزء الصعب في رأيي) لتكسوه باللحم والألوان بطريقتك التي لا تضاهى. أعتقد أن كتابا كهذا يمكن أن يحقق نجاحا باهرا، لكني لم أكن أعتزم الكتابة إليك عنه كثيرا.
أرسل أطيب تحياتي إلى السيدة هكسلي، وأخبرها بأنني كنت أطالع قصيدة «إينوك أردن»، ولأنني أعرف مدى إعجابها الشديد بتينيسون، يجب أن ألفت انتباهها إلى سطرين عذبين جميلين (في الصفحة 105) ... ... قال إنه كان يرجو لك الخير، هذا ما قاله،
ربما كان يرجو الخير، أو ربما ما كان يرجوه إلا بمقدار.
جوهرة كهذه كافية لتعيد إلي شبابي، وتجعلني أحب الشعر بحماسة أصلية خالصة.
يا عزيزي هكسلي
لك خالص مودتي
سي داروين [في خطاب آخر (بتاريخ يناير 1865)، عاد إلى الاقتراح المذكور أعلاه، مع أنه عادة ما كان يعارض بشدة أن يتخلى رجال العلم عن الوقت الذي من الممكن أن يخصصوه للأبحاث الأصلية المستقاة من وحي قرائحهم في سبيل كتابة الكتب الدراسية أو التدريس. «كنت أعرف أن احتمالية أن يتاح لك وقت لكتابة أطروحة مبسطة عن علم الحيوان ضئيلة جدا، لكنك الرجل الوحيد تقريبا الذي يقدر على ذلك. في الماضي كنت أشعر بأن إقدامك على فعل ذلك سيكون بمثابة ارتكابك خطيئة؛ لأنه سيأتي بالطبع على حساب سحق عمل أصلي ما. لكن من ناحية أخرى، أرى في بعض الأحيان أن الأطروحات العامة المبسطة لا تقل أهمية عن الأعمال الأصلية في تقدم العلم.»
ستكمل سلسلة الخطابات التالية تاريخ عام 1863.]
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 3 يناير [1863]
عزيزي هوكر
إنني أستشيط غضبا ولا بد أن أنفس عن نفسي ... لم أستطع النوم حتى الساعة الثالثة من الليلة الماضية من شدة الغضب.
3 ...
والآن لننتقل إلى مواضيع مبهجة؛ لقد استمتعنا جميعا بدفاعك عن جمع الطوابع وهواية الجمع في العموم ... لكني، ويا للعجب، لا أستطيع إطلاقا هضم فكرة أن رجلا بالغا يجمع الطوابع. من كان سيخطر بباله على الإطلاق أنك ستجمع تحف ويدجوود، لكن هذا مختلف تماما عن المنقوشات أو الصور. نحن أحفاد منحطون للراحل جوزايا ويدجوود؛ لأننا لا نملك في البيت قطعة واحدة من التحف الجميلة. ... بالرغم من السبب المبهج جدا الذي عللت به عدم استمتاعنا بالعطلة، ألا وهو أننا لا نمارس رذائل، فذلك يصيب المرء بملل بشع. كنت أحاول أن أبقى عاطلا كسولا من أجل صحتي، لكني لم أنجح في هذا. ما يجب أن أفعله الآن هو أن أقيم لوحا تذكاريا في كنيسة داون مكتوبا عليه: «مخصص لتخليد ذكرى ... إلخ»، وأموت رسميا ثم أنشر كتبا، لتكون «من تأليف الراحل تشارلز داروين»؛ لأنني لا أستطيع أن أعرف ما ألم بي مؤخرا؛ دائما ما كنت أعاني انفعالا عند التكلم، لكن الوضع الآن صار سخيفا. فمؤخرا تحدثت مع ابن أختي لمدة ساعة ونصف (قطعتها بنفسي لأحتسي الشاي)، فظللت [مريضا] طوال نصف تلك الليلة. إنه شر مخيف على النفس والعائلة.
طابت ليلتك صديقك الدائم
سي داروين [الخطاب التالي إلى السير يوليوس فون هاست،
4
يعد مثالا على التعاطف الذي شعر به والدي مع انتشار العلم ونموه في المستعمرات. وقد عبر عن هذا الشعور أكثر من مرة؛ إذ كان حاضرا في ذهنه في أحيان كثيرة، وظهر مرارا فيما يتفوه به من كلام. عندما حظينا، في كامبريدج، ببهجة استقبال السير جيه فون هاست ومنحه درجة الدكتوراه الفخرية في العلوم (يوليو 1886)، أتيحت لي فرصة أن أسمع منه مقدار السعادة البالغة التي منحه إياها هذا الخطاب، وخطابات أخرى، من والدي. وسررت برؤية مدى قوة التأثير الذي تركه التعاطف الطيب الذي أبداه والدي، وبالرغم من أنني التقيته بعد مرور أكثر من عشرين عاما على الخطاب، فقد بدا تأثره بالخطاب جديدا كما كان عندما تلقاه أول مرة:]
من تشارلز داروين إلى يوليوس فون هاست
داون، 22 يناير [1863]
سيدي العزيز
أشكرك من صميم قلبي على أنك أرسلت خطابك والتقرير الجيولوجي إلي.
5
لم أقرأ في حياتي شيئا أجرأ وأكثر إثارة للاهتمام من خطابك إلا نادرا. فتقدم مستعمرتكم يجعل المرء فخورا، ومن الرائع حقا أن يشهد المرء إنشاء معهد علمي في أمة شابة جدا كأمتكم. أشكرك على تعليقاتك المشرفة جدا على كتابي «أصل الأنواع». ستصدق بالطبع أن حقائقك اللافتة عن الفترة الجيولوجية القديمة أثارت بالغ اهتمامي، وأعتقد أننا إذا مشطنا العالم كله بحثا، فلن نجد فيه مثل هذه المجموعة العظيمة من المصاطب. لديك بالفعل حقل ممتاز لإجراء البحوث العلمية والاكتشافات. ما تقوله عن آثار مسير ثدييات [حية] مفترضة قد أثار بالغ اهتمامي. هل لي أن أطلب منك، إذا نجحت في اكتشاف ماهية تلك الكائنات، أن تتحلى بلطف بالغ وتتفضل بإخباري؟ ربما قد يتضح أنها كائنات أشبه بكائن «سولنهوفن» الطائر، بذيله الطويل وأصابعه الطويلة، وما لديه من مخالب متصلة بجناحيه! ربما لي أن أذكر أنني وجدت في مناطق غير مأهولة تماما في أمريكا الجنوبية مصائد فئران تعمل بالنوابض وتوضع فيها طعوم من «الجبن»، كانت ناجحة جدا في اصطياد الثدييات الأصغر. أود أن أتجرأ وأقترح عليك أن تحث بعض الأعضاء الأكفاء في معهدك على رصد معدل انتشار الحشرات والحشائش الأوروبية وطريقة انتشارها سنويا، وأن يركزوا تحديدا على ملاحظة «أي النباتات المحلية أكثر تعرضا للموت»؛ فهذه النقطة الأخيرة لم يهتم بها أحد قط من قبل. وكذلك، هل نحل العسل الدخيل يحل محل أي حشرة أخرى؟ إلخ. فأنا أرى أن كل هذه النقاط مطلوبة بشدة في العلم. يا له من اكتشاف مثير للاهتمام ذاك المتعلق بالعثور على بقايا من إنسان من عصر ما قبل التاريخ!
لك يا سيدي العزيز أشد احترامي
وجزيل شكري
مع بالغ إخلاصي
تشارلز داروين
من تشارلز داروين إلى كامي دارست
6
داون، 16 فبراير [1863]
سيدي العزيز المحترم
أبعث إليك بأصدق شكري على خطابك وكتيبك. كنت قد سمعت عن عملك (في أحد كتب السيد كاتريفاج على ما أظن)، وكنت متلهفا جدا لقراءته، لكني لم أعرف من أين يمكنني الحصول عليه. هذه أقيم هدية يمكن أن تمنحني إياها. لم أعد للمنزل إلا توا، ولم أقرأ عملك بعد؛ إذا أردت طرح أي أسئلة عندما أقرؤه، فسأتجرأ على إزعاجك بها. لقد سررت للغاية باستحسانك كتابي عن الأنواع. لقد أعلن بعض من علماء التاريخ الطبيعي في إنجلترا وأمريكا الشمالية وألمانيا أن آراءهم بشأن الموضوع تغيرت بعض الشيء، ولكن على حد علمي، لم يحدث كتابي أي تأثير إطلاقا في فرنسا، وهذا يجعلني أشد سعادة بتعبيرك اللطيف عن استحسانه. لك أصدق تحياتي وفائق احترامي يا سيدي العزيز.
مع بالغ إخلاصي وامتناني
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 24 فبراير [1863]
عزيزي هوكر
إنني مندهش جدا من رسالتك، وأنا لم أر عدد دورية «ذا أثنيام»، لكني أرسلت في طلبه، وربما أحصل عليه غدا، وسأقول رأيي حينئذ.
قرأت كتاب لايل. [«عصور البشر القديمة.»] يبدو لي بالتأكيد عملا مجمعا، لكن من أعلى فئة؛ لأنه يثبت صحة الحقائق الواردة فيه على الفور متى أمكن ذلك، مما يجعله يكاد يكون عملا أصليا. يبدو لي أن الفصول الجليدية هي أفضل ما فيه، وأرى بعض أجزائها رائعة. لا أستطيع إصدار حكم بشأن مسألة تطفر الإنسان إذ تلاشى عنه بريق الحداثة كله تماما. لكن المؤكد أن تجميع الأدلة خلف في ذهني تأثيرا باهرا جدا. أرى أن الفصل الذي يقارن بين اللغة وتغيرات الأنواع مبتكر للغاية ومثير جدا للاهتمام. لقد أظهر لايل براعة كبيرة في انتقاء النقاط البارزة في الحجة المؤيدة لتغير الأنواع، لكني أصبت بخيبة أمل شديدة (لا أقصد شخصيا) عندما وجدت أن افتقاره إلى الجرأة يمنعه من إصدار أي حكم ... فبناء على كل أشكال تواصلي معه، لا بد أن أثق أنه تخلى تماما عن إيمانه بعدم قابلية الأنواع للتغير، ومع ذلك، فإحدى أقوى الجمل في كتابه تنص على ما يلي تقريبا: «إذا كان ينبغي «على الإطلاق»
7
أن نؤمن بوجود أرجحية كبيرة لاحتمالية تغير الأنواع بالتباين والانتقاء الطبيعي»، إلى آخر ذلك. كنت آمل أن يوجه جمهور القراء إلى الإيمان بالفكرة بالدرجة التي بلغها هو شخصيا في الإيمان بها ... يوجد شيء واحد يشعرني بالسعادة حيال هذا الموضوع؛ أن لايل يقدر عملك حسب ما يبدو. لا بد أن جمهور القراء، أو جزءا منه، يمكن أن يدفع إلى اعتقاد أن لايل يرى أن آراءنا تحمل قدرا من الصواب نظرا إلى أنه يخصص لنا مساحة أكبر مما يخصصها للامارك. عندما قرأت فصل الدماغ، انتابني انطباع قوي بأنه، لو كان قد قال صراحة إنه يؤمن بتغير الأنواع، وإن الإنسان، بالتبعية، اشتق من أحد الحيوانات الرباعية الأيدي، كان سيصبح من المناسب جدا أن يناقش الاختلافات في أهم عضو؛ أي الدماغ، من خلال تجميع الحقائق. ومع ذلك، يبدو لي أن تركيز الفصل الأساسي منصب إلى حد ما على الرأس والكتفين. لا أرى (لكني على أي حال متحيز كفالكونر وهكسلي، أو أكثر تحيزا) أن الكتاب أشد قسوة مما ينبغي، بل أراه مكتوبا بحزم أشبه بحكم قضائي. يمكن القول بصدق إنه لا يحق له الحكم على موضوع لا يفقه عنه شيئا، لكن جامعي الحقائق لا بد أن يفعلوا ذلك إلى حد ما. (تعرف أنني أقدر جامعي الحقائق وأعتبرهم ذوي مكانة عالية؛ لأنني شخصيا واحد منهم!) لقد صدقت كلامك بحذافيره، وأطلت الكتابة للغاية. إذا تلقيت عدد دورية «ذا أثنيام» غدا، فسأضيف انطباعي عن خطاب أوين. ... سيأتي آل لايل إلى هنا مساء الأحد ليمكثوا حتى يوم الأربعاء. إن هذا مؤسف للغاية، لكن لا بد لي من القول إنني محبط جدا من أنه لم يعبر عن رأيه في مسألة الأنواع صراحة، فضلا عن تحفظه بدرجة أكبر في إبداء رأيه بشأن مسألة تطور الإنسان. الطريف في الأمر أنه يظن أنه تصرف بشجاعة شهيد من شهداء قديم الزمان. آمل أن يكون رأيي بشأن جبنه مبالغا فيه، وسأسعد «جدا» بمعرفة رأيك في هذه النقطة.
8
عندما تلقيت كتابه، قلبت صفحاته، ورأيت أنه ناقش مسألة الأنواع، وقلت إنني ظننته سيبذل أكثر مما بذلناه كلنا من أجل إقناع الجمهور باعتناق الأفكار الجديدة، والآن (وهذا يجعل الأمر أسوأ لي) يجب أن أتراجع بصراحة عما قلته. ليته لم يذكر أي كلمة عن الموضوع.
صباح الأربعاء: اطلعت على عدد دورية «ذا أثنيام». لا أظن أن لايل سيكون منزعجا جدا بقدر ما تتوقع على الإطلاق. من المؤكد أن الجملة الختامية لاذعة للغاية. لا أحد يستطيع فك طلاسم خطاب أوين سوى عالم بارع في التشريح؛ إنه على الأقل يفوق قدرتي على الاستيعاب بكثير. ... ذاكرة لايل تخونه عندما يقول إن كل علماء التشريح ذهلوا من ورقة أوين البحثية؛
9
لقد استشهد بها باستحسان مرات كثيرة. أتذكر «جيدا» إعجاب لايل بهذا التصنيف الجديد! (لا تكرر هذا.) أتذكره لأنني، مع أني لم أكن أعرف أي شيء إطلاقا عن الدماغ، روادتني قناعة بأن التصنيف الذي يتأسس بهذه الطريقة على طابع واحد سينهار، وارتأيت أن عدم فصل الجرابيات على مستوى أكثر اكتمالا كان خطأ فادحا ...
يا له من شر لعين أن يوجد كل هذا الشجار المحتدم داخل ما يفترض أنها عوالم العلم المسالمة!
سأتجه إلى العمل على موضوعي الحالي المتعلق بالوراثة، وأنسى كل ذلك فترة من الوقت. إلى اللقاء يا صديقي العزيز القديم.
سي داروين
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، 23 فبراير [1863] ... إذا كان لديك وقت للقراءة فلتقرأ كتاب لايل عن الإنسان؛ لأن بعض أجزائه ستثير اهتمامك، لكن يؤسفني القول إن محتوى الجزء الأفضل، المتعلق بالفترة الجليدية، ربما يكون متخصصا جدا إلى حد يجعله صعب الفهم على غير المتخصصين في الجيولوجيا. إنه يستشهد بكلامك في النهاية بإعجاب شديد. بالمناسبة، أخبرني قبل بضعة أيام بمدى السرور البالغ الذي عبر عنه البعض حين سمعوا أنهم يستطيعون شراء كتيبك. وكذلك تتحدث مجلة «ذا بارثينون» عنه واصفة إياه بأنه أبرع المؤلفات عن هذا الموضوع. كم يسعدني أن أرى عملك ينال التقدير!
سيأتي آل لايل إلى هنا بعد أسبوع من اليوم، وسوف أعرب عن تذمري من مبالغته في الحذر ... فربما يقول الجمهور إنه إذا لم يجرؤ رجل مثله على التعبير صراحة عن رأيه أو لا يرغب في التعبير عنه، فأنى لنا، نحن الجهلة، أن نكون ولو حتى رأيا تخمينيا عن الموضوع؟ ابتهج لايل عندما أخبرته مؤخرا بأنك تظن أنه يمكن استخدام اللغة كشرح توضيحي ممتاز لمسألة اشتقاق الأنواع؛ سترى أن كتابه يتضمن فصلا «رائعا» عن هذا ...
قرأت محاضرة كيرنس الممتازة،
10
التي توضح بطريقة جيدة جدا كيف كانت العبودية سببا في صراعكم. لقد جعلتني لبعض الوقت أتمنى انتصار الشمال بكل صدق، لكنني لم أستطع قط، رغم محاولتي، منع نفسي من التفكير طوال الوقت في أننا على الأرجح قد نضطر إلى خوض حرب تحت وطأة التهديد والإجبار عندما تنتصرون. بالرغم من ذلك، فأنا أعتقد حقا أنه سيكون من المروع أن ينتصر الجنوب، بعبوديته اللعينة، وينشر الشر. أظن أنني، لو كنت أملك سلطة تنفيذ ذلك - والحمد للرب على أنني لا أملكها - لكنت سأدعكم تغزون الولايات الحدودية، وكل مناطق غرب المسيسيبي، ثم أجبركم على الاعتراف بولايات القطن. لأنكم ستبدءون الآن في الشك حيال قدرتكم على غزوهم والاحتفاظ بالسيطرة عليهم، أليس كذلك؟ ها أنا ذا قد أزعجتك بخطبة موبخة طويلة.
صحيفة «ذا تايمز» تصبح أبغض (وإن كانت هذه كلمة أضعف مما ينبغي) من أي وقت مضى. تود زوجتي الطيبة أن نتخلى عن قراءتها، لكني أقول لها إن هذا تصرف بطولي جدا لا تقدر عليه سوى امرأة. فالتخلي عن صحيفة «ذا تايمز القديمة اللعينة»، كما اعتاد كوبيت أن يصفها، يشبه التخلي عن اللحوم والشراب والهواء. إلى اللقاء يا عزيزي جراي.
مع أصدق تحياتي
سي داروين
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، 6 مارس، [1863] ... لقد أثار كتابك
11
بالغ اهتمامي بالطبع. ليس لدي أي تعليقات جديرة بالإرسال تقريبا، لكني سأكتب بعض الخواطر عن أكثر الأجزاء إثارة لاهتمامي. لكني أولا سأفصح عما أكره قوله؛ ألا وهو أنني أشعر بخيبة أمل شديدة لأنك لم تدل بحكمك ولم تعبر صراحة عن رأيك في مسألة اشتقاق الأنواع. كنت سأقنع لو أنك أعلنت بجرأة أن الأنواع لم تخلق خلقا مستقلا، كل على حدة، وألقيت قدر ما تشاء من الشك على مدى كفاية التباين والانتقاء الطبيعي . أرجو من السماء أن أكون مخطئا (ويبدو أنني كذلك بناء على ما تقوله عن هيوويل)، لكني لا أستطيع أن أرى كيف يمكن أن تقدم فصولك نفعا أكبر مما يقدمه مقال نقدي بارع استثنائي. أظن أن مجلة «ذا بارثينون» محقة في أنك ستترك جمهور القراء في حالة من التشوش. من المؤكد أنهم قد يستنتجون أنك، لما خصصت لي ولوالاس وهوكر حيزا أكبر مما خصصته للامارك، فإنك تعد رأينا أفضل. لكني دائما ما كنت أرى أن حكمك كان سيصبح مرحلة فارقة في الموضوع. كل ذلك قد انتهى بالنسبة إلي، ولن أفكر إلا في البراعة الرائعة التي انتقيت بها النقاط اللافتة وشرحتها. أرى أن أي إشادة بالفصل الفريد الذي يعقد مقارنة بين اللغة والأنواع لن يكون فيها أي مبالغة مهما بلغ مقدارها.
توجد
12
في أعلى الصفحة 505، جملة تجعلني أتأوه ...
أعرف أنك ستسامحني على أنني أكتب بحرية تامة؛ لأنك تعرف بالتأكيد مدى احترامي العميق لك بصفتك مرشدي وأستاذي الموقر القديم. أتمنى من أعماق قلبي أن يحقق كتابك رواجا هائلا ويجدي نفعا بطرق كثيرة مثلما ينبغي له، وأنا أتوقع ذلك. أنا متعب؛ لذا سأكتفي بهذا القدر. لقد كتبت بإيجاز شديد جدا إلى حد أنك ستضطر إلى تخمين قصدي. يؤسفني القول إن تعليقاتي تكاد تكون غير جديرة بالإرسال أصلا. إلى اللقاء، مع أطيب تحياتي لليدي لايل.
صديقك الدائم
سي داروين [اقتبس السيد هكسلي (الجزء الثاني، الصفحة 193) بعض الفقرات من خطابات لايل التي تبين حالته الذهنية آنذاك. وكذلك الفقرة التالية، المقتبسة من خطاب بتاريخ 11 مارس إلى والدي، ذات أهمية كبيرة: «ومع ذلك، فمشاعري تشكل عائقا أكبر مما تشكله أي فكرة عن الحكمة أو النفعية، يمنعني من تشكيل رأي نهائي قاطع بشأن مسألة انحدار الإنسان من الكائنات المتوحشة؛ فهي مسألة، وإن كنت مستعدا لقبولها، تنتقص الكثير من سحر تخميناتي بشأن الماضي المتعلق بمثل هذه الأمور ... يجدر بك أن تكون راضيا بالرغم من ذمك لأنني سأجلب إلى صفك المئات الذين، لو كنت اعتبرت المسألة عقيدة راسخة، كانوا سيتمردون.»]
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، 12 [مارس، 1863]
عزيزي لايل
أشكرك على خطابك الساحر الذي يمكنني القول إنه كان لطيفا ومثيرا جدا للاهتمام. كنت أخشى أن تغضب مني لبعض الوقت. فأنا أعرف بعض الرجال كانوا سيغضبون لو كانوا مكانك. ليست لدي تقريبا أي انتقادات أخرى جديرة بأن أكتبها على أي حال. ولكن يمكنني أن أذكر أنني فوجئت قليلا بأن بي دو بيرت لم يذكر ذكرا أكثر تكريما بعض الشيء. أود أن أقترح أن تحذف بعض الإحالات إلى كتاب «مبادئ الجيولوجيا» إن أمكن ذلك؛ فإحالة واحدة ستكون كافية للطالب الجيد كمائة إحالة، وبالنسبة إلى القارئ العادي، فالإكثار من الإحالة إلى كتب أخرى أمر مزعج بعض الشيء ويعطيه انطباعا بأن المحتوى ناقص. ونظرا إلى أنك تقول إنك تحدثت عن مسألة الأنواع بصراحة وفقا للدرجة التي بلغتها في تصديقها، فليس لدي ما أقوله؛ لكني أرى في بعض الأحيان بناء على المحادثة والتعبيرات والخطابات وما إلى ذلك، أنك مثلي، قد تخليت تماما عن الإيمان بعدم قابلية الأشكال المعينة للتغير. لم أزل أعتقد بالتأكيد أن تعبيرا واضحا منك، «لو أنك صرحت به»، كان سيحدث تأثيرا كبيرا لدى الجمهور، لا سيما أنك كنت تتبنى آراء مضادة سابقا. كلما عملت، ازدادت قناعتي بالتباين والانتقاء الطبيعي، لكني أعتبر هذا الجزء من القضية أقل أهمية، وإن كان أكثر إثارة لاهتمامي شخصيا. ونظرا لأنك طلبت مني ذكر انتقاداتي بخصوص هذه النقطة (وصدقني ما كنت لأذكرها من دون طلب)، فسأخص بالذكر (صفحتي 412 و413) أن كلمات مثل: «يسعى السيد دي جاهدا ليوضح» و«يعتقد المؤلف أنها تلقي الضوء»، من شأنها أن تقود القارئ العادي إلى أن يظن أنك شخصيا «لا» تتفق إطلاقا مع رأيي، بل تظن فقط أنه من المنصف أن تعرضه. وأخيرا، تصف رأيي مرارا بأنه تعديل لعقيدة لامارك المتعلقة بالتطور والارتقاء. إذا كان هذا هو رأيك المدروس، فلا شيء يقال بخصوص ذلك، لكنه لا يبدو كذلك لي. ذلك أن أفلاطون وبوفون وجدي قد طرحوا من قبل لامارك وآخرين، الآراء «الواضحة» القائلة بأن الأنواع، إذا لم تكن أنشئت إنشاء منفصلا، كل على حدة، فلا بد أنها انحدرت من أنواع أخرى، ولا أستطيع أن أرى شيئا مشتركا آخر غير ذلك بين كتاب «أصل الأنواع» ولامارك. أعتقد أن عرض القضية بهذه الطريقة يلحق ضررا جسيما بقابلية تقبلها؛ لأنه يوحي ضمنيا بأن الارتقاء ضروري، ويربط ربطا وثيقا بين آرائي وآراء والاس، وبين كتاب أعتبره رديئا جدا بعدما قرأته مرتين بترو، ولم أستفد منه شيئا (وأتذكر جيدا دهشتي من ذلك). لكني أعرف أنك تضعه في مرتبة أعلى، وهذا غريب؛ لأنه لم يزعزع اعتقادك قيد أنملة. لكن هذا يكفي وزيادة. رجاء فلتتذكر أنك من جلبت هذا كله على رأسك!
يؤسفني جدا ما سمعته بشأن عزم فالكونر «على استعادة حقه الذي يرى أنه سلب منه».
13
أكره تلك العبارة، وأكن له مودة صادقة.
هل قرأت من قبل أي شيء أردأ من مقالات دورية «ذا أثنيام» عنك وعن هكسلي
14
بالأخص. «هدفك» هو أن تجعل الإنسان قديما، وهدف هكسلي هو الحط من مكانته. إن الكاتب الرديء لا يفقه أي شيء عما يعنيه اكتشاف الحقيقة العلمية. ما أروع بعض الصفحات في كتاب هكسلي، ولكن يؤسفني القول إن الكتاب لن يحظى بالشهرة ...
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون [13 مارس، 1863]
كان ينبغي أن أشكرك في وقت أبكر من ذلك على عدد دورية «ذا أثنيام» والرسالة السابقة المبهجة للغاية، لكني كنت مشغولا، ومصابا بعدم ارتياح شديد من جراء الشعور المزعج المتكرر بالامتلاء، والألم الطفيف في القلب وبعض الوخز الخفيف به. لكن لأنني لا أعاني أي أعراض أخرى تشير إلى مرض قلبي، أفترض أنه ليس متضررا ... تلقيت رسالة لطيفة جدا ومفعمة بالصراحة المبهجة من لايل، الذي يقول إنه عبر عن رأيه بصراحة وفقا لما يعتقده. لا شك عندي في أن اعتقاده قد خانه بينما كان يكتب؛ لأنني متيقن من أنه في بعض الأحيان لا يؤمن بفرضية الخلق بأكثر من إيماني أو إيمانك بها. أبديت قليلا من التذمر في ردي عليه بخصوص أنه «دائما» ما يصنف عملي على أنه تعديل على عمل لامارك، وهذا ينطبق علي بقدر ما ينطبق على أي مؤلف آخر لم يؤمن بعدم قابلية الأنواع للتغير، وآمن بانحدارها. يؤسفني بشدة أن أسمع من لايل أن فالكونر سينشر ردا رسميا يعلن فيه أحقيته بادعاءاته التي سلبت منه ...
من المؤلم جدا أن أفكر في أننا يجب أن نذهب إلى مولفرن في منتصف أبريل، وفي ذلك خراب لي.
15 ...
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، 17 مارس [1863]
عزيزي لايل
لقد أثارت خطاباتك وما أرفقته بها بالغ اهتمامي، وأشكرك من صميم قلبي على منحي الكثير من الوقت في حين أنك مشغول جدا بكل تأكيد. يا له من خطاب غريب ذاك المرسل من بي دو بي [بوشيه دو بيرت]! يبدو راضيا تماما، ومن المؤكد أنه رجل ودود جدا. أعرف بشأن أخطائه بعض الشيء، وطالعت كتابه منذ سنوات عديدة، وكم يخجلني أن أتذكر أنني استنتجت أن الكتاب برمته محض هراء! بالرغم من ذلك، فإن ما قدمه لمسألة تطور الإنسان شبيه بما قدمه أجاسي لمسألة الأنهار الجليدية.
16
لا أستطيع القول إني أتفق مع هوكر في أن الجمهور لا يحب أن يقال له ما ينبغي أن يستنتجه، «إذا كان مصدره شخصا بمكانتك». بالرغم من ذلك، فأنا آسف جدا على أنني دفعت إلى التذمر أو ما يشبه التذمر، بشأن الطريقة التي تعاملت بها مع الموضوع، وأنا أكثر أسفا على فعل ذلك بخصوص أي شيء يتعلق بي. دائما ما «أحاول جاهدا» ألا أنسى إيماني الراسخ بأنه لا يمكن لأحد أن يحكم على عمله الذي أنجزه بنفسه إطلاقا. أما بخصوص لامارك، فأنت المنتصر ما دام رجل مثل جروف معك، وهذا لا يعني أنني أستطيع تغيير رأيي في أنه كان كتابا عديم الجدوى تماما من وجهة نظري. ربما كان هذا لأنني دائما ما أبحث في الكتب عن الحقائق، وربما بسبب معرفتي السابقة بتخمين جدي السابق على ما طرحه لامارك والمطابق له تماما. لن أزيد على ذلك سوى أنني، إذا استطعت تحليل مشاعري (وأشك بشدة في قدرتي على هذا)، فسيتبين أن رغبتي الشديدة في أن تكون درجة إيمانك قد سمحت لك بالتصريح بجرأة ووضوح بأن الأنواع لم تنشأ إنشاء منفصلا، كانت من أجل مصلحتك تقريبا قدر ما كانت من أجلي. لقد أخبرتك بصفة عامة عن تقدم الآراء بشأن مسألة الأنواع بقدر ما أسمعه. ثمة عالم تاريخ طبيعي ألماني من صفوة متخصصي هذا المجال،
17 (نسيت الاسم الآن!) نشر مؤخرا كتيبا عظيما، قد أعرب عن رأيه بشأن كتاب «أصل الأنواع» بأقصى صراحة. يرى آسا جراي أن دي كاندول، في ورقة بحثية جيدة جدا عن طيور «الأوك»، يؤمن بأفكاري بقدر ما يؤمن بها جراي، لكن دي كاندول يقول، في خطاباته التي يرسلها إلي، ««نحن» نظن هذا وذاك»؛ لذا أستنتج أنه يتفق معي إلى أقصى حد حقا، ويحدثني عن عالم حفريات نباتية فرنسي (نسيت اسمه)
18
كتب إلى دي كاندول قائلا إنه متيقن من أن آرائي ستنتصر في النهاية. غير أنني لم أكن أنوي كتابة كل هذا. فأنا أرضى بالنتائج النهائية، لكني بدأت أرى أن هذه النتيجة ستستغرق عمرين أو ثلاثة. فعلماء الحشرات وحدهم قادرون على تأخير تقدم الموضوع لنصف قرن. كم أشفق عليك لاضطرارك إلى الموازنة بين ادعاءات العديد من الطامحين المتلهفين إلى جذب الانتباه؛ من الواضح أن إرضاء الجميع مستحيل ... من المؤكد أنني بهرت بالتوقير التام المستحق الذي منحت فالكونر إياه. قرأت للتو رسالة من هوكر ... سررت من أعماق قلبي بأنك جعلته لافتا جدا؛ فهو صادق جدا، وصريح جدا، ومتواضع جدا ...
قرأت ما كتبه ... لم أجد مشكلة ملموسة، وهذا يسعدني جدا من ناحية؛ لأنني أكره الجدال، لكنه من ناحية أخرى يحزنني بشدة لأنني أتوق إلى أن أكون في القارب نفسه مع أصدقائي ... إنني سعيد من صميم قلبي بأن الكتاب يحقق نجاحا على أحسن ما يرام.
صديقك الدائم
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون [29 مارس، 1863] ... شكرا جزيلا على عدد دورية «ذا أثنيام» الذي تلقيته صباح اليوم، وسأرده صباح غد. من كان يخطر بباله على الإطلاق أن دورية «ذا أثنيام» القديمة الغبية ستبدأ انتهاج فلسفة متعالية شبيهة بفلسفة أوكن ومكتوبة بأسلوب أوين؟! ... ما هي إلا مسألة وقت وسنرى «العفن الغروي، والبروتوبلازم، إلى آخر ذلك» ينتج حيوانا جديدا. لكني لطالما ندمت على أنني أذعنت بضعف للرأي العام واستخدمت مصطلح الخلق الوارد في أسفار موسى الخمسة
19
الذي لم أقصد به في الواقع سوى أنها «ظهرت» بعملية ما مجهولة تماما. أرى أن التفكير حاليا في أصل الحياة محض هراء؛ فالأفضل أن يفكر المرء في أصل المادة.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، مساء الجمعة [17 أبريل 1863]
عزيزي هوكر
سمعت من أوليفر أنك ستكون الآن في كيو؛ ولذا سأسلي نفسي بالكتابة إليك قليلا. آمل أن تكون قد استمتعت بجولتك لأقصى درجة. لم أر في حياتي شيئا كزهور الربيع في العام الحالي. ما أعجب مجموعة الأشياء المثيرة للاهتمام التي نشرت مؤخرا! لقد أعجبت جدا بمقالتك النقدية عن دي كاندول. يا لها من مقالة لاذعة جدا تلك التي كتبها فالكونر عن لايل؛ إنها تشعرني بأسف شديد، أظن أن فالكونر من جانبه لا يوفي بيرت العجوز وشميرلنج حقهما ... أتحرق فضولا لمعرفة رد [لايل] عليها غدا. (اضطررت إلى الاحتفاظ بعدد دورية «ذا أثنيام» عندي فترة من الوقت.) أشعر بالأسف الشديد على أن فالكونر كتب بهذا الحقد الهائل، حتى وإن كان في اتهاماته شيء من الحقيقة؛ لقد خاب أملي في خطاب كاربنتر بعض الشيء، صحيح أن أحدا لم يكن ليدلي برد أفضل، ولكن يبدو لي أن الغاية الرئيسية من خطابه إظهار أنه، وإن لمس القار، لم يدنس به. لن يفترض أحد أنه وصل في إيمانه إلى حد اعتقاد أن الطيور كلها قد أتت من سلف واحد. كتبت خطابا إلى دورية «ذا أثنيام» (وهي المرة الأولى والأخيرة التي سأفعل فيها شيئا كهذا) لأقول كلمة دفاعا عن نفسي، تحت عباءة الهجوم على مسألة التولد التلقائي. من المقرر أن يظهر خطابي الأسبوع المقبل، حسب ما يقول المحرر، وأنوي أن أقتبس جملة لايل
20
الواردة في طبعته الثانية، استنادا إلى المبدأ القائل بأن المرء إذا أراد أن يبالغ في مدح نفسه والتفاخر بها، فمن الأفضل أن يفعل ذلك على خير وجه. ...
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، 18 أبريل [1863]
عزيزي لايل
الحق أنني شعرت بأسف شديد لأنك كنت قد أرسلت إلي من كتابك القيم نسخة ثانية.
21
لكن أسفي تلاشى بعد بضع ساعات لهذا السبب؛ أرسلت خطابا إلى دورية «ذا أثنيام» لأقول، تحت عباءة الهجوم على المقالة الشنيعة عن موضوع التولد التلقائي، كلمة أدافع بها عن نفسي ردا على كاربنتر، والآن قد أدرجت بضع جمل تشير إلى اعتراضك المشابه بشأن مسألة الخفافيش على الجزر، وبعدئذ، وبخبث هائل، اقتبست الجملة المعدلة، بما تحمله من عبارة اعتراضية («وهو ما أومن به تماما»)؛
22
لا أظن أنك يمكن أن تنزعج من إقدامي على هذا الفعل؛ فأنا مصمم، مثلما ترى، أن أحاول قدر استطاعتي أن يدرك الجمهور مدى إيمانك بالفكرة. هذه هي المرة الأولى التي أقول فيها كلمة دفاعا عن نفسي في أي دورية، وأعتقد أنها ستكون الأخيرة. خطابي قصير، ولا يتضمن أي شيء عظيم. كنت مهتما للغاية برؤية رسالة فالكونر العدائية غير المحترمة. أعجبت للغاية بردك الذي قرأته للتو؛ فأنت تتخذ موقفا متشامخا جليلا جديرا بك تماما.
23
أظن أنك لو كنت استخدمت عددا أكبر بقليل من صيغ التفضيل في الحديث عن المؤلفين المتعددين، لما نشأ أي من هذا الضجيج البشع. أنا متيقن من أنه لا أحد يعرفك يمكن أن يشك في تضامنك الصادق مع كل من يحرز أي تقدم طفيف في العلم. فما زلت أتذكر جيدا الطريقة التي أصغيت بها إلي في شارع هارت عند عودتي من رحلة «البيجل». لقد غمرتني بسعادة بالغة. وإنه لمما يصيب المرء بإزعاج فظيع أن يتصرف رجل صريح جدا وودود فيما يبدو مثل فالكونر بهذه الطريقة.
24
حسنا، سينسى كل ذلك عما قريب ... [ردا على خطاب والدي إلى دورية «ذا أثنيام» المذكور أعلاه، ظهر مقال في تلك الدورية (بتاريخ 2 مايو 1863، الصفحة 586)، يتهم والدي بأنه يدعي أن آراءه وحدها هي ما تتسم بالميزة الحصرية المتمثلة في أنها «تربط بخيط واضح من الاستدلال المنطقي» عددا من الحقائق في علم التشكل، وغيره. فيقول الكاتب إن «التعميمات المختلفة، التي استشهد بها السيد داروين واصفا إياها بأنها لا ترتبط بعضها ببعض من خلال خيط واضح من الاستدلال المنطقي إلا من خلال محاولته شرح تحول معين، ترتبط في الواقع بذلك التحول على هذا النحو؛ أنها تهيئ عقول علماء التاريخ الطبيعي لاستقبال مثل هذه المحاولات لشرح كيفية انبثاق الأنواع من أنواع أخرى استقبالا أفضل.»
رد والدي على ذلك في دورية «ذا أثنيام» في 9 مايو 1863:]
داون، 5 مايو [1863]
آمل أن تمنحوني الفرصة لأعترف بأن ناقدكم كان محقا تماما حين قال إن أي نظرية عن الانحدار ستربط التعميمات المتعددة المحددة سلفا «بواسطة خيط واضح من الاستدلال المنطقي». يجب أن أقر بهذا الاعتراف صراحة، ولكن مع ذكر تحفظ مفاده أنه لا توجد نظرية، على حد ظني، تستطيع أن تشرح هذه التعميمات المتعددة (لا سيما تكون السلالات الداجنة مقارنة بالأنواع الطبيعية، ومبادئ التصنيف، والتشابه الجنيني، وما إلى ذلك) أو تربط بينها جيدا على النحو الذي تقدمه نظرية الانتقاء الطبيعي، أو فليسمها الناقد فرضية أو تخمينا، إذا شاء. ولا يوجد أيضا أي تفسير آخر مقنع لتكيف الكائنات الحية شبه التام بعضها مع بعض ومع ظروف حياتها الطبيعية. وسواء أكان عالم التاريخ الطبيعي يؤمن بالآراء التي طرحها لامارك أو جوفري سانت إيلير أو مؤلف كتاب «بقايا» أو والاس، أو التي طرحتها أنا؛ فهذا ليس مهما إطلاقا مقارنة بالاعتراف بأن الأنواع انحدرت من أنواع أخرى، ولم تخلق غير قابلة للتغير؛ لأن من يعترف بهذا على أنه حقيقة عظيمة، فسينفتح أمامه مجال واسع لمزيد من البحث والتحري. ومع ذلك، أعتقد بناء على ما أراه من تقدم الآراء في القارة، وفي هذا البلد، أن نظرية الانتقاء الطبيعي ستصبح هي النظرية المتبعة في نهاية المطاف، مع إضفاء العديد من التعديلات والتحسينات الثانوية عليها بالتأكيد.
تشارلز داروين [ترد الإشارة فيما يلي إلى الخطاب المرسل إلى دورية «ذا أثنيام» المذكور أعلاه :]
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
ليث هيل بليس،
السبت [11 مايو 1863]
عزيزي هوكر
أنت محق في نصيحتك بعدم الكتابة في الصحف؛ فها أنا ذا أكز على أسناني غضبا من حماقتي، وليس هذا بسبب سخرية ... التي كانت بارعة جدا إلى حد أنني كدت أستمتع بها. لقد كتبت مرة أخرى لأعترف بأنه محق فيما يقوله إلى حد ما، وإذا أقدمت على مثل هذه الحماقة مرة أخرى بعدئذ على الإطلاق، فلا ترحمني. قرأت السخرية اللاذعة الواردة في مجلة «بابليك أوبينيون»؛ إنها ممتازة، إذا كان يوجد المزيد، وكانت لديك نسخة، فلتعرني إياها. إنها تبين بوضوح شديد أنه من الأفضل لرجل العلم أن يداس في التراب على أن يتشاجر. أعكف منذ فترة على رسم المخططات البيانية، وتشريح البتيلات، بينما يحار عقلي إلى حد ميئوس منه عند التفكير بشأن تشعب الأوراق، لكني فشلت تماما بالطبع. غير أنني أرى أن الموضوع غريب جدا ومذهل حقا ... [يشير الخطاب التالي إلى الخطاب الرئاسي الذي ألقاه السيد بينثام أمام الجمعية اللينية (25 مايو 1863). لا يذعن السيد بينثام لنظرية التطور الجديدة، و«لا يمكنه الاستسلام تماما ما دام العديد من الركائز الأساسية المهمة لم يزل محل نزاع». لكنه يوضح أن الجزء الأكبر من الآراء العلمية يتجه نحو الإيمان بالنظرية.
إن تطرق السيد بينثام إلى ذكر باستور متعلق بالنظرية التي أصدرها ناقد الدكتور كاربنتر عن التولد التلقائي في دورية «ذا أثنيام» (28 مارس 1863)، «كما لو كان يصدر فرمانا إلزاميا». إذ يشير السيد بينثام إلى أن الكاتب، بتجاهله دحض باستور لحقائق التولد الذاتي المفترضة، لا يتصرف بتلك «الحيادية التي من المفترض أن يتحلى بها كل ناقد».]
من تشارلز داروين إلى جي بينثام
داون، 22 مايو [1863]
عزيزي بينثام
أنا في غاية الامتنان لخطابك اللطيف والمثير للاهتمام. إنني مطمئن إلى أن أي شيء سيقوله رجل مثلك لن يضايقني إطلاقا. وعلى الجانب الآخر، سأسعد جدا بأي استحسان من شخص أحترم رأيه ومعرفته بكل صدق منذ سنوات عديدة. إن الاعتراض الذي صغته ببراعة، متمثلا في أن بعض الأشكال تظل على حالها دون تغيير عبر نطاق زمني وحيز مكاني طويلين، منيع في ظاهره بلا شك، وفي حقيقته أيضا إلى حد ما، وفقا لتقديري. لكن ألا يستند قدر كبير من الصعوبة على أننا نفترض في صمت أننا نعرف أكثر مما نعرفه بالفعل؟ فالحق أنني لم أجد ما هو أكثر صعوبة من محاولة تذكر جهلنا دائما. إنني لا أمل أبدا، عندما أمشي في أي حي مجاور أو منطقة ريفية جديدة، من التفكير في مدى جهلنا التام لسبب عدم وجود بعض النباتات القديمة هناك، ووجود نباتات أخرى جديدة، ونباتات أخرى بنسب مختلفة. إذا أدركنا هذا تماما مرة واحدة، فهل يكون من العجيب جدا إذن عند الحكم على نظرية الانتقاء الطبيعي، التي تشير إلى أن الشكل سيبقى على حاله دون تغيير ما لم يوجد تعديل ما يخدم مصلحته، أن تتغير بعض الأشكال بدرجة أبطأ وأقل بكثير، وألا تتغير بضعة أشكال على الإطلاق في ظل ظروف تبدو لنا (نحن الذين لا نعرف ما هي الظروف المهمة إطلاقا) مختلفة جدا؟ من المؤكد أننا ربما كنا نتوقع ب «الاستنتاج البديهي» أن كل النباتات التي أدخلت قديما إلى أستراليا قد خضعت لبعض التعديلات؛ لكن حقيقة أنها لم تعدل لا تبدو لي صعوبة بارزة بما يكفي لزعزعة اعتقاد قائم على حجج أخرى. لقد عبرت عن نفسي على نحو سيئ للغاية، لكني متوعك اليوم.
تغمرني سعادة بالغة لأنك ستشير إلى باستور؛ لقد بهرني عمله بإعجاب لا متناه. مع خالص الشكر، وأصدق تحياتي يا عزيزي بينثام.
لك بالغ إخلاصي
سي داروين
ملحوظة:
في الواقع، يجب أن يبنى الإيمان بالانتقاء الطبيعي في الوقت الحالي كليا على اعتبارات عامة. أولا، على كونه «سببا حقيقيا»، استنادا إلى الصراع على البقاء، والحقيقة الجيولوجية المؤكدة القائلة بأن الأنواع تتغير بطريقة ما. ثانيا، استنادا إلى التشابه مع التغيير الحادث تحت تأثير التدجين بواسطة الانتقاء البشري. ثالثا، استنادا في الأساس إلى أن هذا الرأي يربط بين مجموعة من الحقائق تحت وجهة نظر واضحة. عندما نتعمق لنخوض في التفاصيل ، نستطيع إثبات عدم تغير أي نوع واحد [أي لا نستطيع إثبات أن نوعا واحدا قد تغير]؛ ولا نستطيع إثبات أن التغييرات المفترضة مفيدة، في حين أن هذا هو أساس النظرية. ولا نستطيع تفسير السبب في تغير بعض الأنواع وعدم تغير بعضها الآخر. وأرى أن فهم الحالة الثانية بدقة وتفصيل لا يختلف في درجة الصعوبة عن فهم حالة التغير المفترض الأولى. يمكن لبرون أن يسأل المدرسة القديمة المؤمنة بفرضية الخلق وكذلك المدرسة الجديدة عن سبب وجود أذنين أطول لدى أحد الفئران من أذني فأر آخر، ووجود نبتة ذات أوراق مدببة بدرجة أكبر من أوراق نبتة أخرى، لكن ذلك سيكون دون جدوى.
من تشارلز داروين إلى جي بينثام
داون، 19 يونيو [1863]
عزيزي بينثام
لقد غمرني خطابك الرئاسي، الذي تكرمت بإرساله إلي، بالسعادة وأثار بالغ اهتمامي. أرى أنه قد أنجز على نحو ممتاز، وبدرجة كبيرة مما يميز القضاة من الهدوء والحياد تضاهي ما كان وزير العدل سيبديه لو كان هو من كتبه. أما بخصوص ما إذا كان السادة المحترمون «المؤمنون بعدم قابلية الأنواع للتغير» سيتفقون مع هذا الحياد أم لا، فذلك موضع للشك؛ إذ ربما يقولون إن الخطاب يحمل لطفا مبالغا فيه تجاهي أنا وهوكر وآخرين. وفوق ذلك، فأنا أعتقد بلا ريب أن خطابك، بهذه الطريقة التي كتب بها، سيسهم في زعزعة الذين لم يزعزعوا وإقناع أولئك الذي يميلون إلى أفكارنا بالانضمام إلى صفنا، بدور أكبر مما تسهم به أي كتابات أخرى تحمل تأييدا مباشرا لمسألة تغير الأنواع. لا أستطيع إطلاقا معرفة سبب ذلك، لكن خطابك أسعدني بقدر ما خيب كتاب لايل أملي؛ أعني الجزء المتعلق بالأنواع، وإن كان مكتوبا ببراعة. أتفق مع كل تعليقاتك على النقاد. بالمناسبة، لوكوك
25
مؤمن بتغير الأنواع. أستطيع شخصيا أن أعلن بضمير حي أنني لا أتفاجأ أبدا من تمسك أي أحد بالإيمان بفكرة عدم تغير الأنواع، وإن كنت كثيرا ما أتفاجأ بشدة من الحجج التي تطرح تأييدا لهذا الجانب. فما زلت أتذكر جيدا للغاية تقلباتي اللامتناهية بين الشك وما كنت أجده من صعوبة في تقبل الفكرة. أضحك حقا عندما أفكر في السنوات التي انقضت قبل أن يتضح لي ما أعتقد أنه شرح لبعض أجزاء القضية؛ أعتقد أن خمسة عشر عاما قد انقضت منذ أن بدأت دراسة هذا الموضوع إلى أن أدركت المغزى من تشعب ذرية أي زوج واحد، وسبب هذا التشعب. شد ما تكيل لي من إطراءات لطيفة ومبهجة جدا. لقد سررت جدا بكثير من الأشياء في محتوى خطبتك، لا سيما تعليقاتك على مجموعة متنوعة من علماء التاريخ الطبيعي. وكذلك أشعر بسعادة بالغة لأنك أشرت إلى باستور بتكريم شديد. لقد ألقيت للتو نظرة فاحصة سريعة على هذه الرسالة، وأرى أنها لا تعبر بقوة كافية عما شعرت به من اهتمام عند قراءة خطبتك. أعتقد أنك قدمت نفعا حقيقيا ل «الجانب الصحيح». مع أصدق تحياتي يا عزيزي بينثام.
لك بالغ إخلاصي
سي داروين
1864 [ورد هذا الإدخال في مفكرة يوميات والدي ضمن أحداث عام 1864: «مريض طوال يناير وفبراير ومارس.» وفي منتصف أبريل تقريبا (أي بعد سبعة أشهر من بداية مرضه في الخريف السابق) تحسنت صحته. وحالما صار قادرا على تأدية أي عمل، بدأ في كتابة ورقتيه البحثيتين عن جنس الخثري، وعن «النباتات المتسلقة»؛ ولذا فالعمل الذي يعنينا الآن لم يبدأ إلا في سبتمبر، عندما شرع مرة أخرى في العمل على كتابه «تباين الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين». ويقدم أحد الخطابات إلى السير جيه دي هوكر نبذة عن استئناف العمل؛ إذ يقول والدي فيه: «بدأت أتفحص مخطوطتي القديمة، وهي تبدو جديدة علي كما لو أنني لم أكتبها من قبل؛ توجد فيها أجزاء مملة إلى حد مذهل، لكنها تستحق الطباعة، على ما أظن؛ وأجزاء أخرى تبدو لي جيدة جدا. إنني مليونير، بكل معنى الكلمة، وثروتي من الحقائق الصغيرة الغريبة والعجيبة، وقد ذهلت حقا من جودة العمل عندما كنت أقرأ فصولي عن الوراثة والانتقاء. الرب وحده يعلم متى سيكتمل الكتاب - إن اكتمل أصلا - لأنني أجد أنني واهن جدا، وحتى في أفضل أيامي، لا أستطيع العمل أكثر من ساعة أو ساعة ونصف. هذا أصعب بكثير من الكتابة عن نباتاتي المتسلقة العزيزة.»
حصل في هذا العام على أعظم تكريم يمكن أن يحصل عليه أي عالم في هذا البلد؛ وسام كوبلي من الجمعية الملكية. يقدم هذا الوسام في اجتماع الذكرى السنوية في عيد القديس أندرو (30 نوفمبر)، وعادة ما يكون الحاصل عليه حاضرا لتسلمه، لكن حالة والدي الصحية منعته من ذلك. أرسل خطابا إلى السيد فوكس عن هذا الموضوع قائلا: «سررت برؤية خط يدك. يعد وسام كوبلي تكريما عظيما؛ لأنه يمنح على الإنجازات في جميع مجالات العلوم وعلى نطاق العالم بأسره، لكن مثل هذه الأشياء، باستثناء عدة خطابات لطيفة، لا تشكل لدي فارقا كبيرا. غير أنه يوضح أن الانتقاء الطبيعي يحرز بعض التقدم في هذا البلد، وهذا يسعدني. بالرغم من هذا، فالموضوع مرحب به في أراض أجنبية.»
وكتب إلى السير جيه دي هوكر أيضا، قائلا: «كم كنت لطيفا في رد فعلك على نيلي هذا الوسام؛ الحق أنني أنعم بالكثير من الأصدقاء الطيبين، وقد تلقيت أربع رسائل أو خمسا ملأتني بالسرور. كثيرا ما أتعجب من أن عجوزا باليا مثلي لم يصبح طي النسيان التام. بمناسبة الحديث عن الأوسمة، هل حاز فالكونر الوسام الملكي؟ يحق له أن يحصل عليه بالطبع، مثلما يحق لجون لوبوك أن يحصل عليه. وبهذه المناسبة، يخبرني هذا الثاني بأن بعض أعضاء الجمعية الملكية القدامى صدموا بشدة من حصولي على وسام كوبلي. هل تعرف من هم؟»
وأرسل خطابا إلى السيد هكسلي، قائلا: «يجب أن أرد عليك وسأرد عليك؛ إذ يسرني حقا أن أشكرك من صميم قلبي على رسالتك. ذلك أن رسالة كرسالتك هذه، وبضع رسائل أخرى، هي الوسام الحقيقي لي، لا تلك القطعة الذهبية. لقد غمرتني مثل هذه الرسائل بسعادة ستدوم طويلا؛ لذا فلتصدق شكري الخالص النابع من أعماق قلبي على رسالتك.»
تحدث السير تشارلز لايل، في خطاب أرسله إلى والدي في نوفمبر 1864 (كتاب «قصة حياة السير تشارلز لايل وخطاباته ويومياته»، المجلد الثاني، الصفحة 384)، عن الساخطين المزعومين قائلا إنهم كانوا خائفين من منح الوسام على عمل غير تقليدي جدا ككتاب «أصل الأنواع». لكنه يضيف أنهم، إذا كانوا يحملون هذه المشاعر حقا، ب «قد تحلوا بالحس العقلاني السليم وكبحوها داخلهم». بالرغم من ذلك، يبدو من الخطاب نفسه أن اقتراح منح والدي وسام كوبلي في العام السابق لم يحظ بالتأييد لحالة مشابهة تتمثل في الافتقار إلى الشجاعة الكافية، وهو ما أغضب لايل بشدة.
في عدد دورية «ذا ريدر»، بتاريخ 3 ديسمبر 1864، نشر تقرير مطول بعض الشيء عن خطاب الجنرال سابين الرئاسي في اجتماع ذكرى التأسيس السنوية. ولقد أشيد على نحو خاص بعمل والدي في الجيولوجيا وعلم الحيوان وعلم النبات، أما الإشادة التي حظي بها عن كتاب «أصل الأنواع» فهي أنه يتضمن «مجموعة هائلة من الملاحظات ... إلى آخره». ومن الغريب أن تكريمه في هذه الحالة لم يكن على عمل حياته العظيم، بل على عمل أقل أهمية في مجالات خاصة، وحدث ذلك أيضا في حالة انتخابه في المعهد الفرنسي. جاءت الفقرة التي تشير إلى كتاب «أصل الأنواع» في خطبة الجنرال سابين على النحو التالي: «في أحدث أعماله «عن أصل الأنواع»، وبالرغم من أن الآراء قد تكون منقسمة بشأن جدارة الكتاب في بعض النواحي أو لم تتحدد بعد، فسيعترف الجميع بأنه يحوي مجموعة هائلة من الملاحظات المتعلقة بعادات الحيوانات وبنيتها وصلات القرابة بينها وتوزيعها، والتي قد لا يوجد ما يضاهيها في الفائدة والدقة والصبر على الرصد والملاحظة. ربما يميل البعض منا إلى قبول النظرية التي يشير إليها عنوان هذا العمل، بينما قد يميل آخرون إلى رفضها، أو على الأقل إرجاء اتخاذ قرار بشأنها إلى وقت ما في المستقبل لحين اكتساب مزيد من المعرفة يتيح أسبابا أقوى لقبولها التام أو رفضها. ولهذا؛ فقد اتفقنا بصفة عامة وبشكل جماعي على حذف هذا العمل صراحة من الأسس التي منحنا الجائزة استنادا إليها.»
أعتقد أنني محق في القول إن بعض زملاء الجمعية شعروا باستياء شديد من أسلوب الرئيس في الحديث عن كتاب «أصل الأنواع».
هذا، وكان منح وسام كوبلي مفيدا بطريقة أخرى أيضا؛ لأنه دفع السير سي لايل، في خطبته التي ألقاها بعد العشاء، إلى «الجهر بمدى إيمانه بكتاب «أصل الأنواع»». إذ قال في خطاب إلى والدي (كتاب «قصة حياة السير تشارلز لايل وخطاباته ويومياته»، المجلد الثاني، الصفحة 384): «قلت إنني قد اضطررت إلى التخلي عن إيماني القديم دون أن أرى طريقي إلى إيمان جديد بوضوح تام. لكني أظن أنك كنت ستقنع بالمدى الذي بلغته.»]
من تشارلز داروين إلى تي إتش هكسلي
داون، 3 أكتوبر [1864]
عزيزي هكسلي
إذا لم أعبر عن إعجابي بمقالك عن كوليكر، فسأنفجر. لم أقرأ في حياتي أي شيء كتب بطريقة أفضل منه. تمنيت بشدة أن يرد أحد على مقاله، بل فكرت في أن أفعل ذلك بنفسي، حتى إنني عالجت عدة نقاط منها بالفعل. لقد ناقشت النقاط كلها، وبعض النقاط الإضافية أيضا، ويا إلهي، لكم برعت في ذلك! فبينما كنت أواصل القراءة وأصل إلى نقطة تلو الأخرى من النقاط التي كنت أفكر فيها، لم أستطع تجنب السخرية من نفسي والتهكم عليها؛ لأنني رأيت كيف أنك أنجزت ذلك على نحو أفضل للغاية مما كان يمكنني فعله. حسنا، إذا قرأ ذلك أي شخص، ممن لا يفهمون الانتقاء الطبيعي، فسيكون غبيا إذا لم يره واضحا كضوء النهار. لم يكن فلورانس العجوز
26
يستحق عناء تناولك له على الإطلاق، لكن ما أبرع الطريقة التي تحدثت بها عن ذلك «الأكاديمي»، وأرى أن مثالك الذي استخدمته والخاص برمال البحر «فريد من نوعه».
كم أعجب من قدرتك على مقاومة التحول إلى ناقد منتظم متفرغ! حسنا، ها أنا ذا قد انفجرت الآن، وقد أراحني ذلك بشدة ... [وفي المقالة نفسها في دورية «ناتشورال هيستوري ريفيو»، يتحدث السيد هكسلي عن كتاب فلورانس، السكرتير الدائم لأكاديمية العلوم الفرنسية، المشار إليه أعلاه، واصفا إياه بأنه واحد من «انتقادين هما الأكثر تفصيلا واستفاضة» عن كتاب «أصل الأنواع» في ذلك العام. ويقتبس منه الفقرة التالية: «يواصل السيد داروين قائلا: «لا يوجد فرق مطلق بين الأنواع والضروب، ومن المحال أن يوجد مثل هذا الفرق! لقد أخبرتكم بالفعل بأن ذلك خطأ؛ إذ يوجد فرق مطلق يفصل الأنواع عن الضروب.» ويعلق السيد هكسلي على هذا قائلا: «نظرا إلى أننا محرومون من بركات وجود أكاديمية للعلوم في إنجلترا، فلسنا معتادين أن نرى أبرع رجالنا يلقون مثل هذه المعاملة، حتى ولو من سكرتير دائم.» وبعدما أثبت السيد هكسلي سوء فهم السيد فلورانس لمسألة الانتقاء الطبيعي، يقول: «أنى للمرء أن يعرف كل ذلك عن ظهر قلب، وما أشد ارتياحه وهو يقرأ، في الصفحة 65، جملة «إنني أضع القلم عن السيد داروين»».»
وبخصوص الموضوع نفسه، كتب والدي في خطاب إلى السيد والاس: «ثمة شخص نافذ مرموق يدعى فلورانس، ألف كتابا ضعيفا بعض الشيء ينتقدني فيه، وقد سررت به جدا؛ لأنه من الواضح أن عملنا الجيد ينتشر في فرنسا. يتحدث كاتبه عن «الافتتان الشديد» بهذا الكتاب، قائلا إنه «مليء بأفكار فارغة افتراضية».» جاءت الفقرة المشار إليها على النحو التالي: «ظهر عمل السيد داروين أخيرا. لا يسع المرء سوى أن يبهر بموهبة المؤلف. ولكن يا لها من أفكار مبهمة وأفكار خاطئة! فكم يستخدم من المصطلحات الميتافيزيقية ويقحمها بطريقة غير لائقة في التاريخ الطبيعي، ويتضح أنها محض هراء حالما تصطدم بأفكار واضحة؛ أفكار صحيحة! يا لها من لغة طنانة فارغة! يا لها من تجسيدات صبيانية عفا عليها الزمن! يا أيها الوضوح، ويا صلابة الروح الفرنسية، ماذا دهاكما؟»]
1865 [شهدت هذه الفترة تدهور صحته بشدة مجددا، لكن قرب نهاية العام، بدأ يتعافى تحت رعاية الدكتور الراحل بينس جونز، الذي فرض عليه نظاما غذائيا صارما، و«كاد يجعله يموت جوعا»، حسب تعبيره. استطاع العمل على كتاب «تباين الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين» حتى نهاية أبريل تقريبا، ومنذ ذلك الوقت، لم ينجز أي عمل تقريبا حتى ديسمبر، باستثناء إلقاء نظرة سريعة على كتاب «أصل الأنواع» من أجل إصدار طبعة فرنسية ثانية. كتب في خطاب إلى السير جيه دي هوكر، قائلا: «أقرأ كتاب «أصل الأنواع» للمرة الأولى إن جاز القول؛ لأنني أصحح بعض ما فيه من أجل إصدار طبعة فرنسية ثانية، وأقسم بحياتي، يا صديقي العزيز، أنه كتاب جيد جدا، لكن آه، يا إلهي، إن ما أقوم به عمل صعب، وليته قد اكتمل.»
27
يشير الخطاب التالي إلى خطبة دوق آرجايل التي ألقاها أمام الجمعية الملكية في إدنبرة في الخامس من ديسمبر عام 1864، والتي ينتقد فيها كتاب «أصل الأنواع». ويبدو أن والدي قرأ خطبة الدوق كما وردت في صحيفة «ذا سكوتسمان» في السادس من ديسمبر عام 1865. وقد كتب لايل في خطاب إلى والدي (16 يناير 1865، كتاب «قصة حياة السير تشارلز لايل وخطاباته ويومياته»، المجلد الثاني، الصفحة 385): «الخطبة بمثابة خطوة كبيرة نحو تأييد آرائك، أكبر بكثير، حسب ما أعتقد، مما تبدو عليه عندما تقرأ بالنظر إلى الانتقادات والاعتراضات فحسب.»]
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، 22 يناير 1865
عزيزي لايل
أشكرك على خطابك المثير جدا للاهتمام. لدي ذلك التقديس الإنجليزي الفطري الحقيقي للرتبة الاجتماعية؛ ولذا أردت أن أعرف بشأن ما جرى مع الأميرة الملكية.
28
سألتني عن رأيي في خطبة الدوق، ويسرني أن أخبرك به. أراها خطبة ذكية «للغاية»، مثل جميع ما قرأته له؛ لكني لم أتزعزع - ربما ستقول إنه ما من آلهة ولا بشر يستطيعون أن يزعزعوني. أحتج على تكرار الدوق اعتراضه الذي يقول فيه إن الريش اللامع للطائر الطنان الذكر لا يمكن أن يكون قد اكتسب عبر الانتقاء، متغاضيا تماما في الوقت نفسه عن مناقشتي (الصفحة 93، الطبعة الثالثة) التي ذكرت فيها اكتساب الجميل من الريش عبر الانتقاء «الجنسي». ربما يرى الدوق أن هذا غير كاف، لكن تلك مسألة أخرى. المقارنة كلها تجعلني أختلف مع الدوق تماما في أن الاختلاف في المنقار والجناح والذيل ليس مهما للأنواع المتعددة. ففي النوعين الوحيدين اللذين راقبتهما، كان الاختلاف في التحليق واستخدام الذيل كبيرا بوضوح بارز.
ربما يكون الدوق، الذي يعرف كتابي عن السحلبيات جيدا، قد تعلم منه درسا في الحذر، بخصوص نظريته القائلة بأن الاختلافات موجودة للتنوع أو الجمال فحسب. يمكن القول بكل ثقة إنه ما من قبيلة نباتية توجد فيها مثل هذه الاختلافات الشاذة الجميلة، ولم يكن أي شخص يتصور حتى وقت قريب أنها تحمل أي فائدة، لكني استطعت الآن إظهار ما لها من فوائد مهمة في كل الحالات تقريبا. ينبغي أن نتذكر أيضا أن حدوث تعديل ما في جزء واحد لدى الطيور الطنانة أو السحلبيات سيسفر عن تغيرات مترابطة في أجزاء أخرى. أتفق مع ما تقوله عن الجمال. لقد تفكرت في الموضوع مليا قبل ذلك، وهذا التفكير قد هداني تماما إلى رفض النظرية القائلة بأن الجمال أنشئ من أجل الجمال فحسب. أعترض أيضا على مصطلح «الذريات الجديدة» الذي استخدمه الدوق. ربما تكون تلك نظرية جيدة جدا، لكنها ليست نظريتي، إلا إذا كان يصف طائرا ولد بمنقار أطول من المعتاد بمقدار جزء واحد من المائة من البوصة بأنه «ذرية جديدة»؛ لكن ذلك ليس هو المعنى الذي يفهم به هذا المصطلح في المعتاد. كلما عملت ازددت اقتناعا بأن تراكم مثل هذه التباينات الطفيفة للغاية هو ما ينشئ أنواعا جديدة. لا أعترف بأنني مذنب في اتهام الدوق لي بأنني نسيت أن الانتقاء الطبيعي يعني الحفاظ على التباينات التي تنشأ نشأة مستقلة فحسب.
29
لقد عبرت عن هذا بأقوى كلمات استطعت استخدامها، لكن الكلام كان سيصبح مملا للغاية لو توخيت الحذر بهذه الدرجة في كل مرة. سأصيح قائلا: «أنا مذنب» عندما أسمع بمهاجمتك أنت أو الدوق لمربي الحيوانات لأنهم يقولون إن الإنسان أنشأ سلالات محسنة من الماشية القصيرة القرون أو الحمام النفاخ أو دواجن بانتام. وكان بإمكاني الاستشهاد بتعبيرات أقوى بكثير يستخدمها الخبراء الزراعيون. ينشئ الإنسان سلالاته الاصطناعية؛ لأن قدرته الانتقائية لها أهمية أكبر مقارنة بالتباينات التلقائية الطفيفة. بالرغم من ذلك، فما من أحد سيهاجم المربين بسبب استخدامهم هذه التعبيرات، ولن يلومني الجيل الصاعد.
شكرا جزيلا على عرضك إرسال كتاب «عناصر الجيولوجيا» إلي.
30
آمل أن أقرأه كله، لكن القراءة مع الأسف هي أكثر ما يصيب رأسي بالدوار. أستطيع في معظم الأيام أن أعمل لساعتين أو ثلاث؛ ولهذا تأثير كبير في مستوى سعادتي. عقدت العزم على عدم الاستسلام لأية إغراءات، وألا أنشر أي شيء حتى إتمام كتابي عن التباين. لقد أسديت إلي نصيحة ممتازة بشأن الحواشي السفلية في فصلي المتعلق بالكلاب، لكن تكبدت عناء شديدا للغاية في تعديلها، وكثيرا ما تمنيت أن تلقى الكلاب كلها، وأنت شخصيا في بعض الأحيان مع الأسف، إلى الجحيم.
نبعث نحن (المملي والكاتبة) بأشد محبتنا إلى الليدي لايل.
مع خالص مودتي
تشارلز داروين
ملحوظة:
إذا تحدثت إلى الدوق في أي وقت عن الموضوع، فأرجو منك أن تخبره بأن خطبته أثارت بالغ اهتمامي. [قال والدي في ملخص سيرته الذاتية إن شعوره بشرف اختياره ليكون عضوا في جمعية إدنبرة الملكية وجمعية إدنبرة الطبية الملكية «فاق شعوره بأي شرف مشابه»؛ وذلك بسبب ذكريات قديمة معينة. تشير الفقرة التالية المقتبسة من خطاب إلى السير جوزيف هوكر، إلى اختياره عضوا في الجمعيتين السابقتين. ويشير الجزء الأخير من الفقرة إلى أكاديمية برلين للعلوم التي اختير عضوا فيها في عام 1878: «سأخبرك بشيء غريب جدا بالنظر إلى أن بروستر هو الرئيس وبلفور هو السكرتير. لقد وقع علي الاختيار لأكون عضوا فخريا في جمعية إدنبرة الملكية. وهذا يقودني إلى سؤال ثالث. هل ترسل أكاديمية برلين للعلوم محاضر اجتماعاتها إلى الأعضاء الفخريين؟ أريد أن أعرف لأتيقن مما إذا كنت عضوا أم لا؛ أفترض أنني لست كذلك؛ لأنني أعتقد أنني كنت سأتذكر ذلك، بالرغم من هذا، أتذكر بوضوح أنني تلقيت شهادة رسمية ممهورة بتوقيع إرينبرج. لقد كنت في منتهى الإهمال؛ إذ ضيعت العديد من الشهادات الرسمية، وأريد الآن أن أعرف الجمعيات التي أنتمي إليها؛ لأنني ألاحظ أن كل [شخص] يضيف ألقابه إلى اسمه في كتالوج الجمعية الملكية.»]
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، 21 فبراير [1865]
عزيزي لايل
لقد تأخرت كثيرا في أن أشكرك جزيل الشكر على كتاب «عناصر الجيولوجيا» الذي أهديتني إياه.
أطالعه كله بإمعان؛ إذ أقرأ كل الأشياء الجديدة، والأشياء التي نسيتها، وهي كثيرة.
إنني شديد الانبهار بمقدار ما كثف في هذا العمل من جهد ومعرفة وتفكير واضح. أرى أنه برمته عظيم جدا. وما أثار اهتمامي بالأخص هو كلامك عن عمل هير، وحديثك عن قارة أتلانتس. سررت جدا بالرأي الذي تتبناه إزاء الموضوع؛ فلطالما رأيت أن فوربس قد أضر به بتشكيل القارات على هواه بكل حرية.
سررت للغاية أيضا بقراءة حجتك المتعلقة بتعرية منطقة ويلد، وملخصك الممتاز عن طبقات بوربيك، وهذه هي النقطة التي وصلت إليها حاليا في كتابك. لا أستطيع القول إنني مقتنع تماما بعدم وجود صلة غير تلك التي أشرت إليها بين التأثير الجليدي وتكوين أحواض البحيرات؛ لكنك لن تولي رأيي في هذه النقطة قيمة كبيرة؛ لأنني غيرت رأيي بالفعل حوالي ست مرات.
أريد أن أعرض عليك اقتراحا. لقد وجدت أن وزن مجلدك لا يحتمل، لا سيما عندما يمسكه المرء مستلقيا؛ لذا فلتتحل بجرأة كبيرة وتقسمه إلى جزأين، وتخرجه من غلافه؛ ألا يستطيع أن يضيف موراي الآن، دون أي تغيير آخر، إلى إعلانه سطرا يقول فيه «إذا جلد في مجلدين، فسيتكلف مبلغا إضافيا قدره شلن أو شلن وستة بنسات»؟ وبهذا تكون قد أجريت تغييرا سيكون بمثابة نعمة لجميع القراء ذوي الأيادي الضعيفة.
مع أصدق تحياتي يا عزيزي لايل
لك بالغ إخلاصي
تشارلز داروين
فلتمن «بنعمة حقيقية» ثانية، وتطلب قطع حواف الأوراق آليا، ككتاب مجلد.
من تشارلز داروين إلى جون لوبوك
داون، 11 يونيو [1865]
عزيزي لوبوك
تلي علي النصف الأخير من كتابك،
31
والأسلوب واضح وسهل جدا (كل من القارئ والمستمع يراه مثاليا) إلى حد أنني أبدأ الآن من البداية. لا يمكنني مقاومة إخبارك بمدى روعة الكيفية التي كتبت بها ذاك الفصل المثير للاهتمام عن حياة الهمج، من وجهة نظري. وبالرغم من أنك قد جمعت المواد فقط بالطبع، جاءت النتيجة النهائية العامة في غاية الإبداع والأصالة. لكن يجدر بي أن أحتفظ بمصطلح الأصالة لأصف به فصلك الأخير، الذي أراه نقاشا عميقا مثيرا للإعجاب. لقد أسعدني بشدة؛ لأن الجمهور سيرى معدنك الأصلي، الذي أفتخر أنني أعرفه بالفعل قبل دزينة من الأعوام.
أتمنى لك من صميم قلبي كل التوفيق في انتخابك وفي السياسة. وبعدما قرأت ذاك الفصل الأخير، يجب أن تدعني أقول: وي! وي! وي!
مع خالص مودتي
سي داروين
ملحوظة:
إنك تكيل لي مديحا رائعا،
32
لكني أخشى أن يسخر منك بعض أصدقائك بسبب هذا المديح ويتهموك بالمبالغة. [يشير الخطاب التالي إلى كتاب فريتز مولر، «من أجل داروين»، الذي ترجمه السيد دالاس لاحقا بناء على اقتراح والدي. وهو مهم لأنه باكورة سلسلة طويلة من الخطابات التي كتبها والدي إلى هذا العالم البارز المتخصص في التاريخ الطبيعي. وصحيح أنهما لم يلتقيا قط، لكن مراسلاته مع مولر، التي استمرت حتى نهاية حياة والدي، كانت مصدر سعادة بالغة له. وأعتقد أن فريتز مولر أكثر من كان يحظى بتقدير والدي، من بين كل أصدقائه الذين لم يلتقهم. تجدر الإشارة إلى أن لفريتز مولر شقيقا آخر من البارزين أيضا، وهو الراحل هيرمان مولر، مؤلف كتاب «تلقيح الأزهار»، والعديد من الأعمال القيمة الأخرى:]
من تشارلز داروين إلى إف مولر
داون، 10 أغسطس [1865]
سيدي العزيز
ظللت مريضا لفترة طويلة جدا إلى حد أنني لم أنته من الاستماع إلى تلاوة كتابك عن الأنواع إلا الآن. والآن يجب أن تسمح لي بأن أشكرك من صميم قلبي على الاهتمام البالغ الذي أثاره في نفسي خلال قراءته. لقد قدمت خدمة جليلة للقضية التي يؤمن بها كلانا. أرى العديد من حججك ممتازا، والعديد من حقائقك رائعا. ومن بين هذه الحقائق، كان أشدها مفاجأة لي شكلا الذكور. ذلك أنني عكفت مؤخرا على دراسة حالات النباتات الثنائية الشكل، وأرغب بشدة في أن أرسل إليك ورقة أو اثنتين من أوراقي البحثية إذا عرفت السبيل إلى ذلك. لقد بعثت إليك مؤخرا من خلال البريد بورقة بحثية عن النباتات المتسلقة، وذلك على سبيل التجربة لأعرف ما إذا كانت ستصل إليك أم لا. من النقاط التي لفتت انتباهي للغاية في ورقتك هي تلك المتعلقة بالاختلافات الموجودة في جهاز تنفس الهواء لدى الأشكال المتعددة. لقد رأيت هذا الموضوع مهما جدا عندما كنت أدرس الجهاز الكهربائي لدى الأسماك من قبل. أرى أن ملاحظاتك المتعلقة بالتصنيف وعلم الأجنة جيدة جدا وتتسم بالأصالة والإبداع. فهي تظهر أن مجال دراسة تطور القشريات رائع جدا، وهي أكثر ما أقنعني بوضوح أننا سنصل إلى نتائج رائعة في مجال التاريخ الطبيعي في غضون بضع سنوات. ما أروع مجموعة البنى الموجودة لدى القشريات، وما أشد ملاءمتها لموضوع بحثك! لم أكن أعرف شيئا عن جذموريات الرءوس حتى قرأت كتابك، أرجو منك أن تلقي نظرة على ما أوردته من سرد وأشكال عن برنقيلات الأنلازما
Anelasma ؛ لأنني أرى أن هذه البرنقيلات، المنتمية إلى هدابيات الأرجل، بمثابة حلقة وصل جميلة بجذموريات الرءوس.
إذا سنحت لك أي فرصة، فأنا ألتمس منك، بما أنك مشرح ماهر جدا، أن تنظر إلى الفتحة الموجودة في قاعدة أول زوج من الأهداب في هدابيات الأرجل، وإلى العضو الغريب الموجود فيها، وتكتشف ماهيته؛ فأنا أظنني كنت مخطئا تماما، وإن كنت لا أستطيع أن أقتنع تماما بملاحظات كرون. وإذا وجدت أيا من أنواع جنس السكالبيلوم
Scalpellum
على الإطلاق، فأرجو أن تبحث عن ذكور مكملة؛ إذ شكك كاتب ألماني في ملاحظتي مؤخرا لمجرد أن الحقائق بدت له شديدة الغرابة.
اسمح لي مرة أخرى بأن أشكرك من أعماق قلبي على السرور الذي غمرني به كتابك، وأن أعبر عن إعجابي الصادق بأبحاثك القيمة.
مع أصدق تحياتي واحترامي يا سيدي العزيز
لك بالغ إخلاصي
سي داروين
ملحوظة:
لا أعرف ما إذا كنت مهتما على الإطلاق بالنباتات، ولكن إذا كنت كذلك، أود أن أرسل إليك كتابي الصغير عن «تلقيح السحلبيات»، وأظن أن لدي نسخة ألمانية.
هل تستطيع أن تعطيني صورة فوتوغرافية لك؟ أرغب جدا في أن تكون لدي صورة لك.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، الخميس، 27 [سبتمبر 1865]
عزيزي هوكر
كنت أعتزم أن أكتب صباح اليوم خطابا أشكر فيه السيدة هوكر من صميم قلبي على رسائلها الأخيرة والمتعددة التي حدثتني فيها عن أحوالك، والآن قد سررت للغاية برسالتك المكتوبة بخط يدك. من الرائع جدا أنك مشيت مسافة تتراوح بين خمسة وستة أميال، لا شك أنك ستتعافى قريبا إذا تحليت بقليل من الصبر . عرفت أنك كنت مريضا جدا، لكني لم أكن أعرف إطلاقا مدى شدة هذا المرض، حتى يوم أمس، عندما أتى بينثام (من آل كرانورث)
33
إلى هنا، وتمكنت من لقائه لعشر دقائق. لقد حدثني قليلا عن أيام والدك الأخيرة، وأتمنى لو أن معرفتي بوالدك كانت أقوى؛ فانطباعي عنه مقتصر على سلوكه الودود الدمث الصريح إلى حد لافت. أتفق كليا مع ما تقوله عن اختلاف الشعور عند فقدان أب وعند فقدان طفلة، وأتفهمه تماما. لا أظن أن أي شخص من الممكن أن يحب أباه أكثر مما أحببت أبي، وأعتقد أنه لا تمر بي ثلاثة أيام أو أربعة حتى الآن إلا وأنا أفكر فيه، لكن موته في الرابعة والثمانين من عمره لم يشعرني بمثقال ذرة من الحزن الذي انتابني عند فقدان عزيزتنا المسكينة آني والذي كان لا يطاق.
34
وهذا يبدو لي طبيعيا تماما؛ لأن المرء يعرف أن وفاة أبيه تقترب ببطء شيئا فشيئا قبلها بسنوات، في حين أن وفاة طفله أو طفلته تكون وجعا مفاجئا لا يحتمل. من الرائع أنك تقرأ بهذا القدر؛ فأنا أتأذى للغاية من عجزي عن قراءة أي شيء تقريبا؛ لأن القراءة تصيب رأسي بدوار عنيف على الفور تقريبا. صحيح أن نساء أسرتي الطيبات يقرأن لي كثيرا، لكني لا أجرؤ على أن أطلب منهن أن يقرأن لي الكثير من العلم، ولست متيقنا مما إذا كنت أستطيع تحمل ذلك. استمتعت بكتاب تايلور
35 «للغاية»، والجزء الأول من كتاب ليكي؛
36
لكني أرى أن الجزء الأخير غامض في معظم أجزائه، ويعطي انطباعا ظاهريا خاطئا بأنه يلقي الضوء على موضوعه بعبارات على غرار «روح العصر»، و«انتشار الحضارة»، وما إلى ذلك. لا أقرأ سوى ربع ساعة في اليوم أو نصف ساعة، وأكتفي خلال ذلك بتصفح المجلدات القديمة لمجلة «أنالز آند ماجازين أوف ناتشورال هيستوري»، وأجد الكثير مما يثير اهتمامي. أفتقد نباتاتي المتسلقة جدا؛ لأنني أستطيع العمل على ملاحظتها عندما أكون متوعكا بشدة.
لم أستمتع بكتاب «الطاحونة على نهر فلوس» قدر استمتاعك به، لكننا سنقرؤه مرة أخرى بناء على ما تقوله. هل تعرف «سيلاس مارنر»؟ إنها رواية قصيرة ساحرة، إذا لم يتبق لديك كتب جديدة لتقرأها، وأردت الحصول على هذه الرواية، فيمكننا إرسالها إليك بالبريد ... كدنا ننتهي من قراءة مجلد بالجريف الأول،
37
وأنا معجب به جدا، لكن هل رأيت من قبل كتابا على هذه الدرجة من سوء الترتيب؟ فتكرار التلميحات إلى ما سيقال لاحقا مثير جدا للضحك ... بالمناسبة، سررت جدا بالحاشية السفلية الواردة عن والاس في الفصل الأخير من كتاب لوبوك.
38
لم أكن أعرف أن هكسلي قد دعم لوبوك بخصوص مسألة دخول البرلمان ... هل رأيت تلك الملاحظة الساخرة التي وردت في صحيفة «ذا تايمز» منذ فترة عن أن السياسة أكثر إثارة للاهتمام من العلم بكثير جدا، حتى لرجال العلم أنفسهم؟ تذكر ما يقوله ترولوب، في رواية «هل تستطيع أن تسامحها؟» عن أن الانضمام إلى البرلمان هو أعلى طموح دنيوي. أتذكر أن جيفري قال، في أحد خطاباته، إن إلقاء خطبة مؤثرة في البرلمان أعظم بكثير من كتابة أعظم الأحداث التاريخية. غير أن هذا كله يبدو لي رؤية قاصرة ضعيفة. لا أستطيع أن أصف لك مدى سعادتي برؤية خط يدك مجددا؛ يا أعز أصدقائي القدامى.
مع خالص مودتي
سي داروين [في أكتوبر، كتب في خطاب إلى السير جيه دي هوكر: «بمناسبة الحديث عن كتاب «أصل الأنواع»، لفت رجل أمريكي انتباهي إلى ورقة بحثية مرفقة بالكتاب الشهير «مقالة عن الندى»، الذي ألفه الدكتور ويلز، وقرئ في عام 1813 أمام الجمعية الملكية، لكنه لم يطبع [آنذاك]، وهو يطبق فيها مبدأ الانتقاء الطبيعي بوضوح شديد على أعراق الإنسان. أي إن باتريك ماثيو العجوز المسكين ليس الأول، ولا يستطيع بعد الآن أن يضع على صفحات عناوين كتاباته جملة «مكتشف مبدأ الانتقاء الطبيعي»، أو الأحرى أنه لا ينبغي له ذلك!»]
من تشارلز داروين إلى إف دبليو فارار
39
داون، 2 نوفمبر [1865؟]
سيدي العزيز
لأنني لم أدرس علم اللغة قط، ربما قد يبدو ذلك تصرفا وقحا، لكني لا أستطيع مقاومة لذة إخبارك بمقدار ما استقيته من فائدة ومتعة من الاستماع إلى كتابك يقرأ علي.
40
لقد قرأت كتابات ماكس مولر سابقا، وارتأيت أن نظريته (إذا كانت تستحق أن تسمى بالنظرية) مبهمة وضعيفة، والآن، بعدما سمعت ما تقوله، صرت متيقنا من أن هذا صحيح بالفعل، وأن قضيتك ستنتصر في النهاية. لقد ازداد اهتمامي غير المباشر بكتابك بسبب السيد هينزلي ويدجوود، الذي تستشهد بكلامه مرارا؛ لأنه شقيق زوجتي.
لا يمكن لأحد أن يعارض آرائي عن تعديل الأنواع بطريقة أكثر تأدبا من تلك التي تعارضني بها. بالرغم من ذلك، فبناء على الطابع الذي يتسم به عقلك، تراودني قناعة تامة خالية من أي ريب (ولا يمكن زعزعتها) بأن دراساتك إذا دفعتك إلى الاهتمام بالمسائل العامة في التاريخ الطبيعي كثيرا، فستصل إلى النتيجة نفسها التي توصلت إليها.
هل سبق لك على الإطلاق أن قرأت كتيب محاضرات هكسلي؟ سأرسل إليك نسخة بكل سرور إذا ارتأيت أنك تود قراءته.
بالنظر إلى ما تعلمنا إياه الجيولوجيا، أرى أن الحجة القائمة على افتراض عدم قابلية أنواع معينة للتغير شبيهة جدا بأن يقول همجي عجوز حكيم ما، في أمة ليس لديها كتابات قديمة، إن لغته لم تتغير قط؛ لكن استعارتي أطول من أن أستطيع إكمالها.
مع أصدق تحياتي وبالغ إخلاصي وامتناني يا سيدي العزيز.
سي داروين
1866 [دونت أبرز أحداث عام 1866 في دفتر يوميات والدي بالكلمات التالية: «واصلت تصحيح فصول «تباين الحيوانات والنباتات».
1 مارس: بدأت في العمل على الطبعة الرابعة من كتاب «أصل الأنواع»، التي تكونت من 1250 نسخة (تقاضى مقابلها 238 جنيها إسترلينيا)، ما جعل إجمالي نسخ الكتاب 7500 نسخة.
10 مايو: أتممت كتاب «أصل الأنواع»، باستثناء التنقيحات، وبدأت في مراجعة الفصل الثالث عشر من كتاب «تباين الحيوانات والنباتات».
21 نوفمبر: أتممت الجزء المتعلق بفرضية «شمولية التكوين».
21 ديسمبر: أتممت إعادة مطالعة الفصول كلها، وأرسلتها إلى المطابع.
22 ديسمبر: بدأت الفصل الختامي من الكتاب.»
ذهب إلى لندن مرتين، وظل هناك أسبوعا في كل مرة حيث مكث مع شقيقه، وأقام بضعة أيام (من 29 مايو إلى 2 يونيو) في سري؛ وقضى في داون بقية العام.
ويبدو أن صحته شهدت تحسنا تدريجيا؛ فهكذا قال في خطاب إلى السيد والاس (يناير 1866): «صحتي في حالة جيدة حتى الآن إلى حد أنني أستطيع العمل ساعة أو اثنتين في اليوم.»
كتب خطابا إلى السير جيه دي هوكر بخصوص الطبعة الرابعة، قائلا: «لقد ضايقتني الطبعة الجديدة من «أصل الأنواع» جدا بسبب أمرين. الأول أنني نسيت ورقة بيتس عن التباين،
41
لكني تذكرت في الوقت المناسب عمله عن المحاكاة التنكرية، والآن، اكتشفت أنني نسيت ورقتك عن القطب الشمالي، وهذا غريب! أعرف كيف حدث ذلك؛ لقد فهرست الموضوعات التي ستدرج في عملي الأكبر، ولم أتوقع قط أنني سأطالب بإصدار طبعة جديدة من كتاب «أصل الأنواع».
لا أستطيع أن أصف كم أن هذا كله ضايقني. كل ما قرأته في السنوات الأربع الماضية وجدته باهتا جدا في ذهني.» على حد علمي، لم تذكر ورقة السيد بيتس في الطبعات اللاحقة من «أصل الأنواع»، ولا يمكنني معرفة السبب.
أعرض هنا مقتطفات من ثلاثة خطابات أرسلها إلى السيد هكسلي بخصوص كتابه «تباين الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين»، وهي مهمة لأنها تعطي فكرة ما عن تطور نظرية «شمولية التكوين»، التي نشرت في النهاية في 1868 في الكتاب محل النقاش:]
من تشارلز داروين إلى تي إتش هكسلي
داون، 27 مايو [1865؟] ... أكتب الآن لأطلب منك صنيعا، وهو صنيع جليل جدا من شخص دءوب مثلك. أطلب منك أن تقرأ ثلاثين صفحة من مخطوطة منسوخة بجودة ممتازة، ولست أطلب منك أن تقدم عليها انتقادات مطولة، بل رأيك فيما إذا كان بإمكاني أن أتجرأ على نشرها. يمكنك الاحتفاظ بالمخطوطة شهرا أو اثنين. لم أكن سأطلب هذا الصنيع، لكني «صدقا» لا أعرف أي شخص آخر سيكون حكمه على هذا الموضوع حاسما نهائيا من وجهة نظري.
الموقف كالتالي: سأنشر في كتابي القادم فصولا طويلة عن تباين البراعم والبذور، وعن الوراثة والارتداد، وآثار الاستخدام وعدم الاستخدام، وغير ذلك. وأنا أفكر أيضا منذ سنوات عديدة بشأن أشكال التكاثر المختلفة. ومن ثم، صرت شغوفا بمحاولة الربط بين كل هذه الحقائق بفرضية ما. والمخطوطة التي أود إرسالها إليك تقدم هذه الفرضية؛ صحيح أنها فرضية متسرعة ومبدئية جدا، لكنها منحتني ارتياحا عقليا كبيرا، وأستطيع أن أبني عليها مجموعات كثيرة جدا من الحقائق. أعرف جيدا أن الفرضية عندما تكون فرضية بحتة، وهذه لا تعدو كونها ذلك، تكون ضئيلة القيمة، لكن هذه الفرضية مفيدة جدا لي لأنها تعد بمثابة تلخيص لفصول معينة. الآن، أرغب بشدة في أن تصدر حكمك بإيجاز، كأن تقول لي «احرقها»، أو تقول، وهذا هو أفضل حكم مستحسن يمكن أن أتمناه، «إنها تربط ربطا مبدئيا بين حقائق معينة، ولا أظنها ستفارق عقلي على الفور». إذا استطعت أن تقول هذا القدر الكبير، ولم ترها سخيفة تماما، فسأنشرها في فصلي الختامي. الآن هل ستسدي إلي هذا الصنيع؟ يجب أن ترفض إذا كنت منهكا من فرط العمل.
يجب أن أقول عن نفسي إنني بطل لأنني أعرض فرضيتي لمصيبة انتقادك الشديدة.
12 يوليو [1865؟]
عزيزي هكسلي
أشكرك من صميم قلبي على أنك درست مخطوطتي بإمعان شديد جدا. لقد كان هذا تصرفا لطيفا حقا. كنت سأتضايق للغاية لو أنني أعدت نشر آراء بوفون، والتي لم أكن أعرف بها، لكني سأحصل على الكتاب؛ وإذا أسعفتني عافيتي، فسأقرأ ما كتبه بونيه أيضا. لا أشك في أن حكمك عادل تماما، وسأحاول إقناع نفسي بعدم النشر. المسألة برمتها أشد اعتمادا على التخمين مما ينبغي، وإن كنت أرى أنه سيتحتم تبني مثل هذه الرؤية، عندما أتذكر بعض الحقائق مثل الآثار الموروثة للاستخدام وعدم الاستخدام، وما إلى ذلك. لكني سأحاول توخي الحذر ... [1865؟]
عزيزي هكسلي
سامحني على كتابتي بالقلم الرصاص؛ فهذا ما أستطيع فعله وأنا مستلق. قرأت ما كتبه بوفون؛ توجد صفحات كاملة تشبه ما كتبته إلى حد مثير للضحك. من المدهش كم أن المرء يصبح صادقا عندما يرى آراءه ممثلة في كلمات رجل آخر. إنني خجلان بعض الخجل من المسألة برمتها، لكني لم أصبح غير مؤمن بها. لقد أسديت لي صنيعا كبيرا ب «حدة ملاحظتك الثعلبية». ومع ذلك، يوجد فرق جوهري بين آراء بوفون وآرائي. فهو لا يفترض أن كل خلية أو ذرة من الأنسجة تطرح برعما صغيرا، بل يفترض أن النسغ أو الدم يتضمن «جزيئاته العضوية»، «التي تتشكل بالفعل» ملائمة لتغذية كل عضو، وعندما يكتمل تشكيل هذا العضو، تتجمع هذه الجزيئات لتشكل البراعم والعناصر الجنسية. صحيح أن التكهن بالطريقة التي تكهنت بها محض هراء، لكني، إذا أسعفتني عافيتي على الإطلاق لنشر كتابي القادم، أخشى ألا أقاوم إغراء فرضية «شمولية التكوين»، لكني أؤكد لك أنني سأدرجها بتواضع كاف. أرى أن المسار العادي لتطور الكائنات التي تتكون فيها أعضاء جديدة في مواضع بعيدة جدا عن الأجزاء السابقة المشابهة، مثل كائنات شوكيات الجلد، من الصعب للغاية أن يتوافق مع أي رأي ما عدا الرأي القائل بوجود انتشار حر في أصل أجنة كل عضو جديد منفصل أو بريعماته، وكذلك الأمر في حالات الأجيال المتعاقبة. لكني لن أطيل الثرثرة عن هذا القدر. أشكرك من صميم قلبي يا أفضل النقاد وأعلم الرجال ... [تتناول الخطابات التالية تاريخ عام 1866.]
من تشارلز داروين إلى إيه آر والاس
داون، 5 يوليو [1866]
عزيزي والاس
أثار خطابك، الذي كان جليا كضوء النهار، بالغ اهتمامي. أتفق تماما مع كل ما تقوله عن محاسن مصطلح «البقاء للأصلح» الممتاز الذي ذكره إتش سبنسر.
42
ومع ذلك، لم يخطر هذا ببالي قط. ولكن ثمة اعتراض قوي على هذا المصطلح؛ وهو أنه لا يمكن أن يستخدم كاسم يأتي متبوعا بفعل، وهذا اعتراض حقيقي استنتجته من أن إتش سبنسر يستخدم كلمتي الانتقاء الطبيعي باستمرار. كنت أظن سابقا، بدرجة مبالغ فيها على الأرجح، أن الربط بين الانتقاء الطبيعي والانتقاء الاصطناعي مفيد جدا، وهذا قادني بالفعل إلى استخدام مصطلح شائع، وما زلت أرى هذا مفيدا بعض الشيء. ليتني تلقيت خطابك قبل شهرين؛ لأنني كنت سأضيف مصطلح «البقاء، إلخ» مرارا في الطبعة الجديدة من كتاب «أصل الأنواع»، الذي أوشك الآن أن يطبع، والذي سأرسل إليك نسخة منه بالتأكيد. سأستخدم المصطلح في كتابي القادم عن الحيوانات والنباتات الداجنة، والذي أرى جليا، بالمناسبة، أنك تتوقع منه «الكثير»، بل أكثر مما ينبغي. لقد صار مصطلح الانتقاء الطبيعي يستخدم الآن بكثرة هائلة جدا، داخل البلاد وخارجها، إلى حد أنني أشك فيما إذا كان التخلي عنه سيكون ممكنا، وبرغم كل عيوبه، سأشعر بالأسف إذا نجحت محاولات التخلي عنه. لا شك أن مسألة نبذه أو مواصلة استخدامه تعتمد الآن على مصطلح «البقاء للأصلح». فبينما سيصبح المصطلح مفهوما مع مرور الوقت بالتأكيد، ستصبح الاعتراضات على استخدامه أضعف وأضعف. أشك فيما إذا كان استخدام أي من المصطلحين سيجعل الموضوع مفهوما لبعض العقول، حتى وإن كان واضحا لعقول أخرى؛ أفلا نرى أن فكرة مالتوس عن السكان لم تزل تفهم على نحو خاطئ بسخافة غير معقولة حتى إلى يومنا هذا؟ كثيرا ما أتعزى بالتفكير في مثال مالتوس عندما أتضايق من تحريف آرائي. أما بخصوص السيد جانيه؛
43
فهو ميتافيزيقي، ومثل هؤلاء الرجال أذكياء جدا إلى حد أن عامة الناس كثيرا ما يسيئون فهمهم، حسب ما أظن. إن انتقادك الذي ذكرته بخصوص المعنى المزدوج
44
الذي استخدمت به مصطلح الانتقاء الطبيعي جديد علي وليس عندي رد عليه، لكن خطئي لن يحدث ضررا؛ فأنا لا أظن أن أحدا سواك، قد لاحظه. أقر مجددا بأنني بالغت في إكثار الحديث عن «التباينات المواتية»، لكني أظن أنك تطرح الفكرة المعاكسة بقوة مبالغ فيها؛ فلو أن كل جزء من كل كائن قد تباين، لا أظن أننا سنشهد الوصول إلى الغاية نفسها، أو الهدف نفسه، بمثل هذه الوسائل المتنوعة إلى حد مثير للعجب.
آمل أنك تستمتع بالريف، وتحظى بصحة جيدة، وتعمل بجد على كتابك عن أرخبيل الملايو؛ لأنني سأضع هذه الأمنية دائما في كل رسالة أكتبها لك، كما يفعل بعض الأشخاص الصالحين؛ إذ يضعون نصا مقدسا. لا تزال صحتي كما هي إلى حد كبير، أو تتحسن بعض التحسن، وأستطيع العمل يوميا لبضع ساعات. مع جزيل الشكر على خطابك المثير للاهتمام.
لك أصدق التحيات يا عزيزي من صديقك المخلص
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 30 أغسطس [1866]
عزيزي هوكر
سررت جدا بتلقي رسالتك وصحيفة نوتنجهام. نادرا ما شعرت في حياتي بسعادة أشد من تلك التي انتابتني عند معرفة مقدار النجاح الباهر الذي حققته محاضرتك.
45
أرسلت إلينا السيدة إتش ويدجوود وأخبرتنا أنك قرأت المحاضرة ببراعة، وسط إصغاء الحاضرين باهتمام شديد وتصفيق حار. فهي تقول «بقينا جميعا حائرين لدقيقة أو اثنتين»، عندما بدأت في إلقاء استعارتك الأخيرة،
46
ثم هبت عواصف التصفيق هذه من الجمهور. لقد استمتعوا بها للغاية وسط صيحات من القهقهة والصخب، مما جعل ختام المحاضرة باهرا جدا.
سررت بأنك ستنشر محاضرتك، وكنت متيقنا من أن هذا سيحدث عاجلا آم آجلا، بل إن عدم نشرك لها كان سيعد خطيئة. وما يسرني بالأخص أنك تقدم الحجج المؤيدة للانتقال العرضي بإنصاف تام، ومن ثم فستحظى الآن بنصيب عادل من الاهتمام؛ إذ وردت من متخصص متمرس في علم النبات مثلك. أشكرك أيضا على خطبة جروف؛ أراها جيدة وإبداعية جدا ككل، لكن الجزء المتعلق بالأنواع أصابني بخيبة أمل؛ إذ تناول الموضوع بتعميمات جعلته قابلا للتطبيق على أي رأي أو غير قابل للتطبيق على رأي محدد ...
والآن، إلى اللقاء. إنني مسرور جدا من صميم قلبي بنجاحك، ومسرور لجروف بالنجاح الباهر الذي حققه التجمع كله.
مع خالص مودتي
تشارلز داروين [الخطاب التالي مهم لأنه يعرض بداية العلاقة التي نشأت بين والدي والبروفيسور فيكتور كاروس. والترجمة المشار إليها هي الطبعة الألمانية الثالثة التي نقلت عن الطبعة الإنجليزية الرابعة. ومنذ ذلك الحين، واصل البروفيسور كاروس ترجمة كتب والدي إلى الألمانية. وتجدر الإشارة إلى أن العناية الدقيقة التي أنجزت بها هذه الترجمات قد جاءت بنفع عظيم، وأتذكر جيدا ما كان والدي يبديه عادة من إعجاب (وإن كان ممتزجا بقدر طفيف من الضيق من أخطائه) عند استقبال الملاحظات بشأن ما غفل عنه، وما إلى ذلك، والتي كان البروفيسور كاروس يكتشفها في أثناء الترجمة. لم تكن علاقتهما تقتصر على العمل، بل توطدت بمشاعر الاحترام الودية من كليهما.]
من تشارلز داروين إلى فيكتور كاروس
داون، 10 نوفمبر 1866
سيدي العزيز
أشكرك على خطابك اللطيف للغاية. لا أستطيع التعبير بما يكفي عن مدى رضاي بأنك توليت مراجعة الطبعة الجديدة، وأنا أدرك الشرف الذي منحتني إياه. أخشى أن تجد ما ستبذله من جهد هائلا، ليس بسبب الإضافات فقط، لكني أظن أن ترجمة برون مليئة بالعيوب، لقد سمعت على الأقل شكاوى بخصوص هذه النقطة من أناس كثيرين جدا. سأسعد جدا إذا عرفت أن الترجمة كانت جيدة حقا، كالتي لا أشك في أنك ستنجزها. وفقا لعادتنا الإنجليزية، سيكون من حقك تماما أن تحذف ملحق برون كله، وسأسعد جدا بحذفه. فيمكن أن نعد الطبعة الجديدة كتابا جديدا ... تستطيع إضافة أي شيء من وحي قريحتك كما تشاء، وهذا سيسعدني جدا. إذا أدرجت أي إضافات أو ألحقت أي ملحوظات، فأرى أن الخطاب الذي ألقاه ناجيلي بعنوان «أصل ومفهوم، إلخ»
47
سيكون جديرا بالذكر، بصفته أحد أكفأ الكتيبات عن هذا الموضوع. ومع ذلك، فأنا بعيد كل البعد عن الاتفاق معه في أن اكتساب طباع معينة تبدو غير مفيدة للنباتات يشكل مشكلة كبيرة، أو يقدم دليلا على وجود نزعة فطرية في النباتات نحو الكمال. إذا نويت الإشارة إلى هذا الكتيب، فسأستفيض لاحقا في ذكر بعض التفاصيل الإضافية عن الموضوع. ... ليتني كنت أعلم عند كتابة ملخصي التاريخي أنك نشرت في عام 1853 آراءك عن الارتباط النسبي بين الأشكال السابقة والحالية.
أفترض أن لديك أوراق الطبعة الإنجليزية الأخيرة التي وضعت فيها علامات بالقلم الرصاص على كل الإضافات الرئيسية، لكنها تحوي العديد من التصحيحات البسيطة في الأسلوب غير معلمة.
أرجو أن تصدق أنني ممتن بكل صدق للخدمة الجليلة والشرف الكبير اللذين منحتني إياهما بالترجمة الحالية.
سأظل، يا سيدي العزيز، أكن لك بالغ إخلاصي
تشارلز داروين
ملحوظة:
سأكون سعيدا «للغاية» بالحصول على صورتك الفوتوغرافية، وأرسل إليك صورتي إذا كنت تود الحصول على نسخة منها.
من تشارلز داروين إلى سي ناجيلي
48
داون، 12 يونيو [1866]
سيدي العزيز
أرجو أن تسامحني على إرسال خطاب إليك من تلقاء نفسي دون إذن. لقد قرأت للتو كتيبك «أصل ومفهوم، إلخ»، وإن كانت قراءة غير متقنة، وقد أثار بالغ اهتمامي إلى حد أنني أرسلته ليترجم؛ لأنني ضعيف في اللغة الألمانية. أتممت للتو طبعة جديدة [رابعة] من كتابي «أصل الأنواع» ستترجم إلى الألمانية، وغايتي من إرسال هذا الخطاب هي إخبارك بأنك، إذا طالعت هذه الطبعة، فستظن أنني اقتبست منك مناقشتين عن جمال الزهور والثمار، دون الاعتراف بذلك، لكني أؤكد لك أن كل كلمة كانت قد طبعت بالفعل قبل أن أفتح كتيبك. إذا كنت ترغب في الحصول على نسخة من الطبعة الألمانية الجديدة أو الطبعة الإنجليزية الجديدة، فسأفتخر بإرسال نسخة إليك. ربما لي أن أضيف، بخصوص جمال الزهور، أنني قد ألمحت بالفعل في ورقتي البحثية عن جنس الخثري إلى الآراء نفسها التي تتبناها.
صحيح أن العديد من انتقاداتك لآرائي هي أفضل ما صادفته من الانتقادات، لكني أستطيع الرد على بعضها بما يرضيني على الأقل، ويؤسفني للغاية أنني لم أقرأ كتيبك قبل طباعة الطبعة الجديدة من كتابي. أظن أنك أسأت فهمي قليلا في نقطة أو اثنتين، وإن كنت أجرؤ على القول إنني لم أكن حذرا في التعبير عن فكرتي. أبرز تعليق لفت انتباهي هو ذاك القائل إن موضع الأوراق لم يكتسب عبر الانتقاء الطبيعي؛ لأنه لا يحمل أي أهمية خاصة للنبات. أتذكر جيدا أن مشكلة مشابهة قد أرقتني من قبل؛ ألا وهي موضع البويضات النباتية، وحالتها المقلوبة، وما إلى ذلك. وقد غفلت سهوا عن ذكر هذه المشكلة في كتاب «أصل الأنواع».
49
صحيح أنني لا أستطيع تقديم تفسير لمثل هذه الحقائق، وكل أملي أن أرى إمكانية تفسيرها، لكني مع ذلك لا أرى على الإطلاق كيف تدعم هذه الحقائق فكرة وجود قانون ما للتطور الضروري؛ لأنني لا أفهم مسألة أن تكون نبتة ما أعلى مرتبة من نبتة أخرى لأن أوراقها موضوعة بزاوية معينة، أو لأن بويضاتها موجودة في موضع معين. بالرغم من ذلك، يجب أن أعتذر عن إزعاجك بهذه التعليقات.
نظرا إلى أنني أرغب بشدة في الحصول على صورتك الفوتوغرافية، فقد سمحت لنفسي من دون إذن بإرفاق صورتي مع هذا الخطاب، مع أصدق احترامي يا سيدي العزيز.
وسأظل أكن لك بالغ الإخلاص
سي داروين [أعرض بعض المقتطفات من خطابات ذات تواريخ مختلفة تظهر اهتمام والدي، المشار إليه في الخطاب الأخير، بمسألة ترتيب الأوراق على سيقان النباتات. ويمكن القول أيضا إن البروفيسور شفيندينر من برلين قد تناول المسألة بنجاح في كتابه «النظرية الميكانيكية لمواضع الأوراق»، 1878.
إلى الدكتور فالكونر
26 أغسطس [1863] «هل تتذكر نصيحتك لي بدراسة ترتيب الأوراق؟ حسنا، كثيرا ما تمنيت أن تهوي إلى قاع البحر؛ لأنني لم أستطع المقاومة، وأربكت عقلي بالمخططات البيانية، وما إلى ذلك، وبالعينات، ولم أصل إلى أي شيء، كما كان من المفترض أن أتوقع. هذه الزوايا مسألة عجيبة للغاية، وأتمنى أن أرى شخصا يقدم تفسيرا منطقيا لها.»
إلى الدكتور آسا جراي
11 مايو [1861] «إذا كنت ترغب في إنقاذي من ميتة بائسة، فأخبرني بسبب وجود تسلسل الزوايا 1 / 2، 1 / 3، 2 / 5، 3 / 8، إلخ، دونا عن أي تسلسل آخر. هذا كاف لجعل أهدأ الرجال يستشيط غضبا. هل نشرت أنت وعالم رياضيات ما
50
ورقة بحثية عن هذا الموضوع؟ يقول هوكر إنك فعلت ذلك؛ فأين هي؟»
إلى الدكتور آسا جراي [31 مايو 1863؟] «كنت أطالع عمل نيجالي عن هذا الموضوع، ودهشت إذ رأيت أن الزاوية في البتيلات الحديثة، عندما تصبح براعم الأوراق ملحوظة لأول مرة، لا تكون مطابقة دائما للزاوية في الفروع المكتملة النمو. أظن أن هذا يبين وجود سبب قوي بالتأكيد لتلك الزوايا؛ أعتقد أن لها تفسيرا بسيطا كتفسير زوايا خلايا النحل.»
تراسل والدي أيضا مع الدكتور هوبرت إيري وكان مهتما بآرائه عن الموضوع، التي نشرت في دورية «رويال سوسايتي بروسيدينجز»، عام 1873، الصفحة 176.
نعود الآن إلى أحداث عام 1866.
في نوفمبر، عندما كانت مقاضاة الحاكم إير تقسم إنجلترا إلى حزبين شديدي الخصام، أرسل خطابا إلى السير جيه هوكر قال فيه: «ستصرخ في وجهي عندما تسمع أنني تبرعت للتو للجنة جامايكا.»
51
وبخصوص هذا الموضوع، أقتبس فقرة من أحد خطابات أخي: «بخصوص سلوك الحاكم إير في جامايكا، كان مقتنعا تماما بأن جيه إس ميل كان محقا في مقاضاته. أتذكر أننا كنا نتحدث عن الموضوع في بيت عمي مساء أحد الأيام، ولأنني كنت أرى أن مقاضاة الحاكم إير بتهمة القتل إجراء أشد قسوة من اللازم، تفوهت بقول أحمق عن أن محاميي الادعاء أنفقوا فائض الأموال التي جمعوها في وجبة عشاء. فهاجمني والدي وهو يكاد يستشيط غضبا، وأخبرني أنه إذا كان هذا هو رأيي، يجدر بي العودة إلى ساوثهامبتون؛ حيث قدم السكان عشاء للحاكم إير عند هبوطه، ولكن لم تكن لي أي علاقة بذلك.» وقد انتهت هذه الواقعة، كما سردها أخي، بتصرف من تصرفات والدي المعتادة التي كانت تميزه جدا إلى حد أنني لا أستطيع مقاومة ذكر هذا التصرف، مع أنه ليس متعلقا بالمسألة محل النقاش. «في صباح اليوم التالي في الساعة السابعة، أو نحو ذلك، جاء إلى غرفة نومي وقعد على سريري، وقال إنه لم يستطع النوم من التفكير فيما أبداه تجاهي من غضب شديد، ثم قال لي بضع كلمات لطيفة أخرى وتركني.»
تجدر الإشارة إلى أن هذه الرغبة الملحة نفسها في تصحيح انطباع كريه أو خاطئ توصف على نحو جيد في فقرة مقتطفة أقتبسها من بعض رسائل المبجل جيه برودي إنيس: «كان إمعانه البالغ في الملاحظة مصحوبا بصدقه اللافت للغاية في كل شيء. ففي إحدى المناسبات، عقد اجتماع لأفراد الأبرشية بخصوص موضع خلاف غير ذي أهمية كبيرة، وفوجئت ليلتئذ بزيارة من السيد داروين. كان قد جاء ليقول إنه، عندما فكر في النقاش الذي دار بشأن هذه النقطة، ارتأى أنني ربما توصلت إلى استنتاج خاطئ - والحق أن ما قاله كان دقيقا إلى حد كبير - وإنه لم يكن لينام حتى يشرح لي ذلك. أعتقد أنه، لو عرف في أي يوم بحقيقة معينة تتعارض مع أعز نظرياته لديه، لدون هذه الحقيقة قبل أن ينام لكي تنشر.»
يتفق هذا مع عادات والدي، كما وصفها بنفسه. فعندما كانت تخطر بباله إحدى الصعوبات أو الاعتراضات كان يرى أن تدوينها على الفور مهم للغاية؛ لأنه كان يجد الحقائق المناهضة لأفكاره تزول بسرعة شديدة من ذاكرته.
يتجسد هذا الأمر نفسه في الحادثة التالية، التي أدين بها للسيد رومينز: «دائما ما أتذكر الحادثة الصغيرة التالية كمثال جيد على اهتمام السيد داروين الشديد بمسألة الدقة. في مساء أحد الأيام في داون، دارت محادثة عامة عن صعوبة شرح تطور بعض المشاعر التي يتميز بها البشر، لا سيما تلك المشاعر المتعلقة بإدراك الجمال في المناظر الطبيعية. اقترحت رأيا عن الموضوع من وجهة نظري، وكان هذا الرأي، بناء على مبدأ الارتباط، يستلزم افتراض أن سلسلة طويلة من الأجداد قد سكنت مناطق تتسم بما يعد الآن من المناظر الجميلة. وفي اللحظة التي كنت فيها على وشك الإشارة إلى أن الصعوبة الرئيسية المرتبطة بفرضيتي نشأت من مشاعر الإحساس بالروعة الجليلة (نظرا إلى أن هذه المشاعر مرتبطة بالرهبة، وبذلك فربما يتوقع ألا تكون مستحسنة)، توقع السيد داروين ما كنت سأقوله، وذلك بأنه سأل عن الكيفية التي تلائم بها الفرضية حالة هذه المشاعر. وفي المحادثة التي أعقبت ذلك، قال إن المرة التي كان فيها أشد تأثرا بمشاعر الإحساس بالجلال في حياته كانت عندما وقف على إحدى قمم السلسلة الجبلية في أمريكا الجنوبية، وتفحص الأفق الرائع في كل مكان من حوله. شعر حينئذ، حسبما قال بأسلوب جذاب، ويكأن أعصابه قد صارت أوتارا في آلة كمان، وبدأت كلها تهتز بسرعة. لم يقل ذلك إلا عرضا، وانتقلت المحادثة إلى فرع آخر. وبعد حوالي ساعة، تركنا السيد داروين ليخلد إلى الراحة، وسهرت أنا في غرفة التدخين مع أحد أبنائه. واصلنا التدخين والتحدث عدة ساعات، وإذا بالباب يفتح برفق في حوالي الساعة الواحدة صباحا وظهر منه السيد داروين مرتديا خفيه ورداءه المنزلي. وعلى حد ما أتذكر، فقد قال: «منذ أن ذهبت إلى الفراش، كنت أفكر في الحوار الذي دار بيننا في غرفة الجلوس، وخطر ببالي للتو أنني كنت مخطئا عندما قلت لك إنني كنت أشد إحساسا بالجلال حين كنت على قمة السلاسل الجبلية في أمريكا الجنوبية؛ فأنا متيقن تماما من أنني اختبرت ذلك الشعور بدرجة أكبر عندما كنت في غابات البرازيل. ارتأيت أنه من الأفضل أن آتي وأخبرك بهذا فورا خشية أن يضللك كلامي. أنا الآن متيقن من أن أقصى ما اختبرته من الإحساس بالجلال كان في غابات البرازيل.»
كان هذا هو كل ما جاء ليقوله، وبدا جليا أنه أتى لفعل ذلك؛ لأنه كان يظن أن حقيقة أنه كان «أشد إحساسا بالجلال عندما كان في الغابات» تتسق مع الفرضية التي كنا نناقشها بدرجة أكبر من الحقيقة التي ذكرها سابقا. ولأنه لا يوجد من هو أدرى من السيد داروين بالفرق بين التخمين والحقيقة، ارتأيت أن هذا الموقف البسيط الذي يظهر يقظة الضمير العلمي جدير بالذكر، لا سيما أن المسألة التي كنا نناقشها فيه ذات طابع تخميني جدا. وما كنت سأنبهر بشدة لو أنه ظن أن نسيانه المؤقت قد ضللني في أي مسألة واقعية بالفعل، مع أنه، حتى في مثل هذه الحالة، هو الرجل الوحيد بين كل من أعرفهم الذي قد يبالي بالنهوض من فراشه في مثل هذا الوقت من الليل ليصحح ما قاله فورا، بدلا من الانتظار حتى صباح اليوم التالي. لكن لما كان التصحيح بشأن فرضية هزيلة فحسب، فقد كنت شديد الانبهار بالطبع بهذا الموقف الذي أظهر ذاك الطابع.»]
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 10 ديسمبر [1866] ... قرأت الآن الجزء الأخير من كتاب إتش سبنسر.
52
لا أعرف ما إذا كنت أراه أفضل من الجزء السابق أم لا، لكنه يتسم بذكاء مدهش، وأظن أن أغلب محتواه صحيح. أشعر بأنني وضيع بعض الشيء عندما أقرأ كتاباته؛ أستطيع تحمل الشعور بأنه يزيد عني في الإبداع والذكاء ضعفا، حتى إنني أستمتع بذلك بعض الاستمتاع، لكن عندما أشعر بأنه أفضل مني بعشرة أضعاف، حتى في إتقان فن التملص، أشعر بالحزن. لو أنه قد درب نفسه على الإكثار من الرصد والملاحظة، ولو على حساب فقدان بعض القدرة على التفكير، وفقا لقانون التوازن، لأصبح رجلا رائعا. ... أشعر بالسعادة «من أعماق قلبي» لأنك تتناول موضوع توزيع النباتات في نيوزيلندا، وأفترض أنه سيكون جزءا من كتابك الجديد. أرى أن وجهة نظرك القائلة بأن نيوزيلندا هبطت وكونت جزيرتين صغيرتين أو أكثر ثم ارتفعت مجددا ، حسب ما أفهمها، مرجحة جدا ... عندما اعتصرت دماغي مفكرا بإمعان في نيوزيلندا، أتذكر أنني وصلت إلى استنتاج مفاده، كما ذكرت بالفعل في كتاب «أصل الأنواع»، أن نباتاتها، إضافة إلى نباتات بعض الأراضي الجنوبية الأخرى، قد تخللها أحد نباتات القطب الجنوبي، الذي من المؤكد أنه كان موجودا قبل الفترة الجليدية. استنتجت أن الالتحام الوثيق بين نيوزيلندا وأستراليا لم يكن ممكنا قط، وإن كنت أفترض أن نيوزيلندا كانت قد استقبلت بضعة أشكال أسترالية بوسائل انتقال عرضية من حين إلى آخر. هل يوجد أي سبب لافتراض احتمالية أن نيوزيلندا كانت أكثر التحاما بجنوب أستراليا في أثناء الفترة الجليدية، بينما يمكن أن تكون نباتات الكافور وغيرها، قد دفعت مسافة أطول نحو الشمال؟ يبدو أنه لم يتبق هناك إلا خط الجزر الغارقة من نيو كاليدونيا، الذي أظنك قد أشرت إليه. تذكر من فضلك أن جنس الإدورادسيا من شقائق البحر قد جرف إلى هناك عبر البحر بالتأكيد.
أتذكر تكهناتي في الأيام الخوالي بشأن مقدار الحياة؛ أي التغير الكيميائي العضوي، في الفترات المختلفة. يبدو لي أنه يوجد عنصر صعب جدا في المشكلة؛ ألا وهو حالة تطور الكائنات الحية في كل فترة؛ لأنني أفترض أن حياة نباتية وحياة حيوانية مكونة من نباتات خلوية لا زهرية وحيوانات أولية وحيوانات شعاعية التناظر من شأنها أن تؤدي إلى تغير كيميائي أقل بكثير مما يحدث الآن. لكني أطلت الثرثرة بما يكفي.
مع خالص مودتي
سي داروين [الخطاب التالي شكر لتلقي رد السيد ريفرز على خطاب سابق كان والدي قد طلب فيه معلومات عن تباين البراعم.
ربما يكون من المناسب عرضه هنا توضيحا لطريقة تواصل والدي مع أولئك «الذين كانت هواياتهم أو مهنهم في الحياة مرتبطة بتربية الكائنات الحية أو استخدامها»،
53
وقد أتى هذا التواصل بثمار طيبة في كتاب «تباين الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين». ولدى السيد داير بعض التعليقات الممتازة على الأهمية غير المتوقعة التي أوليت نتيجة لهذا لحقائق تبدو تافهة أخرجت من مدافنها في مجلات أسبوعية أو جمعت بالمراسلة. يضيف قائلا : «خبراء البستنة الذين ... شكلوا تطور بعض النباتات حسب مشيئتهم تقريبا بدافع من الذوق أو جني الربح قد ذهلوا وسحروا فور أن اكتشفوا أنهم كانوا يؤدون عملا علميا ويساعدون في تأسيس نظرية عظيمة.»]
من تشارلز داروين إلى تي ريفرز
54
داون، 28 ديسمبر [1866؟]
سيدي العزيز
اسمح لي أن أشكرك من صميم قلبي على خطابك اللطيف للغاية. منذ سنوات وأنا أقرأ باهتمام كل قصاصة كتبتها في الدوريات، ولخصتها في مخطوطة كتابك عن الورود، وقد رغبت مرارا في أن أبعث بخطاب إليك، لكني لم أكن واثقا مما إذا كنت ستراني أشد تطفلا مما ينبغي. بالتأكيد سأكون ممتنا حقا لأي معلومات يمكنك أن تمنحني إياها بخصوص تباين أو طفرات البراعم. عندما تخطر ببالي أي نقاط شديدة الصعوبة في موضوعي الحالي (الذي يعد مجموعة هائلة من الصعوبات)، سوف ألجأ إليك طالبا المساعدة، لكني لن أتجاوز حدود المعقول. صحيح تماما قولك إن من يريد دراسة فسيولوجيا حياة النباتات جيدا، يجب أن يكون لديه العديد من النباتات تحت أنظاره. حاولت جاهدا أن أفعل ما بوسعي بالمقارنة بين ادعاءات العديد من الكتاب ورصد ما أستطيع رصده بنفسي. مع الأسف، لم يضاه أحد طريقتك في الرصد والملاحظة إلا قلة قليلة. ولأنك طيب جدا، سأذكر نقطة واحدة أخرى أجمع عنها الحقائق؛ ألا وهي التأثير الناتج على الجذع الأصلي بفعل التطعيم؛ إذ «يقال» إن شجرة البندق ذات الأوراق الأرجوانية تؤثر على أوراق شجرة البندق العادية التي تطعم عليها (لقد اشتريت للتو أحد هذه النباتات لأجربه)، و«يقال» أيضا إن الياسمين المبرقش يؤثر على أصله بالطريقة نفسها. أحد أسباب رغبتي في معرفة هذه الحقائق هو إلقاء الضوء على شجرة اللبورنوم المدهشة التي تعرف باسم لبورنوم آدامي، وأشجار البرتقال الثلاثية الوريقات، وما إلى ذلك. تبدو حالة شجرة اللبورنوم هذه واحدة من أغرب الحالات في علم وظائف الأعضاء. أعكف الآن على إنماء شجر لبورنوم صفراء «خصبة» ممتازة (ذات عذقة طويلة على غرار الشجرة المسماة ووتررز لبورنوم) من بذرة الزهور الصفراء لشجرة لابورنوم آدامي. ليس بقدر هين من الرضا ذلك الذي يشعر به رجل مثلي، مجبر على أن يعيش حياة منعزلة ويرى قلة من الأشخاص، حين أسمع أنني استطعت بأي شكل من الأشكال [أن] أثير اهتمام خبير متخصص في الرصد والملاحظة مثلك بكتبي.
نظرا إلى أنني سأنشر عن موضوعي الحالي في غضون عام، أعتقد أن إرسالك بتيلات الخوخ والنكتارين، التي عرضت إرسالها إلي بكرم بالغ منك، لن يكون مفيدا؛ فأنا قد دونت حقائقك.
اسمح لي مرة أخرى بأن أشكرك من صميم قلبي؛ لأنني نادرا ما أتلقى في حياتي خطابات ألطف من خطابك.
مع بالغ إخلاصي يا سيدي العزيز
سي داروين
هوامش
الفصل الخامس
نشر كتاب «تباين الحيوانات والنباتات تحت
تأثير التدجين»
يناير 1867 إلى يونيو 1868 [في بداية عام 1867، كان يعمل على الفصل الأخير «تعليقات ختامية» من كتاب «تباين الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين»، الذي كان قد شرع فيه بعد إرسال بقية المخطوطة إلى المطبعة في ديسمبر السابق. وفي الثالث من يناير، أرسل خطابا إلى موراي بخصوص نشر الكتاب، قائلا: «لا أستطيع أن أصف لك مدى أسفي الشديد عندما عرفت الحجم الهائل الذي سيشغله كتابي.
1
أخشى ألا يكون مربحا أبدا. لكني لا أستطيع اختصاره الآن، وحتى لو كنت قد توقعت طوله، ما كنت لأتمكن من تحديد الأجزاء التي ينبغي حذفها.
إذا كنت تخشى نشره، فأرجو منك أن تخبرني بذلك فورا بلا تردد، وسأعتبر رسالتك كأنها لم تكن. أما إذا كنت تراه صالحا للنشر، فاطلب من أي شخص تثق في حكمه الاطلاع على بعض الفصول الأسهل في القراءة، وهي المقدمة والفصول المتعلقة بالكلاب والنباتات؛ لأنني أرى الفصول الأخيرة هي الأشد إثارة للملل في الكتاب كله ... ذلك أن قائمة الفصول، ومطالعة بضعة أجزاء متفرقة هنا وهناك من شأنهما أن تعطيا أي حكم بارع فكرة معقولة عن الكتاب كله. أرجو منك ألا تتهور وتنشره بلا دراسة متروية؛ لأنني سأظل متضايقا طوال حياتي إذا كبدك خسارة فادحة.»
أحال السيد موراي المخطوطة إلى أحد أصدقائه من رجال الأدب، ورغم أن ذاك الرجل أبدى رأيا معارضا بعض الشيء، وافق موراي عن طيب خاطر على نشر الكتاب. أرسل إليه والدي خطابا بخصوص ذلك قائلا: «غمرتني رسالتك بارتياح بالغ. إنني منزعج بعض الانزعاج من حكم صديقك؛ لأنه ليس من رجال العلم. أظن أنك لو كنت قد أرسلت كتاب «أصل الأنواع» إلى رجل غير متخصص في العلم، لاستنكره للغاية. لكني مع ذلك «سعيد جدا» بأنك استشرت أحدا ما تستطيع الوثوق به.
يجب أن أضيف أن رجلا بارزا ليس بغريب تماما على مجال العلوم كان قد رأى كتابي «يوميات الأبحاث» وهو لا يزال مخطوطة، وصرح بأنه لا يصلح للنشر.»
بدأت بروفات الطباعة في مارس، وانتهت المراجعة الأخيرة في 15 نوفمبر، ولم تتخلل هذه المدة أي فترات راحة من العمل سوى زيارتين إلى منزل شقيقه إيرازموس في شارع كوين آن، وقد امتدت كل منهما لأسبوع. وعن ذلك كتب في دفتر يومياته: «بدأت هذا الكتاب [في] بداية عام 1860 (ثم ألفت له مخطوطة)، لكن بسبب انقطاعي عن العمل فيه بسبب مرضي ومرض الأطفال، وانشغالي بإصدار عدة طبعات من كتاب «أصل الأنواع» وأوراق بحثية، لا سيما كتاب السحلبيات وأبحاث المحالق، أمضيت أربع سنوات وشهرين في العمل عليه.»
كانت طبعة كتاب «تباين الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين» مكونة من 1500 نسخة، بيعت منها 1260 في المعرض الخريفي الذي أقامه السيد موراي، لكنه لم ينشر حتى 30 يناير 1868. وفي فبراير من العام نفسه طبعت طبعة جديدة مكونة من 1250 نسخة.
في عام 1867، نال رتبة الفروسية مع وسام «الاستحقاق» البروسي. ويبدو أنه لم يكن يعرف مدى عظمة هذا الشرف؛ لأنه أرسل خطابا في يونيو 1868 إلى السير جيه دي هوكر، قائلا: «ما أعظم تعاطفك! لقد منحت رتبة «فارس» منذ بضعة أشهر، لكني لم أفكر كثيرا في هذا الأمر. والآن، يا إلهي، كلنا نفكر فيه؛ لكنك في الحقيقة من جعلني فارسا.»
والآن سنترك الخطابات لتسرد القصة.]
من تشارلز داروين إلى جي دي هوكر
داون، 8 فبراير [1867]
عزيزي هوكر
إنني سعيد جدا بعرض منصب رئاسة الجمعية البريطانية عليك؛ لأن هذا شرف عظيم، ولما كان لديك عمل كثير جدا يجب إنجازه، فأنا سعيد بالقدر نفسه لأنك رفضت المنصب. بالرغم من ذلك فأنا مقتنع بأنك كنت ستنجح نجاحا باهرا جدا؛ لكن عندما أتخيل نفسي في منصب كهذا، تسري في جسدي قشعريرة باردة. ذلك أن الذهول يغمرني وأنا أسترجع براعة دوق آرجايل ولباقته في إلقاء العديد من الخطب الصغيرة في جلاسكو. بالمناسبة، لم أر كتاب الدوق،
2
لكني رأيت من قبل أن بعض المقالات التي نشرت في بعض الدوريات تحمل ملاحظات ذكية جدا، لكنها ليست عميقة للغاية. وردت مقالة نقدية عن إحدى هذه المقالات في دورية «ساترداي ريفيو»
3
قبل بضع سنوات، وأوضح مؤلفها على نحو مثير للإعجاب وجود مغالطة في إحدى الحجج الرئيسية؛ لقد أرسلت المقالة إليك، واتفقت معها بشدة ... وردت أيضا قبل بضعة أيام في مجلة «ذا سبيكتاتور» مقالة نقدية جيدة إلى حد كبير عن كتاب الدوق، وتتضمن تفسيرا جديدا للأعضاء الأثرية، إما من وحي قريحة الدوق أو الناقد (لم أستطع معرفة أيهما هو صاحبه)، ألا وهو أن الاقتصاد في الجهد والمواد كان مبدأ إرشاديا عظيما لدى الإله (بتجاهل البذور غير المستخدمة والكائنات الوليدة المشوهة، وما إلى ذلك)، وأن إنشاء مخطط جديد لبنية الحيوانات كان يستلزم تفكيرا، والتفكير جهد؛ ولذا تبنى الإله مخططا موحدا، وترك الأعضاء الأثرية. هذه ليست مبالغة. باختصار، الإله إنسان، لكنه أذكى منا بعض الشيء ... أنا ممتن جدا لك على صحيفة «ذا نيشن» (التي ستعاد ضمن هذه الدفعة البريدية)؛ فهي جيدة إلى حد «مثير للإعجاب». تقول إن تخميناتي دائما ما تكون خاطئة، لكني أعتقد أنه لا يمكن لأحد، سوى آسا جراي، أن ينجز ذاك العمل بهذا الإتقان. أراهن بواحد مقابل واحد، أو بثلاثة مقابل اثنين، أن الكاتب هو آسا جراي، وإن كنت قد فوجئت من فقرة أو اثنتين.
أختتم كتابي «تباين الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين» بفقرة واحدة ترد، بقدر ما يسمح به الحيز الصغير، على فكرة آسا جراي القائلة بأن كل تباين قد رتب أو سير خصوصا وفق المنفعة، بل الأحرى أنها تلقي بظلال من الشك عليها. من الحماقة أن أتطرق إلى مثل هذه الموضوعات، ولكن كان يوجد كم هائل من التلميحات إلى رأيي بشأن الدور الذي يؤديه الإله في تكوين الكائنات الحية، فرأيت أن التهرب من المسألة سيكون تصرفا وضيعا ... إنني تلقيت أيضا خطابات بشأن هذا الموضوع ... لقد أغفلت جملتك عن العناية الإلهية، ولتفترض أنني عاملتها كما عامل بكلاند نظريته اللاهوتية الخاصة عندما تليت عليه أطروحة بريدجووتر ليصححها ... [الخطاب التالي، من السيدة بول، هو أحد الخطابات المشار إليها في الخطاب الأخير إلى السير جيه دي هوكر:]
سيدي العزيز هل ستسامحني على تجرئي على أن أسألك سؤالا لن يرضيني أن أتلقى الإجابة عنه من أحد سواك؟
هل تعتبر أن تبني نظريتك عن الانتقاء الطبيعي، بمعناها الأتم والأكمل بلا أي تحفظات، متضارب - لا أقول مع أي مخطط معين للعقيدة اللاهوتية - بل مع المعتقد التالي؛ ألا وهو:
أن الإنسان إنما يتلقى المعرفة بالوحي المباشر من روح الإله.
أن الإله كيان شخصي وخير بلا حدود.
أن تأثير أفعال روح الإله على عقل الإنسان تأثير أخلاقي على وجه التحديد.
أن كل إنسان لديه القدرة، ضمن حدود معينة، على أن يختار مدى خضوعه لدوافعه الحيوانية الموروثة، ومدى امتثاله لإرشادات الروح الإلهية التي توجهه إلى القدرة على مقاومة هذه الدوافع امتثالا لدوافع أخلاقية؟
ما دفعني إلى أن أسألك هذا السؤال هو أنني دائما ما كنت أرى أن نظريتك «متوافقة» تماما مع العقيدة التي حاولت التعبير عنها للتو، بل إن كتبك أمدتني بتلميحات ترشدني في تطبيق هذه العقيدة إلى حل بعض المشكلات النفسية المعقدة التي كان حلها يحمل أهمية عملية لي بصفتي أما. شعرت بأنك قد أتحت إحدى الحلقات المفقودة - بل ربما الحلقة المفقودة «الوحيدة» - بين حقائق العلم ووعود الدين. ثم إن تجربتي الحياتية في كل عام تميل إلى تعميق هذا الانطباع داخلي.
بالرغم من ذلك، قرأت مؤخرا تعليقات بشأن التأثير المرجح لنظريتك على مسائل دينية وأخلاقية، وهذه التعليقات حيرتني وآلمتني بشدة. أعرف أن من يدلون بهذه التعليقات لا بد أنهم أذكى مني وأحكم. لا أستطيع التيقن من أنهم مخطئون ، إلا إذا أخبرتني بذلك. وأظن - لا أستطيع أن أعرف يقينا، وإنما أظن - أنني، إذا كنت كاتبة، كنت سأفضل أن تلجأ إلي مباشرة أشد المهتمات بأعمالي تواضعا عندما تواجهها صعوبة ما، على أن تطيل التفكير والحيرة، في انتقادات معارضة، ومن المرجح أن تكون خاطئة أو هوجاء.
في الوقت نفسه، أرى أنه من حقك تماما أن ترفض الإجابة عن مثل هذه الأسئلة التي طرحتها عليك. لا بد أن يأخذ العلم مجراه، ويأخذ اللاهوت مجراه، وسيلتقيان عندما يشاء الإله وأينما يشاء وكيفما يشاء، وإذا كان ملتقاهما لا يزال بعيدا جدا، فلست مسئولا عن ذلك بأي حال من الأحوال. إذا لم أتلق ردا على هذا الخطاب، فلن أستنتج شيئا من صمتك سوى أنك ترى أن طرح مثل هذه الاستفسارات على شخص غريب ليس من حقي. [جاء رد والدي كالتالي:]
داون، 14 ديسمبر [1866]
سيدتي العزيزة
كنت سأسعد جدا لو كان بإمكاني إرسال إجابات مقنعة على أسئلتك، بل أي إجابات من أي نوع أصلا. لكني لا أستطيع أن أرى كيف يمكن أن يكون للاعتقاد بأن جميع الكائنات الحية، بما فيها الإنسان، قد اشتقت وراثيا من كائن ما بسيط ولم يخلق كل منها خلقا مستقلا على حدة، أية علاقة بالصعوبات التي تواجهك. ويبدو لي أن الإجابة عن أسئلتك غير ممكنة إلا بدليل مختلف جدا عن الأدلة العلمية، أو عن طريق ما يسمى «الإدراك الداخلي». رأيي ليس أقيم من رأي أي شخص آخر فكر في مثل هذه الموضوعات، وسيكون من الحماقة أن أدلي به. بالرغم من ذلك، يمكنني القول إنني دائما ما كنت أرى أن الأكثر إقناعا لي أن أنظر إلى الكم الهائل من الألم والمعاناة في هذا العالم على أنه نتيجة حتمية لتسلسل الأحداث الطبيعي؛ أي القوانين العامة، وليس بسبب التدخل المباشر من الإله، مع أنني أدرك أن هذا غير منطقي إذا كنا نتحدث عن إله عالم بكل شيء. يبدو أن سؤالك الأخير يتحول تدريجيا إلى معضلة حرية الاختيار والحتمية، التي وجدها معظم الأشخاص غير قابلة للحل. كنت أتمنى من صميم قلبي ألا تكون هذه الرسالة بلا أي قيمة كما هي الآن. فأنا كنت سأرسل إجابات كاملة، وإن كنت لا أملك ما يكفي من الوقت والجهد لذلك، لو كان ذلك في إمكاني. يشرفني يا سيدتي العزيزة أن أحمل لك بالغ احترامي.
مع بالغ إخلاصي
تشارلز داروين
ملحوظة:
أشعر بالأسف على أن آرائي قد سببت لك الحيرة، لكني أشكرك على رأيك القائل بأن كلا من اللاهوت والعلم ينبغي أن يأخذ مجراه الخاص، وإنني في هذه الحالة لست مسئولا إذا كان ملتقاهما لا يزال بعيدا، وأكن لك احتراما بالغا على ذلك. [يناقش الخطاب التالي كتاب «سيادة القانون» المشار إليه سلفا قبل بضع صفحات:]
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، 1 يونيو [1867] ... أقرأ كتاب الدوق حاليا، وهو يثير «بالغ» اهتمامي، لكن لا يسعني سوى أن أرى بعض أجزائه رديئة، رغم أن الكتاب في مجمله جيد جدا، من أمثلة هذه الأجزاء، ذلك الذي يعرب فيه عن شكوكه فيما إذا كان كل انحناء في منقار الطيور الطنانة نافعا لكل نوع. إنه يقر، وربما بدرجة مبالغ فيها، بأنني أظهرت فائدة كل نتوء طولي صغير وشكل كل بتلة في السحلبيات، وما أغرب أنه لا يمد ذاك الرأي على استقامته ليشمل الطيور الطنانة! بل ويبدو لي الأغرب من ذلك بكثير كل ما يقوله عن الجمال، الذي كنت أحسبه ليس موجودا إلا في عقل كائن واع. ربما كان يمكنه أن يقول أيضا إن الحب كان موجودا في حقبة الحياة القديمة أو حقبة الحياة الوسطى. آمل أن يكون حال ما تحرزه من تقدم في إنجاز كتابك أفضل مما أحرزه في إنجاز كتابي، الذي يقتلني بجهد التصحيح وأراه مملا إلى حد لا يطاق، مع أنني لم أكن أظن ذلك عندما كنت أكتبه. ستكون حياة عالم التاريخ الطبيعي سعيدة لو أنه اكتفى بالرصد والملاحظة فقط ولم يكتب قط.
سنكون في لندن لمدة أسبوع بعد حوالي أسبوعين من الآن، وسأستمتع بحوار معك على الفطور.
مع خالص مودتي
سي داروين [يشير الخطاب التالي إلى ترجمة كتاب «أصل الأنواع» الجديدة والمحسنة، التي أنجزها البروفيسور كاروس:]
من تشارلز داروين إلى جيه فيكتور كاروس
داون، 17 فبراير [1867]
سيدي العزيز
قرأت مقدمتك بعناية. أرى أنك تعاملت مع برون باحترام تام ومراعاة رقيقة بالغة، وأنك أشرت إلى جهدك الذي بذلته بنفسك بتواضع شديد. لا أظن أن أيا من أصدقاء برون يمكن أن يشكو مما قلته وما فعلته. غير أنني حزين من أجلي شخصيا لأنك لم تضف ملاحظات؛ فأنا متيقن من أنني كنت سأستفيد منها جدا، لكن لما قد حذفت اعتراضات برون، فأعتقد أنك تصرفت بحسن تقدير وإنصاف ممتازين بتركك النص دون تعليق؛ ليتوصل القارئ إلى حكمه المستقل بشأنه. أهنئك من صميم قلبي على انتهاء الجزء الرئيسي من عملك الشاق؛ كان معظم الرجال سيرونها مهمة شاقة جدا لو كلفوا بها، ولكن يبدو أن لديك قدرات لا تقهر في العمل، وذلك بناء على هذين المجلدين الرائعين المفيدين جدا اللذين حررتهما عن مؤلفات علم الحيوان،
4
واللذين لا أفتحهما أبدا دون أن تدهشني دقتهما وأشعر بالامتنان لفائدتهما. لا أستطيع أن أجد كلمات كافية للتعبير عن مدى سعادتي بأنك قد اقتنعت بالإشراف على ترجمة الطبعة الحالية من كتابي؛ لأنني صرت الآن مرتاحا جدا بمعرفة أن الجمهور الألماني سيستطيع الحكم بإنصاف على محاسنها وعيوبها ...
مع خالص الشكر من أعماق قلبي وأصدق تحياتي
لك بالغ إخلاصي يا سيدي العزيز
سي داروين [كتب أقدم خطاب رأيته من خطابات والدي إلى البروفيسور هيكل في عام 1865، ومنذ ذلك الوقت فصاعدا، ظلا يتراسلان (وإن كان تراسلا غير منتظم على الإطلاق، حسبما أظن) حتى نهاية حياة والدي. لم تكن صداقته مع هيكل محض نتاج لتطور مراسلاتهما، مثلما كان الحال مع البعض الآخر، كفريتز مولر مثلا. أجرى هيكل أكثر من زيارة إلى داون، وقد استمتع والدي للغاية بهذه الزيارات. تكمن فائدة الخطاب التالي في توضيح شعور الاحترام القوي الذي كان يكنه لمراسله، وهو شعور كنت أسمع التعبير عنه بتشديد قاطع مرارا، وكان مراسله يبادله إياه بحرارة. الكتاب المشار إليه هو كتاب «علم التشكل العام» الذي ألفه هيكل، ونشر عام 1866، وتلقى والدي نسخة منه أهداها إليه المؤلف في يناير 1867.
طرح الدكتور إي كراوزه
5
سردا جيدا لما قدمه البروفيسور هيكل لقضية التطور. فبعدما تحدث عما لاقاه كتاب «أصل الأنواع» من استقبال فاتر في ألمانيا عندما نشر هناك لأول مرة، يمضي قدما ليصف أوائل أتباع العقيدة الجديدة بأنهم كتاب على درجة من الشهرة، لكن من غير المرجح أن يحسنوا درجة قبوله لدى وسط الأساتذة أو الوسط العلمي البحت. ويصرح قائلا عن هيكل بأن دفاعه عن مسألة التطور في كتابه «الشعوعيات» (1862)، وفي «اجتماع» علماء التاريخ الطبيعي في مدينة شتيتين البولندية في عام 1863، هو الذي طرح المسألة الداروينية علنا لأول مرة أمام الوسط العلمي في ألمانيا، وكان ترويجه الحماسي لها هو ما أسهم بدور رئيسي في نجاحها.
وأثنى السيد هكسلي، في خطاب كتبه في عام 1869، ثناء بالغا على البروفيسور هيكل، واصفا إياه بأنه قائد الحركة الداروينية في ألمانيا. وقال عن كتابه «علم التشكل العام»، «الذي يعد محاولة لاستنباط التطبيق العملي» لفكرة التطور على نتائجهم النهائية، إنه يتسم «بقوة أوكن وقدرته على تحفيز التفكير ... إضافة إلى قوة التنظيم دون مغالاته». يشهد البروفيسور هكسلي أيضا بقيمة كتاب هيكل «تاريخ الخلق»، واصفا إياه بأنه شرح لكتاب «علم التشكل العام» «لجمهور مثقف».
بعد ذلك، كتب السيد هكسلي مجددا، في مقالته «التطور في علم الأحياء»:
6 «مهما كان التردد الذي قد يراود - في حالات ليست بالقليلة - عقولا أقل جرأة حيال اتباع هيكل في العديد من تكهناته؛ فمحاولته الرامية إلى منهجة فكرة التطور، وإظهار تأثيرها باعتبارها الفكرة المركزية لعلم الأحياء الحديث، لا يمكن أن تفشل في ترك تأثير واسع النطاق على تقدم العلم.»
في الخطاب التالي يلمح والدي إلى الضراوة الشرسة بعض الشيء التي خاض بها البروفيسور هيكل معركة الدفاع عن «الداروينية»، وقد أدلى الدكتور كراوزه ببعض التعليقات الجيدة (الصفحة 162) بخصوص هذا الموضوع. فهو يتساءل عما إذا كان الكثير مما حدث في أوج احتدام الصراع ربما ما كان سيحدث لولا ذلك، ويضيف أن هيكل نفسه هو آخر رجل قد ينكر هذا. بالرغم من ذلك، يرى كراوزه أن حتى هذه الأشياء ربما تكون قد نفعت قضية التطور؛ لأن هيكل «سلط على نفسه، بكتابه «أصل العرق البشري»، وكتابه «علم التشكل العام» وكتابه «تاريخ الخلق»، كل الكره والاستياء اللذين أثارهما التطور في أوساط معينة»، ومن ثم، «ففي وقت قصير جدا إلى حد مدهش، صار الرائج في ألمانيا أن يساء إلى هيكل وحده، بينما قدم داروين على أنه نموذج مثالي للتروي والاعتدال.»]
من تشارلز داروين إلى إي هيكل
داون، 21 مايو 1867
عزيزي هيكل
سررت جدا بخطابك المؤرخ بتاريخ الثامن عشر؛ لأنك تلقيت ما قلته لك بأقصى اللطف والود. لقد فهمت بعض ما قلته بمعنى أسوأ بكثير مما كنت أقصده. لم يخطر ببالي قط ولو لحظة واحدة أن أشك في أن عملك، بما يتضمنه من ترتيب باهر واضح للموضوع كله، وتعزيزه بالعديد من الحقائق والحجج الجديدة، لن يساعد في دعم هدفنا المشترك بأقصى درجة. كل ما أراه هو أنك ستثير الغضب، وهذا الغضب سيعمي الجميع تماما، وبذلك لن يكون لحججك فرصة للتأثير في أولئك الذين يعارضون آراءنا بالفعل. وفوق ذلك، لا أحب إطلاقا أن أراك، يا من أحمل لك مشاعر صداقة حميمة، تجلب إلى نفسك الأعداء دونما داع؛ فالعالم يعج بما يكفي من الألم والاستياء دون إحداث المزيد منهما. لكني أكرر أنني على يقين تام من أن عملك سيدعم موضوعنا بدرجة كبيرة، وأتمنى من صميم قلبي أن يترجم إلى الإنجليزية، من أجلي ومن أجل الآخرين. أما بخصوص ما تقوله عن أنني أقدم على آرائي اعتراضات أقوى من اللازم، فبعض أصدقائي الإنجليز يرون أنني أخطأت في هذه النقطة، لكن الصدق هو ما دفعني إلى كتابة ما كتبته، وأميل إلى أن أرى أنها كانت سياسة جيدة. الإيمان بنظرية الانحدار ينتشر ببطء في إنجلترا،
7
حتى بين هؤلاء الذين لا يستطيعون ذكر أي سبب لإيمانهم بها. لم تكن توجد في البداية أي جماعة من الرجال تعارض آرائي بأشد مما كان يعارضها أعضاء جمعية علم الحشرات في لندن، لكني الآن متيقن من أن الأعضاء كلهم، باستثناء رجلين عجوزين أو ثلاثة، يتفقون معي إلى حد ما. انتابني إحباط شديد لأنني لم أتلق قط خطابك الطويل الذي أرسلته إلي من جزر الكناري. يسعدني سماع أن جولتك، التي يبدو أنها كانت شائقة جدا، قد أفادت صحتك كثيرا. أعمل بدأب وكد على كتابي الجديد، لكني أحرز تقدما بطيئا للغاية، والعمل يجهد صحتي، التي لم تزل تقريبا مثلما كانت عندما كنت هنا.
سيترجمه فيكتور كاروس، لكني أشك فيما إذا كان يستحق الترجمة. سررت جدا بسماع أنك من المحتمل أن تزور إنجلترا هذا الخريف، وسوف يسعد كل من في هذا المنزل برؤيتك هنا.
مع أصدق تحياتي يا عزيزي هيكل
وبالغ إخلاصي
تشارلز داروين
من تشارلز داروين إلى إف مولر
داون، 31 يوليو [1867]
سيدي العزيز
قبل أسبوع تلقيت خطابك المؤرخ بتاريخ 2 يونيو، وهو ممتلئ كالعادة بمواد وعينات قيمة. لقد وصل في أنسب وقت؛ لأنه مكنني من طرح ملخص تام إلى حد كبير لملاحظاتك عن أن حبوب اللقاح الخاصة بالنبات نفسه سامة. أدرجت هذا الملخص في بروفات طباعة فصلي المتعلق بالعقم، وهو يمثل الجزء الأشد لفتا للانتباه في فصلي كله.
8
أشكرك ببالغ الصدق على ملاحظاتك المثيرة جدا للاهتمام، وإن كنت أشعر بالأسف على أنك لم تنشرها في مجلد منفصل. اضطررت إلى اختصار جزء أو اثنين بدرجة أكبر مما كنت أريد ... دائما ما تدهشني خطاباتك بسبب عدد النقاط التي تتناولها. أتمنى أن أستطيع جعل خطاباتي تحمل أي فائدة لك؛ لأنني نادرا ما ألتقي أي عالم تاريخ طبيعي، وأعيش حياة منعزلة كالتي تعيشها في البرازيل. بخصوص النباتات التي تستخدم المحاكاة التنكرية، أتذكر أن هوكر قال منذ سنوات عديدة إنه يؤمن بوجود الكثير منها، لكني أتفق معك في أن التمييز بين التشبه المحاكي وتأثيرات الظروف الغريبة سيكون صعبا للغاية. فمن يستطيع أن يحدد أيا من هذه الأسباب تعزى إليه النباتات المتعددة التي لديها أوراق شبيهة بأوراق الخلنج في مضيق رأس الرجاء الصالح؟ وألا تكمن صعوبة أخرى أيضا في أن ذوات الأربع، على ما يبدو، تتعرف على النباتات من [رائحتها] أكثر مما تتعرف عليها من مظهرها؟ ما قلته للتو يذكرني بأن أسألك سؤالا. لقد أحضر إلي السير جيه لوبوك قبل بضعة أيام ما يبدو أنه ديدان بلاناريا أرضية (أول ديدان على الإطلاق من هذا النوع يعثر عليها في نصف الكرة الشمالي)، وكانت ألوانها مطابقة تماما لألوان بزاقاتنا ذات الألوان الداكنة. أصبحت الطيور الآن تلتهم البزاقات، كالأنواع الحاملة الأصداف، وهذا جعلني أتذكر أنني وجدت ديدان البلاناريا البرازيلية في الحقيقة مع بزاقات فاجينولية مخططة أعتقد أنها كانت ذات ألوان مشابهة. هل تستطيع أن تلقي أي ضوء على ذلك؟ أود أن أعرف؛ لأنني كنت متحيرا قبل بضعة أشهر حيال الكيفية التي يمكن بها تفسير الألوان الساطعة لديدان البلاناريا تفسيرا متعلقا بالانتقاء الجنسي. بالمناسبة، أظن أنها خنثوية.
لا تنس مساعدتي، إن استطعت، بإجابات عن «أي» من أسئلتي بخصوص مسألة التعبير عن العواطف؛ لأن الموضوع يثير اهتمامي بشدة. مع خالص الشكر من أعماق قلبي على لطفك الذي لا ينضب.
لك أصدق تحياتي وبالغ إخلاصي
تشارلز داروين
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، 18 يوليو [1867]
عزيزي لايل
شكرا جزيلا على خطابك الطويل. يحزنني سماع أنك تشعر باليأس من إتمام كتابك
9
أعرف هذا الشعور جيدا، لكني الآن أخرج من قاع اليأس. سأسعد جدا إن استفدت ولو بأدنى درجة من كتابي الحالي، ولا أكترث إطلاقا بما إذا كان سينشر قبل كتابك أم لا. سينشر كتابي قرب نهاية نوفمبر من العام الجاري، وأنت تقول إن كتابك لن ينشر قبل نوفمبر من عام 1868، وآمل أن يكون ذلك خطأ. لا يتضمن كتابي شيئا عن مسألة تطور الإنسان قد يتعارض مع ما تقوله؛ لذا سأطلب أن ترسل إليك كل الأوراق المنقحة المكتملة (وغيرها حالما تصبح جاهزة)، لكن أرجو أن تلاحظ أن المجلد الأول لن يستهويك؛ إذ يعد تدوينا لمقدار التباين ليس إلا، لكني آمل أن يكون الثاني أكثر إثارة لاهتمامك بعض الشيء. وإن كان يؤسفني القول إن الكتاب كله سيكون مملا بالتأكيد.
أشعر بالسعادة من أعماق قلبي لأنك ستعبر بصراحة عن رأيك بشأن مسألة الأنواع. سيكون كتابي عن مسألة تطور الإنسان قصيرا، إذا نشر، وسيكرس جزء كبير منه لموضوع الانتقاء الجنسي، الذي أشرت إليه في كتاب «أصل الأنواع»، بوصفه وثيق الصلة بمسألة تطور الإنسان ...
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، 22 أغسطس [1867]
عزيزي لايل
أشكرك من صميم قلبي على خطابيك الأخيرين. لقد نفعني الأول «حقا»؛ لأن الموضوع كان قد أنهكني جدا إلى حد أنني لم أكن أطيق تصحيح البروفات،
10
وأنت قد شجعتني بخطابك. أتذكر أنني ظننت أنك، عندما ستصل إلى فصل الحمام، ستتجاهله معتبرا إياه غير قابل للقراءة إطلاقا. أما خطابك الآخر، فأثار اهتمامي من عدة نواح، وقد سررت بسماع أخبار هؤلاء الرجال الفرنسيين البشعين الذين لا يصدقون النظرية. سعدت جدا بأنك ذكرت فرضية شمولية التكوين. لا أعرف ما إذا كنت قد شعرت يوما بأنك فكرت في موضوع ما كثيرا جدا إلى حد يعجزك تماما عن الحكم عليه. هذه هي حالي مع فرضية شمولية التكوين (التي يبلغ عمرها 26 أو 27 عاما)، لكني أميل إلى رؤية أنها إذا قبلت باعتبارها فرضية مرجحة، فستكون هذه خطوة مهمة بعض الشيء في علم الأحياء.
لا أستطيع منع نفسي من الشعور بالندم على أنك طالعت القصاصات أصلا في يوم من الأيام؛ لأنني آمل إجراء تحسينات كثيرة على الموضوع كله. دهشت، وابتهجت، بأنك تهتم بالنباتات ولو بدرجة طفيفة. وإجمالا، لقد منحتني أحد أفضل الأدوية المنشطة التي تناولتها في حياتي، وأشكرك من صميم قلبي على ذلك. أرسلت صباح اليوم الطبعة الفرنسية.
11
فوجئت تماما بالمقدمة، وأظنها أضرت بالكتاب في فرنسا، ومع ذلك ... أرى أنها تظهر أن الآنسة تتسم بذكاء استثنائي شديد. أكرر شكري الجزيل على تجديدك شجاعتي التي سأنقض بها على بروفات الطباعة البغيضة.
مع خالص مودتي
تشارلز داروين
ملحوظة:
كان يوجد هنا رجل روسي يترجم كتابي الجديد إلى اللغة الروسية، ويقول إن كتاباتك تقرأ كثيرا للغاية في روسيا ، وهناك طبعات كثيرة منها، نسيت عددها. هناك ست طبعات من كتاب باكل وأربع طبعات من كتاب «أصل الأنواع».
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، 16 أكتوبر [1867]
عزيزي جراي
أرسل بهذه الدفعة البريدية أوراقا منقحة مكتملة من المجلد الأول حتى الصفحة 336، ولا يحوي هذا المجلد سوى 411 صفحة. سررت «جدا» بسماع أنك ستكتب مقالة نقدية عن كتابي؛ ولكن إذا كانت «ذا نيشن»
12
جريدة، فليتها كانت قابعة في قاع البحر؛ إذ أخشى أن تتوقف بذلك عن كتابة مقالات نقدية عني في أي مجلة علمية. المجلد الأول كله تفاصيل، ولن تستطيع قراءته، ويجب أن تتذكر أن الفصول المتعلقة بالنباتات مكتوبة لعلماء التاريخ الطبيعي غير المتخصصين في علم النبات. ومع ذلك، أظن أن الفصل الأخير في المجلد الأول تجميعة شائقة من الحقائق، وموضوعه هو تباين البراعم. أما في المجلد الثاني، فبعض الفصول أكثر إثارة للاهتمام، وسأكون متلهفا جدا لسماع حكمك على الفصل المتعلق بالتهجين بين الأنواع القريبة الصلة بعضها ببعض. وأما الفصل المتعلق بما أسميها فرضية شمولية التكوين، فسيوصف بأنه حلم مجنون، وسوف يغمرني الرضا إذا رأيت أنه حلم جدير بالنشر، لكني أظن في قرارة نفسي أنه يحوي حقيقة عظيمة. أختتم الكتاب بفقرة شبه لاهوتية أقتبس فيها منك وأختلف فيها معك، لا أعرف ماذا سيكون رأيك فيها ...
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 17 نوفمبر [1867]
عزيزي هوكر
فلتهنئني لأنني أنهيت المراجعة الأخيرة لآخر ورقة من كتابي. كانت مهمة فظيعة؛ سبعة أشهر ونصف من التصحيح تهيئة للطباعة والنشر، صحيح أن الكتاب لا يبدو كبيرا لأنه مكتوب بخط صغير للغاية، لكنه في الحقيقة كبير جدا. لقد عملت بجد لأواكب المعدل المطلوب، لكن لم تواجهني في الأسبوع الماضي سوى قلة من النقاط التي تحتاج إلى مراجعة؛ لذا أخذت قسطا من الراحة وتحسنت عافيتي. ومن ثم، فبعد صمتنا المتبادل الطويل، أستمتع بإرسال خطاب إليك؛ من أجل التنفيس عما بداخلي، وسماع أخبارك. بسبب الفهرس،
13
أفترض أنك لن تتسلم نسختك قبل منتصف الشهر المقبل. سأكون متلهفا بشدة لسماع رأيك في فرضية شمولية التكوين، وإن كنت أستطيع رؤية مدى قصورها الفظيع، حتى في الاستنتاجات التي لا تتجاوز كونها تخمينية، فمع ذلك، انتابني رضا بالغ لأنني ربطت، بطريقة ما، بين المجموعات الكبيرة المتنوعة من الحقائق، التي كنت أفكر فيها منذ فترة طويلة، بخيط واضح مفهوم. لن أتفاجأ إطلاقا إذا هاجمتني وهاجمتها بضراوة لا مثيل لها. سأسعى إلى بذل أقل قدر ممكن من الجهد لفترة ما، لكني سأعد ورقة بحثية أو اثنتين للجمعية اللينية عما قريب. سنذهب قريبا إلى لندن عشرة أيام، لكن الوقت لم يحدد بعد. الآن قد أخبرتك بالكثير عني، فاسمح لي بأن أسمع الكثير عما فعلته سابقا وما ستفعله في المستقبل. هل تستطيع زيارتنا، في أوائل شهر ديسمبر؟ ... فأنا لم ألتق أحدا منذ زمن طويل، ولم أسمع أي أخبار. ... سأسدي إليك نصيحة بشأن كتابي. فلتتخط المجلد الأول «كله»، باستثناء الفصل الأخير (وهذا لا يحتاج إلا إلى تصفح سريع)، ولتتخط جزءا كبيرا في المجلد الثاني؛ وحينئذ ستقول إنه كتاب جيد جدا.
1868 [نشر كتاب «تباين الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين»، كما ذكرنا سلفا، في 30 يناير 1868، وفي ذاك اليوم، أرسل نسخة إلى فريتز مولر، وكتب إليه خطابا قال فيه: «أرسل إليك ضمن هذه الدفعة البريدية، بقارب بريدي فرنسي، كتابي الجديد الذي تأخر نشره كثيرا. كما سترى، ليس الغرض من الجزء الأكبر أن يقرأ، لكني أرغب بشدة في معرفة رأيك في فرضية «شمولية التكوين»، وإن كنت أخشى أن تبدو «للجميع» تخمينية بدرجة مبالغ فيها.»]
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
3 فبراير [1868] ... إنني في غاية السعادة بما تقوله عن مقدمة كتابي؛ إذ كنت قاب قوسين أو أدنى من إلغائها كلها بعدما صارت جاهزة للطباعة بالفعل. أشعر منذ فترة بيأس من كتابي، وإذا حاولت قراءة بضع صفحات، أشعر بغثيان شديد، ولكن لا تدع هذا يدفعك إلى الثناء عليه؛ لأنني قررت أنه لا يساوي خمس الجهد المضني الهائل الذي كبدني إياه. أؤكد لك أن كل ما يستحق أن تفعله (إن كان لديك وقت كاف لهذا القدر ) هو إلقاء نظرة سريعة على الفصل السادس، وقراءة أجزاء من الفصول اللاحقة. أرى أن الحقائق المتعلقة بالنباتات العاجزة عن التلقيح الذاتي شائقة، وقد استنبطت استنتاجا مرضيا مفاده أن النتائج الجيدة تأتي من التهجين بين أنواع بعضها بعيد الصلة عن بعض، وأن النتائج السيئة تأتي من التهجين بين أنواع بعضها قريب الصلة من بعض. قرأت فرضية شمولية التكوين قبل بضعة أيام، لكن حتى هذه، موضوعي المحبب كما كنت أحسبها، أثارت اشمئزازي بشدة. اللعنة على الكتاب كله، ومع ذلك، فأنا الآن أعمل مجددا بجد قدر ما أستطيع. إنها حقا لمصيبة جسيمة أنني، بحكم العادة، لم أعد أستمتع بأي شيء تقريبا ما عدا التاريخ الطبيعي؛ فلا شيء آخر يجعلني أنسى أحاسيسي المزعجة التي تراودني كثيرا. ولكن علي أن أتوقف عن الشكوى الآن، وليقل النقاد ما يشاءون؛ فأنا قد بذلت كل ما في وسعي، ولا يوجد إنسان يستطيع أن يفعل أكثر من ذلك. كم كانت ممارسة تخصص التاريخ الطبيعي ستصبح رائعة لو أنها كانت مقتصرة على الرصد والملاحظة دون الكتابة! ...
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 10 فبراير [1868]
عزيزي هوكر
ما جدوى أن يكون للمرء صديق إن لم يستطع التباهي أمامه؟ سمعت يوم أمس أن موراي باع كل نسخ طبعة كتابي البالغة 1500 نسخة، وأن طلبات الشراء ملحة جدا إلى حد أنه اتفق مع دار نشر كلوز على إصدار طبعة أخرى في غضون أربعة عشر يوما! لقد عاد هذا علي بنفع كبير؛ لأنني كنت قد بدأت أشعر بنوع من الكراهية الشديدة تجاه كتابي. والآن قد نشر عنه في صحيفة «بول مول جازيت» مقال نقدي غمرني بسعادة هائلة، وربما حتى يكون مبالغا فيها. إنني قانع تماما، ولا أكترث بمقدار الانتقادات اللاذعة التي قد أتعرض لها. إذا قادتك أي مصادفة إلى معرفة هوية كاتب المقال النقدي في صحيفة «بول مول جازيت»، فلتخبرني بها من فضلك؛ فهو يجيد الكتابة على نحو ممتاز ويعرف الموضوع. لقد ذهبت في يوم الأحد إلى مأدبة غداء في بيت لوبوك، وكان أحد أسباب ذهابي هو أملي في أن ألقاك، لكنك، أيها الملعون، لم تكن هناك.
صديقك المغتبط بإنجازه
سي داروين [بعيدا عن طابع الاستحسان العام الذي اكتست به سلسلة المقالات القصيرة النقدية البارعة في صحيفة «بول مول جازيت» (أيام 10، و15 و17 فبراير، عام 1868)، ربما ابتهج والدي بالفقرات التالية: «علينا أن نلفت الانتباه إلى الهدوء النادر النبيل الذي يشرح به آراءه، دونما اضطراب من حدة الاهتياج العدائي الذي تثيره هذه الآراء، مع التمسك على الدوام برفض الرد على خصومه بسخرية أو غضب أو ازدراء. وبالنظر إلى كم التوبيخ اللاذع والذم الضمني الذي يصدر عن الطرف الآخر، فهذا الصبر جدير بالتبجيل الشديد.»
ومرة أخرى في المقال القصير الثالث الذي نشر في 17 فبراير: «لا يذكر المؤلف على الإطلاق أي كلمة قد تجرح أشد مشاعر حب الذات حساسية لدى أي من خصومه، ولا يفضح على الإطلاق، في أي نص أو ملحوظة، مغالطات إخوته من الباحثين وأخطاءهم ... لكنه بينما يمتنع عن التوبيخ الوقح، يسرف في اعترافه بأصغر الديون التي قد يدين بها، وسوف يسعد كتابه رجالا كثيرين.»
إنني مدين لدار نشر «سميث آند إلدر» على إعلامي بأن كاتب هذه المقالات هو السيد جي إتش لويس.]
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 23 فبراير [1868]
عزيزي هوكر
وجب علي مؤخرا أن أكتب عددا كبيرا من الخطابات يكاد يساوي عدد ما تستطيع كتابته؛ أي يتراوح من ثمانية خطابات إلى عشرة يوميا، وكانت غايتي الأساسية من ذلك هي الحصول على حقائق عن الانتقاء الجنسي؛ لذا لم تراودني أي رغبة في كتابة خطابات إليك، والآن أعتزم أن أكتب عن كتابي فقط، على النحو الذي يرضيني وليس الذي يرضيك على الإطلاق. كانت الطبعة الأولى مكونة من 1500 نسخة، والآن قد طبعت الطبعة الثانية؛ هذا إنجاز رائع. هل طالعت المقال النقدي المنشور في دورية «ذا أثنيام»، الذي يظهر ازدراء عميقا لي؟ ... من العار أن كاتبه يقول إنني اقتبست الكثير من بوشيه، دون أن أعترف بذلك؛ لأنني حرفيا لم أقتبس شيئا؛ إذ لم يكن يوجد شيء أقتبسه. يوجد في دورية «ذا جاردنرز كرونيكل» مقال نقدي ممتاز سيسهم في الترويج لبيع الكتاب، إذا كان لأي شيء أن يسهم في ذلك. ليس من الواضح لي تماما ما إذا كنت أنا المشوش بشأن مسألة «تسبب» الإنسان في القابلية للتباين، أم كاتب المقال. فإذا وضع رجل قليلا من الحديد في حمض الكبريتيك، فإنه لا يسبب إحداث الألفة الكيميائية، ومع ذلك يمكن القول إنه يصنع مركب كبريتات الحديد. لا أعرف كيف أتجنب الالتباس.
بعد ما قالته صحيفة «بول مول جازيت» ودورية «ذا جاردنرز كرونيكل»، لا أكترث إطلاقا.
أخشى أن يكون محكوما على فرضية شمولية التكوين بأن تولد ميتة؛ فبيتس يقول إنه قرأها مرتين، وليس متيقنا من أنه يفهمها. ويقول إتش سبنسر إن هذا الرأي مختلف عن رأيه إلى حد كبير (وهذا أشعرني بارتياح شديد؛ إذ كنت أخشى أن أتهم بالسرقة الأدبية، لكني عجزت تماما عن التيقن مما كان يقصده؛ لذا ارتأيت أن أسلم شيء هو أن أطرح رأيي على أنه شبه مطابق لرأيه)، وهو يقول إنه ليس متيقنا من أنه يفهمها ... ألست شخصا مسكينا؟ لكني مع ذلك تحملت هذه الآلام؛ فأنا أعتقد أنني عبرت عن فكرتي بوضوح. يقول السير إتش هولاند العجوز إنه قرأها مرتين، ويراها شديدة الصعوبة، لكنه يعتقد أنه، عاجلا أم آجلا، سيقبل بصحة «رأي ما مشابه لها».
ستظنني مغرورا جدا عندما أقول إنني «متيقن» من أن فرضية «شمولية التكوين»، إذا كانت قد ولدت الآن ميتة، فإنها، والحمد للرب على ذلك، ستولد في وقت ما في المستقبل من صلب رجل آخر، وستعمد باسم آخر.
هل صادفت من قبل أي رأي ملموس واضح بشأن ما يحدث في التوالد، سواء بالبذور أو البراعم، أو بشأن الكيفية التي يمكن بها لطابع مفقود منذ زمن طويل أن يظهر مجددا، أو بشأن كيفية تأثير العنصر الذكري على النبتة الأم أو الحيوانة الأم، مما يؤثر في نسلها المستقبلي؟ كل هذه النقاط والعديد من النقاط الأخرى بعضها يرتبط ببعض من خلال فرضية شمولية التكوين، أما بخصوص ما إذا كان هذا الربط صحيحا أم خاطئا، فتلك مسألة أخرى. أنا عنيد كما ترى، وأدافع باستماتة عن طفلي المسكين.
هذا الخطاب مكتوب لإرضاء نفسي وليس لإرضائك. لذا فلتتحمله.
مع خالص مودتي
سي داروين
من تشارلز داروين إلى إيه نيوتن
14
داون، 9 فبراير [1870]
عزيزي نيوتن
أفترض أن الجميع سيعتبر إقدام رجل مدعى عليه على إرسال خطاب إلى قاض ما ليعبر عن رضاه بحكم صدر في مصلحته خطأ شنيعا، لكن هذا هو ما سأفعله. قرأت للتو ما قلته في كتاب «سجل علم الحيوان»
15
عن فصول كتابي المتعلقة بالحمام، وسررت به سرورا بالغا. أحيانا ما كنت أشعر بشيء من الإحباط؛ إذ يبدو أن جهد سنوات عديدة قد ضاع سدى تقريبا؛ ذلك أنك أول رجل قادر على تكوين حكم (باستثناء كاتريفاج إلى حد ما)، يبدو أنه يرى قيمة من أي نوع لهذا الجزء من عملي. ما تكبدته من جهد مضن ومراسلات وعناية بالغة في سبيل هذا الموضوع أكثر بكثير مما يمكن أن تتصور. لقد ارتأيت أن المقال الوارد في دورية «ذا أثنيام» كان جائرا جدا، لكني الآن أشعر بأنني نلت تعويضا كافيا وزيادة، وأشكرك من صميم قلبي على تعاطفك وثنائك الودود بدرجة تفوق ما أستحقه. يا لهذا الجهد المضني الذي بذلته بنفسك في كتاب «سجل علم الحيوان»! يجب أن أخجل من الحديث عن مقدار جهدي. لقد استمتعت للغاية بيوم الأحد، الذي قضيته أنت وبعض الآخرين هنا.
وسأظل يا عزيزي نيوتن المخلص لك دائما
سي داروين
من تشارلز داروين إلى إيه آر والاس
داون، 27 فبراير [1868]
عزيزي والاس
لا يمكنك أن تتخيل مدى سعادتي بما تقوله عن فرضية «شمولية التكوين». لن يصرح أي من أصدقائي برأيه علانية ... يبدو أن هوكر، على حد ما أفهمه، وإن كنت لا أفهمه الآن إلا قليلا، يظن أن الفرضية ليست أكثر من القول بأن الكائنات الحية لديها كذا وكذا من الإمكانيات. ما تقوله يعبر حرفيا وتماما عن شعوري؛ ألا وهو أنه من المريح للمرء أن يحصل على تفسير ما معقول للحقائق المتنوعة، مع إمكانية التخلي عن ذاك التفسير فور العثور على أي فرضية أفضل. وقد أراح هذا التفسير عقلي للغاية بالتأكيد؛ لأنني ظللت أتخبط طوال سنوات من الحيرة بشأن هذا الموضوع وأنا أرى طيفا خافتا لعلاقة ما بين المجموعات المتنوعة من الحقائق. سمعت الآن من إتش سبنسر أن آراءه التي اقتبستها في حاشيتي السفلية تشير إلى شيء مختلف تماما، مثلما أدركت على ما يبدو.
سأسعد جدا بسماع انتقاداتك بشأن «أسباب القابلية للتباين» يوما ما. أنا متيقن بالطبع من أنني محق فيما يتعلق بالعقم والانتقاء الطبيعي ... لا أفهم الحالة التي ذكرتها تماما، ونظن أن ثمة كلمة أو اثنتين في غير موضعهما. أرجو أن تفكر، وقتما يتسنى لك هذا، في هذه الحالة من وجهة النظر التالية؛ لو أن العقم ناتج عن الانتقاء الطبيعي أو متراكم بواسطته، فنظرا إلى وجود كل درجة وصولا إلى العقم التام، لا بد أن يكون الانتقاء الطبيعي قادرا على زيادة درجة العقم. لنفترض الآن مثلا أن لدينا نوعين هما «أ» و«ب»، ولتفترض أنهما (بطريقة ما) نصف عقيمين؛ أي ينتجان نصف عدد الذرية الكامل. الآن حاول أن تجعل «أ» و«ب» عقيمين تماما (بالانتقاء الطبيعي) عند التهجين بينهما بالتلقيح المتبادل، وستكتشف مدى صعوبة ذلك. صحيح أنني أعترف بأن درجة عقم أفراد النوعين «أ» و«ب» ستتباين بالتأكيد، لكن الأفراد الأشد عقما من بين أفراد النوع «أ» مثلا، إذا تزاوجوا لاحقا مع أفراد آخرين من النوع «أ»، فلن يورثوا لذريتهم أي أفضلية ترجح أن تزداد هذه العائلات بأعداد أكبر من أعداد عائلات النوع «أ» الأخرى، التي لا تكون أشد عقما عند تهجينها مع النوع «ب». لكني لست متيقنا من أنني جعلت هذه النقطة أوضح بأي قدر مما ورد في الفصل الموجود في كتابي. إنها جزء صعب للغاية من الاستدلال المنطقي، وقد راجعتها مرارا وتكرارا على الورق باستخدام المخططات. ... أشكرك من أعماق قلبي على خطابك. لقد أسعدتني حقا؛ لأنني كنت قد تخليت عن الإله العظيم «شمولية التكوين» معتبرا إياه إلها ولد ميتا. أتمنى أن تتشجع لتوضيح المسألة، باستخدام قدراتك الباهرة على الشرح، في إحدى المجلات العلمية ...
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 28 فبراير [1868]
عزيزي هوكر
لقد أثار خطابك بالغ اهتمامي، ووجدنا تسلية كبيرة في تعليق هكسلي، الذي كان حاذقا جدا إلى حد أنك لم تستطع تذكره. لا أستطيع أن أفهم تسلسل أفكارك تماما؛ لأنك في الصفحة الأخيرة تقر بصحة كل ما أريده، بعدما بدا أنك أنكرته كله في الصفحات السابقة من رسالتك، أو ارتأيته كله محض كلمات، لكن ربما يكون هذا خطئي بسبب تشوشي. أرى بوضوح أن أي اقتناع قد تحدثه فرضية «شمولية التكوين» يعتمد على تركيبة عقل كل رجل. إذا كنت قد توصلت سلفا إلى أي استنتاج مماثل، فالمسألة كلها ستبدو لك قديمة بالطبع. تلقيت خطابا يوم أمس من والاس، الذي يقول (معذرة على الخيلاء الفظيع): «لا أستطيع إطلاقا أن أصف لك مدى إعجابي الشديد بالفصل المتعلق بفرضية «شمولية التكوين». يا لها من «راحة تامة» لي أن يصبح لدي أي تفسير وجيه للصعوبة التي دائما ما كانت تستحوذ على تفكيري، ولن أستطيع التخلي عن هذا التفسير أبدا إلى أن يحل محله تفسير أفضل، وأظن هذا شبه مستحيل، إلى آخره!» تعبر كلمتاه السابقتان [المذكورتان بين علامتي تنصيص] عن مشاعري بدقة بالغة، وإن كان من المحتمل أيضا أنني أشعر بالراحة بدرجة أكبر لأنني ظللت طوال سنوات عديدة أحاول تشكيل فرضية ما دون جدوى. عندما تقول أنت أو هكسلي إن خلية نباتية مفردة، أو جدعة طرف مبتور، لديها «إمكانية» إعادة إنتاج النبتة كلها أو الطرف كله، أو «نشر تأثير ما»؛ فهذه الكلمات لا تعطيني أي فكرة واضحة، لكن عندما يقال إن خلايا أحد النباتات، أو جدعة ما، تحوي ذرات مستمدة من كل خلية أخرى من هذا الكائن الحي كله وقادرة على التطور، تصبح لدي فكرة جلية. بالرغم من ذلك، فلن يكون لهذه الفكرة أي قيمة إذا كانت تنطبق على حالة واحدة فقط، ولكن يبدو لي أنها تنطبق على كل أشكال التوالد، والوراثة، والتحول، وعلى الاستبدال الشاذ للأعضاء، وعلى التأثير المباشر الذي يحدثه العنصر الذكري في النبات الأم، وما إلى ذلك؛ لذا أومن تماما بأن كل خلية تنتج «بالفعل» بذرة أو بريعما من محتوياتها، لكن بخصوص ما إذا كانت هذه الفرضية تعد بمثابة حلقة وصل مفيدة بين عدة مجموعات كبيرة من الحقائق الفسيولوجية، فتلك مسألة منفصلة تماما في الوقت الحالي.
لقد تطرقت إلى النقطة المشكوك فيها (التي أشار إليها هكسلي) المتعلقة بالمدى الذي يمكن أن تبلغه الذرات المشتقة من الخلية نفسها في تطورها إلى بنية مختلفة وفقا لذلك؛ لأنها تتغذى تغذية مختلفة؛ إذ عرضت حويصلات مرارية وزوائد سليلية في شكل رسومات توضيحية. ...
إنه لمن دواعي سروري حقا أن أرسل إليك خطابا بخصوص هذا الموضوع، وسأسعد إذا استطاع كلانا أن يفهم الآخر، ولكن عليك ألا تدع طبيعتك الطيبة هي التي ترشدك. فلتتذكر أننا دائما ما نقاتل باستماتة ونبذل كل ما بوسعنا لننال مبتغانا. سنذهب يوم الثلاثاء إلى لندن، حيث سنمكث أسبوعا في شارع كوين آن أولا، ثم سنذهب إلى بيت الآنسة ويدجوود، في ريجنتس بارك، ونمكث هناك طوال الشهر، وسيكون لهذا «عظيم الأثر» على تجاربي، كما يقول البستاني الذي يعمل لدي، وهو محق في ذلك.
من تشارلز داروين إلى دبليو أوجل
16
داون، 6 مارس [1868]
سيدي العزيز
أشكرك بكل صدق على خطابك الذي أثار بالغ اهتمامي. ليتني علمت بآراء أبقراط هذه قبل أن أنشر كتابي؛ لأنها تبدو شبه متطابقة مع آرائي؛ فهي لا تختلف إلا في المصطلحات وفي تطبيقها على مجموعات من الحقائق كان الفيلسوف القديم يجهلها بالطبع. الحالة كلها مثال ممتاز على مدى ندرة وجود أي شيء جديد.
لقد زعزع أبقراط ثقتي بنفسي وثبط حماستي، لكني لا أهتم كثيرا بأن أحدا آخر قد سبقني. فأنا أطرح الآراء على أنها محض فرضية مؤقتة، غير أنني أتوقع في قرارة نفسي أن الناس سيسلمون بصحة مثل هذا الرأي عاجلا أم آجلا. ... أتوقع أن النقاد لن يكونوا على قدر كبير من المعرفة والاطلاع مثلك، وإلا فمن المؤكد أنني سأتهم بالسرقة العمد لفرضية «شمولية التكوين» من أبقراط؛ لأن هذه هي العقلية التي يسعد بعض النقاد بإظهارها.
من تشارلز داروين إلى فيكتور كاروس
داون، 21 مارس [1868] ... إنني في غاية الامتنان لك على أنك أرسلت إلي رأيك بشأن فرضية «شمولية التكوين» بكل صراحة، وأشعر بالحزن على أنه معارض، لكني لا أستطيع أن أفهم تماما تعليقك على أن فرضية «شمولية التكوين»، ومسألة الانتقاء ومسألة الصراع من أجل البقاء، يجب أن تكون أكثر منهجية. لست متفاجئا على الإطلاق من رأيك المعارض؛ فأنا أعلم أن الكثيرين، بل معظم الأشخاص على الأرجح، سيصلون إلى النتيجة نفسها. إذ يقول أحد المقالات النقدية الإنجليزية إنها معقدة للغاية ... بعض أصدقائي متحمسون لهذه الفرضية ... فالسير سي لايل يقول للجميع: «ربما تكونون غير مؤمنين بفرضية «شمولية التكوين»، لكنكم لن تتوقفوا عن التفكير فيها أبدا حالما تفهمونها.» وأنا قانع تماما بهذا النقد. لقد صارت كل حالات الوراثة والارتداد والتطور تظهر لي الآن تحت ضوء جديد ... [ربما يمكن أن أعرض هنا جزءا مقتطفا من خطاب إلى فريتز مولر، وإن كان بتاريخ لاحق (يونيو): «لقد أثار خطابك المؤرخ بتاريخ 22 أبريل بالغ اهتمامي. يسعدني أنك تستحسن كتابي؛ لأنني أعتبر رأيك أقيم من رأي أي شخص آخر تقريبا. لم أزل آمل أنك سوف تستحسن فرضية «شمولية التكوين». فأنا متيقن من أن عقلينا متشابهان بعض التشابه، وأجد راحة كبيرة في أن يكون لدي وجهة نظر محددة، وإن كانت افتراضية، عندما أفكر في التحولات العجيبة التي تحدث للحيوانات، ونمو بعض الأجزاء من جديد، ولا سيما التأثير المباشر الذي تحدثه حبوب اللقاح في الشكل الأم، إلخ. كثيرا ما يبدو لي من شبه المؤكد أن طباع الوالدين «تنسخ نسخة طبق الأصل» عند الطفل، من خلال اشتقاق ذرات مادية من كل خلية في كلا الوالدين، ثم نموها في جسد الطفل.»]
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، 8 مايو [1868]
عزيزي جراي
كنت في غاية الجحود والفظاظة لأنني لم أرسل إليك خطابا قبل الآن بزمن طويل لأشكرك من صميم قلبي على صحيفة «ذا نيشن»، وعلى كل مساعدتك الكريمة للغاية بخصوص الطبعة الأمريكية [من كتاب «تباين الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين»]. لكني كنت مشغولا في الآونة الأخيرة بأكوام من الخطابات، التي كنت مضطرا إلى الرد عليها؛ ولذا أجلت إرسال خطاب إليك. تلقيت صباح اليوم الطبعة الأمريكية (التي تبدو ممتازة)، مع مقدمتك اللطيفة، التي أشكرك عليها من أعماق قلبي. أتمنى أن يحقق الكتاب نجاحا كافيا لئلا تندم على مساعدتك. إن وصول هذه الطبعة قد وجه الضربة القاضية إلى ضميري، الذي لن يتحمل أخطاءه بعد الآن. ... أرى أن مقالك في صحيفة «ذا نيشن» [19 مارس] جيد جدا، وأنت تطرح فكرة ممتازة عن فرضية «شمولية التكوين» التي تعد بمثابة طفل لا يلقى رعاية ودودة حتى الآن إلا من رجال قليلين، باستثناء والده الحنون، لكن هذا الطفل سيعيش حياة طويلة. ومن المفترض أنك ستكون الأب الأجدر بحضانته! لقد وجهت صفعة قوية إلى استعارتي الختامية؛ كان ينبغي بالطبع أن أدرج الانتقاء الطبيعي والانتقاء الاصطناعي وأقارن بينهما، لكن بدا جليا لي أن الانتقاء الطبيعي اعتمد على احتمالات أشد تعقيدا بكثير من تلك التي لا بد أنها حددت شكل كل كسرة من الصخور عند سفح الجرف الذي ذكرته في استعارتي. ما أردت إظهاره هو أنه، بالاستناد إلى فكرة القدر المسبق، فكل ما ينطبق في تكون الحمام النفاخ ينطبق في تكون نوع طبيعي من الحمام. لا أستطيع أن أرى هذا خاطئا. إذا حدثت التباينات الصحيحة، ولم تحدث أي تباينات أخرى، فسيكون الانتقاء الطبيعي غير ضروري. ثمة ناقد يكتب في إحدى صحف إدنبرة، ويعاملني بازدراء عميق، يقول عن هذا الموضوع إن البروفيسور آسا جراي بإمكانه أن يحطمني إلى فتات صغير بسهولة بالغة.
17
تقبل أصدق التحيات يا عزيزي جراي
صديقك الجاحد لكن المخلص
تشارلز داروين
من تشارلز داروين إلى جي بينثام
داون، 23 يونيو 1868
عزيزي السيد بينثام
نظرا إلى أن خطابك
18
يكتسي بعض الشيء بطابع حكم صادر عن قاض، فلا أعرف ما إذا كان من الصواب أن أفعل ذلك، لكن لا بد لي أن أشكرك على السرور الذي منحتني إياه، وهذا ما سأفعله. إن ما تقوله عن كتابي يسعدني. ذلك أنني كنت قد سئمته جدا، إلى حد أنني ظللت شهورا أرى نفسي أحمق للغاية لأنني كرست وقتا طويلا جدا لجمع حقائق صغيرة وملاحظتها، لكني الآن لا أكترث إذا تحدث عشرات النقاد العاديين عن الكتاب بازدراء كما فعلت دورية «ذا أثنيام». وأشعر بأن تصرفي هذا مبرر؛ لأنني أثق في حكمك ثقة مطلقة إلى حد يجعلني متيقنا من أنني كنت سأذعن لحكمك لو كان معارضا كما هو عكس ذلك الآن. ما تقوله عن فرضية «شمولية التكوين» يغمرني برضا تام، وربما يستوفي كل ما يجوز لأي أحد أن يقوله عن الموضوع. لقد قرأت خطابك كله بأشد قدر من الاهتمام. لا بد أنه كبدك عناء هائلا. مع خالص شكري وأصدق تحياتي.
لك بالغ إخلاصي
سي داروين
ملحوظة:
أخشى أن يكون من المستبعد وجود نسخة فائضة لديك من خطابك؛ إذا كان لديك منها، فأنا أود إرسال نسخة إلى فريتز مولر في قلب البرازيل. بالمناسبة، اسمح لي بأن أضيف أن السبب الرئيسي الذي جعلني أناقش مسألة تباين البراعم هو اعتقاد شائع لدى الكثيرين، مفاده أن قابلية التباين بالكامل مرتبطة بالتوالد الجنسي؛ وكنت أريد توضيح الخطأ في هذا. [ربما قد تفيد سلسلة الخطابات الواردة أعلاه في إظهار الاستقبال الذي لاقاه الكتاب الجديد، إلى حد ما. قبل الانتقال (في الفصل التالي) إلى كتاب «نشأة الإنسان»، أعرض خطابا يشير إلى ترجمة كتاب فريتز مولر، «من أجل داروين». لقد نشر هذا الكتاب في عام 1864، لكن الترجمة الإنجليزية، التي ترجمها السيد دالاس، والتي حملت عنوان «حقائق وحجج مؤيدة لداروين»، الذي اقترحه السير سي لايل، لم تظهر قبل عام 1869:]
من تشارلز داروين إلى إف مولر
داون، 16 مارس [1868]
سيدي العزيز
إن أخاك، كما ستكون قد سمعت منه، مقتنع تماما بأنك لن تعترض على ترجمة كتاب «من أجل داروين»،
19
إلى حد أنني تجرأت على اتخاذ الترتيبات اللازمة لإصدار نسخة مترجمة. لقد عرض علي إنجلمان، بكرم شديد منه، الرواسم المستخدمة في طباعة الصور التوضيحية من القوالب الخشبية مقابل 22 تالرا؛ فيما وافق السيد موراي على إصدار نسخة مترجمة (وهو أفضل ناشر لدينا) مقابل عمولة؛ لأنه لن يجازف بتعريض نفسه لأي مخاطر من تولي هذه المهمة، وقد اتفقت مع السيد دبليو إس دالاس (الذي ترجم كتاب فون سيبولد عن التوالد العذري، والعديد من الأعمال الألمانية، والذي يجيد الكتابة باللغة الإنجليزية إجادة كبيرة) على أن يترجم الكتاب. إنه يرى (وهو حكم بارع) أنه من المهم إجراء بضعة تصحيحات أو إضافات، من أجل تفسير الترجمة؛ لأنها ستكون قد صدرت بعد فترة طويلة جدا من الكتاب الأصلي؛ لذا آمل أن تستطيع إرسال بعض التصحيحات أو الإضافات الممكنة ... [ربما يمكن أن أعرض هنا خطابين متعلقين بانتشار الأفكار المؤيدة للتطور في فرنسا وألمانيا:]
من تشارلز داروين إلى إيه جودري
داون، 21 يناير [1868]
سيدي العزيز
أشكرك على مقالتك المثيرة للاهتمام عن تأثير السمات الجيولوجية لبلد الأثينيين القدماء في عقولهم وعاداتهم،
20
وعلى خطابك اللطيف للغاية. سررت بسماع أنك تعتزم دراسة العلاقات بين الحيوانات المتحفرة فيما يخص نسبها؛ فهذا سيتيح لك مجالا ممتازا لاستخدام معرفتك الواسعة وقدراتك الكبيرة على الاستدلال المنطقي. أظن أن إيمانك [بفكرة التطور] سيحط من احترام أهل بلدك لك حاليا، ولكن بالنظر إلى أن الاعتقاد بوجود أصل مشترك للأنواع القريبة الصلة بعضها من بعض ينتشر بسرعة في أنحاء أوروبا كلها، باستثناء فرنسا، فأعتقد أن هذا الاعتقاد سينتشر في العالم كله عما قريب. ما أغرب أن البلد الذي أنجب بوفون، وجيوفروي الأكبر، ولامارك بالأخص، يتشبث تشبثا عنيدا جدا بإيمانه بأن الأنواع مخلوقات غير قابلة للتغير.
سينشر كتابي «تباين الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين» مترجما بالفرنسية في غضون بضعة أشهر، وسوف أسعد وأتشرف بأن أطلب من الناشر إرسال نسخة إليك على نفس عنوان هذا الخطاب.
مع خالص احترامي، وسأظل، يا سيدي العزيز
المخلص لك دائما
تشارلز داروين [يحمل الخطاب التالي أهمية خاصة؛ لأنه يوضح ما كان يوليه والدي من قيمة كبيرة لدعم علماء التاريخ الطبيعي الألمان الأصغر سنا:]
من تشارلز داروين إلى دبليو براير
21
31 مارس 1868 ... سررت بسماع أنك تؤيد نظرية «تعديل الأنواع» وتدافع عن آرائي. فالدعم الذي أناله من ألمانيا هو السبب الرئيسي الذي يعطيني أملا في أن آراءنا ستسود في نهاية المطاف. صحيح أنني حتى يومنا هذا أتعرض باستمرار لإساءات وازدراء من كتاب من أبناء وطني، لكن علماء التاريخ الطبيعي الأصغر سنا كلهم تقريبا يقفون في صفي، وعاجلا أم آجلا، لا بد أن عموم الناس سيتبعون أولئك الأشخاص الذين يخصون هذا الموضوع بالدراسة. ما أتعرض له من إساءة واحتقار من الكتاب الجهلة لا يكاد يؤلمني إطلاقا ...
هوامش
الفصل السادس
العمل على كتاب «نشأة الإنسان»
1864-1870 [في فصل السيرة الذاتية في الجزء الأول، يعرض والدي الظروف التي دفعته إلى تأليف كتاب «نشأة الإنسان». وهو يذكر أن عمله على تجميع الحقائق، الذي بدأ في عام 1837 أو 1838، استمر سنوات عديدة دون أن تكون لديه أي نية واضحة لنشر كتاب عن هذا الموضوع. يوضح الخطاب التالي المرسل إلى السيد والاس أنه، إبان فترة مرضه واكتئابه في عام 1864 تقريبا، كان يائسا من أنه قد يتمكن على الإطلاق من فعل ذلك:]
من تشارلز داروين إلى إيه آر والاس
داون، 28 [مايو؟] [1864]
عزيزي والاس
تحسنت صحتي كثيرا إلى حد أنني انتهيت من كتابة ورقة بحثية للجمعية اللينية،
1
لكني لم أسترد عافيتي ونشاطي بعد، كنت أشعر بنفور شديد من الكتابة؛ ولذا يجب أن تسامحني على أنني لم أرسل إليك خطابا في وقت أبكر من هذا لأشكرك على ورقتك البحثية عن «نشأة الإنسان»،
2
التي تلقيتها يوم الحادي عشر من الشهر. لكن أولا دعني أقل إنني، طوال حياتي كلها، نادرا ما بهرت بأي ورقة بحثية أكثر مما بهرت بتلك الورقة المتعلقة بموضوع «تباين الحيوانات والنباتات»، وما إلى ذلك، المنشورة في دورية «ذا ريدر».
3
أنا متيقن من أن مثل هذه الأوراق البحثية ستسهم في نشر آرائنا عن تعديل الأنواع أكثر مما ستسهم أي أطروحات منفصلة عن الموضوع البسيط نفسه. الورقة البحثية المتعلقة بموضوع تطور الإنسان باهرة حقا، ولكن يجب ألا تتحدث فيها عن النظرية على أنها نظريتي؛ فهي نظريتك بقدر ما هي نظريتي . فأحد من أتراسل معهم قد ذكر لي بالفعل سلوكك «النبيل» بخصوص هذه النقطة. ولكن لننتقل الآن إلى الحديث عن ورقتك البحثية عن موضوع الإنسان، التي أود أن أكتب عنها أكثر مما أستطيع. أرى أن الفكرة الرئيسية العظيمة الواردة فيها جديدة تماما علي؛ أعني تلك القائلة بأن العقل، إبان العصور المتأخرة، سيكون قد تعرض لتعديل أكبر من تعديل الجسد، لكني مع ذلك كنت قد وصلت إلى حد الاتفاق معك في رؤية أن الصراع بين أعراق الإنسان يعتمد كليا على الصفات الفكرية و«الأخلاقية». لا أستطيع وصف الجزء الأخير من الورقة البحثية إلا بأنه عظيم ومكتوب بفصاحة بالغة. لقد عرضت ورقتك على شخصين أو ثلاثة أشخاص كانوا هنا، وكلهم بهروا بها بالقدر نفسه. لست متيقنا من أنني أتفق معك في كل النقاط الثانوية؛ فأنا أتذكر أنني، عندما كنت أقرأ سرد السير جي جراي لمعارك الهمج الأستراليين المتواصلة، ارتأيت أن دور الانتقاء الطبيعي سيظهر، وكذلك الأمر لدى شعب الإسكيمو، الذين يقال إن فن صيد الأسماك واستخدام الزوارق لديهم وراثي. أختلف بعض الاختلاف بشأن المرتبة التي تحددها للإنسان، من وجهة نظر تصنيفية؛ فأنا أرى أن أي سمة زائدة تماما عن الحاجة ينبغي ألا تستخدم أبدا للتقسيمات الأعلى. فالنمل لن يفصل عن الحشرات الأخرى الغشائية الأجنحة، مهما كانت غريزة النمل عالية المرتبة، ومهما كانت غرائز تلك الحشرات الأخرى دنيا. أما بخصوص الاختلافات العرقية، فقد خطرت ببالي حدسية مفادها أن جزءا كبيرا من هذه الاختلافات ربما يعود إلى ارتباط لون البشرة (وبالتبعية الشعر) بالتكوين. فلتفترض أن فردا داكن البشرة قد نجا من ظاهرة الجو الموبوء الخانق، وعندئذ ستفهم قصدي فورا بسهولة. أقنعت المدير العام لإدارة الجيش الطبية بإرسال استمارات مطبوعة إلى جراحي كل الأفواج في بلدان استوائية للتيقن من صحة هذه النقطة، لكني أظن أنني لن أتلقى أي ردود أبدا. ثانيا، أظن أن نوعا ما من الانتقاء الجنسي كان هو الوسيلة الأقوى من بين وسائل تغيير أعراق الإنسان. ذلك أنني أستطيع توضيح أن الأعراق المختلفة لها مقاييس جمال مختلفة تماما. فبين الهمج، سيحظى أقوى الرجال بأجمل النساء، وسيخلفون العدد الأكبر من الأحفاد عموما. جمعت بضع ملاحظات عن الإنسان، لكني أظن أنني لن أستخدمها أبدا. هل تعتزم مواصلة العمل على آرائك حتى النهاية، وإذا كنت ستفعل ذلك، فهل تريد أن تحصل على مراجعي وملاحظاتي القليلة في وقت ما مستقبلا؟ أنا متيقن من أنني لا أعرف إطلاقا ما إذا كانت تحمل أي قيمة أم لا، فضلا عن أنها في حالة من الفوضى الآن.
أود أن أكتب أكثر من ذلك بكثير، لكني لا أتمتع بالقوة التي تمكنني من ذلك.
مع أصدق تحياتي وبالغ إخلاصي يا عزيزي والاس
سي داروين
ملحوظة:
طبقتنا الأرستقراطية أجمل - لكنها أقبح من وجهة نظر الصينيين أو الزنوج - إذا ما قورنت بالطبقات المتوسطة؛ وذلك لأنها (تحظى) بأجمل النساء، لكن آه، يا لها من مكيدة، تلك المتمثلة في حق البكورة، لتدمير الانتقاء الطبيعي! أخشى أن يكون هذا الخطاب غير مفهوم لك بدرجة كبيرة. [في فبراير 1867، عندما أرسلت مخطوطة «تباين الحيوانات والنباتات» إلى دار نشر «ميسرز كلوز» لطباعتها، وقبل أن يبدأ في تلقي بروفات الطباعة، كان لديه فترة من الفراغ، وبدأ كتابة «فصل عن الإنسان»، لكنه سرعان ما وجده يكبر تحت يديه، وقرر أن ينشره على حدة في شكل «مجلد صغير جدا».
قوطع هذا العمل بسبب الحاجة الملحة إلى تصحيح بروفات طباعة كتاب «تباين الحيوانات والنباتات»، وبعض الأعمال المتعلقة بعلم النبات، لكنه استؤنف في العام التالي، 1868، حالما استطاع أن يكرس نفسه له.
أدرك والدي، وهو مفعم بالأسف، ما طرأ على عقله من التغيير التدريجي الذي جعل العمل المتواصل أشد ضرورة له شيئا فشيئا مع تقدمه في السن. وقد عبر عن هذا في خطاب إلى السير جيه دي هوكر بتاريخ 17 يونيو 1868، مكررا فيه بعضا مما عبر عنه في فصل السيرة الذاتية: «سررت بأنك حضرت عرض «المسيح»، هذا العرض هو الشيء الوحيد الذي أود سماعه مجددا، لكني أظن أنني سأجد روحي شديدة الجفاف إلى حد سيعجزني عن الإعجاب به كما كنت أعجب به في الأيام الخوالي؛ وعندئذ سأشعر بأنني فاتر جدا؛ لأنني أشعر على الدوام بملل بشع إلى حد يجعلني فاقد الاهتمام والشغف، كورقة ذابلة فقدت نضارتها، تجاه كل الموضوعات باستثناء العلم. وهذا أحيانا ما يجعلني أكره العلم، مع أن الرب يعلم أنني يجب أن أكون شاكرا لوجود مثل هذا الاهتمام الدائم، الذي يجعلني أنسى معدتي اللعينة بضع ساعات كل يوم.»
توقف العمل على كتاب «نشأة الإنسان» بسبب المرض في أوائل صيف عام 1868، وغادر المنزل في 16 يوليو متجها إلى قرية فريشووتر، في جزيرة وايت، حيث مكث مع أسرته حتى 21 أغسطس. وهناك تعرف على السيدة كاميرون. وقد استقبلت أفراد الأسرة كلهم بلطف ودود وحسن ضيافة صادق، ودائما ما كان والدي يكن لها شعورا حارا بالصداقة. وقد التقطت له صورة فوتوغرافية ممتازة نشرت مكتوبا عليها: «هذه الصورة أحب إلي بكثير من أي صورة أخرى التقطت لي.» شهد الخريف توقفا آخر؛ وبذلك لم يبدأ العمل المتواصل على كتاب «نشأة الإنسان» إلا في عام 1869. تقدم الخطابات التالية فكرة عن العمل الذي سبق ذلك في عام 1867:]
من تشارلز داروين إلى إيه آر والاس
داون، 22 فبراير [1867؟]
عزيزي والاس
أعمل بجد على مسألة الانتقاء الجنسي، وأكاد أجن من عدد النقاط الجانبية التي تحتاج إلى بحث، مثل العدد النسبي لكلا الجنسين، لا سيما النقاط المتعلقة بتعدد الزيجات. هل تستطيع مساعدتي فيما يتعلق بالطيور التي تتسم بسمات جنسية ثانوية بارزة، مثل طيور الجنة، أو الطيور الطنانة، أو طيور الروبيكولا، أو أي حالات أخرى كهذه؟ من المؤكد أن العديد من الطيور الدجاجية متعددة الزوجات. أظن أن الطيور قد تعرف بأنها ليست متعددة الزوجات إذا شوهدت طوال موسم التكاثر متصاحبة في أزواج، أو إذا كان الذكر يحتضن البيض ليفقس أو يساعد في إطعام الصغار. فهلا تتكرم ببحث هذه المسألة؟ لكنه عار علي أن أزعجك الآن وأنت، حسبما سمعت وسررت «من أعماق قلبي» بذلك، منهمك في العمل على كتابك المتعلق برحلاتك إلى أرخبيل الملايو. إنني متحير للغاية ولا أعرف إلى أي مدى يمكن توسيع النطاق الذي يمكن أن تشمله آراؤك الوقائية بخصوص الإناث في مختلف الطوائف. فكلما عملت، يبدو جليا أن الانتقاء الجنسي يحمل أهمية أكبر.
هل يمكن للفراشات أن تكون متعددة الزوجات! أي هل يمكن لذكر واحد أن يخصب أكثر من أنثى؟ سامحني على إزعاجك، وأظن أنني سأضطر إلى طلب السماح مجددا ...
من تشارلز داروين إلى إيه آر والاس
داون، 23 فبراير [1867]
عزيزي والاس
انتابني أسف شديد على أنني لم أستطع زيارتك، لكني من بعد يوم الإثنين لم أستطع حتى مغادرة المنزل. زرت بيتس مساء الإثنين، وطرحت عليه مشكلة ما، لكنه لم يستطع حلها، وكان أول شيء اقترحه علي، كما حدث في مناسبة شبيهة سابقة، قوله «من الأفضل أن تسأل والاس.» المشكلة التي أواجهها هي: لماذا تكتسي اليساريع أحيانا بألوان جميلة جدا وإبداعية؟ فنظرا إلى أن العديد منها ملون من أجل الهروب من الخطر، لا أستطيع إطلاقا أن أعزو لونها الزاهي في حالات أخرى إلى ظروف طبيعية فقط. يقول بيتس إن اليسروع الأشد بهرجة بين كل اليساريع التي رآها على الإطلاق في منطقة الأمازون (وكان من يساريع عثة أبي الهول) كان بارزا بوضوح من مسافة ياردات، بسبب ألوانه السوداء والحمراء، بينما كان يتغذى على أوراق نباتية خضراء كبيرة. إذا اعترض أي أحد على أن السبب في جمال ذكور الفراشات يعود إلى الانتقاء الجنسي، وسأل قائلا لماذا إذن لا يحدث الأمر نفسه مع يساريعها، فبم ستجيب؟ لم أستطع الإجابة، لكني يجب أن أتمسك بموقفي. فهلا تفكر مليا في هذا، وتخبرني برأيك لاحقا في أي وقت، سواء بخطاب أو عندما نلتقي؟ أريد أيضا أن أعرف ما إذا كانت فراشتك المحاكية «الأنثى» أجمل من الذكر وأزهى ألوانا منه. في المرة القادمة التي سآتي فيها إلى لندن، لا بد أن أجعلك تريني رفرافياتك. حالتي الصحية مصيبة بغيضة على رأسي؛ إذ لم أستطع الوفاء بنصف التزاماتي في أثناء هذه الزيارة الأخيرة إلى لندن.
مع أصدق تحياتي وبالغ إخلاصي
سي داروين
من تشارلز داروين إلى إيه آر والاس
داون، 26 فبراير [1867]
عزيزي والاس
كان بيتس محقا تماما. أنت أنسب رجل يمكن اللجوء إليه وقت الشدائد. فأنا لم أسمع طوال حياتي أي شيء أنبغ من اقتراحك،
4
وآمل أن تستطيع إثبات صحته. تلك حقيقة رائعة عن حشرات العث البيضاء؛ فكم يمتلئ المرء بالحماسة عندما يرى نظرية على وشك أن تثبت صحتها.
5
بخصوص جمال ذكور الفراشات، ما زلت أعتقد أنه بسبب الانتقاء الجنسي. توجد بعض الأدلة على أن اليعاسيب تنجذب إلى الألوان الزاهية، لكن ما يدفعني إلى الاعتقاد المذكور أعلاه هو أن العديد من ذكور حشرات مستقيمات الأجنحة والزيزيات تتمتع بمهارات موسيقية. ولما كان الأمر كذلك، يدفعني التشابه بين الطيور والحشرات إلى أن أومن بالانتقاء الطبيعي فيما يتعلق باللون الموجود في الحشرات. ليتني كنت أحظى بما يكفي من العافية والوقت لإجراء التجارب التي اقترحتها علي، لكني كنت أظن أن الفراشات لن تتزاوج وهي حبيسة. أنا متيقن من أنني سمعت بمشكلة ما كهذه. كان لدي منذ سنوات عديدة يعسوب مكتس بألوان شديدة الجمال، ولكن لم تسنح لي الفرصة باختبار الأمر عليه بالفعل.
السبب الذي يجعلني مهتما جدا بالانتقاء الطبيعي الآن بالذات هو أنني عقدت العزم تقريبا على نشر مقالة صغيرة عن أصل الجنس البشري، وما زلت أعتقد بشدة (مع أنني فشلت في إقناعك، وتلك في رأيي، أشد صدمة محبطة ممكنة) أن الانتقاء الجنسي كان العامل الرئيسي في تكوين أعراق الإنسان.
بالمناسبة، سأقدم في مقالتي موضوعا آخر، ألا وهو التعبيرات عن العواطف. والآن، هل منحتك الصدفة بأي حال من الأحوال فرصة التعرف على ملاحظ يتمتع بقدر كبير من حسن الخلق وحدة الملاحظة في أرخبيل الملايو، وتعتقد أنه يستطيع أن يجري لي بضع ملاحظات سهلة عن تعبيرات وجوه شعب الملايو عندما يتأثرون بانفعالات مختلفة؟ لأنني، في هذه الحالة، سأرسل إلى هذا الشخص قائمة من الاستفسارات. أشكرك على خطابك الشائق جدا، وسأظل المخلص لك دائما.
سي داروين
من تشارلز داروين إلى إيه آر والاس
داون ، مارس [1867]
عزيزي والاس
شكرا جزيلا لك على رسالتيك. أرى أن حالة جوليا بسترانا
6
إضافة رائعة إلى حالاتي الأخرى التي يتضح فيها وجود ارتباط بين الأسنان والشعر، وسأضيفها في تصحيح مجلدي الحالي استعدادا لطباعته ونشره. أرجو أن تخبرني في أثناء الصيف إذا حصلت على أي دليل بخصوص اليساريع المبهرجة. فأنا أرغب بشدة في أن أعرض فكرتك هذه - أو أقتبسها في حالة النشر - إذا دعمت على النحو الذي اقترحته بأي طريقة. غير أن هذا سيستغرق وقتا طويلا من الآن؛ لأنني أرى أن الانتقاء الجنسي يكبر ويتحول إلى موضوع كبير جدا سوف أدرجه في مقالتي عن «نشأة الإنسان»، إذا نشرتها أصلا. كنت أنوي أن أطرح فصلا عن الإنسان، نظرا إلى أن الكثيرين يسمونه حيوانا داجنا جدا (وهذا ليس صحيحا «تماما»)، لكني وجدت الموضوع أكبر حجما من أن يحصر في فصل. وكذلك فلن أستطيع أن أتناول الموضوع جيدا، والسبب الوحيد الذي يجعلني أتناوله هو أنني مقتنع تماما بأن الانتقاء الجنسي أدى دورا مهما في تكوين الأعراق، ودائما ما كان هذا الموضوع يثير بالغ اهتمامي. سررت جدا بمعرفة انطباعك، الذي استدعيته من الذاكرة، عن تعبيرات وجوه شعب أرخبيل الملايو. أتفق معك تماما في أن الموضوع ليس مهما على الإطلاق؛ فهو «موضوع مفضل» لدي فحسب؛ فمنذ حوالي 27 عاما، و«بعدما» ارتأيت أن أكتب مقالة عن الإنسان، خطر ببالي أنني أستطيع إدراج «تعليقات مكملة عن تعبيرات الوجوه». فبعد العمل البشع الممل المضجر الذي أديته في إنجاز كتابي الحالي الضخم [«تباين الحيوانات والنباتات»]، الذي أخشى أن يكون غير قابل للقراءة، ارتأيت أن أسلي نفسي بموضوعي المفضل. أظن أن الموضوع أشد إثارة للفضول وأكثر قابلية للتناول العلمي مما يبدو أنك مستعد للاعتراف به. على أي حال، أريد أن أدحض رأي السير سي بيل، الذي طرحه في كتابه الشائق جدا، «تشريح التعبير عن العواطف»، الذي مفاده أن الإنسان منح عضلات معينة لا لشيء إلا أن يفصح للبشر الآخرين عن مشاعره. أريد أن أحاول توضيح كيفية نشأة التعبيرات. جيد ذاك الاقتراح بخصوص الصحف، لكن من واقع تجربتي، عادة ما تكون الطلبات الخاصة أنفع. رغم ذلك، سأرى ما إذا كان بإمكاني إدراج الاستفسارات في صحيفة ما هندية. فأنا لا أعرف أسماء أي صحف أخرى أو عناوينها. ... الناسختان اللتان أتعامل معهما مشغولتان مع بعض الأصدقاء، وأخشى أن تجد عناء كبيرا في قراءة هذا الخط الرديء. مع جزيل الشكر.
لك إخلاصي الشديد
سي داروين [ربما قد يكون الخطاب التالي جديرا بأن أعرضه، باعتباره مثالا لمصادر معلوماته، وماهية الأفكار التي كانت تشغله آنذاك:]
من تشارلز داروين إلى إف مولر
داون، 3 فبراير [1867] ... شكرا جزيلا على كل الحقائق الشائقة المتعلقة بعدد الجنسين غير المتكافئ في القشريات، لكني كلما أمعنت البحث في هذا الموضوع، غرقت في أعماق الشك والصعوبات المحيرة. وشكرا كذلك على تأكيد مسألة تنافس الزيزيات. كثيرا ما فكرت وأنا مفعم بالدهشة في تنوع وسائل إنتاج الموسيقى لدى الحشرات، وكانت دهشتي تزيد عند التفكير في تلك الوسائل لدى الطيور. يشير هذا إلى الأهمية الكبيرة التي يتخذها الغناء في مملكة الحيوانات. أرجو منك أن تخبرني بأي مكان أستطيع أن أجد فيه أي وصف للأعضاء السمعية لدى مستقيمات الأجنحة. الحقائق التي ذكرتها جديدة تماما علي. لقد وصف سكادر حشرة في طبقات العصر الديفوني لديها جهاز يحدث صريرا. أعتقد أنه محل ثقة، وإذا صح ذلك، فهذا الجهاز قديم إلى حد مذهل. بعدما قرأت ورقة لاندوا البحثية، عكفت على العمل على العضو الذي يحدث صريرا لدى خنافس الجعال، متوقعا أن أجده جنسيا، لكني حتى الآن لم أجده إلا في حالتين، وكان في الحالتين متطورا بالقدر نفسه لدى الجنسين. أتمنى أن تنظر إلى أي من خنافس الجعال الشائعة الموجودة لديك، وتمسك كلا من الذكور والإناث، وتلاحظ ما إذا كانا يصدران الصرير أو الضوضاء المزعجة بالقدر نفسه. إذا لم يكونا كذلك، فهلا ترسل إلي ذكرا وأنثى في صندوق صغير خفيف. ما أغرب أن يوجد عضو خاص من أجل هدف يبدو غير مهم كإصدار الصرير. ثمة نقطة أخرى أيضا، هل لديك أي من طيور الطوقان؟ إذا كان لديك، فاسأل أي صياد جدير بالثقة عما إذا كانت مناقير الذكور، أو كلا الجنسين، تكون زاهية الألوان في أثناء موسم التكاثر بدرجة أكبر مما تكون عليه في أوقات أخرى من العام ... الرب وحده يعلم ما إذا كنت سأعيش أصلا إلى اليوم الذي أستفيد فيه من نصف الحقائق القيمة التي أرسلتها إلي! لقد ظهرت ورقتك البحثية عن البرنقيل من نوع بالانوس آرماتوس، مترجمة بقلم السيد دالاس، للتو في مجلتنا «أنالز آند ماجازين أوف ناتشورال هيستوري»، وقرأتها بأشد اهتمام. لم يخطر ببالي قط أنني سأعيش إلى اليوم الذي أسمع فيه عن نوع هجين من البرنقيل! إنني سعيد جدا بأنك رأيت الأنابيب اللاصقة، أرى أنها غريبة للغاية، وعلى حد علمي، فأنت أول رجل يؤكد صحة ملاحظاتي بخصوص هذه النقطة.
أشكرك من صميم قلبي على كل لطفك يا سيدي العزيز.
مع بالغ إخلاصي
سي داروين
من تشارلز داروين إلى إيه دي كوندول
داون، 6 يوليو 1868
سيدي العزيز
أرسل إليك «أصدق» مشاعر الامتنان في ردي هذا على خطابك الطويل، الذي أعتبره إطراء كبيرا، وأراه ممتلئا عن آخره بحقائق وآراء شائقة للغاية. سوف تجدي مراجعك وتعليقاتك نفعا كبيرا لو طلبت طبعة جديدة من كتابي («تباين الحيوانات والنباتات»)، لكن ذلك غير مرجح إطلاقا؛ لأن الطبعة كلها بيعت في الأسبوع الأول، وأعيد على الفور إصدار طبعة أخرى مكونة من نسخ كثيرة جدا أظنها ستوفر الكمية المطلوب شراؤها إلى الأبد. تسألني متى سأنشر عن موضوع «تباين الأنواع في الطبيعة». لقد أعددت مخطوطة كتاب آخر على مر عدة أشهر وصارت شبه جاهزة، لكن كتابي الأخير أنهكني جدا إلى حد أنني قررت أن أسلي نفسي بنشر مقالة قصيرة عن «نشأة الإنسان». أحد الأسباب التي دفعتني إلى ذلك هو تعرضي للسخرية من أنني أخفيت آرائي، لكن السبب الرئيسي هو الاهتمام البالغ الذي أحمله تجاه هذا الموضوع منذ فترة طويلة. لقد تشعبت هذه المقالة الآن إلى بعض الموضوعات الجانبية، وأظن أن إكمالها سيستغرق مني أكثر من عام. سأبدأ بعدئذ في العمل على موضوع «الأنواع»، لكن حالتي الصحية تجعل وتيرة عملي بطيئة جدا . آمل أن تسامحني على هذه التفاصيل التي ذكرتها لأبين لك أنك ستحظى بمتسع كبير من الوقت لنشر آرائك أولا، وهذا سيفيدني كثيرا. من بين كل الحقائق الغريبة التي ذكرتها في خطابك، أعتقد أن حقيقة وجود نزعة قوية لتوارث عضلات فروة الرأس هي الأكثر إثارة لاهتمامي. أظن أنك لن تعترض على أن أطرح من جانبي هذه الحالة الغريبة جدا على عهدتك. ولأنني أعتقد أن علماء التشريح كلهم يعتبرون عضلات فروة الرأس جزءا متبقيا من السبلة الشحمية الشائعة لدى ذوات الأربع الأدنى رتبة، ينبغي أن أنظر إلى التطور غير العادي لهذه العضلات وتوارثها الاستثنائي على أنهما يمثلان إحدى حالات الارتداد على الأرجح. أرى أن ملاحظتك التي قلت فيها إن عددا هائلا من رجال العائلات النبيلة قد ولد بزواج غير شرعي غريبة للغاية، وإذا التقيت أي أحد يستطيع كتابة مقال عن هذا الموضوع على الإطلاق، فسأذكر له تعليقاتك باعتبارها اقتراحا وجيها. قال لي الدكتور هوكر مرارا إن مسألتي الأخلاق والسياسة ستكونان شائقتين جدا إذا نوقشتا كأي فرع من فروع التاريخ الطبيعي، وهذا يحمل نفس مغزى تعليقاتك تقريبا ...
من تشارلز داروين إلى إل أجاسي
داون، 19 أغسطس 1868
سيدي العزيز
أشكرك من صميم قلبي على خطابك اللطيف جدا. لقد ظننت بالطبع أنك قد ارتأيت سلفا أن جهدي العلمي متواضع جدا إلى حد أنني ربما كنت سأبدو فظا لو أقدمت على طلب معلومات منك، لكن لم يخطر ببالي قط أن خطابي قد عرض عليك. لم أشك قط ولو لحظة واحدة في لطفك وكرمك، وآمل ألا تراني وقحا إذا قلت إنني، عندما التقينا منذ سنوات عديدة في الجمعية البريطانية في ساوثهامبتون، شعرت تجاهك بأشد مشاعر الإعجاب.
لقد أثارت معلوماتك عن أسماك الأمازون «بالغ» اهتمامي، وأخبرتني بما كنت أريد معرفته بالضبط. كنت أعرف، من ملاحظات أعطاني إياها الدكتور جونتر، أن أسماكا كثيرة تختلف فيما بين جنسيها في اللون وسمات أخرى، لكني كنت متلهفا جدا لمعرفة إلى أي مدى ينطبق ذلك على تلك الأسماك التي يأخذ فيها الذكر، على عكس ما يحدث لدى معظم الطيور، النصيب الأكبر في رعاية البيض والصغار. لم يثر خطابك بالغ اهتمامي فحسب، بل أسعدني جدا أيضا، وأرد بخالص شكري على لطفك. مع أصدق تحياتي يا سيدي العزيز.
بالغ إخلاصي
تشارلز داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، الأحد 23 أغسطس [1868]
صديقي القديم العزيز
تلقيت رسالتك. لا أستطيع إطلاقا أن أعبر عن مدى سعادتي بنجاح خطابك،
7
والاجتماع كله. لقد رأيت صحيفة «ذا تايمز» وصحيفة «ذا تلجراف» ومجلة «ذا سبيكتاتور» ودورية «ذا أثنيام»، وسمعت عن صحف أخرى تعبر عن استحسانها، وطلبت حزمة منها. توجد «عاصفة من الإشادة الجماعية». صحيح أن تغطية صحيفة «ذا تايمز» كانت رديئة، أعني فيما يتعلق بالأخطاء المطبعية، لكني سررت جدا بالمقالة الرئيسية؛ لأنني رأيت الطريقة التي طرحت بها مسألة الآثار الميجاليتية الحجرية الضخمة مبهجة جدا.
8
لقد أعجبت جدا بالخطاب الصغير الذي ألقاه تندل (كان البروفيسور تندل رئيس القسم إيه). ... توجه إليك مجلة «ذا سبيكتاتور» قليلا من الانتقادات بخصوص اللاهوت، كما هو معتاد منها دائما ...
لقد أسعد نجاحك العظيم قلبي. قرأت للتو الخطاب كله في دورية «ذا أثنيام» بإمعان، ومع أنه، كما تعلم، قد أعجبني بشدة عندما قرأته لي، فبينما كنت أسعى طوال الوقت إلى العثور على خطأ، فاتني أن أفهم مغزاه ككل إلى حد ما، وأراه الآن باهرا وممتازا جدا. ما أشد البهجة التي من المؤكد أنك تشعر بها لأن كل جهدك المضني وقلقك المزعج قد توجا بمثل هذه النتيجة العظيمة. يجب أن أقول كلمة واحدة عن نفسي، وهي أنني لم أتلق مثل هذا المديح من قبل قط، وأنه يجعلني فخورا جدا. لا أستطيع تجاوز «ذهولي» مما تقوله عن عملي المتعلق بعلم النبات. يا إلهي، لقد عززت قوة بعض التعبيرات بدلا من أن تضعفها، على حد ما أتذكر! والأهم بكثير من أي شيء شخصي هو قناعتي بأنك ستعزز الإيمان بتطور الأنواع تعزيزا هائلا. سيحدث هذا نتيجة لذيوع شهرة الحدث، ومنصبك، المسئول جدا، بصفتك رئيس الجمعية، وسمعتك المرموقة. أنا متيقن من أنه سيحرز تقدما كبيرا في إقناع الرأي العام، ولم أفكر في هذا قط. أرى أن دورية «ذا أثنيام» تستقبل ازدراءك
9
بكل اعتدال. من المؤكد أنني سعيد بهذا الازدراء، وآمل أن يشعر به [الناقد] قليلا. وقتما يسنح لك وقت «فراغ» لترسل إلي خطابا آخر، أخبرني بما إذا كان يوجد أي علماء فلك قد استقبلوا تعليقاتك باستياء؛
10
فوفقا لحالهم الآن، لا يبدو إطلاقا أنهم يتسمون بقدر مبالغ فيه من الفظاظة والوقاحة. أرى العديد من عباراتك موفقة وفصيحة للغاية. وتلك العبارة التي ذكرت فيها «تدعيم أساس» لايل
11
ممتازة. قل لي، هل فرح لايل؟ أنا سعيد لأنك تذكرت إهدائي القديم.
12
هل كان والاس مسرورا؟
ماذا عن الصور الفوتوغرافية؟ أيمكنك أن تدبر وقتا لتبعث برسالة قصيرة إلى عزيزتنا السيدة كاميرون؟ لقد جاءت لتودعنا، وأهدتنا صورا فوتوغرافية كثيرة جدا، وناداها إيرازموس قائلا: «أيتها السيدة كاميرون، يوجد ستة أشخاص في هذا المنزل كلهم يحبونك.» عندما دفعت لها المال، صاحت قائلة: «يا له من مال كثير!» وركضت لتتباهى أمام زوجها.
يجب ألا أطيل الكتابة عن هذا القدر، مع أنني في حالة معنوية رائعة بفضل نجاحك الباهر.
مع خالص مودتي
سي داروين [في دورية «ذا أثنيام» في 29 نوفمبر 1868، ظهر مقال كان في الواقع ردا على ما قاله السير جوزيف هوكر في اجتماع نورويتش. ويبدو أنه استشار والدي بخصوص حكمة الرد على هذا المقال. فكتب والدي في خطاب إليه بتاريخ 1 سبتمبر: «في رأيي، لا يحتاج الدكتور جوزيف دالتون هوكر إلى أن يلقي بالا للهجوم الوارد في دورية «ذا أثنيام» بخصوص السيد تشارلز داروين. يا له من حمار ذاك الرجل الذي يظن أنه يلحق جرحا بليغا بكبرياء المرء بذكر اسمه الأول كاملا. كم سافر هو خطأ الادعاء القائل بأن أساس عملي الوحيد قائم على الحمام؛ لأنني أقول إنني فهمت الحمام فهما أكمل من فهمي للكائنات الأخرى! إنه يخلط بين كتابين من كتب فلورانس.
يشير الخطاب التالي إلى ورقة بحثية
13
ألفها القاضي كاتون ، وكان والدي يتحدث عنها بإعجاب مرارا:]
من تشارلز داروين إلى جون دي كاتون
داون، 18 سبتمبر 1868
سيدي العزيز
اسمح لي بأن أشكرك بكل صدق على لفتتك اللطيفة في إرسال ورقتك الرائعة عن الغزال الأمريكي إلي، عن طريق السيد والش.
إنها غنية جدا بملاحظات شائقة للغاية تطرحها بمنتهى الوضوح. نادرا ما قرأت ورقة بحثية باهتمام أشد من ذاك الذي قرأت به هذه الورقة؛ لأنها زاخرة بحقائق ذات نفع مباشر لعملي. ثم إن الكثير من هذه الحقائق يتكون من نقاط بسيطة لم يلاحظها أي أحد ولم يدرك أهمية تدوينها غيرك تقريبا. سأضرب مثالا على ذلك بذكرك للعصر الذي تطورت فيه القرون (وقد كنت أبحث مؤخرا عن معلومات بشأن هذه النقطة لكن من دون جدوى)، والأجزاء الأثرية للقرون لدى إناث الإلكة، ولا سيما الطبيعة المختلفة للنباتات التي تلتهمها الغزلان وحيوانات الإلكة وعدة نقاط أخرى. مع خالص الشكر على ما منحتني إياه من بهجة وتوجيه، ومع بالغ احترامي لقدرتك على الملاحظة، أرجو أن تسمح لي بأن أبقى، يا سيدي العزيز، صديقك المخلص والممتن لك دائما.
تشارلز داروين [تشير الفقرة التالية المقتطفة من خطاب (بتاريخ 24 سبتمبر 1868) إلى الماركيز دو سابورتا، عالم الحفريات النباتية البارز، إلى نمو الآراء المؤمنة بفرضية التطور في فرنسا:
14 «نظرا إلى أنني سبق وقرأت العديد من أوراقك البحثية عن النباتات المتحفرة ببالغ الاهتمام، فربما تصدق كم أنني غمرت بالرضا عندما سمعت أنك مؤمن بالتطور التدريجي للأنواع. ذلك أنني كنت أظن أن كتابي عن «أصل الأنواع» لم يترك في فرنسا سوى انطباع ضئيل جدا؛ ولذا سررت بسماع عكس ذلك منك. يبدو أن مسئولي المعهد الكبار جميعهم مصممون بكل ثبات على عدم قابلية الأنواع للتغير، ودائما ما كان هذا يدهشني ... الاستثناء الوحيد تقريبا، على حد علمي، هو السيد جودري، وأظنه سيصبح عما قريب أحد كبار الرواد في علم الحفريات الحيوانية في أوروبا، والآن يسعدني سماع أنكم في قسم علم النبات التابع للمعهد تتبنون الرأي نفسه تقريبا.»]
من سي داروين إلى إي هيكل
داون، 19 نوفمبر [1868]
عزيزي هيكل
يجب أن أكتب إليك مرة أخرى لسببين. أولا، لأشكرك على خطابك الذي بعثته بخصوص رضيعك، والذي فتنني أنا وزوجتي، أهنئك من صميم قلبي على ولادته. أتذكر أنني فوجئت، عندما عايشت هذا بنفسي، بمدى سرعة تطور الغرائز الأبوية، التي تبدو قوية بدرجة استثنائية لديك ... آمل أن تجعل العينان الزرقاوان الكبيرتان ومبادئ الوراثة طفلك عالم تاريخ طبيعي بارعا مثلك. ولكن، من واقع تجربتي الشخصية، ستدهش عندما ترى كيفية تغير كل الطباع الذهنية لأطفالك مع تقدم السنين. فالطفل الصغير - وشبه البالغ أيضا - أحيانا ما يختلف قدر ما يختلف اليسروع والفراشة تقريبا.
والسبب الثاني هو أن أهنئك على الترجمة المتوقعة لكتابك العظيم،
15
التي عرفت بأمرها من هكسلي يوم الأحد الماضي. إنني سعيد بها، لكني لا أعرف كيف ستتحقق بالفعل؛ لأن أحد أصدقائي الذي أيد فكرة الترجمة المقترحة في اجتماع نورويتش أخبرني بأنه يرى ذلك مستحيلا تماما. قال لي هكسلي إنك توافق على حذف بعض الأجزاء واختصار بعضها الآخر، وأنا متيقن من أن هذا تصرف حكيم جدا. ولأنني أعرف أن غايتك هي تثقيف الجمهور، فمن المؤكد أنك ستحظى بقراء أكثر بكثير في إنجلترا. في الواقع، الحق أنني أرى أن الكتب كلها تقريبا ستكون أفضل عند تكثيف محتواها. كنت عاكفا على قراءة جزء كبير من كتابك الأخير،
16
وأرى أن أسلوبه واضح وجميل بالنسبة إلي؛ لكني لا أستطيع تخيل سبب اختلافه الشديد في هذا الجانب عن كتابك العظيم. لم أقرأ الجزء الأول بعد، لكني بدأت بالفصل الذي يتحدث عن لايل وعني، والذي ستصدق بكل سهولة أنه أسعدني «للغاية». أظن أن لايل، الذي يبدو أنه فرح جدا بإرسالك نسخة إليه، سعيد للغاية أيضا بهذا الفصل.
17
أرى أن فصولك المتعلقة بعلاقات القرابة وعلم الأنساب في مملكة الحيوان باهرة وزاخرة بالفكر الأصلي المبدع. ومع ذلك، أحيانا ما تجعلني جرأتك أرتعد، ولكن كما يقول هكسلي، لا بد أن يكون شخص ما جريئا بما يكفي ليبدأ في تسطير جداول الانحدار. رغم أنك تقر تماما بقصور السجل الجيولوجي، فقد اتفق هكسلي معي في أنك أحيانا ما تتسرع بعض الشيء في المخاطرة بتحديد أي الفترات قد ظهرت فيها المجموعات المتعددة لأول مرة. أتفوق عليك في هذه النقطة؛ لأنني أتذكر مدى الاختلاف الهائل العجيب الذي سيكون موجودا بين أي ادعاء طرح بخصوص الموضوع قبل 20 عاما وما سيكون صحيحا الآن، وأتوقع أن الأعوام العشرين القادمة ستحدث اختلافا كبيرا جدا يضاهيه. فكر في النبات الأحادي الفلقة الذي اكتشف للتو في التكوين الجيولوجي المنتمي إلى العصر «البدائي» في السويد.
أكرر التعبير عن مدى سعادتي الشديدة باحتمالية الترجمة؛ لأنني أومن تماما بأن هذا العمل وأعمالك كلها ستحدث تأثيرا كبيرا في تقدم العلم.
مع أصدق التحيات، يا عزيزي هيكل، من صديقك المخلص.
تشارلز داروين [في نوفمبر من هذا العام، كان يقعد أمام السيد وولنر لينحت تمثالا نصفيا له، فكتب بخصوص ذلك قائلا: «كان ينبغي أن أرسل إليك منذ وقت طويل، لكني كنت منزعجا بسبب خطابات غبية، وأعاني عذابا يضاهي عذاب التطهير من الخطايا بجلوسي طوال ساعات أمام وولنر، الذي أرى مع ذلك أنه لطيف للغاية، ويخفف عني تلك الكفارة بأقصى ما يقدر عليه إنسان، وأعتقد أن عمله سيسفر عن تمثال نصفي ممتاز حسبما أرى.»
إذا كان لي أن أنتقد عمل نحات بارز كالسيد وولنر، فأرى أن ذاك التمثال النصفي قد شابه بعض القصور باعتباره صورة فنية للوجه، وهي أنه يعكس طابعا معينا قريبا للغاية من الغطرسة، وهو يبدو لي غريبا عن تعبير وجه والدي.]
1869 [في بداية العام، كان يعمل على إعداد الطبعة الخامسة من كتاب «أصل الأنواع». بدأ هذا العمل في اليوم التالي لأعياد الميلاد، في عام 1868، واستمر «46 يوما»، كما يذكر في مفكرته اليومية؛ أي حتى 10 فبراير 1869. ثم عاد بعد ذلك، في 11 فبراير، إلى موضوع الانتقاء الجنسي، واستمر في العمل على هذا الموضوع (باستثناء 10 أيام خصصها لموضوع السحلبيات، وأسبوع في لندن)، حتى 10 يونيو، عندما ذهب مع عائلته إلى شمال ويلز، حيث مكث حوالي 7 أسابيع، وعاد إلى داون في 31 يوليو.
كان المنزل الذي مكث فيه، والذي يحمل اسم كارديون، مشيدا على الشاطئ الشمالي لمصب بارماوث الجميل في موضع مبهج، على مقربة من التل الريفي البري الواقع خلفه، وكذلك من «الروابي» المشجرة الخلابة، بين التلال الأشد انحدارا والنهر. وكان والدي مريضا ومكتئبا بعض الشيء طوال هذه الزيارة، وأظنه كان حزينا لأنه كان حبيس قلة العافية، وعاجزا حتى عن الوصول إلى التلال التي كان يجوبها أياما متواصلة في الماضي.
أرسل خطابا من كارديون إلى السير جيه دي هوكر (بتاريخ 22 يونيو) قال فيه: «نحن هنا منذ 10 أيام، كم أتمنى أن تزورنا هنا؛ فلدينا منزل جميل ذو حديقة مدرجة، وإطلالة رائعة حقا على جبل «كادر» الذي يقع قبالتنا مباشرة. كادر العجوز رجل ضخم مهيب، ويتباهى بنفسه بروعة وفقا لتغير الضوء. سنبقى هنا حتى نهاية يوليو، وحينها سيقيم آل إتش ويدجوود في المنزل. لا تزال صحتي واهنة جدا؛ إذ يبدو أن عافيتي كلها تنهار حالما يتوقف حافز العمل الذهني. فأنا لم أتمكن من الابتعاد عن المنزل إلا لنصف ميل أقطعه ببطء شديد، ثم يصيبني إنهاك شديد. هذا كاف ليجعل المرء يتمنى أن يرقد ساكنا في قبر مريح.»
بخصوص الطبعة الخامسة من كتاب «أصل الأنواع»، كتب في خطاب إلى السيد والاس (بتاريخ 22 يناير 1869): «قوطعت في أثناء عملي المنتظم على إعداد طبعة جديدة من كتاب «أصل الأنواع» كبدتني الكثير من الجهد المضني، وآمل أن أكون قد أضفت فيها تحسينا كبيرا على نقطتين مهمتين أو ثلاث. دائما ما كنت أظن أن الاختلافات الفردية أهم من التباينات المفردة، لكني الآن توصلت إلى استنتاج مفاده أنها ذات أهمية قصوى، وأعتقد أنني أتفق معك في هذا. لقد أقنعتني حجج فليمنج جنكن.»
شرحت هذه الجملة الغامضة بعض الشيء، في 2 فبراير، في خطاب آخر إلى السيد والاس: «لا بد أنني عبرت عن نفسي بطريقة بشعة؛ فما قصدت قوله هو بالتحديد عكس ما فهمته تماما. لقد طرح إف جنكن في دورية «نورث بريتش ريفيو» حججا معارضة لفكرة أن التباينات المفردة تدوم إلى الأبد أصلا، وأقنعني بذلك، ولكن بطريقة واضحة تفصيلية لا على النحو الذي أوردته هنا. دائما ما كنت أظن أن الاختلافات الفردية أهم، لكني كنت أعمى، وكنت أتوهم أن التباينات المفردة ربما تحفظ بتواتر أكبر بكثير مما أراه الآن ممكنا أو مرجحا. وإنما ذكرت هذا في رسالتي السابقة لأنني اعتقدت أنك توصلت إلى استنتاج مشابه، وأنا أحب كثيرا أن أوافقك الرأي. أعتقد أن العامل الرئيسي الذي جعلني أنخدع هو أن التباينات المفردة تقدم أمثلة بسيطة، كما في حالة قيام الإنسان بالانتقاء.»
نشرت المقالة النقدية التي كتبها الراحل السيد فليمنج جنكن، عن كتاب «أصل الأنواع»، في عدد يونيو 1867 من دورية «نورث بريتش ريفيو». ومن اللافت جدا للنظر أن الانتقادات التي شعر والدي، على ما أعتقد، بأنها أقيم انتقادات طرحت عن آرائه على الإطلاق لم تصدر عن عالم تاريخ طبيعي متمرس، بل أستاذ في مجال الهندسة.
لا يمكن سرد وصف واف لحجة فليمنج جنكن في حيز صغير. ذلك أن نسخة والدي من الورقة البحثية (وهي مقطوعة من المجلد كالمعتاد ومربوطة بقطعة من الخيط) تحمل ملحوظات توضيحية بالقلم الرصاص في مواضع كثيرة. ربما يمكنني أن أقتبس فقرة واحدة كتب والدي قبالتها كلمتي «سخرية وجيهة»، ولكن ينبغي تذكر أنه استخدم كلمة «سخرية» بمعنى خاص بعض الشيء؛ إذ لا تشير بالضرورة إلى اللذوعة الحادة في النقد، بل هي مستخدمة على الأرجح بمعنى «المزاح». قال فليمنج جنكن متحدثا عن «المؤمن الحقيقي»، في الصفحة 293: «يستطيع أن يبتدع تسلسلات من أسلاف لا دليل على وجودهم، ويستطيع أيضا حشد مجموعات من أعداء متخيلين، واستحضار قارات وفيضانات وأجواء غريبة، ويستطيع تجفيف المحيطات، وتقسيم الجزر، وتقسيم الأبدية وفق هواه، ومن المؤكد أنه، في ظل وجود هذه المزايا، لا بد أن يكون رجلا غبيا إذا لم يستطع رسم تصور لتسلسل ما من الحيوانات والظروف يشرح الصعوبة المفترض وجودها في فرضيتنا شرحا طبيعيا تماما. وفي ظل الشعور بصعوبة التعامل مع الخصوم الذين لديهم مخيلة واسعة جدا، فسنترك هذه الحجج، ونعتمد على تلك التي على الأقل لا يمكن الهجوم عليها بمجرد محاولات التخيل.»
في الطبعة الخامسة من كتاب «أصل الأنواع»، غير والدي فقرة في فصل الملخص التاريخي (الصفحة الثامنة عشرة في الطبعة الرابعة). وبذلك يكاد يكون قد تخلى تقريبا عن المهمة الصعبة المتمثلة في محاولة فهم ما إذا كان السير آر أوين يدعي أنه مكتشف مبدأ الانتقاء الطبيعي أم لا. وأضاف قائلا: «بخصوص مصطلح مبدأ الانتقاء الطبيعي فحسب، من غير المهم إطلاقا ما إذا كان البروفيسور أوين قد سبقني إليه أم لا؛ لأن ... الدكتور ويلز والسيد ماثيو قد سبقانا منذ زمن بعيد.»
ورد نقد شديد بعض الشدة للطبعة الخامسة، بقلم السيد جون روبرتسون، في دورية «ذا أثنيام»، في 14 أغسطس 1869. يعلق الكاتب بشيء من الحدة اللاذعة على نجاح كتاب «أصل الأنواع»، قائلا: «ليس الانتباه مرادفا للقبول. وكثرة الطبعات لا تعني نجاحا حقيقيا. يحقق الكتاب مبيعات جيدة، بينما تجري مناقشة الفرضية التخمينية، والرواج والمناقشة يشيران إلى أهمية الطبعات.» ويذكر السيد روبرتسون هذا الادعاء الصحيح، لكنه مضلل، قائلا: «يستهل السيد داروين طبعته الإنجليزية الخامسة بمقالة يسميها «ملخص تاريخي»، إلخ.» وقد صدر هذا الملخص بالفعل في الطبعة الثالثة في عام 1861.
ويواصل السيد روبرتسون كلامه قائلا إن الملخص كان ينبغي أن يسمى مجموعة مقتطفات تتنبأ بفرضية الانتقاء الطبيعي أو تؤيدها. «لأنه لم يتضمن أي سرد لأي آراء معارضة. ولهذه الحقيقة دلالة مهمة جدا. ذلك أنها تجعل هذا الملخص التاريخي أشبه بالسجلات التاريخية لعهد لويس الثامن عشر، التي نشرت بعد فترة «الاستعادة»، والتي حذفت منها الجمهورية والإمبراطورية، وروبسبيار وبونابرت.»
يعطي الخطاب التالي المرسل إلى البروفيسور فيكتور كاروس، فكرة عن الطابع العام للطبعة الجديدة من كتاب «أصل الأنواع»:]
من تشارلز داروين إلى فيكتور كاروس
داون، 4 مايو 1869 ... تفحصت الكتاب كله بعناية في محاولة لتوضيح بعض الأجزاء، وإضافة بضع من المناقشات والحقائق المهمة. الطبعة الجديدة أطول من القديمة بصفحتين فقط إجمالا، بالرغم من إضافة تسع صفحات إلى جزء واحد مقدما؛ وذلك لأنني اختصرت عدة أجزاء وحذفت بعض الفقرات. أخشى أن تكبدك الترجمة عناء شديدا؛ إذ استغرقت التعديلات ستة أسابيع إلى جانب تصحيح الكتاب وتهيئته للطباعة، ينبغي أن تبرم اتفاقا خاصا مع السيد كوخ [الناشر]. العديد من التصحيحات مجرد بضع كلمات، لكنها أجريت استنادا إلى أن الأدلة المتعلقة بنقاط مختلفة يبدو أنها أصبحت أقوى أو أضعف قليلا.
وهكذا هديت إلى أن أرى أن التأثير المحدد المباشر للظروف الخارجية ذو قيمة أكبر، وإلى أن أرتئي أن الفترة الزمنية، كما هي مقيسة بالسنوات، ليست طويلة جدا بالقدر الذي يظنه معظم الجيولوجيين، وأن أستنتج أن التباينات المفردة أقل أهمية بكثير مما كنت أظن سابقا، مقارنة بالاختلافات الفردية. أذكر هذه النقاط لأن هذا قادني إلى تعديل «بضع كلمات» في مواضع عديدة، وإذا لم تطالع الطبعة الجديدة كلها، فلن تتفق الأجزاء بعضها مع بعض، وهذا سيكون عيبا جسيما ... [دائما ما كان والدي يرغب بشدة في أن تنتشر آراؤه في فرنسا؛ ولذا تضايق عن وجه حق عندما اكتشف أن محررة الطبعة الفرنسية الأولى أصدرت في عام 1869 طبعة ثالثة دون استشارة المؤلف. ومن ثم، فرح بإبرام اتفاق لإصدار نسخة مترجمة إلى الفرنسية من الطبعة الخامسة، وكان من تولى ذلك هو السيد رينفالد، الذي ظلت تجمعه به علاقة طيبة بصفته ناشرا للعديد من كتبه باللغة الفرنسية.
قال في خطاب إلى السير جيه دي هوكر: «يجب أن أنفس عما بداخلي وأحدثك عن الآنسة سي روييه، التي ترجمت كتاب «أصل الأنواع» إلى الفرنسية، والتي كبدتني عناء لا حصر له من أجل طبعتها الثانية. لقد أصدرت للتو طبعة فرنسية ثالثة دون إعلامي، وبذلك فكل ما ورد من تصحيحات وما إلى ذلك في الطبعتين الإنجليزيتين الرابعة والخامسة ليس موجودا في طبعتها الثالثة هذه. وإلى جانب مقدمتها الطويلة للغاية التي استهلت بها الطبعة الأولى، أضافت مقدمة ثانية تسيء إلي بتشبيهي بأنني نشال سرق فرضية «شمولية التكوين»، وليس لهذا بالطبع أية علاقة بكتاب «أصل الأنواع». لذا أرسلت خطابا إلى باريس، ووافق رينفالد على إصدار نسخة مترجمة جديدة من الطبعة الخامسة فورا؛ لتنافس طبعتها الثالثة وتتفوق عليها ... تظهر هذه الحقيقة أن فكرة «تطور الأنواع» تنتشر في فرنسا أخيرا بكل تأكيد.»
تشارلز داروين
يحمل الخطاب التالي بعض الأهمية فيما يتعلق بانتشار فكرة التطور بين المتدينين التقليديين. إذ تلقى والدي في مارس، من المؤلف، نسخة من محاضرة كتبها المبجل تي آر آر ستبينج وألقيت أمام جمعية التاريخ الطبيعي في توركي، في 1 فبراير 1869، حاملة عنوان «الداروينية». فأرسل والدي خطابا إلى السيد ستبينج قال فيه:]
داون، 3 مارس [1869]
سيدي العزيز
إنني في غاية الامتنان لك على لفتتك اللطيفة في إرسال محاضرتك الشائقة والمفعمة بالجرأة؛ فلو أن شخصا عاديا قد ألقى الخطاب نفسه، لقدم بذلك نفعا كبيرا في نشر الفكرة التي آمل أن تحمل قدرا كبيرا من الحقيقة وأعتقد ذلك، ولكن عندما يلقي رجل دين خطابا كهذا، فأرى أنه يقدم نفعا أكبر بكثير بقدرته على زعزعة الأحكام المسبقة الجاهلة، وبضرب مثال باهر على التحرر، إذا جاز لي قول ذلك.
مع خالص احترامي، وأستأذنك يا سيدي العزيز أن أظل صديقك المخلص لك والممتن دائما.
تشارلز داروين [يعود السبب في الإشارة إلى موضوع تعبيرات الوجه في الخطاب التالي إلى أن نية والدي الأصلية تمثلت في طرح مقالته عن هذه الموضوع كفصل في كتاب «نشأة الإنسان»، وهذا الفصل بدوره قد نشأ ونما، كما رأينا، من فصل مقترح في كتاب «تباين الحيوانات والنباتات»:]
من تشارلز داروين إلى إف مولر
داون، 22 فبراير [1869؟] ... صحيح أنك قدمت لي عونا جما بطرق عديدة، لكني سألتمس منك أي معلومات عن موضوعين آخرين. أعد الآن مناقشة بشأن موضوع «الانتقاء الجنسي»، وأرغب بشدة في أن أعرف إلى أي مرتبة دنيا في الهرم الحيواني يمتد نوع معين من الانتقاء الجنسي. فهل تعرف أي حيوانات بسيطة البنية تتسم بانفصال الجنسين، ويختلف فيها الذكر عن الأنثى في أسلحة الهجوم، مثل القرون والأنياب لدى ذكور الثدييات، أو في الريش المبهرج ومظاهر التزين، كما هي الحال في الطيور والفراشات؟ لا أقصد السمات الجنسية الثانوية، التي يستطيع الذكر اكتشاف الأنثى بها، مثل قرون الاستشعار المكسوة بالريش لدى حشرات العث، أو التي يتمكن بها الذكر من إمساك الأنثى، مثل الكماشة الغريبة التي وصفتها في بعض القشريات الأدنى رتبة. إنما ما أريد معرفته هو إلى أي مرتبة دنيا في الهرم الحيواني توجد الاختلافات الجنسية التي تتطلب قدرا ما من الوعي الذاتي لدى الذكور، كالأسلحة التي يقاتلون بها من أجل الإناث، أو مظاهر التزين التي تجذب الجنس الآخر. يجب استبعاد أي اختلافات بين الذكور والإناث تنشأ من عادات حياتية مختلفة. أظن أنك ستفهم بسهولة ما أريد معرفته. وفقا للاستدلال البديهي، ما كان سيتوقع أبدا أن تنجذب الحشرات إلى الألوان الجميلة لدى الجنس الآخر، أو إلى الأصوات الصادرة من البنى الموسيقية المختلفة لدى ذكور مستقيمات الأجنحة. لا أعرف أحدا قد يجيبني عن هذا السؤال مثلك، وسأكون ممتنا لأي معلومات، مهما كانت بسيطة.
أما موضوعي الثاني، فهو متعلق بمسألة تعبيرات الوجه، التي أدرسها منذ فترة طويلة، وهي مثيرة لاهتمامي للغاية، لكني مع الأسف لم أهتم بالبحث في أمرها عندما كانت لدي الفرصة لملاحظة أعراق مختلفة من البشر. لقد خطر ببالي أنك قد تستطيع، دون عناء كبير، أن تجري لي «بضع» ملاحظات، في غضون بضعة أشهر، على الزنوج، أو ربما على سكان أمريكا الجنوبية الأصليين، مع أنني أكثر اهتماما بالزنوج، ومن ثم، أرفق بعض الأسئلة كدليل استرشادي، وإذا استطعت أن تجيبني عن سؤال واحد أو سؤالين، فسأكون ممتنا حقا. أفكر في كتابة مقال صغير عن أصل الجنس البشري؛ لأنني أتعرض للسخرية من إخفاء آرائي بخصوص هذا الموضوع، وسأفعل ذلك فور إتمام كتابي الحالي. في هذه الحالة، سوف أضيف فصلا عن سبب تعبيرات الوجه أو معناها ... [يتناول جل الخطابات المتبقية من خطابات هذا العام ما أثار اهتمامه من كتب ومقالات نقدية، وما إلى ذلك.]
من تشارلز داروين إلى إتش ثييل
داون، 25 فبراير 1869
سيدي العزيز
عند عودتي إلى المنزل بعد غياب قصير، وجدت رسالتك الدمثة للغاية، والكتيب،
18
فسارعت إلى شكرك على كليهما، وعلى ذكرك اسمي ذكرا مشرفا جدا. لا بد أنك ستصدق مدى اهتمامي الشديد بملاحظة ما تطبقه على بعض المسائل الأخلاقية والاجتماعية من آراء مشابهة لتلك التي استخدمتها فيما يتعلق بتعديل الأنواع . لم يخطر ببالي من قبل أن آرائي يمكن أن تمد إلى موضوعات مختلفة ومهمة جدا كهذه. مع بالغ احترامي، وأستأذنك يا سيدي العزيز أن أظل صديقك المخلص الممتن لك.
تشارلز داروين
من تشارلز داروين إلى تي إتش هكسلي
داون، 19 مارس [1869]
عزيزي هكسلي
شكرا لك على «خطابك».
19
يشكو الناس من عدم المساواة في توزيع الثروات، لكنه لعار أعظم وظلم أشد أن يحظى أي إنسان بالقدرة على كتابة العديد من المقالات الرائعة كما استطعت أن تفعل مؤخرا. لا أحد يكتب مثلك ... لو كنت مكانك، لارتعدت خوفا على حياتي. أتفق مع كل ما تقوله، باستثناء أنني أعتقد أنك تبالغ في التفرقة بين أنصار التطور وأنصار فرضية الوتيرة الواحدة.
أرى أن الجمل القليلة التي أرسلتها إلى المطبعة لتدرج في كتاب «أصل الأنواع» عن عمر العالم ستجدي نفعا كبيرا ...
صديقك الدائم
سي داروين
من تشارلز داروين إلى إيه آر والاس
داون، 22 مارس [1869]
عزيزي والاس
أتممت قراءة كتابك؛
20
يبدو لي ممتازا، وأرى في الوقت نفسه أن قراءته ممتعة جدا. ما أروع أنك قد عدت إلينا حيا بعد كل ما عايشته من مخاطر المرض والرحلات البحرية، لا سيما تلك الرحلة الشائقة جدا إلى وايجيو والعودة منها. من بين كل الانطباعات التي وصلت إلي من كتابك، أرى أن أقوى انطباع هو أن مثابرتك في سبيل العلم كانت بطولية. لقد جعلتني طريقة وصفك لاصطياد الفراشات الرائعة أشعر بالحسد بشيء من الحسد، وأشعرتني في الوقت نفسه بأني أكاد أكون شابا من جديد؛ إذ ملأت رأسي بصور شديدة الوضوح عن ذكريات الأيام الخوالي عندما كنت أمارس هواية الجمع، وإن كنت لم أنجح قط في نيل غنائم كغنائمك. من المؤكد أن الجمع أفضل رياضة في الدنيا. سأتفاجأ للغاية إذا لم يحقق كتابك نجاحا كبيرا، وسوف تكون تعميماتك الرائعة بخصوص التوزيع الجغرافي، التي أعرفها من أوراقك البحثية، جديدة على معظم قرائك. أظن أنني استمتعت جدا بحالة جزيرة تيمور، كما هي موضحة على أفضل وجه، ولكن ربما يمكن القول إن حالة جزيرة سيليبز هي الأقيم في الواقع. أفضل النظر إلى القارة الآسيوية كلها على أنها كانت في الماضي أفريقية من حيث حيواناتها، على أن أعترف بأن ثمة قارة كانت موجودة سابقا عبر المحيط الهندي ... [يشير الخطاب التالي إلى مقال السيد والاس في عدد أبريل من دورية «ذا كورترلي ريفيو»،
21
1869، الذي يتناول معظمه الطبعة العاشرة من كتاب السير تشارلز لايل، «مبادئ»، التي نشرت في عامي 1867 و1868. ويحوي هذا المقال النقدي فقرة لافتة للانتباه عن اعتراف السير تشارلز لايل بإيمانه بفرضية التطور في الطبعة العاشرة من كتابه «مبادئ»، وهي جديرة بالاقتباس؛ إذ يقول فيها: «نادرا ما يقدم تاريخ العلم أي مثال لافت على شباب العقل في سن كبيرة كذاك الذي يتجلى في تخلي المؤلف عن آراء لطالما اعتنقها ودافع عنها بكل قوة، وإذا أخذنا في الحسبان ما يتسم به مؤلفنا من حذر شديد، مع حبه المتوقد للحقيقة، والذي يميز كل عمل أنتجه، فسوف نقتنع بأنه لم يتخذ قرارا بهذا التغيير الكبير إلا بعد تفكير متمعن طويل يتسم بالحرص، وأن الآراء التي صار يتبناها الآن من المؤكد حقا أنها مدعومة بحجج ذات قوة ساحقة. إن نظرية السيد داروين تستحق التأمل باهتمام واحترام من كل ساع جاد إلى معرفة الحقيقة، وإن لم يوجد سبب آخر لذلك سوى أن السير تشارلز لايل قد أعلن إيمانه بها في الطبعة العاشرة من كتابه.»]
من تشارلز داروين إلى إيه آر والاس
داون، 14 أبريل 1869
عزيزي والاس
أثار مقالك بالغ اهتمامي وإعجابي، وأظن أن لايل سيفرح به جدا. أصرح بأنني، لو كنت محررا، وكانت لدي صلاحيات توجيهك، لاخترت لهذه المناقشة النقاط نفسها التي اخترتها. كثيرا ما أقول لعلماء الجيولوجيا الأصغر سنا (لأنني بدأت في عام 1830) إنهم لا يعرفون أي ثورة تلك التي أحدثها لايل، ومع ذلك، فالمقتطفات التي اقتبستها من كوفييه أذهلتني بشدة. مع أنني لا أستطيع الحكم حقا، أميل إلى أن أثق في كرول أكثر مما تثق فيه على ما يبدو، لكني بهرت بالكثير مما قلته عن التراجع. فآراء تومسون عن العصر الحديث للكون كانت من المشكلات الأكثر إزعاجا لي لفترة من الوقت؛ ولذا فرحت بقراءة ما تقوله. أرى أن شرحك لفكرة الانتقاء الطبيعي جيد إلى حد لا يضاهى، لم تشهد هذه الدنيا شارحا أفضل منك قط. سررت للغاية أيضا بمناقشتك للاختلافات بين آرائنا وآراء لامارك. أحيانا ما يرى المرء ذلك التعبير البغيض الذي يقال فيه «إنصافا لنفسي، فأنا مجبر على قول»، إلخ، لكنك الرجل الوحيد من بين كل من سمعت عنهم على الإطلاق الذي يظلم نفسه باستمرار، ولا يطلب الإنصاف أبدا. فالحق أنه كان يجدر بك أن تشير في المقال النقدي إلى ورقتك البحثية في دورية «لينيان جورنال»، وأنا متيقن من أن أصدقاءنا كلهم سيتفقون معي في هذا. بالرغم من ذلك، فلن تستطيع أن «تقمع» نفسك، مهما كثرت محاولاتك، مثلما قد يرى في نصف المقالات التي تنشر. طلب مني أستاذ ألماني قبل بضعة أيام ورقتك البحثية، فأرسلتها إليه. إجمالا، أعتبر ظهور مقالك في دورية «ذا كورترلي» انتصارا هائلا لقضيتنا. أعتقد أن تعليقاتك على مسألة تطور الإنسان هي تلك التي ألمحت إليها في رسالتك. لو لم تخبرني سلفا، لظننت أن شخصا آخر غيرك هو من أضافها. مثلما توقعت، يختلف رأيي عن رأيك مع الأسف الشديد، وهذا يحزنني جدا. فأنا لا أرى ضرورة لاستدعاء سبب إضافي ومباشر فيما يتعلق بالإنسان.
22
لكن الموضوع أطول من أن يسرد في خطاب. سررت جدا بقراءة مناقشتك لا سيما أنني أكتب الآن عن مسألة تطور الإنسان، وأفكر فيها مليا.
آمل أن يحقق كتابك عن أرخبيل الملايو مبيعات كبيرة، لقد سررت للغاية بالمقالة المنشورة في دورية «ذا كورترلي جورنال أوف ساينس»؛ لأنها تولي عملك قدره، يا للأسف! فمن المرجح أنك ستتفق مع ما يقوله كاتب المقال عن استخدامات الخيزران.
سمعت بوجود مقال جيد في دورية «ساترداي ريفيو» أيضا، لكني لم أسمع عنه أكثر من ذلك. مع أصدق تحياتي يا عزيزي والاس.
لك بالغ إخلاصي
سي داروين
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، 4 مايو [1869]
عزيزي لايل
لقد بعث إلي بطلب من أجل نسخ بعض الصور الشخصية الفوتوغرافية (بحجم بطاقات زيارة) لتزين شهادات الأعضاء الفخريين في جمعية جديدة في صربيا! فهلا تعطيني واحدة من أجل هذا الغرض؟ ذلك أنه لا يوجد في ألبومي الخاص سوى صورة لجسدك كله، والوجه فيها صغير جدا إلى حد يجعله غير قابل للنسخ، على ما أظن.
آمل أنك تبلي بلاء حسنا في إنجاز عملك، وأن تكون قد وصلت إلى نتيجة مقنعة لك بخصوص النقطة الصعبة المتعلقة بالبحيرات الجليدية. لقد أتممت تصحيح الطبعة الجديدة من كتاب «أصل الأنواع»، والشكر للرب على ذلك، وأعمل الآن على إكمال عملي القديم المتعلق بالانتقاء الجنسي.
أرى مقال والاس «مثيرا للإعجاب»؛ فما أفضل الطريقة التي عرض بها الثورة التي أحدثتها منذ حوالي 30 عاما! كنت أظن أنني أدركت قيمة الثورة تماما، لكن المقتطفات المقتبسة من كوفييه قد أبهرتني. وكم هو ملخص جيد لموضوع الانتقاء الطبيعي! لكن الجزء المتعلق بالإنسان أصابني بإحباط شديد؛ إذ يبدو لي غريبا إلى حد لا يصدق ... ولولا أنني أعلم أن هذا لم يحدث، لأقسمت أن يدا أخرى هي التي كتبته. لكنني أعتقد أنك لن تتفق تماما معي في كل هذا.
مع بالغ إخلاصي يا عزيزي لايل
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه إل إيه دي كاتريفاج
داون، 28 مايو [1869 أو 1870]
سيدي العزيز
تلقيت مجلدك،
23
وقرأته، وأنا ممتن جدا لهديتك. أرى أن المحتوى كله نقاش واضح وبارع للغاية، وقد أثار بالغ اهتمامي حتى الصفحة الأخيرة. مستحيل أن يكون أي سرد لآرائي أكثر إنصافا من هذا الذي طرحته، أو أكمل بقدر ما يسمح به الحيز المتاح. إنني سعيد للغاية بهذا النحو الذي ذكرت به اسمي مرارا. وعندما أتممت قراءة الجزء الثاني، رأيت أنك قد ذكرت القضية باستحسان شديد جدا إلى حد أنك ستقنع بفكرتي أناسا أكثر ممن ستقنعهم بفكرتك. وعندما قرأت الأجزاء اللاحقة، اضطررت إلى تغيير وجهة نظري المتفائلة. ففي هذه الأجزاء الأخيرة، يتسم العديد من انتقاداتك بحدة شديدة، لكنها كلها مطروحة بمنتهى الدماثة والإنصاف. أستطيع القول بكل صدق إنني أفضل أن تنتقدني بهذه الطريقة على أن أتلقى المديح من كثيرين آخرين. أتفق معك في بعض انتقاداتك، لكني أختلف معك تماما في البقية، غير أنني لن أزعجك بأي تعليقات. ومع ذلك، فربما يمكنني القول إن الترجمة الفرنسية قد خدعتك بالتأكيد؛ لأنك تستنتج أنني أعتقد أن طائر الباروس
والطائر كاسر الجوز (أو سيتا
Sitta ) بينهما علاقة قرابة عبر البنوة المباشرة. فكل ما أردته هو أن أبين بشرح توضيحي تخيلي كيف يمكن لأي من الغرائز أو البنى أن تتغير أولا. لو أنك رأيت كلبا ماجلانيا حيا، لأدركت الشبه الشديد بين مظهره ومظهر الثعلب، أو لو سمعت صوته، لما جرؤت إطلاقا على طرح الفكرة القائلة بأنه كان كلبا داجنا صار بريا، لكن هذا لا يهمني كثيرا. ما أغرب كيفية تأثر الرأي بالجنسية؛ إذ لا يكاد يمر أسبوع دون أن أسمع بعالم تاريخ طبيعي في ألمانيا يؤيد آرائي، وغالبا ما يبالغ في تقدير قيمة أعمالي، أما في فرنسا، فلم أسمع بعالم حيوانات واحد يؤيد آرائي، ما عدا السيد جودري (وحتى هو يؤيدها جزئيا فقط). ولكن من المؤكد أن قرائي كثيرون؛ لأن كتبي تترجم، وأرجو، على الرغم من انتقاداتك الحادة، أن أؤثر في بعض علماء التاريخ الطبيعي الفرنسيين الذين لم يزالوا بمثابة أجنة في هذا المجال.
تتحدث مرارا عن حسن نيتي، ولا يمكن لأي إطراء أن يكون أكثر إبهاجا لي من ذلك، لكن لي أن أرد إليك الإطراء مضاعفا؛ لأن كل كلمة تكتبها تحمل طابع حبك الصادق العميق للحقيقة. لك أصدق تحياتي وخالص احترامي يا سيدي العزيز.
مع بالغ إخلاصي
تشارلز داروين
من تشارلز داروين إلى تي إتش هكسلي
داون، 14 أكتوبر [1869]
عزيزي هكسلي
سررت برؤية مقالك النقدي عن هيكل،
24
وأنت تغدق علي كالعادة بأكوام من التشريفات. لكني أرسل إليك الآن («دون أن أطلب ردا») لأتذمر قليلا مما قلته عن الأعضاء الأثرية.
25
سيستغل الكثير من الهراطقة ما قلته. لا يسعني إلا أن أرى أن التفسير المطروح في الصفحة 541 من الطبعة الأخيرة من كتاب «أصل الأنواع» للاحتفاظ الطويل بالأعضاء الأثرية وحجمها النسبي الأكبر خلال الحياة المبكرة، تفسير مقنع. فأنا أرى أن إجهاضها نهائيا وتماما يمثل صعوبة أشد بكثير. فلتطالع، في كتابي «التباينات تحت تأثير التدجين»، المجلد الثاني، الصفحة 397، ما تقترحه فرضية «شمولية التكوين» بخصوص هذه النقطة، مع أنني لم أجرؤ على إدراجها في كتاب «أصل الأنواع». وكذلك فالفقرة متعلقة بعض الشيء بالصراع بين البريعمات أو الجزيئات.
26
وكذلك توجد كلمة أو اثنتان لهما صلة غير مباشرة بهذا الموضوع في الصفحات 394-395. لن يستغرق ذلك خمس دقائق؛ لذا طالع هذه الفقرات. إنني سعيد جدا لأنك تحليت بالجرأة الكافية للإفصاح عن فكرتك بشأن الانتقاء الطبيعي بين الجزيئات، وإن كنت لا أستطيع فهم مقصدك تماما.
عام 1870 وبداية عام 1871 [كتب والدي في دفتر يومياته: «قضي هذا العام [1870] كله في العمل على كتاب «نشأة الإنسان» ... أرسل إلى المطبعة في 30 أغسطس 1870.»
تجدر الإشارة مجددا إلى أن الخطابات التالي ذكرها ذات فوائد متنوعة؛ فهي لا تتناول عمله فحسب، بل تفيد كذلك في توضيح منوال قراءته.]
من تشارلز داروين إلى إي راي لانكستر
داون، 15 مارس [1870]
سيدي العزيز
لا أعرف ما إذا كنت ستراني رجلا مزعجا للغاية، لكني أتممت للتو قراءة كتابك،
27
ولا أستطيع مقاومة رغبتي في أن أخبرك بمدى الاهتمام البالغ الذي أثاره في نفسي. لا مفر بالطبع، كما تقول، من أن يكون موضوع كهذا محاطا بالكثير من التكهنات، ولا يمكن الوصول فيه إلى نتائج محددة، لكن آراءك كلها ملهمة جدا، وذلك في رأيي ثناء بالغ. لقد ازداد اهتمامي به بالذات لأنني أكتب الآن عن نقاط وثيقة الارتباط به، وإن لم تكن متطابقة تماما معه. سررت برؤية أنك تشير إلى طفلي المحتقر بشدة؛ أي فرضية «شمولية التكوين»، الذي أظن أنه يوما ما، عندما يحظى برعاية أفضل، سيصبح صبيا يافعا جديرا بالإعجاب. وسررت أيضا برؤية مدى تقديرك التام لهربرت سبنسر (وأعتقد أن هذا غير معتاد من رجال العلم)، أظن أنه فيما بعد سيعتبر أعظم فيلسوف حي في إنجلترا على الإطلاق، بل ربما يضاهي أي فيلسوف عاش من قبل. غير أنه لا يحق لي أن أزعجك بأفكاري وآرائي. مع خالص الشكر على الاهتمام الذي أثاره عملك في نفسي.
مع بالغ إخلاصي لك على الدوام
سي داروين [يشير الخطاب التالي إلى مجلد «الانتقاء الطبيعي» للسيد والاس (1870)، الذي يضم مجموعة من المقالات أعيدت طباعتها مع تعديلات معينة وردت في قائمة بالمجلد:]
من تشارلز داروين إلى إيه آر والاس
داون، 20 أبريل [1870]
عزيزي والاس
تلقيت كتابك للتو، وقرأت المقدمة. لم أحظ من قبل، أو بالأحرى لم يحظ أي أحد، بإطراء أشد من هذا الذي منحتني إياه. أتمنى أن أكون جديرا به تماما. تواضعك وإنصافك ليسا جديدين علي إطلاقا. آمل أنك تشعر بالرضا عندما تفكر في أن كلينا لم يشعر قط بأي غيرة تجاه الآخر، مع أننا شخصين متنافسين من منظور ما، والحق أنه لا يوجد في حياتي سوى قلة قليلة من الأمور التي تشعرني برضا أكبر من ذلك الذي أشعر به عندما أفكر في هذا. أعتقد أنني أستطيع قول ذلك عن نفسي بكل صدق، وأنا متيقن تماما من أنه ينطبق عليك.
يا لك من رجل مسيحي صالح لأنك أعطيتني قائمة بإضافاتك؛ فأنا أرغب بشدة في قراءتها، وما كنت سأحظى بمتسع من الوقت، حاليا بالذات، لمطالعة مقالاتك كلها. لا شك أنني سأبدأ فورا في قراءة تلك المقالات الجديدة أو التي أجري عليها تعديلات كثيرة، وسأحاول أن أكون نزيها بأقصى درجة يمكن توقعها في حدود المعقول. إن كتابك يبدو على درجة لافتة للنظر من الإعداد.
سأظل يا عزيزي والاس، صديقك المخلص المحب لك دائما.
سي داروين [فيما يلي خطاب أو اثنان يشيران إلى تقدم العمل في كتاب «نشأة الإنسان»؛ فالصور التوضيحية المطبوعة من القوالب الخشبية المشار إليها فيهما، قد أعدت لهذا العمل:]
من تشارلز داروين إلى إيه جونتر
28
23 مارس، [1870؟]
عزيزي جونتر
نظرا إلى أنني لا أعرف عنوان السيد فورد، فهلا تسلم إليه هذه الرسالة التي كتبتها فقط للتعبير عن إعجابي التام بالصور التوضيحية المطبوعة من القوالب الخشبية. إنني سعيد جدا بها. الضرر الوحيد أنها ستجعل كل الصور التوضيحية الأخرى من هذا النوع تبدو رديئة جدا! كلها ممتازة، وأقر بكل صراحة أنني أرى تلك المتعلقة بالريش أروع صورة توضيحية على الإطلاق؛ إذ لا أستطيع منع نفسي من لمسها للتيقن من أنها ملساء. كم أتمنى أن أرى الاثنتين الأخريين، والأهم من ذلك، الصور الخاصة بالريش، والصور الأربع الخاصة بالزواحف، إلخ. ومجددا، أرجو أن تتقبل خالص شكري على كل لطفك. إنني مدين جدا للسيد فورد. فمثل هذه الصور المطبوعة من قوالب خشبية دائما ما كانت أشد مسببات شقائي إيلاما من قبل، وصارت الآن مصدر بهجة حقيقية لي.
مع بالغ إخلاصي
سي داروين
ملحوظة:
كنت أظن أن موضوعي كان من المفترض أن يكون في المطبعة بحلول الوقت الحالي، لكنه تشعب إلى موضوعات فرعية، وقد كلفني هذا وقتا طويلا جدا، والرب وحده يعلم متى ستصبح مخطوطتي كلها جاهزة، لكني لا أتوقف عن العمل أبدا.
من تشارلز داروين إلى إيه جونتر
15 مايو [1870]
عزيزي الدكتور جونتر
أتقدم لك بخالص الشكر. فإجاباتك واضحة وتامة للغاية. لدي بعض الأسئلة المشابهة بخصوص الزواحف، وما إلى ذلك، سأرسلها في غضون بضعة أيام، وأظن أنني لن أزعجك بعد ذلك مجددا. سوف أحصل على الكتب التي تحيلني إليها. إن حالة كائنات جنس السولينوستوما
Solenostoma
29
باهرة، ومشابهة بالضبط لحالة تلك الطيور التي تكون فيها الأنثى أزهى ألوانا، لكنها أفضل عندي 10 مرات؛ لأن الأنثى فيها هي التي تحتضن البيض ليفقس. بينما كنت أتقدم ببطء عبر الطوائف الحيوانية المتتالية، ذهلت عندما وجدت مدى التشابه بين القواعد المتعلقة بالتزاوج أو «ثوب الزفاف» لدى جميع الحيوانات. لقد بدأ الموضوع يثير اهتمامي إلى حد استثنائي، لكني يجب أن أحاول ألا أقع في خطئي المعتاد الشائع بألا أبالغ في التخمين. غير أن السكير قد يقول إنه سيشرب قليلا ولن يبالغ في الشراب! فيما يتعلق بالأسماك والضفدعيات والزواحف، فمقالتي ستكون مطابقة لمقالتك في الواقع، والفارق الوحيد أنها ستكون مكتوبة بقلمي أنا. مع خالص الشكر من صميم قلبي.
تفضل بقبول بالغ إخلاصي
سي داروين [الخطاب التالي مهم؛ لأنه يظهر ما أولاه والدي من عناية هائلة وما تحمله من آلام بالغة في سبيل تكوين رأيه بشأن نقطة صعبة:]
من تشارلز داروين إلى إيه آر والاس
داون، 23 سبتمبر [غير مؤرخ]
عزيزي والاس
إنني في غاية الامتنان لكل العناء الذي تكبدته في أن ترسل إلي خطابك الطويل جدا، الذي سأبقيه بجانبي وأفكر فيه مليا. إن الرد عليه سيستلزم 200 ورقة مطوية بصفحتيها على الأقل! لو كان بالإمكان أن ترى عدد المرات الكثيرة التي أعدت فيها كتابة بعض الصفحات، فستعرف مدى حرصي الشديد على الوصول إلى أقرب ما يمكن من الحقيقة. أركز بشدة على ما أعرف أنه يحدث تحت تأثير التدجين، أظن أننا نبدأ بمفاهيم أساسية مختلفة بشأن الوراثة. أجد أنه من الصعب جدا في رأيي لكن ليس مستحيلا، أن نفهم كيف يمكن، على سبيل المثال، أن ينتهي المطاف ببضع ريشات حمراوات على رأس طائر ذكر، إلى أن تنقل إلى الذكور فقط، بعد أن كانت «تنقل في البداية إلى كلا الجنسين». فلا يكفي أن الإناث، التي يفترض أن تكون خالية من الريش الأحمر، ستنتج من الذكور التي لديها ريش أحمر، بل لا بد أن يكون لدى تلك الإناث «نزعة كامنة» إلى إنتاج مثل هذا الريش، وإلا فقد تتسبب في تدهور ريش الرأس الأحمر لدى نسلها من الذكور. وتظهر هذه النزعة الكامنة بأن تنتج الإناث الريش الأحمر عندما تصبح كبيرة في السن، أو تصاب بمرض في مبيضها. لكني لا أجد صعوبة في أن يكون الرأس كله أحمر إذا كانت الأرياش الحمراوات القليلة الموجودة لدى الذكر من البداية تنتقل غالبا بالاتصال الجنسي. إنني على أتم استعداد للاعتراف باحتمالية أن تكون الأنثى قد عدلت، إما في الوقت نفسه أو لاحقا، من أجل الحماية؛ وذلك بتراكم تباينات محدودة في انتقالها إلى الجنس الأنثوي. أدين لكتاباتك بالتفكير في هذه النقطة الأخيرة. لكني لا أستطيع حتى الآن إقناع نفسي بأن الإناث «وحدها» عدلت في معظم الأحيان من أجل الحماية. فهلا تتكبد العناء وقتا قصيرا ولو على مضض، لتخبرني بما إذا كنت تعتقد أن الرأس الأبسط مظهرا والأقل ألوانا لدى أنثى طائر الحسون الظالم وألوانها الأقل زهوا، والحمرة الأقل على رأس أنثى طائر الحسون وألوانها الأقل نقاء، والحمرة الأقل بكثير على صدر أنثى الدغناش، واللون الأبهت لعرف طائر النمنمة ذي العرف الذهبي، إلى آخر ذلك، قد اكتسبتها هذه الإناث من أجل الحماية. لا أستطيع أن أرى ذلك صحيحا بقدر ما أنني لا أستطيع أن أرى أن الاختلافات الكبيرة بين أنثى طائر الدوري الشائع وذكر هذا الطائر، أو زهو ألوان ذكر القرقف الأزرق (وكلاهما يبني عشه في مكان مستتر) بدرجة أكبر من ألوان أنثى القرقف، متعلقة بالحماية. إنني أشك حتى فيما إذا كان السواد الأقل لدى أنثى الشحرور من أجل الحماية.
أسألك مجددا هل تستطيع أن تعطيني أسبابا لاعتقاد أن الاختلافات المتوسطة بين أنثى طائر الدراج، وأنثى دجاج الأدغال الأحمر، وأنثى الطيهوج الأسود، وأنثى الطاووس، وأنثى الحجل [وذكور كل من هذه الإناث على الترتيب]، كلها لها صلات خاصة بالحماية في ظروف تختلف اختلافا طفيفا؟ بالطبع أعترف بأنها كلها محمية بألوان باهتة، مستمدة، على ما أظن، من سلف ما أرضي باهت، وأرى أن جزءا من اختلافها يرجع إلى انتقال الألوان الجزئي من الذكور، وإلى وسائل أخرى أطول من أن أستطيع ذكرها، لكني أتمنى بصدق أن أرى سببا لاعتقاد أن كلا منها مهيأ خصوصا لإخفائه في بيئته.
يحزنني أن أختلف معك، بل يرعبني، ويفقدني الثقة بنفسي على الدوام. أخشى ألا يفهم كلانا الآخر تماما أبدا. أرى أن حالات الأسماك الذكور التي تحتضن البيض ليفقس وتتسم بألوان ساطعة، والفراشات الأنثوية الزاهية، مهمة فقط لأنها تبين أن أحد الجنسين قد يجعل زاهي الألوان دون أي ضرورة تحتم انتقال الجمال إلى الجنس الآخر؛ لأنني في هذه الحالات لا أستطيع افتراض أن الجمال في الجنس الآخر كبح بالانتقاء.
أخشى أن تكبدك قراءة هذا الخطاب عناء. ستكفيني إجابة قصيرة جدا بخصوص ما تعتقده بشأن إناث طيور الحسون والدجاجيات.
مع أصدق تحياتي يا عزيزي والاس
لك بالغ إخلاصي
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 25 مايو [1870] ... ذهبنا كلنا يوم الجمعة الماضي إلى فندق بول في كامبريدج لرؤية الفتيان والحصول على قليل من الراحة والاستمتاع. الأجزاء الخلفية من الكليات أشبه بقطعة من الجنة. ويوم الإثنين التقيت سيجويك، الذي كان ودودا ولطيفا، في الصباح ظننت أن عقله قد وهن، وفي المساء كان ذكيا وفي حالته الطبيعية تماما كما عهدته دائما. سحرنا كلنا بمودته ولطفه. كانت زيارتي إليه مؤسفة من ناحية ما؛ لأنه بعدما قعدنا معا وقتا طويلا اقترح أن يأخذني إلى المتحف، ولم أستطع الرفض، ونتيجة لذلك أنهكني تماما؛ لذا غادرنا كامبريدج صباح اليوم التالي، ولم أتعاف من الإنهاك بعد. أليس مخزيا أن يقتل المرء هكذا بأيدي رجل عمره 86 عاما، ومن الواضح أنه لم يتصور قط أنه كان يقتلني؟ ذلك أنه قال لي: «حسنا أعتبر أنك محض طفل بالنسبة إلي!» التقيت نيوتن مرارا، والعديد من أصدقاء إف اللطفاء، لكن كامبريدج من دون عزيزي هنزلو ليست كامبريدج التي عهدتها دائما، حاولت الوصول إلى المنزلين القديمين، غير أن المسافة كانت أبعد من أن أستطيع ذلك ...
من تشارلز داروين إلى بي جيه سوليفان
30
داون، 30 يونيو [1870]
عزيزي سوليفان
كانت لفتة طيبة جدا منك أن ترسل إلي خطابا طويلا تخبرني فيه بالكثير عنك وعن أطفالك، وقد سررت للغاية بسماع ما ذكرته. أتأمل مدى بؤسي البالغ وجهلي الشديد؛ إذ لا أرى أحدا ولا أقرأ سوى القليل في الصحف؛ لأنني لم أكن أعرف أنك حصلت على رتبة القائد الفارس. (حتى رأيت ورقة جمعيتك المعنية بالتاريخ الطبيعي.) سررت جدا من أعماق قلبي بأن الحكومة قد أدركت أخيرا جدارتك التامة بهذا اللقب التشريفي النبيل. ومن ناحية أخرى، يؤسفني ما سمعته من كلام سيئ عن حالتك الصحية، لكنك بالطبع تصرفت بطيش شديد جدا عندما فعلت كل ما فعلته ثم ذهبت إلى حدث صاخب جدا ومفعم بالحركة كحفل راقص في القصر. فقد كان هذا كافيا لإرهاق أي رجل حتى وإن كان بصحة متينة. آمل أن تعيد الراحة التامة إليك عافيتك بالرغم من ذلك. أما أنا، فقد تحسنت بعض الشيء مؤخرا، وعندما لا يزعجني شيء، أستطيع العمل لعدد من الساعات يوميا. سأنشر في خريف العام الحالي كتابا آخر يتعلق جزئيا بالإنسان، وأظن أن الكثيرين سيستنكرونه واصفين إياه بأنه خبيث مفعم بالشر. كان بوسعي السفر إلى أكسفورد، لكني لم أعد أستطيع تحمل صخب حفل لإحياء الذكرى
31
أكثر مما أستطيع تحمل حفل راقص في قصر باكنجهام. شكرا جزيلا على تعليقاتك اللطيفة بخصوص أولادي. الشكر للرب، كلهم يعطونني شعورا بالرضا التام؛ إذ يحل ولدي الرابع في المرتبة الثانية في الأكاديمية العسكرية بوولويتش، وسيكون ضابطا مهندسا في أعياد الميلاد. تريد زوجتي أن تبعث بأطيب تحياتها إلى الليدي سوليفان، وأشاركها ذلك بكل صدق، ونهنئكما أيضا بزواج ابنتكما. نحن وحدنا حاليا؛ لأن كل أطفالنا الأصغرين ذهبوا في رحلة إلى سويسرا. لم أكن قد سمعت أي شيء من قبل عن نجاح البعثة التبشيرية إلى تييرا ديل فويجو. إنه أمر رائع جدا، ويخجلني؛ لأنني دائما ما كنت أتنبأ بأنها ستبوء بفشل ذريع. إنه نجاح عظيم. سأشعر بالفخر إذا ارتأت لجنتك أنه من المناسب أن تختارني عضوا شرفيا في جمعيتك. مع كل التمنيات الطيبة والذكريات المفعمة بالحنين إلى الأيام الخوالي.
لك أصدق تحياتي يا عزيزي سوليفان
صديقك المخلص
سي داروين [أثارت علاقة والدي بالبعثة التبشيرية إلى أمريكا الجنوبية، المشار إليها في الخطاب أعلاه، تعليقات من الجمهور، وأسيء فهم هذه العلاقة إلى حد ما. إذ قال رئيس أساقفة كانتربري، في معرض حديثه في الاجتماع السنوي للجمعية التبشيرية في أمريكا الجنوبية، بتاريخ 21 أبريل 1885
32
إن الجمعية «جذبت انتباه تشارلز داروين، وجعلته، في سعيه وراء عجائب مملكة الطبيعة، يدرك وجود مملكة أخرى عجيبة مثلها بالضبط وأدوم منها.» وقد ظهرت بعض النقاشات بخصوص هذا الموضوع في صحيفة «ديلي نيوز» في أيام 23 أبريل من عام 1885 و24 و29 من الشهر نفسه أيضا، وأخيرا أرسل الأدميرال السير جيمس سوليفان، في 24 أبريل، خطابا إلى الجريدة نفسها، وقدم بيانا واضحا عن علاقة والدي بالجمعية: «تحثني مقالتكم المنشورة في «ديلي نيوز» يوم أمس على تقديم بيان صحيح عن العلاقة بين الجمعية التبشيرية في أمريكا الجنوبية والسيد تشارلز داروين، صديقي القديم ورفيقي ضمن طاقم عمل إحدى السفن طوال خمس سنوات. تربطني بالجمعية علاقة وثيقة منذ وفاة النقيب ألين جاردينر، وقد عبر لي السيد داروين مرارا عن قناعته بأنه من غير المجدي تماما إرسال مبشرين إلى مجموعة من الهمج كأهالي ديل فويجو، الذين من المرجح أن يكونوا أدنى مجموعات العرق البشري. ودائما ما كنت أرد عليه بأنني لا أعتقد أن الكون قد وجد فيه أي كائن بشري أدنى من أن يستطيع فهم رسالة إنجيل المسيح البسيطة. وبعد سنوات عديدة، في عام 1869 على ما أظن،
33
أرسل إلي خطابا، لكني لا أستطيع العثور عليه، قائلا فيه إن التقارير الحديثة عن البعثة أثبتت له أنه كان مخطئا وأنني كنت محقا في تقديراتنا لطابع السكان الأصليين، وإمكانية تحسينهم وإفادتهم عن طريق المبشرين، وأرفق مع الخطاب شيكا قيمته خمسة جنيهات، طالبا مني أن أرسله إلى الجمعية، كدليل على اهتمامه ببلائهم الحسن. وفي 6 يونيو 1874، أرسل خطابا قال فيه: «سررت جدا بسماع تقرير جيد جدا عن أهل فويجو، وهو أمر رائع.» وفي 10 يونيو 1879، أرسل خطابا قال فيه: «تقدم أهل فويجو عجيب، ولولا أنه حدث بالفعل، لما صدقته إطلاقا.» وفي 3 يناير 1880، قال في خطاب آخر: «المقتطفات التي اقتبستها [من إحدى المجلات] عن أهل فويجو شائقة للغاية، وأثارت بالغ اهتمامي. قلت مرارا إن تقدم اليابان كان أكبر أعجوبة في العالم، لكني أقر بأن تقدم أهل فويجو هو أعجوبة بالقدر نفسه تقريبا.» وفي 20 مارس 1881: «لم يثر التقرير المتعلق بأهل فويجو اهتمامي فحسب، بل أثار اهتمام أفراد أسرتي كلهم. كم هو رائع حقا ما سمعته من السيد بريدجس عن أمانتهم ولغتهم! كان ينبغي أن أتوقع بالطبع أن ليس كل المبشرين في العالم يستطيعون أن ينجزوا ما أنجز بالفعل.» وفي 1 ديسمبر 1881، كتب في خطاب وهو يرسل إلي تبرعه السنوي لدار الأيتام في مقر البعثة التبشيرية: «بناء على ما ورد في الجريدة التبشيرية «ميشناري جورنال»، يبدو أن البعثة التبشيرية في تييرا ديل فويجو تحرز تقدما جيدا للغاية.»
من تشارلز داروين إلى جون لوبوك
داون، 17 يوليو 1870
عزيزي لوبوك
سمعت أن موضوع إحصاء السكان سيعرض على البرلمان غدا؛ لذا أرسل هذا الخطاب لأقول إنني آمل بشدة أن تعبر عن رأيك وتقول إنه من المستحسن إدراج الاستفسارات المتعلقة بزواج الأقرباء. فمثلما تعلم، أجريت تجارب على هذا الموضوع على مدار عدة سنوات، «وعندي قناعة واضحة بأنه توجد الآن أدلة وافرة على وجود قانون فسيولوجي مهم وجدير بالاعتبار؛ مما يجعل إدراج استفسار يتعلق بالبشرية أمرا شديد الأهمية. ففي إنجلترا وأجزاء كثيرة من أوروبا، يعارض الزواج بين أبناء الأعمام والأخوال المنحدرين من جد واحد استنادا إلى ما له من عواقب ضارة مفترضة، لكن هذا الاعتقاد لا يستند إلى دليل مباشر. ولهذا فثمة حاجة واضحة إلى حسم مدى صحة هذا الاعتقاد، إما بإثبات خطئه أو تأكيد صحته»، لربما يتسنى في هذه الحالة الثانية منع الزواج بين أبناء الأعمام والأخوال المنحدرين من جد واحد. إذا أدرجت الاستفسارات المناسبة، فسوف تبين الإجابات الواردة في تقارير الإحصاء السكاني الرسمية ما إذا كان أبناء الأعمام والأخوال المتزوجون بعضهم من بعض لديهم من الأطفال ما يساوي ما لدى الآباء والأمهات الذين لا تجمعهم صلة قرابة، وإذا ثبت أن العدد أقل، فقد نستنتج بكل تأكيد إما وجود انخفاض في الخصوبة لدى الوالدين، أو انخفاض في قدرة ذريتهم على البقاء أحياء، وهذا الاحتمال الثاني أرجح.
وعلاوة على ذلك، من المنشود بشدة أن يجري التحقق من صحة الادعاء المتكرر مرارا الذي يفيد بأن زواج الأقرباء يؤدي إلى الصمم، والبكم، والعمى، وما إلى ذلك، ويمكن اختبار صحة كل هذه الادعاءات بسهولة عن طريق الإجابات المذكورة في التقارير الرسمية الواردة من عملية إحصاء سكاني واحدة.
مع أصدق تحياتي وبالغ إخلاصي
تشارلز داروين [عندما كان قانون الإحصاء السكاني يمرر عبر مجلس العموم، حاول السير جون لوبوك والدكتور بلايفير وضع هذا الاقتراح حيز التنفيذ. وطرح للتصويت، لكن النتيجة لم تأت في صالحه، وإن لم يكن الفارق في الأصوات كبيرا.
ثم درس أخي موضوع الزواج بين أبناء الأعمام والأخوال وتحرى حقائقه .
34
لكن نتائج هذا العمل الشاق لم تؤكد شيئا؛ إذ يلخص مؤلف البحث نتائجه في هذه الجملة: «ورقتي البحثية بعيدة كل البعد عن تقديم أي شيء قد يكون بمثابة إجابة مقنعة عن السؤال المتعلق بآثار زواج الأقرباء، لكنها تظهر، على ما أظن، أن الادعاء بأن إجابة هذا السؤال قد حسمت بالفعل لا يمكن إثباته.»]
هوامش
الفصل السابع
نشر كتاب «نشأة الإنسان»
العمل على كتاب «التعبير عن العواطف»
1871-1873 [نقحت آخر بروفات الطباعة المعدلة لكتاب «نشأة الإنسان» في 15 يناير 1871، وبذلك فقد انشغل في إنجاز هذا الكتاب نحو ثلاث سنوات. أرسل خطابا إلى السير جيه هوكر قال فيه: «انتهيت من آخر بروفات طباعة كتابي قبل بضعة أيام، لقد أنهكني العمل تماما، ولا أعرف إطلاقا ما إذا كان الكتاب يستحق النشر، أم لا.»
وأرسل خطابا كذلك إلى الدكتور جراي، قائلا: «أتممت كتابي عن «نشأة الإنسان»، إلخ، ولا يؤخر نشره سوى الفهرس، عندما ينشر، سأبعث إليك بنسخة منه، لكني لا أعرف ما إذا كنت ستهتم به. أظن أن بعض أجزائه، كالجزء المتعلق بمسألة الحس الأخلاقي، ستغضبك، وإذا تلقيت خطابا منك، فمن المرجح أنني سأتعرض فيه لبضع طعنات من خنجر قلمك المصقول.»
نشر الكتاب في 24 فبراير 1871. طبعت منه 2500 نسخة في البداية، ثم طبعت 5000 نسخة أخرى قبل نهاية العام. ويذكر والدي أنه جنى 1470 جنيها من هذه الطبعة. تتناول الخطابات الواردة في هذا الفصل الاستقبال الذي لاقاه الكتاب، إضافة إلى تقدم العمل المتعلق بكتاب «التعبير عن العواطف». وستعرض الخطابات هنا بترتيب زمني نوعا ما، وصحيح أن هذا الترتيب يفصل بالطبع بين خطابات ذات موضوعات متشابهة، لكنه ربما يقدم صورة أصدق عن الاهتمامات والمجهودات المختلطة في حياة والدي.
لا شيء يمكن أن يعطي فكرة عن نمو نظرية التطور ووضعها آنذاك (في حيز صغير)، أفضل من هذه الفقرة المقتبسة من السيد هكسلي:
1 «انقضى الزمن تدريجيا حتى صارت الفترة الزمنية التي تفصل بيننا وبين تاريخ نشر كتاب «أصل الأنواع» أكثر من 10 سنوات، ومهما تكن الآراء والأقوال بشأن أفكار السيد داروين أو الطريقة التي طرحها بها، فمن المؤكد تماما أن كتاب «أصل الأنواع» قد أحدث، في 12 عاما، ثورة كاملة في علم الأحياء كتلك التي أحدثها كتاب «مبادئ» في علم الفلك»، وقد أحدث هذه الثورة «لأنه، على حد تعبير هلمهولتز، يحوي «فكرا إبداعيا جديدا في جوهره». ومع مرور الوقت، طرأ تغيير سار على منتقدي السيد داروين. فذلك المزيج من الجهل والتطاول الوقح، الذي كان يتسم به في البداية جانب كبير من الهجمات التي كان يتعرض لها، لم يعد السمة المحزنة التي تميز الانتقادات المعارضة للداروينية.»
تظهر فقرة في مقدمة كتاب «نشأة الإنسان» أن المؤلف أدرك بوضوح هذا التحسن في وضع نظرية التطور. فهو يقول في هذه الفقرة: «عندما يجرؤ عالم تاريخ طبيعي مثل كارل فوجت على أن يقول في خطابه، بصفته رئيسا للمعهد الوطني في جنيف (1869): «لم يعد أحد، في أوروبا على الأقل، يجرؤ على تأييد الفرضية القائلة بأن الأنواع خلقت خلقا مستقلا كل على حدة»، فمن الواضح بكل تأكيد أن عددا كبيرا على الأقل من علماء التاريخ الطبيعي يعترف بأن الأنواع كائنات معدلة منحدرة من أنواع أخرى، وهذا ينطبق بالأخص على علماء التاريخ الطبيعي الصاعدين والأصغر سنا ... فمن بين العلماء البارزين المرموقين الأكبر سنا في العلوم الطبيعية، لا يزال كثيرون، مع الأسف، يعارضون نظرية التطور معارضة تامة.»
وفي مقالة كتبها السيد جيمس هيج بأسلوب لطيف تحت عنوان «قصة من الذاكرة عن السيد داروين» (مجلة «هاربرز ماجازين»، أكتوبر 1884)، يتحدث عن زيارة أجراها إلى والدي «في أوائل عام 1871» (لا شك أنها كانت في نهاية فبراير، في غضون أسبوع بعد نشر الكتاب)، بعد وقت قصير من نشر كتاب «نشأة الإنسان». ويصف هيج والدي بأنه «بهر جدا بالقبول العام الذي حظيت به آراؤه»، وبأنه قال «الجميع يتحدثون عن [الكتاب] دون أن يشعروا بصدمة.»
وفي وقت لاحق من العام نفسه، وصف الاستقبال الذي لاقاه الكتاب بلهجة مختلفة في دورية «ذي إدنبرة ريفيو»:
2 «إنه يثير في جميع الجوانب عاصفة من مزيج من الغضب الشديد والعجب والإعجاب.»
وبخصوص الاستقبال الذي لاقاه كتاب «نشأة الإنسان» لاحقا، أرسل والدي خطابا إلى الدكتور دورن في 3 فبراير 1872، قائلا: «لم أكن أعرف، حتى قرأت مقالتك،
3
أن كتابي «نشأة الإنسان» أثار «ضجة» هائلة في ألمانيا. لقد حظي برواج هائل في هذا البلد وفي أمريكا، لكنه لم يلق استحسان أي من علماء التاريخ الطبيعي تقريبا، على حد علمي. لذا أظن أن نشره كان تصرفا خاطئا مني، لكنه، على أي حال، سيمهد الطريق لعمل أفضل.»
بدأ العمل على كتاب «التعبير عن العواطف» في 17 يناير 1871، وكانت آخر بروفة من بروفات طباعة كتاب «نشأة الإنسان» قد انتهت في 15 يناير. أتم النسخة المبدئية في 27 أبريل، وبعد مدة وجيزة (في يونيو)، قوطع العمل بسبب الانشغال بإعداد طبعة سادسة من كتاب «أصل الأنواع». وفي شهري نوفمبر وديسمبر، شرع في العمل على بروفات طباعة كتاب «التعبير عن العواطف»، وظل منشغلا بذلك حتى العام التالي، عندما نشر الكتاب.
وردت بعض الإشارات إلى العمل على كتاب «التعبير عن العواطف» في خطابات عرضت سلفا، مما يوضح أن أساس الكتاب كان حاضرا لديه على مدار بضع سنوات قبل أن يبدأ فعليا في تأليفه. ومن ثم قال في خطاب إلى الدكتور آسا جراي في 15 أبريل 1867: «أعكف مؤخرا على إخراج ملاحظاتي القديمة عن «التعبير عن العواطف» ومطالعتها بإمعان، وأخشى ألا أستطيع أن أبرز أهمية موضوعي المفضل بالقدر الذي كنت أظن أنني أستطيع إبرازها به، غير أنه يبدو لي موضوعا شائقا أهمل بغرابة.»
بالرغم من ذلك، ينبغي تذكر أن الموضوع كان يشغل باله، إلى حد ما، منذ عام 1837 أو 1838، وذلك استنادا إلى الإدخالات الواردة في دفاتره المبكرة. ذلك أنه كان قد بدأ إجراء ملاحظات على الأطفال في ديسمبر 1839.
تطلب هذا العمل الكثير من المراسلات، وليس ذلك مع المبشرين وغيرهم ممن يعيشون بين الهمج فحسب، والذين كان يرسل إليهم استفساراته المطبوعة، بل مع علماء وظائف الأعضاء والأطباء أيضا. فقد حصل على معلومات كثيرة من البروفيسور دوندرز، والسير دبليو بومان، والسير جيمس باجيت، والدكتور دبليو أوجل، والدكتور كرايتون براون، وكذلك من متخصصين آخرين في الملاحظة.
يشير الخطاب الأول إلى كتاب «نشأة الإنسان».]
من تشارلز داروين إلى إيه آر والاس
داون، 30 يناير [1871]
عزيزي والاس
غمرتني رسالتك
4
بسعادة بالغة، لا سيما أنني كنت حريصا جدا على ألا أعاملك بأي قدر من عدم الاحترام، ومن الصعب جدا على المرء أن يتحدث بإنصاف عندما يختلف في الرأي مع شخص آخر. ولو كنت أسأت إليك، لأصابني ذلك بحزن أشد مما ستقبل بتصديقه. ثانيا، سررت جدا بسماع أن المجلد الأول يثير اهتمامك؛ فأنا قد سئمت الموضوع كله جدا إلى حد أنني صرت أشك في قيمة أي جزء منه على الإطلاق. قصدت، عند الحديث عن أن الإناث لم تعدل خصوصا من أجل الحماية، أن يشمل كلامي منع انتقال السمات التي يكتسبها الذكر إلى الأنثى، لكني الآن أرى أنه كان من الأفضل أن أقول «تتعرض للتأثير خصوصا»، أو مصطلحا ما من هذا القبيل. ربما من الممكن أن يكون قصدي أوضح في المجلد الثاني. دعني أقول إن استنتاجاتي تستند بصفة أساسية إلى النظر إلى الحيوانات كلها باعتبارها مجموعة واحدة، مع مراعاة ما تبدو عليه قواعد الفروق الجنسية من شيوع في جميع الطوائف. كانت النسخة الأولى من الفصل المتعلق بحرشفيات الأجنحة تتفق مع ما تقوله اتفاقا وثيقا جدا. بعد ذلك، واصلت العمل، وعدت إلى جزء حرشفيات الأجنحة، وارتأيت أنني مضطر إلى تعديله، ثم أنهيت جزء الانتقاء الجنسي وطالعت جزء حرشفيات الأجنحة بإمعان للمرة الأخيرة، وشعرت مجددا بأنني مضطر إلى تعديله. أرجو من الرب ألا يكون في المجلد الثاني أي شيء يثير استنكارك، وأن أكون قد تحدثت عن آرائك بإنصاف، أخاف من هذه النقطة؛ لأنني قرأت للتو (ولكن ليس بإمعان كاف) كتاب ميفارت،
5
وأشعر «بيقين تام» أنه كان ينوي أن يكون منصفا (لكنه كان مدفوعا بالحماسة اللاهوتية)، وأنا أرى أنه لم يكن منصفا تماما ... أظن أن الجزء الذي سيترك التأثير الأكبر هو ذاك الذي يطرح فيه السلسلة الكاملة من الحالات المشابهة لحالة عظام الحوت، والتي لا نستطيع أن نفسر فيها الخطوات التدرجية، لكن مثل هذه الحالات لا تشغل بالي، لو أن بضعة أنواع من الأسماك كانت منقرضة، فمن ذا الذي كان سيجرؤ حتى على تخمين أن الرئتين قد نشأتا أصلا في مثانة سباحة؟ وأما في حالة كحالة الببر التسماني، فأرى أنه كان يجب أن يقول إن التشابه بين فكه وفك الكلب مجرد تشابه سطحي؛ لأن الاثنين مختلفان بشدة في عدد الأسنان وتناظرها وتطورها. أرى أيضا أنه، في معرض حديثه عن ضرورة تعديل عدد من السمات معا، لا بد أنه كان يفكر في أن الإنسان لديه القدرة، من خلال الانتقاء، على تعديل نقاط كثيرة تزامنيا، أو على نحو يقترب من ذلك، مثلما هي الحال في تهجين الكلب السلوقي أو خيول السباق، وذلك على النحو الذي عرضت به هذه المسألة بإسهاب في كتابي «الحيوانات الداجنة». يشن ميفارت هجوما شرسا ويبدي احتقارا تجاه ما كتبته عن «الحس الأخلاقي»، ومن المرجح جدا أنك ستفعل ذلك. إنني سعيد للغاية بأنه يتفق مع المرتبة التي وضعت فيها الإنسان، «فيما يتعلق بالطبيعة الحيوانية»، بل إنه يرى أنني أخطأت في المبالغة في تمييزه.
سامحني على إطالة الثرثرة إلى هذا الحد. لقد غمرتني بسعادة بالغة؛ فأشد ما خشيت أن أكون قد عالجت آراءك بلا إنصاف عن غير قصد. آمل بكل صدق أن أتفادى ذلك في المجلد الثاني أيضا. لم أعد أكترث كثيرا الآن بما يقوله الآخرون. أما بخصوص أننا لسنا متفقين تماما، ففي مثل هذه الموضوعات المعقدة، يكاد يكون من المستحيل أن يتفق رجلان اتفاقا تاما، وكل منهما قد توصل إلى استنتاجاته مستقلا عن الآخر، سيكون من غير الطبيعي أن يفعلا ذلك.
مع بالغ إخلاصي إلى الأبد
سي داروين [يبدو أن البروفيسور هيكل كان من أوائل الذين راسلوا والدي بخصوص كتاب «نشأة الإنسان». وفيما يلي، أقتبس من رد والدي الفقرة التالية: «لا بد لي من أن أرسل إليك لأشكرك على خطابك الشائق، ويمكنني أن أقول بكل صدق إنه خطاب ساحر. سررت بأنك تستحسن كتابي إلى الحد الذي بلغته في قراءته. شعرت بحيرة بالغة وشك شديد حيال عدد المرات التي كان يجب أن أشير فيها إلى ما نشرته؛ فالحق أن جميع الأفكار الواردة في كتابي مما قد نشرته من قبل، كان ينبغي أن تذكر على أنها مأخوذة من أعمالك، وإن كنت قد توصلت إليها بصورة مستقلة عنك، لكن هذا كان سيجعل كتابي مملا جدا عند قراءته، فاكتفيت بإدراج اعتراف كامل مني في البداية، على أمل أن يكون ذلك كافيا.
6
لا أستطيع أن أصف لك مدى سعادتي بأنني قد عبرت عن إعجابي الشديد بجهودك بوضوح كاف؛ أنا متيقن من أنني لم أبالغ في التعبير عنه.»]
من تشارلز داروين إلى إيه آر والاس
داون، 16 مارس 1871
عزيزي والاس
قرأت للتو مقالتك النقدية العظيمة.
7
إنك تتحدث عني فيها بلطف بالغ من جميع النواحي، وهي أيضا ممتازة في مادتها. كان آل لايل هنا، وقال السير سي إنه ما من أحد يجيد كتابة المقالات العلمية النقدية مثلك، وكما أضافت الآنسة باكلي، فإن مما يسر منك أيضا انتقاء كل جيد، دون أن تغفل إطلاقا عما هو سيئ. وأنا أتفق معهما تماما في كل ذلك. سأظل على الدوام أرى مقالتك النقدية شرفا عظيما، ومهما كثرت الإساءة التي قد يتعرض لها كتابي فيما بعد، وهو ما سيحدث بالتأكيد، فسأجد العزاء في مقالتك، وإن كنا نختلف بشدة. سأظل محتفظا في ذهني باعتراضاتك على آرائي، لكني أخشى أن تكون هذه الآراء قد صارت ثابتة في ذهني بدرجة كبيرة. ظللت أفكر على مر أسابيع طويلة في الصعوبة التي تطرحها مسألة الوراثة والانتقاء، وغطيت كراسات من الأوراق بكم هائل من الملاحظات سعيا إلى إيجاد حل لها، لكني لم أستطع، وإن كان من الجلي لي أنني سأشعر بارتياح كبير لو استطعت ذلك. سأكتفي بذكر تعليقين أو ثلاثة. لقد أعجبت جدا بالحجة التي تعارض بها أن اللون، في حالة الحشرات، قد اكتسب عن طريق الانتقاء الجنسي.
8
فأنا دائما ما كنت أرى الدليل على ذلك ضعيفا جدا، لكني ما زلت أظن أنه، إذا سلم بأن البنى الموسيقية لدى الحشرات قد اكتسبت عبر الانتقاء الجنسي، فلن يكون من المستبعد إطلاقا أن تكون الألوان قد اكتسبت بالطريقة نفسها. أتفق مع حجتك المتعلقة بتعرية البشر من الشعر، وتلك المتعلقة بالحشرات أيضا، التي تقول فيها إن التفضيلات التي يحبذها أحد الجنسين يجب أن تبقى كما هي تقريبا على مر أجيال عديدة لكي يكون للانتقاء الجنسي أي تأثير، وأعتقد أن هذه الحجة ستكون سليمة إذا استخدمها من أنكر، على سبيل المثال، أن الريش الزاهي الذي يزين طيور الجنة قد اكتسب بهذه الطريقة. أعتقد أنك تسلم بصحة ذلك، وإذا كنت كذلك حقا، فلا أفهم كيف تنطبق حجتك في حالات أخرى. أدركت منذ مدة قصيرة أنني غفلت عن أمر مهم للغاية بأنني لم أناقش، قدر استطاعتي، مسألة اكتساب التفضيلات، وطبيعتها الموروثة، وبقائها على حالها لفترات طويلة دون تغييرات تذكر. [بخصوص نجاح كتاب «نشأة الإنسان»، أقتبس الفقرة التالية من خطاب إلى البروفيسور راي لانكستر (بتاريخ 22 مارس 1871): «أظن أنك ستفرح بسماع أن كتابي حقق مبيعات رائعة، باعتبار ذلك دليلا على التحرر المتزايد الذي تشهده إنجلترا ... لم أتعرض للإساءة حتى الآن بل للازدراء فحسب حتى في دورية «ذا أثنيام» المسكينة» (رغم أنني سوف أتعرض لبعض الإساءات القوية، بلا شك).
بخصوص المقالات النقدية التي لفتت انتباهه، أرسل خطابا إلى السيد والاس (بتاريخ 24 مارس 1871)، قال فيه: «يوجد مقال ثان عن كتابي في صحيفة «بول مول جازيت»، وهو لافت جدا للانتباه. وقد أثارت المقالات الواردة في مجلة «ذا سبيكتاتور»
9
أيضا بالغ اهتمامي.
وفي 20 مارس، قال في خطاب إلى السيد موراي: «شكرا جزيلا على جريدة «ذا نونكونفورميست» [8 مارس 1871]. فأنا أحب الاطلاع على كل ما يكتب، وهذا يحمل لي بعض الفائدة الحقيقية. إذا سمعت بنقاد في الصحف غير المألوفة، لا سيما الصحف الدينية، مثل «ريكورد» و«ذا جارديان» و«ذا تابلت»، فلتتكرم بإخباري. من الرائع أن الكتاب لم يقابل بإساءات
10
حتى الآن، لكني أظن أنني سأتعرض لها لا محالة. في العموم ، تحمل المقالات النقدية استحسانا شديدا.»
تشير الفقرة التالية، المقتبسة من خطاب إلى السيد موراي (13 أبريل 1871)، إلى مقالة نقدية في صحيفة «ذا تايمز».
11 «ليست لدي أي فكرة عن هوية كاتب مقالة «ذا تايمز». إنه غير ملم بالعلوم، ويبدو لي رجلا ثرثارا مليئا بالأفكار الميتافيزيقية والكلاسيكية؛ لذا لا أكترث كثيرا بحجته المعارضة، وإن كنت أعتقد أنها ستلحق ضررا بمبيعات الكتاب.»
ورد نقد لكتاب «نشأة الإنسان» في دورية «ذا ساترداي ريفيو» (4 مارس و11 مارس من عام 1871). وقد تحدث عنه والدي واصفا إياه بأنه «ممتاز». ويمكن اقتباس فقرة من المقال النقدي الأول (الذي نشر في 4 مارس) لتوضيح الأساس العريض للقبول العام الذي تحظى به فكرة التطور الآن: «إنه يدعي أنه ضم الإنسان نفسه وأصله وتكوينه ضمن هذا الإطار الموحد الذي كان يسعى سابقا إلى تتبعه عبر كل أشكال الحيوانات الأدنى رتبة. وقد أسفر نمو الآراء في تلك الفترة الزمنية، بفضل أعماله التي توسطتها في المقام الأول، عن وضع مناقشة هذه المسألة في مكانة أفضل بكثير من التي كانت تشغلها قبل 15 عاما. فنادرا ما كانت مسألة التطور تعالج حينذاك على أنها أحد المبادئ الأولى، ولم يعد السيد داروين ملزما بخوض معركة ليحظى بفرصة أولى يعرض فيها الحجج المركزية لفرضيته، التي تحظى كما هي بدعم من كتيبة من الأسماء المميزة والواعدة جدا في نصفي الكرة الأرضية كليهما.»
يبدو أن نتوء الأذن، الذي اكتشفه السيد وولنر، ووصف في كتاب «نشأة الإنسان» قد بهر المخيلة الشعبية؛ إذ قال والدي في خطاب إلى السيد وولنر: «صارت تلك المنطقة الناتئة في أعلى الأذن شهيرة جدا. فها هو ذا أحد النقاد (دورية «نيتشر») يقول إنها يجب أن تسمى، كما اقترحت مازحا، بالزاوية الوولنرية.
12
وثمة رجل ألماني يشعر بالفخر الشديد لأنه اكتشف أن النتوء في أذنيه تام التطور، وأعتقد أنه سيرسل إلي صورة فوتوغرافية لأذنيه.»]
من تشارلز داروين إلى جون برودي إنيس
13
داون، 29 مايو [1871]
عزيزي إنيس
سررت جدا بتلقي خطابك المبهج؛ لأنني، للأمانة، أحيانا ما كنت أتساءل عما إذا كنت ستراني منبوذا هالكا بعد نشر كتابي الأخير [«نشأة الإنسان»].
14
لا أتعجب إطلاقا من أنك لا تتفق معي ؛ فكثير من علماء التاريخ الطبيعي المتمرسين لا يتفقون معي أيضا. بالرغم من ذلك، حين أرى مدى الغرابة الشديدة التي تغير بها حكم علماء التاريخ الطبيعي منذ أن نشرت كتاب «أصل الأنواع»، أشعر باقتناع أننا سنشهد، في غضون 10 سنوات، إجماعا مماثلا بشأن مسألة جسد الإنسان ... [تتناول الخطابات التالية المرسلة إلى الدكتور أوجل تقدم العمل على كتاب «التعبير عن العواطف».]
داون، 12 مارس [1871]
عزيزي الدكتور أوجل
تلقيت خطابيك كليهما، وهما يخبرانني بكل ما كنت أريد معرفته بأوضح طريقة ممكنة، كدأب خطاباتك دائما بالفعل. أشكرك من أعماق قلبي. سأطرح حالة القاتل
15
في مقالة موضوعي المفضل المتعلق بالتعبير عن العواطف. أخشى أن يكون سؤال قناة استاكيوس قد كبدك جهدا مضنيا؛ فإجابتك عليه تشكل مقالة قصيرة مكتملة. من الواضح تماما أن الفم لا يفتح عند الدهشة لتحسين السمع فحسب. لكن لماذا يبقي الرجال الصم أفواههم مفتوحة عادة؟ منذ بضعة أيام، كان ثمة رجل هنا يقلد صديقا أصم، وذلك بإمالة رأسه إلى الأمام والجانبين نحو المتحدث، فاغرا فاه، كان ذلك تمثيلا حيا لرجل أصم. يقول شكسبير في موضع ما: «احبس أنفاسك واستمع» أو «أنصت»، لا أتذكر أيهما بالتحديد. الدهشة تسرع الأنفاس، ويبدو لي أن المرء يستطيع، عند التنفس السريع على الأقل، أن يتنفس عبر فمه المفتوح بهدوء أكبر مما يتيسر له عند تنفسه عبر أنفه. رأيت منذ بضعة أيام أنك شككت في ذلك. نظرا إلى أن الاعتراض هو اختصاصك في هذه الأيام، فأظن أن التنفس عبر الأنف يقع ضمن نطاقه كذلك؛ لذا أرجو أن تتأمل هذه النقطة، وتخبرني برأيك. اعتبر الأنف زهرة تلقح، وعندئذ ستفهم الأمر برمته.
16
اضطررت إلى أن أشير إلى ورقتك البحثية عن «حاسة الشم»؛
17
فهل ترقيم الصفحات صحيح، أعني هل يسير على هذا المنوال: 1، 2، 3؟ إذا لم يكن كذلك، فأنا أعترض بشدة على الخطة التي اتبعها البعض بترقيم النسخ المهداة ترقيما خاطئا، وكذلك يعترض رولستون على هذا أيضا، كما قال لي في خطاب قبل بضعة أيام. في عجالة سريعة.
مع بالغ إخلاصي
سي داروين
من تشارلز داروين إلى دبليو أوجل
داون، 25 مارس [1871]
عزيزي الدكتور أوجل
ستظنني مملا بغيضا، لكن «ثمة نقطة جديدة أود ملاحظتها»؛ ولهذا ألتمس منك أن تتخيل بأشد إتقان ممكن أنك تصادف شيئا مرعبا فجأة، وتتفاعل مع ذلك بهزة بسيطة مفاجئة، «رعشة رعب»، فلتفعل ذلك من فضلك مرة أو اثنتين، ولتلاحظ نفسك بأفضل ما تستطيع، ولتقرأ «بعدئذ» الجزء المتبقي من هذه الرسالة، الذي وضعته بناء على أنك ستفعل ذلك. فقد أدهشني ما وجدته من أن عضلتي الجلدية العنقية تنقبض كلما تصرفت بهذه الطريقة. هل تنقبض تلك العضلة لديك؟ (ملحوظة: انظر إلى ما يمكن أن يفعله المرء من أجل العلم؛ فها أنا ذا قد بدأت هذه الرسالة بكذبة فظيعة، ألا وهي أنني أريدك أن تدرس نقطة جديدة).
18
سأحاول أن أجعل بعض الأشخاص، الذين من حسن حظهم أنهم لا يعرفون حتى بوجود هذه العضلة لديهم، أن يتصرفوا بهذه الطريقة، من المرهق جدا لأي شخص أن يفهم مسألة التعبير عن العواطف. هل الرعشة شبيهة بالارتجافة أو الارتعاشة التي تصيب المرء قبل الحمى؟ إذا كانت كذلك، فربما يمكن ملاحظة العضلة الجلدية العنقية في مثل هذه الحالات. لقد أخبرني باجيت بأنه كان مهتما جدا بمسألة الارتعاش، وكتب مخطوطة عن هذا الموضوع، وأنه كان يحيره بشدة. ذكر أيضا أن تمرير القسطرة غالبا ما يسبب ارتعاشة. ربما سأرسل إليه خطابا بخصوص العضلة الجلدية العنقية. فهو دائما ما يبدي كرما بالغا في مساعدتي بشتى الطرق، لكنه يفرط كثيرا في العمل، ولهذا يؤلم ضميري أن أزعجه؛ فأنا أيضا ذو ضمير، وإن لم يكن كبيرا كما يحق لك أن تعتقد ذلك. ساعدني إذا استطعت، وسامحني. لقد كانت حالة القاتل التي أرسلتها إلي مثالا رائعا على الانهيار من شدة الخوف.
مع بالغ إخلاصي
سي داروين
من تشارلز داروين إلى الدكتور أوجل
داون، 29 أبريل [1871]
عزيزي الدكتور أوجل
إنني ممتن حقا لكل العناء البالغ الذي تكرمت بتحمله من أجلي. وأنا متيقن من عدم وجود مبرر يجعلك تعتذر لأنك لم تستطع إعطائي معلومات محددة؛ فما أمددتني به بالفعل أكثر بكثير مما توقعت الحصول عليه إطلاقا. لا تهمني حركة العضلة الجلدية العنقية كثيرا، لكني أعتقد أنك ستتفهم (لأني أتصور دائما أن عقلينا متشابهان جدا) رغبتي الشديدة في ألا أكون متحيرا تماما. صرت أعرف الآن أنها أحيانا ما تنقبض بسبب الخوف والارتجاف، لكنها، على ما يبدو، لا تنقبض بسبب الإصابة بحالة خوف مطولة كالتي يعانيها المجانين ... [نشر كتاب السيد ميفارت «تكون الأنواع» - الذي يعد إسهاما في مؤلفات التطور، والذي أثار اهتماما بالغا - في عام 1871، قبل ظهور كتاب «نشأة الإنسان». ويشير الخطاب التالي، المرسل من الراحل تشونسي رايت إلى والدي (بتاريخ 21 يونيو 1871)، إلى هذا الكتاب]: «أرسل ... بروفات طباعة منقحة خاصة بمقالة ستنشر في عدد يوليو من مجلة «نورث أميريكان ريفيو»؛ وأرسلها على أمل أن تنال اهتمامك أو تكون حتى ذات قيمة كبيرة لك. يبدو لي أن كتاب السيد ميفارت [«تكون الأنواع»]، الذي تعد هذه المقالة في الأساس نقدا له، بمثابة خلفية جيدة جدا يمكن الاستناد إليها في تقديم الاعتبارات التي كنت أسعى إلى طرحها في المقالة، دفاعا عن نظرية الانتقاء الطبيعي وتوضيحا لها. كانت غايتي الخاصة هي الإسهام في النظرية بوضعها في موضعها الصحيح من الأسئلة الفلسفية بوجه عام.»
19
بخصوص بروفات الطباعة المرسلة من السيد رايت، كتب والدي خطابا إلى السيد والاس قال فيه:]
داون، 9 يوليو [1871]
عزيزي والاس
أرسل ضمن هذه الدفعة البريدية مقالة نقدية كتبها تشونسي رايت؛ لأنني أرغب بشدة في أن يصلني رأيك فيه حالما تستطيع إرساله. فأنا أعتبرك ناقدا أفضل مني بكثير. تبدو لي المقالة مثيرة للإعجاب، وإن كانت مكتوبة بأسلوب غير واضح، وسيئة في بعض أجزائها بسبب نقص المعرفة. لكتاب ميفارت تأثير بالغ ضد نظرية الانتقاء الطبيعي، وضدي بالأخص. ومن ثم، إذا رأيت أن المقالة جيدة ولو نسبيا، فسأرسل خطابا للحصول على إذن بنشرها في صورة كتيب صغير من تلك الكتيبات التي تباع بشلن، مع الإضافات الواردة في المخطوطة (مرفقة بهذا الخطاب)، التي لم يتسع المقام لذكرها في نهاية المقالة ...
أعمل الآن على إصدار طبعة جديدة ورخيصة من كتاب «أصل الأنواع»، وسوف أرد على عدة نقاط من تلك التي وردت في كتاب ميفارت، وأدرج فصلا جديدا لهذا الغرض، لكني أتناول الموضوع تناولا يركز على الجانب المادي الملموس بدرجة أكبر كثيرا من تلك التي يتسم بها عمل رايت، بينما يقل تركيزي على المعالجة الفلسفية؛ فلن تتضارب المناقشة التي يعرضها أحدنا مع ما يعرضه الآخر. ستظنني متعصبا حين أقول إنني، بعدما درست ما كتبه ميفارت، لم أكن من قبل أشد اقتناعا من الآن بأن الآراء الواردة في كتاب «أصل الأنواع» صحيحة «في العموم» (أي دون تفصيل). حزنت عندما رأيت ما حذفه ميفارت من كلامي، وهذا ما اكتشفه رايت.
20
لقد شكوت إلى ميفارت من أنه يكتفي، في حالتين، باقتباس بداية عباراتي، ومن ثم يغير مقصدي، لكني لم أظن قط أنه سيحذف كلمات. وتوجد حالات أخرى مما أعتبره معاملة غير منصفة. أستنتج مع الأسف الشديد أنه، وإن كان ينوي التحلي بالأمانة، متعصب جدا إلى حد يعجزه عن التصرف بإنصاف ...
من تشارلز داروين إلى تشونسي رايت
داون، 14 يوليو 1871
سيدي العزيز
نادرا ما قرأت في حياتي مقالة غمرتني ببالغ الرضا كالمقالة النقدية التي تكرمت بإرسالها إلي. أوافقك في كل ما تقوله تقريبا. لا بد أن ذاكرتك دقيقة للغاية؛ لأنك تعرف أعمالي جيدا قدر ما أعرفها أنا شخصيا، ثم إن قدرتك على فهم أفكار الآخرين مذهلة حقا، وهذه، على حد خبرتي، صفة نادرة جدا. بينما كنت أمضي قدما في القراءة، أدركت كيف اكتسبت هذه القدرة؛ بتحليل كل كلمة تحليلا شاملا. ... الآن سألتمس منك أن تسدي لي صنيعا. هلا تأذن لي مؤقتا بإعادة طبع مقالتك في صورة كتيب صغير بشلن؟ أطلب ذلك مؤقتا فقط؛ لأنني لم أحظ بعد بمتسع من الوقت للتفكير في الموضوع. أتصور أن ذلك سيكلفني، نحو 20 أو 30 جنيها بما في ذلك تكلفة الإعلانات، لكن الأسوأ هو أن الكتيبات، حسبما أسمع، لا تحقق أي مبيعات. هل ترى أنك ستتكبد عناء شديدا فوق طاقتك في سبيل أن ترسل إلي عنوانا «تحسبا لاحتمالية إصدار الكتيب»؟ أظن أن العنوان ينبغي أن يتضمن اسم ميفارت. ... إذا منحتني الإذن وأرسلت عنوانا، فهذا يعني أنك ستتكرم وتتفهم أنني سأجري مزيدا من الاستفسارات أولا عما إذا كان ثمة أي احتمال أن يقرأ كتيب كهذا.
أرجو أن تتقبل أصدق تحياتي وخالص امتناني
سي داروين [نشر الكتيب في الخريف، وفي 23 أكتوبر أرسل والدي خطابا إلى السيد رايت، قال فيه: «سررت جدا بأنك راض عن ظهور كتيبك. أنا متيقن من أنه سيقدم خدمة جليلة لقضيتنا، وهذا هو الرأي نفسه الذي عبر لي عنه هكسلي.» («خطابات تشونسي رايت»، الصفحة 235).]
من تشارلز داروين إلى إيه آر والاس
داون، 12 يوليو [1871] ... أشك بشدة في مدى النجاح الذي سأحققه في الرد على ميفارت، فمن الصعب جدا أن أرد على اعتراضات على نقاط مشكوك فيها، وأن أجعل النقاش واضحا للقراء بسلاسة. سأكتفي بانتقاء نقاط معينة فقط. أسوأ ما في الأمر أنني ربما لا أستطيع الاطلاع على كل مراجعي بحثا عن نقاط منفصلة؛ فهذا سيستغرق مني ثلاثة أسابيع من الجهد الشاق للغاية. ليتني كنت أملك قدرتك على الحجاج بوضوح. أشعر حاليا بالسأم من كل شيء، ولو استطعت أن أشغل وقتي وأنسى همومي، أو بالأحرى مآسي اليومية، فلن أنشر كلمة أخرى أبدا. ولكن يمكنني القول إنني سأبتهج قريبا، بعدما تعافيت للتو من هجوم سيئ. إلى اللقاء، لا أعرف إطلاقا لماذا أزعجك بشئوني. لا أستطيع أن أقول عن الحلقات المفقودة زيادة عما قلته. ينبغي أن أعتمد بشدة على عصور ما قبل السيلوري، لكن السير دبليو تومسون يظهر حينئذ كشبح بغيض. إلى اللقاء. ... يوجد نقد لاذع جدا لي في دورية «ذا كورترلي ريفيو»،
21
لم أقرأ منه سوى بضع صفحات. ما رأيته فيه من براعة وأسلوب يجعلانني أظن أن ميفارت هو كاتبه. سينظر إلي قريبا على أنني أحقر الرجال. هذا النقد في دورية «ذا كورترلي ريفيو» يحضني على إعادة نشر ما كتبه سي رايت، وإن كان لن يقرأ على الإطلاق؛ لأظهر فقط أنه يوجد من يعارض ميفارت، وأن ما يقوله (أي ميفارت) ينبغي ألا يصدق دون تفكير ... الرب وحده يعلم ما إذا كانت قدرتي وروحي المعنوية ستصمدان إلى أن أنشر فصلا ضد ميفارت وآخرين؛ فأنا أكره الجدال بشدة، وأشعر بأنني سأفعل ذلك على نحو سيئ جدا. [كان نقد دورية «ذا كورترلي ريفيو» المذكور أعلاه موضوع مقال كتبه السيد هكسلي في عدد نوفمبر من مجلة «ذا كونتيمبوراري ريفيو». وكذلك نوقش في هذا المقال مجلد السيد والاس الذي يحمل عنوان «إسهام في نظرية الانتقاء الطبيعي»، والطبعة الثانية من كتاب «تكون الأنواع» للسيد ميفارت. سنعرض فيما يلي مقتطفا من مقال السيد هكسلي. يعتقد ناقد دورية «ذا كورترلي ريفيو»، وإن كان مؤمنا بفرضية التطور إلى حد ما، أن الإنسان «أكثر اختلافا عن الفيل أو الغوريلا، من اختلاف هؤلاء عن تراب الأرض الذي تطؤه أقدامها.» ويدعي الناقد أيضا أن والدي قد «ازدرى المبادئ الأولى للفلسفة والدين كليهما بمعارضة لا داعي إليها». وينتقل السيد هكسلي من الادعاء الآخر، الذي يؤكد فيه ناقد دورية «ذا كورترلي ريفيو» عدم وجود تعارض ضروري بين التطور والدين، إلى الموقف الأكثر وضوحا الذي يتبناه السيد ميفارت، ومفاده أن المسئولين التقليديين في الكنيسة الكاثوليكية الرومانية يتفقون بكل وضوح على تأكيد الخلق الاشتقاقي، ومن ثم «تتوافق تعاليمهم مع كل ما قد يتطلبه العلم الحديث». وهنا شعر السيد هكسلي بالحاجة إلى «دراسة الفلسفة المسيحية» (بثوبها اليسوعي، علي أية حال)، والذي يتحدث به السيد ميفارت، فبدأ العمل على سد هذه الحاجة فورا. كان يقيم آنذاك في سانت أندروز، وأرسل من هناك خطابا إلى والدي قائلا: «من حسن حظي الشديد، أنه توجد هنا مكتبة ممتازة، وفيها نسخة جيدة من كتاب سواريز،
22
في دزينة من المطويات. فغصت بينها، أدهش هذا قيم المكتبة بشدة، وبعدما تفحصتها «كما يحدق طائر أبي الحناء المتيقظ إلى فخ الحفار»،
23
أخذت معي المجلدين الجليلين اللذين كانا مغلقين بأبازيم وكانا واعدين جدا.» حتى أولئك الذين يعرفون قدرة السيد هكسلي التي لا تضاهى على دحض أي كتاب فلا بد أنهم تعجبوا من البراعة التي جعل بها كلام سواريز يؤيد موقفه. ذلك أنه كتب قائلا: «لقد خرجت من هذا في ثوب شخصية جديدة بتحولي إلى مدافع عن المعتقدات الدينية التقليدية الكاثوليكية، وأفحمت ميفارت بكلام من فم نبيه الذي يؤمن به.»
ويركز معظم الجزء المتبقي من نقد السيد هكسلي على تشريح نفسية ناقد دورية «ذا كورترلي ريفيو» وآرائه الأخلاقية. ويتناول أيضا اعتراضات السيد والاس على نظرية التطور من خلال أسباب طبيعية فيما يتعلق بالقدرات العقلية للإنسان. وأخيرا، خصص صفحتين لتبرير وصفه معاملة ناقد دورية «ذا كورترلي ريفيو» للسيد داروين بأنها «غير منصفة وغير لائقة على حد سواء.»
سيتبين أن الخطابين التاليين كتبا قبل نشر مقالة السيد هكسلي.]
من تشارلز داروين إلى تي إتش هكسلي
داون، 21 سبتمبر [1871]
عزيزي هكسلي
لقد أسعدني خطابك بشدة من نواح عديدة ... يا لك من رجل رائع لأنك تتحمل مشقة التعامل مع كتب الألوهية الميتافيزيقية القديمة هذه! يسرني جدا أنك سترد على ما قاله ميفارت وتهاجمه إلى حد ما. لقد أحدث كتابه تأثيرا بالغا، كما تقول؛ إذ لاحظت أصداءه يوم أمس، حتى من إيطاليا. كان هذا هو ما جعلني أطلب من تشونسي رايت أن ينشر، على نفقتي الخاصة، مقالته التي أراها ذكية جدا، وإن كانت مكتوبة بأسلوب سيئ. ذلك أنه لا يملك من المعرفة ما يكفي لتناول ما قاله ميفارت بالتفصيل. أظن أنه لا يمكن أن يوجد أدنى شك في أنه هو كاتب مقالة دورية «ذا كورترلي ريفيو» ... أعمل الآن على إعداد طبعة جديدة من كتاب «أصل الأنواع»، وسوف أدرج فصلا جديدا للرد على اعتراضات متنوعة، وسأخصص الجزء الأكبر للرد على ما طرحه ميفارت من الحالات التي تتضمن صعوبة متمثلة في وجود بنى أولية ليس لها فائدة، وأجد أنني أستطيع فعل ذلك بسهولة. فهو لم يعرض حجته بإنصاف قط، ويرتكب أخطاء عجيبة ... البساط يسحب الآن من تحت أقدامنا نحو الجهة الأخرى، لكني واثق من أنه سيعود إلى أسفل أقدامنا قريبا، وما من إنسان سيفعل نصف ما تفعله في سبيل إعطاء ذاك البساط دفعة نحو الجهة الصحيحة، مثلما فعلت في البداية. فليسامحني الرب على كتابة مثل هذا الخطاب الطويل المغرور، لكن هذا خطؤك لأنك غمرتني بسرور بالغ؛ فأنا لم أتصور قط أنك ستحظى بمتسع من الوقت لقول كلمة واحدة دفاعا عن قضيتنا، التي دافعت عنها مرارا. ستكون معركة طويلة بعدما نموت ونفنى ... فما أشد قوة التحريف ...
من تشارلز داروين إلى تي إتش هكسلي
داون، 30 سبتمبر [1871]
عزيزي هكسلي
كانت لفتة طيبة جدا منك أن ترسل إلي بروفات الطباعة؛ لأنني كنت متلهفا «جدا» لقراءة مقالتك. لقد سررت بها. إنك تسحق أفكار ميفارت اللاهوتية بقوة، تكاد هذه المقالة تضاهي مقالتك التي كتبتها ضد كونت،
24
والتي لا يمكن أن تفوقها أي مقالة أخرى أبدا ... لكن ما أسعدني على نحو استثنائي هو قراءة النقاش الذي طرحته عن الأفكار الميتافيزيقية [لدى ناقد دورية «ذا كورترلي ريفيو»]، لا سيما عن العقل وتعريفه له. كنت متيقنا من أنه كان مخطئا، ولكن لما لم يكن لدي ما أعتمد عليه سوى الملاحظة السليمة والحس المنطقي السليم، فلم أعرف ما يمكنني أن أقوله في طبعتي الثانية من كتاب «نشأة الإنسان». أما الآن، فسأستوفي هذا الغرض بحاشية سفلية وإحالة مرجعية إليك ... يمثل هذا الجزء، من وجهة نظري الشخصية، أحد «أهم» أجزاء المقالة. بالرغم من ذلك، فما «أسعدني» شخصيا بالأخص هو أن كلماتي القليلة
25
عن التمييز بين شكلي السلوك الأخلاقي اللذين طرحهما ميفارت، إن جاز أن يسمى تمييزا، قد لفتت انتباهك. إنني مسرور جدا لأنك تتبنى الرأي نفسه وتعرض مصادر مرجعية تؤيده، لكني بحثت في كتابات ستيورات مل عن أي شيء بخصوص هذه المسألة دون جدوى. ما أروع الطريقة التي تعرض بها حجتك كاملة! إنني أنتقل من جزء ممتاز إلى آخر أفضل منه؛ لأنني رغم كل شيء أظن أن الجزء الأفضل في مقالتك كلها هو حججك التي طرحتها ضد والاس بخصوص فكر الهمج. لا بد أن أخبرك بما قاله هوكر لي قبل بضع سنوات. لقد قال لي: «عندما أقرأ كتابات هكسلي، أشعر بأن فكري طفولي جدا.» أقسم أنني شعرت بأن هذا حقيقي بالفعل طوال مقالتك. يا لك من رجل. إنها تضم الكثير جدا من الفقرات الرائعة، ولا تخلو من ومضات البديهة الثاقبة. لقد غمرني الجزء الختامي من مقالتك بما هو أكثر بكثير من مجرد سعادة عادية، لا سيما أنني أعترف بأنني شعرت بالخزي بسبب اتهامي بالتعصب والغطرسة، وغير ذلك في دورية «ذا كورترلي ريفيو». لكني أؤكد لك أنه، حتى وإن كتب أسوأ ما لديه، فلن يشعرني بالخزي مرة أخرى أبدا.
مع خالص امتناني يا عزيزي هكسلي
تشارلز داروين
من تشارلز داروين إلى إف مولر
هيردين، ألبري، 2 أغسطس [1871]
سيدي العزيز
أثار خطابك الأخير بالغ اهتمامي؛ فهو غني للغاية بالحقائق والأفكار الأصلية. اسمح لي أولا بالتعبير عن سعادتي البالغة بما قلته عن كتابي. لقد حقق مبيعات «هائلة»، لكني تعرضت لإساءات بالغة بسببه، ولا سيما بسبب الفصل المتعلق بموضوع الحس الأخلاقي، ومعظم النقاد يعتبرون كتابي سيئا. الرب وحده يعلم ما المحاسن التي ربما تكون كامنة فيه حقا، كل ما أعرفه أنني بذلت كل ما بوسعي. أظن أن علماء التاريخ الطبيعي، مع التعود، سيتقبلون فكرة الانتقاء الجنسي بدرجة أكبر من تلك التي يبدو أنهم ميالون إليها الآن. أرغب بشدة في نشر خطابك، غير أنني لا أعرف كيف أجعله مفهوما واضحا دون كم هائل من الرسومات التوضيحية الملونة، لكني سأستشير السيد والاس بخصوص هذه النقطة. آمل بكل صدق أن تكون محتفظا بملاحظات من كل خطاباتك، وأن تنشر كتابا يوما ما، بعنوان «ملاحظات عالم تاريخ طبيعي في جنوب البرازيل»، أو شيء من هذا القبيل. لا يعترف والاس إطلاقا باحتمالية وجود انتقاء جنسي لدى حرشفيات الأجنحة، ومن المؤكد أن هذا مستبعد جدا. لذا سررت جدا حين عرفت بأمر الحالات التي طرحتها لمجموعتي الفراشات النطاطة
Hesperiadæ ، التي تعرض أجنحتها بشكل مختلف، وفقا لأي من سطحي الأجنحة هو الملون، وسوف أستشهد بهذه الحالات في الطبعة التالية. لا أستطيع أن أصدق أن هذا يحدث مصادفة وبلا هدف معين ...
لم تثر اهتمامي أي حقيقة في خطابك أكثر مما أثارته تلك المتعلقة بالمحاكاة التنكرية . إنها حقيقة ممتازة عن أن الذكور يسعون وراء الإناث الخاطئة. إنك تطرح صعوبة الخطوات الأولى في المحاكاة التنكرية بطريقة لافتة و«مقنعة» جدا. لقد أثارت فكرتك عن أن الانتقاء الجنسي ساعد المحاكاة التنكرية الوقائية، بالغ اهتمامي؛ لأن الفكرة نفسها خطرت ببالي سلفا في حالات مختلفة تماما، وهي شحوب ألوان كل الحيوانات في أرخبيل جالاباجوس وباتاجونيا، إلخ، وفي بعض الحالات الأخرى أيضا، لكني خفت حتى من التلميح إلى فكرة كهذه. هل تمانع أن أدرج جملة ما على النحو التالي: «يظن إف مولر أن الانتقاء الجنسي ربما ظهر لمساعدة المحاكاة التنكرية الوقائية، بطريقة غريبة جدا سيراها أولئك الذين لا يؤمنون تماما بالانتقاء الجنسي مستبعدة للغاية. وهي أن الإعجاب بلون معين يتطور لدى تلك الأنواع التي كثيرا ما ترى أنواعا أخرى مزينة بهذا اللون.» اسمح لي مرة أخرى بأن أشكرك من صميم قلبي على خطابك المثير جدا للاهتمام ...
من تشارلز داروين إلى إي بي تايلور
داون، [24 سبتمبر 1871]
سيدي العزيز
آمل أن تسمح لي بالتعبير عن بالغ سعادتي إذ أخبرك بمدى الاهتمام الشديد الذي أثاره لدي كتابك «الثقافة البدائية»، الآن وقد فرغت من قراءته. أرى أنه عمل عميق جدا، ومن المؤكد أنه سيكون قيما على الدوام، وسيظل مرجعا طوال سنوات قادمة. ما أروع الطريقة التي تتبع بها الأرواحية لدى الأعراق الأدنى رتبة إلى الإيمان الديني لدى أعلى الأعراق رتبة. إن هذا الكتاب سيجعلني أنظر إلى الدين - الإيمان بالروح، إلخ - من منظور جديد. كم غريبة هي أيضا بقايا العادات السائدة القديمة أو آثارها ... ربما ستدهش من تأخري كل هذه الفترة قبل أن أرسل خطابا إليك، لكن الكتاب كان يتلى علي، وبسبب مرضي الشديد مؤخرا، لم أكن أتحمل سوى فترات قصيرة من القراءة بين حين وآخر. من المؤكد أن إنجاز هذا العمل قد كبدك جهدا مضنيا. على أية حال، آمل بكل صدق أن تتحمس لتناول مسألة الأخلاق بالأسلوب الموسع نفسه، الممزوج بالحذر، الذي تناولت به مسألة الأرواحية. يبدو لي من الفصل الأخير أنك فكرت في هذا . لم يكن لأحد أن يجيد إنجاز هذا العمل بقدر إجادتك الشديدة، ومن المؤكد أن الموضوع بالغ الأهمية ومثير جدا للاهتمام. لا شك أن لديك الآن مراجع ترشدك نحو الوصول إلى تقدير سليم لأخلاق الهمج، وشد ما يختلف عدة كتاب، مثل والاس، ولوبوك، إلخ، إلخ، في هذه المسألة. عذرا على إزعاجك، وتقبل أصدق تحياتي واحترامي الشديد.
مع بالغ إخلاصي
سي داروين
1872 [في بداية العام، كانت الطبعة السادسة من كتاب أصل الأنواع»، التي بدأت في يونيو من عام 1871، على مشارف الاكتمال. نقحت بروفة الطباعة الأخيرة في 10 يناير 1872، ونشر الكتاب في أثناء ذلك الشهر. يختلف مجلد هذه الطبعة عن مجلدات الطبعات السابقة في المظهر والحجم؛ فهو يتكون من 458 صفحة بدلا من 596 صفحة، وأخف وزنا ببضع أوقيات، وطبع على ورق رديء، بخط صغير، مع تكديس السطور بالقرب من بعضها إلى حد مثير للاستياء. غير أنه كان يتفوق على الطبعات السابقة بميزة واحدة فقط؛ ألا وهي أنه طرح بسعر أقل. من المؤسف أن هذه الطبعة الأخيرة من «أصل الأنواع» قد ظهرت بشكل قبيح جدا كهذا، من المؤكد أن هذا أدى إلى نفور قراء كثيرين من الكتاب.
ربما كان النقاش الذي طرحه كتاب «تكون الأنواع» أهم إضافة إلى هذه الطبعة. تناول المؤلف الاعتراض الذي مفاده أن البنى الأولية لا يمكن أن تكون ذات فائدة، ببعض التفصيل؛ لأنه رأى أن هذا الاعتراض كان النقطة التي لفتت انتباه معظم القراء في إنجلترا في كتاب السيد ميفارت.
من الأدلة البارزة على اتساع رقعة قبول آراء والدي وشيوع هذا القبول أنه وجد ضرورة في إدراج الجملة التالية (الطبعة السادسة، الصفحة 424): «على سبيل تدوين الأوضاع السابقة، احتفظت في الفقرات السالف ذكرها، وفي مواضع أخرى أيضا، بعدة جمل تشير ضمنيا إلى أن علماء التاريخ الطبيعي يؤمنون بأن الأنواع خلقت خلقا مستقلا كل على حدة، وقد تعرضت للكثير من الانتقادات الشديدة لأنني عبرت عن أفكاري بتلك الطريقة. لكن المؤكد أن هذا كان هو الاعتقاد السائد عند ظهور الطبعة الأولى من هذا الكتاب الحالي ... أما الآن، فقد تغير الوضع تماما، وصار كل عالم تاريخ طبيعي تقريبا يقر بصحة مبدأ التطور العظيم.»
أدرج في هذه الطبعة السادسة تصحيح صغير مرتبط بإحدى أوراقه البحثية الثانوية: «ملاحظات عن عادات نقار خشب سهول البامبا.»
26
إذ كان قد كتب في الطبعة الخامسة من «أصل الأنواع»، الصفحة 220: «ولكن، حسبما أستطيع أن أؤكد، ليس بناء على ملاحظتي الخاصة فقط، بل بناء على ملاحظة أزارا الدقيقة أيضا، فإن [نقار الخشب الأرضي] لا يتسلق الشجر أبدا.» كانت الورقة البحثية المعنية ردا على تعليقات السيد هدسون بشأن نقار الخشب في عدد سابق من الدورية نفسها. والجملة الأخيرة من ورقة والدي البحثية جديرة بالاقتباس بسبب نبرتها المعتدلة؛ إذ قال فيها: «أخيرا، صرت واثقا من أن السيد هدسون أخطأ عندما قال إن أي شخص على دراية بعادات هذا الطائر قد يدفع إلى اعتقاد أنني «تعمدت تحريف الحقيقة» لإثبات نظريتي. وصحيح أنه يبرئني من هذه التهمة، لكني لا أرغب في اعتقاد أن العديد من علماء التاريخ الطبيعي قد يتهمون عالما زميلا لهم، دون أي دليل، بتعمد الكذب لإثبات نظريته.» وردت الفقرة في الطبعة السادسة، الصفحة 142، على النحو التالي: «في مناطق كبيرة معينة لا يتسلق الأشجار.» ويواصل والدي كلامه ليذكر ادعاء السيد هدسون بأنه، في مناطق أخرى، يتردد على الأشجار.
كانت إحدى الإضافات في الطبعة السادسة (الصفحة 149) إشارة إلى نظرية السيد إيه هايت والبروفيسور كوب عن «التسارع». وبخصوص هذا، أرسل خطابا (10 أكتوبر 1872) إلى السيد هايت قال فيه تلك الكلمات المميزة: «اسمح لي أن أغتنم هذه الفرصة للتعبير عن ندمي الصادق على ارتكاب خطأين فادحين في الطبعة الأخيرة من «أصل الأنواع»، في إشارتي إلى آرائك أنت والبروفيسور كوب بخصوص تسارع التطور وتباطئه. كنت أظن أن البروفيسور كوب قد سبقك، لكني الآن أتذكر جيدا أنني قرأت من قبل باهتمام قوي ورقة بحثية من تأليفك عن حفريات رأسيات القدم كانت توجد في مكتبتي، وكانت تضم تعليقات بشأن هذا الموضوع، وحددتها بعلامات مميزة. ويبدو أيضا أنني قد أسأت التعبير عن رأيكما المشترك إلى حد كبير. وهذا ضايقني بشدة. أعترف بأنني لم أتمكن قط من فهم ما تريدان توضيحه على نحو تام، وأظن أن هذا غباء مني بالتأكيد.»
أخيرا، يمكن ذكر أن هذه الطبعة الرخيصة الثمن، لما كان الهدف منها إلى حد ما أن تكون طبعة شعبية رائجة، قد صممت لتشمل مسردا للمصطلحات المتخصصة، «أضيف لأن العديد من القراء قد اشتكوا ... من أن بعض المصطلحات المستخدمة لم تكن مفهومة لهم.» تكفل السيد دالاس بتجميع المسرد، ولما كان هذا المسرد مجموعة ممتازة من التعريفات الواضحة الوافية، فمن المؤكد أنه كان نافعا للعديد من القراء.]
من تشارلز داروين إلى جيه إل إيه دي كاتريفاج
داون، 15 يناير 1872
سيدي العزيز
إنني في غاية الامتنان لخطابك اللطيف جدا ومجهوداتك التي تبذلها لمساعدتي. كنت أظن أن نشر كتابي الأخير [«نشأة الإنسان»] سيقضي على كل تعاطفك معي، ولكن يبدو أنني، وإن كنت قد قدرت تحررك الفكري العظيم بأنه بالغ جدا، فإنني لم أقدره، رغم ذلك، حق قدره.
سررت بمعرفة أن السيد لاكاز-دوتييه سيصوت لأجلي؛
27
لأنني لطالما وقرت اسمه. لا أستطيع منع نفسي من الشعور بالأسف لأنك تقضي وقتك الثمين سعيا إلى أن تجعلني أحصل على شرف الانتخاب؛ لأنني أخشى، بناء على ما حدث في آخر مرة، أن يذهب كل مجهودك سدى. مهما كانت النتيجة، فسأظل محتفظا في ذهني بذكرى حية عن تعاطفك ولطفك دائما، وسوف أجد في ذلك عزاء يهون علي رفضي.
مع بالغ احترامي وتبجيلي، وسأظل يا سيدي العزيز
ممتنا لك بكل صدق
تشارلز داروين
ملحوظة:
بخصوص الأهمية الكبيرة التي توليها لمسألة مشي الإنسان على قدمين، في حين أن رباعيات الأيدي تسير على الأطراف الأربعة كلها، دعني أذكرك بأنه ما من أحد يهتم كثيرا بالاختلاف الكبير في طريقة التحرك، ومن ثم في البنية، بين الفقمات والحيوانات الآكلة اللحوم الأرضية، أو بين حيوانات الكنغر التي تكاد تكون ذات قدمين والجرابيات الأخرى.
من تشارلز داروين إلى أوجست فايزمان
28
داون، 5 أبريل 1872
سيدي العزيز
الآن قد قرأت مقالتك
29
ببالغ الاهتمام. إن وجهة نظرك عن «أصل» السلالات المحلية من خلال فرضية
Amixie ؛ [أي منع حدوث التوالد عن طريق العزلة]، جديدة علي تماما، وأرى أنها تلقي ضوءا مهما على مشكلة غامضة. ومع ذلك، يوجد شيء غريب بخصوص فترات القابلية للتباين أو مدة استمرارها. لقد حاولت من قبل أن أدرس هذا الموضوع، لا عن طريق النظر إلى الزمن الماضي، بل إلى الأنواع المنتمية إلى الجنس نفسه الموزعة على نطاق واسع، ووجدت في حالات كثيرة أن الأنواع كلها، ربما باستثناء نوع أو اثنين، كانت قابلة للتباين. سيكون هذا موضوعا مثيرا جدا لاهتمام أي عالم أصداف إذا درسه؛ أعني موضوع ما إذا كانت الأنواع المنتمية إلى الجنس نفسه قابلة للتباين على مدار العديد من التكوينات الجيولوجية المتعاقبة. بدأت في البحث بشأن هذا الموضوع، لكني أخفقت في ذلك، كما أخفقت في أمور كثيرة أخرى، بسبب قلة الوقت والعافية. أرى أنك، في تعليقات على مسألة التوالد، لا تولي أهمية كافية إطلاقا للحيوية الزائدة لدى الذرية المولدة من آباء تعرضوا لظروف مختلفة. لقد عكفت في السنوات الخمس الماضية على إجراء تجارب بشأن هذه المسألة على النباتات، وذهلت من النتائج، لكنني لم أنشرها بعد.
في الجزء الأول من مقالتك، ظننت أنك أهدرت وقتا وجهدا أكثر من اللازم على إم فاجنر،
30
لكني غيرت رأيي عندما رأيت مدى روعة الطريقة التي تتناول بها المسألة برمتها، ومدى إجادتك في استخدام الحقائق المتعلقة بحلزون بلانوربس
. ليتني درست هذه الحالة الأخيرة بعناية أكبر. إن الطريقة التي تمتزج بها الضروب المختلفة وتشكل ضربا واحدا ثابتا، كما توضح في مقالتك، تتوافق تماما مع رسوماتي التوضيحية الافتراضية.
منذ سنوات عديدة، وصف الراحل إي فوربس ثلاث طبقات متعاقبة على نحو متقارب في تكوين جيولوجي ثانوي، كل منها تحوي أشكالا نموذجية من أصداف المياه العذبة نفسها، من الواضح أن الحالة مشابهة لحالة هيلجندورف،
31
لكن الضروب، أو الحلقات، الواصلة المثيرة للاهتمام لم تكن موجودة. أفرح حين أتذكر أنني قلت سابقا، بأقصى ما استطعت من درجات التأكيد، إنه لا العزلة ولا الزمن يحدثان أي تأثير في تعديل الأنواع بمفردهما. لا شيء في مقالتك كلها تقريبا قد أسعدني على المستوى الشخصي بقدر رؤية أنك تؤمن بالانتقاء الجنسي إلى حد ما. ذلك أن قلة قليلة من علماء التاريخ الطبيعي هم من يؤمنون به حسبما أعتقد. ربما أكون قد أخطأت في نقاط عديدة، وربما وسعت النظرية توسيعا مبالغا فيه، لكن لدي قناعة قوية بأن الانتقاء الجنسي سيقبل فيما بعد على أنه عامل قوي من عوامل التغيير. لا أستطيع أن أتفق معك فيما تقوله عن أن ذوق الحيوانات المتعلق بالجمال لا يتغير بسهولة. فثمة احتمال أن حتى عادة مشاهدة الأشياء المحيطة ذات الألوان المختلفة تؤثر في ذوقها، وحتى فريتز مولر يذهب بعيدا في افتراضاته إلى حد الاعتقاد بأن رؤية الفراشات المبهرجة الزاهية ربما تؤثر في ذوق أنواع مختلفة. تحوي مقالتك تعليقات وادعاءات كثيرة أثارت بالغ اهتمامي، وأشكرك على السرور الذي نلته من قراءتها.
تقبل خالص احترامي.
سأظل، يا سيدي العزيز، حاملا بالغ الإخلاص لك
تشارلز داروين
ملحوظة:
إذا اقتنعت في أي وقت على الإطلاق بالتفكير في نظرية الانتقاء الجنسي برمتها، أظن أنك ستهتدي إلى استنتاج مفاده أن السمات التي يكتسبها أحد الجنسين غالبا ما تنتقل إلى الجنس الآخر بدرجة أكبر أو أقل. [بخصوص مقالة موريتز فاجنر الأولى، أرسل والدي خطابا إلى هذا العالم المتخصص في التاريخ الطبيعي، في عام 1868 على ما يبدو، قائلا:]
سيدي العزيز المحترم
أشكرك بكل صدق على إرسالك ورقة «قانون الهجرة، إلخ» إلي، وعلى ما تبذله من عطف في انتباهك المشرف جدا الذي تولي أعمالي إياه. فأنا أؤكد لك أن اتفاق عالم تاريخ طبيعي مثلك، سافر إلى عدد هائل من المناطق البعيدة ودرس حيوانات من طوائف كثيرة جدا معي، يمنحني أقصى ما أستطيع نيله من السعادة ... صحيح أنني رأيت تأثيرات العزلة في حالة الجزر وسلاسل الجبال، وكنت على دراية ببضع من حالات الأنهار، لكن العدد الأكبر من حقائقك كان جديدا علي تماما. أرى الآن أنني، بسبب قلة المعرفة، لم أستفد استفادة كافية إطلاقا من الآراء التي تناصرها، وأكاد أتمنى أن أومن بأهميتها قدر إيمانك بها؛ لأنك تبين جيدا، بطريقة لم تخطر ببالي قط، أنها تزيل صعوبات واعتراضات كثيرة. بالرغم من ذلك لا بد أن أومن بأنه، في العديد من المناطق الكبيرة، قد عدل كل الأفراد المنتمين إلى النوع نفسه ببطء، بالطريقة نفسها التي حسنت بها خيول السباق الإنجليزية على سبيل المثال؛ أي بالانتقاء المستمر لأسرع الأفراد، دون أي فصل أو عزل. لكني أعترف بأن هذه العملية ستجعل وجود نوعين جديدين أو أكثر ضمن المنطقة المحدودة نفسها صعبا للغاية، وسيكون حدوث قدر من الانفصال مفيدا جدا، إن لم يكن ضروريا ولا غنى عنه، وهنا ستكون حقائقك وآراؤك ذات قيمة كبيرة ... [الخطاب التالي متعلق بالموضوع نفسه. ويشير إلى مقالة البروفيسور إم فاجنر، التي نشرت في مجلة «داس أوسلاند»، 31 مايو 1875:]
من تشارلز داروين إلى موريتس فاجنر
داون، 13 أكتوبر 1876
سيدي العزيز
أتممت الآن قراءة مقالاتك، التي أثارت بالغ اهتمامي، مع أنني أختلف معك بشدة في عدة نقاط. فعلى سبيل المثال، تدفعني اعتبارات كثيرة إلى التشكك فيما إذا كانت الأنواع أكثر قابلية للتباين في فترة ما من قابليتها للتباين في فترة أخرى، إلا أن يكون ذلك بفعل ظروف متغيرة. بالرغم من ذلك، فليتني أستطيع الإيمان بهذه النظرية؛ لأنها تزيل صعوبات عديدة. لكن اعتراضي الأشد على نظريتك هو أنها لا تفسر أساليب التكيف البنيوية المتعددة التي تظهر في كل كائن عضوي، مثل تلك التي حدثت في النقار الحقيقي ليتسلق الأشجار ويصطاد الحشرات، أو في طائر الخبل ليصطاد الحيوانات ليلا، وهلم جرا. لن أقتنع إطلاقا بأي نظرية ما لم تفسر هذه التكيفات بوضوح. أظن أنك قد أسأت فهمي بخصوص الانعزال. أعتقد أن كل الأفراد في نوع معين يمكن أن يتغيروا ببطء ضمن حدود المنطقة نفسها، وذلك بطريقة تكاد تكون مماثلة للطريقة التي يؤثر بها الإنسان بواسطة ما أسميته عملية الانتقاء غير المقصود ... فأنا لا أعتقد أن أحد الأنواع سيلد نوعين جديدين أو أكثر ما دامت هذه الأنواع تتزاوج معا ضمن حدود المنطقة نفسها. بالرغم من ذلك لا يسعني الشك في أن العديد من الأنواع الجديدة تطورت في آن واحد ضمن حدود المنطقة القارية الكبيرة نفسها، وقد حاولت في كتابي «أصل الأنواع» أن أشرح الكيفية التي ربما تؤدي إلى تطور نوعين جديدين مع أنهما التقيا وتزاوجا على «حدود» نطاقهما. كان سيبدو أمرا غريبا لو تجاهلت أهمية الانعزال، نظرا إلى أن ما دفعني أساسا إلى دراسة أصل الأنواع هو حالات كحالات أرخبيل جالاباجوس. أرى من وجهة نظري أن أفدح خطأ ارتكبته هو أنني لم أول أهمية كافية للتأثير المباشر للعوامل البيئية؛ أي الغذاء والمناخ وما إلى ذلك. فالتعديلات التي تنتج عن هذه الطريقة، والتي لا تفيد الكائن المعدل ولا تضره، ستفضل، كما أرى الآن من ملاحظاتك في الأساس، من خلال الانعزال في منطقة صغيرة، حيث يعيش عدد قليل فقط من الأفراد في ظروف شبه موحدة.
عندما كنت أكتب «أصل الأنواع»، وطوال عدة سنوات بعد ذلك، لم أجد سوى القليل من الأدلة القوية على تأثير البيئة المباشر، أما الآن فتوجد مجموعة كبيرة من الأدلة، وتعد حالة عثة ساتورنيا
Saturnia
التي طرحتها أحد أبرز الحالات اللافتة التي سمعت بها. بالرغم من أننا نختلف بشدة، آمل أن تسمح لي بالتعبير عن احترامي لجهودك المستمرة منذ فترة طويلة والناجحة في سبيل مجال العلم الطبيعي.
سأظل، يا سيدي العزيز، مخلصا لك على الدوام
تشارلز داروين [الخطابان التاليان أيضا مهمان لأنهما متعلقان بآراء والدي بشأن تأثير الانعزال من حيث علاقته بأصل الأنواع الجديدة:]
من تشارلز داروين إلى كيه سيمبر
داون، 26 نوفمبر 1878
عزيزي البروفيسور سيمبر
عندما نشرت الطبعة السادسة من «أصل الأنواع»، فكرت مليا في الموضوع الذي تشير إليه، وكان الرأي الوارد فيها هو قناعتي التي توصلت إليها بدراسة متأنية. لقد ذهبت إلى أبعد ما يمكنني، وربما أبعد مما ينبغي، في الاتفاق مع فاجنر، ومنذ ذلك الوقت، لم أجد سببا يدفعني لتغيير رأيي، لكن يجب أن أضيف أن ثمة موضوعات أخرى قد استحوذت على اهتمامي. توجد فئتان مختلفتان من الحالات، كما يبدو لي؛ إحداهما تلك التي يعدل فيها أحد الأنواع ببطء في البلد نفسه (لا أشك في وجود حالات لا حصر لها من هذه الفئة)، وأما الفئة الثانية فهي تضم الحالات التي ينقسم فيها أحد الأنواع إلى نوعين جديدين أو ثلاثة أو أكثر، وفي هذه الفئة الأخيرة، أظن أن الانفصال شبه التام سيساعد بشدة في «انتواعها»، إن أردنا التعبير عن الأمر بمصطلح جديد.
إنني سعيد جدا بأنك تتولى هذا الموضوع؛ لأنك ستحرص على كشف الكثير من جوانبه. أتذكر جيدا ترددي الشديد بشأن هذه القضية قبل فترة طويلة؛ فعندما كنت أفكر في الحيوانات والنباتات الموجودة في جزر جالاباجوس، كنت أقتنع تماما بفكرة الانعزال، وعندما كنت أفكر في أمريكا الجنوبية، كنت أشك فيها بشدة. أرجو أن تتقبل أصدق تحياتي
مع بالغ إخلاصي
سي داروين
ملحوظة:
آمل ألا يكون الخط الذي كتب به هذا الخطاب غير مقروء تماما، ولكن ليس عندي ناسخ في الوقت الحالي.
من تشارلز داروين إلى كيه سيمبر
داون، 30 نوفمبر 1878
عزيزي البروفيسور سيمبر
بعد الكتابة إليك، تذكرت بعض الأفكار والاستنتاجات التي كانت قد خطرت ببالي في السنوات الأخيرة. في أمريكا الشمالية، يبدو من الواضح، عند الانتقال من الشمال إلى الجنوب أو من الشرق إلى الغرب، أن ظروف الحياة المتغيرة قد عدلت الكائنات الحية في المناطق المختلفة؛ لذا صارت الآن تشكل سلالات مختلفة أو حتى أنواعا مختلفة. والأوضح من ذلك أن الكائنات التي تعيش في المناطق المعزولة، مهما كانت هذه المناطق صغيرة، دائما ما تخضع لتعديلات طفيفة، لكني لا أستطيع أن أكون رأيا محددا بشأن مدى ارتباط ذلك بطبيعة الظروف المختلفة قليلا التي تتعرض لها هذه الكائنات، ومدى ارتباطه بالتهجين، على النحو الذي شرحه فايزمان. لقد خطرت ببالي هذه الصعوبة نفسها (كما هو موضح في كتاب «تباين الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين») فيما يتعلق بالسلالات الأصلية من الماشية والأغنام وما إلى ذلك، في المناطق المنفصلة في بريطانيا العظمى ، بل في أنحاء أوروبا كلها. ومع تحسن معرفتنا، لا ننفك نكتشف أن الاختلافات الطفيفة جدا ، التي يعتبرها خبراء التصنيف اختلافات بنيوية غير مهمة، ذات أهمية وظيفية، وقد بهرتني هذه الحقيقة خصوصا في حالة النباتات التي اقتصرت عليها ملاحظاتي في السنوات الأخيرة. لذا أرى أنه من التسرع بعض الشيء اعتبار أن الاختلافات الطفيفة بين الأنواع النموذجية، ولتكن مثلا تلك الأنواع التي تعيش في جزر مختلفة من الأرخبيل نفسه، لا تشكل أهمية وظيفية، وأنها لا ترجع بأي شكل من الأشكال إلى الانتقاء الطبيعي. بخصوص كل البنى المتكيفة، وهي لا تحصى، فلا أستطيع أن أرى كيف أن رؤية إم فاجنر توضح أي شيء فيما يتعلق بالكيفية والعلة، اللتين تؤديان إلى أن تصبح الأشكال المنعزلة لفترة طويلة معدلة بقدر طفيف على الدوام تقريبا، بل إن الحالات العديدة التي طرحها لا تضيف إلى فهمي الذي اكتسبته من قبل أي شيء جديد. لا أعرف ما إذا كنت ستهتم بسماع رأيي الإضافي في هذه النقطة المعنية؛ لأنني، كما قلت من قبل، لم أعد أهتم كثيرا بمثل هذه المسائل في السنوات الأخيرة، معتقدا أنه من الحكمة، الآن في ظل تقدمي في السن، أن أعمل على مواضيع أسهل.
مع أصدق تحياتي وبالغ إخلاصي
سي داروين
آمل أن تلقي ضوءا على هذه النقاط، وأثق في أنك ستفعل ذلك.
ملحوظة:
سأضيف تعليقا آخر أتذكر أنه خطر ببالي عند قراءتي الأولى لما كتبه إم فاجنر. عند أول مرة يصل فيها أحد الأنواع إلى جزيرة صغيرة، من المرجح أن يزداد عدده بسرعة، وما لم يتغير كل أفراد هذه النوع فورا (وهذا مستبعد للغاية)، فلا بد أن تتزاوج الذرية التي تعدل ببطء، إلى حد ما، بعضها مع بعض، ومع آبائها غير المعدلين، وأي ذرية لم تعدل بعد. حينئذ ستكون الحالة شبيهة بحالة الحيوانات الداجنة التي عدلت ببطء، إما بتأثير الظروف الخارجية، أو العملية التي أسميتها «الانتقاء غير المقصود» بفعل الإنسان، وهو عكس الانتقاء المنهجي. [تستأنف الخطابات التالية تاريخ عام 1872، الذي قوطع بسبب الاستطراد عن موضوع الانعزال.]
من تشارلز داروين إلى الماركيز دو سابورتا
داون، 8 أبريل 1872
سيدي العزيز
أشكرك بكل صدق وقد تشرفت جدا لما بذلته من جهد في سبيل إعطائي أفكارك عن أصل الإنسان. يسعدني بشدة أن بعض أجزاء عملي قد أثارت اهتمامك، وأننا نتفق في الاستنتاج الرئيسي المتمثل في أن الإنسان اشتق من شكل أدنى رتبة.
سوف أفكر فيما قلته، لكني لا أستطيع حاليا التخلي عن إيماني بالعلاقة الوثيقة بين الإنسان والقرود الأعلى رتبة. فأنا لا أعول كثيرا على أي سمة واحدة، حتى تلك المتمثلة في طابع الأسنان، لكني أضع اعتمادي الأكبر على تشابهات في أجزاء كثيرة من التكوين العضوي كله؛ لأنني لا أستطيع أن أصدق أن مثل هذه التشابهات يمكن أن تنتج من أي سبب آخر غير قرابة دم وثيقة. ويوضح تصنيف لينيوس، الذي كان خبيرا بارعا جدا في صلات القرابة، أن الإنسان قريب الصلة بالقردة العليا. ثم إن أعلم رجال إنجلترا ببنية القرود؛ أعني السيد ميفارت، الذي يعارض نظرياتي عن اشتقاق القوى الفكرية معارضة حادة، اعترف علنا رغم ذلك بأنني لم أبالغ في درجة التشابه التي أؤكد وجودها بين الإنسان والقرود العليا، من ناحية البنية الجسدية. لا أظن أن مسألة عدم وجود ارتدادات في البنية لدى الإنسان تحمل أهمية كبيرة، بل إن سي فوجت يؤكد أن [وجود] البلهاء ذوي الرأس الصغير يعد حالة من حالات الارتداد. لا أحد ممن يؤمنون بالتطور سيشك في أن حيوان الفوكا منحدر من أحد الحيوانات الأرضية الآكلة للحوم. بالرغم من ذلك، فلا أحد سيتوقع أن يصادف مثل هذا الارتداد كهذا. ربما تعزى قلة تشعب الطابع في أعراق الإنسان مقارنة بأنواع القردة إلى أن الإنسان انتشر في أنحاء العالم بعد القردة بفترة طويلة. إنني على أتم استعداد للاعتراف بالقدم الهائل للإنسان، ولكن يوجد لدينا دليل، في جنس قرود
Dryopithecus ، على القدم الهائل للقرود الشبيهة بالإنسان.
يسعدني سماع أنك تعمل على نباتاتك المتحجرة، التي اتضح في السنوات الأخيرة أنها مجال غني جدا جدير بالاكتشاف. مع جزيل الشكر على لطفك الشديد.
وببالغ الاحترام، سأظل يا سيدي العزيز المخلص لك دائما
تشارلز داروين [في أبريل 1872، انتخب عضوا في الجمعية الملكية الهولندية، وأرسل خطابا إلى البروفيسور دوندرس، قائلا: «شكرا جزيلا على خطابك. لقد سررت جدا بنيل شرف انتخابي عضوا أجنبيا في جمعيتكم الملكية. فدائما ما كنت أرى أن نيل المرء لتعاطف زملائه من العلماء هو أسمى مكافأة على الإطلاق يمكن أن يتطلع إليها أي عالم. وقد زادت سعادتي كثيرا لأنك أول من أخبرتني بنيل هذا الشرف.»]
من تشارلز داروين إلى تشونسي رايت
داون، 3 يونيو 1872
سيدي العزيز
شكرا جزيلا على مقالك
32
المنشور في دورية «نورث أميريكان ريفيو»، الذي قرأته ببالغ الاهتمام. لا يمكن أن يوجد ما هو أوضح من الطريقة التي تناقش بها مسألة ثبات الأنواع أو بقائها على حالها. لم يخطر ببالي قط أن أفترض أن أي شخص قد نظر إلى المسألة كيفما يبدو أن السيد ميفارت ينظر إليها. لو كنت قرأت رده عليك، لربما أدركت ذلك، لكني عقدت العزم على ألا أهدر مزيدا من الوقت في قراءة المقالات النقدية لأعمالي أو المتعلقة بنظرية التطور، إلا عندما أسمع أنها جيدة وتتضمن محتوى جديدا ... من الواضح جدا أن صبر السيد ميفارت قد نفد ولم يعد قادرا على التحمل فيما يتعلق بهذا الموضوع.
نظرا إلى أن ذهنك صاف جدا، وأنك تفكر بإمعان شديد في معنى الكلمات، أتمنى أن تتحين أي فرصة عابرة لتتأمل ما هي المواضع الصحيحة التي يمكن أن يقال فيها إن شيئا ما قد تأثر بإرادة الإنسان. ما دفعني إلى هذه الرغبة هو قراءة مقال «ضد» شلايخر بقلم أستاذك ويتني. فهو يحاجج بأنه لما كانت كل خطوة من خطوات التغيير في اللغة تتخذ بإرادة الإنسان، فإن اللغة كلها تتغير بهذه الطريقة، لكني لا أعتقد أن هذا صحيح؛ فما للإنسان نية لتغيير اللغة أو رغبة في ذلك. إنها حالة مشابهة لما أسميته «الانتقاء غير المقصود»، الذي يعتمد على أن الرجال يتعمدون الحفاظ على أفضل الأفراد، ونتيجة لذلك يغيرون السلالة كلها دون قصد.
مع بالغ إخلاصي يا سيدي العزيز
تشارلز داروين [بعد ذلك بفترة ليست طويلة (في سبتمبر)، جاء السيد تشونسي رايت في زيارة إلى داون، وقد تحدث عنها في خطاب
33
إلى الآنسة إس سيجويك (التي صارت الآن السيدة ويليام داروين): «إن كنت تستطيعين أن تتخيليني وأنا متحمس، حماسة تامة مطلقا، دون أي «اعتراض» أو انتقاد، فلتتخيلي محادثاتي مع السيد داروين مساء أمس وصباح اليوم ... لم أشعر في حياتي من قبل بهذه الإثارة البالغة، ولم يحدث من قبل أني نمت مثل هذه الساعات القليلة تحت سقف البيت المضياف ... محال أن أتمكن من أن أصف في خطاب هذه المحادثات التي كانت تدور بيننا قبل العشاء وأثناءه وبعده، وأثناء الفطور، وعند الوداع قبل الرحيل، لكني لا أحب أن أكون أنانيا و«أدلي بشهادتي» كالمتعصبين الدينيين الآخرين دون أي إثبات أو إشارة إلى تجربة مماثلة.»]
من تشارلز داروين إلى هربرت سبنسر
باست، ساوثهامبتون، 10 يونيو [1872]
عزيزي سبنسر
يمكنني القول إنك ستظنني رجلا أحمق، لكني لا أستطيع مقاومة الرغبة في التعبير عن إعجابي اللامتناهي بمقالك
34
الذي ترد فيه على السيد مارتينو. إنه رائع حقا، وليس مقالك الثاني المتعلق بعلم الاجتماع بأقل منه روعة (وإن كنت لم أكمله بعد)، لم أومن قط بأن الرجال العظماء لهم تأثير سائد على تقدم العالم، لكني لو سئلت عن سبب عدم تصديقي ذلك، لتحيرت بشدة في سبيل إعطاء إجابة وجيهة. يجب على كل إنسان لديه عينان يرى بهما وأذنان يسمع بهما (وليس هؤلاء بالكثيرين مع الأسف) أن ينحني على ركبتيه أمامك، وأنا عن نفسي أفعل ذلك.
مع أصدق تحياتي وبالغ إخلاصي
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 12 يوليو [1872]
عزيزي هوكر
يجب أن أعبر عن سعادتي بالطريقة التي تناولت بها الصحف قضيتك. لقد رأيت صحف «ذا تايمز»، و«ديلي نيوز»، و«بول مول جازيت»، وسمعت أن صحفا أخرى تناولت القضية.
عادت المذكرة بنفع كبير من هذا الجانب، مهما تكن النتيجة في إجراءات حكومتنا السيئة. بروحي أن هذا يكفي ليجعل المرء مناصرا قديما مخلصا لحزب المحافظين ...
إذا أرسلت ردا على هذا الخطاب، فسأشعر بالندم على أنني نفست عن مشاعري بإرساله إليك.
مع خالص مودتي
سي داروين [كانت المذكرة المشار إليها هنا موجهة إلى السيد جلادستون، وكانت تحمل توقيعات عدد من الرجال البارزين، منهم السير تشارلز لايل، والسيد بينثام، والسيد هكسلي، والسير جيمس باجيت. وهي تعرض سردا كاملا للمعاملة التعسفية الجائرة التي كان السير جيه دي هوكر يلقاها من رئيسه الحكومي، المفوض الأول للأشغال. نشرت الوثيقة كاملة في دورية «نيتشر» (11 يوليو 1872)، وهي جديرة جدا بالدراسة باعتبارها مثالا للمعاملة التي يمكن أن يلقاها العلم من البيروقراطية. وكما تذكر دورية «نيتشر»، فهي ورقة من المؤكد أن رجال العلم في كل أنحاء العالم يقرءونها بأشد سخط في نفوسهم، وأن كل الرجال الإنجليز يقرءونها بمنتهى الخزي. ويختتم الموقعون على المذكرة توقيعهم بالاحتجاج على العواقب المتوقعة لاضطهاد السير جوزيف هوكر؛ أي استقالته، وخسارة «رجل مبجل لنزاهته، ومحبوب للطفه وحنان قلبه، وقضى في الخدمة العامة حياة لا تشوبها أي شائبة؛ فهي ناصعة تماما.»
من حسن الحظ أن هذه المصيبة قد منعت، ولم يعد السير جوزيف يتعرض لمزيد من المضايقة.]
من تشارلز داروين إلى إيه آر والاس
داون، 3 أغسطس [1872]
عزيزي والاس
أكره الجدل، وربما يكون السبب الأساسي في ذلك أنني لا أجيده، لكن نظرا إلى أن الدكتور بري يتهمك
35
بأنك «ارتكبت أخطاء فادحة»، ارتأيت أنني ملزم بإرسال الخطاب المرفق إلى دورية «نيتشر»،
36
هذا إن كنت ترغب في ذلك أصلا. فلترسل به إلى الدورية من فضلك إن كنت ترغب في هذا. وإن كنت لا ترغب في ذلك «إطلاقا»، فأنا أفضل عدم نشره، وأرجوك أن تمزقه في هذه الحالة. وأرجو منك أن تفعل الشيء نفسه إذا كنت تنوي أن ترد على الدكتور بري بنفسك؛ لأنك ستفعل ذلك أفضل مني بكثير. وأرجو أيضا أن تمزقه إذا لم يعجبك.
مع بالغ إخلاصي يا عزيزي والاس
سي داروين
من تشارلز داروين إلى إيه آر والاس
داون، 28 أغسطس 1872
عزيزي والاس
انتهيت أخيرا من المهمة الشاقة المتمثلة في قراءة كتاب الدكتور باستيان،
37
وقد أثار بالغ اهتمامي. كنت ترغب في معرفة انطباعي، لكنه لا يستحق أن أرسله.
يبدو لي رجلا بارعا للغاية، كما ارتأيت بالفعل عندما قرأت مقالته الأولى. فحجته العامة التي يؤيد بها النشوء التلقائي قوية على نحو رائع، وإن كنت لا أستحسن القليل من حججه. والنتيجة هي أن ادعاءاته حيرتني وأذهلتني، لكني لست مقتنعا بصحتها، وإن كنت أرى، في العموم، أن فرضية النشوء التلقائي صحيحة على الأرجح. وأحد أسباب عدم اقتناعي هو الطابع الاستنباطي الذي يكسو جزءا كبيرا من استدلاله، ولا أعرف، لكني لا أقتنع بالاستنباط أبدا، حتى في حالة كتابات إتش سبنسر. لو كان ترتيب محتوى كتاب الدكتور باستيان معكوسا، وكان قد بدأ بالحالات المتنوعة للنشوء الحيوي المتغاير، ثم انتقل إلى المواد العضوية، ثم إلى المحاليل الملحية، وبعدها طرح حججه العامة، لكان أكثر إقناعا لي، على ما أعتقد. بالرغم من ذلك، أظن أن الصعوبة الرئيسية التي أواجهها هي أن تأثير المعتقدات القديمة قد ترسخ في ذهني. يجب أن يتوفر لي مزيد من الأدلة على أن الجراثيم، أو أدق أجزاء الأشكال دائما ما تقتل بتعرضها لدرجة حرارة مقدارها 212 درجة فهرنهايت. ربما سيكون تكرار ادعاءات الدكتور باستيان [بأقلام] رجال آخرين، ممن أحترم حكمهم وممن عملوا فترة طويلة على دراسة الكائنات الحية الأدنى رتبة، كافيا لإقناعي. ها هو ذا اعتراف جيد بالضعف الفكري، لكن المعتقد إطار فكري يتعذر تفسيره!
وبخصوص أن الدوارات
Rotifers
وبطيئات المشية
Tardigrades
تتولد تلقائيا، فلا يستطيع عقلي أن يستوعب مثل هذه الادعاءات، سواء أكانت صحيحة أم خاطئة، مثلما أن معدتي لا تستطيع أن تهضم كتلة من الرصاص. دائما ما يشبه الدكتور باستيان عملية النشوء التلقائي، وكذلك النمو، بالتبلور، لكن هذا الرأي يعني أن الدوارات أو بطيئات المشية تتكيف مع ظروف حياتها المتواضعة بمصادفة سعيدة، وهذا ما لا أستطيع تصديقه ... لا بد أنه عمل بمواد مليئة جدا بالشوائب في بعض الحالات؛ لأن كائنات حية عديدة قد ظهرت في محلول ملحي لا يحتوي على ذرة نيتروجين واحدة.
أختلف تماما مع الدكتور باستيان في نقاط عديدة وردت في فصوله الأخيرة. ولذا أرى بوضوح أن تكرار وجود أشكال عامة في الطبقات الأقدم يشير إلى أن الأشكال الأحدث تشعبت من أصل مشترك. بالرغم من كل تعليقاته الساخرة، لم أستسلم بعد ولم أتخل عن موقفي بخصوص فرضية «شمولية التكوين». أود أن أعيش إلى أن أرى ثبوت صحة فرضية «النشوء التلقائي»؛ لأنها ستكون اكتشافا ذا أهمية فائقة، أو أعيش إلى أن أشهد دحضها إذا كانت خاطئة، ومن ثم أرى طريقة أخرى لتفسير الحقائق، لكني لن أعيش إلى أن أرى كل هذا. لو ثبتت صحة فرضية الدكتور باستيان على الإطلاق، فسيكون قد أسهم إسهاما بارزا في المجال. ما أعظم السرعة التي يتقدم بها العلم؛ إنها تكفي لتهون علينا الأخطاء العديدة التي ارتكبناها، وتعوضنا عن جهودنا التي تتوارى وتنسى في خضم الحقائق الجديدة والآراء الجديدة التي تظهر يوميا.
هذه كل الأشياء التي وددت قولها عن كتاب الدكتور باستيان، وبالتأكيد لم تكن على قدر كبير من الأهمية كي أذكرها ...
من تشارلز داروين إلى إيه دي كوندول
داون، 11 ديسمبر 1872
سيدي العزيز
بدأت قراءة كتابك الجديد
38
في وقت أبكر مما كنت أنوي قراءته فيه، وحالما بدأت، لم أستطع التوقف، والآن يجب أن تدعني أشكرك على السعادة البالغة جدا التي منحني إياها. فنادرا ما قرأت من قبل ما هو أكثر أصالة وإبداعا من تناولك للأسباب المواتية لنمو الأفراد وتطورهم إلى علماء. كان العمل كله جديدا تماما علي، وشائقا للغاية. عندما بدأت قراءة مقالتك، كنت أخشى أن تهاجم مبدأ الوراثة فيما يتعلق بالقدرات العقلية، لكني سرعان ما وجدت نفسي راضيا باتباعك وتقبل القيود التي تطرحها. أثار الجزء الثاني من عملك اهتماما خاصا لدي، لكنه لم يكن جديدا بالنسبة إلي بقدر ما كان يحويه الجزء الأول من جدة. إنك تشرفني جدا في العديد من الأجزاء، وكل هذا التشريف أكثر مما أستحق. ولأن المؤلفين عادة ما يرغبون في معرفة أي النقاط كانت أكثر إثارة لاهتمام مختلف القراء، فسأذكر أن أكثر النقاط إثارة لاهتمامي في مقالاتك الأقصر كانت تلك المتعلقة بالانتشار المستقبلي للغات، وتلك المتعلقة بالتحصين، وكذلك المتعلقة بالإحصاءات وحرية الإرادة بالتأكيد. إن الفكرة القائلة بأن القابلية الشديدة لأمراض معينة تجعل التأسل الرجعي مرجحا جدا، جديدة علي تماما. تقترح في الصفحة 322 أنه ينبغي فصل أحد صغار طائر السنونو، ثم إطلاق سراحه من أجل اختبار قوة الغريزة، لكن الطبيعة تجري هذه التجربة سنويا؛ إذ إن كبار طيور الوقواق في إنجلترا تهاجر قبل صغارها المولودة في العام نفسه، بفترة تبلغ بضعة أسابيع. بالمناسبة، ها أنا ذا قد استخدمت للتو كلمة «الطبيعة» المحظورة، التي أكاد أكون قد قررت، بعد قراءة مقالتك، ألا أستخدمها مجددا أبدا. لا أعترض إلا على عدد قليل للغاية من التعليقات الواردة في كتابك، لكنك عندما تؤيد آسا جراي في ادعائها أن الغرائز كلها عادات فطرية، يجب أن أحتج.
وأخيرا، هلا تسمح لي بأن أسألك سؤالا: هل لاحظت بنفسك، أو لاحظ شخص ما يمكن الوثوق به تماما، أن الفراشات الموجودة على جبال الألب مروضة بدرجة أكبر من تلك الموجودة على السهول المنخفضة؟ هل تنتمي إلى النوع نفسه؟ وهل لوحظت هذه الحقيقة لدى أكثر من نوع واحد؟ وهل هي أصناف زاهية الألوان؟ إنني متلهف جدا لمعرفة السبب الذي يجعلها تحط على الأجزاء الزاهية الألوان من فساتين السيدات، لا سيما أنني أكدت أكثر من مرة أن الفراشات تحب الألوان الزاهية، كألوان أوراق نبات بنت القنصل في الهند مثلا.
اسمح لي مرة أخرى بأن أشكرك على إرسال كتابك إلي، وعلى السعادة الهائلة الاستثنائية التي انتابتني وأنا أقرؤه.
مع وافر الاحترام، سأظل يا سيدي العزيز أكن لك بالغ الإخلاص
تشارلز داروين [أتم التنقيح الأخير لكتاب «التعبير عن العواطف» في 22 أغسطس 1872، وقد كتب عن ذلك في دفتر مذكراته: «استغرق مني نحو 12 شهرا.» وكالعادة لم يكن يعتقد أن الكتاب من الممكن أن يكون ناجحا في العموم. تعطي الفقرة التالية المقتطفة من خطاب إلى هيكل انطباعا بأن تأليف هذا الكتاب قد أصابه بإجهاد شديد بعض الشيء: «فرغت من تأليف كتابي الصغير، «التعبير عن العواطف»، وعندما ينشر في نوفمبر، سأرسل إليك نسخة بالطبع، في حال إن كنت تود قراءته للتسلية. استأنفت كتابا قديما متعلقا بعلم النبات، وربما لن أحاول مجددا أبدا أن أناقش آراء نظرية.
فأنا أكبر في السن وأزداد وهنا، ولا أحد يستطيع أن يعرف متى ستبدأ قواه الفكرية تنهار. أتمنى لك طول العمر والسعادة من أجلك، ومن أجل العلم.»
نشر الكتاب في الخريف. كانت الطبعة مكونة من 7000 نسخة، بيع منها 5267 نسخة في فعالية طرح الكتاب للبيع التي أقامها السيد موراي في نوفمبر. ثم طبع 2000 نسخة في نهاية العام، وقد تبين أن ذلك من سوء الحظ؛ لأن تلك النسخ لم تبع بسرعة كبيرة بعد ذلك؛ ولذا تركت مجموعة هائلة من ملاحظات جمعها المؤلف دون أن تستخدم قط لإصدار طبعة ثانية في حياته.
من بين المقالات النقدية التي كتبت عن كتاب «التعبير عن العواطف»، ربما يمكن ذكر المقالتين القصيرتين المعارضتين اللتين وردتا في دورية «ذا أثنيام»، بتاريخ 9 نوفمبر 1872، وصحيفة «ذا تايمز» بتاريخ 13 ديسمبر 1872. وقد نشرت مقالة نقدية جيدة بقلم السيد والاس في دورية «ذا كورترلي جورنال أوف ساينس» في يناير 1873. وفيها يقول السيد والاس، وهو محق في ذلك، إن الكتاب يعرض بعض «خصائص عقل المؤلف بدرجة بارزة»؛ ألا وهي «الشوق النهم لاكتشاف أسباب الظواهر المتباينة المعقدة التي تتسم بها الكائنات الحية.» ويضيف أنه يبدو في حالة المؤلف أن «ما يتسم به الأطفال من فضول لا يهدأ لمعرفة «سبب» كل شيء و«علته» و«كيفيته»» «لم يضعف أبدا.»
فيما وصف كاتب آخر، في إحدى المقالات النقدية اللاهوتية، الكتاب بأنه «الأقوى تأثيرا والأخبث ضررا» بين أعمال المؤلف كلها.
وقدم البروفيسور ألكسندر بين نقدا للكتاب قد ورد في حاشية مضافة إلى كتابه «الحواس والفكر»؛ ويشير الخطاب التالي إلى هذه المقالة:]
من تشارلز داروين إلى ألكسندر بين
داون، 9 أكتوبر 1873
سيدي العزيز
إنني في غاية الامتنان لك لأنك أرسلت إلي مقالتك. انتقاداتك كلها مكتوبة بروح منصفة تماما، ولا يمكن بالطبع لأي شخص يعرفك أو يعرف أعمالك أن يتوقع منك أي شيء آخر غير ذلك. إن ما تقوله عن غموض ما أسميته التأثير المباشر للجهاز العصبي منصف تماما. شعرت بأنه كذلك آنذاك، بل ازداد شعوري بذلك مؤخرا. أعترف بأني لم أستطع قط أن أفهم مبدأ العفوية الذي طرحته، وكذلك بعض نقاطك الأخرى، فهما تاما؛ لكي أطبقها على حالات خاصة. ولكن لأننا ننظر إلى كل شيء من منظورين مختلفين، فمن المستبعد أن نتفق بدرجة كبيرة.
فرحت جدا بما تقوله عن تعبير البكاء وعن التورد خجلا. هل قرأت مقالة نقدية في عدد حديث من دورية «ذي إدنبرة»؟ لقد كان مفعما بازدراء رائع تجاهي وتجاه آخرين كثيرين.
أحتفظ بذكرى سارة جدا عن إقامتنا معا في ذاك المكان المبهج، مور بارك.
مع شكري المتجدد، سأبقى يا سيدي العزيز
مخلصا لك على الدوام
سي داروين
من تشارلز داروين إلى السيدة هاليبرتون
39
داون، 1 نوفمبر [1872]
سيدتي العزيزة هاليبرتون
يمكنني القول إنك ستفاجئين بتلقي خطاب مني. غايتي من إرسال خطاب الآن هي أن أقول إنني نشرت للتو كتابا بعنوان «التعبير عن العواطف لدى الإنسان والحيوان»، وخطر ببالي أنك ربما تريدين قراءة بعض الأجزاء منه، ولا أظن إطلاقا أن هذا كان سينطبق على أي من الكتب التي نشرتها سلفا. لذا أرسل كتابي الحالي ضمن هذه الدفعة البريدية. وبالرغم من أنني لم أتواصل معك أو مع أفراد أسرتك الآخرين منذ فترة طويلة جدا؛ فما من ذكريات تراود عقلي بتلك الوتيرة والوضوح الشديد الذي تخطر به على عقلي ذكريات الأيام الخوالي السعيدة التي قضيتها في وودهاوس. أرغب جدا في أن أسمع ولو القليل من الأخبار عنك وعن أفراد أسرتك الآخرين، إذا كنت مستعدة لتكبد عناء إرسال خطاب إلي. فقد كنت أعرف قبل ذلك بعض أخبارك من أخواتي.
صحتي سيئة منذ سنوات عديدة، ولا أستطيع زيارة أي مكان منذ فترة، وأشعر الآن بأنني طاعن جدا في السن. ما دام نمط حياتي ثابتا تماما، أستطيع إنجاز بعض العمل اليومي في التاريخ الطبيعي، الذي لا يزال شغفي، كما كان في الأيام الخوالي، عندما كنت معتادة أن تضحكي علي لأنني كنت أجمع الخنافس بحماسة شديدة في وودهاوس . باستثناء مرضي المستمر، الذي عزلني عن المجتمع، فحياتي سعيدة جدا، لكن أكبر عيب يشوبها هو أن العديد من أطفالي قد ورث مني الصحة الواهنة. أرجو من كل قلبي أن تكوني محتفظة، ولو إلى حد كبير على الأقل، ب «صحة آل أوين» الشهيرة. بخالص مشاعر الامتنان والمودة لكل من يحمل اسم أوين، أجرؤ على التوقيع على هذا الخطاب.
صديقك المحب
تشارلز داروين
من تشارلز داروين إلى السيدة هاليبرتون
داون، 6 نوفمبر [1872]
عزيزتي سارة
سررت جدا بخطابك، الذي يجب أن أصفه بأنه فاتن. لم أجرؤ إطلاقا على تخيل أنك ستحتفظين بذكرى طيبة عني طوال هذه السنوات العديدة. لكني مع ذلك كنت متيقنا بكل تأكيد من أنك ستظلين طيبة القلب ومخلصة كما كنت دائما منذ أقدم ذكرياتي عنك. أعرف جيدا كم الأحزان المؤلمة التي مررت بها، لكني حزنت بشدة عند سماع أن صحتك ليست على ما يرام. إذا استطعت استجماع بعض القوة لتزورينا هنا في الربيع أو الصيف، عندما يتحسن الطقس، فنسعد حقا أنا وزوجتي، كما تريدني أن أقول، برؤيتك، وأعرف أنك لن تبالي بأن تشعري ببعض الملل هنا. سوف أبتهج حقا برؤيتك. شكرا جزيلا على إخباري بأحوال أسرتك، وقد كان الكثير مما ذكرته عنهم جديدا علي. كم كنتم كلكم لطفاء معي في صباي، وأنت بالأخص، وما أكثر السعادة التي أدين لكم بها! مع أصدق التحيات من صديقك المحب والممتن
تشارلز داروين
ملحوظة:
لعلك تودين أن تري صورة فوتوغرافية لي الآن وأنا عجوز.
1873 [كان العمل الوحيد في هذا العام (بخلاف العمل المتعلق بعلم النبات) هو إعداد طبعة ثانية من كتاب «نشأة الإنسان»، الذي يشار إلى عملية نشره في الفصل التالي. كان أداء هذا العمل ثقيلا جدا على نفسه؛ لأنه كان منهمكا حينها بعمق في مخطوطة كتاب «النباتات الآكلة للحشرات». ولذا قال في خطاب إلى السيد والاس (بتاريخ 19 نوفمبر): «لم أندم في حياتي كلها على أي شيء قاطعني بقدر ما أندم على هذه الطبعة الجديدة من «نشأة الإنسان». وفي وقت لاحق (في ديسمبر)، قال في خطاب إلى السيد هكسلي: «لقد اتضح أن الطبعة الجديدة من «نشأة الإنسان» مهمة بشعة. لقد استغرق الأمر مني 10 أيام بأكملها لإلقاء نظرة سريعة فحسب على الخطابات والمقالات النقدية التي تتضمن انتقادات وحقائق جديدة. إنها مهمة صعبة للغاية.»
استمر العمل حتى 1 أبريل 1874، عندما استطاع العودة إلى نباتات جنس الندية المفضلة بشدة لديه. قال في خطاب إلى السيد موراي: «انتهيت أخيرا، بعد أكثر من ثلاثة أشهر من أصعب عمل أديته في حياتي، وهو إتمام إصدار منقح من كتاب «نشأة الإنسان»، وأود بشدة أن يطبع في أقرب وقت ممكن. ونظرا إلى أنه سيطبع باستخدام القوالب، فلن ألمسه مجددا أبدا.»
يشير أول خطابات عام 1873 المتنوعة إلى زيارة لطيفة تلقاها من الكولونيل هيجينسون من مدينة نيوبورت الأمريكية.]
من تشارلز داروين إلى توماس وينتوورث هيجينسون
داون، 27 فبراير [1873]
سيدي العزيز
فرغت زوجتي للتو من تلاوة كتاب «الحياة مع فوج أسود» علي، ائذن لي بأن أشكرك من صميم قلبي على السعادة البالغة التي منحنا إياها من نواح كثيرة. دائما ما كنت أستحسن الزنوج، بناء على اللقاءات القليلة التي جمعتني ببعضهم، وسررت بأن انطباعاتي غير المؤكدة قد تأكدت، وأن شخصيتهم وقدراتهم العقلية قد نوقشت ببراعة شديدة. عندما كنت هنا، لم أكن أعرف بالمنصب النبيل الذي قد شغلته. كنت قد قرأت من قبل عن الأفواج السوداء، لكني عجزت عن ربط اسمك بمهمتك الباهرة. صحيح أننا استمتعنا جدا بزيارتك إلى داون، لكننا، أنا وزوجتي، ندمنا مرارا وتكرارا على أننا لم نكن نعرف بأمر الفوج الأسود؛ لأننا كنا سنرغب بشدة في أن نسمع شيئا عن الجنوب من شفتيك شخصيا.
لقد أثارت أوصافك في عقلي ذكريات واضحة جدا عن الجولات التي كنت أخوضها سيرا على الأقدام قبل 40 عاما في البرازيل. لدينا مقالاتك المجمعة، التي تفضل السيد [مونكيور] كونواي بإرسالها إلينا، ولكن لم يسنح لنا وقت حتى الآن لقراءتها. أعرف بعض أخبارك في بعض الأحيان من صحيفة «ذي إندكس »، وقرأت في الساعة الماضية مقالة شائقة من كتابتك عن تقدم الفكر الحر.
مع أصدق تحياتي يا سيدي العزيز وخالص إعجابي
تفضل بقبول بالغ إخلاصي
سي داروين [في 28 مايو، أرسل الإجابات التالية ردا على الأسئلة التي كان السيد جالتون يوجهها آنذاك إلى عدة علماء، في سياق الاستقصاء الذي طرح في كتابه «رجال العلم الإنجليز: طبيعتهم وتنشئتهم» 1874. وبخصوص الأسئلة، كتب والدي: «ملأت الإجابات قدر ما استطعت، ولكن من المستحيل تماما علي أن أحدد الدرجات.» ومن أجل التسهيل، وضعت الأسئلة والإجابات المتعلقة ب «التنشئة» قبل تلك المتعلقة ب «الطبيعة»:
التعليم
كيف تعلمت؟
أعتبر أن أي شيء ذي قيمة قد تعلمته ذاتيا.
هل أسهم في تحسين عادات الملاحظة أم حجمها؟
حجمها؛ لأنه كان تعليما تقليديا تماما في الجزء الأكبر منه.
هل أسهم في تحسين الحالة الصحية أم لا؟
نعم.
هل توجد له مزايا خاصة؟
لا، إطلاقا.
ما أبرز الأشياء التي لم يشملها؟
لا رياضيات، ولا لغات عصرية، ولا أي من عادات الملاحظة أو الاستدلال.
هل كان للعقيدة الدينية التي درست إياها في شبابك أي تأثير رادع في حرية أبحاثك؟
لا.
هل تبدو تفضيلاتك العلمية فطرية؟
فطرية بالتأكيد.
هل حددتها أي أحداث معينة، وما هي تلك الأحداث؟
نزعتي الفطرية للتاريخ الطبيعي قد أكدتها ووجهتها رحلة «البيجل».
السؤال
أنت
والدك
اذكر أي اهتمامات كانت تمارس بانتظام شديد.
العلوم وبعض الرياضات الميدانية بشغف في أيام الشباب.
الدين؟
تابع لكنيسة إنجلترا اسميا.
تابع لكنيسة إنجلترا اسميا.
السياسة؟
ليبرالي أو جذري.
ليبرالي.
الصحة؟
جيدة في أيام الشباب، سيئة في الأعوام الثلاثة والثلاثين الأخيرة.
جيدة طوال حياته باستثناء النقرس.
القامة وما إلى ذلك؟
الطول؟
الهيئة الجسدية، وما إلى ذلك؟
محيط الرأس.
الطول؟
الهيئة الجسدية، وما إلى ذلك؟
6 أقدام.
نحيلة وإن كانت سمينة بعض الشيء في الشباب.
22 بوصة وربع.
6 أقدام وبوصتان.
عريضة وبدينة جدا.
لون الشعر؟
لون البشرة؟
لون الشعر؟
لون البشرة؟
بني.
شاحبة بعض الشيء.
بني
متوردة.
الطبع المزاجي؟
عصبي بعض الشيء.
متفائل مرح.
الطاقة الجسدية وما إلى ذلك؟
تتجلى الطاقة في النشاط الكثير، وفي القدرة على مقاومة التعب وقتما كانت صحتي بخير. كنا نستطيع أنا ورجل آخر وحدنا إحضار الماء إلى مجموعة كبيرة من الضباط والبحارة المنهكين تماما. كانت بعض رحلاتي الاستكشافية في أمريكا الجنوبية ذات طابع مغامر. أنهض في الصباح الباكر.
قدرة هائلة على التحمل، مع أنه كان يشعر بتعب شديد، سواء بعد المشاورات أو الرحلات الطويلة، وكان نشطا جدا دونما إفراط، وكان ينهض في وقت باكر جدا، ولم يكن يسافر. قال والدي إن والده كان يعاني بشدة الشعور بالإرهاق؛ لأنه كان دءوبا جدا في عمله.
الطاقة الذهنية وما إلى ذلك؟
تتجلى في العمل الدقيق المستمر فترة طويلة على موضوع واحد، مثل العمل طيلة 20 عاما على «أصل الأنواع»، وتسعة أعوام على «هدابيات الأرجل».
عادة ما كان ذهنه نشطا جدا، وكان ذلك يتجلى في محادثاته مع مجموعات متوالية من الأشخاص طوال اليوم.
الذاكرة؟
ذاكرة ضعيفة جدا في تذكر التواريخ والتعلم عن ظهر قلب، لكنها جيدة في تذكر العديد من الحقائق تذكرا عاما أو تقريبيا.
ذاكرة قوية جدا في تذكر التواريخ. ففي سن كبيرة، وبينما كان شخص ما يتلو عليه كتابا لم يقرأه إلا في شبابه، استطاع أن يسرد له الفقرات التالية في الكتاب، كان يعرف تواريخ ميلاد كل الأصدقاء والمعارف وتواريخ وفاتهم وما إلى ذلك.
الاجتهاد في الدراسة والمطالعة؟
مجتهد جدا، ولكن دون تحصيل كبير.
لم يكن مجتهدا جدا، ولا منفتح الذهن للغاية، باستثناء الحقائق التي كانت تذكر في المحادثات، وكان بارعا جدا في جمع النوادر والحكايات.
استقلالية الرأي؟
مستقل إلى حد كبير، على ما أظن، لكني لا أستطيع ذكر أمثلة. لقد تخليت عن المعتقد الديني التقليدي بقناعة شبه مستقلة مني، بناء على تأملاتي الخاصة.
كان يفكر باستقلالية في المسائل الدينية. ليبرالي لديه شيء من النزعة نحو الفلسفة المحافظة.
الأصالة أو الشذوذ عن المألوف؟
يظن ... أن هذا ينطبق علي، أما أنا فلا أظن ذلك؛ أقصد نقطة الشذوذ عن المألوف. أظن أنني أبديت أصالة في العلم؛ لأنني اكتشفت اكتشافات تتعلق بأشياء شائعة.
شخصية تتسم بالأصالة، وكان له تأثير شخصي بالغ وقدرة على جعل الآخرين يهابونه . كان يحفظ حساباته بعناية بالغة بطريقة غريبة في عدد من الكتب الصغيرة المنفصلة دون استخدام أي دفتر عام.
المواهب الخاصة؟
لا يوجد، باستثناء تولي شئون المال والأعمال، كما يتجلى في حفظ الحسابات، والرد على المراسلات وإجادة استثمار المال. منضبط جدا في عاداتي كلها.
إتقان الجانب العملي من شئون المال والأعمال؛ إذ جنى ثروة كبيرة ولم يتكبد أي خسائر.
خصائص ذهنية ملحوظة بشدة، متعلقة بالنجاح العلمي، ولم تذكر أعلاه؟
الاتزان الذهني والفضول الشديد لمعرفة الحقائق ومعناها. وبعض الحب تجاه ما هو جديد وعجيب.
عاطفة اجتماعية قوية وتعاطف مع الآخرين في أفراحهم. متشكك تجاه الأشياء الجديدة. فضولي تجاه الحقائق. بصيرة ثاقبة. لم يكن اجتماعيا جدا، وكان كريما جدا في منح المال والمساعدة.
ملحوظة:
أعجز تماما عن تقدير شخصيتي بدرجاتك.
يشير الخطاب التالي إلى أشياء كثيرة، من بينها خطاب ظهر في دورية «نيتشر» (بتاريخ 25 سبتمبر 1873) «عن ذكور بعض هدابيات الأرجل وذكورها المكملة، وعن الأعضاء الأثرية.»:]
من تشارلز داروين إلى إي هيكل
داون، 25 سبتمبر 1873
عزيزي هيكل
أشكرك على كتابك
40
الذي أهديتني إياه، وقد سررت جدا برؤية نجاحه الباهر. ستقدم نفعا هائلا في نشر فكرة التطور؛ إذ تدعمها بالعديد من الملاحظات الأصلية. لقد قرأت المقدمة الجديدة باهتمام بالغ. غير أن تأخر ظهور الترجمة الإنجليزية يضايقني ويفاجئني؛ لأنني لم أستطع قط قراءته قراءة شاملة بالألمانية، وسوف أفعل ذلك بالتأكيد عندما يصدر باللغة الإنجليزية. هل حيرتك من قبل معضلة المراحل الأخيرة من عملية تقليص البنى العديمة الفائدة؟ شد ما تحيرني هذه المعضلة مؤخرا. وقد أرسلت للتو خطابا إلى دورية «نيتشر» يتضمن تفسيرا افتراضيا لهذه الصعوبة، وسأرسل إليك الورقة البحثية مع تمييز الفقرة. سوف أرسل أيضا ورقة بحثية أثارت اهتمامي، ولا داعي إلى إعادتها. إنها تتضمن ادعاء فريدا بخصوص ما يسمى التولد التلقائي. أرغب بشدة في أن تحسم هذه المسألة الأخيرة، لكني لا أرى احتمالية لحدوث ذلك. إذا أمكن إثبات صحتها، فسوف يكون هذا مهما جدا لنا ...
مع تمنياتي لك بكل النجاح والتوفيق في مهامك الرائعة، سأظل يا عزيزي هيكل مخلصا لك على الدوام
تشارلز داروين
هوامش
الفصل الثامن
متفرقات، تتضمن طبعات ثانية من كتاب «الشعاب المرجانية»
وكتاب «نشأة الإنسان» وكتاب «تباين الحيوانات والنباتات»
1874-1875 [خصص عام 1874 للعمل على كتاب «النباتات الآكلة للحشرات»، باستثناء الأشهر التي كرست للطبعة الثانية من كتاب «نشأة الإنسان»، وكذلك باستثناء الوقت الذي خصص للطبعة الثانية من كتابه «الشعاب المرجانية» (1874). يرد في مقدمة تلك الطبعة الثانية أن حقائق جديدة قد أضيفت، وأن الكتاب برمته قد نقح، وأن «الفصول الأخيرة قد كتبت من جديد تقريبا.» وورد في الملحق سرد لاعتراضات البروفيسور سيمبر، وكان ذلك سبب التراسل بين هذا العالم المتخصص في التاريخ الطبيعي ووالدي. في مجلد البروفيسور سيمبر، «حياة الحيوان» (أحد مجلدات السلسلة الدولية)، يلفت المؤلف الانتباه إلى هذا الموضوع في الفقرة التالية التي أطرحها باللغة الألمانية؛ لأنني أرى الترجمة الإنجليزية المنشورة غير صحيحة: «يبدو لي أنه في الطبعة الثانية من كتابه الشهير عن الشعاب المرجانية قد وقع ضحية لخطأ يتعلق بملاحظاتي؛ إذ أخطأ تماما في التعبير عن المعلومات التي كنت قد اكتفيت حتى ذاك الوقت بإبقائها موجزة جدا.»
أرسل البروفيسور سيمبر بروفات الطباعة التي تتضمن هذه الفقرة إلى والدي قبل نشر كتاب «حياة الحيوان»، وكانت تلك هي مناسبة الخطاب التالي، الذي نشر بعد ذلك في كتاب البروفيسور سيمبر.]
من تشارلز داروين إلى كيه سيمبر
داون، 2 أكتوبر 1879
عزيزي البروفيسور سيمبر
أشكرك على خطابك اللطيف جدا المؤرخ بتاريخ يوم التاسع عشر، وعلى بروفات الطباعة. أعتقد أنني أفهم كل ما فيها، باستثناء جملة أو اثنتين؛ حيث منعني قصور معرفتي باللغة الألمانية من فهمهما كما ينبغي. هذا هو عذري الوحيد الواهي للخطأ الذي ارتكبته في الطبعة الثانية من كتابي، «الشعاب المرجانية». إن تقريرك الذي أوردته عن جزر بيليو يعد إضافة قيمة إلى معلوماتنا عن الشعاب المرجانية. ليس لدي شيء تقريبا لأقوله عن الموضوع، حتى وإن كنت قد قرأت تقريرك ورأيت خرائطك سلفا، لكني لم أكن أعرف أي شيء عن أدلة الارتفاع الأخير، وعن اعتقادك أن الجزر لم تهبط منذ ذلك الحين. بالتأكيد كان ينبغي لي أن أنظر إليها على أنها قد تكونت في أثناء الهبوط. غير أنني كنت سأواجه مشكلة في أن البحر ليس عميقا جدا قدر ما يكون عادة حول الجزر المرجانية، وأن الشعاب على أحد الجانبين تميل ميلا شديد التدرج تحت البحر؛ وذلك لأن تلك الحقيقة الثانية، على حد ما تسعفني ذاكرتي، حالة غير عادية تماما وليس لها مثيل تقريبا. دائما ما كنت أتوقع أن وجود جزء مرتفع من القاع على عمق مناسب تحت السطح سيؤدي إلى نشوء سلسلة من الشعاب لا يمكن تمييزها عن جزيرة مرجانية تكونت إبان الهبوط. لم أزل بالطبع متمسكا برأيي المتمثل في أن الجزر المرجانية وحواجز الشعاب في وسط المحيطين الهادئ والهندي تشير إلى حدوث هبوط، لكني أتفق معك تماما في أن مثل هذه الحالات المشابهة لحالة جزر بيليو، إذا تبين أنها متكررة الحدوث، فستجعل قيمة استنتاجاتي العامة تافهة جدا. سيفصل بيننا الملاحظون المستقبليون بالتأكيد. ستكون حقيقة غريبة إذا تبين أن طبقات المحيطات الكبرى لم تهبط، وإذا تبين أن هذا لم يؤثر في أشكال الشعاب المرجانية.
سررت للغاية عندما رأيت في الصفحات الثلاث الأخيرة من آخر ورقات بروفات الطباعة التي أرسلتها أنك ستتناول موضوع انتشار الحيوانات. أرى تعليقاتك الأولية ممتازة جدا. لا يوجد شيء عن إم فاجنر، كما كنت أتوقع أن أجد. أظن أنك قد رأيت كتاب موزلي الأخير، الذي تضمن بعض الملاحظات الجيدة عن الانتشار.
إنني سعيد لأن كتابك سيصدر باللغة الإنجليزية؛ لأنني سأستطيع حينئذ قراءته بسهولة.
مع أصدق تحياتي وبالغ إخلاصي
تشارلز داروين [صدر النقد الأحدث موجها إلى نظرية الشعاب المرجانية من السيد موراي، الذي كان أحد أفراد رحلة «تشالنجر» الاستكشافية، والذي قرأ ورقة بحثية أمام الجمعية الملكية بإدنبرة، في 5 أبريل 1880.
1
النقطة الرئيسية المطروحة هي احتمالية تراكم جبال تحت سطح البحر قد تكون بمثابة قواعد أساس للشعاب المرجانية. ويسعى السيد موراي أيضا إلى إثبات أن «السمات الرئيسية للشعاب المرجانية والجزر يمكن تفسيرها دون الحاجة إلى الاستعانة بمساعدة هبوط كبير وعام .» يشير الخطاب التالي إلى هذا الموضوع:]
من تشارلز داروين إلى إيه أجاسي
داون، 5 مايو 1881 ... ستكون قد رأيت آراء السيد موراي عن تكون الجزر المرجانية وحواجز الشعاب. فكرت مليا في الرأي نفسه قبل أن أنشر كتابي، لكن تفكيري اقتصر على ما يتعلق بالكائنات البحرية العادية؛ إذ لم يكن يتوفر حينها سوى قدر ضئيل من المعلومات عن العدد الكبير من الكائنات المحيطية الدقيقة. رفضت هذا الرأي؛ لأنني، بناء على عمليات الجرف القليلة التي أجريت خلال رحلة «البيجل» في المناطق المعتدلة الجنوبية، استنتجت أن الأصداف، والشعاب المرجانية الأصغر حجما، إلخ، قد تحللت وذابت، عندما لم تكن محمية بترسب الرواسب، ولم يتسن للرواسب أن تتراكم في المحيط المفتوح. صحيح أن الأصداف، وما إلى ذلك، كانت في بعض الحالات متعفنة تماما، وانهارت إلى وحل بين أصابعي، لكنك ستعرف جيدا ما إذا كان هذا شائعا بدرجة ما أو بأخرى. لقد قلت بوضوح إن وجود جزء مرتفع من القاع على العمق المناسب سيؤدي إلى نشوء جزيرة مرجانية لا يمكن تمييزها عن جزيرة أخرى تشكلت في أثناء الهبوط. لكني مع ذلك لا أستطيع إطلاقا تصديق أنه كان يوجد في السابق الكثير من الأجزاء المرتفعة من القاع (نظرا إلى عدم حدوث هبوط) بمقدار ما يوجد من الجزر المرجانية في المحيطات الكبرى ضمن عمق معقول، ويمكن أن تكون الكائنات المحيطية الدقيقة قد تراكمت عليها إلى أن أصبح سمكها عدة مئات من الأقدام ... أرجو منك أن تسامحني على الإطالة في إزعاجك إلى هذا الحد، ولكن خطر [ببالي] أنك قد ترغب في الإدلاء بحكمك، بعد خبرتك الواسعة. إذا كنت مخطئا، فكلما اقترب وقت نهايتي وفنائي، كان ذلك أفضل بكثير. ما زلت أعتقد أن عدم حدوث هبوط كبير في طبقات المحيطات الكبرى واستمراره فترة طويلة أمر عجيب جدا. أتمنى أن يقرر مليونير فاحش الثراء فجأة أن يحدث تجاويف في بعض الجزر المرجانية بالمحيطين الهادئ والهندي ويحضر معه إلى الوطن عينات جوفية مأخوذة من عمق 500 أو 600 قدم لتشريحها ... [نشرت الطبعة الثانية من كتاب «نشأة الإنسان» في خريف عام 1874. ظهرت بعض التعليقات القاسية على «فرضية الواحدية» في عدد يوليو من دورية «ذا كورترلي ريفيو» (الصفحة 45).
2
يعبر الناقد عن ذهوله من الجهل ببعض الفروق والمبادئ الأولية (فيما يتعلق بالحديث العقلي مثلا) التي عرضها السيد داروين ضمن نقاط أخرى، بينما لا تبدر أدنى علامة على أنه يستوعبها، غير أن فهمها بوضوح، وإجراء فحص مباشر مفصل لحقائقه المتعلقة بها، «كانا شرطا أساسيا لاحتمالية نجاح محاولة حل اللغز المتعلق بنشأة الإنسان.»
ربما يمكن الإشارة هنا إلى بعض الانتقادات الأخرى التي ظهرت لاحقا. ففي دورية «ذا أكاديمي»، 1876 (الصفحتان 562، 587)، ظهر مقال نقدي بقلم السيد والاس لكتاب السيد ميفارت، «دروس من الطبيعة». يقول السيد والاس إننا، عند النظر إلى الجزء المتعلق بالانتقاء الطبيعي والانتقاء الجنسي في كتاب السيد ميفارت، نجد أن «مؤلفنا يستخدم في هجومه العنيف على نظريات السيد داروين لغة قاسية جدا إلى حد غير عادي. ولا يكتفي بمجرد الجدل، بل يعرب عن «استنكار آراء السيد داروين»، ويشدد على أنه (أي السيد داروين) قد أجبر، تقريبا، على التخلي عن نظريته، لكن الداروينيين ما زالوا يؤيدونها بشيء من «الوقاحة المجردة من الضمير»، وقد أخفي بطلانها الفعلي بواسطة «اتفاق تآمري على الصمت».» ويواصل السيد والاس قائلا إن هذه الاتهامات لا أساس لها، ويشير إلى أنه إذا كان «السيد داروين يمتاز عن العلماء والأدباء المعاصرين بشيء واحد دونا عن غيره، فإنما يمتاز بأمانته الأدبية التامة، ونكرانه لذاته في الاعتراف بأنه مخطئ، والسرعة المتلهفة التي يعلن بها الأخطاء البسيطة في أعماله، التي يكتشفها بنفسه في الغالب، بل ويضخمها.»
تشير الفقرة التالية المقتطفة من خطاب إلى السيد والاس (بتاريخ 17 يونيو) إلى ادعاء السيد ميفارت (في كتاب «دروس من الطبيعة»، الصفحة 144) بأن السيد داروين تعمد في البداية إخفاء آرائه بشأن «وحشية الإنسان»: «لقد سمعت للتو عن مقاليك في دورية «ذا أكاديمي»، وحصلت عليهما. أشكرك من صميم قلبي على دفاعك الكريم عني ضد ادعاءات السيد ميفارت. لم أناقش في كتاب «أصل الأنواع» اشتقاق أي نوع واحد، لكن لكيلا أتهم بإخفاء رأيي، تكلفت العناء وأدرجت جملة بدت (وما زالت تبدو لي) أنها تكشف بوضوح عن قناعتي. وقد اقتبست ذلك في كتابي «نشأة الإنسان». لذا فمن الظلم الشديد ... أن يتهمني السيد ميفارت بالإخفاء المخادع الوضيع.»
الخطاب التالي مهم فيما يتعلق بمناقشة أصل الحس الموسيقي لدى الإنسان في كتاب «نشأة الإنسان»:]
من تشارلز داروين إلى إي جرني (مؤلف كتاب «قوة الصوت»)
داون، 8 يوليو 1876
عزيزي السيد جرني
قرأت مقالك
3
باهتمام بالغ، ما عدا الجزء الثاني منه، الذي كان يتجاوز نطاق معرفتي. سررت جدا بأنك تتبنى نفس آرائي إلى حد ما. فانتقادك لفكرة أن الصرير الذي تصدره الحشرات لا بد أن يكون إيقاعيا، انتقاد ممتاز، لكن هذا الصوت وإن كان لا يصدر عن عمد، ربما يكون سارا للإناث؛ لأن الخلايا العصبية تكاد تكون متشابهة الوظيفة في المملكة الحيوانية كلها. بخصوص خطابك، أعتقد أنني أفهم قصدك، وأتفق معك. لم أتصور قط أن أنواع المتعة المستمدة من الموسيقى المختلفة، والدرجات المختلفة لهذه المتعة، يمكن تفسيرها بالقدرات الموسيقية لدى أسلافنا من أشباه البشر. أليست الحقيقة القائلة بأن الأشخاص المختلفين المنتمين إلى الأمة المتحضرة نفسها يتأثرون تأثرا مختلفا تماما بالموسيقى نفسها، تكاد تبين أن كلا منهم اكتسب هذا الاختلاف في الذوق والاستمتاع في حياته الفردية؟ أرى أن تشبيهك الموسيقى بالمعمار جيد جدا؛ لأن إدراك الجمال في هذه الحالة لا بد أن يكون فرديا في الغالبية العظمى من الحالات، وإن كان من المحتمل أن يكون للشعور بالجلال والسمو الذي تثيره في النفس كاتدرائية مهيبة، صلة ما بالمشاعر الغامضة المتمثلة في الرعب والخوف لدى أسلافنا الهمج، عندما كانوا يدخلون كهفا كبيرا أو غابة قاتمة. أتمنى أن يستطيع شخص ما تحليل الشعور بالجلال والسمو. كم أستمتع عندما أفكر في مدى الذعر الشديد الذي سينتاب بعض المغالين من المهتمين بالجماليات عندما يرونك تشجع آراء منحطة وضيعة كآرائي.
مع أصدق تحياتي وبالغ إخلاصي
تشارلز داروين [تفيد الخطابات التالية في الإشارة إلى جوانب متنوعة. يشير الاقتباس الأول (من خطاب بتاريخ 18 يناير 1874) إلى جلسة استحضار أرواح روحانية، عقدت في منزل إيرازموس داروين، 6 شارع كوين آن، برعاية وسيط روحاني معروف:] «... استمتعنا جدا؛ إذ استعان جورج في عصر أحد الأيام بوسيط روحاني أعد الكراسي ومزمارا وجرسا وشمعدانا، وشعلا من النيران، وجعل ذلك كله يتطاير في أنحاء غرفة طعام أخي، بطريقة أذهلت الجميع وأبهرتهم. كان ذلك في ظلام دامس، لكن جورج وهينزلي ويدجوود كانا ممسكين بيدي الوسيط الروحاني وقدميه على كلا الجانبين طوال الوقت. أصابني الموقف بالتوتر والإرهاق الشديدين إلى حد أنني غادرت قبل أن تحدث كل هذه المعجزات المذهلة، أو حيل الشعوذة. لا أفهم إطلاقا كيف تأتى للرجل أن يفعل ما فعل. لقد نزلت إلى الطابق السفلي، ورأيت كل الكراسي، وما إلى ذلك، على الطاولة، التي كانت مرفوعة فوق رءوس كل أولئك الذين كانوا جلوسا حولها.
فلتتنزل رحمة الرب علينا كلنا إذا كان علينا أن نؤمن بمثل هذا الهراء. كان إف جالتون حاضرا هناك، ويقول إنها كانت جلسة استحضار جيدة ...»
أسفرت تلك الجلسة المشار إليها عن جلسة أخرى أصغر ومنظمة بعناية أكبر، وقد حضر السيد هكسلي هذه الجلسة الأخرى، وأبلغ والدي بما جرى فيها:]
من تشارلز داروين إلى البروفيسور تي إتش هكسلي
داون، 29 يناير [1874]
عزيزي هكسلي
كانت لفتة طيبة جدا منك أن تسرد لي مثل هذا القدر الكبير. ومع أن جلسة الاستحضار أرهقتك بشدة، فإنني أعتقد أنها استحقت ما بذلته من جهد حقا؛ لأن هذا النوع نفسه من الأشياء يحدث في كل جلسات الاستحضار، حتى في جلسات ... والآن صرت أرى أنه من الضروري أن يتوفر قدر هائل من الأدلة لكي يصدق المرء أن شيئا ما ليس مجرد خدعة ... يسعدني أنني صرحت لأفراد أسرتي كلهم، أول أمس، بأنني كلما فكرت في كل ما سمعت بحدوثه في شارع كوين آن، ازداد اقتناعي بأن الأمر كله محض خدعة ... كانت نظريتي أن [الوسيط] جعل كلا الرجلين اللذين كانا على جانبيه يمسك أحدهما بيد الآخر، بدلا من يده هو، فاستطاع بذلك أداء حيله بحرية تامة. أنا سعيد جدا لأنني أصدرت مرسوما لك بالحضور.
خالص مودتي
سي داروين [في ربيع هذا العام (1874)، قرأ كتابا أمتعه جدا، وكثيرا ما كان يتحدث عنه بكل إعجاب؛ ألا وهو «عالم تاريخ طبيعي في نيكاراجوا»، الذي ألفه الراحل توماس بيلت. كان السيد بيلت، الذي يجدر بعلماء التاريخ الطبيعي أن يأسفوا بشدة على وفاته المبكرة، يمتهن الهندسة في الأساس؛ لذا كانت كل ملاحظاته الرائعة في التاريخ الطبيعي في نيكاراجوا وأماكن أخرى حصيلة أوقات فراغه. الكتاب ذو أسلوب واضح يثير في الذهن صورا واضحة جدا، وغني بالأوصاف والمناقشات الملهمة. وقد قال والدي عنه في خطاب إلى السير جيه دي هوكر: «قرأت كتاب بيلت، وأنا مسرور جدا لأنه أعجبك كثيرا، أرى أنه أفضل ما نشر على الإطلاق بين كل اليوميات المتعلقة بالتاريخ الطبيعي.»]
من تشارلز داروين إلى الماركيز دو سابورتا
داون، 30 مايو 1874
سيدي العزيز
إنني مهمل جدا إذ تأخرت حتى الآن في شكرك على لطفك الذي تحليت به في إرسال كتابك «دراسات عن نباتات»، إلخ، وغيره من المذكرات. قرأت العديد منها باهتمام بالغ جدا، وأرى أن النقطة الأهم على الإطلاق هي دليلك على الوتيرة البطيئة والتدريجية جدا التي تتغير بها أشكال معينة. ألاحظ أن السيد إم إيه دي كوندول قد استشهد مؤخرا بكلامك عن هذه النقطة في معارضة هير. آمل أن تستطيع توضيح بعض من غموض مسألة ما إذا كانت الأشكال الكثيرة التغير أو التي توجد منها أشكال متعددة، كأشكال العليق وحشيشة الغراب، وما إلى ذلك، في الوقت الحاضر هي تلك التي تولد أنواعا جديدة، أنا عن نفسي، دائما ما راودني بعض الشك حيال هذه النقطة. أثق في أنك ستجعل العديد من أبناء بلدك يؤمنون بنظرية التطور قريبا، وربما سينتهي حينئذ ازدراء اسمي. بخالص الاحترام، سأظل وفيا لك يا سيدي العزيز.
تحياتي وتقديري
سي داروين
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، 5 يونيو [1874]
عزيزي جراي
لقد فرغت الآن من قراءة مقالك
4
في دورية «نيتشر»، ووجدت أن الفقرتين الأخيرتين لم تردا في القصاصة التي أرسلت سلفا. لقد كتبت لك خطابا يوم أمس، ولا أستطيع أن أتذكر ما قلته فيه بالضبط، ولا أستطيع أن أستريح الآن دون أن أعبر لك مجددا عن مدى امتناني العميق. أتصور أن كل امرئ يظن من حين إلى آخر أنه يعمل بلا جدوى، وعندما تنتابني إحدى هذه النوبات، سأتذكر مقالك، وإذا لم يقض على هذه الروح الشريرة، فسأعرف حينها أنني أعاني شيئا من الجنون، مثلما يحدث لنا جميعا من حين إلى آخر.
سررت جدا بما تقوله عن مبدأ الغائية،
5
ولا أظن أن أي أحد غيرك قد لاحظ هذه النقطة
6
على الإطلاق. دائما ما أقول إنك الرجل الذي يصيب كبد الحقيقة.
مع خالص امتناني ومودتي
سي داروين [ينبغي ذكر اجتماع الجمعية البريطانية في عام 1874، في بلفاست، باعتباره إسهاما في تاريخ استقبال كتاب «أصل الأنواع». وهو جدير بالذكر بسبب الخطبة الرئاسية الباهرة التي ألقاها البروفيسور تندل، والتي ورد فيها ملخص لتاريخ التطور ينتهي بتحليل بليغ لكتاب «أصل الأنواع»، وطبيعة نجاحه الكبير. وعن خطبة البروفيسور تندل، قال لايل في خطاب
7
إلى والدي مهنئا إياه على الاجتماع: «يمكن القول بكل حيادية إنك قد حظيت في هذا الاجتماع، أنت ونظريتك عن التطور، بتصفيق حار.» ويتحدث السير تشارلز في الخطاب نفسه عن ورقة بحثية
8
للبروفيسور جود، وهذا ما يشير إليه الخطاب التالي:]
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، 23 سبتمبر 1874
عزيزي لايل
أظن أنك قد عدت إلى لندن،
9
أو ستعود قريبا؛ وآمل أن تكون هذه الرحلة القصيرة قد جددت نشاطك. تحدثت في خطابك الأخير عن ورقة السيد جود عن براكين هبريدس. أتممت قراءتها للتو، ولكي يهدأ بالي، يجب أن أعبر عن إعجابي البالغ.
مرت سنوات منذ أن قرأت ورقة بحثية جيولوجية بحتة أثارت بالغ اهتمامي. وما زاد اهتمامي بها هو أنني، عندما كنت في سلاسل جبال أمريكا الجنوبية، غالبا ما كنت أفكر في مصادر فيضانات الحمم البورفيريتية تحت سطح الماء، والتي بنيت هذه الجبال منها، وكما ذكرت، فقد رأيت، إلى حد ما، أسباب طمس نقاط الثوران. وكذلك سررت جدا حين رأيت الاستشهاد بكتابي عن البراكين؛ لأنني كنت أحسبه قد أصبح شيئا من الماضي ونسي تماما. يا له من عمل رائع ذاك الذي سيؤديه السيد جود بالتأكيد! ... الآن قد ارتاح بالي؛ ولذا فإلى اللقاء، مع أطيب تحيات إيما داروين وتشارلز داروين إلى السيدة لايل.
مع خالص مودتي
تشارلز داروين [لا بد أن رد السير تشارلز لايل على الخطاب الوارد أعلاه كان واحدا من آخر الردود التي تلقاها والدي من صديقه القديم، وبهذه الرسالة تختتم مجلدات مراسلاته المنشورة.]
من تشارلز داروين إلى أوج فوريل
داون، 15 أكتوبر 1874
سيدي العزيز
الآن وقد فرغت من قراءة كتابك الرائع،
10
أستطيع أن أخبرك بأنني نادرا ما قرأت في حياتي أي كتاب آخر أكثر إثارة لاهتمامي منه. ذلك أنه يتضمن كما هائلا من الحقائق والمناقشات المثيرة للاهتمام، التي لا أعرف إطلاقا أيها ينبغي أن أخصه بالذكر، لكني، أولا، أعتقد أن أحدث النقاط التي لم أسمع بها من قبل كانت تلك المتعلقة بحجم الدماغ لدى الأجناس الثلاثة، إلى جانب اقتراحك بأن زيادة قدرة العقل ربما أدت إلى عقم شغالات النمل. وثانية هذه النقاط هي تلك المتعلقة بمعارك النمل، وكلامك الغريب الذي قلت فيه إن النمل الغاضب يحتجزه رفاقه حتى يهدأ. وثالثها ذلك الدليل على أن النمل المنتمي إلى المجتمع نفسه هو ذرية ناتجة من إخوة وأخوات. أظن أنك تقر بأن المجتمعات الجديدة ستكون في الغالب نتاج تزاوج تهجيني بين نمل لا تجمعه صلة قرابة. لقد طرح فريتز مولر بعض الملاحظات المثيرة للاهتمام بخصوص هذه النقطة فيما يتعلق بالنمل الأبيض. تعد حالة النمل الطفيلي
Anergates
محيرة جدا من عدة نواح، لكني مؤمن بقانون التهجين العرضي إيمانا يجعلني أعتقد أن تفسيرا ما سيظهر لاحقا، مثل اتسام أي من الجنسين بثنائية الشكل، وإنتاج ذكور مجنحة من حين إلى آخر. أرى أنك متحير بشأن الكيفية التي يتعرف بها بعض النمل المنتمي إلى المجتمع نفسه على البعض الآخر، ومن ثم أخبرك أنني ذات مرة وضعت اثنتين (من نمل الخشب الأحمر) في علبة أقراص صغيرة ذات رائحة أنجدان قوية ، وبعد ذلك بيوم واحد، أعدتهما إلى مسكنهما؛ فتعرضتا للتهديد من بقية النمل، لكنه تعرف عليهما في النهاية. أجريت تلك التجربة ظنا مني أن النمل ربما يتعرف بعضه على بعض بالرائحة، لكن هذا لا يمكن أن يكون صحيحا، وكثيرا ما تصورت أن بينه إشارة ما مشتركة بالتأكيد. يتضمن فصلك الأخير كما هائلا من الحقائق والاقتراحات الرائعة، وكله مثير جدا للاهتمام. قلما انتابتني سعادة أشد من تلك التي شعرت بها عندما رأيت كلامك المشرف الذي تذكر به كتابي.
أود إخبارك بملاحظة بسيطة توصلت إليها منذ سنوات عديدة بعد رصد دقيق، وهي أنني رأيت نملا (من نمل الخشب الأحمر) يحمل شرانق من عش كان أكبر عش رأيته على الإطلاق، وكان معروفا لكل سكان الريف القريبين، وأخبرني رجل عجوز، عمره حوالي 80 عاما حسب ما بدا، بأنه كان يعرفه منذ كان صبيا. لم يبد أن النمل الحامل للشرانق كان مهاجرا؛ فعندما تبعت طابوره، رأيت الكثير منه يصعد شجرة تنوب طويلة وهو لا يزال حاملا شرانقه. لكن عندما دققت النظر عن كثب، وجدت أن كل الشرانق كانت أغشية فارغة. أذهلني ذلك، وفي اليوم التالي، جعلت رجلا يلاحظ معي، ورأينا مجددا بعض النمل يخرج شرانق فارغة من العش، فثبت كل منا عينيه على نملة، وتابعها ببطء، وكررنا الملاحظة على كثير من النمل. ومن ثم وجدنا أن بعض النمل سرعان ما أسقط شرانقه، فيما حمل البعض الآخر شرانقه لمسافة عدة ياردات، تصل إلى 30 خطوة، وظل البعض الآخر يحملها إلى أن تسلق بها شجرة التنوب وغاب عن أعيننا. أظن أن هذه الحالة تمثل وجود غريزة تتنافس مع غريزة أخرى غير صائبة. أما الغريزة الأولى فهي حمل الشرانق الفارغة خارج العش، وكان سيكفي أن توضع على كومة من القمامة؛ إذ كانت أولى نسمات الرياح ستذروها بعيدا. يأتي بعد ذلك التنافس مع الغريزة الأخرى القوية جدا والمتمثلة في الحفاظ على الشرانق وحملها أطول فترة ممكنة، وهذا ما لم تستطع النملات أن تمنع أنفسها من فعله، مع أن الشرانق كانت فارغة. ووفقا لقوة كل من الغريزتين لدى كل نملة على حدة، حملت هذه النملة الشرنقة الفارغة مسافة أطول أو أقصر. إذا تبين في أي وقت أن هذه الملاحظة تحمل أي فائدة لك، فلك مطلق الحرية في الاستفادة منها. وبتكرار الشكر من صميم قلبي على السعادة البالغة التي منحني إياها كتابك، أبقى مخلصا لك على الدوام.
مع خالص الاحترام
سي داروين
ملحوظة:
إذا كنت تقرأ اللغة الإنجليزية بسهولة، أود أن أرسل إليك كتاب السيد بيلت؛ لأنني أظن أنه سيعجبك قدر ما أعجب فريتز مولر.
من تشارلز داروين إلى جيه فيسك
داون، 8 ديسمبر 1874
سيدي العزيز
اسمح لي أن أشكرك على الاهتمام البالغ الذي أثير في نفسي عندما استطعت أخيرا أن أقرأ كتابك كله بتأن.
11
ذلك أنني كنت أرغب منذ أمد بعيد في أن أعرف شيئا عن آراء العديد من العظماء الذين تطرح أفكارهم. باستثناء نقاط خاصة، لم أفهم فكرة إتش سبنسر العامة حتى؛ لأن فهم أسلوبه يتطلب جهدا مضنيا جدا يفوق طاقتي. لم أشهد بين كل من قرأت لهم في حياتي مفسرا (وبالتبعية مفكرا) يسهل فهم كلامه مثلك، وأظن أنني أفهم الكتاب كله تقريبا، وإن كنت أفهم الألوهية الكونية والسببية بوضوح أقل مما أفهم به الأجزاء الأخرى. لا جدوى من أن أحاول أن أخص بالذكر أي الأجزاء كان أكثر إثارة لاهتمامي من بين أجزاء كثيرة جدا، ومن المرجح أنك لن تهتم بمعرفة ذلك. أتمنى أن يحاول أحد الكيميائيين التيقن من نتيجة تبريد غازات مسخنة من الأنواع المناسبة، فيما يتعلق بفرضيتك عن أصل المادة الحية. سررت عندما وجدت في مواضع متفرقة من الكتاب أنني قد توصلت سلفا، بناء على أفكاري الأولية، إلى بعض الاستنتاجات نفسها معك، مع أنني نادرا ما استطعت ذكر أسبابي التي دفعتني إلى مثل هذه الاستنتاجات، هذا إن استطعت ذكرها أصلا. أجد أن عقلي شديد التركيز على الأسلوب الاستقرائي إلى حد أنني لا أستطيع الإعجاب بالتفكير الاستنباطي ؛ إذ يجب أن أنطلق من مجموعة كبيرة من الحقائق (أظن دائما أنها تحمل قدرا من المغالطة) وليس من مبدأ، ثم يأتي بعدئذ قدر ما تشاء من الاستنتاج. ربما ينم هذا عن ضيق الأفق، لكن النتيجة أنني عندما أتأنى في قراءة مثل هذه الأجزاء من كلام إتش سبنسر، ينبهر عقلي بثروته التي لا تنضب من الإيحاء والإلهام، لكن هذه الثروة لا تقنعني أبدا، وأجد أن هذا يحدث أيضا عندما أقرأ لبعض المؤلفين الآخرين. أعتقد أن السبب يكمن في المرات العديدة التي وجدت فيها أن النظريات التي شكلت أولا خاطئة. أشكرك على الكلمات المشرفة التي تذكر بها أعمالي. من المؤكد أنك رأيت بعض أجزاء كتاب «نشأة الإنسان» ضعيفة إلى حد مضحك، ومع ذلك، أرسلت إليك طبعة جديدة نشرت للتو. مع خالص شكري لك على ما أثاره كتابك في نفسي من اهتمام عميق والفائدة البالغة التي منحني إياها، سأظل مخلصا لك على الدوام.
خالص احترامي
سي داروين
1875 [كان العمل الوحيد الذي شغل والدي في هذا العام، دون أن يكون عملا نباتيا بحتا، هو تصحيح الطبعة الثانية من كتاب «تباين الحيوانات والنباتات»، وقد ظل منهمكا فيه من بداية يوليو حتى الثالث من أكتوبر. وقضى بقية العام في عمله على النباتات الآكلة للحشرات والتلقيح المتبادل، كما سيظهر في فصل لاحق. أبرز التغييرات الرئيسية التي شهدتها الطبعة الثانية من كتاب «تباين الحيوانات والنباتات» قد أجريت في الفصل الحادي عشر الذي يتناول «تباين البراعم وبعض أنماط التكاثر الشاذة»، وكذلك خضع الفصل المتعلق بفرضية شمولية التكوين «لقدر كبير من التغيير وإعادة الصياغة». يتحدث والدي بإيجاز عن بعض المؤلفين الذين علقوا على نظريته. ويبدو أنه رأى في مقال البروفيسور دلبينو - الذي كان بعنوان «عن نظرية شمولية التكوين الداروينية»، 1869، وكانت نقدا معارضا لكنه منصف - مادة قيمة. ويتحدث والدي بطريقته المميزة
12
عن نقد آخر، قائلا: «يسخر الدكتور ليونيل بيل (دورية «نيتشر»، عدد 11 مايو 1871، الصفحة 26) من النظرية كلها بحدة شديدة وبعض الإنصاف.» ويشير أيضا إلى أن كتاب باولو مانتيجاتزا، «عناصر الحفاظ على الصحة»، شهد التنبؤ بنظرية شمولية التكوين بكل وضوح.
بخصوص هذا الموضوع، ينبغي ذكر خطاب والدي إلى دورية «نيتشر» (27 أبريل 1871). فقد قرئت ورقة بحثية من تأليف السيد جالتون أمام الجمعية الملكية (بتاريخ 30 مارس 1871) تتضمن ذكر تجارب، أجريت على نقل الدم؛ من أجل اختبار صحة فرضية شمولية التكوين. ومع أن والدي يمنح السيد جالتون كل التقدير المستحق على تجاربه النابغة، فهو لا يسلم بأن فرضية شمولية التكوين «قد تلقت الضربة القاضية بعد، مع أن حياتها مهددة بالخطر دائما بسبب العديد من النقاط الضعيفة فيها.»
ويبدو أنه وجد مهمة التصحيح منهكة جدا؛ لأنه كتب: «ليست لدي أي أخبار عن نفسي؛ لأنني أقضي وقتي كله في العمل الشاق لإنجاز المهمة المثيرة للإعياء والمتمثلة في إعداد طبعات جديدة. ليتني كنت أحمل ولو القليل من أحاسيس لايل المسكين الذي يشعر بالمتعة عند تحسين جملة ما، كرسام يحسن لوحة.»
ويتضح الشعور بالجهد الشاق أو الإجهاد بسبب هذه المهمة في خطاب إلى البروفيسور هيكل: «الرب وحده يعلم ما سأفعله في المستقبل إذا عشت، لكني ربما يجدر بي أن أتجنب الموضوعات العامة والكبيرة؛ لأن صعوبتها تفوق طاقتي مع تقدمي في السن، وضعف عقلي، حسبما أظن.»
في نهاية شهر مارس من هذا العام، انتهت اللوحة التي كان يقعد أمام السيد أوليس من أجل رسمها. كان يشعر بأن هذه الجلسات تصيبه بإرهاق شديد، مع أن السيد أوليس كان يراعي ذلك، وكان مستعدا على الدوام لأن يعفيه من هذا العناء متى أمكن. كتب في خطاب إلى السير جيه دي هوكر: «أبدو رجلا عجوزا مبجلا وفطنا وحزينا جدا، لا أعرف ما إذا كنت أبدو هكذا حقا أم لا.» الصورة بحوزة العائلة، وهي معروفة للكثيرين من خلال نقش السيد راجون لها. أرى أن صورة السيد أوليس هي أدق صورة مثلت والدي على الإطلاق.»
يشير الخطاب التالي إلى وفاة السير تشارلز لايل، التي وقعت في 22 فبراير 1875 عن عمر يناهز 78 عاما.]
من تشارلز داروين إلى الآنسة باكلي (صارت السيدة فيشر الآن)
13
داون، 23 فبراير 1875
عزيزتي الآنسة باكلي
ينتابني حزن عميق لسماع خبر وفاة صديقي الطيب القديم، مع أنني كنت أعرف أنها لا يمكن أن تتأخر طويلا، وأن عدم استمرار حياته فترة أطول كان من حسن الحظ؛ لأنني أظن أن عقله كان سيعاني حتما حينذاك. أنا سعيد لأن الليدي لايل قد أنقذت من عيش هذه الصدمة المروعة (توفيت الليدي لايل في عام 1873). تجعلني وفاته أتذكر المرة الأولى التي رأيته فيها، وكم كان مفعما بالتعاطف والاهتمام تجاه ما كنت أقوله له عن الشعاب المرجانية وأمريكا الجنوبية! أظن أن هذا التعاطف مع عمل كل عالم آخر من علماء التاريخ الطبيعي كان إحدى أجمل سمات شخصيته. يا لها من ثورة تامة تلك التي أحدثها في الجيولوجيا؛ لأنني أستطيع تذكر بعض ملامح حقبة ما قبل لايل!
لا أنسى أبدا أنني مدين بكل ما أنجزته في العلوم تقريبا لدراسة أعماله العظيمة. حسنا، لقد كانت مسيرته المهنية عظيمة وسعيدة، ولم يعمل أحد قط في سبيل قضية نبيلة بحماسة أصدق من حماسته. كم غريب أنني لن أستطيع مجددا أبدا أن أقعد معه هو والليدي لايل على فطورهما! إنني في غاية الامتنان لك على تفضلك البالغ بإرسال خطاب إلي.
أرجو أن تبعثي بأطيب تحياتي إلى الآنسة لايل، وآمل ألا تكون صحتها قد ساءت كثيرا، من الإرهاق والقلق.
مع أصدق تحياتي وبالغ إخلاصي يا آنستي العزيزة باكلي
خالص احترامي
تشارلز داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 25 فبراير [1875]
عزيزي هوكر
أثار خطابك المفعم بالإحساس بالغ اهتمامي. لا أستطيع القول إنني صدمت جدا بوفاته [لايل]؛ لأنني كنت أتوقعها تماما، واعتبرت منذ وقت قريب أن حياته العملية قد انتهت.
لم أكن أخشى شيئا بقدر ما كنت أخشى أن يبقى على قيد الحياة بضعف في قدراته العقلية. بالتأكيد كان رجلا نبيلا من نواح عديدة، وربما كان نبله يتجلى بأقصى درجة في تعاطفه الودود مع عمل الآخرين. ما زلت أتذكر بوضوح شديد محادثتي الأولى معه، وكيف أذهلني باهتمامه بما كنت أقوله. وما كان أعظم صراحته وحبه الخالص للحقيقة! حسنا ، لقد رحل، وأشعر بأننا كلنا سنرحل عما قريب ... إنني سعيد جدا بخصوص مسألة كنيسة ويستمينستر آبي،
14
التي لم تخطر احتماليتها ببالي عندما أرسلت إليك من قبل. صحيح أنني كنت أرى أن أعماله ستكون الشاهد الأبقى بين كل شواهد تكريمه وتقديره (كما تقول)، لكني كنت أكره فكرة رحيله دون أي علامة ظاهرية على رأي العلماء في جدارته. الآن قد تغير كل ذلك، ولا شيء يمكن أن يكون أفضل من كنيسة ويستمينستر آبي. لقد طلبت مني السيدة لايل أن أكون واحدا من حملة النعش، لكني أرسلت إليها خطابا قلت فيه إنني لن أجرؤ على ذلك؛ لأنني من المرجح جدا أن أشعر بالوهن وسط مراسم الجنازة، ويصاب رأسي بالدوار. من المؤكد أن هذه المسألة كلها قد كبدتك الكثير من الإرهاق والهم، وكم أتمنى لو أنك كنت خارج إنجلترا ... [في عام 1881، قال في خطاب إلى السيدة فيشر بخصوص مقالها عن السير تشارلز لايل في «الموسوعة البريطانية»:
أظن أنك لا تريدين التحدث كثيرا عن شخصيته الخاصة في هذا المقال، وإلا فربما أمكن أن تضيفي حسه الفكاهي القوي، وحبه القوي للمجتمع. وكذلك اهتمامه البالغ بتقدم العالم، وبسعادة البشرية. إضافة إلى تحرره من كل التعصب الديني، غير أن هذه السمات ربما كانت ستصبح زائدة عن الحاجة.»
يشير الخطاب التالي إلى موضوع مركز علوم الحيوان في نابولي، الذي كان والدي مهتما به بكل حماسة:]
من تشارلز داروين إلى أنتون دورن
داون، [1875؟]
عزيزي الدكتور دورن
شكرا جزيلا لك على خطابك اللطيف جدا، سررت من أعماق قلبي بتحسن صحتك ونجاح مشروعك العظيم، الذي سيكون له بالغ الأثر في تقدم علم الحيوان في أوروبا كلها.
إذا نظرنا إلى إنجلترا وحدها، فيا له من عمل ممتاز ذلك الذي أنجزه بلفور وراي لانكستر في المركز بالفعل ... أظن أنك ستحضر السيدة دورن معك عندما تأتي إلى إنجلترا، وسوف نسعد بلقائكما أنتما الاثنين هنا. فكثيرا ما أتباهى باستضافة فارس بروسي حي في منزلي! ستكون قراءة آرائك الجديدة بشأن سلالة الفقاريات شائقة جدا لي. سأحزن على الافتراق عن الكيسيات، التي أكن امتنانا عميقا لها، لكن الشيء العظيم، حسبما يبدو لي، هو أنه ينبغي إيجاد أي صلة على الإطلاق بين التقسيمات الأساسية لمملكة الحيوان ...
من تشارلز داروين إلى أوجست فايزمان
داون، 6 ديسمبر 1875
سيدي العزيز
أثار مقالك عن السمادل الخلدية
Amblystoma
15
بالغ اهتمامي، وأظن أنك أزلت عقبة كبيرة من طريق التطور. فكرت ذات مرة في أن هذه الحالة تشهد ارتدادا، لكنه كان محض تفكير أولي ناقص. أكتب هذا الخطاب الآن كي ألفت انتباهك إلى أن حشرات العث تكون عقيمة عندما تفقس في غير موسمها الملائم، وأنا أدرج المراجع المتعلقة بهذا في الفصل 18 من كتابي «التباين تحت تأثير التدجين» (المجلد الثاني، الصفحة 157 من الطبعة الإنجليزية)، وأظن أن هذه الحالات توضح عقم السمادل الخلدية. ألن يكون من المفيد فحص الأعضاء التناسلية لأفراد نصفيات الأجنحة «غير المجنحة» التي تكون لديها أجنحة من حين إلى آخر، كما في حالة بق الفراش؟ أظن أنني سمعت أن إناث النمل المخملي أحيانا ما يكون لديها أجنحة. من المؤكد أن هذه الحالات بسبب الارتداد. أجرؤ على القول إن العديد من الحالات الشاذة ستفسر لاحقا على أساس المبدأ نفسه.
لقد ألمحت إلى هذا التفسير في حالة الطاووس الأسود الكتفين، أو ما يدعى بافو نيجريبينيس، الشاذة التي أوردتها في كتابي «التباين تحت تأثير التدجين»؛ وربما كان من الممكن أن أكون أجرأ؛ إذ يمكن أن يعد الضرب وسيطا بين النوعين المعروفين، من عدة جوانب.
مع خالص احترامي وبالغ إخلاصي
سي داروين
مسألة تشريح الحيوانات الحية [في نوفمبر 1875، أدلى والدي بشهادته أمام المفوضية الملكية عن تشريح الحيوانات الحية. (طالع الجزء الأول.) لذا جمعت هنا المادة المتعلقة بهذا الموضوع، بغض النظر عن التاريخ. وقد ذكرت سلفا بضع كلمات عن شعور والدي القوي تجاه معاناة كل من الإنسان والحيوان. كان بالفعل أحد أقوى المشاعر الراسخة في طبيعته، وتجسد في أمور صغيرة وكبيرة على حد سواء؛ في تعاطفه مع المآسي التي تمر بها الكلاب الراقصة في التدريب، أو في هلعه من معاناة العبيد.
ظلت ذكرى الصرخات، أو الأصوات الأخرى التي سمعها في البرازيل، عندما كان عاجزا عن التدخل فيما كان يعتقد أنه تعذيب أحد العبيد، تطارده طوال سنوات لا سيما في الليل. وأما في الأمور الأبسط، التي كان يستطيع التدخل فيها، فكان يفعل ذلك بكل قوة. عاد ذات يوم من مشيه شاحبا وواهنا مصابا بالدوار من رؤية حصان يتعرض لمعاملة سيئة ومن شدة انفعاله في الاعتراض بعنف على صاحب الحصان.
ويمكن ذكر حادثة صغيرة أخرى تبين أن إنسانيته تجاه الحيوانات كانت معروفة جيدا في حيه. ففي إحدى المرات، طلب زائر كان يستقل عربة من أوربينجتون إلى داون من السائق أن يقود بسرعة أكبر، فقال السائق: «ويحي، لو كنت جلدت الحصان «بهذه» القوة وأنا أقل السيد داروين، لنزل من العربة وعنفني بشدة.»
بخصوص النقطة المحددة التي نتحدث عنها؛ أي معاناة الحيوانات التي كانت تخضع للتجارب، فلا شيء يمكن أن يظهر إحساسا أقوى من ذاك الذي يظهره المقتطف التالي من خطاب إلى البروفيسور راي لانكستر (بتاريخ 22 مارس 1871): «تسألني عن رأيي في تشريح الحيوانات الحية. أوافق تماما على أنه مبرر في سبيل إجراء دراسات حقيقية فعلية عن وظائف الأعضاء، لكنه غير مبرر لإشباع فضول بغيض لعين فحسب. إنه موضوع يصيبني بالرعب؛ لذا لن أقول كلمة أخرى عنه وإلا فلن أنام الليلة.»
ويظهر هذا المقتطف التالي من مذكرات السير توماس فارار مدى القوة البالغة التي كان يعبر بها عن مشاعره بطريقة مشابهة في المحادثات: «كانت آخر محادثة دارت بيننا في منزلي الواقع في ساحة «بريانستون»، قبيل إحدى نوباته المرضية الأخيرة مباشرة. وكان شديد الاهتمام آنذاك بمسألة تشريح الحيوانات الحية، وقد ترك ما قاله أثرا عميقا في نفسي. كان رجلا مغرما جدا بالحيوانات وعطوفا جدا عليها؛ فما كان ليتعمد إيلام أي كائن حي، لكنه كان يحمل قناعة راسخة بأن حظر إجراء التجارب على الكائنات الحية سيعني وضع حد لمعرفة الآلام والأمراض وعلاجاتهما.»
ويبدو أن هياج الحراك المناهض لتشريح الحيوانات الحية، الذي تشير إليه الخطابات التالية، قد نشط في عام 1874 بالأخص، وهذا ما قد يتضح، على سبيل المثال، في فهرس دورية «نيتشر» في ذلك العام ، حيث برز مصطلح «تشريح الحيوانات الحية» فجأة. ولكن قبل ذلك التاريخ، كان الموضوع يحظى ببالغ اهتمام علماء الأحياء بالفعل. ومن ثم ففي اجتماع الجمعية البريطانية في ليفربول في عام 1870، عينت لجنة أوردت بيانا يحدد الملابسات والظروف التي تبرر إجراء التجارب على الحيوانات الحية، من وجهة نظر الموقعين على البيان.» وفي ربيع عام 1875، قدم اللورد هارتيسمير مشروع قانون إلى مجلس اللوردات لتنظيم مسار إجراء الأبحاث الفسيولوجية. وبعد ذلك بوقت قصير، قدم السادة ليون بلايفير ووالبول وأشلي مشروع قانون ذي أحكام أكثر إنصافا تجاه العلم إلى مجلس العموم. بالرغم من ذلك، فقد سحب عند تعيين مفوضية ملكية للتحقيق في المسألة برمتها. كان المفوضون هم اللورد كاردويل واللورد وينمرلي والسيد دبليو فورستر والسير جيه بي كارسليك والسيد هكسلي والبروفيسور إريكسن والسيد آر إتش هوتون، وقد بدءوا التحقيق في يوليو 1875، ونشر التقرير في وقت مبكر من العام التالي.
وفي أوائل صيف عام 1876، قدم مشروع قانون اللورد كارنارفون، الذي كان بعنوان «قانون تشريعي لتعديل القانون المتعلق بمعاملة الحيوانات بوحشية». ولا يمكن إنكار أن من صاغوا هذا القانون المقترح قد تجاوزوا توصيات المفوضية الملكية بكثير، تحت تأثير رضوخهم لصخب الجمهور غير العقلاني. وكما قال أحد المراسلين في دورية «نيتشر» (1876، الصفحة 248)، فإن «الدليل الذي أوصي بالتشريع على أساس قوته قد تجاوز الحقائق، والتقرير تجاوز الدليل، والتوصيات تجاوزت التقرير، ولا يمكن القول إن مشروع القانون تجاوز التوصيات فحسب، بل تناقض معها.»
وكان التشريع الذي عمل والدي من أجل إصداره، حسبما وصف في الخطابات التالية، مشابها جدا لما قدم على أنه مشروع قانون الدكتور ليون بلايفير.]
من تشارلز داروين إلى السيدة ليتشفيلد
4 يناير 1875
عزيزتي ليتشفيلد
جعلني خطابك أفكر مليا بضع ساعات في مسألة تشريح الحيوانات الحية (أتمنى أن تبتكر كلمة جديدة مثل التشريح الرحيم)
16
وسأدون استنتاجاتي، التي ستبدو لك غير مقنعة تماما. أرى منذ أمد بعيد أن علم وظائف الأعضاء أحد أعظم العلوم، ومن المؤكد أنه عاجلا، أو آجلا على الأرجح، سيقدم نفعا كبيرا للبشرية، لكن استنادا إلى كل العلوم الأخرى، لن يتحقق هذا النفع إلا بطريقة غير مباشرة في سياق البحث عن الحقيقة المجردة. من المؤكد أن علم وظائف الأعضاء لا يمكن أن يتقدم إلا بإجراء تجارب على الحيوانات الحية. ولذا أعتبر اقتراح جعل البحث مقصورا على النقاط التي نستطيع الآن معرفة دلالاتها فيما يتعلق بالصحة، وما إلى ذلك، اقتراحا صبيانيا. كنت أحسب في البداية أن جعل تشريح الحيوانات الحية مقصورا على المختبرات العامة سيكون جيدا، لكني لم أسمع بوجودها إلا في لندن وكامبريدج، وأكسفورد على ما أظن، لكن توجد بضعة مختبرات أخرى على الأرجح. وبذلك ستكون القدرة على إجراء هذه الأبحاث مقتصرة على الرجال الذين يعيشون في عدد قليل من المدن الكبرى، وأنا أعتبر ذلك شرا هائلا. إذا كان سيسمح لرجال خواص بإجراء هذه التجارب في منازلهم، وكانوا بحاجة إلى ترخيص، فلا أعرف من سيحق له أن يحدد جدارة أي رجل معين بالحصول على ترخيص. فالأرجح أن الشبان غير المشهورين هم من سيبلون بلاء حسنا في هذا المجال. سيسعدني أن أنهال بعقاب صارم على أي شخص أجرى تشريحا لحيوان دون أن يفقده الشعور بالألم أولا، إذا أمكن هذا في التجارب، لكني أكرر هنا أنني لا أرى أن أحد قضاة الصلح أو أعضاء هيئة المحلفين يمكن أن يفصل في نقطة كهذه. لذا أستنتج أنه إذا أجريت بعض التجارب مرارا أكثر من اللازم (كما هو محتمل)، أو لم تستخدم المواد المخدرة عندما كان من الممكن استخدامها، فلا بد أن يتمثل العلاج في تحسين المشاعر الإنسانية. وفقا لوجهة النظر هذه، سررت بحالة الهياج العام الحالية. إذا مررت قوانين صارمة، وهذا محتمل، نظرا إلى مدى جهل مجلس العموم بالمسائل العلمية المتخصصة، وإلى أن السادة الإنجليز يتحلون بالإنسانية، ما دام الأمر لا يتعلق بممارساتهم الرياضية، التي تتضمن معاناة أشد 100 مرة أو 1000 مرة من تجارب علماء وظائف الأعضاء؛ إذا مررت مثل هذه القوانين، فستكون النتيجة بالتأكيد أن علم وظائف الأعضاء، الذي كان في حالة شلل تام في إنجلترا حتى في أثناء السنوات القليلة الماضية، سوف يضمر أو يندثر تماما. ولن يمارس حينئذ إلا في قارة أوروبا فقط، وسوف يقل عدد العلماء الباحثين في هذا الموضوع العظيم بشدة، وسأشعر بأسف بالغ على هذا. بالمناسبة، يصرح إف بلفور، الذي عمل سنتين أو ثلاث سنوات في المختبر في كامبريدج، لجورج بأنه لم يشهد إجراء أي تجربة قط، إلا على حيوانات جردت من إحساسها أولا. من المؤكد أن أسماء الأطباء ستكون لها أهمية بالغة لدى مجلس العموم، لكن الكثير جدا من الممارسين لا يعرف أي شيء عن تقدم المعرفة ولا يهتم به إطلاقا. لا يمكنني في الوقت الحالي أن أكون مستعدا للتوقيع على أي عريضة دون سماع آراء علماء وظائف الأعضاء بشأن تأثيرها المحتمل، ثم سأقرر بنفسي. بالتأكيد لم أستطع التوقيع على الورقة التي أرسلتها إلي الآنسة كوب، في ظل هجومها الوحشي (حسبما يبدو لي) على فيرخوف لأنه أجرى تجارب على الديدان الشعرية. أنا متعب ولذا سأكتفي بهذا القدر.
مع خالص مودتي
تشارلز داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 14 أبريل [1875]
عزيزي هوكر
كنت أعمل طوال الوقت في لندن على مسألة تشريح الحيوانات الحية، ونرى الآن أنه من المستحسن ألا يقتصر ما نسعى إليه على مجرد عريضة. لقد صاغ ليتشفيلد
17
مسودة لمشروع قانون لاقت خطوطه العريضة استحسان ساندرسون وسايمون وهكسلي، وأعتقد، بناء على محادثة دارت بيننا، أنها ستلاقي استحسان باجيت، إضافة إلى أنني شبه متيقن من أنها ستلقى استحسان مايكل فوستر. يريدني ساندرسون وسايمون وباجيت أن ألتقي باللورد ديربي، وأن أسعى إلى كسب تأييده من خلال وزير الداخلية. الآن، إذا طبق هذه القانون المقترح بالفعل، فسيكون من الأهمية بمكان لي أن أستطيع القول إن خطوطه العريضة تحظى باستحسان نصف دزينة من العلماء البارزين. لذا طلبت من ليتشفيلد أن يرفق إليك نسخة منه في شكله المبدئي الأول، وإذا لم تطرأ عليه تعديلات جذرية، فهل لي أن أقول إنه يلقى استحسانك بصفتك رئيس الجمعية الملكية؟ الهدف هو حماية الحيوانات، مع عدم الإضرار بعلم وظائف الأعضاء، والحصول على استحسان هكسلي وساندرسون يكاد يكون كافيا بخصوص هذه النقطة. أرجو أن تبعث إلي ولو برسالة قصيرة عما قريب.
مع خالص مودتي
تشارلز داروين [يمكن القول إن الجمعية المعنية بعلم وظائف الأعضاء، التي تأسست عام 1876، كانت إلى حد ما ثمرة لحركة مناهضة تشريح الحيوانات الحية؛ فهذه الحالة من الهياج العام هي التي جعلت علماء وظائف الأعضاء يدركون الحاجة إلى وجود مقر لأولئك العاملين في هذا المجال العلمي. وبخصوص هذه الجمعية، قال والدي في خطاب إلى السيد رومينز (بتاريخ 29 مايو 1876): «سررت للغاية بتشريفي المفاجئ بانتخابي عضوا ضمن الأعضاء الفخريين. فهذه اللفتة التعاطفية قد أسعدتني جدا.»
ظهر الخطاب التالي في صحيفة «ذا تايمز»، في 18 أبريل 1881:]
من تشارلز داروين إلى فريتيوف هولمجرين
18
داون، 14 أبريل 1881
سيدي العزيز
ردا على خطابك اللطيف المؤرخ بتاريخ 7 أبريل، ليس لدي أي اعتراض على التعبير عن رأيي بخصوص الحق في إجراء التجارب على الحيوانات الحية. وأنا أستخدم هذا المصطلح الأخير باعتباره أصح وأشمل من مصطلح تشريح الحيوانات الحية. لك مطلق الحرية في استخدام هذا الخطاب على أي نحو قد تراه مناسبا، لكن إذا نشرته، فأنا أود أن ينشر كله. عشت طوال حياتي مناصرا قويا لمعاملة الحيوانات بإنسانية، وبذلت كل ما بوسعي في كتاباتي لفرض هذا الواجب. وعندما بدأ الهياج العام ضد علماء وظائف الأعضاء في إنجلترا قبل عدة سنوات، جرى التأكيد على أن الحيوانات كانت تعامل بلا إنسانية في هذا المجال، وأنها كانت تتعرض لمعاناة لا فائدة منها، وقد جعلني ذلك أرى أنه من المستحسن إصدار قانون برلماني بخصوص ذاك الموضوع. ومن ثم، أديت دورا نشطا في محاولة تمرير مشروع قانون من شأنه أن يزيل كل أسباب الشكوى القائمة على أسس صائبة عادلة، وفي الوقت نفسه يترك لعلماء وظائف الأعضاء حرية مواصلة أبحاثهم، وذلك مشروع قانون مختلف تماما عن القانون الفعلي الذي مرر بعدئذ. وينبغي أن أضيف أن التحقيق الذي أجرته المفوضية الملكية في المسألة أثبت أن الاتهامات الموجهة إلى علمائنا الإنجليز في تخصص وظائف الأعضاء باطلة. بالرغم من ذلك ، يؤسفني بناء على كل ما سمعته، أن بعض أجزاء أوروبا لا تهتم كثيرا بمعاناة الحيوانات، وإذا صح ذلك، فسيسرني أن أعرف بإصدار قوانين تجرم المعاملة الوحشية في أي بلد كهذا. على الجانب الآخر، أعرف أن علم وظائف الأعضاء لا يمكن أن يتقدم إلا بإجراء تجارب على حيوانات حية، ولدي قناعة راسخة بأن من يعيق تقدم علم وظائف الأعضاء يرتكب جريمة في حق البشرية. وأي شخص يتذكر حالة هذا العلم قبل نصف قرن، كما أتذكرها، لا بد أن يعترف بأنه شهد تقدما هائلا، ويتقدم الآن بمعدل متزايد باستمرار. صحيح أن ممارسي الطب وعلماء وظائف الأعضاء الذين درسوا تاريخ موضوعاتهم هم وحدهم من يستطيعون طرح مناقشة صائبة دقيقة عما شهدته الممارسة الطبية من تحسينات يمكن أن تعزى مباشرة إلى الأبحاث المتعلقة بعلم وظائف الأعضاء، لكني أستطيع القول، على حد علمي، إن الفوائد كثيرة بالفعل. وعلى أي حال، فلا يمكن لأحد، إلا إذا كان جاهلا تماما بما قدمه العلم للبشرية، أن يتشكك في الفوائد الكثيرة جدا التي ستعود لاحقا من علم وظائف الأعضاء، ليس على الإنسان فحسب، بل على الحيوانات الأدنى رتبة أيضا. فلننظر مثلا إلى نتائج باستور في تعديل الجراثيم المسببة لأخبث الأمراض، التي يتصادف أنها ستنفع الحيوانات في المقام الأول أكثر مما تنفع البشر. دعنا نتذكر عدد الأرواح الكثيرة التي أنقذت وقدر المعاناة الهائل الذي أمكن تجنبه بفضل ما جنيناه من معرفة بشأن الديدان الطفيلية، وذلك عبر التجارب التي أجراها فيرخوف وآخرون على الحيوانات الحية. في المستقبل، سيذهل الجميع من الجحود الذي يلقاه أولئك الذين نفعوا البشرية، وإن كان ذلك في إنجلترا على الأقل. أما أنا عن نفسي، فدعني أؤكد لك أنني أكن، وسأظل أكن، احتراما بالغا لكل من يسهم في تقدم علم وظائف الأعضاء النبيل.
مع بالغ إخلاصي يا سيدي العزيز
تشارلز داروين [ظهر في عدد اليوم التالي من صحيفة «ذا تايمز» خطاب بعنوان «السيد داروين وتشريح الحيوانات الحية» يحمل توقيع الآنسة فرانسيس باور كوب. ورد والدي عليه في عدد 22 أبريل 1881 من صحيفة «ذا تايمز». وفي اليوم نفسه، قال في خطاب إلى السيد رومينز: «نظرا إلى أنني أحظى بفرصة عادلة، أرسلت خطابا إلى صحيفة «ذا تايمز» بشأن تشريح الحيوانات الحية يطبع اليوم. فقد ارتأيت أنه من العدل أن أتحمل نصيبي من الإساءة التي تنهال بطريقة بشعة جدا على كل علماء وظائف الأعضاء.]
من تشارلز داروين إلى محرر «ذا تايمز»
السيد المحترم
لا أرغب في مناقشة الآراء التي عبرت عنها الآنسة كوب في الخطاب الذي ظهر في صحيفة «ذا تايمز» في التاسع عشر من الشهر الجاري، لكن لأنها تؤكد أنني «ضللت» مراسلي في السويد بقولي إن «التحقيق الذي أجرته المفوضية الملكية في المسألة أثبت أن الاتهامات الموجهة إلى علمائنا الإنجليز في تخصص وظائف الأعضاء باطلة»، فسأكتفي بطلب إذن بالإشارة إلى بعض الجمل الأخرى من تقرير المفوضية. (1) نجد أن هذه الجملة - «لا شك في أن بعض الأشخاص البارزي المكانة مثل علماء وظائف الأعضاء، قد يتسمون بالوحشية» التي تقتبسها الآنسة كوب من الصفحة 17 من التقرير، والتي ترى أنها «تختص حتما بعلماء وظائف الأعضاء الإنجليز وحدهم دونا عن الأجانب» - تتبع مباشرة بهذه العبارة: «رأينا أن ذلك انطبق على ماجندي». وقد كان ماجندي عالم وظائف أعضاء فرنسيا اشتهر منذ نحو نصف قرن بسمعته السيئة في إجراء تجاربه القاسية على حيوانات حية. (2) يقول المفوضون، بعد حديثهم عن «الشعور العام بالإنسانية» السائد في هذا البلد (الصفحة 10): «يلقى هذا المبدأ قبولا عاما لدى الرجال المثقفين جدا الذين كرسوا حياتهم إما للبحث العلمي والتعليم وإما للتخفيف من معاناة رفقائهم من المخلوقات الحية وإما إنهاء تلك المعاناة، وإن كانت الاختلافات في درجة تطبيقه العملي فستكون ملحوظة بسهولة لأولئك الذين يدرسون الأقوال والشهادات كيفما عرضت علينا.»
وورد أيضا في تقرير المفوضين (الصفحة 10): «عندما سئل أمين الجمعية الملكية لمنع القسوة على الحيوانات عما إذا كان التوجه العام للوسط العلمي في هذا البلد يتعارض مع الإنسانية، قال إنه يعتقد أنه مختلف تماما بالفعل عن توجه علماء وظائف الأعضاء الأجانب، ورغم أنه أدلى برأي الجمعية الذي كان مفاده أن التجارب التي تجرى تقع بطبيعتها خارج النطاق الشرعي للعلم، وأن الألم الذي تسببه ألم غير مبرر حتى ولو كان من أجل الغاية العلمية المقصودة؛ فهو يعترف دون تردد بأنه لا يعرف أي حالة شهدت استخدام قسوة غاشمة، وأن علماء وظائف الأعضاء الإنجليز في العموم يستخدمون مواد مخدرة في الحالات التي يرون فيها أنهم يستطيعون فعل ذلك دون الإضرار بالتجربة.»
إنني يا سيدي خادمك المطيع
تشارلز داروين
21 أبريل [ظهر في صحيفة «ذا تايمز» يوم السبت، 23 أبريل 1881، خطاب من الآنسة كوب ردا على ذلك:
من تشارلز داروين إلى جي جيه رومينز
داون، 25 أبريل 1881
عزيزي رومينز
سررت جدا بقراءة رسالتك الأخيرة بما تحمله من الكثير من المستجدات التي أثارت اهتمامي. لكني أرسل هذا الخطاب الآن لأعبر عن مدى إعجابي الشديد، بل إعجاب كل من في المنزل، بخطابك المنشور في صحيفة «ذا تايمز».
19
كان بسيطا ومباشرا. وسررت جدا على وجه التحديد بكلامك عن بيرتون ساندرسون، الذي ينال إعجابي الشديد منذ عدة سنوات. وسررت جدا كذلك عند قراءة الجمل الأخيرة. أزعجتني عدة خطابات تلقيتها، ولكن لم يكن من بينها أي خطاب مسيء. من وجهة نظر «أنانية»، تغمرني سعادة بالغة بنشر خطابك؛ لأنني كنت أظن في البداية أنني سببت ضررا بتحريك المياه الراكدة. أما الآن، فأنا متيقن من أنني حققت نفعا. لقد أرسل إلي السيد جيسي خطابا مفعما بالتأدب الشديد، قال فيه إن جمعيته ليس لها علاقة باللافتات والرسومات المناهضة لعلم وظائف الأعضاء، ومن ثم، أفترض أن كل هذه الأشياء قد بدأت أصلا من عند الآنسة كوب ... يشكو السيد جيسي بمرارة من أن «ذا تايمز» «ستتجاهل» كل خطاباته إلى هذه الصحيفة، ولست متفاجئا، بناء على خطب الهجاء الطويلة المضحكة التي يعلن عنها في دورية «نيتشر».
مع تحيات المخلص لك دوما
سي داروين [يشير الخطاب التالي إلى مقالة مشتركة مقترحة عن تشريح الحيوانات الحية أراد السيد رومينز من والدي أن يسهم فيها:]
من تشارلز داروين إلى جي جيه رومينز
داون، 2 سبتمبر 1881
عزيزي رومينز
لقد حيرني خطابك للغاية. أدرك تماما أن من واجب كل شخص له رأي ذو قيمة أن يعبر عن رأيه بشأن تشريح الحيوانات الحية علنا، وهذا ما جعلني أرسل خطابي إلى صحيفة «ذا تايمز». ظللت طيلة الصباح أفكر بين الحين والآخر فيما يمكنني قوله، والحقيقة الواضحة المجردة أنه ليس لدي ما يستحق قوله. لا تستطيع أنت وأمثالك من الرجال، الذين تتدفق أفكارهم بانسيابية، والذين يستطيعون التعبير عنها بسهولة، فهم حالة الشلل العقلي التي أجد نفسي مصابا بها. إن أكثر ما ينشد بشدة هو محاولة حذرة دقيقة لإظهار كل ما حققه علم وظائف الأعضاء للبشرية بالفعل، والأهم من ذلك بكثير هو ذكر جميع الأسباب التي تدفعنا إلى الإيمان بأنه سيعود عليها بالنفع لاحقا. وأنا الآن عاجز تماما عن فعل ذلك، أو مناقشة النقاط الأخرى التي اقترحتها.
إذا كنت ترغب في إدراج اسمي (وسأكون سعيدا بظهوره مع أسماء آخرين في سبيل القضية نفسها)، أفلا يمكنك اقتباس بعض الجمل من خطابي المنشور في صحيفة «ذا تايمز» الذي أرفقه مع هذا الخطاب، لكني أرجو منك إعادته. إذا كنت ترى ذلك مناسبا، يمكنك القول إنك اقتبسته بموافقتي، وإنني بعد مزيد من التفكير لم أزل شديد التمسك بقناعتي التي أفصحت عنها.
فكر في هذا من أجل الرب. إنني لا أبخل بالجهد والفكر، لكني لا أستطيع كتابة شيء جدير بأن يقرأه أي شخص.
اسمح لي بالاعتراض على وصفك مقالتكم المشتركة بكلمة
symposium
التي تعني حرفيا «حفل شراب». فأنا أرى ذلك ذوقا سيئا جدا، وآمل أن يتجنب كل منكم أي مظهر من المظاهر الشبيهة بالمزاح في الحديث عن الموضوع. فأنا «أعلم» أن بعض الكلمات المتعلقة بهذا الموضوع، والتي كانت شبيهة بمزحة ما، قد أثارت اشمئزازا شديدا لدى بعض الأشخاص من غير المناهضين لعلم وظائف الأعضاء على الإطلاق. فقد عبر لي أحد الأشخاص عن حزنه العميق على أن السيد سايمون، في خطابه الرائع في المؤتمر الطبي (أفضل ما قرأته بفارق كبير عن أي شيء آخر قرأته)، يتحدث عن «الشهوانية» الهائلة لدى العديد من الأناس المخطئين - وإن كانوا أمناء - الذين يستاءون للغاية من الموضوع
20 (أو بعض المصطلحات المماثلة) ... [قال والدي في خطاب إلى الدكتور لودر برونتون في فبراير 1882: «هل قرأت مقالتي السيد [إدموند] جرني في دورية «فورتنايتلي»
21
أراهما بارعتين جدا، وإن كانتا مكتوبتين بأسلوب مبهم، وأتفق مع كل ما يقوله تقريبا، باستثناء بعض الفقرات التي يبدو أنها تشير ضمنيا إلى أنه ينبغي ألا تجرى أي تجربة ما لم يكن بالإمكان التنبؤ بأنها ستجدي نفعا فوريا، وهذا خطأ جسيم يتناقض مع تاريخ العلم كله.»]
هوامش
الفصل التاسع
متفرقات (تكملة)
إحياء عمل جيولوجي من جديد - الكتاب المتعلق بديدان الأرض - حياة إيرازموس داروين - خطابات منوعة
1876-1882 [علينا الآن تناول الأعمال (غير النباتية) التي شغلت السنوات الست الأخيرة من حياة والدي. وثمة خطاب إلى صديقه القديم المبجل إل بلومفيلد (جينينز)، كتب في مارس 1877، يوضح توقعات والدي بشأن قدرته على العمل آنذاك: «عزيزي جينينز (أرى أنني نسيت اسمك الحقيقي). لقد غمرني خطابك البالغ اللطف بسرور شديد. مع تقدم المرء في العمر، تعود أفكاره إلى الماضي بدلا من أن ترنو إلى المستقبل، وكثيرا ما أتأمل الأوقات السارة، والقيمة عندي، التي قضيتها معك على حدود منطقة فينز.
تسألني عن عملي المستقبلي، أشك فيما إذا كنت سأستطيع إنجاز الكثير من عمل جديد، ودائما ما أضع نصب عيني مثال العجوز المسكين - الذي كان لديه هوس بالكتابة في شيخوخته. لكني لا أستطيع تحمل القعود دون أن أعمل شيئا؛ لذا أعتقد أنني سأواصل العمل ما دمت قادرا على ذلك دون أن أفعل أي شيء يسمني بالحماقة. لدي قدر هائل من المواد العلمية المتعلقة بالتباين تحت تأثير الطبيعة، لكن ما نشر منذ ظهور كتاب «أصل الأنواع» كثير جدا إلى حد أنني أشك بشدة فيما إذا كنت سأظل محتفظا بالقوة الذهنية والقدرة اللازمتين لتقليص هذه الكتلة الهائلة من المادة العلمية إلى كتاب كامل مختصر. أحيانا أظن أنني سأحاول، لكني أخشى المحاولة ...»
ثبتت صحة توقعاته بخصوص مواصلة أي عمل عام متعلق بمسألة التطور، ولكن من المؤكد أنه استخف في توقعاته بقدرته، التي ثبت فيما بعد أنها مكنته من معالجة كتاب «قوة الحركة في النباتات»، والعمل المتعلق ب «ديدان الأرض».
جاء عام 1876، الذي يبدأ به هذا الفصل، حاملا معه تجدد الاهتمام بعمل جيولوجي. ذلك أنه كان مشدوها، كما سمعت من البروفيسور جود، وكما يظهر في خطاباته، عندما علم أن بعض علماء الجيولوجيا لا يزالون يرجعون إلى كتابيه عن «الجزر البركانية»، 1844، وعن «أمريكا الجنوبية»، 1846، وفوجئ بأن الكتابين مطلوب منهما طبعات جديدة. كانت دار نشر «ميسرز سميث آند إلدر» هي التي نشرت كلا الكتابين أصلا، وهي التي أصدرت الطبعة الجديدة في عام 1876. صدرت هذه الطبعة في مجلد واحد بعنوان «ملاحظات جيولوجية عن الجزر البركانية، وأجزاء من أمريكا الجنوبية زرناها في أثناء رحلة إتش إم إس «البيجل».» وقد شرح في مقدمة الكتاب الأسباب التي جعلته يترك نص الطبعتين الأصليتين كما هو دون أن يمسه؛ إذ قال: «إنهما متعلقتان بأجزاء من العالم لا يزورها العلماء إلا نادرا جدا، إلى حد أنني لا أعلم ما إذا كان هناك الكثير مما يمكن تصحيحه أو إضافته، بناء على ملاحظات أجريت لاحقا. وبسبب التقدم الكبير الذي شهده علم الجيولوجيا في الآونة الأخيرة، ربما تكون آرائي بشأن بعض النقاط قديمة إلى حد ما، لكني ارتأيت أنه من الأفضل تركها كما ظهرت في الأصل.»
وربما كان إحياء التأملات الجيولوجية من جديد، بسبب مراجعة كتبه المبكرة، هو الذي جعله يدون ملاحظاته التي ورد ذكر لها في الخطاب التالي. نشر جزء منها في الفصلين السابع والتاسع
1
من كتاب «أوروبا ما قبل التاريخ» للبروفيسور جيمس جيكي، وأجريت بعض التعديلات اللفظية بناء على طلب والدي في الفقرات المقتبسة. قال السيد جيكي في خطاب أرسله إلي مؤخرا: «أعتقد أن الآراء التي اقترحها في خطابه بشأن أصل الحصى الزاوي، وما إلى ذلك، في جنوب إنجلترا، ستصبح هي الحقيقة المسلم بها. لهذه المسألة تأثير أوسع نطاقا بكثير مما قد يبدو للوهلة الأولى. فالحقيقة أنها تحل إحدى أصعب المشكلات في جيولوجيا العصر الرباعي، وقد جذبت بالفعل انتباه بعض علماء الجيولوجيا الألمان.»]
من تشارلز داروين إلى جيمس جيكي
داون، 16 نوفمبر 1876
سيدي العزيز
آمل أن تسامحني على إزعاجك بخطاب طويل جدا. بالرغم من ذلك، فلتسمح لي أولا بأن أصف لك السرور البالغ والإعجاب الشديد اللذين أتممت بهما قراءة كتابك «العصر الجليدي الكبير» للتو. أرى أنه مكتوب بأسلوب رائع، وواضح للغاية. صحيح أن تاريخ العالم فيه العديد من الحقب المثيرة للاهتمام، لكني لا أظن أن أيا منها يرقى ولو إلى مرتبة قريبة من العصر الجليدي أو الفترات الجليدية. ورغم أنني أقرأ الكثير عن الموضوع بانتظام، فإن كتابك يجعل الموضوع كله يبدو وكأنه شبه جديد علي.
سأذكر الآن ملاحظة رصدية صغيرة، أجريتها قبل عامين أو ثلاثة أعوام بالقرب من ساوثهامبتون، لكني لم أتحرها حتى الوصول إلى استنتاج معين لأنني لا أقوى على القيام بالرحلات. لا داعي إلى أن أقول شيئا عن طابع الترسبات المجروفة هناك (التي تتضمن فئوسا حجرية من العصر القديم)؛ لأنك وصفت سماته الأساسية في بضع كلمات في الصفحة 506. إنه يغطي البلد كله [في] سطح مستو كالسهل، وليس له علاقة تقريبا بالشكل العام الحالي للأرض.
شهد ترتيب الطبقات ذات الحبيبات الكبيرة إخلالا به في بعض الأحيان. أجد أنك تلمح «إلى أن الحجارة الكبرى غالبا ما تقف منتصبة في وضع رأسي»، وهذه هي النقطة التي أثارت اهتمامي بشدة. ليست الحجارة الزاوية ذات الحجم المتوسط فحسب، بل الحصى البيضاوية الصغيرة كذلك غالبا ما تقف منتصبة في وضع رأسي، بطريقة لم أرها من قبل في طبقات الحصى العادية. تذكرني هذه الحقيقة بما يحدث قرب منزلي، في الطين الأحمر المتيبس المليء بأحجار الصوان غير المتآكلة فوق الطباشير، الذي من المؤكد أنه يمثل البقايا التي تركتها مياه الأمطار دون أن تذيبها. ففي هذا الطين، غالبا ما تقف أحجار الصوان، التي تتسم بأنها طويلة ورفيعة بقدر طول ذراعي ونحافتها، في وضعية رأسية، وقد أخبرني بعض عاملي الحفارات أن هذه هي «وضعيتها الطبيعية!» أظن أن هذه الوضعية يمكن أن تعزى بكل تأكيد إلى الحركة المتفاوتة التي تتحركها أجزاء الطين الأحمر خلال هبوطه ببطء شديد بسبب انحلال الطباشير الواقع تحته، ومن ثم ترتب أحجار الصوان أنفسها في الخطوط الأقل مقاومة. إضافة إلى ذلك، يقودني الترتيب المشابه للأحجار في الترسبات المجروفة بالقرب من ساوثهامبتون، وإن كان أقل بروزا، إلى التفكير بأنه أيضا قد هبط ببطء بلا شك، وقد خطر ببالي أنه في أثناء بداية العصر الجليدي وذروته، تراكمت طبقات كبيرة من الثلج المتجمد فوق جنوب إنجلترا، وأنه في أثناء الصيف، دفعت الحصى والحجارة بالمياه من الأرض العليا إلى السطح، وإلى قنوات سطحية أيضا. ربما اخترقت المجاري المائية الكبرى الثلج المتجمد، ورسبت الحصى في خطوط في القاع. لكن عندما تضعف المياه الجارية في كل خريف تال، أتخيل أن خطوط التصريف ستمتلئ بالثلج المدفوع الذي يتجمد بعد ذلك، وأنه بسبب تراكمات الثلج الكبيرة على السطح، يمكن أن تكون المصادفة البحتة فحسب هي المسئولة عما إذا كانت المياه المصرفة، مع الحصى والرمل، ستتبع الخطوط نفسها في الصيف المقبل أم لا. إذن، حسبما أفهم، فإن طبقات متناوبة من الثلج المتجمد والترسبات المجروفة، في صفائح وخطوط، ستغطي البلد في النهاية بطبقة ذات سمك كبير، ومن المرجح أن خطوط الترسبات المجروفة قد ترسبت في اتجاهات مختلفة في القاع بفعل المجاري المائية الكبرى. وبينما ارتفعت درجة حرارة المناخ، ذابت الطبقات السفلية من الثلج المتجمد ببطء شديد جدا، وستغرق الطبقات الكثيرة غير المنتظمة من الترسبات المجروفة الواقعة بين الطبقات ببطء مماثل، وفي أثناء هذه الحركة، سيرتب الحصى المطول نفسه في وضع شبه رأسي. وسوف تترسب الترسبات المجروفة على نحو يكاد يكون غير ذي صلة بالشكل العام للأرض الواقعة تحتها. عندما نظرت إلى البلد، لم أستطع إقناع نفسي بأن أي فيضان، مهما كان هائلا، من الممكن أن يكون قد رسب مثل هذا الحصى الكبير الحبيبات فوق المنصات شبه المستوية بين الوديان. ويختلف رأيي عن رأي هولست، الصفحة 415 [«العصر الجليدي الكبير »]، الذي لم أكن قد سمعت به من قبل؛ لأن رأيه متعلق بقنوات تقطع الأنهار الجليدية ، ورأيي متعلق بطبقات من الترسبات المجروفة واقعة فيما بين طبقات الثلج المتجمد حيث لم توجد أنهار جليدية. المغزى من هذا الخطاب الطويل هو أن أطلب منك أن تبقي فكرتي نصب عينيك، وأن تبحث عن حصى رأسي في أي أرض منخفضة تستطيع فحصها، حيث لم تكن توجد أنهار جليدية. أو إذا كنت تعتقد أن الفكرة تستحق مزيدا من التفكير، وفي هذه الحالة فقط، فلك أن تخبر بها أي أحد يفحص مثل هذه المناطق، وليكن مثلا السيد سكيرتشلي. أرجو أن تسامحني على إرسال خطاب طويل جدا كهذا، وأكرر شكري على المتعة الكبيرة التي غمرني بها كتابك.
ولك مني على الدوام بالغ الإخلاص
سي داروين
ملحوظة:
يسعدني أنك قرأت ما كتبه بليت؛
2
فأنا أرى ورقته البحثية أهم إسهام في الجغرافيا النباتية. ما أغرب أن الاستنتاجات نفسها قد توصل إليها السيد سكيرتشلي، الذي يبدو أنه ملاحظ من الدرجة الأولى، وهذا يعني أنه منظر كفء، كما أرى دائما.
طلبت من دار النشر التي أتعامل معها أن ترسل إليك في غضون يومين أو ثلاثة أيام نسخة (الطبعة الثانية) من عملي الجيولوجي في أثناء رحلة «البيجل». ربما تكون النقطة الوحيدة التي ستثير اهتمامك متعلقة بسهول باتاجونيا الشبيهة بالسهوب.
كانت تراودني، طوال سنوات عديدة ماضية، هواجس مروعة تحدثني بأن مستوى سطح البحر هو الذي تغير بالتأكيد، وليس مستوى الأرض.
قرأت قبل بضعة أشهر قصة حياة موركيسون الشائقة جدا التي كتبها [أخوك]. (بقلم السيد أرشيبالد جيكي.) ومع أنني دائما ما كنت أرى أنه يحتل المرتبة التالية بعد دبليو سميث في تصنيف التكوينات الجيولوجية، ومع أنني كنت أعرف مدى طيبة قلبه، فإن الكتاب قد زاد من احترامي له بشدة، بالرغم من عيوبه وافتقاره إلى آراء فلسفية واسعة. [تجسد العمل الجيولوجي الآخر الوحيد في سنواته الأخيرة في كتابه عن دود الأرض (1881)؛ ولذا قد يكون من المناسب تناوله في هذا المكان. كان هذا الموضوع يثير اهتمامه بالفعل قبل هذا التاريخ بسنوات عديدة، وفي عام 1838 نشرت ورقة عن تشكيل العفن في دورية «بروسيدينجز أوف ذا جيولوجيكال سوسايتي» (طالع الجزء الأول).
أظهر في هذا العمل أن «ما كان متناثرا بكثافة على سطح عدة مروج من شظايا الطين الجيري المحترق والرماد وما إلى ذلك، وجدت بعد ذلك ببضع سنوات قابعة تحت العشب على عمق بضع بوصات، لكنها كانت لا تزال في شكل طبقة.» وكان مدينا بتفسير هذه الحقيقة، التي تشكل الفكرة المحورية للجزء الجيولوجي من الكتاب، لعمه جوزايا ويدجوود، الذي اقترح أن الديدان إذ تجلب التربة إلى السطح ضمن فضلاتها، لا بد أن تقوض أي أشياء قابعة على السطح وتسبب هبوطا واضحا.
وفي كتاب عام 1881، توسع في ملاحظاته بخصوص فعل الدفن هذا، وابتكر عددا من الطرق المختلفة للتحقق من صحة تقديراته بشأن مقدار العمل المنجز.
3
وأضاف مجموعة كبيرة من الملاحظات بخصوص عادات الديدان وتاريخها الطبيعي وذكائها، وهذا الجزء من الكتاب عزز رواجه وشعبيته بشدة.
في عام 1877، اكتشف السير توماس فارار بالقرب من حديقته بقايا مبنى من العصر الروماني البريطاني، ومن ثم أعطى والدي الفرصة لأن يرى بنفسه الآثار التي أحدثتها أفعال ديدان الأرض في الأرضيات والجدران الخرسانية القديمة وما إلى ذلك. وعندما عاد والدي، كتب خطابا إلى السير توماس فارار، قائلا: «لا أستطيع أن أتذكر أسبوعا أشد إبهاجا من الأسبوع الماضي. أعرف يقينا أن إي لن تصدقني، لكن الديدان لم تكن هي الشيء الساحر الوحيد بأي حال من الأحوال.»
وفي خريف عام 1880، عندما أوشك كتاب «قوة الحركة في النباتات» على الانتهاء، شرع في العمل مجددا على هذا الموضوع. وورد في خطاب له إلى البروفيسور كاروس (بتاريخ 21 سبتمبر): «أعكف في فترات الراحة من تصحيح بروفات الطباعة على كتابة كتاب صغير جدا، وقد أنجزت نصفه تقريبا. سيكون عنوانه (كما هو مصمم حاليا) «تكون العفن النباتي بفعل الديدان».
4
وعلى حد ظني، سيكون كتابا صغيرا شائقا.»
أرسلت المخطوطة إلى المطابع في أبريل 1881، وفي أثناء وصول بروفات الطباعة، كتب خطابا إلى البروفيسور كاروس قال فيه : «كان الموضوع محببا جدا إلى نفسي، وربما أكون قد تناولته بالتفصيل إلى حد أحمق.»
نشر الكتاب في 10 أكتوبر، وبيع منه 2000 نسخة فور نشره. وقد كتب خطابا إلى السير جيه دي هوكر قال فيه: «أنا سعيد بأنك تستحسن كتاب «الديدان». عندما كنت أخبرك في الأيام الخوالي بكل ما كنت أفعله، إذا كنت مهتما أصلا، فدائما ما كنت أشعر بما يشعر به معظم الرجال عندما تنشر أعمالهم أخيرا.»
كتب في خطاب إلى السيد ميلارد ريد (8 نوفمبر): «فوجئت للغاية بالعدد الهائل من الأشخاص الذين اهتموا بالموضوع.» وفي خطاب إلى السيد داير (في نوفمبر): «استقبل كتابي بحماسة تكاد تكون مثيرة للضحك، وبيع منه 3500 نسخة!» وكتب أيضا في خطاب إلى صديقه السيد أنتوني ريتش في 4 فبراير 1882: «اجتاحني سيل لا يتوقف من الخطابات عن هذا الموضوع، معظمها أحمق ومتحمس جدا، لكن بعضها يحتوي على حقائق جيدة استخدمتها في تصحيح «الألف السادسة» يوم أمس.» ويمكن تقدير رواج الكتاب تقديرا تقريبيا بأن السنوات الثلاث التي أعقبت نشره شهدت بيع 8500 نسخة منه، وهذه المبيعات أكبر نسبيا من مبيعات كتاب «أصل الأنواع».
وليس من الصعب تفسير النجاح الذي لاقاه لدى جمهور القراء من غير المتخصصين في العلوم. فالاستنتاجات العامة الشاملة جدا والجديدة جدا، والقابلة للفهم بسهولة شديدة، التي استمدت من دراسة كائنات مألوفة جدا، وتناولها المؤلف بمنظور جديد حيوي للغاية، ربما اجتذبت العديد من القراء. يعلق أحد النقاد قائلا: «في نظر معظم الرجال ... ليست دودة الأرض سوى دودة حلقية عمياء بكماء غير قادرة على الإحساس وبها لزوجة كريهة. يتولى السيد داروين مسئولية إعادة تأهيل شخصيتها، وعلى الفور تتقدم دودة الأرض على أنها شخصية ذكية ومحسنة، وعاملة تؤدي إلى تغييرات جيولوجية كبيرة؛ فهي مسوية لجوانب الجبال ... وصديقة للإنسان ... وحليفة لجمعية الحفاظ على الآثار القديمة.» وقد أشارت صحيفة «سانت جيمس جازيت»، في 17 أكتوبر 1881، إلى أن توضيح الأهمية التراكمية للأشياء البالغة البساطة هو الملتقى بين هذا الكتاب والعمل السابق الذي كتبه المؤلف.
يتبقى كتاب واحد آخر جدير بالذكر: «حياة إيرازموس داروين».
في فبراير 1879، ظهرت في مجلة «كوزموس» المؤمنة بفكرة التطور مقالة كتبها الدكتور إرنست كراوزه عن العمل العلمي الذي أنجزه إيرازموس داروين. كان العدد المعني من مجلة «كوزموس» بمثابة «كتيب تهنئة»،
5
أو عدد تهنئة خاص احتفاء بذكرى ميلاد والدي؛ لذا كانت مقالة الدكتور كراوزه، التي تمجد المناصر الأكبر سنا لنظرية التطور، في محلها تماما. وقد أرسل خطابا إلى الدكتور كراوزه، شاكرا إياه من صميم قلبه على التكريم الذي منح إيرازموس إياه، وطالبا إذنه بنشر
6
ترجمة إنجليزية للمقالة.
كانت غايته الأساسية من كتابة مقالة قصيرة عن جده أن «يكذب بعض افتراءات الآنسة سيوارد تكذيبا قاطعا.» ويتجلى هذا في خطاب بتاريخ 27 مارس 1879 أرسله إلى ابن عمه ريجينالد داروين، طالبا فيه أي وثائق وخطابات يمكن أن تسلط الضوء على شخصية إيرازموس. وهذا جعل السيد ريجينالد داروين يسلم والدي كمية من المواد القيمة، تتضمن دفترا كبير الحجم مثيرا للاهتمام، كتب عنه: «أثار الكتاب العظيم بالغ اهتمامي ... قراءته والنظر إليه أشبه بالتواصل مع الموتى ... تعلمت [منه] الكثير عما كان يهتم به جدنا وعن تفضيلاته.» ويتحدث في خطاب لاحق (بتاريخ 8 أبريل) إلى الشخص نفسه عن مصدر حصل منه على مواد إضافية: «اكتشفت شيئا غريبا منذ خطابي الأخير؛ إذ وجدت أن صندوقا قديما من بين الأغراض التي علمها والدي بجملة «صكوك قديمة»؛ ولذا لم أفتحه من قبل، مليء بالخطابات - منها مئات الخطابات من الدكتور إيرازموس - وخطابات أخرى من بعض أفراد الأسرة القدماء، وفيها بضعة خطابات شائقة جدا. هذا إضافة إلى رسمة لقرية إلستون قبل أن تغير، في عام 1750 تقريبا، وأظنني سأعرض نسخة منها.»
شكلت مقالة الدكتور كراوزه الجزء الثاني من كتاب «حياة إيرازموس داروين»، فيما قدم والدي «مقالة تمهيدية». غير أن هذا الوصف الوارد في صفحة العنوان خادع بعض الشيء؛ فإسهام والدي يبلغ أكثر من نصف الكتاب، وكان ينبغي أن يوصف بأنه سيرة ذاتية. كان هذا النوع من الأعمال جديدا عليه، وقد أعرب عن شكوكه في خطاب إلى السيد ثيسلتون داير بتاريخ 18 يونيو، قائلا: «الرب وحده يعلم ما سأصنعه بحياته ؛ فهذا النوع من الكتابة جديد علي.» أسهم اهتمامه الشديد بأجداده في إضفاء حماسة على العمل ، الذي صار متعة له بكل تأكيد. وصحيح أن الكتاب لم يلق نجاحا ملحوظا بين عموم القراء، لكن الكثيرين من أصدقائه اعترفوا بجدارته. وكان السير جيه دي هوكر واحدا من هؤلاء، وقال والدي له في خطاب: «سررت للغاية بإشادتك بكتاب «حياة الدكتور دي»؛ لأنني كنت أحتقر عملي، وكنت أرى نفسي أحمق جدا لأنني توليت مهمة كهذه.»
وأرسل خطابا إلى السيد جالتون أيضا بتاريخ 14 نوفمبر، قائلا: «أشعر بسعادة «بالغة» لأنك تستحسن كتاب «حياة» القصير عن جدنا؛ لأنني كنت نادما على أنني توليت هذا العمل أصلا؛ إذ كان خارج نطاق قدراتي تماما.»
أسفر نشر كتاب «حياة إيرازموس داروين» عن هجوم من السيد صامويل باتلر كان بمثابة اتهام لوالدي بالكذب. وبعدما استشار والدي أصدقاءه، قرر ألا يرد على هذا الاتهام، معتبرا إياه لا يستحق اهتمامه.
7
ومن يريدون معرفة المزيد عن تلك المسألة، فربما يمكنهم جمع الحقائق عن القضية من كتاب «تشارلز داروين» الذي ألفه إرنست كراوزه، وسيجدون تعبير السيد باتلر عن استيائه في عدد 31 يناير 1880 من دورية «ذا أثنيام»، وعدد 8 ديسمبر 1880 من صحيفة «سانت جيمس جازيت». سببت هذه المسألة وجعا شديدا لوالدي، لكن التعاطف الودود من أولئك الذين كان يحترم رأيهم سرعان ما ساعده على نسيانها نسيانا مستحقا تماما.
يشير الخطاب التالي إلى كتاب «تذكارات حشرية» للسيد جيه إتش فابر. وربما يكون من المناسب عرضه هنا؛ لأنه يتضمن دفاعا عن إيرازموس داروين بشأن نقطة صغيرة. والملحوظة الواردة في ذيل الخطاب مثيرة للاهتمام؛ لأنها مثال على إحدى أفكار والدي الجريئة بخصوص كل من التجربة والنظرية:]
من تشارلز داروين إلى جيه إتش فابر
داون، 31 يناير 1880
سيدي العزيز
أرجو أن تسمح لي بأن أشبع حاجتي في شكرك من صميم قلبي على السعادة البالغة التي نلتها من قراءة كتابك. لم يتمكن أحد قط من وصف العادات العجيبة لدى الحشرات بهذا الوضوح الذي وصفتها به؛ فصارت القراءة عنها تكاد تضاهي رؤيتها. أنا متيقن من أنك لن تظلم ولو حتى حشرة، فضلا عن إنسان. والآن قد ضللك مترجم ما؛ لأن جدي، إيرازموس داروين، يذكر (في كتابه «قوانين الحياة العضوية»، المجلد الأول، الصفحة 183، عام 1794) أن الحشرة التي رآها وهي تقطع جناحي ذبابة كبيرة كانت زنبارا. أنا متيقن من أنك على صواب في قولك إن الأجنحة عادة ما تقطع بالفطرة الغريزية، لكن في الحالة التي وصفها جدي، فإن الزنبار، بعدما قطع طرفي الجسد، طار عاليا في الهواء، وقلبته الرياح، ثم هبط وقطع الجناحين. لا بد أن أتفق مع بيير هوبر في أن الحشرات لديها «قدر بسيط من العقل.» أرجو أن تغير، في الطبعة القادمة من كتابك، «جزءا» مما تقوله عن جدي.
يؤسفني أنك معارض بشدة لنظرية الانحدار، لقد وجدت أن البحث عن تاريخ كل بنية أو غريزة يقدم عونا ممتازا لعملية الملاحظة؛ ولأنك ملاحظ رائع، فسيوحي إليك بنقاط جديدة. لو كان بإمكاني أن أكتب عن تطور الغرائز، لاستخدمت بعض الحقائق التي تطرحها استخداما مفيدا جدا. اسمح لي بأن أضيف أنني، عندما قرأت آخر جملة في كتابك، تعاطفت معك تعاطفا عميقا.
8
مع خالص احترامي
ولك مني على الدوام بالغ الإخلاص
تشارلز داروين
ملحوظة:
اسمح لي بأن أقترح شيئا بخصوص وصفك الرائع لقدرة الحشرات على العودة إلى مساكنها. تمنيت من قبل أن أجرب ذلك على الحمام؛ أي أن تحمل الحشرات في «أقماعها» الورقية حوالي 100 خطوة في الاتجاه المعاكس للاتجاه الذي كنت تنوي أن تحملها فيه في نهاية المطاف، لكن قبل أن تستدير نحو الاتجاه الآخر من أجل العودة، ضع الحشرة في صندوق دائري به محور يمكن أن يدور بسرعة كبيرة، في أحد الاتجاهين أولا، ثم في الاتجاه الآخر، لكي تدمر أي شعور بالاتجاه لدى الحشرات بعض الوقت. فأحيانا ما «تخيلت» أن الحيوانات ربما تشعر بالاتجاه الذي حملت فيه عند البداية الأولى.
9
ولو فشلت هذه الخطة، كنت أنوي وضع الحمامات ضمن ملف حث؛ لتشويش أي حساسية مغناطيسية أو مغناطيسية معاكسة يبدو من المحتمل أنها قد تكون موجودة لديها.
سي داروين [خلال السنوات الأخيرة من حياة والدي، بدا من المجتمع إقبال متزايد على تكريمه. ففي عام 1877، نال درجة الدكتوراه الفخرية في القانون من جامعة كامبريدج. منح هذه الدرجة في 17 نوفمبر، في مناسبة شهدت إلقاء الخطيب العام الخطبة اللاتينية المعتادة، مختتما إياها بهذه الكلمات: «لكنك، يا من أوضحت قوانين الطبيعة ببراعة شديدة، قد أصبحت دكتورا في القانون لدينا.»
أسفرت هذه الدرجة الشرفية عن إطلاق حملة في الجامعة لإقامة نصب تذكاري دائم لوالدي. فجمعت تبرعات قيمتها 400 جنيه، وبعد رفض الفكرة القائلة بأن التمثال النصفي سيكون هو الخيار الأفضل للنصب التذكاري، تقرر تعليق صورة شخصية له. وفي يونيو 1879، قعد أمام السيد دبليو ريتشموند ليرسم له تلك الصورة الشخصية التي بقيت في حوزة الجامعة، وهي موضوعة الآن في مكتبة الجمعية الفلسفية في كامبريدج. يظهر والدي في الصورة قاعدا مرتديا عباءة الدكتوراه، ورأسه مائل نحو الناظر إلى الصورة؛ صحيح أن الصورة نالت إعجاب الكثيرين، لكنها من وجهة نظري الشخصية لا تمثل وضعية جسد والدي، ولا تعبيرات الوجه الظاهرة في الصورة تمثل تعبيرات وجهه.
إضافة إلى ذلك، أبدت الجمعية اللينية - التي كان والدي على ارتباط وثيق بها - رغبة مشابهة، ما جعله يقعد، في أغسطس 1881، أمام السيد جون كوليير ليرسم له الصورة الشخصية، الموجودة الآن في حوزة الجمعية. وكتب عن الرسام قائلا: «كان كوليير ألطف رسام قد يتمناه المرء وأكثرهم مراعاة ودماثة.» يظهر والدي في الصورة مواجها للناظر إليها، ومرتديا العباءة الفضفاضة المألوفة جدا لمن كانوا يعرفونه، وممسكا قبعته ذات الحواف المرنة العريضة. ويرى الكثيرون ممن كانوا يعرفون وجه أبي معرفة شخصية وثيقة أن صورة السيد كوليير هي أفضل الصور الشخصية التي رسمت له، وكان الشخص المرسوم نفسه (أي داروين) يميل إلى الاتفاق مع هذا الرأي. أما أنا، فأشعر أنها لم تمثله بالبساطة أو القوة التي تجلت في الصورة التي رسمها له السيد أوليس. ذلك أن صورة السيد كوليير تنطوي على تعبير معين أرى أنه مبالغة للتعبير الأشبه بالتألم الذي وصفه البروفيسور كون في وجه والدي، والذي كان قد لاحظه قبل ذلك لدى هومبولت. وردت تعليقات البروفيسور كون في تقرير مكتوب بأسلوب مبهج عن زيارة أجراها إلى داون في عام 1876، ومنشور في صحيفة «بريسلاور زايتونج» بتاريخ 23 أبريل 1882.
وفضلا عن الدرجة التي نالها من جامعة كامبريدج، تلقى في الوقت نفسه تقريبا تكريمات ذات طابع أكاديمي من بعض الجمعيات الأجنبية.
ففي 5 أغسطس من عام 1878، انتخب عضوا بالمراسلة لدى المعهد الفرنسي
10
في قسم علم النبات،
11
وأرسل إلى الدكتور آسا جراي خطابا قال فيه: «أرى أن كلينا انتخب عضوا بالمراسلة لدى المعهد. من المضحك بعض الشيء أنني انتخبت في قسم علم النبات؛ لأن نطاق معرفتي بالنباتات يكاد لا يتجاوز معرفة أن الأقحوان نبات من الفصيلة النجمية والبازلاء نبات بقولي.»
وفي أوائل العام نفسه، انتخب عضوا بالمراسلة لدى أكاديمية برلين للعلوم، وقال في خطاب (بتاريخ 12 مارس) إلى البروفيسور دوبوا ريموند، الذي كان قد اقترح انتخابه: «أتوجه إليك بخالص الشكر على خطابك اللطيف جدا، الذي تعلن فيه الشرف العظيم الذي منحت إياه. الحق أن معرفة أسماء الرجال المشهورين المرموقين الذين أيدوا اقتراح انتخابي أسعدتني أكثر مما أسعدني الشرف نفسه.»
كان المؤيدون هم هلمهولتز وبيترز وإيوالد وبرينجشيم وفيرخوف.
وفي عام 1879، نال ميدالية بالي من الكلية الملكية للأطباء.
ومرة أخرى في عام 1879، نال من أكاديمية تورينو الملكية جائزة «بريسا» عن السنوات من 1875 إلى 1878، التي تعادل قيمتها مبلغا قدره 12 ألف فرانك. وفي العام التالي، تلقى في يوم ذكرى ميلاده، كما حدث في مناسبات سابقة، خطاب تهنئة لطيفا من الدكتور دورن من نابولي. وفي الخطاب الذي كتبه والدي (بتاريخ 15 فبراير) ليشكره هو وعلماء التاريخ الطبيعي الآخرين في مركز علوم الحيوان، أضاف: «لعلك رأيت في الصحف أن جمعية تورينو قد منحتني شرفا هائلا بإعطائي جائزة «بريسا». الآن، خطر ببالي أن مركزك إذا أراد بعض المعدات والأجهزة، بقيمة نحو 100 جنيه، فسأرغب جدا في أن يسمح لي بدفع ثمنها. فهلا تتكرم بأن تبقي هذا في حسبانك، وإذا راودتك أي رغبة في ذلك، فسأرسل إليك شيكا في أي وقت.»
وجدت من سجلات حسابات والدي أن 100 جنيه قد قدمت لمركز نابولي.
انهالت عليه أيضا من مصادر مختلفة، آيات تدل على الاحترام والتعاطف، وقد اتسمت بطابع أكثر خصوصية. ويمكن توضيح موقفه تجاه مثل هذه البادرات، وتجاه التقدير الذي كان يحظى به لدى عامة الناس بوجه عام، بهذه الفقرة التالية من خطاب إلى السيد رومينز:
12 «إنك تغمرني بإشادة هائلة جدا بالفعل، وأتعجب من أنك لم تخش سماع بعض عبارات الاستنكار مثل «أف! أف!» أو ما شابه. فكثير من الناس يرون أن ما قدمته للعلم لا يستحق كل هذا التقدير، وأنا نفسي غالبا ما أظن ذلك، لكن عزائي أنني لم أتعمد قط أن أفعل أي شيء ليجلب لي الاحتفاء. لنكتف بهذا القدر من الحديث عن ذاتي العزيزة لأنني أطلته أكثر مما ينبغي.»
ومن بين مثل هذه البوادر المعبرة عن تقديره واحترامه، كان يكن تقديرا بالغا لألبومي الصور الفوتوغرافية اللذين تلقاهما من ألمانيا وهولندا في ذكرى ميلاده في عام 1877. كان السيد إميل ريد من مدينة مونستر هو صاحب فكرة هدية ذكرى الميلاد الألمانية، وقد اتخذ الترتيبات اللازمة لإعدادها. فأرسل والدي إليه خطابا (بتاريخ 16 فبراير 1877)، قائلا: «أرجو أن تخبر العلماء المائة والأربعة والخمسين، الذين من بينهم بعض من أبرز الأسماء المرموقة في العالم، أنني في غاية الامتنان لما أبدوه من لطف وتعاطف كريم بإرسال صورهم الفوتوغرافية إلي في ذكرى ميلادي.»
وقال في خطاب إلى البروفيسور هيكل (بتاريخ 16 فبراير 1877): «وصل الألبوم للتو سالما. إنه رائع للغاية.
13
إنه أعظم شرف حصلت عليه في حياتي بفارق كبير عن أي شرف آخر، وقد ازدادت سعادتي بشدة عندما تلقيت خطابك اللطيف جدا المؤرخ بتاريخ 9 فبراير ... أشكركم جميعا من صميم قلبي. أرسلت خطابا ضمن هذه الدفعة البريدية إلى السيد ريد، وآمل أن يستطيع بطريقة ما أن يشكر كل أصدقائي الكرام.»
وكتب أيضا في خطاب أرسله إلى البروفيسور إيه فان بيميلن عندما تلقى هدية مشابهة من عدد من علماء التاريخ الطبيعي ومحبيه البارزين في هولندا:
سيدي
تلقيت يوم أمس هدية الألبوم الرائعة مع خطابك. أرجو أن تحاول إيجاد طريقة ما لتعبر للمائتين والسبعة عشر من ملاحظي العلوم الطبيعية ومحبيها البارزين ، الذين أرسلوا إلي صورهم الفوتوغرافية، عن امتناني للطفهم البالغ. لقد غمرتني هذه الهدية بسعادة بالغة، ولا أظن أنني كنت سأستطيع تصور أي تزكية أكثر تشريفا لي منها. أدرك تماما أن كتبي لم تكن لتكتب أبدا، ولم تكن لتترك أي بصمة في عقول عامة الناس، لولا القدر الهائل من المادة العلمية التي جمعتها سلسلة طويلة من الملاحظين الجديرين بالإعجاب، وهم من يستحقون هذا الشرف أساسا. أظن أن كل عالم يشعر بالإحباط من حين إلى آخر، ويشك فيما إذا كان ما نشره يستحق العناء الذي كبده إياه، لكني كلما أردت جرعة من التشجيع في السنوات القليلة المتبقية من حياتي، فسأنظر إلى صور زملائي البارزين العاملين في مجال العلوم، وسأتذكر تعاطفهم الكريم. وعندما أموت، سيكون الألبوم أثمن تركة لأطفالي. يجب أيضا أن أعبر عن امتناني للسرد التاريخي الشائق جدا الذي تضمنه خطابك عن تطور الآراء حيال نظرية التطور في هولندا؛ فكل ما جاء فيه جديد علي تماما. ويجب أن أكرر شكري، من صميم قلبي، لكل أصدقائي الطيبين على بادرتهم التقديرية التي لن تنسى أبدا، وسأظل يا سيدي العزيز خادمك المدين الممتن.
تشارلز آر داروين [وفي يونيو من العام التالي (1878)، سر بمعرفة أن إمبراطور البرازيل كان قد عبر عن رغبته في أن يلتقي به. وبسبب عدم وجود والدي في المنزل، لم يستطع تلبية هذه الرغبة؛ إذ قال في خطاب إلى السير جيه دي هوكر: «ما قدمه الإمبراطور للعلم كثير جدا إلى حد أن كل عالم صار ملزما بأن يبدي له أقصى قدر من الاحترام، وأرجو أن تعبر له بأقوى كلمات ممكنة وبكل صدق، عن التشريف البالغ الذي شعرت به عندما علمت برغبته في لقائي، وعن ندمي الشديد على عدم وجودي في المنزل؛ لأن ذلك حقيقي بالفعل.»
أخيرا، ينبغي ذكر أنه تلقى في عام 1880 خطبة سلمها له بعض أعضاء مجلس جمعية برمنجهام الفلسفية شخصيا، وتذكارا من نقابة يوركشاير لعلماء التاريخ الطبيعي سلمه له بعض الأعضاء، على رأسهم الدكتور سوربي. وفي العام نفسه زاره بعض أعضاء جمعية لويشام وبلاكهيث العلمية، وأظن أن كلا من الضيوف والمضيف قد استمتع بهذه الزيارة.]
خطابات متنوعة 1876-1882 [كان الحدث الشخصي الرئيسي (من الأحداث الشخصية التي لم تتناول سلفا) في السنوات التي نتناولها الآن هو وفاة شقيقه إيرازموس، الذي توفي في بيته بشارع كوين آن، في 26 أغسطس من عام 1881. وبخصوص ذلك، قال والدي في خطاب إلى السير جيه دي هوكر (بتاريخ 30 أغسطس): «وفاة إيرازموس فاجعة ثقيلة علينا كلنا؛ لأنه كان حنونا جدا. دائما ما كنت أراه أكثر الرجال الذين عرفتهم على الإطلاق دماثة وعقلانية. ستبدو لندن مكانا غريبا علي من دون وجوده، لكني أشعر بسرور عميق لأنه مات دون أي معاناة بالغة، بعد فترة قصيرة جدا من المرض بسبب الوهن فحسب، وليس أي داء محدد.
14
لا أستطيع أن أوافقك الرأي في مسألة موت كبار السن وصغار السن. فالموت في الحالة الثانية، عندما يكون في انتظار المرء مستقبل مشرق، يسبب حزنا عميقا لن يمحى بالكامل أبدا.»
وربما يمكنني أيضا أن أخص بالذكر هنا حادثا ذا طابع سعيد؛ لأنه أثار تعاطف والدي بشدة. يتضح من خطاب (بتاريخ 17 ديسمبر 1879) إلى السير جوزيف هوكر أن فكرة إمكانية منح السيد والاس معاش تقاعد حكوميا خطرت ببال والدي لأول مرة آنذاك. وبعدها تبنى هذه الفكرة آخرون، وتظهر خطابات والدي أنه كان مهتما اهتماما قويا جدا بنجاح هذه الخطة. فعلى سبيل المثال، قال في خطاب إلى السيد فيشر: «لم أرغب طوال حياتي كلها تقريبا في شيء قدر ما أرغب في نجاح خطتنا.» وانتابه سرور عميق عندما منح صديقه هذا التكريم الذي كان مستحقا تماما، وقال في خطاب إلى المراسل نفسه (بتاريخ 7 يناير 1881)، عندما تلقى خطابا من السيد جلادستون يعلن فيه ذلك الخبر: «يا لها من لفتة طيبة للغاية من السيد جلادستون أن يجد وقتا ليرسل خطابا في ظل الظروف الحالية!
15
يا إلهي! شد ما أنا سعيد!»
الخطابات التالية ذات طابع متنوع وتشير في الأساس إلى الكتب التي كان يقرؤها، وإلى كتاباته الثانوية.]
من تشارلز داروين إلى الآنسة باكلي (السيدة فيشر)
داون، 11 فبراير [1876]
عزيزتي الآنسة باكلي
يجب أن تدعيني أحظى بلذة إخبارك بأنني أتممت للتو قراءة كتابك الجديد («نبذة تاريخية قصيرة عن العلوم الطبيعية.») باهتمام بالغ. أرى الفكرة ممتازة، وهي معروضة على نحو جيد جدا في رأيي. من المبهر جدا إلقاء نظرة شاملة على كل الخطوات الرائدة الكبرى في تقدم العلم. في البداية ندمت على أنك لم تعرضي كل علم بدرجة أكبر من الفصل عن بقية العلوم، لكن يمكنني القول إنك وجدت ذلك مستحيلا. ليست لدي أي انتقادات تقريبا، باستثناء أنني أرى أنك كان يجب أن تقدمي موركيسون على أنه مصنف عظيم للتكوينات الجيولوجية، ولا يتفوق عليه سوى دبليو سميث. لقد أنصفت أستاذنا القديم العزيز لايل إنصافا تاما، ولم تتجاوزي حدود الإنصاف. ربما كان ينبغي الاستفاضة أكثر بقليل في الحديث عن علم النبات، وإذا راودتك أي رغبة على الإطلاق في إضافة ذلك، فستجدين كتاب «تاريخ»، الذي ألفه زاكس ونشر مؤخرا، مفيدا جدا لهذا الغرض.
لقد توجت والاس وتوجتيني بكثير من التشريف والتمجيد. أهنئك من صميم قلبي على إنتاج عمل جديد وشائق كهذا،
ولك يا عزيزتي الآنسة باكلي بالغ الإخلاص على الدوام.
سي داروين
من تشارلز داروين إلى إيه آر والاس [هوبدين]،
16
5 يونيو 1876
عزيزي والاس
اسمح لي بأن أحظى بلذة التعبير لك عن إعجابي اللامحدود بكتابك،
17
وإن كنت قد قرأته حتى الصفحة 184 فقط، فهدفي هو بذل أقل قدر ممكن من الجهد في أوقات راحتي. أنا متيقن من أنك أرسيت أساسا عريضا آمنا لكل عملك المستقبلي عن التوزيع. كم سيكون شائقا أن نرى النباتات يوما ما في المستقبل تعالج على نحو وثيق الصلة بآرائك، ومن بعدها كل الحشرات والرخويات الرئوية وأسماك المياه العذبة بتفصيل أكبر مما أظن أنك تناولت به هذه الحيوانات الأدنى مرتبة! أكثر النقاط إثارة لاهتمامي، لكني لا أقول إنها أقيم النقاط، هي اعتراضك المتهور بشدة على القارات المتخيلة الغارقة، التي ادعى فوربس وجودها، ومن بعده هوكر مع الأسف، ووصفها وولستن و[أندرو] موراي على نحو مثير للضحك! بالمناسبة، الانطباع الرئيسي الذي تركه ذاك المؤلف الأخير في ذهني هو افتقاره التام إلى أي قدر من البصيرة العلمية. لقد عارضت ذلك الرأي المذكور أعلاه بعلو صوتي من دون جدوى، لكني متيقن من أنك ستنجح، بفضل حججك الجديدة والخريطة الملونة. حسبما يبدو لي، أرى قيمة خاصة كامنة في استنتاج أننا يجب أن نحدد المناطق، بالاعتماد في الأساس على طبيعة الثدييات. عندما كنت أعمل على هذا الموضوع منذ سنوات عديدة، شككت بشدة فيما إذا كانت المنطقتان المسماتان الآن بالمنطقة القطبية الشمالية القديمة والمنطقة القطبية الشمالية الجديدة من المفترض أن تكونا منفصلتين، وقررت أنني لو كنت سأفصل منطقة أخرى، ينبغي أن تكون مدغشقر. ولذا، فأنا أقدر أدلتك المتعلقة بهذه النقاط. يا للتقدم الذي شهده علم الحفريات في السنوات العشرين الأخيرة، لكنني أخشى أن تطرأ تغييرات هائلة على آرائنا عن هجرة المجموعات المختلفة ومكان مولدها إذا شهد تقدما بالوتيرة نفسها في المستقبل. لا أستطيع أن أقتنع تماما بما ورد عن العصر الجليدي، وانقراض الثدييات الضخمة، لكني بالتأكيد آمل أن تكون على صواب. أظن أنه سينبغي عليك تغيير اعتقادك بشأن مسألة صعوبة انتشار الرخويات البرية، لقد قوطعت عندما بدأت أجري تجارب على صغار الرخويات الفاقسة للتو من النوع الذي يلتصق بأقدام الطيور التي تعشش على الأرض. وأختلف معك في نقطة أخرى، ألا وهي إيمانك بأن العصر الجيولوجي الثالث لا بد أن يكون قد شهد وجود قارة قطبية جنوبية، انبعثت منها أشكال متنوعة وصلت إلى أقاصي الأطراف الجنوبية لقاراتنا. لكني أستطيع مواصلة مثل هذه الثرثرة إلى الأبد. أعتقد أنك كتبت عملا عظيما مشهودا سيظل أساسا لكل الدراسات البحثية المستقبلية عن التوزيع الجغرافي طوال سنوات قادمة.
تفضل بقبول بالغ إخلاصي يا عزيزي والاس
تشارلز داروين
ملحوظة:
لقد أغدقت علي بأشد إطراء يمكن تخيله؛ وذلك بما تقوله عن عملك من كلام متعلق بفصولي عن التوزيع الجغرافي في كتاب «أصل الأنواع»، وأشكرك من صميم قلبي على ذلك. [توضح الخطابات التالية قدرة والدي على الاهتمام القوي بالأعمال المتعلقة بالتطور، لكنها غير مرتبطة بأبحاثه الخاصة آنذاك. الكتب المشار إليها في الخطاب الأول هي «دراسات عن نظرية الانحدار» التي كتبها البروفيسور فايزمان؛
18
لأنها كانت جزءا من سلسلة المقالات التي قدم بها المؤلف خدمة رائعة لقضية التطور:]
من تشارلز داروين إلى أوجست فايزمان ... أقرأ الألمانية ببطء شديد، واضطررت مؤخرا إلى قراءة عدة أوراق بحثية أخرى؛ لذا لم أتمم حتى الآن إلا قراءة نصف مقالتك الأولى وثلثي مقالتك الثانية. لقد أثارتا بالغ اهتمامي وإعجابي، وأيا كانت التي أتناولها بالتفكير تاليا، يبدو لي أنها الأقيم. لم أتوقع قط أن أرى مسألة العلامات الملونة على اليساريع مشروحة جيدا جدا هكذا، وكذلك سرني شرحك لحالة العينات جدا ... ... يوجد موضوع آخر واحد دائما ما رأيت أن شرحه أصعب حتى من شرح ألوان اليساريع، وهو موضوع ألوان بيض الطيور، وأتمنى أن تبحث فيه.
من تشارلز داروين إلى ملكيور نويماير،
19
فيينا
داون، بيكنهام، كنت، 9 مارس 1877
سيدي العزيز
لأنني اضطررت إلى قراءة كتب أخرى، لم أنته إلا يوم أمس من قراءة مقالتك عن «ذوات المصراعين المنتمية إلى جنس كونجيريا»، إلخ.
20
أرجو أن تسمح لي بالتعبير عن امتناني للمتعة والمعرفة اللتين جنيتهما من قراءتها. أرى أنها عمل مثير للإعجاب، وهي أفضل حالة صادفتها في حياتي في توضيح ما لظروف الحياة من تأثير مباشر على الكائن.
يرسل إلي السيد هايت، الذي يعكف على دراسة حالة هيلجندورف، خطابات بخصوص الاستنتاجات التي توصل إليها، وهي تكاد تطابق استنتاجاتك. فهو يصر على أن الأشكال المتشابهة بشدة يمكن أن تشتق من خطوط انحدار مختلفة، وهذا ما أطلقت عليه سابقا التباين التناظري. لا يمكن أن يبقى الآن مجال للشك في أن الأنواع قد تخضع لتعديلات كبيرة من خلال تأثير بيئي مباشر. لدي عذر منعني من أن أصر سابقا على هذه النقطة إصرارا أشد في كتابي «أصل الأنواع»؛ لأن الغالبية العظمى من الحقائق الأفضل قد رصدت بعد نشره.
مع تكرار شكري على مقالتك الشائقة جدا ، ومع بالغ الاحترام، لك مني يا سيدي العزيز.
بالغ الإخلاص
تشارلز داروين
من تشارلز داروين إلى إي إس مورس
داون، 23 أبريل 1877
سيدي العزيز
يجب أن تسمح لي فقط بأن أخبرك بمدى الاهتمام الشديد الذي أثارته في نفسي خطبتك الممتازة
21
التي تكرمت بإرسالها إلي، والتي كنت أتمنى بشدة أن أقرأها. أعتقد أنني قرأت كل أبحاث مواطني بلدك التي تشير إليها أو معظمها، لكني ذهلت بشدة من عددها وأهميتها عندما رأيتها مجمعة معا هكذا. أتفق معك تماما في أن أعمال السيد ألين قيمة جدا؛
22
لأنها تبين مقدار ما يمكن توقعه من تغيير هائل بفعل التأثير المباشر من ظروف الحياة حسبما يبدو. وأما بخصوص بقايا الحفريات في الغرب، فما من كلمات قد تعبر عن مدى روعتها. تتبقى نقطة واحدة يؤسفني أنك لم توضحها في خطبتك، ألا وهي المغزى من آراء البروفيسورين كوب وهايت عن التسارع والتباطؤ، وأهمية هذه الآراء. حاولت جاهدا أن أفهم المغزى منها، لكني استسلمت يائسا.
اسمح لي أن أشكرك من صميم قلبي على مشاعرك الطيبة التي أبديتها تجاهي خلال خطبتك، وسأبقى يا سيدي العزيز مخلصا.
المخلص لك
سي داروين [يشير الخطاب التالي إلى «ملخص سيرة ذاتية عن طفل رضيع» كتب استنادا إلى مذكرات دونت قبل ذلك بسبعة وثلاثين عاما، ونشرت في عدد يوليو 1877 من دورية «مايند». جذبت المقالة اهتماما بالغا، وترجمت آنذاك في مجلة «كوزموس» ودورية «ريفيو ساينتيفيك»، ونشرت مؤخرا في كتاب «مجموعة كتابات ثانوية بقلم تشارلز داروين» للدكتور كراوزه، 1887:]
من تشارلز داروين إلى جي كروم روبرتسون
23
داون، 27 أبريل 1877
سيدي العزيز
آمل أن تتكرم بتكبد عناء قراءة المخطوطة المرفقة، وإذا رأيتها مناسبة للنشر في دوريتك الرائعة «مايند»، فسأكون ممتنا. أما إذا رأيتها غير مناسبة، وهذا مرجح جدا، فهلا تعيدها إلي من فضلك. آمل أن تتحلى في قراءتها بمعايير انتقادية أكبر من تلك المعتادة لديك؛ لأنني لا أستطيع الفصل فيما إذا كانت جديرة بالنشر أم لا؛ إذ كنت منهمكا جدا في مشاهدة بزوغ القدرات العديدة عند رضيعي. الحق أنني ما كنت لأفكر أبدا في إرسال المخطوط إليك، لو لم يظهر مقال السيد تين في دوريتك.
24
وإذا تقرر طبع مخطوطتي، فأعتقد أنه من الأفضل أن أرى بروفة طباعتها.
المخلص لك
سي داروين [يبين الجزءان المقتطفان التاليان استمرار اهتمامه القوي بمجموعة متنوعة من مجالات البحث. كان البروفيسور كون من مدينة بريسلاو قد ذكر أبحاث كوخ عن الحمى الطحالية (أو الجمرة الخبيثة)، في أحد الخطابات، فرد عليه والدي في خطاب بتاريخ 3 يناير، قائلا: «أتذكر جيدا أنني قلت لنفسي، منذ فترة تتراوح بين 20 و30 عاما، إن إثبات أصل أي مرض معد على الإطلاق سيكون أعظم انتصار للعلم، وأنا الآن سعيد برؤية هذا الانتصار.»
تلقى في الربيع نسخة من كتاب «شعاب الدولوميت المرجانية» الذي ألفه الدكتور إي فون موشفوسكز ويعد خطابه الذي أرسله إلى المؤلف (بتاريخ 1 يونيو 1878) مهما لأنه متعلق بتأثير عمله الذي كتبه بيده عن طرق الجيولوجيا. «أخيرا وجدت متسعا من الوقت لأقرأ الفصل الأول من كتابك «شعاب الدولوميت المرجانية»، وقد أثار «بالغ» اهتمامي. إنك تشير إلى تغير رائع جدا في مستقبل التسلسل الزمني الجيولوجي؛ وذلك بافتراضك أن صحة نظرية الانحدار قد ثبتت، ثم باعتبار أن التغيرات المتدرجة الحادثة في المجموعة نفسها من الكائنات هي المعيار الحقيقي! لم أكن حتى لأحلم بأنني سأعيش إلى أن أرى أي أحد يقترح خطوة كهذه حتى.
وكان من الأبحاث الجيولوجية الأخرى التي نالت إعجاب والدي عمل السيد دي ماكينتوش عن الكتل الصخرية المنجرفة بفعل الأنهار الجليدية. وبصرف النظر عن جدارة العمل المتأصلة فيه بالفعل، فإنه أثار تعاطف والدي بشدة بسبب الظروف التي أنجز فيها؛ إذ اضطر السيد ماكينتوش إلى تكريس وقته كله تقريبا للتدريس. الفقرة التالية مقتطفة من خطاب إلى السيد ماكينتوش بتاريخ 9 أكتوبر 1879، وتشير إلى ورقته البحثية في مجلة «جورنال أوف جيولوجيكال سوسايتي»، 1878: «آمل أن تدعني أحظى بلذة شكرك على المتعة الكبيرة التي نلتها من مجرد قراءة ورقتك البحثية عن الكتل الصخرية المنجرفة بفعل الأنهار الجليدية. الخريطة رائعة، ويا للجهد الشاق المبذول الذي يتجلى في كل من هذه الخطوط! كنت أظن طوال بضع سنوات أن أهمية تأثير الجليد الطافي، التي كان يبالغ في تقديرها قبل نحو نصف قرن، لم تعد تحظى مؤخرا بالتقدير الكافي الذي تستحقه. أنت الرجل الوحيد الذي انتبه على الإطلاق إلى التمييز الذي اقترحت وجوده
25
بين النوع المستوي أو المسطح من الصخور المتآكلة بفعل الأنهار الجليدية والنوع المرقط بنتوءات دائرية.»]
من تشارلز داروين إلى سي ريدلي
داون، 28 نوفمبر 1878
سيدي العزيز
انتهيت للتو من قراءة سريعة لخطبة الدكتور بوسي، كما نشرت في صحيفة «ذا جارديان»، لكني أرى أنها [لم تكن] جديرة فيما يبدو بأي اهتمام. ولأنني لا أرد أبدا على أي انتقادات إلا أن تكون صادرة عن علماء، فلا أرغب في نشر هذا الخطاب، لكني لا أمانع أن تقول إنك أرسلت إلي الأسئلة الثلاثة، وإنني أجبت بأن الدكتور بوسي كان مخطئا في تصوره أنني كتبت كتاب «أصل الأنواع» وفي نيتي أن تكون له علاقة من أي نوع بعلم اللاهوت. كنت أظن أن ذلك سيبدو واضحا لأي شخص تكبد عناء قراءة الكتاب، لا سيما وأنني أذكر بالتحديد، في السطور الافتتاحية في المقدمة، كيفية نشأة الموضوع في ذهني. تغني هذه الإجابة عن الرد على سؤاليك الآخرين، ولكن يمكنني إضافة أنني عندما كنت أجمع الحقائق لكتاب «أصل الأنواع» منذ سنوات عديدة، كنت مؤمنا بما يسمى الإله الشخصي إيمانا راسخا قدر إيمان الدكتور بوسي نفسه، وأما بخصوص أبدية المادة، فلم أزعج نفسي قط بالتفكير في مثل هذه الأسئلة التي ليس لها إجابة. سيعجز هجوم الدكتور بوسي عن تأخير الإيمان بفكرة التطور ولو يوما واحدا، كما عجزت من قبله الهجمات الشرسة التي شنها رجال الدين منذ 50 عاما على الجيولوجيا، وكما عجزت الهجمات الأقدم التي شنتها الكنيسة الكاثوليكية على جاليليو؛ وذلك لأن الناس دائما ما يكونون على قدر كاف من الحكمة ليتبعوا العلماء عندما يتفقون على أي موضوع، والآن يوجد إجماع شبه تام بين علماء الأحياء على فكرة التطور، وإن كانوا لا يزالون مختلفين بشدة بخصوص الوسائل؛ مثل مدى تأثير الانتقاء الطبيعي ، أو مدى تأثير الظروف الخارجية، أو ما إذا كان يوجد ميل فطري غامض إلى القدرة على بلوغ الكمال.
سأبقى يا سيدي العزيز المخلص لك
سي داروين [لم يكن علماء اللاهوت الأعداء الوحيدين لحرية العلم. ففي 22 سبتمبر 1877، ألقى البروفيسور فيرخوف خطابا في اجتماع ميونخ لعلماء التاريخ الطبيعي والأطباء الألمان، كانت فحواه العامة تفيد بأن الاشتراكية مرتبطة بنظرية التطور. وقد تبنى بعض معارضي فكرة التطور هذا الرأي تبنيا متطرفا إلى حد أن صحيفة «كروز زايتونج»، وفقا لما ذكره هيكل، قد ألقت «كل اللوم في محاولات الخيانة التي بذلها الديمقراطيان هودل ونوبيلينج ... على نظرية الانحدار مباشرة.» وقد رد البروفيسور هيكل على ذلك بكل قوة وكفاءة في مقالته «الحرية في العلم والتعليم» (ترجمة إنجليزية صدرت في عام 1879)، التي من المؤكد أنها حازت تعاطف كل محبي الحرية.
تشير الفقرة التالية المقتطفة من خطاب (بتاريخ 26 ديسمبر 1879) إلى الدكتور شيرزر، مؤلف كتاب «رحلة نوفارا البحرية»، إلى آراء والدي بشأن هذه المسألة التي كانت ملحة فيما مضى: «يا لها من فكرة حمقاء تلك التي يبدو أنها منتشرة في ألمانيا بشأن العلاقة بين الاشتراكية والتطور بفعل الانتقاء الطبيعي!»]
من تشارلز داروين إلى إتش إن موزلي
26
داون، 20 يناير 1879
عزيزي موزلي
لقد تلقيت كتابك للتو، وأؤكد أنني لم أر في حياتي كلها مثل هذا الإهداء الذي نال بالغ إعجابي.
27
صحيح أنني لست حكما عادلا، لكني آمل أن أتحدث بتجرد تام من أي عواطف، مع أنك لمست أرق أوتاري وأكثرها حساسية، بقولك إن يومياتي القديمة هي التي زرعت فيك الرغبة في أن تطوف الدنيا بصفتك عالم تاريخ طبيعي. سأبدأ قراءة كتابك مساء اليوم فورا، وأنا متيقن من أنني سأستمتع به جدا.
مع بالغ إخلاصي
سي داروين
من تشارلز داروين إلى إتش إن موزلي
داون، 4 فبراير 1879
عزيزي موزلي
أخيرا أتممت قراءة كتابك كله، وقد أثار في نفسي اهتماما أشد مما أثاره لدي أي كتاب علمي آخر منذ فترة طويلة. ربما ستتفاجأ بمدى بطئي الشديد في إتمامه، لكن رأسي يمنعني من القراءة إلا على فترات متقطعة. وإذا سئلت أي الأجزاء كان أكثر إثارة لاهتمامي، فسأحار بعض الشيء في الاختيار. أتصور أن القارئ العادي سيفضل كلامك عن اليابان. أما أنا عن نفسي، فمتحير بين ما طرحته من نقاشات ووصف عن الجليد الجنوبي، الذي أراه مثيرا للإعجاب، والفصل الأخير الذي تضمن العديد من الحقائق والآراء الجديدة علي، مع أنني قرأت أوراقك البحثية عن الشعاب الهدرية الحجرية سابقا، لكن «ملخصك» جعلني أدرى مما كنت من قبل بأنها حالة شائقة للغاية.
ثم إنك جمعت عددا مذهلا من الحقائق القيمة المتعلقة بانتشار النباتات، أكثر بكثير من أي كتاب آخر أعرفه. الحق أن مجلدك بمثابة كتلة من الحقائق والمناقشات الشائقة، ولا توجد فيه تقريبا أي كلمة زائدة عن الحاجة، وأنا أهنئك من صميم قلبي على نشره.
إهداؤك يجعلني أشد فخرا من أي وقت مضى.
مع أصدق تحياتي وبالغ إخلاصي
سي داروين [في نوفمبر 1879، أجاب والدي السيد غالتون عن سلسلة من أسئلة استخدمها في كتابه «تساؤلات عن الملكات البشرية»، 1883. فقال في خطاب إلى السيد جالتون: «أجبت عن الأسئلة قدر استطاعتي، لكن الإجابات رديئة جدا وغير كافية؛ لأنني لم أحاول قط أن أستكشف ذهني. إذا لم يجب الآخرون إجابات أفضل من إجاباتي، فلن تجني أي فائدة من استفساراتك. ألا تظن أنك ينبغي أن تطلب من الشخص المجيب ذكر عمره؟ أظن أنه ينبغي عليك ذلك؛ لأنني أستطيع تذكر وجوه العديد من تلاميذ مدرستي، الذين لم أرهم منذ 60 عاما، «بوضوح شديد»، لكني الآن قد أتحدث مع رجل ساعة كاملة، وأراه مرارا وتكرارا، وبعد شهر واحد، أعجز تماما عن تذكر أي شيء عن شكله على الإطلاق. تكون الصورة باهتة تماما. العدد الأكبر من الإجابات وارد في الجدول المرفق.»]
أسئلة عن ملكة التصور الذهني
الأسئلة
الإجابات
1
السطوع؟
متوسط، لكن فطوري الذي أتناوله وحدي كان في وقت مبكر، وكانت سماء الصباح مظلمة.
2
الوضوح؟
بعض الأشياء تكون واضحة جدا، كشريحة من اللحم البقري البارد وبعض العنب وثمرة كمثرى، وحالة طبقي حين أنهي ما فيه، وبضعة أشياء أخرى، تظهر واضحة جدا كما لو كانت أمامي صورة لها.
3
الاكتمال؟
متوسط جدا.
4
الألوان؟
الأشياء المذكورة أعلاه ملونة تلوينا مثاليا.
5
مدى مجال الرؤية؟
صغير بعض الشيء.
أنواع مختلفة من التصور الذهني
6
الصفحات المطبوعة.
لا أستطيع تذكر جملة بعينها، لكني أتذكر موضع الجملة ونوع الخط.
7
الأثاث؟
لم أنتبه لذلك قط.
8
الأشخاص؟
أتذكر وجوه الأشخاص الذين أعرفهم معرفة جيدة سابقة بكل وضوح، وأستطيع أن أجعلهم يفعلون أي شيء أريده.
9
المناظر الطبيعية؟
أتذكرها بوضوح شديد ويشعرني تذكرها بالبهجة.
10
الجغرافيا؟
لا.
11
الحركات العسكرية؟
لا.
12
الآلات الميكانيكية؟
لم أختبرها قط.
13
الأشكال الهندسية؟
أظن أنني لا أملك أي قدرة من هذا النوع.
14
الأعداد؟
عندما أفكر في أي عدد، تخطر ببالي أرقام مطبوعة. لا أستطيع تذكر أربعة أرقام متتالية طوال ساعة كاملة.
15
أوراق اللعب؟
لم ألعبها منذ سنوات عديدة، لكني متيقن من أنني لن أتذكر.
16
الشطرنج؟
لم ألعبه قط.
في عام 1880، نشر ورقة بحثية قصيرة في دورية «نيتشر» (المجلد الحادي والعشرون، الصفحة 207) عن «خصوبة الهجائن المولودة من الإوز المحلية العادية والإوز الصينية.» كان قد حصل على الهجائن من المبجل الدكتور جوديكر، وسعد بنيله فرصة اختبار صحة الادعاء بأن هذه الأنواع خصبة فيما بينها. وكان يعتبر هذه الحقيقة، التي طرحت في كتاب «أصل الأنواع» على عهدة السيد إيتون، هي الأبرز من بين كل ما سجل حتى ذلك الحين من حقائق متعلقة بخصوبة الهجائن. وتجدر الإشارة إلى أن الحقيقة (كما أكدها هو والدكتور جوديكر) مهمة لأنها تقدم دليلا آخر على أن العقم ليس معيارا لاختلاف محدد، نظرا إلى أن نوعي الإوز اللذين اتضح الآن أنهما خصبان فيما بينهما، مختلفان جدا إلى حد أن بعض الخبراء قد أدرجوهما ضمن جنسين أو جنسين فرعيين متمايزين.
يشير الخطاب التالي إلى محاضرة السيد هكسلي: «قدوم عصر أصل الأنواع»،
28
التي ألقيت في المعهد الملكي، بتاريخ 9 أبريل 1880، ونشرت في دورية «نيتشر»، وفي دورية «ساينس آند كالتشر»، الصفحة 310:]
من تشارلز داروين إلى تي إتش هكسلي
أبينجر هول، دوركينج، الأحد، 11 أبريل 1880
عزيزي هكسلي
كنت أتمنى بشدة أن أحضر محاضرتك ، لكني كنت مصابا بسعال حاد، وأتينا إلى هنا لنرى ما إذا كان التغيير سيفيدني، وقد أفادني بالفعل. يا للنجاح الرائع الذي يبدو أن محاضرتك قد حققته، حسبما أستنتج من التقارير الواردة في صحيفتي «ذا ستاندرد» و«ديلي نيوز»، ولا سيما الكلام الذي سرده لي ثلاثة من أبنائي! أظن أنك لم تدون محاضرتك كاملة؛ لذا يؤسفني أنه لا يمكن طباعتها بالكامل. يبدو أنك تكدس فوق رأسي العجوز أكواما عالية سميكة من التشريفات، كدأبك في مناسبات كثيرة جدا من قبل. لكني أعي جيدا حجم الدور العظيم الذي أديته في تأسيس الإيمان بنظرية الانحدار، ونشره، منذ ذلك المقال النقدي العظيم في صحيفة «ذا تايمز»، ومعركة الصامد الأخير في أكسفورد حتى يومنا هذا.
سأظل يا عزيزي هكسلي صديقك المخلص والممتن دائما
تشارلز داروين
ملحوظة:
كان ذلك غباء مطلقا مني، لكني عندما قرأت إعلان محاضرتك، ظننت أنك تقصد نضج الموضوع، إلى أن قالت زوجتي يوما ما: «لقد مر نحو 21 عاما على ظهور كتاب «أصل الأنواع»»، وعندئذ فهمت معنى كلامك لأول مرة! [في المحاضرة المذكورة أعلاه، طرح السيد هكسلي تراكم الأدلة الحفرية التي قدمتها لنا السنوات ما بين عامي 1859 و1880 باعتباره حجة قوية تؤيد فكرة التطور. وبخصوص هذا الموضوع، قال والدي في خطاب (بتاريخ 31 أغسطس 1880):]
عزيزي البروفيسور مارش
تلقيت قبل بعض الوقت رسالتك البالغة اللطف المؤرخة بتاريخ 28 يوليو، ووصلني المجلد الرائع يوم أمس.
29
نظرت بإعجاب متجدد إلى الرسومات التوضيحية، وسأقرأ النص قريبا. إن عملك عن هذه الطيور القديمة، وعن العديد من الحيوانات المتحفرة في أمريكا الشمالية قدم لنظرية التطور أفضل دعم ظهر خلال الأعوام العشرين الأخيرة.
30
المظهر العام للنسخة التي أرسلتها إلي جدير بمحتوياتها، ولا يسعني أن أقول شيئا أقوى تعبيرا من ذلك.
مع خالص شكري وأصدق تحياتي
تفضل بقبول بالغ إخلاصي
تشارلز داروين [في نوفمبر من عام 1880، تلقى خبرا عن فيضان في البرازيل كان صديقه فريتز مولر قد نجا من الموت فيه بأعجوبة. فأرسل والدي على الفور خطابا إلى هيرمان مولر، متسائلا في قلق عما إذا كان أخوه قد فقد كتبا أو معدات، أو ما شابه بسبب هذا الحادث، ومناشدا إياه، إذا صح ذلك، أن يسمح له «من أجل العلم» بالإسهام في تعويض الخسارة «لكيلا يتضرر العلم». ولكن من حسن الحظ أن الضرر الذي لحق بمقتنيات فريتز مولر لم يكن جسيما قدر ما كان متوقعا، وبقيت الحادثة مجرد تذكار للصداقة بين اثنين من علماء التاريخ الطبيعي، وأنا متيقن من أن الناجي منها لا يسعد بتذكرها إلا عند النظر إليها من هذا المنظور.
ظهر في دورية «نيتشر» (عدد 11 نوفمبر 1880) خطاب مرسل من والدي، وأعتقد أن هذه هي المرة الوحيدة التي كتب فيها علانية شيئا يتسم بأي قدر من الحدة. فقد كتب الراحل السير وايفيل تومسون، في مقدمة كتاب «رحلة «تشالنجر» البحرية»: «طابع حيوانات قاع المحيط يرفض تقديم أي دعم للنظرية التي تشير إلى أن الانتقاء الطبيعي هو العامل الوحيد الذي وجه تطور الأنواع وصولا إلى التباين المتطرف.» فوصف والدي هذه التعليقات بأنها «معيار انتقادي ليس من النادر أن يصل إليه علماء اللاهوت والميتافيزيقيون»، ثم واصل مبديا اعتراضه على مصطلح «التباين المتطرف»، وتحدى السير وايفيل أن يذكر له اسم أي شخص «قال إن تطور الأنواع يعتمد على الانتقاء الطبيعي وحده.» ويختتم الخطاب بمشهد تخيلي بين السير وايفيل وأحد المربين، ينتقد فيه السير وايفيل فكرة الانتقاء الاصطناعي بطريقة مشابهة. يظل المربي صامتا، لكن عندما يرحل منتقده، يفترض أنه يتحدث «بلهجة تأكيدية جازمة لكنها غير محترمة عن علماء التاريخ الطبيعي». ينتهي الخطاب، في نسخته الأصلية، بكلمات مقتبسة من سيجويك عن حصانة من يكتبون عما لا يفهمونه، لكنها حذفت بناء على نصيحة أحد الأصدقاء، والغريب جدا أن هذا الصديق كان يتسم بنزعة قتالية في الدفاع عن القضايا الجيدة، ووالدي هو الذي كان يكبحها من حين إلى آخر.»
من تشارلز داروين إلى جي جيه رومينز
داون، 16 أبريل 1881
عزيزي رومينز
أرسلت مخطوطة كتابي «ديدان» إلى المطابع؛ لذا سأسلي نفسي بكتابة بعض الخواطر السريعة إليك بخصوص بضع نقاط، لكن لا تهدر وقتك في الرد إطلاقا على هذه الثرثرة.
أولا، استفدت جدا من خطابك عن الذكاء، وقد مزقت ما أرسلته إليك وأعدت كتابته من جديد. صحيح أنني لم أحاول تعريف الذكاء، لكني اقتبست تعليقاتك عن الخبرة، وبينت أنها تنطبق على الديدان إلى حد كبير. أرى أنه يجب القول إنها تمارس أنشطتها ببعض الذكاء، وهي ليست موجهة بغريزة عمياء على أي حال.
ثانيا، أثرت بالغ اهتمامي بنبذة عملك عن شوكيات الجلد
31
المنشورة في دورية «نيتشر»؛ إذ أرى أن الجهاز العصبي الذي يجمع بين التعقيد والبساطة، ويتسم بمثل هذا التنسيق العجيب، مدهش جدا، وقد بينت لي من قبل ماهية الحركات الرياضية الرائعة التي تستطيع (هذه الديدان) أداءها.
وثالثا، أرسل إلي الدكتور رو كتابا نشره للتو: «صراع الأجزاء»، إلخ، 1881 (يشتمل على 240 صفحة).
من الواضح أنه متخصص واسع الاطلاع في علم وظائف الأعضاء وعلم الأمراض، وخبير جيد في التشريح، بناء على منصبه. الكتاب مليء بالتسويغ المنطقي، وهذا صعب جدا علي بالألمانية؛ لذا أكتفي بإلقاء نظرة سريعة على كل صفحة، مع قراءة بعض الفقرات المتفرقة هنا وهناك بمزيد من الاهتمام. من وجهة نظري القاصرة، هو أهم كتاب ظهر عن التطور منذ فترة. أعتقد أن جي إتش لويس ألمح إلى الفكرة الأساسية نفسها؛ ألا وهي أن كل كائن حي يدور بداخله صراع بين الجزيئات العضوية والخلايا والأعضاء. وأظن أنه يستند في ذلك إلى أن كل خلية تؤدي وظيفتها على النحو الأفضل تحصل، بالتبعية، على أفضل تغذية، وتكون هي الأفضل في جعل نوعها يتكاثر. صحيح أن الكتاب لا يتطرق إلى ظواهر عقلية، لكنه يتضمن الكثير من النقاش عن موضوع الأجزاء الأثرية أو الضامرة، الذي توليت دراسته سابقا. والآن، إذا كنت تود قراءة هذا الكتاب، فسأرسله ... أما إذا كنت قد قرأته بالفعل، وبهرت به (لكني قد أكون مخطئا «تماما» في رأيي بشأن قيمته)، فستقدم خدمة عامة إذا حللته وانتقدته في دورية «نيتشر».
أظن أن الدكتور رو يرتكب هفوة جسيمة بعدم تناوله للنباتات مطلقا؛ إذ إنها ستبسط له المسألة.
رابعا، لا أدري ما إذا كنت ستناقش في كتابك عن عقل الحيوانات أيا من الغرائز الأشد تعقيدا وإثارة للدهشة. إنه عمل غير مرض؛ بسبب استحالة وجود غرائز متحفرة، والخيط الإرشادي الوحيد هو حالتها لدى أفراد آخرين من المرتبة نفسها، و«الاحتمال» فقط.
بالرغم من ذلك، إذا ناقشت أيا منها (وربما يكون هذا متوقعا منك)، فأظن أنك لا تستطيع اختيار حالة أفضل من حالة زنابير الرمل، التي تشل فريستها، كما وصفها فابر سابقا، في ورقته البحثية الرائعة في دورية «أنالز أوف ساينسز»، وكما عرضت بعدئذ بمزيد من التفصيل والإسهاب في كتابه الرائع «تذكارات».
بينما كنت أقرأ هذا الكتاب الأخير، تكهنت قليلا بخصوص هذا الموضوع. كثيرا ما يتحدث البعض بهراء صادم عن معرفة زنبور الرمل بالتشريح. فهل سيقول أي أحد إن أهالي الجاوتشو في سهول «لا بلاتا» يتمتعون بمثل هذه المعرفة، مع أنني رأيتهم مرارا يثقبون النخاع الشوكي لبقرة واقعة على الأرض تصارع للإفلات من أنشوطتها بمهارة لا تعرف الخطأ، ولا يستطيع محاكاتها أي عالم متخصص في التشريح. لقد كان السكين المدبب يدفع ببراعة لا يشوبها أي خطأ بين فقرات البقرة دفعة طفيفة واحدة. أظن أن هذه المهارة قد اكتشفت بالمصادفة، وأن كل فرد من صغار الجاوتشو يرى بالضبط طريقة ممارسة الآخرين لهذه المهارة، ثم يكتسبها بالقليل جدا من التمرن عليها. الآن، أفترض أن زنابير الرمل في البداية قد قتلت فريستها بالاكتفاء بلدغها في عدة مواضع
32
على الجانب الأسفل والألين من الجسم، وأنها اكتشفت أن لدغ جزء معين أنجح كثيرا من لدغ الأجزاء الأخرى، ثم ورث هذا الاكتشاف كما ورثت نزوع كلب البولدوج إلى تثبيت الثور من أنفه، أو نزوع النمس إلى عض المخيخ. وهكذا لن تكون خطوة صعبة في مسار التطور أن تخز العقدة العصبية لدى فريستها وخزة طفيفة، وتقدم بذلك ليرقاتها لحوما طازجة بدلا من اللحوم القديمة الجافة. ومع أن فابر يصر بكل قوة على أن طابع الغريزة لا يتغير، يوضح الكتاب وجود بعض القابلية للتغير، كما في الصفحتين 176 و177.
أخشى أن أتعبك تعبا شديدا بثرثرتي وخط يدي السيئ.
لك بالغ إخلاصي يا عزيزي رومينز
سي داروين
ملحوظة سفلية ملحقة بخطاب إلى البروفيسور إيه أجاسي، بتاريخ 5 مايو 1881:
قرأت ببالغ الاهتمام خطابك الذي ألقي أمام الجمعية الأمريكية. مهما كانت صحة تعليقاتك على سلاسل أنساب المجموعات المتعددة، آمل أن تكون مبالغا في تقدير شدة الصعوبات التي ستواجه في المستقبل، وأعتقد ذلك بالفعل، بعدما قرأت خطابك ببضعة أيام، فسرت لنفسي تعليقاتك على نقطة معينة (وآمل أن يكون تفسيري صحيحا بعض الشيء) بالطريقة التالية:
أي سمة من سمات شكل قديم أو عام أو وسيط قد تظهر من جديد في أحفاده بعد عدد لا يحصى من الأجيال، وهذا ما يحدث غالبا؛ مما يشرح علاقات القرابة المعقدة للغاية بين المجموعات الحالية. وأرى أن هذه الفكرة تلقي بكم هائل من الضوء على الخطوط، التي أحيانا ما تستخدم لتمثيل علاقات القرابة، والتي تتشعب في كل الاتجاهات، وصولا في كثير من الأحيان إلى مجموعات فرعية متباعدة جدا، وتلك مشكلة مستعصية تستحوذ على تفكيري منذ قرن من الزمان. ربما يمكن، بعد فترات زمنية هائلة، إقامة حجة قوية تؤيد تصديق حدوث ارتداد كهذا. ليت هذه الفكرة قد وردت على ذهني في الماضي؛ لأنني لن أكتب مجددا أبدا في موضوعات شائكة؛ وذلك لأنني شهدت حالات كثيرة جدا قد أصيب فيها رجال مسنون بوهن في عقولهم، دون أن يشعروا بذلك إطلاقا. إذا كان تفسيري لأفكارك صحيحا على الإطلاق، فأرجو منك أن تعيد عرض حجتك مرة أخرى، وقتما تجد فرصة مناسبة. لقد ذكرت ذلك لبضعة أشخاص من أصحاب الحكم السديد، وبدا جديدا تماما عليهم. أستميحك عذرا على ثرثرة المسنين المعروفة.
سي دي [يشير الخطاب التالي إلى الخطبة المتعلقة بالجغرافيا التي ألقاها السير جيه دي هوكر في اجتماع الجمعية البريطانية في يورك (عام 1881):]
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 6 أغسطس 1881
عزيزي هوكر
من أجل الرب لا تقل أبدا إنك تصيبني بالملل؛ لأنني سأسعد للغاية بتقديم أدنى مساعدة لك، وقد أثار خطابك بالغ اهتمامي. سأتناول نقاطك تباعا، لكني لم أهتم كثيرا قط بتاريخ أي موضوع، وصارت ذاكرتي ضعيفة للغاية. لذا إذا وجدت أيا من تعليقاتي مفيدا ، فستكون هذه محض مصادفة.
أرى أن فكرتك، المتمثلة في توضيح ما فعله المسافرون، ذكية وسديدة، لا سيما بالنظر إلى جمهورك. (1)
لا أعرف شيئا عن أعمال تورنفور. (2)
أعتقد أنك محق تماما في وصف هومبولت بأنه أعظم رحالة علمي عاش على الإطلاق؛ فقد أعدت مؤخرا قراءة مجلدين أو ثلاثة. صحيح أن المحتوى الجيولوجي الذي يعرضه هراء مضحك، لكن هذا لا يعني سوى أنه لم يكن سابقا عصره. يمكنني القول إنه كان رائعا، ولا يعود ذلك إلى أصالة أفكاره بقدر ما هو يعود إلى اقترابه الشديد من بلوغ المعرفة بكل شيء. وسواء أكانت مكانته العلمية بارزة كما نظن أم لا، يمكنك القول بكل صدق إنه أبو ذرية عظيمة من العلماء الرحالة، الذين قدموا، مجتمعين، الكثير للعلم. (3)
أرى أنه من المنصف تماما إعطاء لايل (ومن ثم فوربس) مكانة بارزة جدا. (4)
أعتقد أن دانا كان أول من ادعى ثبات القارات والمحيطات الكبرى ... عندما قرأت استنتاج بعثة «تشالنجر» أن الرواسب المترسبة من الأرض لا تترسب على بعد يتجاوز 200 إلى 300 ميل من الأرض، ازدادت قناعتي القديمة رسوخا. أرى أن والاس حاجج عن القضية على نحو ممتاز. ومع ذلك، لو كنت مكانك لتحدثت بشيء من الحذر؛ لأن تي ميلارد ريد عارض هذا الرأي بحجج قوية بعض الشيء، لكني لا أستطيع تذكر حججه. إذا كنت مضطرا إلى الإدلاء بحكم، فسأتمسك بالرأي القائل بوجود ثبات تقريبي منذ العصر الكمبري. (5)
الأهمية القصوى لحفريات نباتات القطب الشمالي بديهية. اغتنم فرصة التأوه تحسرا على جهل [نا] بنباتات طبقات الليجنيت في جزر كيرجلن، أو أي منطقة قطبية جنوبية أخرى. قد يجدي هذا نفعا. (6)
لا أستطيع تجنب الشعور بالتشكك حيال مسألة أن النباتات سافرت من الشمال «إلا في أثناء العصر الجيولوجي الثالث». ربما يكون ذلك صحيحا بالطبع، بل الأرجح أنها كانت تسافر بالفعل من أحد القطبين في أقدم عصر، خلال عصور ما قبل العصر الكمبري، لكني لا أرى هذه التكهنات علمية إطلاقا، بالنظر إلى مدى ضآلة ما نعرفه عن النباتات القديمة.
سأدون الآن بضعة تعليقات متنوعة بسرعة دون أي ترتيب.
أرى أنك ينبغي أن تشير إلى كتاب ألفونس دي كوندول العظيم؛ لأنني، وإن كان محتوى الكتاب قد تلاشى من ذهني (ككل شيء آخر تقريبا)، ما زلت أتذكر بوضوح شديد أنني كنت أراه عملا قيما جدا. على أي حال، ينبغي أن تشير إلى تقريره الممتاز عن تاريخ كل النباتات المزروعة.
كيف ستتمكن من الإشارة إلى عملك عن نيوزيلاندا وتييرا ديل فويجو؟ إذا لم تشر إليهما، فسيكون ذلك ظلما شائنا منك.
أرى أن كثرة النباتات الكاسيات البذور في الطبقات الطباشيرية بالولايات المتحدة (أعتقد أن عمر هذه الطبقات محدد بدرجة جيدة جدا من الوضوح) حقيقة مهمة للغاية، وكذلك علاقتها بالنباتات الحالية الموجودة في الولايات المتحدة من وجهة نظر فكرة التطور. ألم يعثر مؤخرا على بعض الأشكال الأسترالية المنقرضة في أستراليا؟ أم أنني حلمت بذلك؟
أؤكد مجددا أن الاكتشاف الذي عثر فيه مؤخرا على نباتات عند عمق منخفض بعض الشيء في طبقاتنا السيلورية مهم جدا.
أرى أنه لا شيء أكثر استثنائية في تاريخ المملكة النباتية من تطور النباتات الأعلى مرتبة الذي «يبدو» مفاجئا أو سريعا جدا. أحيانا ما كنت أتكهن وأقول لنفسي ألم تكن توجد قارة ما معزولة للغاية في مكان ما على مر عصور طويلة، ربما بالقرب من القطب الجنوبي.
لهذا أثار بالغ اهتمامي رأي عرضه علي سابورتا بالتفصيل، منذ بضع سنوات، في مخطوطة، وأتصور أنه نشره بعدئذ، مثلما حثثته؛ وكان مفاد هذا الرأي أنه حالما تطورت الحشرات التي ترتاد الزهور، إبان الجزء الثاني من الحقبة الجيولوجية الثانية، شهد تطور النباتات الأعلى مرتبة زيادة ضخمة بفضل تشكل التلقيح المتبادل فجأة بهذه الطريقة.
بهرت جدا منذ بضع سنوات بمقالة لأكسل بليت يبين فيها، استنادا إلى عمليات الرصد والملاحظة، على الطبقات التي تحوي نبات الخث في شبه الجزيرة الاسكندنافية، أن الماضي شهد وجود فترات طويلة أغزر أمطارا وأخرى أقل أمطارا (ربما يكون ذلك مرتبطا بالفترات الفلكية الدورية التي اقترحها كرول)، وأن هذه الفترات أسهمت إسهاما كبيرا في تحديد التوزيع الحالي لنباتات النرويج والسويد. لقد بدا لي أن هذه المقالة مهمة للغاية.
انتهيت للتو من مراجعة تعليقاتي، وأخشى ألا تفيدك إطلاقا.
لا يسعني إلا أن أرى أنك قد اجتزت الجزء الأصعب من عملك، أو الجزء الأشد مشقة على الأقل، بإعدادك ملخصا جيدا وباهرا لما تعتزم قوله، لكني أستطيع أن أتفهم تماما كيف تتأوه بالتأكيد من الجهد المضني الضروري الهائل.
أشاطرك السعادة البالغة من صميم قلبي بنجاح ابنيك بي وآر؛ فمع مرور السنين، يصبح ما يحدث للمرء نفسه ذا أهمية ضئيلة جدا، مقارنة بما يحققه أبناؤه.
ابق متفائلا؛ لأنني مقتنع بأنك ستلقي خطبة ممتازة.
لك خالص مودتي
تشارلز داروين [«في سبتمبر، أرسل خطابا قال فيه:
أتممت للتو قراءة خطبتك وهي رائعة جدا، لكنها أقصر مما ينبغي. لا أشك مثقال ذرة في أنها ستحظى بتقدير تام من علماء الجغرافيا في يورك، وإلا فهم حمقى وبلهاء.»]
من تشارلز داروين إلى جون لوبوك
مساء الأحد [1881]
عزيزي لوبوك
جعلتني خطبتك
33
أفكر مليا في الخطوات العظيمة التي اتخذت في الجيولوجيا خلال السنوات الخمسين الأخيرة، وما من ضرر في أن أخبرك بانطباعي. لكن من الغريب جدا أنني لا أستطيع تذكر ما قلته عن الجيولوجيا. أظن أن تصنيف التكوينات الجيولوجية الكمبرية والسيلورية يجب أن يعتبر الخطوة الكبرى أو الأهم؛ لأنني أتذكر جيدا عندما كانت هذه الصخور الأقدم كلها تسمى بالجرواق، ولم يتخيل أحد أنها ستصنف، والآن صار لدينا ثلاثة تكوينات جيولوجية تنتمي إلى عصر اللاحياة مصنفة جيدا جدا أسفل التصنيف الكمبري! لكن الخطوة الأكثر إبهارا كانت اكتشاف العصر الجليدي، إنك أصغر سنا من أن تتذكر التأثير الهائل الذي أحدثه ذلك في العقول كلها في عام 1840 (؟) تقريبا. لم يؤمن به إيلي دي بومون قط حتى وفاته! وقد قادت دراسة الرواسب الجليدية إلى دراسة الترسبات المجروفة السطحية، التي «لم تدرس قط» قبل ذلك، وكانت تسمى «الرواسب الفيضية»، كما أتذكر جيدا. ثم إن دراسة عينات الصخور المقطعية تحت الميكروسكوب خطوة أخرى لا يستهان بها. هذا بالإضافة إلى فهم تشقق الصخور المتحولة وتورقها . لكني لن أطيل عن هذا القدر؛ لأن بالي قد ارتاح الآن. أرجو ألا تضيع ولو دقيقة واحدة في التعبير عن شكرك لي على ثرثرتي البشعة.
لك إخلاصي الدائم
سي داروين [المقتطفات التالية التي تشير إلى الراحل فرانسيس ميتلاند بلفور
34
تبين تقدير والدي لعمله وسماته الفكرية، لكنها لا تعطي سوى محض تلميح عن تقديره القوي لطباع بلفور الشخصية المحبوبة جدا:
من خطاب إلى فريتز مولر، بتاريخ 5 يناير 1882: «غمرني تقديرك لكتاب بلفور [«علم الأجنة المقارن»] بسعادة بالغة؛ لأنني، وإن لم أستطع أن أحكم عليه حكما سليما، أراه واحدا من أجدر الكتب التي نشرت منذ فترة طويلة بالاهتمام. ما زال شابا جدا، وإذا حافظ على صحته، فسينجز عملا رائعا ... لديه ثروة كبيرة بعض الشيء ملكه شخصيا؛ لذا يستطيع أن يكرس وقته كله لعلم الأحياء. إنه متواضع جدا وودود جدا، وكثيرا ما يزورنا هنا، ونحبه كثيرا.»
من خطاب إلى الدكتور دورن، 13 فبراير 1882: «عندي خبر سيئ جدا أريد إخبارك به، وهو أن إف بلفور مريض جدا في كامبريدج بحمى التيفود ... آمل ألا تكون حالته خطرة جدا، لكن الحمى شديدة. يا رباه، ما أشد الخسارة التي سيتكبدها العلم وأصدقاؤه المحبون الكثيرون بفقدانه!»]
من تشارلز داروين إلى تي إتش هكسلي
داون، 12 يناير 1882
عزيزي هكسلي
أشكرك شكرا جزيلا جدا على دورية «ساينس آند كالتشر»، وأنا متيقن من أنني سأقرأ معظم المقالات باهتمام بالغ. بخصوص فرضية آلية الحيوانات،
35
أتمنى أن تراجع نفسك بالطريقة القاطعة القديمة، والمنسية بالطبع، وعندئذ ستجيب على نفسك هنا إجابات قاطعة بالقدر نفسه، وهكذا، أقسم أنك قد تمضي قدما بلا توقف، مالئا الدنيا بالبهجة والعلم.
لك بالغ إخلاصي الأبدي
تشارلز داروين [يشير الخطاب التالي إلى ترجمة الدكتور أوجل لكتاب أرسطو «عن أعضاء الحيوانات» (1882):]
من تشارلز داروين إلى دبليو أوجل
داون، 22 فبراير 1882
عزيزي أوجل
اسمح لي بأن أشكرك على البهجة التي منحني إياها تقديمك لكتاب أرسطو. نادرا ما قرأت أي شيء أكثر إثارة لاهتمامي، مع أنني لم أقرأ منه قراءة تامة وافية إلا ربعه.
بناء على الاقتباسات التي رأيتها من قبل، كنت أكن تقديرا كبيرا لجدارة أرسطو، لكني لم أتخيل إطلاقا كم هو رجل رائع. صحيح أن لينيوس وكوفييه هما إلهي، وإن كانا كذلك بطرق مختلفة، لكنهما تلميذان فحسب بالنسبة إلى أرسطو القديم. ما أغرب جهله أيضا ببعض النقاط، مثل تلك المتعلقة بالعضلات بصفتها وسيلة الحركة. أنا سعيد لأنك شرحت، بطريقة وافية جدا، بعضا من أفدح الأخطاء المنسوبة إليه. لم أكن أدرك قط، قبل قراءة كتابك، مقدار الحصيلة الهائلة من المجهودات الشاقة التي ندين لها بأبسط ما نعرفه حتى. ليت أرسطو القديم يعرف أنه قد وجد فيك مدافعا مستميتا عن الدين.
لك أصدق تحياتي يا عزيزي أوجل، وبالغ إخلاصي
سي داروين [في فبراير، تلقى من السيد دبليو دي كريك خطابا وعينة وضحا له بالمثال نمطا غريبا من أنماط انتشار ذوات المصراعين؛ ألا وهو نمط انتشارها بإغلاق صدفتيها لتمسك بساق إحدى خنافس الماء بإحكام. كان يجد في هذه الفئة من فئات الحقائق سحرا خاصا، وأرسل خطابا إلى دورية «نيتشر»، واصفا فيه الحالة.
36
وفي أبريل تلقى خطابا من الدكتور دبليو فان دايك، المحاضر المتخصص في علم الحيوان في كلية بيروت البروتستانتية. وأظهر الخطاب أن كلاب شوارع بيروت سرعان ما هجنت بالكلاب الأوروبية المستقدمة، ولهذه الفئة من الحقائق علاقة شائقة بنظرية الانتقاء الجنسي التي وضعها والدي.]
من تشارلز داروين إلى دبليو تي فان دايك
داون، 3 أبريل 1882
سيدي العزيز
بعد الكثير من التفكير المتروي، ارتأيت أنه من الأفضل إرسال ورقتك البحثية الشائقة جدا إلى جمعية علم الحيوان، على أمل أن تنشر في مجلتهم. فهذه المجلة تذهب إلى كل مؤسسة علمية في العالم، وتلخص محتوياتها في كل الحوليات المتعلقة بعلم الحيوان. لذا أفضلها على دورية «نيتشر»، مع أن هذه الأخيرة أكثر رواجا، لكن تأثيرها سريع الزوال.
كتبت بضعة تعليقات عامة في مستهل مقالتك، وآمل ألا تعترض عليها.
بالطبع لست متيقنا من أن جمعية علم الحيوان، المولعة جدا بالعمل المنهجي فقط، ستنشر مقالتك. إذا نشرتها، سأرسل إليك نسخا من مقالتك، لكن هذه النسخ لن تكون جاهزة قبل بضعة أشهر. أما إذا لم تنشرها جمعية علم الحيوان، فسأحاول جاهدا أن أجعل دورية «نيتشر» تنشرها. فأنا حريص جدا على أن تنشر وتحفظ.
لك بالغ إخلاصي يا سيدي العزيز
سي داروين [قرئت الورقة البحثية في اجتماع لجمعية علم الحيوان في 18 أبريل - أي قبل وفاة والدي بيوم.
وبذلك فإن التعليقات الافتتاحية التي كتبت في مستهل ورقة الدكتور فان دايك البحثية هي آخر ما كتبه والدي.]
يجب الآن أن نعود إلى فترة مبكرة من حياته، ونقدم سردا متصلا لعمله المتعلق بعلم النبات، الذي لم يذكر إلى الآن.
هوامش
الفصل العاشر
تلقيح الأزهار
[في الخطابات التي عرضت سلفا، كان ضروريا أن نشير إلى علاقة عدد من مسائل علم النبات بمسألة التطور ككل. ويتبقى بذلك أن نشير إلى تفاصيل عمله في مجال علم النبات الذي أنجزه والدي مسترشدا بالضوء الذي ألقي على دراسة التاريخ الطبيعي بفضل عمله الشخصي المتعلق بفكرة التطور. ففي خطاب إلى السيد موراي، بتاريخ الرابع والعشرين من سبتمبر 1861، يقول متحدثا عن كتابه «تلقيح السحلبيات»: «ربما سيفيد في توضيح كيف يمكن دراسة التاريخ الطبيعي من منظور الإيمان بفكرة تغير الأنواع.» يشير هذا التعليق إلى قيمة عمله المتعلق بعلم النبات وإلى أهميته، وربما يمكن التعبير عنه بعبارات جازمة بدرجة أكبر دون الخوف من المبالغة.
ويقول في الخطاب نفسه إلى السيد موراي: «أظن أن هذا المجلد الصغير سيعود بالنفع على كتاب «أصل الأنواع»؛ لأنه سيبين أنني عملت بجد على التفاصيل.» صحيح أن عمله المتعلق بعلم النبات أضاف مجموعة هائلة من التفاصيل الداعمة إلى الحجة المؤيدة لفكرة التطور، لكن الدعم الرئيسي الذي حصلت عليه أفكاره من هذه الأبحاث كان من نوع مختلف. فقد شكلت هذه الأبحاث حجة ضد هؤلاء النقاد الذين شددوا تشديدا قاطعا بكل صراحة على عدم جدوى بعض البنى، وعلى ما يترتب على ذلك من استحالة أن تكون تطورت بالانتقاء الطبيعي . إن ملاحظاته التي أجراها على السحلبيات مكنته من أن يقول: «أستطيع أن أبين المغزى من وجود بعض النتوءات الطولية والقرون التي تبدو بلا مغزى، فمن سيجرؤ الآن على القول إن هذه البنية أو تلك عديمة الجدوى؟» وقد عبر عن نقطة مشابهة في خطاب إلى السير جيه دي هوكر (بتاريخ الرابع عشر من مايو 1862): «عندما تبدي أجزاء عديدة من البنية، كبنية نقار الخشب، تكيفا مختلفا مع الأجسام الخارجية، فمن غير المعقول أن نرجع أسباب وجودها إلى تأثيرات المناخ وما إلى ذلك، لكن عندما يكون الحديث عن جزء واحد فقط، كبذرة ذات خطافات، فمن الممكن منطقيا أن نقول إنه نشأ هكذا. لقد وجدت دراسة السحلبيات مفيدة جدا لأنها أوضحت لي كيف تتكيف كل أجزاء الزهرة تقريبا تكيفا مشتركا لتخضع للتلقيح بواسطة الحشرات، وكيف أنها بذلك تعد من نواتج الانتقاء الطبيعي، حتى أتفه تفاصيل البنية.»
من الخدمات الجليلة التي قدمها والدي لدراسة التاريخ الطبيعي إحياء مبدأ الغائية. فالمؤمن بنظرية التطور يدرس الغاية أو المغزى من وجود الأعضاء بنفس حماسة مبدأ «الغائية» الأقدم، لكن بغرض أوسع وأكثر اتساقا. فهو على دراية محفزة بأنه لا يكتسب مفاهيم معزولة عن اقتصاد الحاضر، بل يكتسب رأيا متسقا عن الماضي والحاضر. وحتى عندما يعجز عن اكتشاف جدوى أي جزء، يمكن، من خلال معرفته ببنيته، أن يفهم تاريخ التغيرات الماضية في حياة النوع صاحب هذا الجزء. وبذلك تتسم دراسة أشكال الكائنات المتعضية بالقوة والاتساق، بعدما كانت تفتقر إليهما. نوقشت هذه النقطة سلفا في فصل السيد هكسلي «حول استقبال كتاب «أصل الأنواع»»، ولا داعي إلى تناولها هنا. ومع ذلك، يهمنا أن ندرك أن الفضل في تحقق هذه «الخدمة الجليلة للتاريخ الطبيعي»، على حد وصف الدكتور جراي، يرجع تقريبا إلى عمله الخاص المتعلق بعلم النبات بقدر ما يرجع إلى كتاب «أصل الأنواع».
وللاطلاع على نطاق عمل والدي المتعلق بعلم النبات وتأثير هذا العمل، يمكنني الإشارة إلى مقالة السيد ثيسلتون داير في كتاب «تشارلز داروين»، الذي يعد أحد كتب سلسلة دورية «نيتشر ». فمعرفة السيد داير الواسعة وصداقته بأبي، وبالأخص قدرته على التعاطف مع عمل الآخرين، كلها عوامل تمتزج معا فتعطي هذه المقالة قيمة بارزة. وفي هذا الصدد، تعطي الفقرة التالية (الواردة في الصفحة 43) صورة حقيقية: «بغض النظر عن مقدار عمله المتعلق بعلم النبات، وتنوع هذا العمل، دائما ما كان السيد داروين ينكر أي أحقية له في أن يعتبر متمرسا في علم النبات. من المؤكد بلا أدنى شك أنه وجه اهتمامه إلى النباتات لأنها كائنات مناسبة لدراسة الظواهر العضوية في أقل أشكالها تعقيدا، وهذا المنظور الذي يتسم بشيء من تفكير الهواة، إذا كان للمرء أن يستخدم هذا المصطلح دون ازدراء، فهو بالغ الأهمية في حد ذاته. فلأنه لم يكن ملما بالمؤلفات المتعلقة بأي نقطة إلى أن يتولى دراستها، كان ذهنه يخلو تماما من أي رأي مسبق. ولذا لم يخف قط من حقائقه أو صياغة أي فرضية يبدو أنها تفسرها، مهما كانت صادمة ... ولو كان غيره من يتبع هذا السلوك؛ لنتج عنه الكثير من الأعمال المتسرعة غير الناضجة. لكن السيد داروين - إذا كان لي أن أتجرأ على استخدام مصطلحات لن يبدو فيها أي مبالغة لأي شخص ممن تحدثوا معه سابقا - يبدو أنه استطاع، بإقناع لطيف سلس، أن يخترق حصون هذه الطبيعة التي تحير الرجال الأقل منه شأنا. بعبارة أخرى، أعطته خبرته الطويلة نوعا من بصيرة غريزية جعلته يفهم طريقة معالجة أي مسألة بيولوجية، مهما كانت غير مألوفة له، بينما يتحكم بكل دقة في خصوبة عقله في التفسيرات الافتراضية من خلال الخصوبة الشديدة في التجارب المبتكرة ببراعة.»
ولتكوين أي فكرة صائبة عن عظمة الثورة التي أحدثتها أبحاث والدي في دراسة تلقيح الأزهار، من الضروري أن نعلم الظرف الذي نشأ منه هذا المجال المعرفي. فينبغي تذكر أن صحة تطبيق فكرة الجنس على النباتات لم تثبت ثبوتا راسخا على الإطلاق إلا في أولى سنوات القرن الحالي. وقد قدم زاكس في كتابه «تاريخ علم النبات» (1875)، بعض الأمثلة التوضيحية اللافتة على البطء الملحوظ الذي توسع به نطاق قبول هذه الفكرة. فهو يقول إننا عندما ننظر إلى الأدلة التجريبية التي قدمها كامراريوس (1694) وكولروتير (1761-1766)، لن نصدق أن ثمة شكوكا أثيرت بعد هذه الأدلة بشأن مسألة وجود نشاط جنسي لدى النباتات. غير أنه يوضح أن مثل هذه الشكوك ظهرت مرارا بالفعل. وقد استند معظم هذه الانتقادات المعارضة إلى تجارب غير متقنة، لكنها بنيت في حالات عديدة على حجج مسبقة. وحتى في وقت قريب كعام 1820، نشرت مجلة معنية بعلم النبات تقريرا يتحدث بجدية عن كتاب من هذا النوع، والذي لن يجد له مكانا الآن إلا بين كتب فلسفة تربيع الدائرة أو تسطح الأرض.
لم يكن قد مر وقت طويل على بزوغ تصور واضح لوجود نشاط جنسي لدى النباتات من وسط ضباب المناقشات العقيمة والتجارب الضعيفة عندما بدأ والدي دراسة علم النبات بحضور محاضرات هنزلو في كامبريدج.
وعندما ترسخ الإيمان بوجود نشاط جنسي لدى النباتات وصار جزءا لا جدال فيه من المعرفة، تبقى قدر من التصورات الخاطئة أعاق أي رأي عقلاني بخصوص الموضوع. إذ كان كامراريوس
1
يعتقد أن الزهور الخنثى ملقحة ذاتيا بالضرورة (وهذا كان اعتقادا طبيعيا في عصره). بالرغم من ذلك فكان يتمتع من الذكاء ما يكفي لأن يجعله مشدوها من ذلك، ولم يصل إلى هذا القدر من الذكاء، كما يقول زاكس، معظم من جاءوا بعده.
تظهر المقتطفات التالية من أحد الدفاتر أن هذه النقطة خطرت ببال والدي في وقت مبكر جدا يصل إلى عام 1837: «ألا تتعرض النباتات التي لديها أعضاء ذكرية وأنثوية معا [أي في الزهرة نفسها]، بالرغم من ذلك، لتأثير من نباتات أخرى؟ ألا يقدم لايل حجة ما عن صعوبة أن تظل الضروب [حقيقية] بسبب حبوب اللقاح التي تتلقاها من نباتات أخرى؟ لأن ذلك قد يستخدم لإظهار أن كل النباتات تتعرض لتأثير من نباتات أخرى.»
وبالفعل فهم سبرينجل
2
أن البنية الخنثى لا تؤدي بالضرورة إطلاقا إلى التلقيح الذاتي. لكنه وإن اكتشف أن حبوب اللقاح في العديد من الحالات تنقل بالضرورة إلى ميسم «زهرة» أخرى، لم يفهم أن مفتاح المسألة برمتها يكمن في الأفضلية المكتسبة من التلقيح المتبادل بين «نباتات» مختلفة. وقد أحسن هيرمان مولر القول عندما ذكر أن هذه «الهفوة كانت مدمرة لأعمال سبرينجل طوال أجيال عديدة ... وذلك لأن علماء النباتات، حينها وبعدئذ، شعروا بعيوب نظريته شعورا طغى على إحساسهم بسماتها الأخرى، ونحوا جانبا، مع أفكاره المعيبة، مخزونه الثري من ملاحظاته الصبورة الثاقبة وتفسيراته الشاملة الدقيقة». وتبقى لوالدي أن يقنع العالم بأن المغزى المستتر في بنية الأزهار يمكن إيجاده بالبحث عن النور في نفس الاتجاه الذي عمل فيه سبرينجل جاهدا قبل سبعين عاما. كان روبرت براون هو حلقة الوصل بينهما؛ فبالرغم من أن الدكتور جراي
3
يرى أن براون - والعالم كله - كان يدرك روعة أفكار سبرينجل، فإن توصيته هي التي جعلت والدي يقرأ، في عام 1841، كتاب سبرينجل «اكتشاف سر الطبيعة»
4
الذي صار يحظى الآن بالاحتفاء الشديد. فقد ارتأى أنه كتاب «مليء بالحقيقة» وإن كان «يحوي قليلا من الهراء». لم يشجعه الكتاب في تكهناته المشابهة فقط، بل أرشده في عمله كذلك؛ لأنه تحدث في عام 1844 عن إثبات صحة ملاحظات سبرينجل. وربما يمكن للمرء أن يظن أن روبرت داون لم يغرس في حياته بذرة أجمل من وضع كتاب كهذا في أياد كهذه.
وتبين إحدى الفقرات الواردة في فصل «سيرة ذاتية» (الجزء الأول من هذا الكتاب) كيف جذب والدي إلى موضوع التلقيح: «في صيف عام 1839، إضافة إلى الصيف السابق عليه، على ما أعتقد، دفعتني الرغبة إلى دراسة التلقيح المتبادل أو الخلطي للزهور عن طريق الحشرات؛ إذ إنني كنت قد توصلت إلى نتيجة من تأملاتي في موضوع أصل الأنواع مفادها أن التبادل قد أدى دورا مهما في الإبقاء على أشكال معينة ثابتة كما هي.»
تعد الصلة الأصلية بين دراسة الأزهار ومسألة التطور غريبة، ولا يمكن التنبؤ بها إطلاقا. وفوق ذلك، فهي لم تكن صلة دائمة. فحالما نشأت فكرة أن الذرية الناتجة من التلقيح المتبادل من المحتمل، في صراعها من أجل الحياة، أن تتغلب على الشتلات الناتجة من التلقيح الذاتي للأصل الأبوي، يتشكل إيمان أقوى بكثير بقوة تأثير الانتقاء الطبيعي في تشكيل بنية الأزهار. ومن ثم، توجد فكرة مركزية يمكن توجيه التجارب وعمليات الملاحظة نحوها .
وقد أحسن الدكتور جراي التعليق على هذه الفكرة المركزية (دورية «نيتشر»، 4 يونيو، 1874)، قائلا: «إن الفكرة القائلة بأن «الطبيعة تكره الفراغ» مثال مميز لعلم العصور الوسطى. أما الفكرة القائلة بأن «الطبيعة تكره التلقيح الذاتي» وإثبات هذا المبدأ، فهما ينتميان إلى عصرنا وإلى السيد داروين. وعندما نقول عن رجل واحد إنه ابتكر هذا المبدأ وكذلك مبدأ الانتقاء الطبيعي ... وطبق هذين المبدأين على منظومة الطبيعة بطريقة خلفت على التاريخ الطبيعي، في غضون اثني عشر عاما، تأثيرا أعمق مما خلفه أي شيء آخر منذ لينيوس، يكون ذلك سببا كافيا جدا لعلو مكانته.»
جذبت أزهار الفصيلة البقولية اهتمامه مبكرا، وكان موضوع ورقته البحثية الأولى عن التلقيح.
5
ويبدو أن الفقرة التالية المقتطفة من خطاب غير مؤرخ إلى الدكتور آسا جراي قد كتبت قبل نشر ورقته البحثية هذه، ربما في 1856 أو 1857 على الأرجح: «... ما تقوله عن أزهار الفصيلة البقولية صحيح جدا، وليست لدي حقائق لأبين بها أن الضروب لقحت تلقيحا متبادلا، لكني مع ذلك (والكلام نفسه ينطبق على نحو جميل على أزهار الفوماريا والدايلترا، كما لاحظت قبل سنوات عديدة) لا بد أن أعتقد أن بنية الأزهار مصممة جزئيا لتتوافق مع زيارات الحشرات إليها، ولا يمكنني فهم الكيفية التي تستطيع بها الحشرات تجنب إحضار حبوب اللقاح من أزهار أخرى. من الجميل حقا أن يشاهد المرء تأثير نحلة طنانة على الفاصولياء القرمزية، وفي هذا الجنس (وفي نوع الجلبان كبير الزهر أيضا)، يكون العسل مستقرا تماما في موضع واحد إلى حد أن النحلة دائما ما تهبط على هذا الجانب «نفسه» من الزهرة الذي تبرز نحوه المدقة الحلزونية (جالبة معها حبوب اللقاح)، وتدفع، بفعل انخفاض البتلة الجناحية، إلى ملامسة جانب النحلة المغبر كله بحبوب اللقاح.
6
أما في أزهار نبات الوزال، فتفرك المدقة على وسط ظهر النحلة. أظن أن ثمة شيئا ما يمكن فهمه بخصوص الفصيلة البقولية سيجعل «نظريتنا» تنطبق على الحالة، لكنني أخفقت في تحقيق ذلك. ستشرح نظريتنا السبب في أن فعل التلقيح أو التخصيب عادة ما يحدث في المملكة النباتية والحيوانية، في الهواء الطلق، حتى في الخناثى، مع أنه يكون معرضا بذلك لضرر «جسيم» من الرطوبة والمطر. ففي الحيوانات التي لا يمكن أن [تخصب] بواسطة الحشرات أو الرياح، «لا توجد حالة» تكون فيها الحيوانات «الأرضية» خنثى دون التقاء الفردين.»
ويعرض خطاب إلى الدكتور آسا جراي (بتاريخ 5 سبتمبر 1857) مادة الورقة البحثية المنشورة في دورية «ذا جاردنرز كرونيكل»: «دفعتني الرغبة مؤخرا إلى فحص بعض براعم الفاصولياء القرمزية وحبوب اللقاح المتساقطة من المتك، لكني هديت إلى اعتقاد أن حبوب اللقاح «لا» يمكن أن تصل إلى الميسم بواسطة الرياح أو غيرها، إلا بواسطة النحل الذي يزور [الزهرة] ويحرك البتلات الجناحية؛ لذا وضعت حزمة صغيرة من الأزهار في زجاجتين وأوليتهما العناية نفسها بالضبط، وكنت أعكف يوميا على تحريك الأزهار في إحدى الزجاجتين حركة لحظية كأن نحلة هي التي حركتها؛ وهكذا أنتجت هذه الأزهار ثلاثة قرون جميلة، أما الأزهار في الزجاجة الأخرى، فلم تنتج «ولو قرنا واحدا». لا بد بالطبع من تكرار هذه التجربة البسيطة، وقد فات أوان ذلك في إنجلترا العام الحالي؛ لأن الأزهار نادرا ما تنتج الآن أي بذور على ما يبدو. إذا كان النحل ضروريا لتلقيح هذه الزهرة تلقيحا ذاتيا، فلا بد أن النحل يكاد يلقحها تلقيحا متبادلا؛ لأن الجوانب اليمنى المغبرة من رءوسه وسيقانه اليمنى تلمس الميسم باستمرار.
أعكف أيضا مؤخرا على إعادة ملاحظة أزهار اللوبيليا الكاردينالية يوميا؛ إن تلك الموجودة في حديقتي لا تزورها الحشرات أبدا، ولا تنتج بذورا أبدا، دون أن توضع حبوب اللقاح على الميسم (في حين أن أزهار اللوبيليا الزرقاء الصغيرة يزورها النحل ولا تنتج بذورا)؛ أقول ذلك بسبب وجود وسائل جميلة لمنع الميسم من الحصول على حبوب لقاحه على الإطلاق، وهذا يبدو عصيا على التفسير إلا بالاستناد إلى فكرة أفضلية الهجائن.»
أكملت هذه الورقة البحثية بورقة ثانية في عام 1858.
7
ويبدو أن الغاية الرئيسية من هاتين الورقتين كانت الحصول على معلومات بشأن إمكانية نمو ضروب من نباتات الفصيلة البقولية بعضها بالقرب من بعض، وتظل حقيقية مع ذلك. من الغريب أن الفصيلة البقولية لم تكن فقط أولى الأزهار التي جذبت اهتمامه بتكيفها الواضح مع زيارات الحشرات، بل شكلت كذلك واحدا من أشد الألغاز إيلاما له. فأزهار البازلاء العادية والبازلاء الحلوة سببت له حيرة كبيرة لأن ضروبها تبقى حقيقية، حتى وإن بدا واضحا أنها متكيفة مع زيارات الحشرات كبقية أزهار هذه الرتبة. الحقيقة أن هذين النوعين من البازلاء لا يتكيفان تكيفا مثاليا مع التلقيح بواسطة الحشرات البريطانية؛ لأنهما ليسا من النباتات الأصلية للمكان. لم يستطع، في هذه المرحلة من ملاحظاته، أن يعرف أن التنسيق بين زهرة ما والحشرة التي تلقحها ربما يكون دقيقا وحساسا جدا كالتناسق بين قفل ومفتاحه؛ لذا كان من المستبعد أن يخطر ذلك التفسير بباله.
8
وإلى جانب انخراطه في ملاحظة أزهار الفصيلة البقولية، كان قد شرع بالفعل، كما اتضح في المقتطفات السابقة الذكر، في دراسة بنية أزهار أخرى من حيث علاقتها بالحشرات. ففي بداية عام 1860، عكف على دراسة أزهار الليتشينوليتا
Leschenaultia ،
9
التي حيرته في البداية، لكنه فهمها في نهاية المطاف. ويبدو أن إحدى الفقرات في خطاب متعلق أساسا بأزهار الليتشينوليتا توضح أنه لم يبدأ التوسع في تطبيق معرفته على علاقة الحشرات بأزهار أخرى إلا في ربيع عام 1860. ويعد ذلك مفاجئا بعض الشيء عندما نتذكر أنه كان قد قرأ كتابات سبرينجل قبل ذلك بسنوات عديدة. فقد قال في الخطاب (بتاريخ 14 مايو): «ينبغي أن أنظر إلى هذه الوسيلة المبتكرة الغريبة على أنها مرتبطة ارتباطا خاصا بزيارات الحشرات؛ لأنني بدأت أظن أن ذلك ينطبق في كل الحالات تقريبا.»
وحتى في يوليو 1862، قال في خطاب إلى الدكتور آسا جراي: «لا نهاية للتكيفات. ألا ينبغي أن تجعل هذه الحالات المرء حذرا جدا عندما يشكك في جدوى كل الأجزاء؟ أنا موقن تماما من أن بنية كل الأزهار غير المنتظمة محكومة وفقا للحشرات. فالحشرات هن حاكمات عالم النبات (على حد تعبير دورية «ذا أثنيام» البارعة الطريفة).»
من المرجح أن ما جذبه إلى دراسة السحلبيات أن العديد من أصنافها شائع بالقرب من داون. وتظهر خطابات عام 1860 أن هذه النباتات شغلت قدرا كبيرا من اهتمامه، وفي عام 1861، كرس جزءا من الصيف والخريف كله لهذا الموضوع. ومن الواضح أنه كان يعتبر نفسه عاطلا بسبب تضييع وقته على السحلبيات، معتبرا أن هذا الوقت كان من الأولى أن يخصص للكتاب الذي يتحدث عن التباين تحت تأثير التدجين. ولذا قال في أحد الخطابات: «صحيح أن عملية الملاحظة أشد إثارة لاهتمامي بكثير من الكتابة، لكني أشعر بأنني مذنب جدا لأنني اقتحمت هذه الموضوعات، ولم أظل ملتزما بدراسة ضروب الديوك والدجاج والبط اللعينة. سمعت أن لايل ينتقدني بشراسة. لن أقاوم زهرة الكتان الصيف المقبل أبدا.»
كان صيف عام 1860 هو الذي شهد فهمه واحدة من أبرز الحقائق اللافتة والمألوفة في الكتاب؛ ألا وهي الطريقة التي تهيأ بها كتل حبوب اللقاح في جنس السحلب (الأوركيس) لتنقلها الحشرات. وقال في خطاب إلى السير جيه دي هوكر بتاريخ 12 يوليو: «أعكف على تفحص حالة أزهار نوع السحلب الهرمي، وهي تكاد تضاهي حالة أزهار جنس الليسترا التي تدرسها، بل ربما تعد أفضل منها؛ فالغدد اللزجة اللاصقة تتحد معا بالفطرة، مكونة بذلك عضوا أشبه بالسرج له قدرة كبيرة على الحركة، ويقبض بإحكام على شعيرة منتصبة جامدة (أو خرطوم الحشرة) بطريقة باهرة، ثم تحدث حركة أخرى في كتل حبوب اللقاح تعد من أساليب التكيف الرائعة لترك حبوب اللقاح على سطحي الميسم «الجانبيين». لم أر في حياتي شيئا جميلا جدا كهذا.»
وفي يونيو من العام نفسه قال في خطاب آخر: «تقول إن التكيف نادرا ما يكون «ظاهرا»، وإن كان موجودا في النباتات. أعكف منذ فترة قصيرة على ملاحظة أزهار السحلب الشائع، وأؤكد أنني أظن أن تكيفاتها في كل جزء من الزهرة جميلة وواضحة جدا بقدر جمال تكيفات نقار الخشب ووضوحها، أو أجمل منها حتى. كتبت مقالة قصيرة وأرسلتها إلى دورية «ذا جاردنرز كرونيكل»،
10
عن صعوبة محيرة شائقة في أزهار السحلب النحلي، وأرغب بشدة في معرفة رأيك في تلك الحالة. تطرقت في هذه المقالة تطرقا عابرا إلى مسألة التكيف مع زيارات الحشرات، لكن الحيلة المستخدمة لإبقاء الغدد اللزجة ناضرة ولزجة أفضل من أي حيلة أخرى تقريبا في الطبيعة. لا أتذكر أنني رأيتها موصوفة قط، ولكن من المؤكد أنها وصفت من قبل، ولأنه ليس بوسعي أن أطرح هذه الملاحظة في كتابي على أنها من الملاحظات التي أجريتها بنفسي، فسأسعد جدا بمعرفة موضع وصف هذه الحيلة الجميلة.»
وأرسل خطابا إلى الدكتور جراي في 8 يونيو 1860، قائلا: «بمناسبة الحديث عن التكيف، أعكف مؤخرا على ملاحظة السحلبيات الشائعة لدينا، ويمكنني القول إن الحقائق قديمة ومعروفة جدا، لكني أعجبت جدا بحيلها المبتكرة الخاصة بالتلقيح إلى حد أنني أرسلت مقالة قصيرة إلى دورية «ذا جاردنرز كرونيكل». ذلك أن حالة أزهار السحلب النحلي تتسم، كما سترى، بتناقض شائق في البنية.»
وإلى جانب انخراط والدي في دراسة تلقيح الأزهار، كان منشغلا بالفعل، في عام 1860، بموضوع أوجه التشابه بين الأجزاء، الذي استفاد منه جيدا في كتابه عن السحلبيات. فقد قال في خطاب إلى السير جوزيف هوكر (في يوليو): «من المضحك جدا أن أناقش معك أوجه التشابه بين السحلبيات بعدما تفحصت ثلاثة أو أربعة أجناس فقط، وهذه الحقيقة نفسها تجعلني متيقنا من أنني على صواب! صحيح أنني لا أفهم بعض مصطلحاتك تماما، لكن لا بد أن أطلب منك شرح أوجه التشابه يوما ما؛ لأنني شديد الاهتمام بالموضوع وكأنه إحدى مباريات الشطرنج.»
كان هذا العمل قيما من وجهة نظر منهجية. فقال في خطاب إلى السيد بينثام في عام 1880: «كانت لفتة طيبة جدا منك أن ترسل إلي خطابا عن السحلبيات؛ لأنني سررت للغاية بأنك استفدت مني «أي» استفادة على الإطلاق فيما يتعلق بطبيعة الأجزاء.»
ويتجلى السرور الذي استمده من ملاحظاته المبكرة التي أجراها على السحلبيات في مقتطفات مثل هذه الفقرة التالية المقتبسة من خطاب إلى السير جيه دي هوكر (بتاريخ 27 يوليو 1861): «لا يمكنك أن تتصور مدى سعادتي البالغة بالسحلبيات. لقد وصلت سالمة، لكن العلبة تحطمت بعض الشيء؛ فعلب الكاكاو أو السعوط الأسطوانية القديمة آمنة بدرجة أكبر كثيرا. أرفق نفقات الإرسال مع هذا الخطاب. في معرض وصفي للحركة، سأشير إلى زهرة أظنها من جنس الأونسيديوم، ولكي «أتيقن»، فهل الزهرة المرفقة ذات البتلات المجعدة تنتمي إلى هذا الجنس؟ لدي أيضا رغبة شديدة في معرفة جنس الزهرة السحلبية البنية الكروية الصغيرة المرفقة. لم أر من أزهار جنس الكاتليا إلا بعض حبوب لقاحها على نحلة، لكنك بالطبع لم ترسل إلي أكثر ما أرغب فيه (بعد زهرة جنس البهية أو جنس المورمودز)، أقصد زهرة من قبيلة الإبيدندري
Epidendreæ
عن غير قصد، أليس كذلك؟! أرغب «بشدة» (وسأخبرك بالسبب قريبا) في ساق أخرى من سيقان هذه السحلبية الصغيرة، على أن تكون أزهارها أكبر سنا، بل بعضها شبه ذابل.»
ويتضح تلذذه بالملاحظة مجددا في خطاب إلى الدكتور جراي (1863). فقد كتب متحدثا عن خطابات كروجر من ترينداد: «إنه رجل سعيد الحظ؛ فلقد رأى بالفعل حشودا من النحل تطير حول أزهار جنس البهية، وكتلة حبوب اللقاح ملتصقة بظهورها!»
تلقي المقتطفات التالية من خطابات إلى السير جيه دي هوكر بمزيد من الضوء على الاهتمام الذي أثاره عمله في نفسه: «لقد أرسل إلي فيتش مجموعة عظيمة صباح اليوم. يا لها من بنى رائعة!
الآن قد رأيت قدرا كافيا، ويجب ألا ترسل إلي المزيد؛ لأنني، وإن كنت أستمتع «جدا» بملاحظتها واستفدت جدا من رؤية قدر هائل من الأشكال المختلفة، أرى ذلك خمولا وبطالة. ذلك أن تحقيق غايتي يتطلب دراسة كل نوع أياما عديدة. يا ليتك كنت تملك متسعا من الوقت لتتولى دراسة المجموعة! سأخصص وقتا كبيرا لمعرفة ماهية الخطم
rostellum ، الذي تتبعت الكثير جدا من الأشكال المعدلة الشائقة المنبثقة منه. أعتقد أنه لا يمكن أن يكون أحد المياسم،
11
إذ توجد، على ما يبدو، نزعة كبيرة إلى ظهور ميسمين جانبيين. مع أنني لم أتطرق سوى قليل في ورقتي البحثية إلى نقاط ثانوية، أخشى أن يصل طول مخطوطتها إلى 100 ورقة مزدوجة الصفحات! أرى أن جمال تكيف الأجزاء لا يضاهى. أظن، أو أخمن، أن حبوب اللقاح الشمعية كانت متمايزة جدا. وفي أزهار جنس خف السيدة التي يبدو أنها لم تخضع إلا للقليل من التعديلات وقد أبيدت إلى حد كبير، الحبيبات مفردة. أما في «أزهار كل الأجناس الأخرى»، بقدر ما رأيت، تكون حبوب اللقاح مجتمعة في أربع حزم، وتلتحم هذه الحزم معا مكونة في نباتات السحلب كتلا عديدة إسفينية الشكل تبدأ بثماني حبيبات، ثم أربع ثم اثنتين في النهاية. يبدو غريبا أن توجد زهرة لا تستطيع أن تلقح إلا زهرتين أخريين «على أقصى تقدير»، بالنظر إلى مدى وفرة حبوب اللقاح في العموم؛ أعتبر أن هذه الحقيقة تشرح كمال الوسيلة المبتكرة التي تنقل بها حبوب اللقاح، المهمة جدا بسبب قلة عددها، من زهرة إلى زهرة» (1861). «كنت أفكر في إرسال خطاب إليك اليوم، عندما جاءت رسالتك مع أزهار السحلبيات. يا له من عناء فظيع ذلك الذي تكبدته بخصوص زهور جنس الفانيلا؛ يجب بالفعل ألا تتكبد مزيدا من العناء ولو كان ذلك مثقال ذرة؛ لأن السحلبيات تعد تسلية بالنسبة إلي أكثر مما تعد عملا حقيقيا. أثارت أزهار جنس الإبيدندرم بالغ اهتمامي، وعملت عليها طوال الصباح؛ من أجل الرب، لا تفسدني بإرسال المزيد منها» (30 أغسطس 1861).
كان يعتزم في الأصل نشر ملاحظاته عن السحلبيات في صورة ورقة بحثية في دورية الجمعية اللينية، ولكن سرعان ما اتضح أن نشرها في صورة مجلد منفصل سيكون أنسب. فنجد أنه قال في خطاب إلى السير جيه دي هوكر، 24 سبتمبر 1861: «أخشى أن تظن أنني تصرفت بحماقة، وربما أكون قد تصرفت كذلك بالفعل. عندما أتممت قبل بضعة أيام كتابة ورقتي البحثية عن السحلبيات، التي وصل طولها في النهاية إلى 140 ورقة مزدوجة الصفحات! وفكرت في تكلفة الألواح الخشبية التي ستنقش عليها الرسومات التوضيحية، قلت لنفسي سأعرض على الجمعية اللينية أن تسحبها، وتنشرها في صورة كتيب. ثم خطر ببالي أن موراي ربما قد ينشره؛ لذا عرضت عليه الوضع بدقة، وعرضت عليه تقاسم الخسارة والأرباح. أرسل إلي خطابا صباح اليوم يقول فيه إنه سينشر، وسيتحمل هو كل المخاطر، وسيقاسمني الأرباح وسيدفع كل تكاليف الرسومات التوضيحية. إنها مخاطرة، والرب يعلم ما إذا كانت ستبوء بالفشل الذريع أم ستنجح، لكني لم أخدع موراي، وأخبرته بأن الكتيب لن يثير اهتمام أحد إلا أولئك الشغوفين بالتاريخ الطبيعي. آمل ألا أكون مبالغا في مقدار الاهتمام الذي أظن أن الوسائل الخاصة العديدة للتلقيح ستثيره.»
كتب الخطابين التاليين إلى السيد موراي بخصوص نشر الكتاب:]
داون، 21 سبتمبر [1861]
سيدي العزيز
هلا تتكرم بإعطائي رأيك، الذي سأتبعه اتباعا مطلقا. أتممت للتو كتابة ورقة بحثية طويلة جدا كنت أعتزم نشرها في دورية الجمعية اللينية (العنوان مرفق)، وخطر ببالي يوم أمس لأول مرة أنها «ربما» تستحق أن تنشر في مجلد منفصل، وأن هذا سيوفر علي العناء والتأخير. الحقائق جديدة، وقد جمعت على مر عشرين عاما، وأنا أراها شائقة. وعلى غرار أطروحة بريدجووتر، تتمثل الغاية الرئيسية من هذه الورقة في تبيان كمال الوسائل العديدة للتلقيح في السحلبيات. إن موضوع التكاثر مثير لاهتمام معظم الناس، وقد تناولته في ورقتي البحثية بطريقة تجعل أي شخص قادرا على قراءته. صحيح أن بعض الأجزاء علمي بحت ويسرد الحقائق برتابة، لكني أظن أن ورقتي البحثية ستثير اهتمام عدد كبير جدا من الأشخاص المهتمين بالتاريخ الطبيعي، دون غيرهم. ... سيكون كتابا صغيرا جدا، وأعتقد أنك تكره الكتب الصغيرة جدا. أنا نفسي أحمل شكوكا «كبيرة» بشأن الموضوع. وبالرغم من أنني مستعد جدا للموافقة على أنني أبالغ في تقدير الأمور، فأنا أرى الموضوع شائقا ومثيرا للاهتمام.
أتوسل إليك ألا تتأثر إطلاقا بأي رغبة في أن تجاملني، لكني أرجو أن تعطيني رأيك، من وجهة نظرك. إذا كنت سأنشر البحث في مجلد منفصل بالفعل، فسأقبل بأي شروط، كأن نتشاطر مخاطر الخسارة ونتشاطر الأرباح، لكني لن أنشره متحملا المخاطر وحدي؛ لأنني، كي أكون صريحا، أخبرت بأنه لا يوجد أي ناشر يهتم بنجاح كتاب في مثل هذه الظروف.
من تشارلز داروين إلى جيه موراي
داون، 24 سبتمبر [1861]
سيدي العزيز
أنا في غاية الامتنان لرسالتك وعرضك السخي جدا. كانت لدي بعض المخاوف وهواجس تأنيب الضمير. كل ما أنا متيقن منه أن المخطوطة تتضمن العديد من الحقائق الجديدة والشائقة، وأنا متيقن من أن المقالة كانت ستثير اهتمامي، وستثير اهتمام أولئك الشغوفين بعجائب الطبيعة، لكني لا أعرف إطلاقا إلى أي مدى سيهتم عامة الناس العاديين بمثل هذه التفاصيل الدقيقة. هذه تجربة جريئة، لكنها لا يمكن أن تسفر عن خسارة فادحة حتى في أسوأ الأحوال؛ لأنني أظن أنه سيحقق بعض المبيعات بالتأكيد. غير أن تحقيق مبيعات كبيرة محال بالتأكيد. فحسبما أجد، إن النقاط التي تثير اهتمامي عادة ما تثير اهتمام آخرين، لكني أخوض التجربة خائفا ومرتجفا، ليس من أجلي، بل من أجلك ... [في الثامن والعشرين من سبتمبر أرسل خطابا إلى السير جيه دي هوكر قائلا: «يا لك من رجل نبيل لأنك لم تسخر مني، بل أشدت بي! يراودني شك شديد في أن نشر ورقتي البحثية لن يكون تصرفا مثيرا للسخرية. سأنزعج جدا إذا باء النشر بفشل ذريع، وذلك من أجل موراي فقط.»
كان لا يزال متبقيا الكثير من العمل الذي ينبغي إنجازه، وكان في شهر أكتوبر لا يزال يتلقى السحلبيات من كيو، وأرسل خطابا إلى هوكر قال فيه: «مستحيل أن أشكرك شكرا كافيا. كدت أن أجن من كثرة السحلبيات.» وقال أيضا: «أرسل إلي السيد فيتش، في لفتة كريمة للغاية، برعمين رائعين من براعم جنس المورمودز، سيكونان ممتازين للتشريح، لكني أخشى ألا يكونا سريعي الاستثارة أبدا؛ لذا أتوسل إليك، من أجل الإحسان وحب الرب، أن تلاحظ ما يحدث من حركة في أزهار جنس السيكنوتشس، وأي الأجزاء يجب أن يلمس. كما أرسل إلي السيد فيتش زهرة رائعة من جنس البهية، أروع زهرة سحلبية رأيتها.»
وفي الثالث عشر من أكتوبر، أرسل خطابا إلى السير جوزيف هوكر، قائلا: «يبدو أنني لا أستطيع استنفاد طبيعتك النبيلة. لقد قضيت يوما شاقا للغاية في العمل على دراسة زهرة جنس البهية وبراعم جنس السيكنوتشس، وأعتقد أنني صرت أفهم أخيرا آلية الحركات والوظائف. تعد أزهار جنس البهية حالة جميلة من حالات حدوث تعديل طفيف في البنية يؤدي إلى وظائف جديدة. ما من موضوع قد أثار اهتمامي طوال حياتي كلها أكثر مما أثاره موضوع السحلبيات. أدين لك بالكثير.»
وأرسل خطابا آخر إلى الصديق نفسه مجددا، بتاريخ 1 نوفمبر 1861، قال فيه: «إذا كنت تستطيع حقا أن توفر لي زهرة أخرى من جنس البهية وقتما تكون مستعدا، فسأكون في غاية الامتنان؛ أليس من الأفضل أن أرسل في طلبها؟ الحالة رائعة حقا، من المؤكد أن (ما يسمى) الإحساس أو الاستثارة من لمسة خفيفة ينتقل عبر قرون الاستشعار مسافة تتجاوز بوصة كاملة «فورا» ... ثمة حشرة لعينة، أو ما شابه، استثارت زهرتي الأخيرة، فأطلقت حبوب لقاحها الليلة الماضية.»
قال البروفيسور دي كوندول عن والدي:
12 «لم يكن بالشخص الذي سيطلب تشييد قصور لإيواء المختبرات.» كان ذلك قولا حقيقيا جدا عن عمله المتعلق بالسحلبيات، أو بالأحرى سيكون أقرب إلى الحقيقة أن نقول إنه لم يكن لديه مختبر؛ لأنه لم يشيد لنفسه صوبة زراعية إلا بعد نشر كتاب «تلقيح السحلبيات». فقد قال في خطاب إلى السير جيه دي هوكر (بتاريخ 24 ديسمبر 1862): «والآن سأخبرك بخبر مهم «جدا»! لقد استقر رأيي على بناء صوبة زراعية صغيرة؛ لقد اقترح هذه الفكرة البستاني الممتاز الذي يعمل لدى جاري، وعرض علي أن يعد لي خططا، وأن يضمن بناءها بإتقان، وهو رجل ذكي حقا، ويحصد جوائز كثيرة، وبارع جدا في الملاحظة. يعتقد أننا سوف ننجح بقليل من الصبر، سأستمتع جدا بإجراء تجارب على النباتات.»
وقال مجددا في خطاب آخر (بتاريخ 15 فبراير 1863): «أرسل هذا الخطاب؛ لأن الصوبة الزراعية الجديدة صارت جاهزة، وأنا متشوق لملئها بالنباتات، وكأنني صبي في المدرسة. هل تستطيع أن تخبرني عما قريب جدا بالنباتات التي تستطيع أن تعطيني إياها، وحينئذ سأعرف النباتات التي ينبغي أن أطلبها؟ وهلا تنصحني بأفضل طريقة أستطيع بها الحصول على تلك النباتات التي يمكنك أن «توفرها» لي. هل سيكون مناسبا أن أرسل عربتي الصغيرة في الصباح الباكر، في يوم غير قارس البرودة، على أن تكون العربة مبطنة بقطع من السجاد، وتأتي إلى هنا قبل الليل؟ لا أعرف إطلاقا ما إذا كان هذا القدر من التعرض للهواء البارد (والعربة ستكون باردة بالطبع) سيلحق ضررا بالنباتات التي تحتاج إلى حرارة اصطناعية لتبقى حية؛ فالرحلة إلى المنزل ستستغرق حوالي خمس ساعات (بما فيها استراحة السائق للغداء في منتصف النهار).»
وبعد ذلك بأسبوع قال في خطاب آخر: «لا يمكنك تخيل كم السعادة الشديدة التي غمرتني بها نباتاتك (إنها سعادة أشد بكثير مما يمكن أن تمنحك إياه تحف ويدجوود)؛ وأنا أذهب وأتباهى بها بكل ابتهاج، لكن كلينا اعترف سرا للآخر بأنها لو لم تكن نباتاتنا، لربما ما كنا سنرى هذا الجمال الفائق في كل ورقة.»
وفي مارس، عندما كانت حالته الصحية سيئة للغاية، قال في خطاب: «أود ذكر بضع كلمات عن النباتات التي تحتاج إلى حرارة اصطناعية لتبقى حية في الأجواء الباردة؛ لقد أمتعتني جدا. زحفت لأراها مرتين أو ثلاثا. هلا تصحح المحتوى المرفق وتجيب عليه وترده إلي. لقد بحثت في كل كتبي ولم أستطع العثور على هذه الأسماء،
13
وأنا أرغب بشدة في معرفة الفصيلة.»
نشر الكتاب في الخامس عشر من مايو 1862. وأرسل إلى موراي، بتاريخ الثالث عشر والثامن عشر من يونيو عن الاستقبال الذي لاقاه، قائلا: «علماء النبات يشيدون بكتابي عن السحلبيات إشادة تبلغ عنان السماء. أرسل إلي شخص ما (ربما يكون أنت) مجلة «ذا بارثينون»، وفيها مقال نقدي جيد. أما دورية «ذا أثنيام»
14
فتعاملني بمزيج من الشفقة والاستخفاف، لكن صاحب المقال النقدي المكتوب فيها لا يعرف شيئا عن الموضوع الذي يعالجه.» «يوجد مقال نقدي رائع، وإن كان يحمل بعض المبالغة مع الأسف، في دورية «لندن ريفيو».
15
لكن إقدامي على النشر لم يكن حماقة مني، كما كنت أظن؛
16
لأن آسا جراي، الذي يعد أكفأ حكم في العالم، يستحسن الكتاب بقدر ما تستحسنه دورية «لندن ريفيو». غير أن دورية «ذا أثنيام» ستعوق عملية بيع الكتاب بشدة.»
كان المبجل إم جيه بيركلي هو مؤلف المقال النقدي القصير الذي نشر في دورية «لندن ريفيو»، كما علم والدي من السير جيه دي هوكر، الذي أضاف: «أظن أنه متقن جدا بالفعل. لقد قرأت جزءا كبيرا من كتاب السحلبيات، وأتفق تماما مع كل ما يقوله.»
رد والدي على ذلك في خطاب (بتاريخ 30 يونيو 1862)، قائلا: «صديقي القديم العزيز، تقول إنني أسعدتك جدا، لكنك لن تعرف أبدا عدد المرات الكثيرة التي أسعدتني أنت فيها. لا أقصد استحسانك لعملي العلمي (مع أنني أهتم به أشد مما أهتم باستحسان أي شخص آخر)؛ بل شيئا أعمق. فإلى اليوم، ما زلت أتذكر بوضوح شديد خطابا أرسلته إلي من أكسفورد، عندما كنت أخضع للعلاج المائي، ومدى البهجة التي أدخلها على قلبي عندما كنت ضجرا تماما من حياتي. حسنا، كتابي عن السحلبيات يحقق نجاحا (لكني لا أعرف ما إذا كان يباع أم لا.)»
وقال في خطاب آخر إلى الصديق نفسه: «لقد أسعدتني جدا بما تقوله عن استحسان بينثام وأوليفر لكتابي؛ لأنني كنت قلقا نوعا ما، وكنت أشك أنني تصرفت بحماقة فظيعة، واختلقت في ذهني تعليقات لاذعة فكاهية قد تذكر في المقالات النقدية، مثل: «يبدو أن السيد داروين قد اغتر بعدما حقق قدرا معينا من النجاح، وصار يظن أن أتفه الملاحظات تستحق النشر».»
ورد استحسان السيد بينثام للكتاب في خطبته الرئاسية أمام الجمعية اللينية، في 24 مايو 1862، وما عزز قيمة هذا الاستحسان أنه جاء من رجل لم يكن من المتصور على الإطلاق أنه يستحسن الأفكار التطورية.]
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، 10 يونيو [1862]
عزيزي جراي
تعاطفك الكبير يجعلك تبالغ في تقدير قيمة ما قرأته من كتاب السحلبيات. لكن خطابك المؤرخ بتاريخ الثامن عشر من مايو والسادس والعشرين من مايو غمرني بارتياح بالغ. أعرف أن الموضوع أثار اهتمامي بقدر يفوق قيمته الحقيقية، لكني كنت قد بدأت أظن مؤخرا أنني تصرفت بحماقة تامة عندما نشرته في صورة شبه شعبية. أما الآن فسأتحدى العالم بكل ثقة. سمعت أن بينثام وأوليفر يستحسنانه، لكني لم أسمع رأي أحد آخر ممن لرأيهم قيمة ... لا شك أن مجلدي يتضمن أخطاء كثيرة، ما أشد صعوبة أن يكون دقيقا، مع أنني بذلت قصارى جهدي! أستطيع الآن تحمل أن أ ... من ينتقدونني وأنا مفعم راحة بال لا توصف. أشكرك من صميم قلبي على هذه الفائدة. إنني مندهش من أنك تمتلك من قوة الذهن ما يتيح لك الاهتمام بالعلم، وسط الأحداث اليومية الفظيعة التي تجري في بلدك. أطالع صحيفة «ذا تايمز» يوميا باهتمام شديد يضاهي اهتمام أي مواطن أمريكي. متى سيحل السلام؟ من المروع أن يفكر المرء في خراب أجزاء كبيرة من بلدكم الرائع، وفي كل هذا البؤس الصامت الذي يعانيه الكثيرون. آمل، أن نكون نحن الإنجليز مخطئين في استنتاج أن عودة الرخاء إليكم ستستغرق وقتا طويلا، وأظن ذلك ليس مستبعدا. من الفظيع التفكير في هذا الموضوع ... [كتب الدكتور آسا جراي مقالا نقديا عن الكتاب في دورية «سيليمان جورنال»،
17
حيث تحدث، بكلمات قوية، عن الانبهار الذي من المؤكد أنه أحدثه حتى لدى القراء القليلي الاطلاع عن الموضوع. وكذلك أجرى ملاحظات جديدة مبتكرة على زهرة سحلبية أمريكية، وقد أبدى والدي في خطاب (بتاريخ 23 يوليو) ترحيبه بهذه الملاحظات، التي كانت باكورة ثمار الموضوع وأرسلت إليه في صورة مخطوطة أو بروفة طباعة، قائلا: «في الليلة الماضية قرأت الرزمة الكبيرة من الملاحظات، بعدما كتبت ما ورد أعلاه. لم تكن لدي فكرة عما يتعين علي قراءته. يا لها من ملاحظات رائعة! لقد تفوقت علي في موضوعي المفضل! لم أشعر منذ أسابيع ببهجة شديدة كالتي غمرتني بها ملاحظاتك.»
يشير الخطاب التالي إلى نشر المقال النقدي:]
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، 28 يوليو [1862]
عزيزي جراي
لا أعرف إطلاقا على أي شيء أشكرك أولا. لقد أحدثت طوابعك سعادة بالغة. أخذت له
18
مجموعة منها أولا، ثم مجموعة أخرى بعدها بساعة. وقد اتكأ بجسده على أحد مرفقيه فعليا لينظر إليها. كانت تلك أول انتعاشة حيوية يبديها. اكتفى بالقول: «يجب أن تشكر البروفيسور جراي شكرا جزيلا للغاية.» وفي المساء، بعد صمت طويل، قال تلك الجملة المبهمة الأخرى: «إنه طيب للغاية.» وأنت كذلك بالفعل لأنك، رغم إجهادك من كثرة العمل، تكبدت عناء شديدا من أجل ابننا العزيز المسكين. والآن يجب أن أعبر عن امتناني الشديد لك فيما يخصني؛ يا له من نقد ممتاز ذاك الذي نشرته عن كتاب السحلبيات! لم يكن ممكنا أن يكون أفضل من ذلك، لكني أخشى أن تكون مبالغا في تقييمه. إنني على يقين تام من أنني لم أكن أتصور إطلاقا أن الكتاب سينال استحسانا شديدا منك أو من أي أحد. أعيد إليك ملاحظاتك الأخيرة تحسبا لأن تنشر أي مقالة نقدية عن الموضوع، لكنك ربما قد ترى رغم كل شيء أن ذلك لا يستحق العناء ولا الوقت، وإن كنت أرى أن «العديد» من حقائقك، لا سيما المتعلقة بالزهرة السحلبية الخضراء الشمالية، أفضل «بكثير» من أن تدمج في مقالة نقدية. غير أنني دائما ما ألاحظ أنك تفرط في الاهتمام بأن تكون مقالاتك النقدية أصلية من وحي ابتكارك أنت ... [نشر السير جوزيف هوكر مقالا نقديا عن الكتاب في دورية «ذا جاردنرز كرونيكل»، ونجح في كتابته بأسلوب محاك لأسلوب المحرر ليندلي. فقال والدي في خطاب إلى السير جوزيف (بتاريخ 12 نوفمبر 1862): «أنت إذن من كتب المقال النقدي المنشور في «ذا جاردنرز كرونيكل». راودتني الشكوك مرة أو اثنتين في أن ليندلي هو الكاتب، لكن عندما وصلت إلى فقرة تحمل توبيخا طفيفا موجها إلى آر براون، زالت شكوكي. يا لك من محتال! لا أستغرب أنك خدعت آخرين أيضا. ربما أكون شخصا مغرورا، ولكن إذا صح ذلك، فأنت مسئول عن ذلك بدرجة كبيرة؛ إذ إنني لم أتلق في حياتي إشادة بالغة كهذه، ولأنها صادرة منك، فهي أقيم عندي من أي إشادة صادرة من أي شخص آخر.»
بخصوص رأي علماء النباتات بوجه عام، قال في خطاب إلى الدكتور جراي: «إنني مذهول جدا من النجاح الذي لاقاه كتابي لدى علماء النبات.» ومن بين علماء التاريخ الطبيعي غير المتخصصين في علم النبات، عبر لايل عن تقديره البالغ والبارز للكتاب. لا أعرف على الإطلاق متى قرأه، لكنه في أواخر حياته، كما علمت من البروفيسور جود، كان متحمسا في إشادته بكتاب «تلقيح السحلبيات»، الذي كان يعتبره ثاني أقيم أعمال داروين «بعد كتاب «أصل الأنواع»». وأما عن جمهور القراء العاديين، فلم يسمع المؤلف في البداية بوجود العديد من المريدين المهتمين بالموضوع بينهم؛ ولذا قال في خطاب إلى ابن عمه فوكس في سبتمبر 1862: «على حد علمي، لم يهتم بالكتاب أي أحد من غير المتخصصين في علم النبات سواك.»
وظهر مقال نقدي يستحسن الكتاب في دورية «ذا ساترداي ريفيو»، 18 أكتوبر 1862؛ إذ يقول كاتب المقال إن الكتاب سينجو من الجدل الغاضب الذي أثاره كتاب «أصل الأنواع».
19
ويتضح هذا بالمثال في مقال نقدي في دورية «ذا ليتيراري تشيرشمان»، الذي لم يذكر فيه الكاتب سوى عيب واحد فقط أخذه على المؤلف؛ ألا وهو أن تعبير السيد داروين عن إعجابه بالوسائل المختلفة للتلقيح لدى السحلبيات يعد طريقة غير مباشرة جدا لقول: «عجبا يا إلهي، يا لتنوع خلقك!»
وكذلك ورد انتقاد مشابه بعض الشيء لهذا في دورية «ذي إدنبرة ريفيو» (أكتوبر 1862). يشير فيه كاتب المقال إلى أن السيد داروين يعكف باستمرار على استخدام عبارات مثل «وسيلة جميلة»، و«الشفية ... لكي تجذب»، و«والرحيق موجود على الوضع الذي هو عليه عمدا». ويختتم الكاتب مقالته هكذا: «نعرف أيضا أن هذه الأغراض والأفكار ليست أغراضنا ولا أفكارنا، بل أغراض وأفكار من إبداع «ذات أخرى».»
ونشر في دورية «ذا ساترداي ريفيو»، بتاريخ 15 نوفمبر 1862، مقال ينتقد تناول دورية «ذي إدنبرة ريفيو» لهذا الموضوع؛ وعن هذا المقال، قال والدي في خطاب إلى السير جوزيف هوكر (بتاريخ 29 ديسمبر 1862): «إليك مصادفة غريبة؛ ابن أختي هنري باركر، وهو مثال نموذجي لخريجي أكسفورد وزميل كلية أوريل، أتى إلى هنا مساء اليوم، وسألته عما إذا كان يعرف هوية كاتب المقال القصير المنشور في دورية «ذا ساترداي ريفيو»، الذي يسحق [كاتب مقال دورية «ذي إدنبرة ريفيو»] والذي نال إعجابنا، وبعد قليل من التردد، اعترف بأنه هو الكاتب. لم أكن أعرف قط أنه يكتب في دورية «ذا ساترداي ريفيو»، أولم تكن هذه مصادفة غريبة؟»
كان دوق آرجايل هو كاتب مقالة دورية «ذي إدنبرة ريفيو»، واستخدمها بعد ذلك في كتابه «سيادة القانون»، المنشور في 1867. وقد رد السيد والاس
20
على انتقادات الدوق، مدليا ببعض التعليقات الجيدة جدا على تلك الانتقادات التي تشير إلى السحلبيات. فهو يوضح كيف أن الغدة الرحيقية لدى أزهار جنس الأنجريكم السحلبي (التي يتراوح طولها بين 10 بوصات و14 بوصة) وخرطوم العثة الطويل بما يكفي للوصول إلى الرحيق، يمكن أن يتطورا بالانتقاء الطبيعي، وذلك بواسطة «تكيف ذاتي جميل». ويواصل مضيفا أن أي نظرية أخرى ستقودنا حتما إلى افتراض أن الزهرة خلقت بغدة رحيقية ذات طول هائل، وأن الحشرة خلقت بعد ذلك بفعل تأثير خاص، وهي مكيفة لزيارة الزهرة، التي ستبقى عقيمة لولا ذلك. وقد قال والدي في خطاب (بتاريخ 12 أو 13 أكتوبر) بخصوص هذه النقطة: «نسيت أن أقول لك إنك قلبت الطاولة على الدوق ببراعة شديدة، عندما بينت أن كلامه يعني أن أزهار الأنجريكم وحشرات العث ظهرت بعملية خلق خاص.»
إذا تفحصنا المؤلفات المتعلقة بتلقيح الأزهار، فلن نجد فرع الدراسة الجديد هذا قد شهد أي نشاط كبير بعد نشر كتاب السحلبيات فورا. صحيح أن هذه الفترة شهدت نشر بضع أوراق بحثية من تأليف آسا جراي، في 1862 و1863، وهيلدبراند في 1864، وموجريدج في 1865، لكن المجموعة الكبيرة من الأعمال التي ألفها أكسل ودلبينو وهيلدبراند والأخوان مولر لم تبدأ في الظهور إلا في عام 1867 تقريبا. بالرغم من ذلك، فالفترة التي كانت الآراء الجديدة لم تزل تستوعب فيها، قبل أن تصبح مثمرة جدا، كانت قصيرة إلى حد مفاجئ. وربما يمكن قياس النشاط الذي شهده هذا الفرع بعد ذلك بأن «قائمة المراجع» القيمة، التي أوردها البروفيسور دارسي تومسون في ترجمته لكتاب «تلقيح الأزهار» الذي ألفه مولر (1883)، تتضمن إحالات إلى 814 ورقة بحثية.
وإلى جانب كتاب السحلبيات، كتب والدي ورقتين بحثيتين أو ثلاثا عن الموضوع، ستجدونها مذكورة في الملحق. كانت أولى هذه الأوراق متعلقة بالأشكال الجنسية الثلاثة لأزهار جنس البهية ونشرت في عام 1862، وتعد تمهيدا لأحد أجزاء كتاب السحلبيات، ولم تنشر إلا في دورية الجمعية اللينية، اعترافا منه بالفائدة التي استفادها من إحدى العينات التي تحوزها الجمعية. وقد أوحت إليه إمكانية أن تكون الأنواع التي تبدو مختلفة مجرد أشكال جنسية لنوع واحد بإجراء تجربة من نوعية التجارب التي اعتاد القيام بها ، والتي يشار إليها في الخطاب التالي المرسل إلى أحد أوائل مريديه في دراسة تلقيح الأزهار:]
من تشارلز داروين إلى جيه تراهرن موجريدج
21
داون، 13 أكتوبر [1865]
سيدي العزيز
أنا ممتن جدا لك على ألواح الطباعة والنصوص الوصفية الجميلة الخاصة بك؛ لأن النقطة الأكثر إثارة لاهتمامي والأشد تحييرا لي في التاريخ الطبيعي هي التلقيح الذاتي لأزهار السحلب النحلي.
22
لقد أوضحت بعض المعلومات عن الموضوع بالفعل، وملاحظاتك الحالية تبشر بتوضيح المزيد عنها.
كونت رأيين تخمينيين؛ أولهما أن بعض الحشرات ربما تلقح النباتات تلقيحا متبادلا في مواسم معينة، لكني على وشك التخلي عن هذا الرأي، لكني أرجو أن تلقي نظرة على الأزهار الموسم القادم. وثانيا، خمنت أن أزهار السحلب العنكبوتي والسحلب النحلي ربما تمثل شكلين من النوع نفسه، لكن أحدهما يلقح تلقيحا متبادلا والآخر ذاتي التلقيح. وبناء على ذلك، أرسلت خطابا منذ بضع سنوات إلى أحد معارفي، طالبا منه أن يحدد بعض أزهار السحلب العنكبوتي بعلامة مميزة، ويلاحظ ما إذا كانت تحتفظ بالسمة نفسها أم لا، ولكن من الواضح أنه رأى طلبي أحمق كأنني طلبت منه أن يعلم إحدى أبقاره بشريط تزييني؛ ليرى ما إذا كانت ستتحول في الربيع التالي إلى حصان أم لا. الآن، هلا تتحلى بكرم بالغ إلى حد أن تربط رباطا حول سيقان نصف دزينة من أزهار السحلب العنكبوتي، وعندما ترحل عن منتون، اقتلعها من التربة، وسأحاول أنا إنباتها لأرى ما إذا كانت ستظل على حالها أم لا، لكني سأطلب معرفة نوعية التربة والظروف التي تنمو فيها. سيكون ضروريا تعليم النبات بعلامة مميزة لنكون متيقنين من أن كلا منها ينتمي إلى النوع المقصود. من الممكن أيضا أن ينتج النبات نفسه، في مواسم مختلفة، سويقات جذرية مختلفة، وستكون النباتات المعلمة بعلامة مميزة بمثابة دليل.
مع جزيل الشكر يا سيدي العزيز
بالغ إخلاصي
سي داروين
ملحوظة:
أرسل ضمن هذه الدفعة البريدية ورقتي عن النباتات المتسلقة، التي ربما قد تود قراءة أجزاء منها. [كذلك نال السير توماس فارار والدكتور دبليو أوجل إرشادا وتشجيعا من والدي في ملاحظاتهما. ويشير الخطاب التالي إلى ورقة بحثية من تأليف السير توماس فارار في مجلة «أنالز آند ماجازين أوف ناتشورال هيستوري»، 1868، عن تلقيح أزهار الفاصولياء القرمزية:]
من تشارلز داروين إلى تي إتش فارار
داون، 15 سبتمبر 1868
عزيزي السيد فارار
يحزنني بشدة القول إن السمات «الرئيسية» لحالتك التي طرحتها معروفة بالفعل. وأنا المذنب الذي سبقك؛ إذ وصفتها منذ حوالي عشر سنوات. غير أنني أغفلت تفاصيل كثيرة، كالجزء الطرفي الملحق بالسداة المفردة، ونقاط أخرى كثيرة. أرسل إليك ملاحظاتي، لكني مضطر إلى أن أطلب منك إعادتها إلي؛ لأنني «لا أملك نسخة أخرى». أوافق تماما على أن الحقائق لافتة جدا، لا سيما بالطريقة التي تطرحها بها. هل أنت متيقن من أن نحل العسل هو الذي يقرض الأوراق ويقطعها؟ فهذا يعارض خبرتي. إذا كنت متيقنا، فلتول النقطة مزيدا من التوضيح، أو احذفها إذا لم تكن متيقنا. لا أظن أن الموضوع جديد بما يكفي لتنشره الجمعية اللينية، ولكن يمكنني القول إن مجلة «أنالز آند ماجازين أوف ناتشورال هيستوري» أو دورية «ذا جاردنرز كرونيكل» ستسعد بنشر ملاحظاتك، ومن المؤسف جدا أن تضيع. إذا شئت، فسأرسل ورقتك البحثية إلى كلتا المجلتين مع مذكرة مني. في هذه الحالة، يجب أن تورد عنوانا، واسمك، وربما سيكون من المستحسن أن تكتب قبل ملاحظاتك سطرا تشير فيه إلى ورقتي وتقول إن ملاحظاتك مستقلة عن ملاحظاتي وأتم منها.
لقد قرأت ورقتي كلها سريعا بعد فترة دامت سنوات عديدة، وتعجبت من الحذر الذي طرحت به الحجة القائلة بأن الغاية النهائية هي التلقيح المتبادل بين الأزهار المفردة المختلفة، وهي الحجة التي كنت مقتنعا بها آنذاك تماما قدر اقتناعي بها الآن، لكني كنت أعرف أن الفكرة ستصدم كل علماء النبات. والآن بدأ هذا الرأي في أن يصبح مألوفا.
ليس من الصعب أن ترى اختراق أنابيب اللقاح، لكن ذلك يتطلب في معظم الحالات بعض التدريب على التشريح تحت عدسة مفردة ذات بعد بؤري مقداره عشر البوصة، وسيبدو هذا صعبا للغاية في البداية فقط.
يا لك من ملاحظ ممتاز ؛ إنك عالم تاريخ طبيعي من صفوة العلماء قد ضحي به، على نحو كامل أو جزئي من أجل الحياة العامة.
لك أصدق تحياتي وبالغ إخلاصي
سي داروين
ملحوظة:
إذا صادفت أي زهرة كبيرة الحجم من أزهار جنس القصعين، فلتلاحظها بإمعان؛ لأن وسيلة التلقيح لديها رائعة. لقد أحزنني أن أخبر رجلا أتى إلى هنا قبل بضعة أسابيع ومعه رسومات ومخطوطة رائعة عن جنس القصعين بأن العمل كله قد أنجز بالفعل في ألمانيا.
23 [المقتطف التالي مأخوذ من خطاب بتاريخ 26 نوفمبر 1868 إلى السير توماس فارار، كتب، كما علمت منه، «ردا على طلبه للنصيحة بخصوص أفضل طرق الملاحظة». «أرى من وجهة نظري أن الخطة الفضلى هي المضي قدما في العمل وإعداد مذكرات غزيرة دون التفكير كثيرا في النشر، وإذا اتضح بعدئذ أن النتائج جديرة بالاهتمام، فانشرها. رأيي، وإن كنت لست متيقنا من أنني على صواب، أن الخطة الفضلى والأحدث هي عدم وصف وسائل التلقيح في نباتات محددة، واللجوء بدلا من ذلك إلى دراسة الدور الذي تؤديه بنى محددة لدى كل النباتات أو لدى مراتب معينة بأكملها، مثل كتلة الشعيرات الشبيهة بالفرشاة الموجودة على قلم الميسم، أو التحام خيوط الأسدية في أزهار الفصيلة البقولية، مكونة حزمتين، أو الشعيرات الموجودة داخل التويج، إلخ، إلخ. بعدما نظرت إلى خطابك، أظن أن هذه ربما تكون الخطة التي تقترحها.
ينبغي أن تتذكر أن علماء التاريخ الطبيعي يرون الملاحظات أقيم بكثير من التسويغ المنطقي؛ لذا ينبغي أن تعزر استنتاجاتك، كلما أمكن، بملاحظة الكيفية التي تؤدي بها الحشرات عملها في الواقع.»
في عام 1869، تراسل السير توماس فارار مع والدي بشأن تلقيح جنس زهرة الآلام (الباسيفلورا) وأزهار التاكسونيا. وقد أعطاني انطباعاته عن هذه المراسلات: «كنت قد اقترحت أن السلسلة المعقدة المعدة بدقة من الحواجز الحادة الشائكة، التي تحمي الغدة الرحيقية لدى نوع زهرة الآلام الشائعة، مصممة خصوصا لتحمي الزهرة من الطيور الطنانة ذات المناقير الحادة الجامدة التي لن تلقحها، ولتسهل وصول خراطيم النحل الطنان الصغيرة إليها لأنها تلقحها، أما الأنبوب الطويل المعلق، والإكليل المرن الشبيه بالصمام الذي يحوي رحيق أزهار التاكسونيا، فيصدان النحل لأنه لا يلقح تلك الزهرة، ويسمحان بوصول الطائر الطنان إليها لأنه يلقحها. من الممكن جدا أن يكون هذا الاقتراح بلا قيمة، ولا يمكن تأكيد صحته أو دحضه إلا بفحص الأزهار في البلاد التي تنمو فيها طبيعيا ... ما كان يثير اهتمامي هو أن السيد داروين كان يستطيع أن يقول عن هذه النقطة، مثلما كان يستطيع القول عن أي نقطة أخرى تقريبا من نقاط الملاحظة التفصيلية: «نعم، لكني أجريت ملاحظات بنفسي بخصوص هذه النقطة بالتحديد يوما ما، وأظن أنك ستجد، إلخ، إلخ.» لقد انبهرت جدا آنذاك بقدرته على أن يتذكر، بعد مرور سنوات، أنه قد لاحظ البنية الغريبة التي كنت أشير إليها في نوع زهرة الآلام الحمراء.»
وبخصوص انتشار الاعتقاد بتكيف الأزهار من أجل التلقيح المتبادل، قال والدي في خطاب إلى السيد بينثام بتاريخ 22 أبريل 1868: «أنا متيقن من أن معظم الانتقادات التي أصادفها أحيانا في الأعمال الفرنسية ضد وتيرة التلقيح المتبادل ناتجة من جهل محض ليس إلا. فأنا أومن بقاعدة ثابتة مفادها أن المؤلف حين يصف بنية زهرة مكيفة خصوصا للتلقيح الذاتي، فهي تكون في الحقيقة مكيفة للتلقيح المتبادل، ولم أجد أن هذه القاعدة اختلت قط إلى اليوم. تقدم أزهار الشاهترجية مثالا جيدا على ذلك، وقد انتقدني تريفيرانوس فيما قلته بخصوص هذه الرتبة، لكن هيلدبراند يظهر أن فكرة التلقيح الذاتي خاطئة تماما في جنس القنبري. إن ورقة هذا المؤلف البحثية عن جنس القصعين جديرة بالقراءة حقا، وقد أجريت ملاحظات على بعض الأنواع، وأعرف أنه على صواب.»
يشير الخطاب التالي إلى ورقة البروفيسور هيلدبراند عن أزهار جنس القنبري، التي نشرت في دورية «بروسيدينجز أوف ذا إنترناشونال هورتيكالتشرل كونجرس»، لندن، 1866، وفي المجلد الخامس من دورية «يارابوشر»، التي كان برينجشيم يحررها. ترد المذكرة المتعلقة بجنس القصعين المشار إليها في المجلد السابق من الدورية نفسها:]
من تشارلز داروين إلى إف هيلدبراند
24
داون، 16 مايو [1866]
سيدي العزيز
حالتي الصحية تمنعني من حضور مؤتمر البستنة، لكني بعثت يوم أمس بورقتك إلى أمين المؤتمر، وإذا لم ينهل عليهم كم هائل من الأوراق، فسيتلقون ورقتك بكل سرور. لقد أجريت ملاحظات كثيرة على أزهار الشاهترجية، واقتنعت بأنها كيفت لتلقح بفعل الحشرات، لكني لم ألاحظ قط أي شيء يكاد يضاهي التشويق الكامن في حقائقك المثيرة جدا للاهتمام. آمل أن تكرر تجاربك على أزهار جنس القنبري على نطاق أكبر، ولا سيما على العديد من النباتات المختلفة؛ إذ ربما تكون نبتتك حالة خاصة مفردة، مثل بعض أفراد أزهار اللوبيليا، وغيرها، التي وصفها جارتنر، وأزهار الآلام والأزهار السحلبية التي وصفها السيد سكوت ...
منذ أن كتبت إليك من قبل، قرأت مذكرتك الرائعة عن جنس القصعين، وقد أثارت اهتمامي تقريبا بقدر ما أثير عندما بدأت دراسة بنية السحلبيات لأول مرة. إن ورقتك البحثية توضح بالأمثلة نقاطا عديدة في كتابي «أصل الأنواع»، لا سيما تحول الأعضاء. ولأنني لم أكن أعرف سوى نوعين أو ثلاثة في هذا الجنس، كثيرا ما تعجبت من كيفية تحول إحدى خلايا المتك إلى ذلك الشكل الشبيه بالطبق أو الملعقة القابل للتحريك، وأرى أنك أحسنت توضيح التدرجات ببراعة شديدة، لكني متفاجئ من أنك لم تصر إصرارا أقوى على هذه النقطة.
الحق أن دهشتي ستكون أكبر بكثير إذا لم تصل في النهاية إلى نفس اعتقادي بأن كل النباتات، حسبما يتجلى في عدد كبير من وسائل التلقيح الجميلة، تحتاج، لسبب ما مجهول، إلى أن تلقح من حين إلى آخر بحبوب لقاح من زهرة مفردة مختلفة. مع خالص احترامي وأصدق تحياتي يا سيدي العزيز.
لك بالغ إخلاصي
سي داروين [يشير الخطاب التالي إلى كتاب الراحل هيرمان مولر «تلقيح الأزهار»، الذي يعد أقيم كتاب بين المجموعة الهائلة من المؤلفات التي نشأت من كتاب «تلقيح السحلبيات». وقد نشرت ترجمة إنجليزية له بقلم البروفيسور دارسي تومسون في 1883. وتجدر الإشارة إلى أن «المقالة التمهيدية» المكتوبة بقلم والدي في مستهل هذا العمل مؤرخة بتاريخ 6 فبراير 1882، وبذلك فهي تكاد تكون آخر كتاباته:]
من تشارلز داروين إلى إتش مولر
داون، 5 مايو 1873
سيدي العزيز
بسبب تعرضي لكل أنواع المقاطعات، وقراءتي اللغة الألمانية ببطء شديد، لم أصل في قراءة كتابك إلا إلى الصفحة 88، لكني يجب أن أحظى بسعادة إخبارك بأنني أراه عملا قيما جدا. بغض النظر عن الملاحظات الأصلية المبتكرة العديدة، التي تشكل الجزء الأهم بالطبع، سيكون هذا العمل مفيدا للغاية في الإشارة إلى كل ما أنجز بخصوص هذا الموضوع. إنني مذهول جدا من عدد أنواع الحشرات التي سجلت زياراتها إلى أزهار مختلفة. من المؤكد أنك عملت بأكثر الطرق مثابرة. قبل حوالي نصف عام، أشار محرر دورية «نيتشر» إلى أنها ستكون مهمة هائلة إذا قام عدد من علماء التاريخ الطبيعي بما أنجزته بالفعل بهذا الحجم الكبير بخصوص زيارات الحشرات. انتابتني سعادة بالغة بقراءة قائمة مراجعك؛ لأنني لم أر في حياتي كل المراجع موضوعة معا على هذا النحو. أحيانا ما كنت أخشى أن أكون مخطئا عندما قلت إن سي كيه سبرينجل لم يدرك تماما أن التلقيح المتبادل هو الغاية النهائية من بنية الأزهار، لكن قلبي قد اطمأن الآن، ويغمرني رضا بالغ بأن أعتقد أنني أسهمت في ذيوع شهرة كتابه الممتاز على نطاق أعم. غير أن أكثر ما أدهشني في قائمة مراجعك، هو مقدار الإسهام الكبير الذي أسهمت به أنا شخصيا بخصوص هذا الموضوع؛ إذ لم يخطر ببالي قط أن أفكر في جميع أوراقي البحثية ككل. بالرغم من ذلك، فليس لدي شك في أن تقديرك البالغ لمجهودات الآخرين قد جعلك تبالغ في تقدير حجم إسهاماتي. مع خالص شكري واحترامي، وأصدق تحياتي.
لك بالغ إخلاصي
تشارلز داروين
ملحوظة:
ذكرت كتابك لجميع المهتمين بالموضوع في إنجلترا تقريبا، على حد علمي، وطلبت إرسال نسخة إلى الجمعية الملكية. [يشير الخطاب التالي، المرسل إلى الدكتور بيرنس، إلى نفس الموضوع الأخير:]
من تشارلز داروين إلى دبليو بيرنس
داون، 29 أغسطس [1878]
سيدي العزيز
إنني في غاية الامتنان لك على أنك أرسلت إلي مقالك «إسهامات في تاريخ نظرية التلقيح »،
25
وقد أثار بالغ اهتمامي. إنه يسلط ضوءا جديدا على بعض الأشياء، ويعرفني بأشياء أخرى لم أكن أعرفها. أتفق معك من صميم قلبي في تقديرك البالغ لعمل الراحل العزيز سي سبرينجل، وكم آسف أسفا مريرا على أنه لم يظل حيا ليرى مجهوداته تنال هذا التقدير. يسعدني أيضا أن أذكر أنك تغمر إتش مولر بتقدير بالغ، الذي دائما ما رأيته ذا براعة رائعة في الملاحظة والتسويغ المنطقي. وها أنا ذا أسعى الآن جاهدا إلى إقناع ناشر إنجليزي بإصدار ترجمة إنجليزية لكتابه «تلقيح الأزهار».
وأخيرا، دعني أشكرك على تعليقاتك النبيلة جدا على أعمالي. فترتيبك للأعمال التي استطعت الإسهام بها في هذا الموضوع ترتيبا منهجيا قد جعلني أرى عملي الشخصي أقيم بكثير مما كنت أراه من قبل على الإطلاق! ورغم ذلك، أخشى أن يكون ما ذكرته عني أكثر مما أستحق.
سأبقى يا سيدي العزيز حاملا لك بالغ الإخلاص والامتنان.
تشارلز داروين [كان السبب في كتابة الخطاب التالي مقال الدكتور جراي في دورية «نيتشر»، الذي أشير إليه سلفا، والذي نشر في 4 يونيو 1874:]
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، 3 يونيو [1874]
عزيزي جراي
سررت برؤية خط يدك مجددا في خطابك المؤرخ بتاريخ الرابع من الشهر، الذي سأتعرض للمزيد من تفاصيله قريبا. فوجئت برؤية إعلان منذ حوالي أسبوع ذكر فيه أنك ستكتب في دورية «نيتشر» مقالا عني، وتلقيت صباح اليوم نسخة من المقال قبل نشره. إنه أعظم ما كتب عني على الإطلاق، لا سيما أنه صادر عن رجل مثلك. لقد غمرني بسعادة عميقة، خصوصا بعض تعليقاتك الجانبية. من الرائع لي أن أعيش إلى أن أرى اسمي مقترنا باسم روبرت براون بأي حال من الأحوال. غير أنك رجل جريء؛ لأنني متيقن من أنك ستتعرض لسخرية من عدد ليس بقليل من علماء النبات. إنني لم أحظ بمثل هذا التشريف البالغ من قبل، وآمل أن يفيدني ويجعلني أحاول توخي الحذر قدر الإمكان، وما أصعبها من مهمة! أشعر بفخر شديد، لكني آمل ألا يستمر ذلك ... [لاحظ فريتز مولر أن أزهار جنس الهيديكيم مرتبة ترتيبا محكما إلى حد أن حبوب اللقاح تنقل بأجنحة الفراشات التي تحوم حولها. ويرد في الخطاب التالي تنبؤ والدي بهذه الملاحظة:]
من تشارلز داروين إلى إتش مولر
داون، 7 أغسطس 1876 ... أثارت مقالة أخيك عن أزهار جنس الهيديكيم بالغ اهتمامي، وكنت مقتنعا جدا قبل حوالي عامين بأن الأزهار تلقح بأطراف أجنحة حشرات كبيرة من العث، إلى حد أنني أرسلت خطابا إلى الهند لأطلب من رجل أن يلاحظ الأزهار ويصطاد العث في أثناء عمله، وقد أرسل إلي عددا يتراوح بين 20 حشرة و30 من عث أبي الهول، لكنها كانت معبأة تعبئة سيئة جدا؛ فوصلت كلها مهشمة، ولم أستطع التوصل إلى شيء ...
لك بالغ إخلاصي
سي داروين [المقتطف التالي مأخوذ من خطاب مرسل إلى الدكتور جراي (بتاريخ 25 فبراير 1864) وهو يشير إلى تنبؤ آخر قد تحقق: «لم أر أحدا بالطبع، وباستثناء هوكر العزيز الطيب، لا أتلقى خطابات من أحد. فهو، كأي صديق صدوق حقيقي، غالبا ما يرسل إلي خطابات وإن كان منهكا من كثرة العمل.
تلقيت خطابا أثار بالغ اهتمامي، مع ورقة بحثية ستظهر في دورية «جورنال أوف ذا بروسيدينجز أوف ذا لينيان سوسايتي»، من تأليف الدكتور كروجر من ترينداد، وتبين أنني محق تماما في كل ما ذكرته عن أزهار جنس البهية، حتى فيما قلته عن الموضع الذي تلتصق عنده حبوب اللقاح بالنحل الذي يزور الزهرة ليقضم الشفية، كما قلت. وأرى أن كلام كروجر عن أزهار جنس جردل السحلبية وفائدة الشفية الشبيهة بالدلو والممتلئة بالماء هو الأفضل على الإطلاق، ولما كان النحل مبللا جيدا، فأنا «أظن» أن ذلك يؤدي لأن تصبح شعيراته ملساء؛ مما يسمح للقرص اللزج بالالتصاق.»]
من تشارلز داروين إلى الماركيز دو سابورتا
داون، 24 ديسمبر 1877
سيدي العزيز
أشكرك بصدق على خطابك الطويل الشائق جدا، الذي كنت سأرد عليه في وقت أبكر من ذلك لولا أنني تأخرت في لندن. لم أسمع من قبل أنني سأرشح لأصبح عضوا بالمراسلة في المعهد. ولأنني أعيش حياة منعزلة جدا، أكاد ألا أتأثر بمثل هذه التكريمات، وأستطيع القول بكل صدق إن تعبيرك اللطيف عن التعاطف قد منحني وسيمنحني سعادة أشد بكثير من الانتخاب نفسه، إذا انتخبت.
أرى أن فكرتك التي طرحت فيها أن النباتات الثنائية الفلقة لم تتطور على نحو كبير إلا بعدما تطورت الحشرات الماصة فكرة رائعة. أنا مندهش من أن هذه الفكرة لم تخطر ببالي من قبل، لكن هذا ما يحدث دائما عندما يسمع المرء شرحا جديدا بسيطا لظاهرة غامضة لأول مرة ... أظهرت سابقا أننا نستطيع أن نفترض افتراضا وجيها مفاده أن جمال الأزهار ورائحتها الحلوة ورحيقها الغزير كلها أشياء قد تعزى إلى وجود الحشرات التي ترتاد الأزهار، لكن فكرتك، التي آمل أن تنشرها، تصل إلى حد أبعد من ذلك بكثير وهي أهم بكثير. أما بخصوص أن التطور الكبير للثدييات في الفترات الجيولوجية الأخيرة قد حدث بسبب تطور ثنائيات الفلقة، فأظن أنه ينبغي إثبات أن بعض الحيوانات، كالغزلان والأبقار والخيول وما إلى ذلك، لا يمكن أن تنمو وتزدهر إذا تغذت فقط على نباتات الفصيلة النجيلية وأحاديات الفلقة الأخرى التي تلقح بواسطة الرياح، ولا أعتقد أنه يوجد أي دليل على هذه النقطة.
إن اقتراحك بدراسة طريقة تلقيح ما تبقى من أقدم أشكال ثنائيات الفلقة، جيد جدا، وآمل أن تهتم به بنفسك؛ لأنني وجهت اهتمامي إلى موضوعات أخرى. أظن أن دلبينو يقول إن أزهار جنس المجنوليا تلقح بواسطة الحشرات التي تقضم البتلات، ولن أتفاجأ إذا كانت هذه الحقيقة نفسها تنطبق على أزهار جنس النيلوفر. فكلما نظرت إلى أزهار هذا الجنس الثاني، راودتني نزعة إلى أن أعترف بالرأي القائل إن البتلات أسدية معدلة لا أوراقا معدلة، رغم أن نوع بنت القنصل
يوضح، على ما يبدو، أن بعض الأوراق الحقيقية يمكن أن تحول إلى بتلات ملونة. يؤسفني القول إنني لم أؤسس تأسسا سليما قط في علم النبات ولم أدرس سوى نقاط خاصة؛ لذا لا أستطيع أن أدعي أنني أدلي بأي رأي عن تعليقاتك على أزهار المخروطيات وجنس الجنتوم، إلخ، لكني سررت بما تقوله عن تحول نوع توجد فيه الأعضاء الذكرية والأنثوية في نبات واحد إلى نوع توجد فيه الأعضاء الذكرية والأنثوية في زهرة واحدة، بواسطة تكثفات السواري على فرع يحمل الأزهار الأنثوية بالقرب من القمة، والأزهار الذكرية بالأسفل.
أتوقع أن هوكر سيأتي إلى هنا عما قريب، وحينها سأريه رسمتك، وإذا أدلى بأي تعليقات مهمة، فسأرسل إليك بشأنها. إنه مشغول جدا الآن بإنجاز بعض الأعمال المتأخرة بعد رحلته الاستكشافية إلى أمريكا؛ لذا لا أريد إزعاجه، ولو برسالة قصيرة للغاية. أعمل حاليا مع ابني على بعض الموضوعات المتعلقة بعلم وظائف الأعضاء، ونتوصل إلى نتائج شائقة جدا، لكنها ما زالت غير مؤكدة بما يكفي لتستحق إرسالها إليك ...
صديقك المجنون
سي داروين [في عام 1877، نشرت طبعة ثانية من كتاب «تلقيح السحلبيات»، وذلك بعد فترة من نفاد كل كتب الطبعة الأولى. أعيدت صياغة الطبعة الجديدة، بل يمكن القول إنها كتبت من جديد، وأضيف إليها قدر كبير من المواد العلمية الجديدة، كان المؤلف يدين بمعظمها لصديقه فريتز مولر.
وبخصوص هذه الطبعة، قال في خطاب إلى الدكتور جراي: «أظن أنني لن ألمس الكتاب مجددا أبدا. فبعد الكثير من التردد، قررت أن أتبع هذا النهج مع كل كتبي في المستقبل؛ أي أن أكتفي بتصحيحها مرة واحدة ولا ألمسها مجددا أبدا؛ لكي أستخدم ما تبقى لدي من طاقة قليلة للعمل على المواد الجديدة.»
ربما شعر بتضاؤل قدراته على مراجعة مجموعات كبيرة من الحقائق، كتلك التي يتطلبها إعداد طبعات جديدة، لكن قدراته على الملاحظة لم تتضاءل بالتأكيد. فقد قال في خطاب إلى السيد داير في 14 يوليو 1878:]
عزيزي داير
أرسلت إلي زهرة من نوع تاليا ديلباتا من كيو، ثم أزهرت، وبعدما كنت ألقي عليها نظرات عابرة من حين إلى آخر، جعلتني شبه مجنون، وعملت عليها طوال أسبوع كامل، إنها حالة عظيمة كحالة أزهار جنس البهية.
المدقة متحركة بعنف (إلى حد أن الزهرة كلها تهتز عندما تلتف المدقة على نفسها فجأة)؛ فعندما تثار بلمسة، ينتج الخيطان في وضع جانبي وعرضي عبر الزهرة (فوق الرحيق مباشرة) من إحدى البتلات أو الأسدية المعدلة. من الرائع مشاهدة الظاهرة تحت تأثير قوة ضعيفة عندما تدخل شعرة منتصبة داخل زهرة «صغيرة السن» لم تزرها أي حشرة. على حد علمي، فأزهار الستايلديوم هي الحالة الوحيدة التي توجد فيها مدقة حساسة، وفي هذه الحالة لدينا المدقة والأسدية. وفي زهرة التاليا،
26
تضمن الحركة العجيبة حدوث التلقيح المتبادل، إذا زار النحل أزهارا متعددة.
الآن قد أرحت بالي وسأخبرك بالمغزى من هذه الرسالة: إذا أزهر معك أي نوع آخر من أنواع التاليا إلى جانب التاليا ديلباتا، فأستحلفك بالرب وكل القديسين أن ترسل إلي بضعا منها في «صندوق صفيحي مع طحالب رطبة». [في عام 1878، نشرت ترجمة الدكتور أوجل لكتاب كيرنر الشائق «الأزهار وزائراتها غير المدعية». وقد أسهم والدي، الذي أثارت الترجمة بالغ اهتمامه (كما يتضح في الخطاب التالي)، ببعض كلمات الاستحسان الاستهلالية:]
من تشارلز داروين إلى دبليو أوجل
داون، 16 ديسمبر [1878] ... الآن قد قرأت كتاب كيرنر، الذي اتضح أنه أفضل حتى مما كنت أتوقع. تبدو لي الترجمة واضحة كضوء النهار، ومكتوبة بلغة إنجليزية قوية ومألوفة جيدة. إنني قلق بعض الشيء من أن تستعصي على فهم جمهور القراء الإنجليز الذين يبدو أنهم يحبون المحتوى السهل القليل الفائدة، ما لم يكن مقدما لهم من شخص ذائع الصيت، فيصبحون حينئذ سعداء، على ما أعتقد، بقدر كبير من المحتوى غير المفهوم. أرجو من الرب أن أكون مخطئا. على أي حال، لقد قدمت أنت والسيدة أوجل خدمة جليلة جدا لعلم النبات. لك بالغ إخلاصي.
سي داروين
ملحوظة:
لقد شرفتني تشريفا بالغا في تعليقاتك الاستهلالية. [وردت واحدة من آخر الإشارات إلى كتابه عن تلقيح السحلبيات في خطاب إلى السيد بينثام، بتاريخ 16 فبراير 1880. وتظهر مقدار السعادة البالغة التي غمرت أبي من دراسة هذا الموضوع، وأن تذكره هذا العمل كان يبث في نفسه سرورا بالملاحظات التي سبقت نشره، وليس الإشادة التي أعقبت نشره (وهذا كان دأبه دائما): «إنها لمخلوقات رائعة، هذه السحلبيات، وأحيانا ما يكون تفكيري ممزوجا بسعادة بالغة عندما أتذكر أنني فهمت نقطة بسيطة في طريقة تلقيحها.»]
هوامش
الفصل الحادي عشر
نشر كتاب «تأثيرات التلقيح المتبادل والتلقيح الذاتي في المملكة
النباتية»
1876 [يشكل هذا الكتاب، كما ورد في فصل «سيرة ذاتية» في الجزء الأول من هذا الكتاب، تكملة لكتاب «تلقيح السحلبيات»؛ لأنه يظهر مدى أهمية نتائج التلقيح المتبادل التي تضمن حدوثها الآليات الموصوفة في ذلك الكتاب. فمن خلال إثبات أن ذرية التلقيح المتبادل أقوى وأكثر حيوية من ذرية التلقيح الذاتي، أوضح أن أحد الظروف التي تؤثر في مصير النباتات الصغيرة السن في الصراع من أجل البقاء هو درجة تكيف أصلها الأبوي لحدوث التلقيح المتبادل. ومن ثم فقد اقتنع بأن شدة الصراع (الذي كان قد أظهر، في مواضع أخرى، وجوده بين النباتات الصغيرة السن) مقياس لقوة تأثير انتقائي لا يكف عن تصفية التعديلات واستبعاد كل تعديل في بنية الزهرة يمكن أن يؤثر في قدراتها على التلقيح المتبادل.
ويعد الكتاب قيما أيضا من ناحية أخرى؛ إذ يلقي الضوء على المشكلات الصعبة المتعلقة بأصل النشاط الجنسي. فالحيوية الزائدة الناجمة عن التلقيح المتبادل ترتبط ارتباطا وثيقا بالأفضلية المكتسبة من تغير الظروف. وهذا صحيح جدا، إلى حد أن التلقيح المتبادل في بعض الحالات، لا يقدم للذرية أي أفضلية، إلا إذا كان الأصل الأبوي قد عاش في ظروف مختلفة قليلا. لذا فالمهم حقا هو تزاوج فردين تعرضا لظروف مختلفة، لا تزاوج فردين من «أصل أبوي» مختلف. وهذا يدفعنا إلى أن نرى النشاط الجنسي بصفته وسيلة لغرس الحيوية في الذرية من خلال التحام عناصر متمايزة معا، وهي أفضلية لا يمكن أن تنتج إذا كانت عمليات التكاثر بأكملها لا جنسية.
ومن اللافت للنظر أن هذا الكتاب، الذي يعد نتاج أحد عشر عاما من العمل التجريبي، كان يدين بأصله لملاحظة عابرة. ذلك أن والدي قد ربى أزهار الكتانية الشائعة في حوضين؛ أحدهما كان يضم ذرية التلقيح المتبادل، والآخر كان يضم ذرية التلقيح الذاتي. وقد عمل على إنبات هذه النباتات من أجل إجراء بعض الملاحظات على الوراثة، دونما أي صلة بالتهجين على الإطلاق، وذهل عندما لاحظ بوضوح أن ذرية التلقيح الذاتي كانت أضعف وأقل حيوية من الذرية الأخرى. رأى أنه من المستحيل أن تكون هذه النتيجة بسبب أي من تأثيرات التلقيح الذاتي، لكن هذه المسألة لم «تسترع كامل» انتباهه إلا في السنة التالية عندما تحققت النتيجة نفسها بالضبط في حالة تجربة مشابهة على الوراثة لدى نباتات القرنفل الشائع، ومن ثم قرر إجراء سلسلة من التجارب المصممة خصوصا لمعالجة تلك المسألة. وتقدم الخطابات التالية تقريرا عن العمل المقصود:]
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
10 سبتمبر [1866؟] ... بدأت للتو إجراء سلسلة كبيرة من التجارب على إنبات البذرة، وعلى نمو النباتات الصغيرة السن في حالة نموها من مدقة ملقحة بحبوب لقاح من الزهرة نفسها، وفي حالة تلقيحها بحبوب لقاح من نبات مختلف من الضرب نفسه أو من ضرب آخر. صحيح أنني لم أجر تجارب كافية لأدلي بحكم مؤكد، لكني وجدت أن الفرق في نمو النباتات الصغيرة السن لافت جدا في بعض الحالات. أخذت كل أنواع الاحتياطات في الحصول على البذرة من النبات نفسه، وفي إنبات البذرة على رف مدفأتي، وفي زراعة الشتلات في أصيص الأزهار نفسه، وفي ظل الخضوع لهذه الظروف المتماثلة، وجدت أن طول الشتلات الصغيرة التي نبتت من البذرة الملقحة تلقيحا متبادلا يكاد يبلغ ضعف طول الشتلات التي نبتت من البذرة الملقحة ذاتيا، مع العلم أن كلتا البذرتين قد نبتت في اليوم نفسه. إذا استطعت إثبات هذه الحقيقة (لكنها ربما قد تتحطم تماما) في خمسين حالة أو ما شابه، في نباتات من مراتب مختلفة، أظن أنها ستكون مهمة جدا؛ لأننا حينئذ سنتيقن من السبب في أن بنية جميع الأزهار تسمح بين الحين والآخر بتلقيح متبادل مع زهرة مختلفة، أو تتيح الظروف المواتية لهذا التلقيح أو تحتم حدوثه. لكن ذلك بمثابة احتفال في وقت أبكر من اللازم. بالرغم من ذلك، فأنا أسعد جدا بإخبارك بما أوشك على فعله. مع أصدق تحياتي يا عزيزي جراي.
لك بالغ إخلاصي وخالص الشكر من صميم قلبي
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جي بينثام
22 أبريل 1868 ... أجري تجارب موسعة جدا على الفرق في قوة النمو بين النباتات التي تنمى من بذور ملقحة ذاتيا وتلك التي تنمى من بذور ملقحة تلقيحا متبادلا ، ويمكنني القول دون مبالغة إن الفرق في النمو والحيوية أحيانا ما يكون عجيبا حقا. لقد رأى لايل وهكسلي وهوكر بعضا من نباتاتي، وذهلوا، وأود بشدة أن أريك إياها. دائما ما كنت أفترض حتى وقت قريب أن التأثيرات الضارة لن تظهر إلا بعد أجيال عديدة من التلقيح الذاتي، لكني أرى الآن أن جيلا واحدا أحيانا ما يكون كافيا، وصرت أفهم تماما وجود النباتات الثنائية الشكل، وكل وسائل التلقيح المبتكرة العجيبة لدى السحلبيات.
مع خالص الشكر من صميم قلبي على خطابك الذي غمرني بسعادة ببالغة.
لك بالغ إخلاصي
تشارلز داروين [الفقرة التالية مقتطفة من خطاب إلى الدكتور جراي (بتاريخ 11 مارس 1873)، ويرد فيها ذكر لتقدم سير العمل: «عملت بجد في الصيف الماضي على جنس الندية، لكني لم أستطع الاستمرار حتى الحصول على نباتات جديدة؛ ولذا بدأت دراسة تأثيرات التلقيح المتبادل والتلقيح الذاتي لدى النباتات، وقد أثار هذا الموضوع اهتمامي بشدة إلى حد أن جنس الندية لا بد أن ينحى جانبا ريثما أنتهي من هذا الموضوع وأنشره، وحينها سأستأنف العمل على هذا الجنس الذي أحبه، وأعتذر من صميم قلبي على أنني اضطررت إلى تنحية هذا النبات الغالي جانبا ولو لحظة واحدة.»
توضح الخطابات التالية انطباع المؤلف عن كتابه الذي ألفه بنفسه.]
من تشارلز داروين إلى جيه موراي
داون، 16 سبتمبر 1876
سيدي العزيز
تلقيت للتو بروفات الطباعة في خمس ورقات؛ لذا سيتعين عليك أن تقرر قريبا عدد النسخ التي يجب أن تطبع. لا أعرف بم أنصحك. فالجزء الأكبر من الكتاب يسرد حقائق رتيبة، والكتاب كله عن موضوع خاص. بالرغم من ذلك، فأنا مقتنع بأن الكتاب قيم، ومقتنع بأن نسخه ستباع من حين إلى آخر على مدار سنوات «عديدة». فاستنادا إلى مبيعات كتبي السابقة، وبافتراض أن بعض الأشخاص سيشترونه لإكمال مجموعة أعمالي، أقترح أن عدد النسخ المبيعة سيكون 1500 نسخة. لكنك يجب أن تسترشد بخبرتك الكبرى. سأكتفي بتكرار أنني مقتنع بأن الكتاب يحمل قيمة دائمة ...
من تشارلز داروين إلى فيكتور كاروس
داون، 27 سبتمبر 1876
سيدي العزيز
أرسل إليك ضمن الدفعة البريدية لصباح اليوم أول أربع ورقات مكتملة من كتابي الجديد، الذي سترى عنوانه على الصفحة الأولى، والذي سينشر في أوائل نوفمبر.
يؤسفني القول إنه أقصر ببضع صفحات فقط من كتابي «النباتات الآكلة للحشرات». الكتاب كله جاهز للطباعة الآن، مع أنني لم أنته إلا من تصحيح نصف المجلد. لذا ستتلقى البقية قريبا. الكتاب رتيب جدا. فالفصول من الثاني إلى السادس، متضمنة هذين الفصلين، مجرد تدوين للتجارب. غير أنني أعتقد (وإن كان لا يمكن للمرء أبدا أن يحكم على كتبه التي ألفها بنفسه) أن الكتاب قيم. سيتعين عليك أن تقرر ما إذا كان يستحق أن يترجم أم لا. آمل أن تجده جديرا بالترجمة. لقد بذلت فيه قدرا هائلا من الجهد المضني، وأرى النتائج لافتة ومؤسسة جيدا.
إذا اعتزمت ترجمته، فستجد عونا كبيرا في ترجمة الفصول من الثاني إلى السادس؛ لأنها مليئة بتكرار لا ينتهي، لكني أراه ضروريا. سأكون متلهفا لمعرفة قرارك ...
أرجو من صميم قلبي أن تكون قد قضيت هذا الصيف بصحة طيبة تماما.
لك بالغ إخلاصي يا سيدي العزيز
سي داروين
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، 28 أكتوبر 1876
عزيزي جراي
أرسل ضمن هذه الدفعة البريدية كل بروفات الطباعة المنقحة التي طبعت إلى الآن، وآمل أن أرسل البقية في غضون أسبوعين. أرجو أن تلاحظ أن الفصول الستة الأولى ليست سهلة القراءة، والفصول الستة الأخيرة رتيبة جدا. بالرغم من ذلك أعتقد أن النتائج قيمة. إذا اعتزمت كتابة مقال نقدي عن الكتاب، فسأكون متلهفا جدا لمعرفة رأيك فيه؛ لأن رأيك أهم عندي من رأي أي أحد آخر تقريبا. وأعرف أيضا أن رأيك سيكون صادقا صريحا، سواء أكان مؤيدا أم معارضا. لن يتكبد عناء قراءة الكتاب سوى قلة قليلة، ولست أتوقع أن تقرأه كله، لكني آمل أن تقرأ الفصول الأخيرة. ... إنني ضجر جدا من تصحيح الأوراق استعدادا لطباعتها، ومن تحويل صياغتي السيئة البشعة إلى عبارات إنجليزية مفهومة. [نشر كتاب «تأثيرات التلقيح المتبادل والتلقيح الذاتي في المملكة النباتية» في 10 نوفمبر 1876، وبيعت منه 1500 نسخة قبل نهاية العام. ويشير الخطاب التالي إلى مقال نقدي له في دورية «نيتشر»:]
1
من تشارلز داروين إلى دبليو ثيسلتون داير
داون، 16 فبراير 1877
عزيزي داير
يجب أن أخبرك بمدى شعوري البالغ بالسعادة والتشريف بمقالك الوارد في دورية «نيتشر»، الذي قرأته للتو. أنت بارع في قول ما يسعد أي مؤلف، وهذا لا يعني أنني أظن أنك كتبت المقال من أجل هذا الغرض خصوصا. سأكون سعيدا للغاية إذا كنت أستحق مثقال ذرة من ثنائك. علاوة على ذلك، فقد أثارت حجتك التي طرحتها عن انفصال الجنسين بالغ اهتمامي، وهذا الشعور أفضل من السرور الخالص فقط. يمكنني القول إنني مخطئ، ومن الآن فصاعدا سأعالج ما تقوله بمزيد من العناية، لكني لا أستطيع الآن أن أخرج من رأسي أن الجنسين قد نشآ بالتأكيد من اقتران فردين، مختلفين قليلا. لكني أعي أن بعض حالات الاقتران تتعارض مع مثل هذه الآراء.
لك جزيل الشكر من صميم قلبي
مع بالغ إخلاصي
تشارلز داروين
هوامش
الفصل الثاني عشر
نشر كتاب «الأشكال المختلفة للزهور في
نباتات من النوع نفسه»
1877 [نشر المجلد الذي يحمل العنوان أعلاه في عام 1877، وأهداه المؤلف إلى البروفيسور آسا جراي، «بمثابة تعبير بسيط عن الاحترام والمودة». وهو يتألف من بعض الأوراق البحثية السابقة المعاد تحريرها، مع إضافة قدر من المواد الجديدة. أما الموضوعات التي تناولها الكتاب، فهي: (1)
النباتات المتغايرة الأقلام. (2)
النباتات المتعددة الأجناس والثنائية المسكن والثنائية المسكن-الأنثوية. (3)
الزهور المقفلة الذاتية التلقيح.
تتضح طبيعة النباتات المتغايرة الأقلام في زهور الربيع الشائعة، التي تعد أحد أفضل الأمثلة المعروفة في هذه الفئة. فعند جمع عدد من زهور الربيع الشائعة، سيتبين أن بعض النباتات لا تنتج شيئا سوى أزهار «ذات عين أشبه برأس الدبوس»، يكون فيها قلم الميسم (أو العضو المسئول عن نقل حبوب اللقاح إلى البويضة) طويلا، في حين أن البعض الآخر لا ينتج سوى أزهار «ذات عين أشبه بنسالة الخيوط» تتسم بقصر أقلام الميسم. وبذلك تنقسم زهور الربيع الشائعة إلى مجموعتين تختلف كلتاهما عن الأخرى بنيويا. وقد أظهر والدي أن كلتيهما تختلف عن الأخرى جنسيا أيضا، وأن الرابط بين المجموعتين في الحقيقة أشبه بالرابط بين جنسين منفصلين منه بأي علاقة أخرى. ولذا فزهرة الربيع ذات قلم الميسم الطويل مثلا، مع أنها يمكن أن تلقح بحبوب لقاحها، لا تصبح خصبة «تماما» إلا إذا لقحت بحبوب لقاح من زهرة ذات قلم ميسم قصير. معنى هذا أن النباتات المتغايرة الأقلام أشبه بالحيوانات الخنثى، كالحلزونات، التي تستلزم التقاء الفردين، مع أن كليهما لديه العناصر الجنسية الذكرية والأنثوية معا. الفرق أنه، في حالة زهور الربيع الشائعة، «الخصوبة التامة»، وليس «الخصوبة» فقط، هي التي تعتمد على التأثير المتبادل بين مجموعتي الأفراد.
تجدر الإشارة إلى أن العمل المتعلق بالنباتات المتغايرة الأقلام له علاقة خاصة بمسألة أصل الأنواع، وقد أولاها المؤلف أهمية كبيرة.
1
ذلك أنه اكتشف وجود تشابه شديد إلى حد مثير للعجب بين التهجين وأشكال معينة من التلقيح بين النباتات المتغايرة الأقلام. لذا لا توجد أي مبالغة في قول إن الشتلات التي أنشئت «بالتلقيح من قلم مغاير» هجائن، مع أن أبويها كليهما ينتميان إلى النوع نفسه بالضبط. وفي خطاب إلى البروفيسور هكسلي، والذي عرضنا له في الفصل الثالث من هذا الكتاب، يكتب والدي كما لو كانت أبحاثه عن النباتات المتغايرة الأقلام جعلته يميل إلى الاعتقاد بأن العقم سمة منتقاة أو مكتسبة. غير أنه في أعماله المنشورة اللاحقة، مثل الطبعة السادسة من كتاب «أصل الأنواع»، يتمسك بأن العقم سمة عارضة وليست منتقاة. وتعد نتيجة عمله على النباتات المتغايرة الأقلام مهمة؛ لأنها تبين أن العقم ليس اختبارا للتمييز المحدد، وأنه يعتمد على تمايز العناصر الجنسية المستقل عن أي اختلاف في السلالات. أتصور أن حبه الغريزي لفهم الإشكاليات المحيرة هو السبب الأكبر الذي جعله يعمل بصبر شديد على النباتات المتغايرة الأقلام. لكن حقيقة إمكانية استخلاص استنتاجات عامة ذات الطابع المذكور أعلاه من نتائجه هي التي جعلته يرى نتائجه جديرة بالنشر.
2
أما الأوراق البحثية المتعلقة بهذا الموضوع التي سبقت كتاب «الأشكال المختلفة للزهور في نباتات من النوع نفسه» وأسهمت فيه، فكانت كالتالي: «عن الشكلين أو الحالة الثنائية الشكل في أنواع جنس زهور الربيع (البريميولا)، وما يوجد بينهما من علاقات جنسية لافتة». دورية «جورنال أوف ذا لينيان سوسايتي»، 1862. «عن وجود الشكلين، وعن العلاقات الجنسية المتبادلة بينهما، في أنواع عديدة منتمية إلى جنس الكتان (اللاينام)». دورية «جورنال أوف ذا لينيان سوسايتي»، 1863. «عن العلاقات الجنسية بين أشكال نوع الخثري الأرجواني الثلاثة»، المصدر نفسه، 1864. «عن طابع الذرية الناتجة من التزاوج التهجيني بين النباتات الثنائية الشكل والنباتات الثلاثية الشكل، وطبيعتها شبه الهجينية». المصدر نفسه، 1869. «عن الاختلافات المحددة بين زهرة الربيع العطرية
، بحسب تسمية مرجع «نباتات بريطانيا» (
بحسب تسمية لينيوس)، وزهرة الربيع الشائعة
vulgaris ، بحسب تسمية مرجع «نباتات بريطانيا» (
بحسب تسمية لينيوس) وزهرة الربيع الأكسليب
، بحسب تسمية جاكوين؛ وعن الطبيعة الهجينية لزهرة الأكسليب الشائع. مع تعليقات تكميلية على الهجائن المنتجة بطريقة طبيعية في جنس البوصير (الفيرباسكم)». المصدر نفسه، 1869.
يبين الخطاب التالي أنه بدأ العمل على النباتات المتغايرة الأقلام وهو يحمل تصورا خاطئا عن معنى الحقائق.]
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 7 مايو [1860] ... كنت ألقي نظرة على أزهار الربيع العطرية التي أجري عليها التجارب صباح اليوم، ووجدت أن كل الزهور لدى بعضها أسدية طويلة ومدقات قصيرة، وهذه النباتات سأسميها «نباتات ذكرية»، فيما كان البعض الآخر له أسدية قصيرة ومدقات طويلة، وهذه سأسميها «نباتات أنثوية». رأيت ذلك موصوفا في مكان ما من قبل، وأظن أن هنزلو من وصفه، لكني وجدت (بعد النظر إلى هاتين المجموعتين) أن مياسم النباتات الذكرية والنباتات الأنثوية لها شكل مختلف قليلا، وبالتأكيد درجة مختلفة من الخشونة، وما أذهلني أن حبيبات لقاح النباتات المسماة بالأنثوية، وإن كانت وفيرة جدا، أكثر شفافية من حبيبات لقاح النباتات المسماة بالذكرية، وأن حجم كل حبيبة منها يبلغ على وجه التحديد 2 / 3 حجم كل من حبيبات لقاح النباتات المسماة بالذكرية. فهل رصد هذا؟ لا أستطيع سوى التخمين أن زهرة الربيع العطرية ثنائية المسكن في الحقيقة، ولكن ربما يتضح أن ذلك خاطئ تماما، لكني على أي حال سأميز النباتات المسماة بالذكرية والمسماة بالأنثوية بأعواد صغيرة، وأراقب إنتاجها للبذور. ستكون حالة رائعة من حالات التدرج بين حالة خنثى وحالة أحادية الجنس. وكذلك قد تكون، إلى حد ما، حالة من حالات التوازن بين المدقات والأسدية الطويلة والقصيرة. وربما تلقي ببعض الضوء أيضا على زهور الربيع الأكسليب ...
الآن قد تفحصت زهور الربيع الشائعة، ووجدت الاختلاف نفسه بالضبط في حجم حبيبات اللقاح مرتبطا بالاختلاف نفسه في طول قلم الميسم وخشونة المياسم.
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
8 يونيو [1860] ... كنت أجري بعض الملاحظات البسيطة، وقد أثارت بالغ اهتمامي وحيرتني بشدة. وجدت أن عددا متساويا تقريبا من نباتات زهور الربيع الشائعة وزهور الربيع العطرية يتسم بما يلي.
نباتات «ذكرية» (وهو اسم من تأليفي):
تكون فيها المدقة أقصر بكثير من الأسدية، والميسم ناعما بعض الشيء، «وحبيبات اللقاح كبيرة»، وحلق التويج قصيرا.
نباتات «أنثوية» (وهو اسم من تأليفي أيضا):
تكون فيها المدقة أطول بكثير من الأسدية، والميسم أخشن، «وحبيبات اللقاح أصغر»، وحلق التويج طويلا.
ميزت الكثير من النباتات بعلامات مميزة، وتوقعت أن أجد النباتات المسماة بالذكرية عقيمة، لكن ذلك ليس صحيحا استنادا إلى ملمس كبسولات البذور، وأنا مذهول جدا من الفرق في حجم حبيبات اللقاح ... إذا أثبتت هذه الحالة أن النباتات المسماة بالذكرية تنتج بذورا أقل من تلك المسماة بالأنثوية، فستكون حالة جميلة جدا من حالات التدرج من حالة خنثى إلى حالة أحادية الجنس! أما إذا اتضح أنهما ينتجان العدد نفسه من البذور، فسيكون هذا محيرا جدا.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 17 ديسمبر [1860؟] ... كنت أطلب للتو صورة فوتوغرافية لي من أجل أحد أصدقائي، وطلبت واحدة من أجلك، وأرجو من أجل الرب أن تسدي إلي صنيعا وتحرق تلك الصورة المعلقة في غرفتك الآن. فهي تجعلني أبدو شريرا إلى حد بشع. ... في الربيع يجب أن أجعلك تبحث عن مدقات طويلة ومدقات قصيرة في الأنواع الأندر من جنس زهور الربيع، وفي بعض الأجناس المتصلة به. ينطبق هذا على أزهار الربيع الصينية. تتذكر كل الضجة التي أحدثتها بشأن هذا الموضوع في الربيع الماضي، حسنا، حظيت أخيرا منذ بضعة أيام بمتسع من الوقت لكي أزن البذور، ووجدت بالفعل أن نباتات زهور الربيع الشائعة وزهور الربيع العطرية ذات المدقات القصيرة وحبوب اللقاح الكبيرة أخصب بعض الشيء من النباتات ذات المدقات الطويلة وحبوب اللقاح الصغيرة.
3
وأجد أنها تحتاج إلى تأثير الحشرات لإحداث التلقيح، ولن أصدق أبدا أن هذه الاختلافات ليس لها مغزى معين.
تقودني بعض تجاربي إلى أن أظن أن حبوب اللقاح الكبيرة تناسب المدقات الطويلة، وأن حبوب اللقاح الصغيرة تناسب المدقات القصيرة، لكني عازم على أن أرى ما إذا كنت سأستطيع فهم هذا اللغز في الربيع القادم.
كيف حال اختمار كتابك المتعلق بالنباتات في ذهنك؟ هل بدأته؟ ...
ابعث بأطيب تحياتي إلى أوليفر. لا بد أنه مذهول من أنني ليس لدي سلسلة طويلة من الأسئلة، وأخشى أن تضعف قدراته بسبب عدم الممارسة! [انتهى العمل المتعلق بجنس زهور الربيع في خريف عام 1861، وفي الثامن من نوفمبر، أرسل خطابا إلى السير جيه دي هوكر، قائلا: «أرسلت ورقتي عن الحالة الثنائية الشكل في جنس زهور الربيع إلى الجمعية اللينية. سأذهب وأقرؤها وقتما يحددون موعدا لمناقشتها، وآمل أن تستطيع الحضور؛ لأنني أظن أن الكثيرين لن يهتموا بالموضوع إطلاقا.»
وبخصوص تلاوة الورقة البحثية (في 21 نوفمبر)، قال في خطاب إلى الصديق نفسه: «لا أظن إطلاقا أنني أحدثت «تأثيرا هائلا» في الجمعية اللينية، لكني أقسم أن الجمعية اللينية أحدثت في تأثيرا هائلا؛ إذ لم أستطع النهوض من الفراش حتى وقت متأخر من مساء اليوم التالي، حتى إنني عدت إلى المنزل زحفا. يؤسفني القول إنني يجب أن أتوقف عن محاولة تلاوة أي ورقة بحثية أو إلقاء خطابات؛ فمن البغيض جدا أنني لا أستطيع فعل شيء كالآخرين.»
وقال في خطاب إلى الدكتور جراي (في ديسمبر 1861): «يمكنك أن تثق في أنني سأرسل إليك نسخة من ورقتي البحثية عن جنس أزهار الربيع حالما أحصل على واحدة، لكني أعتقد أنها لن تطبع حتى الأول من أبريل، وبذلك ستكون بعد كتابي عن السحلبيات. أهتم برأيك ورأي هوكر أكثر مما أهتم برأي بقية الدنيا كلها، وبرأي لايل بخصوص النقاط الجيولوجية. صحيح أن بينثام وهوكر استحسنا ورقتي عندما تليت، ولكن لا أحد يستطيع الحكم على دليل ما بمجرد سماع ورقة تتلى عليه.»
كان العمل المتعلق بجنس أزهار الربيع هو ما أنشأ التواصل بين والدي والراحل السيد جون سكوت، الذي كان آنذاك يعمل بستانيا في الحدائق النباتية في إدنبرة، ويبدو أنه اختار هذه الوظيفة ليشبع شغفه بالتاريخ الطبيعي. لقد كتب واحدة أو اثنتين من الأوراق البحثية الممتازة عن مسائل متعلقة بعلم النبات، وفي نهاية المطاف عين في منصب مهم في الهند.
4
وتوفي في عام 1880.
ويمكن اقتباس بضع عبارات من خطابات إلى السير جيه دي هوكر تبين ما كان يكنه والدي من تقدير لسكوت: «إذا كنت تعرف، فأرجو أن تقول لي من هو جون سكوت الذي يعمل في حدائق إدنبرة النباتية؛ إنني أراسله كثيرا، وهو ليس بالرجل العادي.» «لو كان لديه متسع من وقت الفراغ، لأصبح ملاحظا رائعا؛ إذ لم أصادف أحدا مثله من وجهة نظري.» «لقد أثار اهتمامي على نحو غريب، وأظن أن قدراته الفكرية رائعة جدا. آمل أن يقبل المساعدة المالية مني، لكنه لا يزال رافضا إلى الآن.» (نجح أخيرا في أن يسمح له بالتكفل بنفقات سفر السيد سكوت إلى الهند.) «لا أعرف عنه شيئا إلا من خطاباته، وهي تبين أنه ذو موهبة لافتة، ومثابرة مذهلة وتواضع جم، وأنه يختلف معي بإصرار شديد بشأن العديد من النقاط، وهذا يعجبني.»
كان يكن تقديرا شديدا لقدرات سكوت إلى حد أنه وضع خطة لتوظيفه من أجل فهم بعض المشكلات المتعلقة بالتلقيح المتبادل (لكن هذه الخطة لم تتجاوز مرحلة النقاش المبدئي قط).
يشير الخطاب التالي إلى أبحاث والدي المتعلقة بجنس الخثري (الليثرم)،
5
الذي يكشف عن حالة تعقيد جنسي أعجب بكثير حتى من حالات التعقيد الجنسي في جنس أزهار الربيع. وذلك لأن جنس الخثري لا يضم مجموعتين فقط، بل ثلاث مجموعات تختلف كل منها عن الأخرى في البنية ووظائف الأعضاء:]
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، 9 أغسطس [1862]
عزيزي جراي
الوقت الآن متأخر ليلا، وسأكتب بإيجاز، متوسلا بالطبع أن تسدي إلي صنيعا.
جنس الميتشيلا جيد جدا، لكن حبوب اللقاح متساوية الحجم على ما يبدو. فحصت جنس الهوتونيا للتو، ووجدت اختلافا كبيرا في حبوب اللقاح. أما الأخيون، فهو حالة مخادعة؛ إذ إنه حالة شبيهة بأنواع جنس الثايمس. لكني أكاد أجن تماما بسبب نبات الخثري؛
6
إذا استطعت إثبات ما أنا موقن به تماما، فهذه حالة عظيمة من الحالات الثلاثية الشكل؛ إذ توجد فيها ثلاثة أحجام مختلفة من حبوب اللقاح وثلاثة مياسم مختلفة؛ لقد عقمت وخصبت أكثر من تسعين زهرة، مجربا كل حالات التلقيح المتبادل المختلفة الممكنة في حدود نطاق هذا النوع الواحد، والتي يبلغ عددها ثماني عشرة حالة! لا أستطيع الشرح، لكني متيقن من أنك ستراها حالة عظيمة. كنت أرسل خطابات إلى بعض علماء النبات لأرى ما إذا كان يمكنني الحصول على بعض أزهار جنس الخثري من نوع إل هيسوبيفوليا، وخطر ببالي للتو أنكم ربما يكون لديكم بعض أزهار جنس الخثري في أمريكا الشمالية، واستعنت بالدليل الخاص بك. فمن أجل الرب، أرجو أن تلقي نظرة على بعض الأنواع الموجودة لديك، وإذا استطعت أن تجلب إلي بذورا، فافعل ذلك؛ أرغب بشدة في أن أجرب أنواعا ذات عدد قليل من الأسدية إذا كانت ثنائية الشكل، وأتوقع أن يكون نوع نيسيا فيرتيسيلاتا
Nesaea verticillata
ثلاثية الشكل. بذور! بذور! بذور! أفضل بذرة أزهار الميتشيلا. لكن بذور أزهار الخثري هي ما أريد!
صديقك المخبول
سي داروين
ملحوظة:
يوجد سبب لجنوني؛ ألا وهو أنني أستطيع رؤية أن هذه الحقائق ستغير تصور التهجين كله إلى حد ما لدى أولئك المؤمنين بتغير الأنواع بالفعل. [كتب في خطاب إلى السير جوزيف هوكر في أغسطس 1862 بخصوص الموضوع نفسه: «هل أوليفر في كيو؟ في الوقت الذي أستقر فيه في بورنموث، أشعر بلهفة شديدة لتفحص أي زهور نضرة من أي نباتات خثرية، وسأرسل إليه خطابا وأسأله عما إذا كانت توجد أي نباتات مزهرة.»
وقال مجددا في خطاب آخر إلى الصديق نفسه في أكتوبر: «إذا سألت أوليفر، فأعتقد أنه سيخبرك بأنني اكتشفت حالة غريبة في جنس الخثري، إنها تثير بالغ اهتمامي، وأرى أنها أغرب حالة تكاثر مسجلة بين النباتات أو الحيوانات؛ ألا وهي تزاوج ثلاثي حتمي بين ثلاثة نباتات خنثوية. أشعر بيقين من أنني أستطيع الآن إثبات صحة الحالة من عمليات التلقيح المتبادل العديدة التي أجريتها هذا الصيف.»
في مقال بعنوان «الحالة الثنائية الشكل في الأعضاء الجنسية لدى النباتات» (دورية «سيليمان جورنال»، 1862، المجلد الرابع والثلاثين، الصفحة 419)، ذكر الدكتور جراي أن الاختلاف البنيوي بين شكلي أنواع جنس أزهار الربيع عرف بالفعل في كتاب «نباتات أمريكا الشمالية»، بأنه حالة «ثنائية الشكل ثنائية المسكن». وقد أثار استخدام هذا المصطلح التعليقات التالية من والدي. ويشير الخطاب كذلك إلى مقال نقدي عن كتاب «تلقيح السحلبيات» في المجلد نفسه من دورية «سيليمان جورنال».]
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، 26 نوفمبر [1862]
عزيزي جراي
في اليوم الذي تلا خطابي الأخير مباشرة، وصل إلي خطابك المؤرخ بتاريخ العاشر من نوفمبر، والمقال النقدي الوارد في دورية «سيليمان جورنال» الذي كنت أخشى أن يكون قد ضاع. كنا جميعا مهتمين للغاية بالجزء السياسي من خطابك، ولسبب ما غريب، لا يشعر المرء أبدا بأن المعلومات والآراء المعروضة في الصحف آتية من مصدر حي؛ فهي تبدو ميتة، بينما كل ما تكتبه مفعم بالحياة. أثارت المقالات النقدية اهتمامي بعمق، لقد تهورت وسألتني عن رأيي؛ ولذا يجب أن تتحمل خطابا طويلا مني. أولا بخصوص الحالة الثنائية الشكل، صرت «حاليا» لا أستسيغ مصطلح «الثنائية الشكل الثنائية المسكن»؛ لأنني أظن أنه يعطي فكرة خاطئة تماما مفادها أن الظواهر مرتبطة بانفصال الجنسين. لا شك أن جنس أزهار الربيع يتسم بعدم تساوي الخصوبة في الشكلين، وأظن أن ذلك ينطبق على جنس الكتان؛ ولذا شعرت بأنني ملزم في الورقة البحثية المتعلقة بأزهار الربيع بأن أقول إنها ربما تكون خطوة نحو حالة ثنائية المسكن، وإن كنت أومن بعدم وجود أشكال ثنائية المسكن في الفصيلة الربيعية ولا الفصيلة الكتانية. لكن الأشكال الثلاثة في جنس الخثري تجعلني مقتنعا بأن الظاهرة ليست مرتبطة بالضرورة إطلاقا بأي نزعة إلى انفصال الجنسين. تبدو لي الحالة شبه متطابقة في النتيجة أو الوظيفة مع ما أسماه الراحل سي كيه سبرينجل بظاهرة «تفاوت أوقات البلوغ»، وهي ظاهرة شائعة جدا في المجموعات الخنثى حقا، وتعني تفاوت أوقات نضج حبوب اللقاح والميسم لدى كل زهرة. إذا كنت على صواب، فمن المستحسن جدا ألا يستخدم مصطلح «ثنائية المسكن»؛ لأن ذلك يستدعي إلى الذهن فورا تصورات انفصال الجنسين. ... حيرتني بشدة تعليقات أوليفر في دورية «ناتشورال هيستوري ريفيو» على حالة جنس أزهار الربيع، التي قال فيها إن انفصال الجنسين أكثر شيوعا في النباتات الأدنى رتبة من شيوعه في النباتات الأعلى رتبة، وهذا على النقيض تماما مما يحدث لدى الحيوانات. وهوكر يكرر هذا التعليق في مقاله النقدي لكتاب «تلقيح السحلبيات». يبدو أن ثمة قدرا كبيرا من الصواب فيما تقوله،
7
عن أنه ليس من المستبعد وجود تخصيص في سلالات «معينة» في الكائنات ذات التكوين البسيط، ولم يخطر ذلك ببالي. لا أشك إطلاقا في أن الحالة الخنثى هي الحالة الأصلية. ولكن كيف الحال في اقتران جنس الطحالب الخضراء الخيطية
Confervae ؛ أليس أحد الفردين هنا ذكرا والآخر أنثى في الحقيقة؟ يحيرني جدا هذا التناقض في الترتيبات الجنسية بين النباتات والحيوانات. هل يمكن أن يوجد أي قدر من الصواب في التفكير التالي: وفق حساب «تقريبي للغاية»، فإن حوالي ثلث «الأجناس البريطانية» من النباتات المائية ينتمي إلى الفئة الأحادية المسكن والفئة الثنائية المسكن حسب نظام لينيوس، أما النباتات الأرضية (بعد استبعاد الأجناس المائية) فلا ينتمي من أجناسها إلى هاتين الفئتين إلا واحد على ثلاثة عشر. هل تحمل هذه الحقيقة أي قدر من الصواب عموما؟ أثمة احتمال لأن تتطلب النباتات المائية - لأنها مقصورة على نطاق صغير أو مجتمع صغير من الأفراد - قدرا أكبر من التلقيح المتبادل، ولذا لديها جنسان منفصلان؟ ولكن بالعودة إلى نقطتنا، ألا يقول ألفونس دي كوندول إن النباتات المائية ككل بسيطة التكوين، مقارنة بالنباتات الأرضية؛ وأليس من الممكن أن يكون تعليق أوليفر عن انفصال الجنسين في النباتات البسيطة التكوين له علاقة ما بأنها غالبا ما تكون مائية؟ أم إن هذا كله هراء؟ ... يا له من إطراء هائل ذلك الذي أنهيت مقالتك به! يبدو أنك أنت وهوكر مصران على أن تصيباني بالغرور والخيلاء (إذا لم أكن قد أصبت بهما بالفعل) وأن تجعلاني وغدا لا يطاق.
مع خالص الشكر يا صديقي الصدوق الطيب
إلى اللقاء
سي داروين [تتضمن الفقرة التالية، المقتطفة من خطاب (بتاريخ 28 يوليو 1863) إلى البروفيسور هيلدبراند، إشارة إلى الاستقبال الذي لاقاه العمل المتعلق بالحالة الثنائية الشكل في فرنسا: «إنني سعيد للغاية بسماع أنك تتفحص طريقة التلقيح لدى السحلبيات الموجودة في بلدك، وأنا أشد سعادة بسماع أنك تجري تجارب على جنس الكتان. آمل بشدة أن تنشر نتائج هذه التجارب؛ لأن أحدا قال لي إن أبرز علماء النبات الفرنسيين في باريس قالوا إن ورقتي البحثية عن جنس أزهار الربيع عمل من وحي الخيال، وإن الحالة مستبعدة جدا إلى حد أنهم لم يؤمنوا بنتائجي.»]
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
19 أبريل [1864] ... تلقيت، منذ فترة قصيرة، صحيفة تتضمن تقريرا جيدا عن معشبتك ومكتبتك، وتلقيت قبل ذلك بفترة طويلة مقالك النقدي الممتاز عن ورقة «الفصيلة الربيعية» التي ألفها سكوت، وبعثت بها إليه في الهند؛ لأنه سيسعده جدا. سررت بشدة عندما رأيت فيها حالة جديدة من الحالات الثنائية الشكل (نسيت اسم النبات الآن للتو)؛ سأكون ممتنا إذا سمعت عن أي حالات أخرى؛ لأنني لم أزل مهتما بالموضوع. سوف أكون سعيدا جدا بتلقي بعض بذور نباتات لسان الحمل الثنائية الشكل الموجودة لديك؛ لأنني لا أستطيع التخلص من الظن بأنها تنتمي ولا بد إلى فئة مختلفة جدا مثل الزعتر الشائع.
8
كيف للرياح، التي تعد أداة التلقيح في نبات لسان الحمل، أن تلقح زهورا «ثنائية الشكل بصورة متبادلة» كزهور جنس زهور الربيع؟ هذا محال وفقا للنظرية، وفي مثل هذه الحالات حين تكون النظرية قد وضعها المرء بنفسه، أتبع أجاسي وأصرح قائلا «إن الطبيعة لا تكذب أبدا». وسأكون سعيدا جدا بتفحص أي نباتات لسان حمل ثنائية الشكل مجففة. الحق أنني سأكون ممتنا إذا تلقيت أيا من النباتات الثنائية الشكل المجففة ...
هل أثارت ورقتي البحثية عن جنس الخثري اهتمامك؟ أمضي ببطء شديد في العمل على كتابي الخاص بالتباين تحت تأثير التدجين؛ إذ أعمل فيه لمدة ساعتين يوميا.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 26 نوفمبر [1864] ... لا تعرف مدى سعادتي بأنك قرأت ورقتي البحثية عن جنس الخثري؛ كنت أظن أنك لن تحظى بمتسع من الوقت، وأنا أنظر إليك منذ سنوات طويلة على أنك جمهوري، ورأيك عندي أهم من رأي بقية الدنيا كلها. فمنذ أن اكتشفت الذكور المكملة في هدابيات الأرجل، لم أعمل على شيء أثار اهتمامي بقدر ما أثاره جنس الخثري. أخشى أن أكون قد حشوت الورقة بقدر أكبر مما ينبغي من المواد المتنوعة. ... أتلقى من حين إلى آخر خطابات تبين أن فرضية الانتقاء الطبيعي تحرز تقدما «كبيرا» في ألمانيا، وبعض التقدم بين الشباب في فرنسا. تلقيت للتو كتيبا من ألمانيا يحمل عنوانا إطرائيا هو: «هراء أصل الأنواع الدارويني»!
إلى اللقاء يا أعز أصدقائي القدامى
سي داروين
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
10 سبتمبر [1867؟] ... النقطة الوحيدة التي توصلت إليها هذا الصيف، وربما تثير اهتمامك، أن أزهار الأكسليب الشائع الموجودة في كل مكان، وبدرجة شيوع متفاوتة في إنجلترا، بالتأكيد أزهار هجينة بين أزهار الربيع الشائعة وأزهار الربيع العطرية، في حين أن أزهار الربيع الأكسليب
(حسب تسمية جاكوين)، التي لا توجد إلا في المقاطعات الشرقية، نوع مستقل مختلف تماما، ولا يمكن تمييزه تقريبا عن أزهار الأكسليب الشائع، إلا بأن كبسولة البذور طويلة بالنسبة إلى الكأس. أرى هذه حقيقة مزعجة بعض الشيء لكل المتخصصين المنهجيين في علم النبات ...
من تشارلز داروين إلى إف هيلدبراند
داون، 16 نوفمبر 1868
سيدي العزيز
كتبت رسالتي الأخيرة من لندن في عجالة شديدة لدرجة أنني نسيت تماما ما كنت أنوي قوله أساسا: ألا وهو أن أشكرك على مقالك النقدي القصير الممتاز في دورية «بوتانيشا تسايتونج» عن ورقتي البحثية المتعلقة بذرية النباتات الثنائية الشكل. الموضوع مبهم جدا لدرجة أنني لم أكن أتوقع أن يعلق أي أحد على ورقتي البحثية؛ ولذا فأنا سعيد جدا لأنك طرحت الموضوع أمام علماء التاريخ الطبيعي الألمان الممتازين الكثيرين.
من بين كل المؤلفين الألمان الذين قرأت أعمالهم (وإن كانوا ليسوا كثيرين)، فإن أسلوب كتابتك هو الأوضح، لكني لا أعرف ما إن كان قولي هذا يعد إطراء لمؤلف ألماني أم لا. [يشير الخطابان التاليان إلى الزهور «المقفلة الذاتية التلقيح» الصغيرة الشبيهة بالبراعم الموجودة في نبات البنفسج ونباتات كثيرة أخرى. إنها لا تتفتح؛ ولذا فهي ذاتية التلقيح بالضرورة:]
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 30 مايو [1862] ... ما مصير كتابي عن التباين؟ إنني منهمك في تجارب كثيرة. فأنا أعكف على تسلية نفسي بملاحظة أزهار جنس البنفسج (الفيولا) الصغيرة. لو كان أوليفر لديه وقت لدراستها،
9
فسيرى الحالة الغريبة (حسبما تبدو لي) والتي فهمتها بوضوح للتو؛ ألا وهي أن حبوب اللقاح «القليلة»، في هذه الزهور، لا تسقط عنها أبدا، ولا تترك خلايا المتك أبدا، لكنها تبعث أنابيب اللقاح الطويلة، التي تخترق الميسم. اليوم أخذت المتك بما يحويه من حبوب لقاح (صار فارغا الآن) عند أحد طرفيه، وحزمة من الأنابيب التي تخترق نسيج الميسم عند الطرف الآخر، ووضعت ذلك كله تحت المجهر دون أن أكسر الأنابيب، وأتساءل عما إذا كان الميسم يضخ مائعا ما داخل المتك ليثير حبوب اللقاح. إنها لحالة غريبة بعض الشيء من حالات الارتباط أن الأزهار الصغيرة في البنفسج العطري المزدوج مزدوجة؛ أي إنها لديها عدد كبير من حراشف دقيقة تمثل البتلات. ما أغرب هذه الزهور الصغيرة!
هل لديك متسع من الوقت لتقرأ سيرة هنزلو العزيز المسكين؟ لقد أثارت اهتمامي من أجل الرجل، بل حتى إنها رفعت من قدره في نظري، وهذا ما كنت أظنه غير ممكن ... [الجزء التالي مقتطف من الخطاب الذي ورد جزء منه بالأعلى في هذا الفصل، ويشير إلى مقالة الدكتور جراي عن الاختلافات الجنسية لدى النباتات:]
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
26 نوفمبر [1862] ... ستظن أنني أطلق أسخف النكات وأكثرها تناقضا ومشاكسة عندما أخبرك بأنني لا أستحسن مصطلحك «التلقيح المبكر» الذي أطلقته على نوعك الثاني من الحالة الثنائية الشكل؛ [أي، على تلقيح الزهور المقفلة الذاتية التلقيح]. وإذا لم تخني ذاكرتي، فإن حالة التويج، والميسم، وحبوب اللقاح مختلفة عن حالة الأجزاء في البرعم، ومن ثم فهي في حالة من التعديل الخاص. لكني أقسم أنني خجلان من نفسي لأنني أختلف للغاية بخصوص هذه المسألة مع من هم أفضل مني. النظرية «المؤقتة»
10
التي كونتها عن هذا النوع من الحالة الثنائية الشكل؛ لأسترشد بها في تجاربي ليس إلا، هي أن الأزهار «التامة» لا يمكن أن تلقح تلقيحا تاما إلا بواسطة الحشرات، وفي هذه الحالة تلقح تلقيحا متبادلا بكثرة، لكن الأزهار لا تشهد أحيانا زيارات كافية من الحشرات، لا سيما في أوائل الربيع؛ ولهذا تتشكل الأزهار الصغيرة غير التامة الذاتية التلقيح لتكفل توفير كمية كافية من البذور للأجيال الموجودة. إن أنواع جنس الفيولا كانينا عقيمة عندما لا تزورها الحشرات، أما عندما تزورها الحشرات بكثرة، فتكون كمية وفيرة من البذور. أستنتج من بنية ثلاثة أو أربعة من أشكال أزهار فصيلة البلسميات أن هذه الأشكال تحتاج إلى الحشرات، أو على الأقل لديها تكيف واضح مع زيارات الحشرات يكاد يضاهي التكيف الموجود لدى السحلبيات. لدي بعض أزهار من نوع الأكصليس الحامض جاهزة في الأصص لأجري عليها تجارب في الربيع المقبل، وأخشى أن يؤدي ذلك إلى اضطراب في نظريتي الصغيرة ... وتكون أزهار نوع الجريس الكارباتي، كما اكتشفت في هذا الصيف، عقيمة تماما إذا استبعد تأثير الحشرات. أما أزهار نوع سبيكولاريا سبيكولوم، فتكون خصبة جدا عندما تكون مقفلة على نفسها، ويبدو لي أن أحد أسباب ذلك هو تكرار انقفال الزهرة؛ إذ تتصل طيات التويج الزاوية المطوية نحو الداخل بفلوق الميسم المفتوح، وفي أثناء هذه العملية تدفع حبوب اللقاح من خارج الميسم إلى سطحه. الآن هل تستطيع أن تخبرني بما إذا كانت أزهار نوع سبيكولاريا بيرفولياتا تغلق زهرتها مثل أزهار نوع سبيكولاريا سبيكولوم، مع طي طياتها الزاوية نحو الداخل؟ إذا كانت كذلك، فأنا منتش دون «ترنح» مخيف. هل الزهور «غير التامة» في زهور جنس السبيكولاريا الموجودة لديك هي الزهور المبكرة أم التي نمت متأخرا؟ وهل هي مبكرة جدا أم متأخرة جدا؟ من الجميل أن يدرك المرء أهمية قفل زهور نوع سبيكولاريا سبيكولوم. [نشر كتاب «الأشكال المختلفة للزهور في نباتات من النوع نفسه» في يوليو، وفي يونيو 1877، قال في خطاب إلى البروفيسور كاروس بخصوص الترجمة: «كتابي الجديد ليس طويلا؛ فهو يبلغ 350 صفحة، معظمها من النوع الكبير، ويحوي خمس عشرة رسمة توضيحية بسيطة مطبوعة من قوالب خشبية. كل بروفات الطباعة مصححة عدا الفهرس؛ لذا سينشر قريبا. ... لا أظن أنني سأنشر أي كتب أخرى، لكن ربما سأنشر بضع أوراق بحثية أخرى. لا أطيق البقاء عاطلا عن العمل، لكن الرب وحده يعلم ما إذا كنت سأقدر على إنجاز أي عمل جيد آخر.»
المقال النقدي المشار إليه في الخطاب التالي وارد في الصفحة 445 من عدد عام 1878 من دورية «نيتشر»:]
من تشارلز داروين إلى دبليو ثيسلتون داير
داون، 5 أبريل 1878
عزيزي داير
قرأت للتو في دورية «نيتشر» المقال النقدي عن كتاب «الأشكال المختلفة للزهور في نباتات من النوع نفسه»، وأنا متيقن من أنك كاتبه. أتمنى من كل قلبي أن يكون الكتاب جديرا ولو بربع الإشادة التي تنهال بها عليه. أثارت بعض تعليقاتك بالغ اهتمامي ... أشكرك من صميم قلبي على تعاطفك الكريم والطيب للغاية، الذي يقدم خدمة حقيقية إلى رجل في وقت يشعر فيه بإنهاك شديد مثلما أشعر حاليا في ظل العمل طوال اليوم؛ لذا فإلى اللقاء.
سي داروين
هوامش
الفصل الثالث عشر
نشر كتابي «النباتات المتسلقة»
و«النباتات الآكلة للحشرات»
[يذكر والدي في «سيرته الذاتية» (الواردة في الجزء الأول من هذا الكتاب) أن ما دفعه إلى الاهتمام بموضوع النباتات المتسلقة كانت قراءة ورقة الدكتور جراي البحثية «مذكرة عن الحركة الالتفافية لمحالق النباتات».
1
يبدو أن هذه المقالة قرئت في عام 1862، ولكن لا يسعني إلا تخمين تاريخ الخطاب الذي يطلب فيه معلومات الإحالة إليها؛ لذا لا يمكن تحديد تاريخ بدايته هذا العمل بدقة.
من المؤكد أنه كان يعمل عليه بالفعل في يونيو 1863، وأرسل خطابا إلى السير جيه دي هوكر طالبا معلومات بخصوص المنشورات السابقة عن الموضوع؛ لأنه لم يكن يعرف آنذاك بكتابي بالم وهوجو فون مول عن النباتات المتسلقة، اللذين نشرا كلاهما في عام 1827.]
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 25 [يونيو] [1863]
عزيزي هوكر
أعكف على ملاحظة حقيقة صغيرة فاجأتني بعناية شديدة، وأريد أن أعرف منك ومن أوليفر ما إذا كانت تبدو جديدة بالنسبة إليك أو غريبة، فلتخبرني بهذا وقتما ترسل خطابا؛ إنها حقيقة تافهة جدا؛ لذا لا ترد من أجلها خصوصا.
حصلت على أحد نباتات الخيار البري لألاحظ مدى قابلية الاستثارة لدى المحالق، التي وصفها آسا جراي، والتي تعد واضحة جدا بالطبع. ولأن النبات موجود في غرفة مكتبي، فوجئت عندما وجدت أن الجزء العلوي من كل فرع (أي الساق الموجودة بين الورقتين العلويتين باستثناء الطرف النامي) يلتف ببطء و«استمرار» مكونا دائرة في مدة تتراوح بين ساعة ونصف وساعتين، وأحيانا ما يلتف مرتين أو ثلاثة، ثم ينحل من التوائه بالمعدل نفسه ويلتوي في الاتجاه المعاكس. وعادة ما يظل ساكنا نصف ساعة قبل أن يعود إلى وضعه السابق. ولا تصبح الساق دائمة الالتواء. أما جزء الساق الواقع أسفل الجزء الملتوي فلا يتحرك إطلاقا، مع أنه ليس مربوطا. تظل الحركة مستمرة طوال النهار وطوال الجزء الأول من الليل. ولا علاقة لها بالضوء؛ لأن النبات يلتوي مبتعدا عن الضوء بالسرعة نفسها التي يلتوي بها نحوه. لا أعرف ما إذا كانت هذه ظاهرة شائعة أم لا، لكنها حيرتني بشدة عندما بدأت ألاحظ ظاهرة قابلية الاستثارة لدى المحالق. لا أقول إن هذه هي الغاية النهائية، لكن النتيجة جميلة؛ لأن النبات يمتد ملتفا كل ساعة ونصف أو ساعتين مكونا دائرة يتراوح قطرها بين قدم واحدة وعشرين بوصة (على حسب طول الساق المنحنية وطول المحلاق)، وعلى الفور يلمس المحلاق أي شيء يستحوذ عليه بسبب حساسيته؛ لقد قال بستاني ذكي من جيراني، رأى النبات على منضدتي الليلة الماضية: «أعتقد يا سيدي أن المحالق تستطيع الرؤية؛ لأنني حيثما وضعت النبات، يكتشف أي عصا على مقربة كافية منه». أعتقد أن الكلام الوارد أعلاه يفسر ذلك؛ أي إن النبات يظل يمتد ملتفا ببطء. معنى هذا أن المحالق لديها شيء من الإدراك؛ لأنها لا يمسك بعضها ببعض عندما تكون صغيرة.
مع خالص مودتي
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 14 يوليو [1863]
عزيزي هوكر
أستمتع جدا بمحالقي؛ هذه بالضبط هي نوعية العمل التافه الذي يناسبني، ولا يستغرق وقتا بل يريحني في أثناء الكتابة. لذا فهلا تفكر فقط فيما إذا كنت تعرف أي نبات ذي محالق تستطيع أن تعطينيه أو تقرضنيه، أو ربما نبات يمكنني شراؤه، على أن يكون فيه سمة لافتة جديرة بالملاحظة بأي طريقة، سواء تطوره، أو بنيته الغريبة أو المميزة، أو حتى غرابة موضعه في الترتيب الطبيعي. لقد رأيت، أو أستطيع أن أرى، فصيلة القرعيات وجنس الباسيفلورا والأنواع متسلق فرجينيا، وسيسوس جافانا، والبازلاء الشائعة والبازلاء الأبدية. ما أغرب تنوع قابلية الاستثارة لدى المحالق (لا أقصد الحركة العفوية، التي كتبت عنها من قبل وكنت على صواب فيما كتبته، كما يتضح بمزيد من الملاحظة)؛ فعلى سبيل المثال، وجدت أن الضغط على طرف المحلاق في نباتات فصيلة القرعيات ضغطة خفيفة بين الإبهام والسبابة يسبب حركة فورية، لكن مثل هذه الضغطة لا تثير أي حركة لدى نباتات نوع سيسوس جافانا. السبب أن النباتات الأولى فيها جانب واحد فقط قابل للاستثارة (الجانب المقعر)، في حين أن كلا الجانبين قابل للاستثارة في النباتات الثانية؛ ولذلك إذا أثرت جانبين «متقابلين» في الوقت نفسه، فلن تنشأ حركة، ولكن عند لمس فرعي المحلاق بقلم رصاص في أي موضع على الإطلاق، ستحدث حركة نحو تلك النقطة؛ لذا أستطيع تشكيل الفرعين في أي شكل أريده، بمجرد لمسة ...
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، 4 أغسطس [1863]
أدين لك بموضوعي المفضل الحالي؛ أي المحالق؛ فخاصية قابليتها للاستثارة جميلة، وهي جميلة في كل تعديلاتها بقدر جمال أي شيء في السحلبيات. بخصوص الحركة «العفوية» (غير المعتمدة على اللمس) للمحالق وأجزاء الساق العلوية الواقعة بين العقد، ذهلت بعض الشيء بسؤالك الذي قلت فيه: «أليست معروفة جيدا؟» فأنا لا أستطيع العثور على أي شيء عنها في أي كتاب موجود لدي ... صحيح أن الحركة العفوية للمحالق ليست معتمدة على حركة أجزاء الساق العلوية الواقعة بين العقد، لكنهما تتحركان معا بتناغم وتلتفان مكونتين دائرة لتستطيع المحالق الإمساك بعصا ما. لذا ففي النباتات المتسلقة (التي ليس لديها محالق) التي فحصت حتى الآن، تستمر أجزاء الساق العلوية الواقعة بين العقد ليلا ونهارا في الامتداد ملتفة في اتجاه واحد ثابت. من المدهش مشاهدة نباتات الفصيلة الدفلية بسيقان طولها 18 بوصة (متجاوزة بذلك طول العصا الداعمة) تبحث باستمرار عن شيء لتتسلقه. عندما تلتقي الساق بعصا، توقف الحركة عند هذه النقطة، لكنها تظل مستمرة في الجزء العلوي؛ لذا فإن ظاهرة التسلق لدى كل النباتات التي فحصت إلى الآن ليست سوى نتيجة بسيطة للحركة الدائرية العفوية التي تتحركها أجزاء الساق العلوية الواقعة بين العقد. أرجو أن تقول لي هل نشر أي شيء عن هذا الموضوع من قبل؟ فأنا أكره نشر الموضوعات القديمة، لكني لن أندم إطلاقا على عملي لو اتضح أنه قديم ونوقش سلفا بالفعل؛ لأنه أمتعني جدا ...
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
28 مايو 1864 ... ذكر رجل أيرلندي نبيل على فراش الموت أنه يستطيع أن يقول بضمير مرتاح إنه لم يحرم نفسه من أي لذة طول حياته، وأنا أستطيع القول بضمير مرتاح إنني لم أتردد قط في إزعاجك، وها أنا ذا سأفعل مجددا. هل سافرت إلى الجنوب، وهل يمكنك أن تقول لي ما إذا كانت الأشجار، التي تتسلقها نباتات بيجونيا كابريولاتا، مغطاة بالطحالب أم الحزاز الخيطي أم التيلاندسيا؟
2
أسأل لأن محالقها تكره العصي البسيطة، ولا يعجبها اللحاء الخشن، لكنها تسر بالصوف أو الطحالب. فهي تلتصق بطريقة غريبة من خلال تكوين أقراص صغيرة، مثل جنس الأمبيلوبسيس ... بالمناسبة، سأرفق بعض العينات، وإذا كنت ترى الأمر يستحق العناء، تستطيع أن تضعها تحت المجهر البسيط. إن التكيف المميز الذي يتجلى في بعض المحالق لافت للنظر للغاية؛ فمحالق أزهار المجد التشيلي
Eccremocarpus scaber
لا تحب العصي، وتتجاهل خيوط الصوف، ولكن إذا أعطيتها حزمة من سيقان العشب، أو حزمة من شعيرات جامدة منتصبة، فستلتف حولها وتمسك بها بإحكام.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 10 يونيو [1864] ... قرأت الآن كتابين ألمانيين، وكل ما أعتقد أنه كتب عن النباتات المتسلقة؛ فقد اتقدت حماستي عندما وجدت أن لدي قدرا كبيرا من المادة الجديدة. هذا غريب، لكني أظن حقا أن أحدا لم يشرح النباتات الملتفة البسيطة. ألهبت تلك الأعمال حماستي، وجعلتني متشوقا للحصول على النباتات التي خصت بالذكر فيها. سأكون ممتنا جدا للحصول على النباتات التي تذكرها. أرسلت خطابا إلى فيتش طالبا فيه نباتات صغيرة السن من جنسي النيبينثيز والفانيلا (التي أعتقد أنها ستكون حالة عظيمة، وإن كانت من النباتات التي تتسلق بجذورها)، وإذا لم أستطع شراء نبات صغير السن من جنس الفانيلا، فسأطلبه منك. لقد طلبت أحد نباتات السرخس ذي الأوراق المتسلقة المنتمية لجنس الليجوديوم. كل هذا العمل المتعلق بالنباتات المتسلقة سيؤلم ضميري؛ لأنني كنت أظن أنني أستطيع العمل بجد أكبر.
3 [واصل إجراء ملاحظاته على النباتات المتسلقة في أثناء مرضه المطول الذي عاناه في خريف عام 1863، وفي الربيع التالي. وأرسل خطابا إلى السير جيه دي هوكر، في مارس 1864 على ما يبدو، قائلا فيه: «صحتي أفضل حالا بكل تأكيد منذ عدة أيام، وما أشدد عليه بكل قوة (بغض النظر عما يقوله الأطباء) أن عقلي أقوى بكثير، وأنني لم أعد أشعر بالعديد من الأحاسيس البشعة. الصوبة الزراعية تمنحني تسلية كبيرة، وهي تسلية أدين لك بها؛ لأنني أستمتع بملاحظة الأوراق والنباتات الغريبة الكثيرة من كيو ... الطريقة الوحيدة التي أستطيع العمل بها أن ألاحظ المحالق والنباتات المتسلقة؛ فهذا لا يتعب عقلي الواهن. اطلب من أوليفر أن يلقي نظرة فاحصة سريعة على الأسئلة المرفقة، (ولتلق عليها نظرة بنفسك)، وليسل رجلا عليلا خائر القوى من إخوته في تخصص علم التاريخ الطبيعي بالإجابة عن أي أسئلة يستطيع الإجابة عنها. إذا تسكعت عبر صوبك في أي وقت، فتذكرني أنا والنباتات المتسلقة.»
في 29 أكتوبر 1864، كتب خطابا إلى الدكتور جراي قائلا: «لم أستطع مقاومة القيام بالقليل من العمل في ورقتي البحثية، أو بالأحرى كتابي الصغير بناء على حجمها، عن النباتات المتسلقة، التي تعد بمثابة ابنتك بالمعمودية، والتي أقسم أنني سأجعل شخصا ما ينسخها وإلا فلن أتوقف أبدا. كانت هذه النوعية من العمل جديدة علي، وسررت بمعرفة أن الاقتناع التام بتغير الأنواع دليل إرشادي ممتاز جدا لعمليات الملاحظة.»
وفي 19 يناير 1865، قال في خطاب إلى السير جيه دي هوكر: «صحيح أننا الآن في أيام عمل، لكني أحاول الحصول على عطلة مدتها يوم؛ لأنني أتممت ورقتي البحثية عن النباتات المتسلقة يوم أمس وأرسلتها. لم أكن أفعل شيئا طوال الأيام العشرة الماضية سوى تصحيح جمل عنيدة، وصرت أكره الموضوع برمته.»
ويتضمن خطاب إلى الدكتور جراي، بتاريخ 9 أبريل 1865، بضع كلمات عن الموضوع: «بدأت تصحيح بروفات طباعة ورقتي البحثية عن «النباتات المتسلقة». وأظن أنني سأستطيع إرسال نسخة إليك في غضون أربعة أو خمسة أسابيع. أظن أنها تتضمن قدرا كبيرا من النقاط الجديدة وبعض النقاط الشائقة، لكنها طويلة جدا جدا إلى حد أن أحدا لن يقرأها أبدا. بالرغم من ذلك، فلن تكون والدا طبيعيا إذا لم «تتصفحها»؛ لأنها بمثابة ابنتك.»
قرأ الدكتور جراي الورقة البحثية، واستحسنها أيضا، مما أسعد والدي بشدة، كما يتضح في المقتطفات التالية: «سررت جدا بتلقي خطابك المؤرخ بتاريخ 24 يوليو. ولأنني لا أستطيع فعل شيء الآن، أقضي وقتي متسكعا بين موضوعات قديمة، وقد غمرني استحسانك لورقتي البحثية عن النباتات المتسلقة بارتياح بالغ «جدا». أجريت ملاحظاتي عندما لم يكن بوسعي فعل شيء آخر، واستمتعت جدا بها، لكني دائما ما كنت أشك فيما إذا كانت جديرة بالنشر. أعترض على التعليق الذي أشار إلى عدم ضرورة الإسهاب بالتفصيل في شرح أن اللفات اللولبية في المحالق «العالقة» تمتد في اتجاهين متعاكسين؛ لأن هذه الحقيقة لطالما حيرتني، ووجدت أنه من الصعب جدا أن أشرح السبب لشخصين أو ثلاثة .» (15 أغسطس 1865.) «تلقيت يوم أمس مقالتك
4
عن النباتات المتسلقة، وقد غمرتني بسعادة استثنائية، بل تكاد تصل إلى حد البلاهة. إنك تنهال علي بإطراء رائع، وكما قلت لزوجتي للتو، أظن أن أصدقائي يتصورون بالتأكيد أنني أحب المديح؛ إذ يعطونني منه مثل هذه الجرعات الكبيرة. دائما ما أعجب ببراعتك في المقالات النقدية أو النبذات، وقد كتبت هذه المقالة بامتياز وعرضت فيها جوهر ورقتي كله ... تلقيت خطابا من عالم حيوان ماهر في جنوب البرازيل، إف مولر، الذي تحمس جدا لملاحظة النباتات المتسلقة، وهو يقدم لي بعض الحالات الشائقة من النباتات المتسلقة «بالأغصان»، وهي حالات تتحول فيها الأغصان إلى محالق، ثم تواصل النمو وتخرج أوراقا وأغصانا جديدة، ثم تفقد طابعها المحلاقي.» (أكتوبر 1865.)
أعيد نشر الورقة البحثية المتعلقة بالنباتات المتسلقة في عام 1875 في صورة كتاب منفصل. وكان المؤلف قد عجز عن الاعتناء بأسلوب المقالة الأصلية بالقدر المعتاد منه؛ لأنها كتبت في فترة من المرض المستمر، واتضح حينئذ أن الأسلوب يحتاج إلى تعديلات كثيرة. أرسل خطابا إلى السير جيه دي هوكر (بتاريخ 3 مارس 1875) قال فيه: «من حسن حظ المؤلفين في العموم أنهم لا يحتاجون إلى بذل هذا الجهد البشع في مجرد تحسين صياغة ما يكتبونه.» وقال في خطاب إلى السيد موراي في سبتمبر: «التصحيحات كثيرة وشاقة في كتاب «النباتات المتسلقة»، لكني مع ذلك راجعت المخطوطة والأوراق القديمة ثلاث مرات بتأن.» نشر الكتاب في سبتمبر 1875، فصدرت منه طبعة قوامها 1500 نسخة، وحقق مبيعات جيدة جدا، وطبعت 500 نسخة إضافية في يونيو من العام التالي.]
كتاب «النباتات الآكلة للحشرات» [في صيف عام 1860، كان يمكث في بيت الآنسة ويدجوود، أخت زوجته، القائم في غابة آشداون، وكتب من هناك خطابا (بتاريخ 29 يوليو) إلى السير جوزيف هوكر، قال فيه: «لا أفعل شيئا هنا مؤخرا، لكني في البداية كنت أسلي نفسي بإجراء بضع ملاحظات على قوة الإمساك بالحشرات لدى نباتات جنس الندية، ولا بد أن أستشيرك في وقت ما بخصوص ما إذا كان «هرائي» يستحق أن أرسله إلى الجمعية اللينية أم لا.»
وفي أغسطس قال في خطاب إلى الصديق نفسه: «سأرسل بكل امتنان ملاحظاتي عن نباتات جنس الندية عندما ينسخها ناسخي؛ فالموضوع أمتعني حين لم يكن لدي شيء أفعله.»
تحدث في «سيرته الذاتية» (الواردة في الجزء الأول من هذا الكتاب) عن الطبيعة العامة لهذه التجارب المبكرة. فقد لاحظ التصاق الحشرات بأوراق النبات، وعندما وجد أن الذباب وغيره من الحشرات الأخرى التي توضع على الغدد اللاصقة تمسك وتضم بإحكام، ظن أن الأوراق مكيفة لإمداد النبات بالمواد الغذائية النيتروجينية. لذا جرب التأثير الذي تحدثه العديد من السوائل النيتروجينية في الأوراق، وقد أكدت النتائج صحة ظنونه إلى حد ما. وفي سبتمبر 1860، أرسل خطابا إلى الدكتور جراي قائلا: «استمتعت للغاية بالعمل على جنس الندية؛ فالحركات شائقة حقا، والطريقة التي تكتشف بها الأوراق بعض المركبات النيتروجينية مذهلة. سوف تضحك على ذلك، لكني في الوقت الحالي أومن تماما (بعد تجارب لا حصر لها) بأنها تكتشف ما مقداره 1 / 2880 حبة من نترات الأمونيا، وتتحرك تبعا لذلك، لكن مركب كلوريد الأمونيا ومركب كبريتات الأمونيا يضعفان المهارة الكيميائية لدى الأوراق؛ ولذا لا تستطيع اكتشاف النيتروجين في هذين الملحين على الإطلاق! لقد بدأت هذا العمل على جنس الندية في سياق مسألة «التدرج»؛ لأنه يلقي بعض الضوء على جنس خناق الذباب.»
وفي وقت لاحق في الخريف، اضطر مجددا إلى مغادرة منزله متجها إلى إيستبورن، حيث واصل عمله على جنس الندية. وكان العمل جديدا عليه تماما لدرجة أنه واجه صعوبات في تحضير المحاليل، وصار متحيرا بخصوص مقادير السوائل والمواد الصلبة، وما إلى ذلك. وقد أرسل خطابا فيه تقرير عن التجارب إلى أحد أصدقائه، وهو الراحل السيد إي كريسي الذي ساعده في مسألة الأوزان والمقادير. ويوضح المقتطف التالي (المأخوذ من خطاب بتاريخ 2 نوفمبر 1860) بالأمثلة ما كان يطبقه غالبا على أبحاثه من احتياطات استثنائية: «تفحصت كل غدة وشعرة على الورقة عموما قبل إجراء التجارب، لكن خطر ببالي أنني ربما أؤثر بذلك في الورقة بطريقة ما، رغم أن ذلك شبه مستحيل؛ إذ تفحصت تلك التي وضعتها في الماء المقطر (الماء نفسه المستخدم لإذابة كربونات الأمونيا) بالقدر نفسه من العناية. بعد ذلك، قطعت أربع أوراق (دون أن ألمسها بأصابعي)، ووضعتها في ماء عادي، وقطعت أربع أوراق أخرى ووضعتها في المحلول الضعيف، وبعدما تركتها ساعة ونصفا، تفحصت كل شعرة على الأوراق الثماني، فوجدت عدم حدوث تغيير في الأوراق الأربع التي نقعت في الماء، أما الأوراق التي كانت في الأمونيا، فقد تأثرت كل غدة وشعرة فيها.
كنت قد قست كمية المحلول الضعيف، وأحصيت الغدد التي امتصت الأمونيا، وتأثرت بوضوح، وقد أقنعتني النتيجة بأن كل غدة لا يمكن أن تكون قد امتصت أكثر من وزن مقداره 1 / 64000 حبة أو 1 / 65000 حبة. جربت عدة تجارب أخرى وكلها تشير إلى النتيجة نفسها. وتدفعني بعض التجارب إلى اعتقاد أن الأوراق الحساسة جدا تتأثر بجرعات أصغر بكثير. فكر في مدى ضآلة كمية الأمونيا التي يمكن أن يحصل عليها نبات ينمو في تربة فقيرة، لكنه يحظى بالتغذية رغم ذلك. أرى أن الجزء المدهش حقا أن التأثير ينبغي أن يكون مرئيا، وليس تحت قوة تكبيرية عالية جدا؛ لأنني بعدما جربت قوة تكبيرية عالية، ارتأيت أنه من الأسلم ألا نأخذ في الحسبان أي تأثير ليس مرئيا بوضوح تحت عدسة شيئية ذات قياس مقداره 2 / 3 وعدسة عينية متوسطة. التأثير الذي تحدثه كربونات الأمونيا أنها تفصل السائل المتجانس في الخلايا إلى غيمة من حبيبات وسائل عديم اللون، ومن ثم تتحد الحبيبات مكونة كتلا أكبر، وتتحرك حركات غريبة للغاية طوال ساعات؛ إذ تتجمع وتنقسم وتتجمع، بلا توقف. لا أعرف ما إذا كنت ستهتم بهذه التفاصيل المكتوبة بأسلوب رديء، لكني متيقن من أنني ملزم بتلبية طلبك، بعد كل العناء الشديد الكريم جدا الذي تكبدته.»
وعند عودته إلى المنزل، أرسل خطابا إلى السير جيه دي هوكر (بتاريخ 21 نوفمبر 1860)، قائلا: «أعمل كالمجنون على جنس الندية. هاك حقيقة أكيدة بقدر تأكد وجودك حيثما أنت، مع أنك لن تصدقها، ومفادها أن وضع جزء صغير جدا من شعرة، يبلغ وزنه 1 / 78000 حبة، على إحدى الغدد سيجعل «إحدى» الشعرات الحاملة للغدد لدى نباتات الندية تنحني نحو الداخل، وسيغير حالة محتويات جميع الخلايا في سويقة الغدة.»
وبعد ذلك ببضعة أيام، قال في خطاب إلى لايل: «سأنهي مخطوطتي عن جنس الندية، التي ستستغرق مني أسبوعا، ويجب أن أنهيها لأن اهتمامي بهذا الجنس في الوقت الحالي أكبر من اهتمامي بأصل كل الأنواع في الدنيا. بالرغم من ذلك، فلن أنشر شيئا عن هذا الجنس حتى العام المقبل؛ لأنني مرعوب ومذهول من نتائجي. أعلنها حقيقة أكيدة أن أحد الأعضاء حساس جدا للمس لدرجة أن وزنا أقل ثمان وسبعين مرة من ذلك الذي يغير أفضل توازن كيميائي؛ أي 1 / 1000 حبة، يكفي لإحداث حركة واضحة. أليس غريبا أن يكون نبات ما أكثر حساسية بكثير للمس من أي عصب في جسم الإنسان؟ ومع ذلك فأنا متيقن تماما من أن هذا صحيح. عندما أكون منهمكا في دراسة موضوع مهووس به، لا أستطيع مقاومة إخبار أصدقائي بما أحرزه فيه من تقدم إيجابي؛ لذا يجب أن تعذرني.»
تواصل العمل باعتباره مهمة أداها وقت العطلة حين كان في بورنموث، حيث كان يمكث في خريف عام 1862. وتجدر الإشارة إلى أن ما يدور في الخطاب التالي من نقاش حول وجود «مادة عصبية» في نباتات الندية مهم فيما يتعلق بالأبحاث التي أجريت مؤخرا عن اتصال البروتوبلازم من خلية إلى خلية:]
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
كليف كوتيدج، بورنموث،
26 سبتمبر [1862]
عزيزي هوكر
لا تقرأ هذا الخطاب إلى أن تحظى بمتسع من وقت الفراغ. وإذا حانت هذه اللحظة المباركة على الإطلاق، فسوف أسعد جدا بمعرفة رأيك في موضوعه. دفعت إلى رأي مفاده أن نباتات الندية لا بد أن لديها مادة منتشرة فيها وبينها اتصال عضوي، أشبه جدا بالمادة العصبية لدى الحيوانات. عندما تزود غدد إحدى الحليمات أو أحد المجسات في وضعها الطبيعي بسائل نيتروجيني وبعض المواد المحفزة الأخرى، أو عندما تحمل بوزن خفيف للغاية، أو عندما تضرب عدة مرات بإبرة، تنحني السويقة بالقرب من قاعدتها في غضون أقل من دقيقة. وبذلك تنتقل هذه المواد المحفزة المختلفة إلى أسفل السويقة بوسيلة ما، و (هذه الوسيلة) لا يمكن أن تكون الاهتزاز؛ لأن قطرات السائل التي توضع في سكون تام تسبب الحركة، ولا يمكن أن تكون امتصاص السائل من خلية إلى خلية؛ لأنني أرى أن وتيرة الامتصاص وإن كانت سريعة، أبطأ بكثير من ذلك، ثم إن الانتقال يكون فوريا في نباتات خناق الذباب، وسوف يقودنا القياس على الحيوانات إلى أن الانتقال يحدث عبر مادة عصبية. فبعدما فكرت في قوة الامتصاص السريعة في الغدد، والحساسية الفائقة لدى العضو كله، والحركة الواضحة التي تحدثها محفزات متنوعة، جربت عددا من المواد التي ليست كاوية ولا أكالة ... لكن معظمها معروف بأنه يسبب تأثيرا ملحوظا على المادة العصبية لدى الحيوانات. سترى النتائج في الورقة المرفقة. ولأن المادة العصبية لدى الحيوانات المختلفة تتأثر بطرق مختلفة عند تعرضها للسموم نفسها، لا يتوقع المرء حدوث التأثير نفسه لدى النباتات والحيوانات، إنما يتوقع ظهور تأثير مشابه بعض الشيء لدى النباتات في حالة وجود مادة عصبية منتشرة داخلها. وهذا صحيح جزئيا. وعند النظر إلى هذه التجارب، مع التعليقات التي ذكرت سابقا عن وظائف الأجزاء، لا أستطيع تجنب استنتاج أن نباتات الندية لديها مادة مشابهة للمادة العصبية في التكوين والوظيفة، وإن كان ذلك بقدر ما على الأقل. الآن أخبرني برأيك، بقدر ما تستطيع أن تستنتج من ملخصي الذي أوردته؛ صحيح أنه يتعين إجراء تجارب أكثر بكثير، لكني في سنوات سابقة جربت أن أضيف إلى الورقة كلها، بدلا من الإضافة إلى غدد منفصلة، مواد غير ضارة مثل السكر والصمغ والنشا وما إلى ذلك، ولم تحدث أي تأثير.
5
سيساعدني رأيك في أن أقرر، في وقت ما في المستقبل، أن أستأنف العمل على هذا الموضوع. ما كنت لأظن أن الأمر يستحق المحاولة، ولكن لم يكن لدي أي شيء أفعله على الإطلاق.
لك بالغ إخلاصي يا عزيزي هوكر
سي داروين
ملحوظة:
سنعود إلى المنزل يوم الإثنين الموافق 28 من الشهر . الشكر للرب! [تلا ذلك انقطاع طويل في عمله على النباتات الآكلة للحشرات، ولم يشغله الموضوع جديا مرة أخرى حتى عام 1872. بالرغم من ذلك، توضح فقرة واردة في خطاب إلى الدكتور آسا جراي، كتب في عام 1863 أو 1864، أن المسألة لم تغب تماما عن باله في هذه الفترة من الانقطاع المؤقت: «أؤكد لك أنك ظالم في حكمك على جدارة نباتات الندية التي أحبها؛ فهي نباتات رائعة، أو بالأحرى حيوانات فطنة جدا. سأظل أدافع عنها إلى يوم موتي. الرب وحده يعلم ما إذا كنت سأنشر كومة التجارب التي أجريتها عليها أصلا، أم لا.»
يشير في دفتر يومياته إلى أن بروفة الطباعة الأخيرة لكتاب «التعبير عن العواطف» قد انتهت في 22 أغسطس 1872، وأنه بدأ العمل على جنس الندية في اليوم التالي.]
من تشارلز داروين إلى آسا جراي [سيفيناوكس]، 22 أكتوبر [1872] ... عملت بجد شديد طوال أربعة أسابيع أو خمسة ثم خارت قواي؛ لذا استأجرنا بيتا بالقرب من سيفيناوكس لمدة ثلاثة أسابيع (حيث أمكث الآن) للحصول على راحة تامة. لست أقوى على العمل الآن إلا قليلا، ويجب أن أؤجل الجزء المتبقي من العمل على جنس الندية إلى الربيع المقبل؛ لأن نباتاتي تموت. إنه موضوع لا ينتهي، وعلي اختصاره؛ ولذا لن أعمل كثيرا على جنس خناق الذباب. النقطة الأشد إثارة لاهتمامي هي تعقب «الأعصاب» (!) التي تتبع حزم الأوعية. فبإحداث ثقب صغير بمشرط حاد عند نقطة معينة، أستطيع أن أشل نصف الورقة، فلا تحدث حركة عند إثارة النصف الآخر. هذا شبيه تماما بقطع النخاع الشوكي لدى ضفدع؛ إذ لا يمكن حينها إرسال إشارة منبهة من الدماغ أو الجزء الأمامي من العمود الفقري إلى السيقان الخلفية، ولكن إذا أثيرت هذه السيقان، فستتحرك بحركة انعكاسية لا إرادية. أجد أن نتائجي القديمة المتعلقة بالحساسية المذهلة لدى الجهاز العصبي (؟!) عند نباتات الندية تجاه محفزات متنوعة قد تأكدت تماما وأضيف إليها مزيد من التفاصيل ... [سرعان ما قاده عمله على موضوع الهضم في نباتات الندية ونقاط أخرى متعلقة بوظائف أعضاء النبات إلى مناطق لا يعرف عنها الكثير، وهنا استفاد جدا من النصائح والمساعدة التي تلقاها من الدكتور بردون ساندرسون:]
من تشارلز داروين إلى جيه بردون ساندرسون
داون ، 25 يوليو 1873
عزيزي الدكتور ساندرسون
أود بشدة أن أحدثك قليلا عن عملي الذي أجريته مؤخرا على جنس الندية؛ لأريك أنني استفدت من اقتراحاتك، ولأسألك سؤالا أو اثنين. (1)
رائعة حقا تلك السرعة والجودة اللتان يتمتع بهما جنسا الندية وخناق الذباب في إذابة المكعبات الصغيرة من الزلال والجيلاتين. لقد أبقيت مكعبات بالحجم نفسه على طحالب مبللة لإجراء مقارنة. عندما كنت هنا، نسيت أنني كنت قد جربت الجيلاتين، لكن الزلال أفضل بكثير في مشاهدة ذوبانه وامتصاصه. أخبرني فرانكلاند كيف أجري اختبار الكشف عن الببسين بطريقة تقريبية بسيطة، وسيكتشف في الخريف ماهية الحمض الذي تحويه العصارة الهضمية. (2)
السائل الناتج من غلي أوراق الكرنب والبازلاء الخضراء يسبب انحناء بالقدر الذي تسببه نقاعة اللحم النيئ، أما تأثير السائل الناتج من غلي العشب، فهو أقل قوة. مع أنني أسمع أن اختصاصيي الكيمياء يحاولون ترسيب كل الزلال من مستخلص نبات البيلادونا، أظن أنهم سيفشلون بالتأكيد؛ لأن المستخلص يسبب انحناء، في حين أن مقدارا جديدا من الأتروبين، وفاليريانات [الأتروبين]، لا يحدث أي تأثير. (3)
جربت تجارب كثيرة باستخدام ماء مسخن ... ألا ينبغي أن تسمي هذه الحالة حالة تيبس ناجم عن الحرارة؟ لقد سخنت ورقتان إلى حرارة مقدارها 130 درجة مئوية، وانحنت جميع المجسات فيهما منغلقة، ثم أخرجت إحداهما ووضعت في ماء بارد، فتمددت مجددا، فيما سخنت الأخرى إلى حرارة مقدارها 145 درجة، ولم يكن لديها أدنى قدرة على التمدد مرة أخرى. أليست هذه الحالة الثانية تيبسا ناجما عن الحرارة؟ إذا كنت تستطيع إخباري، فسوف أرغب بشدة في أن أعرف منك درجة الحرارة التي تقتل عندها الحيوانات ذوات الدم البارد واللافقاريات. (4)
يجب أن أخبرك بنتيجتي النهائية [بخصوص] حساسية نباتات الندية، والتي أنا متيقن منها. أعددت محلولا تبلغ فيه نسبة وزن فوسفات الأمونيا إلى وزن الماء واحدا إلى 218750، وأضفت من هذا المحلول كمية كبيرة لدرجة أن ورقة حصلت على وزن مقداره 1 / 8000 حبة من الفوسفات . ثم أحصيت الغدد، ووجدت أن كل غدة لا يمكن أن تكون قد حصلت إلا على وزن مقداره 1 / 1552000 حبة، وبعدما امتصت الغدد هذه الكمية، كانت كافية لجعل المجسات التي تحمل هذه الغدد تنحني بزاوية قياسها 180 درجة. هذه الحساسية تتطلب طقسا حارا، وأوراقا منتقاة بعناية على أن تكون ناضجة وصغيرة السن في الوقت نفسه. أراها حقيقة عجيبة. ويجب أن أضيف أنني اتخذت كل الاحتياطات، بتجربة أوراق عديدة في الوقت نفسه في المحلول وفي نفس الماء المستخدم لإعداد المحلول. (5)
إذا استطعت إقناع صديقك بتجربة تأثيرات كربونات الأمونيا على تجمع كريات الدم البيضاء، فسأرغب بشدة في معرفة النتيجة.
أرجو ألا يتعبك هذا الخطاب.
لك أصدق تحياتي وبالغ إخلاصي
تشارلز داروين
من تشارلز داروين إلى دبليو ثيسلتون داير
داون، 24 [ديسمبر 1873؟]
عزيزي السيد داير
أخشى أن تظنني شخصا مملا جدا، لكني لا أستطيع مقاومة إخبارك بأنني اكتشفت للتو أن أوراق نباتات جنس البنجويكيولا (صائد الحشرات) لديها قدرة مكيفة بطريقة جميلة على الحركة. ففي الليلة الماضية وضعت صفا من ذبابات صغيرة الحجم بالقرب من إحدى حواف ورقتين «صغيرتي السن»، وبعد 14 ساعة انطوت هذه الحواف على نفسها بطريقة جميلة لتقبض على الذباب، ومن ثم صارت الغدد ملامسة لأسطح الذباب العلوية، وهي الآن تفرز إفرازات غزيرة فوق الذباب وتحته، ومن المؤكد أنها تمتصه. سرى الإفراز الحمضي إلى أسفل الحافة شبه الأنبوبية وتجمع في الطرف الشبيه بالملعقة، حيث تمتص الغدد الحساء اللذيذ بكل تأكيد. تبدو الورقة عند أحد جانبيها شبيهة تماما بحلز الأذن، إذا كنت ستحشو الطية بالذباب. لك بالغ إخلاصي.
سي داروين
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، 3 يونيو [1874] ... أعمل الآن بجد شديد على تجهيز كتابي عن نباتات الندية وبقية أشباهها للطباعة، لكنه سيستغرق بعض الوقت لأنني دائما ما أكتشف نقاطا جديدة جديرة بالملاحظة. أظن أن ملاحظاتي التي أجريتها على عملية الهضم في تلك النباتات ستثير اهتمامك؛ فالإفراز يحوي حمضا من سلسلة حمض الأسيتيك، وإنزيما مخمرا شبيها جدا بالببسين لكنه ليس مطابقا له؛ إذ إنني أجريت سلسلة طويلة من تجارب المقارنة. لن يصدق أحد ما سأنشره عن صغر جرعات فوسفات الأمونيا التي تحدث تأثيرا. ... بدأت أقرأ عن المقالة التي تتحدث عن مدغشقر
6
بجدية تامة، وعندما وجدت أنها ذكرت أن حيوانات السنور والبقر كانت تعيش في مدغشقر، ظننتها قصة خاطئة، ولم أر أنها هراء إلى أن وصلت إلى الجزء المتعلق بالمرأة ...
من تشارلز داروين إلى إف سي دوندرس
7
داون، 7 يوليو 1874
عزيزي البروفيسور دوندرس
أرسل إلي ابني جورج خطابا يقول فيه إنه التقاك، وإنك كنت لطيفا جدا معه، وأنا أشكرك من صميم قلبي على ذلك. أخبرني بأنك مصدر حقيقة تثير اهتمامي للغاية، وأرغب بشدة في أن يسمح لي باقتباسها. إنها متعلقة بتأثير وزن مقداره واحد على مليون حبة من الأتروبين على العين. فهلا تتكرم، وقتما يسنح لك القليل من وقت الفراغ، وتخبرني بما إذا كنت قد لاحظت هذه الحقيقة بنفسك، أم إنك تصدقها بناء على مصدر موثوق. أريد أيضا أن أعرف النسبة بين وزن الأتروبين ومياه المحلول، وكمية المحلول التي عرضت لها العين. السبب الذي يجعلني متلهفا جدا بخصوص هذه النقطة أنها تحمل بعض التأييد لحقائق معينة لاحظتها مرارا فيما يتعلق بتأثير فوسفات الأمونيا على نباتات الندية. فعندما تمتص إحدى الغدد وزنا مقداره 1 / 4000000 حبة، يسبب ذلك انحناء واضحا في المجس الذي يحمل هذه الغدة، وأنا مقتنع تماما بأن وزنا مقداره 1 / 20000000 حبة من الملح المتبلور (أي يحوي حوالي ثلث وزنه ماء من ماء التبلور) يحدث التأثير نفسه. إنني الآن غير سعيد على الإطلاق بفكرة أن أضطر إلى نشر مثل هذا الزعم. ولهذا سيكون مفيدا جدا لي أن أستطيع طرح أي حقائق مشابهة تؤيده. وما يجعل حالة نباتات الندية أشد إثارة للاهتمام هو أن امتصاص الملح أو أي مادة محفزة أخرى تتعرض لها الغدد يجعلها توصل تأثيرا حركيا إلى الجزء السفلي من المجس الذي يحمل الغدة.
أرجو أن تسامحني على إزعاجك، ولا تتعب نفسك بالرد على هذا الخطاب إلى أن تستعيد تمام عافيتك.
لك أصدق تحياتي
وبالغ إخلاصي
تشارلز داروين [في صيف عام 1874، كان يعمل على جنس حامول الماء (اليوتريكيولاريا)، وأرسل إلى السير جي دي هوكر خطابا (بتاريخ السادس عشر من يوليو) يصف فيه المحرز في عمله: «إنني سعيد بعض الشيء لأنك لم تستطع إرسال نباتات جنس حامول الماء؛ لأن النوع الشائع منه كاد يصيب إف ويصيبني بالجنون. البنية معقدة «للغاية». تصطاد المثانات العديد من القشريات السفلية
Entomostraca
ويرقات الحشرات. الحق أن آلية الاصطياد ممتازة. غير أنه توجد نقاط كثيرة لا نستطيع فهمها. بناء على ما رأيته اليوم، يراودني ظن قوي بأن هذا الجنس آكل للجيف؛ أي إنه لا يستطيع الهضم، بل يمتص مواد متحللة.»
كان مدينا لليدي دوروثي نيفيل بالعينات المثيرة من نوع يوتريكيولاريا مونتانا، الذي لا يعد مائيا كالنوع الأوروبي، بل ينمو بين الطحالب والبقايا النباتية على غصون الأشجار. ويشير الخطاب التالي إلى هذا النوع:]
من تشارلز داروين إلى الليدي دوروثي نيفيل
داون، 18 سبتمبر [1874]
عزيزتي الليدي دوروثي نيفيل
إنني ممتن جدا لك. إذ كنت مقتنعا جدا بأن المثانات موجودة في الأوراق لدرجة أنني لم أفكر قط في إزالة الطحالب، وكان هذا غباء شديدا مني. صحيح أن الانتفاخات الكبيرة الصلبة التي تشبه المثانات وتكاد تكون موجودة على السطح أشياء رائعة، لكنها ليست المثانات الحقيقية. فقد وجدت تلك (المثانات الحقيقية) على الجذور بالقرب من السطح، وممتدة إلى أسفل في الرمال حتى عمق بوصتين. إنها شفافة كالزجاج، ويتراوح حجمها بين 1 / 20 بوصة و1 / 100 بوصة، ومجوفة. ولديها كل النقاط البنيوية المهمة الموجودة لدى مثانات النوع الإنجليزي الطافي، وكنت واثقا من أنني سأجد فريسة حبيسة. وما أسعدني أنني وجدت ذلك بالفعل في مثانتين، مع دليل واضح على أنهما قد امتصتا الغذاء من الكتلة المتحللة. وذلك لأن حامول الماء يتغذى على الجيف، وليس آكلا للحوم بالضبط كجنس الندية.
أعتقد أن الأجسام الكبيرة الصلبة الشبيهة بالمثانات خزانات تخزن الماء كمعدة الجمل. حالما أجري بضع ملاحظات أخرى، أعتزم أن أكون قاسيا جدا لدرجة ألا أعطي نباتك أي ماء، وألاحظ ما إذا كانت المثانات الكبيرة ستنكمش وتحوي هواء بدلا من الماء ، وكذلك سوف أغسل كل الجذور من كل بقايا التربة العالقة فيها حينئذ، وأرى ما إذا كان يوجد فيها مثانات حقيقية تمسك بالحشرات التي توجد أسفل سطح التربة وصولا إلى أدنى قعر الأصيص. الآن هل سترينني طماعا إذا طلبت منك أن تعطيني نباتا آخر من هذا النوع، بافتراض أنه ليس ثمينا جدا، وأنك تملكين العديد منه، وإذا وافقت، فأرجو أن ترسليه إلى «محطة أوربنجتون، إس إي آر (السكك الحديدية الجنوبية الشرقية)، ليوصله إلي أحد السعاة سيرا على الأقدام».
اليوم يكاد يكون أمتع أيام العمل التي قضيتها في حياتي على الإطلاق، وأنا أدين بذلك لكرم سيادتك البالغ.
البذور غريبة جدا، أتصور أنها بذور نبات ما مرتبط بجنس الفصة، لكني سأري الدكتور هوكر إياها.
مع امتناني الشديد لسيادتك
سي داروين
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، 30 سبتمبر 1874
عزيزي هوكر
لقد وصلت إلي هديتك المتمثلة في نبات الألدروفاندا سالمة تماما. استمتعت جدا بإلقاء نظرة واضحة على الأوراق المقفلة، التي فتحت إحداها بإحداث قطع فيها. إن هذا الجنس نوع مائي من جنس خناق الذباب اكتسب بعض البنى المتطابقة مع بنى جنس حامول الماء!
إذا تفتحت الأوراق واستطعت أن أنقلها مفتوحة إلى تحت المجهر، فسأجرب بعض التجارب؛ لأن هذا الإغراء لا يستطيع أن يقاومه أي رجل. أما إذا لم أستطع نقلها، فلن أفعل شيئا؛ لأن الأمر من دون ذلك سيتطلب مئات الأوراق.
أنت رجل صالح لأنك غمرتني بهذه السعادة.
لك خالص مودتي
سي داروين [انتهت مخطوطة كتاب «النباتات الآكلة للحشرات» في مارس 1875. ويبدو أن كتابة هذا الكتاب أصابته بإرهاق أشد من المعتاد؛ لذا قال في خطاب إلى السير جيه دي هوكر في فبراير: «تسألني عن كتابي، وكل ما أستطيع قوله إنني مستعد للانتحار؛ إذ كنت أظن أن صياغته مقبولة، لكنني أجد أجزاء كثيرة جدا تحتاج إلى إعادة الكتابة، لدرجة أنه لن يكون جاهزا للإرسال إلى المطبعة قبل شهرين، وسيكون كتابا كبيرا إلى حد لعين. سيقول موراي إن النشر في منتصف الصيف لن يجدي فائدة ؛ لذا لا أعرف إلام ستئول الأمور، لكني بدأت أرى أن كل من ينشر كتابا شخص أحمق.»
نشر الكتاب في الثاني من يوليو عام 1875، وبيعت 2700 نسخة من الطبعة التي كانت مكونة من 3000 نسخة.]
هوامش
الفصل الرابع عشر
نشر كتاب «قوة الحركة في النباتات»
1880 [تعرض الجمل القليلة الواردة في فصل السيرة الذاتية العلاقة بين كتاب «قوة الحركة في النباتات» وأحد أوائل كتب مؤلفه؛ أي كتاب «النباتات المتسلقة»، بوضوح واف. فكرة الكتاب الرئيسية أن حركات النبات المتعلقة بالضوء والجاذبية وما إلى ذلك ليست سوى تعديلات لنزعة عفوية إلى الحركة الالتفافية أو اللولبية، وهي نزعة كامنة على نطاق كبير في العديد من الأجزاء النامية لدى النباتات. لم يحظ هذا التصور بقبول عام، ولم يحتل مكانا وسط مبادئ علم وظائف الأعضاء الكلاسيكي. تناول البروفيسور زاكس الكتاب ببضع كلمات تحمل ازدراء أكاديميا، بينما شرفه البروفيسور فيسنر بالنقد المتأني الذي عبر عنه بكرم وشهامة.
أدلى السيد ثيسلتون داير
1
بتعليق حكيم قال فيه: «الزمن وحده ما سيبين ما إذا كان هذا التصور البارع الذي يشير إلى وحدة ما كان يبدو حتى الآن مجموعة فوضوية من ظواهر غير مترابطة سيبقى قائما. غير أنه لا يمكن لأحد أن يشك في أهمية ما فعله السيد داروين في توضيح أن ظواهر حركة النباتات يمكن أن تدرس في المستقبل من وجهة نظر واحدة، بل إن دراستها على هذ النحو واجبة بالفعل.»
بدأ العمل في صيف عام 1877، بعد نشر كتاب «الأشكال المختلفة للزهور في نباتات من النوع نفسه»، وبحلول الخريف كانت حماسته للموضوع قد بلغت ذروتها، وقال في خطاب إلى السيد داير: «أعمل بحماسة بالغة.» كان عاكفا آنذاك على دراسة حركات الفلقات، التي يمكن من خلالها ملاحظة نوم النباتات في أبسط صوره، وفي الربيع التالي كان يحاول اكتشاف الغرض النافع الذي يحتمل أن حركات النوم هذه تقدمه، وقال في خطاب إلى السير جوزيف هوكر (بتاريخ 25 مارس 1878): «أظن أننا «أثبتنا» أن الغرض من نوم النباتات هو تخفيف الضرر الذي قد يلحق بالأوراق بسبب الإشعاع. لقد أثار ذلك بالغ اهتمامي، وقد كبدنا جهدا هائلا؛ إذ كانت تلك مشكلة محيرة منذ زمن لينيوس. غير أننا قتلنا الكثير من النباتات أو ألحقنا ضررا جسيما بها؛ ملحوظة: كان نبات الأكصليس الكبير الجذور قيما جدا، لكنه قتل الليلة الماضية.»
لا تعطي خطاباته في تلك الفترة أي سرد متصل عن التقدم المحرز في العمل. والخطابان التاليان مدرجان هنا لأنهما من الخطابات التي تميز بها أسلوب المؤلف:]
من تشارلز داروين إلى دبليو ثيسلتون داير
داون، 2 يونيو 1878
عزيزي داير
أتذكر أنني قلت إنني سأموت رجلا موصوما بالعار إذا لم أجر ملاحظات على إحدى شتلات الصبار والسيكاد (السايكس)، وقد أنقذتني من هذا المصير البشع؛ لأنهما يتحركان حركات رائعة وطبيعية. غير أن لدي سؤالين أريد طرحهما؛ كان نبات السيكاد الذي أجريت عليه الملاحظات بذرة ضخمة في أصيص واسع وضحل جدا تربته من ألياف جوز الهند، حسبما أظن. لم يكن يحمل اسما سوى السيكاد. أكان من نوع سايكس بكتيناتا؟ أظن أنني لا يمكن أن أكون مخطئا في اعتقادي أن أول ما ظهر فوق سطح التربة ورقة حقيقية؛ لأنني لا أستطيع رؤية ساق ولا جذع. وأخيرا، ربما تتذكر أنني قلت إننا لم نستطع إنبات نباتات الصبير من نوع أوبنشيا نيجريكانز؛ الآن يجب أن أعترف بأنني ارتكبت حماقة؛ فأحدها قد نبت بالفعل، لكني حدقت فيه أنا والبستاني الذي يعمل لدي، واستنتجنا أنه لا يمكن أن يكون شتلة صبير، لكني الآن بعدما رأيت أحد نباتات الصبير من نوع أوبنشيا باسيلاريس صرت متيقنا من أن تلك النبتة كانت شتلة صبير؛ لم ألاحظها سوى ملاحظة عابرة، ورأيت بعض الحركات؛ لذا أريد أن ألاحظ نبتة أخرى من هذا النوع بعناية. إذا كانت لديك أي ثمرة، فهلا يتكرم السيد لينتش
2
بإرسال واحدة أخرى؟
أعمل بدأب ومثابرة كالعبد على الجذور وحركات الأوراق الحقيقية؛ لأنني أوشكت على الانتهاء تماما من العمل على الفلقات ...
كان ذلك خطابا «ممتازا» عن الحدائق؛
3
كنت آمل أن يكون ذلك الحث قد انتهى. الساسة مجموعة سيئة من الخاضعين؛ لذا يجب أن يعرفوا التأثيرات الفظيعة لإبقاء الحدائق مفتوحة طوال النهار.
صديقك المزعج دائما
سي داروين
من تشارلز داروين إلى دبليو ثيسلتون داير
4 شارع بريانستون ، ميدان بورتمان،
21 نوفمبر [1878]
عزيزي داير
لا بد أن أشكرك على العناء الهائل الذي تكبدته بخصوص بذور نبات البلسم، وفي عشرات المناسبات الأخرى. الحق أنه يجعلني خجلا من نفسي، ولا يسعني إلا أن أقول لنفسي: «يا إلهي، عندما يرى كتابنا سيصيح قائلا: أهذا هو كل ما قدمت من أجله قدرا هائلا من المساعدة؟» آمل حقا أن نكون قد فهمنا بعض النقاط، ولكن يؤسفني أن ما أنجزناه قليل جدا مقارنة بالجهد المضني الذي بذلناه على عملنا. سنمكث هنا أسبوعا لنيل القليل من الراحة، التي كنت أحتاج إليها.
إذا لم تخني الذاكرة، فيوم الثلاثين من نوفمبر هو الذكرى السنوية في الجمعية الملكية، ومن المؤسف أن السير جوزيف على وشك بلوغ نهاية مدته بكل تأكيد. سأكون سعيدا حين لا يعود رئيسا.
مع بالغ إخلاصي
سي داروين [في ربيع العام التالي 1879، عندما كان منشغلا بتجميع نتائجه وتنسيقها معا، قال بشيء من اليأس في خطاب إلى السيد داير: «إنني غارق وسط ملاحظاتي، وقد بلغت من الكبر ما يجعلني غير قادر على القيام بالمهمة التي أعمل عليها؛ أي دراسة الحركات بجميع أنواعها. غير أن البقاء بلا عمل أسوأ.»
وفي وقت لاحق من ذلك العام، عندما كان قريبا من إتمام العمل، قال في خطاب إلى البروفيسور كاروس (بتاريخ 17 يوليو 1879) بخصوص ترجمة الكتاب: «أعمل مع ابني فرانسيس على إعداد مجلد كبير بعض الشيء عن حركات النباتات في العموم، وأظن أننا توصلنا إلى العديد من النقاط والآراء الجديدة.
أخشى أن تلقى آراؤنا معارضة شديدة في ألمانيا، لكننا نعمل بجد شديد على الموضوع منذ سنوات.
سوف أسعد «جدا» إذا رأيت الكتاب جديرا بالترجمة، وسترسل إليك بروفات الطباعة حالما تصبح جاهزة.»
وفي الخريف كان يعمل بجد على المخطوطة، وقال في خطاب إلى الدكتور جراي (بتاريخ 24 أكتوبر 1879): «كتبت كتابا كبيرا بعض الشيء - مع الأسف - عن حركات النباتات، وها أنا ذا أبدأ الآن للتو في مراجعة المخطوطة مرة ثانية، وهذه مهمة مملة إلى حد بشع.»
الجزء الختامي فقط من الخطاب التالي يشير إلى كتاب «قوة الحركة في النباتات»:]
من تشارلز داروين إلى إيه دي كوندول
28 مايو 1880
سيدي العزيز
إنني في غاية الامتنان لك على تكرمك البالغ بإرسال كتابك «علم النبات الوصفي»
4
إلي؛ لأنني لو كنت اكتفيت برؤيته في الدعاية المروجة له، أظن أنه ما كان سيثير اهتمامي. وفي ظل هذه الظروف، قرأت ربعه تقريبا باهتمام بالغ، لكني لن أؤجل شكرك وقتا أطول من ذلك. كل ما تقوله يبدو لي واضحا ومقنعا جدا، وكما هو عهدي بجميع كتاباتك، أجد عددا كبيرا من التعليقات الفلسفية الجديدة علي، ومن المؤكد أنني سأجد منها عددا أكبر بكثير. لقد أعادت إلى ذهني العديد من الأمور المحيرة التي مررت بها عند كتابة أفرودة عن هدابيات الأرجل، ولو كان كتابك موجودا آنذاك، لقدم إلي نفعا لا يقدر بثمن. سررت عندما اكتشفت أنني دائما ما أتبع نهجك في تدوين ملاحظات على قصاصات منفصلة؛ فأنا أحتفظ بعدد كبير جدا من الملفات مرصوصة على أرفف رفيعة جدا يبعد بعضها عن بعض مسافة بوصتين تقريبا، ومثبتة بجدران غرفة مكتبي، وكل رف يحمل اسمه أو عنوانه المناسب، ومن ثم أستطيع أن أضع كل ملاحظة في مكانها المناسب فورا. أنا متيقن من أن كتابك سيكون مفيدا جدا للكثير من الطلاب الشباب، وسأرجو من ابني فرانسيس (الذي يعتزم تكريس نفسه لدراسة وظائف أعضاء النباتات) أن يقرأه بإمعان.
أما أنا عن نفسي، فسأرتاح أسبوعين، بعدما أرسلت جزءا من ورق المخطوطة إلى المطبعة، وكان من حسن حظي أن كتابك وصل بينما كنت أهم بركوب عربتي؛ لأنني كنت أريد شيئا لأقرأه وأنا بعيد عن المنزل. مخطوطتي متعلقة بحركات النباتات، وأظن أنني نجحت في إثبات أن أهم الفئات الكبيرة من الحركات ناجمة عن تعديل نوع من الحركة تشترك فيه كل أجزاء النبات منذ صغرها.
أرجو أن تبعث بأطيب تحياتي إلى ابنك، ومع خالص احترامي وجزيل شكري.
إليك أصدق تحياتي وبالغ إخلاصي يا سيدي العزيز
تشارلز داروين
ملحوظة:
دائما ما يسعدني رفع قدر النباتات في سلم التدرج العضوي، وإذا كلفت نفسك عناء قراءة فصلي الأخير عندما ينشر كتابي (الذي سيكون أكبر مما ينبغي مع الأسف) ويرسل إليك، فأنا آمل، وأعتقد، أنك ستعجب ببعض التكيفات الجميلة التي تتمكن بها شتلات النبات من أداء وظائفها المناسبة. [نشر الكتاب في 6 نوفمبر 1880، وبيعت منه 1500 نسخة عندما عرضه موراي للبيع. وفي خطاب إلى السير جيه دي هوكر (بتاريخ 23 نوفمبر)، قال والدي بخصوص ذلك: «أسعدتني رسالتك جدا؛ لأنني لم أكن أتوقع أنك ستحظى بمتسع من الوقت لقراءة «أي شيء» منه. إذا قرأت فصلي الأخير، فستعرف النتيجة كلها، لكن من دون الدليل. بالرغم من ذلك، أظن أن حالة انحناء الجذور بعد تعرضها للانتحاء الأرضي ساعة كاملة، مع انفصال أطرافها (أو أدمغتها) عنها، جديرة بأن تقرأها (ستجدها واردة في أسفل الصفحة 525)؛ إذ وجدتها مذهلة للغاية. أما ثانية الحقائق الجديرة بالاهتمام، حسبما أرى، فهي التفرقة التي يفرقها طرف الجذر بين شيئين مثبتين على جانبين متقابلين من الطرف؛ أحدهما أصلب قليلا والآخر ألين قليلا. لكني سأكتفي بهذا القدر من إزعاجك بشأن كتابي. حساسية الشتلات للضوء مذهلة.»
وقال في خطاب (بتاريخ 28 نوفمبر 1880) إلى صديق آخر، وهو السيد ثيسلتون داير: «أشكرك شكرا جزيلا جدا على رسالتك المفعمة باللطف، لكنك تبالغ في استحسان عملنا، لكن ذلك مبهج جدا ... العديد من الألمان يعاملون مسألة معرفة فائدة الأعضاء بازدراء شديد، لكن يمكنهم أن يهزءوا بها قدر ما يشاءون، وسأظل أنا مؤمنا بأنها أكثر الأجزاء إثارة للاهتمام في التاريخ الطبيعي. من المؤكد أنك مخطئ تماما إذا شككت ولو لحظة واحدة في الفائدة الكبيرة التي تقدمها لنا بمساعدتك المستمرة والكريمة جدا.»
استدعى الكتاب تأليف كثير من المقالات النقدية عنه، وأثار اهتماما بالغا وسط عموم الناس. يشير الخطاب التالي إلى مقالة من تأليف فريق التحرير في صحيفة «ذا تايمز»، بتاريخ 20 نوفمبر 1880:]
من تشارلز داروين إلى السيدة هاليبرتون
5
داون، 22 نوفمبر 1880
عزيزتي سارة
لعلك ترين كيف أنني أستهل الخطاب بجرأة شديدة ، لكني دائما ما أحببت هذا الاسم وسأظل أحبه إلى الأبد. لقد غمرني خطابك بسعادة بالغة؛ لأن لطفه لمس قلبي. كثيرا ما أفكر في الأيام الخوالي وفي سعادتي بزياراتي إلى وودهاوس، وفيما أدين به من امتنان عميق لوالدك. كانت لفتة طيبة جدا منك أن ترسلي إلي خطابا. صحيح أنني كنت قد نسيت تماما طموحي القديم المتعلق بصحيفة شروزبيري؛
6
لكني أتذكر الفخر الذي شعرت به عندما رأيت في كتاب عن الخنافس الجملة الباهرة التي قيل فيها «التقطها السيد داروين». فكلمة «التقطها» تبدو أعظم بكثير من كلمة «اصطادها». أرى أن هذا مجد كاف لأي رجل! لا أعرف إطلاقا ما الذي جعل صحيفة «ذا تايمز» تمجدني؛
7
لأنها أحيانا ما تنتقدني انتقادات لاذعة بشراسة.
أرغب بشدة في أن ألقاك مجددا، لكنك إذا جئت إلى هنا فستشعرين بملل فظيع؛ لأننا نشعر بأننا مسنون جدا، وليس لدينا وسائل تسلية، ونعيش حياة منعزلة. لكننا نعتزم في غضون بضعة أسابيع أن نقضي بضعة أيام في لندن، وإذا كان لديك حينئذ أي شيء آخر تودين فعله في لندن، فربما يمكن أن تأتي وتتناولي الغداء معنا.
8
مع أصدق تحياتي
وبالغ امتناني ومودتي يا عزيزتي سارة
تشارلز داروين [كان السبب الذي دفعه إلى كتابة الخطاب التالي هو نشر كتاب مخصص لنقد كتاب «قوة الحركة في النباتات» بقلم الدكتور يوليوس فيسنر عالم النباتات الخبير البارع وأستاذ علم النبات في جامعة فيينا:]
من تشارلز داروين إلى يوليوس فيسنر
داون، 25 أكتوبر 1881
سيدي العزيز
أتممت الآن قراءة كتابك،
9
وفهمته كله باستثناء بضع فقرات قليلة جدا. بادئ ذي بدء، دعني أشكرك من صميم قلبي على الطريقة التي عاملتني بها في كل مكان. لقد أظهرت أن الرجل يمكن أن يختلف مع رجل آخر اختلافا تاما بأشد إصرار ممكن، ومع ذلك يعبر عن اختلافه بألطف أسلوب ممكن. ربما قد يحمل المثال الذي ضربته درسا نافعا لعدد ليس بالقليل من علماء التاريخ الطبيعي الإنجليز والألمان؛ لأن اللهجة الفظة التي غالبا ما يتحدث بها العلماء بعضهم مع بعض لا تنفع، ولا تحدث شيئا سوى أنها تحط من قدر العلم.
أثار كتابك بالغ اهتمامي، وبعض تجاربك جميلة جدا لدرجة أنني شعرت بالسعادة فعلا وأنا أخضع للتشريح على يديك. الحديث عن كل النقاط المهمة الواردة في كتابك سيشغل حيزا أكبر مما ينبغي. يؤسفني القول إنك قد أفسدت التفسير الذي طرحته عن تأثيرات قطع أطراف الجذور الممتدة أفقيا، وتلك المعرضة للرطوبة عند جوانبها، لكني لا أستطيع إقناع نفسي بأن الوضع الأفقي للأغصان والجذور الجانبية ناجم عن مجرد ضعف قدرتها على النمو. ولا أستطيع أيضا، حين أفكر في تجاربي على فلقات جنس الخرفار، أن أتخلى عن إيماني بانتقال إشارة محفزة ناجمة عن الضوء من الجزء العلوي إلى الجزء السفلي. وفي الصفحة 60 أسأت فهم مقصدي، عندما قلت إنني أعتقد أن التأثيرات الناجمة عن الضوء تنقل إلى جزء لا يخضع هو نفسه للانتحاء الشمسي. لم أفكر قط فيما إذا كان الجزء القصير الواقع أسفل سطح التربة يخضع للانتحاء الشمسي أم لا، لكني أعتقد أن الجزء الذي ينحني، لدى الشتلات الصغيرة السن، «بالقرب» من السطح لكن «فوقه» منتح شمسيا، وأعتقد ذلك بناء على أن الجزء ينحني انحناء متوسطا فقط عندما يكون الضوء مائلا، وينحني على شكل مستطيل عندما يكون الضوء أفقيا. ومع ذلك، فانحناء هذا الجزء السفلي، كما أستنتج من تجاربي التي أجريتها باستخدام أغطية غير شفافة، يتأثر بتأثير الضوء على الجزء العلوي. غير أن رأيي في النقاط المذكورة أعلاه والعديد من النقاط الأخرى يكاد يكون بلا وزن؛ لأنني متيقن من أن كتابك سيقنع معظم علماء النبات بأنني مخطئ في كل النقاط التي نختلف فيها.
بغض النظر عن مسألة الانتقال، فعقلي مليء جدا بحقائق تقودني إلى اعتقاد أن عوامل الضوء والجاذبية وما إلى ذلك، لا تؤثر مباشرة على النمو، بل تؤثر تأثيرا تحفيزيا، لدرجة أنني عاجز تماما عن تعديل رأيي بخصوص هذه النقطة. لم أستطع فهم الفقرة الواردة في الصفحة 78، حتى استشرت ابني جورج، المتخصص في علم الرياضيات. إنه يفترض أن اعتراضك قائم على أن أشعة الضوء المتفرقة المنبعثة من المصباح تضيء جانبي الجسم كليهما، ولا تنخفض شدتها، مع زيادة المسافة بنفس نسبة انخفاض شدة الضوء المباشر، لكنه يشك فيما إذا كان هذا التصحيح «الضروري» سيفسر الاختلاف الضئيل جدا في انحناء النباتات بفعل الانتحاء الشمسي في الأصص المتتابعة.
أما بخصوص حساسية أطراف الجذور للتلامس، فلا أستطيع الإقرار بصحة رأيك إلى أن يثبت أنني مخطئ بشأن أن أجزاء البطاقات الملتصقة بواسطة صمغ سائل تسبب الحركة، بينما لم تحدث حركة إذا بقيت البطاقة منفصلة عن الطرف بطبقة من الصمغ السائل. إضافة إلى ذلك، يجب شرح حقيقة أن لصق أجزاء أكثر سمكا وأخرى أقل سمكا من البطاقات على جانبي الجذر نفسه بواسطة مادة الشيلاك يسبب حركة في اتجاه واحد. كثيرا ما تتحدث عن تعرض الطرف للضرر، غير أنه لم تكن توجد أي علامة خارجية على حدوث ضرر، وعندما لحق بالطرف ضرر واضح، أصبح الجزء الطرفي منحنيا «نحو» الجانب المتضرر. لكني لا أستطيع أن أصدق أن الطرف تضرر بسبب أجزاء البطاقات، عند لصقها بالصمغ السائل على الأقل، بقدر ما أنني لا أستطيع تصديق أن غدد نباتات الندية تضررت بسبب وضع مثقال ذرة من الخيط أو الشعر عليها، أو أن اللسان البشري [يحدث له ذلك] عندما يلمس أي جسم كهذا.
أما عن أهم جزء في كتابي؛ أي الحركة اللولبية، فلا يسعني إلا قول إنني متحير تماما من اختلاف استنتاجاتنا، لكني لم أستطع فهم بعض الأجزاء تماما، وهذه الأجزاء سيستطيع ابني فرانسيس أن يترجمها لي عندما يعود إلى المنزل. الجزء الأكبر من كتابك واضح على نحو جميل.
وأخيرا، يا ليت كان لدي ما يكفي من القدرة والحيوية لبدء مجموعة جديدة من التجارب، ونشر النتائج، مع العدول التام عن معتقداتي الخاطئة عند الاقتناع بأنها خاطئة، لكني أكبر سنا من أن أتحمل أداء مهمة كهذه، ولا أظن أنني سأستطيع أن أنجز قدرا كبيرا من العمل الأصلي المبتكر، أو أي قدر آخر منه أصلا. أتصور أنني أرى أحد المصادر المحتملة للخطأ في تجربتك الجميلة التي يوجد فيها نبات يدور مع تعريضه لضوء جانبي.
مع بالغ احترامي وخالص شكري على الطريقة الطيبة التي عاملتني بها أنا وأخطائي، وسأظل يا سيدي العزيز مخلصا لك.
تشارلز داروين
هوامش
الفصل الخامس عشر
خطابات متنوعة متعلقة بعلم النبات
1873-1882 [يتضمن هذا الفصل سلسلة من الخطابات المنوعة عن موضوعات متعلقة بعلم النبات. يظهر بعضها تنوع الموضوعات التي كانت تثير اهتمام والدي في علم النبات، بينما يورد بعضها الآخر ذكرا لأبحاث لم تكتمل قط.]
الأدمة في الأوراق والثمار [كانت دراساته التي أجراها عن مغزى وجود «الأدمة»، أو الطبقة الشمعية التي تغطي العديد من الأوراق، واحدة من تلك الأبحاث التي بقيت غير مكتملة حتى وقت وفاته. لقد جمع كمية كبيرة من الملاحظات عن الموضوع، وآمل أن أنشر جزءا منها عما قريب.
1
أرسل أحد أوائل خطاباته عن هذا الموضوع في أغسطس 1873 إلى السير جوزيف هوكر، قائلا: «أريد قليلا من المعلومات منك، وإذا لم تكن تعرفها بنفسك، فأرجو أن تسأل عنها بعض حكماء كيو.
لماذا يكون للأوراق والثمار لدى عدد كبير جدا من النباتات غلاف واق متمثل في طبقة رقيقة من مادة شمعية (مثل الكرنب الشائع)، أو شعر دقيق، فتبدو هذه الأوراق أو الثمار وكأنها مغطاة بزجاج رقيق عند غمرها في الماء؟ إنه لمنظر جميل حقا أن يضع المرء قرنا من البازلاء الشائعة، أو حبة عليق في الماء. أجد أن العديد من الأوراق تكون محمية على هذا النحو عند السطح السفلي وليس العلوي.
كيف للماء أن يلحق ضررا بالأوراق إذا كان ذلك صحيحا أصلا بالفعل؟»
وبخصوص هذه النقطة الأخيرة، قال في خطاب إلى السير توماس فارار: «أصبحت الآن مهووسا بمسألة تسبب قطرات الماء في ضرر الأوراق. أرجو منك أن تسأل السيد بين
2
عما إذا كان يعتقد، «من واقع تجربته الشخصية»، أن قطرات الماء تضر الأوراق أو الثمار في صوباته الزجاجية. يقال إن القطرات تحدث تأثيرا كتأثير العدسات الحارقة؛ إذا صح ذلك، فهي لن تكون مضرة إطلاقا في الأيام الغائمة. إنني أرغب بشدة في معرفة رأيه نظرا لفطنته. أتذكر أنني حين كنت أنبت سحلبيات في الصوبة، نصحت بألا أبلل أوراقها، لكن هذا الموضوع لم يخطر ببالي آنذاك قط.
استمتعت جدا بزيارتي لك، وأنا متيقن تماما من أنني لا يمكن أن أجد في إنجلترا كلها مضيفا أكرم منك ولا أكثر إبهاجا.»
وبعد ذلك بسنوات، انشغل بالموضوع مجددا، وقال في خطاب إلى السير جوزيف هوكر (بتاريخ 25 مايو 1877): «أعكف على مراجعة ملاحظاتي القديمة عن «الأدمة» الموجودة على النباتات، وأظن أن الموضوع جدير جدا بالمتابعة ومواصلة البحث فيه، وإن كنت أشك بشدة في إحراز أي نجاح. هل أنت مستعد لمساعدتي وأنت تعرف أن النجاح ليس سوى احتمال؛ لأنني لا أستطيع فعل أي شيء إطلاقا دون مساعدتك؟»]
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، 4 يونيو [1877] ... أحاول الآن التوصل إلى فائدة «الأدمة» أو وظيفتها؛ أعني ذلك الإفراز الشمعي الموجود على أوراق النباتات وثمارها، لكنني أشك بشدة في أنني سأنجح. هل تستطيع أن تمدني بأي دليل أهتدي به؟ هل هذه النباتات أكثر شيوعا في المناخ الدافئ أم الأبرد؟ أسأل لأنني كثيرا ما أتمشى في الخارج تحت المطر الغزير، ويمكنني أن أرى قطرات الماء تتدحرج كالزئبق على أوراق قلة قليلة من ذوات الفلقتين البرية. أما في حديقة أزهاري، وصوبتي الطبيعية التدفئة وصوباتي الصناعية التدفئة، فيوجد العديد من النباتات التي تتدحرج علها قطرات الماء. ولهذا أسأل مجددا: هل النباتات المحمية بالأدمة شائعة في سهولكم الغربية «الجافة»؟ يظن هوكر أنها شائعة في رأس الرجاء الصالح. سأتحير إذا كانت شائعة في ظروف مناخية شديدة الجفاف، وأنا أجد الأدمة شائعة جدا على أشجار السنط والأوكالبتوس في أستراليا. بعض أشجار الأوكالبتوس التي لا يبدو أنها مغطاة بالأدمة تحمى بشرتها بطبقة من مادة ما تذوب في الكحول المغلي. هل توجد أي أوراق أو ثمار محمية بالأدمة في مناطق القطب الشمالي؟ إذا استطعت أن تنير ظلمات جهلي، كما فعلت مرارا كثيرة جدا، فأتوسل إليك أن تفعل، وإلا فلا تكلف نفسك عناء الرد.
لك خالص مودتي
سي داروين
من تشارلز داروين إلى دبليو ثيسلتون داير
داون، 5 سبتمبر [1877]
عزيزي داير
أكتب إليك خطابا قصيرا لأشكرك. أؤكد أننا كنا سننهار لولا لطفك. على أية حال؛ فقد فهمنا بوضوح أن الأدمة لدى بعض النباتات (لا سيما العصارية منها) تكبح التبخر، وتمنع لدى بعضها الآخر هجمات الحشرات، أما لدى «بعض» نباتات الشواطئ فهي تمنع التضرر من الماء المالح، وأعتقد أن وظيفتها لدى القليل من النباتات منع التضرر من الماء النقي الخالص الذي يستقر على الأوراق. وهذه الأخيرة حتى الآن هي أبرز النقاط المشكوك فيها والشائقة بخصوص حركات النباتات ...
من تشارلز داروين إلى إف مولر
داون، 4 يوليو [1881]
سيدي العزيز
لطفك لا حدود له، ولا أستطيع أن أصف لك كم الاهتمام الذي أثاره خطابك الأخير (المؤرخ بتاريخ 31 مايو) في نفسي. لدي أكوام من الملاحظات عن تأثير الماء المستقر على الأوراق، وحركاتها (كما افترضت) للتخلص من القطرات. غير أنني لم أتفحص هذه الملاحظات منذ فترة طويلة، وكان قد خطر ببالي أن فكرتي ربما تكون محض وهم، لكنني كنت قد عقدت العزم على البدء في إجراء التجارب فور عودتي إلى المنزل، والآن في ظل وجود خطابك «الذي لا يقدر بثمن» عن وضعية أوراق النباتات المختلفة في أثناء المطر (لدي حالة مشابهة في أشجار السنط من جنوب أفريقيا)، سأكون متحفزا للعمل بكل حماسة.
القابلية للتباين [يشير الخطاب التالي إلى موضوع أثار بالغ اهتمام والدي؛ وهو دراسة أسباب القابلية للتباين بالتجربة. كانت التجارب المشار إليها مخططا لها إلى حد ما، وقد بدأ والدي بعض العمل الأولي صوب الغاية الموضحة أدناه، لكن الأبحاث هجرت في نهاية المطاف.]
من تشارلز داروين إلى جيه إتش جيلبيرت
3
داون، 16 فبراير 1876
سيدي العزيز
عندما التقيتك في الجمعية اللينية، تكرمت بالقول إنك ستساعدني بتقديم النصيحة، وهذا سيكون قيما للغاية لي ولابني. سأبدأ بذكر غرضي، وآمل أن تسامحني على هذا الخطاب الطويل. إن جميع علماء التاريخ الطبيعي يقرون بعدم وجود معضلة محيرة فيما يتعلق بالأسباب التي تؤدي إلى تباين الغالبية العظمى من النباتات المزروعة، وما من تجربة حتى الآن قد نجحت في إلقاء أي ضوء على هذا الموضوع. وأنا أعكف منذ عشر سنوات على إجراء تجارب في النباتات الملقحة تلقيحا ذاتيا والملقحة تلقيحا متبادلا، وقد أصابتني نتيجة واحدة غير مباشرة بذهول شديد؛ ألا وهي أنني بعد أن زرعت نباتات في أصص تحت الزجاج على مدار عدة أجيال متعاقبة، في ظروف شبه متماثلة، مع تلقيحها ذاتيا في كل جيل، وجدت أن لون الأزهار غالبا ما يتغير، واللافت جدا أنها أصبحت في بعض الأنواع الأكثر قابلية للتباين، مثل الدندل والقرنفل وما إلى ذلك، ثابتة تماما، كأزهار نوع بري.
قادتني هذه الحقيقة وحقائق عديدة أخرى إلى الظن بأن سبب التباين لا بد أن يكون كامنا في امتصاص هذه النباتات مواد مختلفة من التربة عندما لا تعيق قدراتها على الامتصاص نباتات أخرى تنمو مختلطة معها في الطبيعة. لذا أرغب أنا وابني في إنبات نباتات في أصص في تربة خالية تماما، أو شبه خالية تماما قدر المستطاع، من كل المواد التي تمتصها النباتات، ثم نعطي عدة نباتات من نفس النوع، على مر عدة أجيال متعاقبة، محاليل مختلفة بالقدر الذي ربما يكون متوافقا مع حياتها وصحتها. فهل تستطيع أن تنصحني بالكيفية التي أجعل بها التربة شبه خالية من كل المواد التي تمتصها النباتات طبيعيا؟ أفترض أن الرمل الفضي الأبيض، الذي يباع لتنظيف لجام الخيول وما إلى ذلك، يكاد يكون سيليكا خالصة، ولكن ما الذي علي فعله للحصول على الألومينا؟ فمن دون بعض الألومينا، أتصور أن إبقاء التربة رطبة وصالحة لنمو النباتات سيكون مستحيلا. أفترض أن الطين الذي يغسل مرارا وتكرارا في الماء سيظل ينتج مادة معدنية لحمض الكربونيك الذي تفرزه الجذور. أريد كمية كبيرة من التربة؛ لأن التجارب ستكون بلا جدوى لو لم نستطع أن نملأ عددا يتراوح بين عشرين وثلاثين من أصص الأزهار المتوسطة الحجم كل عام. فهل تستطيع أن تقترح أي خطة؟ لأنك إذا لم تستطع، يؤسفني القول إنه لن يكون مجديا على الإطلاق أن نبدأ في محاولة اكتشاف ما إذا كانت القابلية للتباين تعتمد إطلاقا على المادة الممتصة من التربة. وبعد الحصول على نوع التربة الضروري، تتمثل خطتي في أن أسقي مجموعة من النباتات بنترات البوتاسيوم، ومجموعة أخرى بنترات الصوديوم، ومجموعة أخرى بنترات الكلس، مع إعطاء كل المجموعات أكبر قدر ممكن يبدو أنها تستطيع تحمله من فوسفات الأمونيا؛ لأنني أريد أن تنمو النباتات بأقصى قدر ممكن من الغزارة والحيوية. أظن أن النباتات المسقية بنترات الصوديوم ونترات الكالسيوم ستحتاج إلى بعض البوتاسيوم، لكنها ربما ستحصل على ما هو ضروري تماما لها من تربة كالتي سأضطر إلى استخدامها، ومن مياه الأمطار المجمعة في الخزانات. يمكنني استخدام ماء عسر من بئر عميقة محفورة وسط الطباشير، لكن النباتات كلها ستحصل في هذه الحالة على كلس. إذا لم تنم النباتات التي سأعطيها نترات الصوديوم ونترات الكالسيوم، فربما سأعطيها قليلا من الشبة.
أدرك تماما مدى جهلي الشديد، ومدى بدائية أفكاري، وإذا كان بوسعك أن تقترح أي محاليل أخرى فمن المحتمل أن تتأثر النباتات بها، فسيكون هذا كرما بالغا منك. أفترض أنه لا توجد سوائل عضوية تمتصها النباتات وأستطيع شراءها؟
يجب أن أعتمد على أن كرمك سيجعلك تسامحني على إزعاجك بخطاب طويل جدا كهذا.
وسوف أظل يا سيدي العزيز صديقك المخلص
تشارلز داروين [الخطاب التالي المرسل إلى البروفيسور سيمبر
4
متعلق بالموضوع نفسه:]
من تشارلز داروين إلى كيه سيمبر
داون، 19 يوليو 1881
عزيزي البروفيسور سيمبر
سررت جدا بتلقي خطابك، لكني لم أتوقع أن ترد على خطابي السابق ... لا أستطيع تذكر ما كتبته إليك، لكني متيقن من أنه كان يعبر بكل تأكيد عن الاهتمام الذي أثير في نفسي بقراءة كتابك.
5
رأيت أنك تبالغ في تقدير وزن تأثير البيئة «المباشر»، لكني لا أعرف ما إذا كنت قد قلت ذلك أم لا؛ لأنني كنت سأراه تصرفا وقحا مني أن أنتقد كتابك دون أن يطلب مني ذلك، وما كان ينبغي أيضا أن أقول ذلك الآن لولا أنني بهرت بالمقال الذي كتبه البروفيسور هوفمان عن عمله في دورية «بوتانيشا تسايتونج» عن قابلية النباتات للتباين، ومن المدهش حقا مدى ضآلة التأثير الذي أحدثه بزراعة نباتات معينة في ظروف غير طبيعية، مثل وجود الملح والكلس والزنك وما إلى ذلك، على مدار أجيال «عديدة». وفوق ذلك، اختيرت النباتات التي كانت أكثر قابلية للتباين في مثل هذه الظروف، بناء على وجود أشكال قريبة الصلة بها مكيفة لهذه الظروف. صحيح أنني في البداية قد بالغت في الاستهانة بوزن تأثير الظروف المباشر، لكن ورقة هوفمان البحثية جعلتني مترددا. ربما يلزم تعرض المئات من الأجيال لهذه الظروف. إنه موضوع محير جدا. ليتني لم أكن طاعنا جدا في السن، وكنت أحظى بمزيد من العافية؛ لأنني أرى مسارات بحثية أريد اتباعها. يشكك هوفمان حتى فيما إذا كانت النباتات تتباين تحت ظروف الزراعة أكثر من تباينها في موطنها الأصلي وتحت ظروفها الطبيعية. إذا صح ذلك، فإن كل التباينات المذهلة التي تحدث لدى كل النباتات المزروعة تقريبا لا بد أن تكون ناجمة عن الانتقاء والاستيلاد من الأفراد المتباينة. خطرت هذه الفكرة ببالي منذ سنوات عديدة، لكني خفت أن أنشرها؛ لأنني ظننت أن الناس سيقولون: «يا لمبالغته في تقدير أهمية الانتقاء!»
بالرغم من ذلك، «يتحتم» علي أن أعتقد أن الظروف المتغيرة تحث على القابلية للتباين، لكنها «في معظم الحالات» تؤثر تأثيرا غير مباشر تماما. غير أنها، كما قلت، معضلة محيرة جدا. أرجو أن تسامحني على كتابة خطاب طويل كهذا؛ فأنا لم أكن أنوي ذلك عندما قعدت لأكتبه.
إنني في غاية الأسف، من أجلك ومن أجل العلم، لسماع أنك مرهق من فرط العمل، وأن قدرا هائلا من وقتك ينقضي في العمل الرسمي.
أرجو أن تتقبل بالغ إخلاصي يا عزيزي البروفيسور سيمبر
تشارلز داروين
العفصات [قبيل وفاة والدي بوقت قصير، بدأ إجراء تجارب على إمكانية إنتاج العفصات بطريقة اصطناعية. ويتضح اهتمامه بهذه المسألة في خطاب إلى السير جيه دي هوكر (بتاريخ 3 نوفمبر 1880): «سررت بمقالة باجيت؛
6
أسمع أنه يدرس الموضوع من حين إلى آخر منذ شبابه ... إنني سعيد جدا بأنه سلط الضوء على موضوع العفصات؛ فأنا دائما ما أراه موضوعا مثيرا جدا للاهتمام، ولو كنت أصغر سنا لتوليت البحث فيه بنفسي.»
كان اهتمامه بهذا الموضوع مرتبطا برغبته الحاضرة دائما في تعلم شيء ما عن أسباب التباين. صور لنفسه عفصات عجيبة تدفع إلى الظهور على مبايض النباتات، وبهذه الطريقة ظن أن البذرة ربما تتأثر، وبذلك تنشأ ضروب جديدة. أجرى عددا كبيرا بعض الشيء من التجارب بحقن كواشف متنوعة في أنسجة الأوراق، وقد ظهرت بعض المؤشرات الطفيفة على النجاح.]
التجمع [يعطي الخطاب التالي فكرة عن موضوع آخر أوراقه البحثية المنشورة.
7
إن المظاهر التي لاحظها في الأوراق والجذور قد استرعت انتباهه؛ بسبب علاقتها بظواهر التجمع التي كان مهتما بها اهتماما عميقا عندما كان يعمل على جنس الندية:]
من تشارلز داروين إلى إس إتش فاينز
8
داون، 1 نوفمبر، 1881
عزيزي السيد فاينز
لأنني أعرف مدى انشغالك الشديد، فعار كبير علي أن أزعجك. لكنك غني جدا بمعرفتك الكيميائية عن النباتات وأنا فقير جدا، ومن ثم أناشد إحسانك بصفتي رجلا فقيرا. سؤالي هو: هل تعرف أي مادة صلبة في خلايا النباتات يذيبها الجلسرين والماء؟ سوف تفهم حيرتي فهما أفضل إذا أعطيتك الحقائق؛ ذكرت لك أنه إذا اقتلع أحد نباتات نوع فربيون ببلوس من الأرض بلطف، ووضعت الجذور وقتا قصيرا في محلول ضعيف من كربونات الأمونيا (تبلغ نسبة المادة إلى الماء فيه 1 إلى 10000، والذي يظل فعالا لمدة 24 ساعة)، فإن الصفوف الطولية المتناوبة (في العموم) من الخلايا في كل جذير، من قلنسوة الجذر إلى أعلى قمة الجذر نفسها (دونا عن الساق الخضراء بحسب ما رأيته حتى الآن) تصبح ممتلئة بحبيبات بنية شبه شفافة من المادة. وهذه الحبيبات المستديرة كثيرا ما تلتحم معا، بل تندمج في كتلة واحدة. تنتج فوسفات الأمونيا الخالصة أيضا ونترات الأمونيا الخالصة التأثير نفسه الذي تنتجه كربونات الصوديوم الخالصة (وإن كان على نحو أبطأ).
الآن، إذا سقيت شرائح أحد الجذور أسفل غطاء زجاجي رقيق بالجلسرين والماء، تختفي كل حبيبة من الحبيبات التي لا حصر لها في الخلايا بعد بضع ساعات. ما الرأي الذي ينبغي أن أكونه عن ذلك؟ ...
سامحني على إزعاجك إلى هذا الحد، لكني يجب أن أذكر أن الجذور إذا غمست في ماء مغلي، فلن تترسب المادة، وبعد ذلك لا يكون لكربونات الأمونيا أي تأثير. ينبغي أن أقول إنني وجدت الآن أن المادة الحبيبية تتكون في الخلايا أسفل البشرة الرقيقة مباشرة، وفي بضع خلايا أخرى بالقرب من النسيج الوعائي. إذا كانت الحبيبات مكونة من بروتوبلازم حي (لكني لا أستطيع أن أرى أي آثار للحركة فيها)، فينبغي أن أستنتج أن الجلسرين قتلها، وأن التجمع توقف مع انتشار جسيمات بالغة الصغر إلى حد غير مرئي؛ لأنني رأيت ظاهرة مشابهة في جنس الندية.
إذا كنت تستطيع أن تساعدني، فأرجو أن تفعل، ولتسامحني على أي حال.
مع بالغ إخلاصي
سي داروين
تجارب السيد توربت على مرض البطاطس [كان السيد جيمس توربت، من بلفاست، منهمكا طوال السنوات الاثنتي عشرة الأخيرة في المهمة الصعبة، التي نجح فيها إلى حد كبير، المتمثلة في إنبات ضروب من البطاطس المقاومة للفطريات. اهتم والدي اهتماما بالغا بعمل السيد توربت، وتراسل معه من عام 1876 فصاعدا. وقد أرسل الخطاب التالي، الذي يقدم سردا واضحا عن طريقة السيد توربت وأرجحية نجاحها من وجهة نظر والدي، بغرض اقتراح إمكانية الحصول على دعم حكومي للعمل:]
من تشارلز داروين إلى تي إتش فارار
داون، 2 مارس 1878
عزيزي فارار
أرى أن خطة السيد توربت التي تهدف إلى القضاء على مرض البطاطس أفضل خطة قد اقترحت على الإطلاق. إنها تتمثل، كما تعرف من خطابه المطبوع، في إنبات عدد هائل من شتلات ناتجة من أصلين أبوين ملقحين تلقيحا متبادلا، وتعريض هذه الشتلات للعدوى، وإبادة كل الشتلات التي أصيبت بلا رحمة، وإنقاذ تلك التي أظهرت أفضل قدرة على المقاومة، وتكرار هذه العملية في أجيال بذرية متعاقبة. يستند إيماني بأرجحية أن يحرز نتائج طيبة من هذه العملية، إلى حقيقة أن كل الصفات، أيا كانت، تتباين من حين إلى آخر. فمن المعروف مثلا أن بعض الأنواع والضروب من العنب أفضل قدرة على مقاومة حشرة الفيلوكسرا من أنواع وضروب أخرى. وقد وجد أندرو نايت ضربا أو نوعا من التفاح لم تهاجمه المكورات إطلاقا، وثمة ضرب آخر لوحظ في جنوب أستراليا أيضا. وثمة ضروب معينة من الخوخ تقاوم العفن الفطري، ويمكن ذكر حالات عديدة أخرى كهذه. لذا ليس من المستبعد جدا إنبات ضرب جديد من البطاطس يقاوم الفطريات مقاومة تامة، أو على الأقل مقاومة أفضل بكثير من أي ضرب موجود. أما بخصوص التلقيح المتبادل بين شتلتين مختلفتين، فقد تأكد أن الذرية التي تنبت بهذه الطريقة ترث تكوينا أكثر حيوية بكثير، وعادة ما تكون أخصب من الشتلات الناتجة من أصل أبوي ملقح ذاتيا. إضافة إلى ذلك، فمن المرجح أن يكون التلقيح المتبادل قيما جدا في حالة البطاطس بالأخص؛ إذ يوجد سبب وجيه لاعتقاد أن حشراتنا المحلية نادرا ما تلقح الأزهار تلقيحا متبادلا، وبعض الضروب تكون عقيمة تماما ما لم تلقح بحبوب لقاح من ضرب مختلف. يوجد بعض الأدلة على أن التأثيرات الإيجابية الناتجة من تلقيح متبادل تنقل على مر أجيال عديدة؛ لذا لن يكون من الضروري تلقيح الشتلات تلقيحا متبادلا في كل جيل، مع أن هذا سيكون مستحسنا؛ لأنه من شبه المؤكد أن التلقيح بهذه الطريقة سينتج عددا أكبر من البذور. وينبغي مراعاة أن التلقيح المتبادل بين النباتات المنبتة من درنات النبات نفسه، وإن كانت نامية على جذور مختلفة، لا يحدث تأثيرا إيجابيا بدرجة أكبر مما يحدثه التلقيح المتبادل بين زهرتين على نفس النبتة المفردة. بالنظر إلى الموضوع ككل، أرى أنها ستكون مصيبة قومية إذا لم تستفد الحكومة، أو جهة عامة ما، من البذور الملقحة تلقيحا متبادلا التي توجد لدى السيد توربت والتي أنتجت من أصل أبوي قد أظهر بالفعل بعض القدرة على مقاومة المرض، ولم تستمر عملية الانتقاء على مر أجيال عديدة أخرى.
إذا تولت الجمعية الزراعية هذه المهمة، فإن معرفة السيد توربت المكتسبة بالخبرة ستكون قيمة جدا، وهو يورد في خطابه المطبوع موجزا عاما للخطة. سيكون ضروريا أن تجمع الدرنات التي أنتجها كل نبات، على حدة، وتفحص بعناية في كل جيل لاحق.
سيكون من المستحسن أن يزرع صنف ما من البطاطس معرض جدا للمرض بأعداد كبيرة بالقرب من الشتلات لينقل العدوى إليها.
بصفة إجمالية، ستتطلب التجربة عناية شديدة وصبرا بالغا، كما أعرف من التجربة التي عايشتها مع عمل مشابه، وربما يكون من الصعب إيجاد أي شخص يواصل التجربة بطاقة كافية. لذا أرى أنه من المستحسن جدا أن يتلقى السيد توربت منحة صغيرة ليواصل العمل بنفسه.
استنادا إلى تقاريره، فقد كللت جهوده في وقت قصير بنجاح أكبر مما كان يمكن توقعه، وأظن أنك ستتفق معي في أن أي أحد يتمكن من إنبات بطاطس مقاومة للفطريات سيكون نافعا فريدا من نوعه لعامة الناس.
لك بالغ إخلاصي يا عزيزي فارار
تشارلز داروين [بعد مزيد من المشاورات مع السير توماس فارار والسيد كيرد، اقتنع والدي بأن محاولة الحصول على دعم حكومي ميئوس منها. وأرسل خطابا بهذا المعنى إلى السيد توربت، مضيفا: «ستكون محاولة الحصول على تبرع من بضعة مزارعين بارزين أثرياء أقل عناء من محاولة الحصول على دعم من الحكومة. أظن أن هذا اقتراح لا يمكنك الاعتراض عليه؛ لأنك لم تطلب شيئا، ولن يكون لك أي علاقة بالتبرع. فالحق أنني أرى في هذا الأمر مجاملة لك.» نفذت الفكرة المطروحة هنا، ومكن السيد توربت من مواصلة عمله بمساعدة تبرع مالي أسهم فيه السير تي فارار والسيد كيرد ووالدي وبضعة أصدقاء.
لاقى تعاطف والدي وتشجيعه تقديرا كبيرا من السيد توربت، الذي يقول لي إنه كان سييأس من المحاولة من وقت طويل لولاهما. وستوضح بضعة مقتطفات بالأمثلة تعاطف والدي مع جهد السيد توربت ومثابرته: «إنني معجب بروحك التي لا تقهر. إذا كان أي شخص يستحق النجاح على الإطلاق، فهو أنت، وأنا ما زلت عند رأيي الأصلي المؤمن بأن احتمالية نجاح مساعيك إلى إنماء ضرب مقاوم للفطريات من البطاطس كبيرة جدا.
من المؤكد أن أي شخص رائد في أي مجال جديد سيصادف إحباطات عديدة؛ لذا آمل أن تحافظ على تحليك بالروح المعنوية العالية، مع أننا لم نساعدك إلا بأقل القليل.»
يقول لي السيد توربت إنه لا يزال (في عام 1887) ينجح في إنماء ضروب ذات قدرات ملحوظة على مقاومة المرض، لكن هذه المناعة ليست دائمة، وبعد بضع سنوات، تصبح الضروب عرضة لهجمات الفطر.]
فهرس كيو لأسماء النباتات، أو «الفهرس الدارويني» [ورد ذكر لعلاقة والدي بفهرس أسماء النباتات، الذي هو قيد الإعداد الآن (1887) في كيو، في ورقة السيد بي دايدون جاكسون البحثية في مجلة «جورنال أوف بوتاني»، 1887، الصفحة 151. ويقتبس السيد جاكسون التصريح التالي الذي قاله السير جيه دي هوكر: «قبيل وفاة السيد تشارلز داروين، أبلغ السير جوزيف هوكر بأنه كان ينوي أن يخصص مبلغا ماليا سنويا كبيرا على مر عدة سنوات لمساعدة عمل واحد أو عدة أعمال تحمل فائدة عملية لعلم الأحياء، أو لدعمها من أجل تطويرها، وبأنه سيضع بهذا الأمر بنودا في وصيته إذا لم تكتمل هذه النيات في حياته.
من بين أمور أخرى مرتبطة بعلم النبات، كان للسيد داروين اهتمام خاص بأهمية وضع فهرس كامل لأسماء أجناس النباتات المعروفة لدى علماء النبات وأنواعها وواضعي هذه الأسماء، مع بلدانهم الأصلية. فلا يوجد عمل حالي من هذا النوع سوى فهرس ستودل، ومع أن عمره الآن يبلغ حوالي نصف قرن، كان السيد داروين قد وجده ذا عون كبير له في أبحاثه التي أجراها بنفسه. كان ضرورة لا غنى عنها لكل مؤسسة نباتية، سواء بصفته قائمة تضم كل النباتات المزهرة المعروفة، أو بصفته مصدرا يضم واضعي أسمائها، أو بصفته تلخيصا للجغرافيا النباتية.»
يمكن القول إن عدد النباتات الموصوفة قد تضاعف منذ عام 1840، عندما نشر فهرس ستودل؛ لذا أصبح الآن متخلفا جدا عن مواكبة متطلبات العمل المتعلق بعلم النبات. ولسد هذه الحاجة، كانت هناك نسخة من الفهرس في المعشبة في كيو تحدث من حين إلى آخر بإدراج أوراق التعديلات الجديدة بها، وذلك بمساعدة «تبرعات يجود بها كرماء في السر».
9
اختبر والدي نفسه، كعلماء نبات آخرين، قيمة عمل ستودل، كما يقول السير جوزيف هوكر. فقد كان يحصل على نباتات من كل أنواع المصادر، وكثيرا ما كانت هذه النباتات تحمل تسميات خاطئة، فارتأى أنه من الضروري الالتزام بالتسميات المقبولة، ليتمكن من نقل معلومات دقيقة عن النباتات التي درسها للباحثين والعلماء الآخرين. وغالبا ما كان يهتم أيضا بمعرفة البلد الأصلي لنباتاته التي كان يجري عليها التجارب. ولذا كان من الطبيعي أن يدرك أنه من المستحسن إكمال النسخة التي يجري تحديثها من الفهرس ونشرها في كيو. ثم إن رغبته في المساعدة لتحقيق هذا الهدف قد عززت أيضا إعجابه بالنتائج التي يجب على العالم أن يشكر عليها الحدائق الملكية في كيو، وامتنانه للمساعدة التي لا تقدر بثمن التي تلقاها على مر سنوات عديدة من مدير الحدائق وموظفيها. فقد قال بكل صراحة إنه يرغب في «تقديم المساعدة بطريقة ما في العمل العلمي الذي يجرى في الحدائق الملكية»،
10
وكان هذا ما دفعه إلى أن يعرض التبرع بأموال لإكمال «فهرس كيو لأسماء النباتات».
الفقرة التالية، التي أدين بها للبروفيسور جود، مهمة جدا؛ لأنها توضح الدوافع التي حركت والدي في هذا الشأن. كتب البروفيسور جود قائلا: «في زيارتي الأخيرة إليه، أخبرني بأن دخله قد ازداد جدا مؤخرا، بينما بقيت حاجاته كما هي؛ إذ كان حريصا جدا على تكريس كل ما كان يستطيع ادخاره للإسهام في تقدم علم الجيولوجيا أو علم الأحياء. راح يتحدث بطريقة مؤثرة جدا عن أنه يدين بالكثير من سعادته وشهرته لعلوم التاريخ الطبيعي، مما كان عزاء له في حياته التي ربما كانت ستصبح مؤلمة دون ذلك، وناشدني، إذا كنت أعرف أي بحث يمكن أن يدعم بمنحة مالية قدرها بضع مئات من الجنيهات، أن أبلغه بذلك؛ لأنه سيسعد إذا شعر بأنه يسهم في تشجيع تقدم العلم. وأخبرني في الوقت نفسه بأنه كان يقترح الاقتراح نفسه على السير جوزيف هوكر والبروفيسور هكسلي بخصوص علم النبات وعلم الحيوان على الترتيب. لقد بهرت جدا بالجدية الصادقة والعاطفة العميقة، اللتين كان يتحدث بهما عن مقدار ما يدين به للعلم، ورغبته في تشجيع مصالحه.»
طلب والدي من السير جوزيف هوكر «أن يأخذ في حسبانه، بمساعدة الموظفين المعنيين بعلم النبات في كيو والراحل السيد بينثام، نطاق العمل المقترح وغايته، وأن يقترح أفضل السبل لتنفيذه. وفي أثناء فعل ذلك، استفاد السير جوزيف كذلك من المعرفة والخبرة العظيمة لدى البروفيسور آسا جراي، من كامبريدج، الولايات المتحدة الأمريكية، والسيد جون بول، زميل الجمعية الملكية.»
11
درست خطة العمل المقترح بعناية، واستطاع السير جوزيف هوكر أن يأتمن على تفاصيل إعدادها السيد بي دايدون جاسكون، سكرتير الجمعية اللينية، الذي تؤهله معرفته الواسعة بمؤلفات علم النبات لهذه المهمة. يمكن القول إن فكرة والدي الأصلية التي كان يعتزم فيها إنتاج طبعة معاصرة من فهرس ستودل قد تركت تقريبا، وصار الهدف الآن بدلا منها إنشاء قائمة بالأجناس والأنواع (مع المراجع)، بالاستناد إلى كتاب «أجناس النباتات» الذي وضعه بينثام وهوكر. ويمكن تقدير حجم الطبيعة الهائلة للعمل الجاري في كيو بحقيقة أن البعض يعتقد أن وزن مخطوطة الفهرس حاليا (في عام 1887) يتجاوز طنا كاملا. يمضي العمل قدما بخطى ثابتة تحت إشراف السير جوزيف هوكر؛ لأنه ينفذ بحماسة باهرة من السيد جاكسون، الذي يكرس نفسه بلا هوادة لهذا المشروع، الذي يستفيد فيه أيضا من الاهتمام الحماسي بالعمل لدى البروفيسور أوليفر والسيد ثيسلتون داير.
سيكون فهرس كيو، الذي من المرجح جدا أن يصبح جاهزا للإرسال إلى المطبعة في غضون أربع سنوات أو خمس، تخليدا مناسبا لذكرى والدي، ويمكن القول إن إسهامه في إتمامه يوضح جزءا من شخصيته؛ وهو تعاطفه الحاضر دائما مع الأعمال الواقعة خارج نطاق أبحاثه، واحترامه للجهد الدقيق الصبور في كل فروع العلم.]
هوامش
الفصل السادس عشر
خاتمة
ربما أمكن استخلاص فكرة ما عن المسار العام لحالة والدي الصحية من الخطابات الواردة في الصفحات السابقة. ويتخذ موضوع الصحة في سيرته الذاتية اهتماما بارزا بدرجة أكبر مما يستلزمه في أغلب السير الذاتية؛ لأنه، مع الأسف، كان عنصرا أصيلا جدا في تحديد شكل حياته الخارجي.
كانت حالته الصحية في السنوات العشر الأخيرة من حياته باعثا على الرضا والأمل في نفوس أفراد أسرته. فقد ظهرت أمارات التحسن على حالته من عدة جوانب. صار أقل اكتئابا وضيقا، وأصبح قادرا على العمل بدرجة أفضل من الاستمرار. ورد بعض الكلام سلفا عن علاج الدكتور بينس جونز، الذي استفاد منه والدي بالتأكيد. وفي سنوات لاحقة، صار يتابع حالته الصحية لدى السير أندرو كلارك، وتحسنت صحته العامة جدا تحت رعايته. ولم يكن والدي يشعر بدين الامتنان للسير أندرو كلارك بسبب خدماته التي كان يقدمها بسخاء فقط. وإنما كان مدينا أيضا لتأثيره الشخصي المبهج بالتشجيع الذي كان يتكرر مرارا، والذي أضاف شيئا من الأصالة إلى سعادته، وكان يجد بهجة حقيقية في صداقة السير أندور ولطفه تجاهه شخصيا وتجاه أبنائه.
تحمل الصفحات السابقة بضع إشارات متفرقة إلى شعوره بألم أو عدم ارتياح في منطقة القلب. ولا أستطيع أن أدعي أنني أعرف إلى أي مدى تبين هذه الإشارات أن قلبه تضرر في وقت مبكر من حياته، لكن المؤكد في كل الأحوال أنه لم يكن يعاني مشكلة خطيرة أو دائمة من هذا النوع حتى ما قبل وفاته بوقت قصير. بالرغم من التحسن العام في صحته، الذي أشير إليه أعلاه، من المؤكد أن حيويته الجسدية كانت تضمحل في السنوات القليلة الأخيرة من حياته، وكان هذا الاضمحلال يظهر من حين إلى آخر. وتوضح ذلك جملة واردة في خطاب إلى صديقه القديم السير جيمس سوليفان بتاريخ 10 يناير 1879: «عملي العلمي يصيبني بإرهاق أشد مما كان يصيبني به عادة، ولكن ليس لدي شيء آخر أفعله، ولا يهم ما إذا خارت قوى المرء تماما قبل الأوان أو بعده بعام أو اثنين.»
نجد شعورا مشابها في خطاب إلى السير جيه دي هوكر بتاريخ 15 يونيو 1881. كان والدي يقيم آنذاك في باترديل، وكتب في الخطاب قائلا: «أشعر ببعض اليأس من حالي ... ليست لدي الشجاعة ولا القدرة لبدء أي بحث علمي يستمر سنوات، وهذا هو الشيء الوحيد الذي أستمتع به، وليس لدي مهام تافهة أستطيع تأديتها.»
وفي يوليو 1881، أرسل خطابا إلى السيد والاس قائلا فيه: «عدنا للتو إلى الديار بعد قضاء خمسة أسابيع بالقرب من بحيرة أولزووتر؛ المنظر الطبيعي خلاب جدا، لكني لا أستطيع المشي وكل شيء يتعبني، حتى رؤية المناظر الطبيعية ... لا أستطيع إطلاقا معرفة ما سأفعله بالسنوات القليلة المتبقية في حياتي. لدي كل شيء يجعلني سعيدا وراضيا، لكن الحياة صارت شاقة جدا لي.» بالرغم من ذلك، فقد استطاع في خريف عام 1881 إنجاز قدر كبير من العمل، وقد كان عملا من النوع الشاق،
1
لكن قرب نهاية السنة، كان بحاجة واضحة للراحة، وفي أثناء الشتاء كان في حالة أسوأ من المعتاد.
في 13 ديسمبر ذهب إلى منزل ابنته في شارع بريانستون ليمكث أسبوعا هناك. وإبان إقامته في لندن، ذهب ليزور السيد رومينز، وبوغت عندما كان على عتبة الباب بنوبة بدا أنها من نفس النوع الذي تكرر مرارا كثيرة بعدئذ. وتعد هذه الحادثة، التي أعرضها بكلمات السيد رومينز، مثيرة للاهتمام أيضا من منظور مختلف؛ لأنها تقدم مثالا آخر يبين مدى اهتمام والدي الشديد بمراعاة الآخرين: «تصادف أنني كنت بالخارج، لكن كبير خدامي، عندما لاحظ أن السيد داروين متوعك، طلب منه أنه يدخل، فقال إنه يفضل العودة إلى المنزل، ورغم أن كبير الخدم ألح عليه لينتظر على الأقل ريثما يحضر عربة أجرة، قال إنه يحبذ ألا يكبده عناء شديدا. وللسبب نفسه رفض أن يسمح لكبير الخدم بمرافقته. لذا وقف يشاهده وهو يمشي بصعوبة نحو الاتجاه الذي كان من المفترض أن يلتقي فيه عربات الأجرة، ورأى أنه، حين ابتعد عن المنزل حوالي ثلاثمائة ياردة، ترنح وأمسك بسياج الحديقة كما لو كان يحاول تجنب السقوط. لذا هرع كبير الخدم إلى مساعدته، ولكن بعد بضع ثوان، رآه يستدير وكان واضحا أنه يعتزم العودة إلى منزلي. غير أنه بعدما قطع جزءا من طريق العودة، بدا أنه يشعر بتحسن؛ إذ غير رأيه مرة أخرى، وشرع في محاولة العثور على عربة أجرة.»
في أثناء الأسبوع الأخير من شهر فبراير وبداية شهر مارس، تكررت نوبات الألم في منطقة القلب، مع عدم انتظام النبض، وصارت تحدث بالفعل بعد ظهر كل يوم تقريبا. وقد أصيب بنوبة من هذا النوع في 7 مارس عندما كان يسير بمفرده على بعد مسافة قصيرة من المنزل، فعاد إلى المنزل بصعوبة، وكانت هذه هي المرة الأخيرة التي استطاع فيها الوصول إلى «ممشاه الرملي» المفضل . وبعد ذلك بمدة قصيرة، أصبح مرضه أشد حدة وإثارة للقلق بوضوح، وفحصه السيد أندرو كلارك الذي تكفل الدكتور نورمان مور بمواصلة نهجه العلاجي، من مستشفى سانت بارثولوميو، والسيد ألفري من منطقة سانت ماري كراي. كان يعاني أحاسيس مزعجة بالإنهاك والإعياء، وبدا أنه صار مدركا بحزن عميق أن أيام قدرته على العمل قد ولت. تعافى رويدا من هذه الحالة، وصار أكثر مرحا وتفاؤلا، كما يتضح في الخطاب التالي المرسل إلى السيد هكسلي، الذي كان حريصا بشدة على أن يخضع والدي لإشراف طبي أكثر عناية مما كانت تسمح به الترتيبات الموجودة آنذاك:
داون، 27 مارس 1882
عزيزي هكسلي
كان خطابك اللطيف جدا دواء منشطا لقلبي حقا. فأنا أشعر اليوم بأنني أفضل حالا مما كنت طوال ثلاثة أسابيع، ولم أشعر بأي ألم حتى الآن. أرى خطتك ممتازة، وسأعمل بها على الأرجح، إلا إذا تحسنت حالتي بدرجة كبيرة جدا. الدكتور كلارك يعاملني بلطف لا محدود، لكنه أشد انشغالا من أن يأتي إلى هنا. أرجو مرة أخرى أن تتقبل خالص شكري من صميم قلبي يا صديقي القديم العزيز. أتمنى من الرب أن يكون في العالم مزيد من الكائنات الآلية مثلك.
2
صديقك إلى الأبد
سي داروين
تستلزم هذه الإشارة إلى السير أندرو كلارك قليلا من الشرح. كان السير أندرو كلارك نفسه مستعدا على الدوام لتكريس نفسه لمساعدة والدي، لكن والدي لم يستطع تحمل فكرة استدعائه؛ لأنه كان يدرك مدى ثقل العبء الواقع عليه بسبب عمله.
لم يطرأ أي تغيير جدير بالذكر في بداية أبريل، ولكن في يوم السبت الموافق الخامس عشر من الشهر، أصيب بدوار وهو قاعد ليتناول العشاء في المساء، وأغمي عليه وهو يحاول الوصول إلى أريكته. وفي اليوم السابع عشر، تحسنت حالته مرة أخرى، وفي فترة غيابي المؤقت، سجل لي التقدم المحرز في تجربة كنت مشاركا فيها. وفي مساء 18 أبريل في حوالي الساعة الثانية عشرة إلا ربعا، أصيب بنوبة حادة، وأغمي عليه، ثم عاد إليه وعيه بصعوبة بالغة. بدا وكأنه كان يدرك اقتراب الموت، وقال: «لست خائفا على الإطلاق من الموت». وطوال صباح اليوم التالي، ظل يعاني غثيانا وإغماء شديدين، وبالكاد استجمع قواه قبل أن تأتي النهاية.
توفي في حوالي الساعة الرابعة من يوم الأربعاء الموافق 19 أبريل من عام 1882.
أختم سجل حياة والدي ببضع كلمات تأملية أضيفت إلى مخطوطة «سيرته الذاتية» في عام 1879: «بالنسبة إلي، أعتقد أنني تصرفت التصرف السليم بالسعي في سبيل العلم وتكريس حياتي له باستمرار. ولا أشعر بأي ندم على ارتكاب أي خطيئة كبرى، لكنني كثيرا ما ندمت على أنني لم أقدم المزيد من النفع المباشر للآخرين.»
هوامش
الملحق الأول
الجنازة في ويستمينستر آبي
في يوم الجمعة الذي تلا وفاة والدي، وجه الخطاب التالي، الذي وقع عليه عشرون عضوا في البرلمان، إلى الدكتور برادلي، عميد ويستمينستر:
مجلس العموم، 21 أبريل 1882
سيدي المبجل
نأمل ألا تظن أننا نتجاسر إذا تجرأنا على اقتراح دفن مواطننا اللامع، السيد داروين، في ويستمينستر آبي، وقلنا إن عددا كبيرا جدا من مواطنينا من كل الطبقات والآراء يرون ذلك اقتراحا مقبولا.
نبقى خدامك المطيعين:
جون لوبوك، نيفيل ستوري ماسكلين، إيه جيه منديلا، جي أو تريفيليان، ليون بلايفير، تشارلز دبليو ديلك، ديفيد ويدربيرن، آرثر راسل، هوريس ديفي، بنجامين أرميتيدج، ريتشارد بي مارتن، فرانسيس دبليو بكستون، إي إل ستانلي، هنري برودهرست، جون باران، إف جي تشيتام، إتش إس هولاند، إتش كامبل-بانرمان، تشارلز بروس، ريتشارد فورت.
كان العميد خارج البلاد آنذاك، وأرسل برقية يعرب فيها عن موافقته الحارة من صميم قلبه.
كانت الأسرة قبل ذلك ترغب في دفن والدي في داون، وقد كتب السير جون لوبوك في خطاب بخصوص رغباتهم:
مجلس العموم، 25 أبريل 1882
عزيزي داروين
أتعاطف تماما مع مشاعركم، وأنا شخصيا كنت سأحبذ بشدة أن يرقد والدك في داون بيننا كلنا. أنا متيقن من أنه من المفهوم تماما أنك لم تكن صاحب هذه المبادرة. بالرغم من ذلك، فمن وجهة نظر وطنية ، من الصائب بكل وضوح أن يدفن في آبي. أعتبره شرفا كبيرا أن يسمح لي بمرافقة سيدي العزيز إلى القبر.
مع أصدق تحياتي وبالغ إخلاصي
جون لوبوك.
المحترم دبليو إي داروين
تخلت الأسرة عن خططها التي وضعتها في البداية، وأقيمت الجنازة في ويستمينستر آبي في السادس والعشرين من أبريل. كان حملة النعش هم:
السير جون لوبوك
السيد هكسلي
السيد جيمس راسل لويل (وزير أمريكي)
السيد إيه آر والاس
دوق ديفونشير
كانون فارار
السير جيه دي هوكر
السيد ويليام سبوتسوود (رئيس الجمعية الملكية)
إيرل ديربي
دوق آرجايل
شهدت الجنازة حضور ممثلين من فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وروسيا، وممثلي بعض الجامعات والجمعيات العلمية، وكذلك عدد كبير من الأصدقاء الشخصيين والرجال البارزين.
يقع القبر في الممر الشمالي من صحن الكنيسة بالقرب من زاوية الحاجز الشبكي الخشبي المخصص للجوقة، وعلى بعد بضعة أمتار من قبر السير إسحاق نيوتن. منقوش على الحجر:
تشارلز روبرت داروين
ولد في 12 فبراير 1809
توفي في 19 أبريل 1882
الملحق الثاني
(1) قائمة من أعمال تشارلز داروين
Narrative of the Surveying Voyages of Her Majesty’s Ships 'Adventure’ and 'Beagle’ between the years 1826 and 1836, describing their examination of the Southern shores of South America, and the 'Beagle’s 'circumnavigation of the globe. Vol. iii. Journal and Remarks, 1832-1836. By Charles Darwin. 8vo. London, 1839.
Journal of Researches into the Natural History and Geology of the countries visited during the Voyage of H.M.S. 'Beagle’ round the world, under the command of Capt. Fitz-Roy, R.N. 2nd edition, corrected, with additions. 8vo. London, 1845. (Colonial and Home Library.)
A Naturalist’s Voyage. Journal of Researches, 8vo. London, 1860. [Contains a postscript dated Feb. 1, 1860.]
Zoology of the Voyage of H.M.S. 'Beagle.’ Edited and superintended by Charles Darwin.
Geological Introduction, by Charles Darwin. 4to. London, 1840.
______
Waterhouse. With a notice of their habits and ranges, by Charles Darwin. 4to. London, 1839.
______
pp.) states that in consequence of Mr. Gould’s having left England for Australia, many descriptions were supplied by Mr. G. R. Gray of the British Museum. 4to. London, 1841.
______
1842.
______
1843.
The Structure and Distribution of Coral Reefs. Being the First Part of the Geology of the Voyage of the 'Beagle.’ 8vo. London, 1842.
The Structure and Distribution of Coral Reefs. 2nd edition. 8vo. London, 1874.
Geological Observations on the Volcanic Islands, visited during the Voyage of H.M.S. 'Beagle.’ Being the Second Part of the Geology of the Voyage of the 'Beagle.’ 8vo. London, 1844.
Geological Observations on South America. Being the Third Part of the Geology of the Voyage of the 'Beagle.’ 8vo. London, 1846.
Geological Observations on the Volcanic Islands and parts of South America visited during the Voyage of H.M.S. 'Beagle.’ 2nd edition. 8vo. London, 1876.
A Monograph of the Fossil Lepadidæ; or,
1851. (Palæontographical Society.)
A Monograph of the Sub-class Cirripedia, with Figures of all the Species. The Lepadidæ; or, Pedunculated Cirripedes. 8vo. London, 1851. (Ray Society.)
______
The Balanidæ (or Sessile Cirripedes); the Verrucidæ, & c. 8vo. London, 1854. (Ray Society.)
A Monograph of the Fossil Balanidæ and Verrucidæ of Great Britain. 4to. London, 1854. (Palæontographical Society.)
On the Origin of Species by means of Natural Selection, or the Preservation of Favoured Races in the Struggle for Life. 8vo. London, 1859. (Dated Oct. 1 st, 1859, published Nov. 24, 1859.)
______
Fifth thousand. 8vo. London, 1860.
______
Third edition, with additions and corrections. (Seventh thousand.) 8vo. London, 1861. (Dated March, 1861.)
______
Fourth edition, with additions and corrections. (Eighth thousand.) 8vo. London, 1866. (Dated June, 1866.)
______
Fifth edition, with additions and corrections. (Tenth thousand.) 8vo. London, 1869. (Dated May, 1869.)
______
Sixth edition, with additions and corrections to 1872. (Twentyfourth thousand.) 8vo. London, 1882. (Dated Jan., 1872.)
On the various contrivances by which Orchids are fertilised by Insects. 8vo. London, 1862.
______
Second edition. 8vo. London, 1877. [In the second edition the word “On” is omitted from the title.]
The Movements and Habits of Climbipg
appeared in the ninth volume of the 'Journal of the Linnean Society.’]
The Variation of Animals and Plants under Domestication. 2 vols. 8vo. London, 1868.
______
Second edition, revised. 2 vols. 8vo. London, 1875.
The Descent of Man, and Selection in Relation to Sex. 2 vols. 8vo. London, 1871.
______
Second edition. 8vo. London, 1874. (In 1 vol.)
The Expression of the Emotions in Man and Animals. 8vo. London, 1872.
Insectivorous Plants. 8vo. London, 1875.
The Effects of Cross and Self Fertilisation in the Vegetable Kingdom. 8vo. London, 1876.
______
Second edition. 8vo. London, 1878.
The different Forms of Flowers on
1877.
______
Second edition. 8vo. London, 1880.
The Power of Movement in Plants. By Charles Darwin, assisted by Francis Darwin. 8vo. London, 1880.
The Formation of Vegetable Mould, through the Action of Worms, with Observations on their Habits. 8vo. London, 1881. (2) قائمة بالكتب التي تتضمن مساهمات تشارلز داروين
A Manual of scientific enquiry; prepared for the use of Her Majesty’s Navy: and adapted for travellers in general. Ed. by Sir John F. W. Herschel, Bart. 8vo. London, 1849. (Section VI. Geology. By Charles Darwin.)
Memoir of the Rev. John Stevens Henslow. By the Rev. Leonard Jenyns. 8vo. London, 1862. [In Chapter Ill., Recollections by C. Darwin.]
A letter (1876) on the 'Drift’ near Southampton, publish&d in Prof. J. Geikie’s 'Prehistoric Europe.’
Flowers and their unbidden guests. By A. Kerner. With a Prefatory Letter by Charles Darwin. The translation revised and edited by W. Ogle. 8vo. London, 1878.
Erasmus Darwin. By Ernst Krause. Translated from the Gerrnan by W. S. Dallas. With a preliminary notice by Charles Darwin. 8vo. London, 1879.
Studies in the Theory of Descent. By Aug. Weismann. Translated and edited by Raphael Meldola. With a Prefatory Notice by Charles Darwin. 8vo. London, 1880-.
The Fertilisation of Flowers. By Hermann Müller. Translated and edited by D’Arcy W. Thompson. With a Preface by Charles Darwin. 8vo. London, 1883.
Mental Evolution in Animals. By G. J. Romanes. With a posthumous essay on instinct by Charles Darwin, 1883. [Also published in the Journal of the Linnean Society.]
Some Notes on a curious habit of male humble bees were sent to Prof. Hermann Müller, of Lippstadt, who had permission from Mr. Darwin to make what use he pleased of them. After Müller’s death the Notes were given by his son to Dr. E. Krause, who published them under the title, “Ueber die Wege der HummelMännchen” in his book, 'Gesammelte kleinere Schriften von Charles Darwin’ (1887). (3) قائمة بالأوراق العلمية، ومنها مجموعة مختارة من الخطابات والمراسلات القصيرة إلى الدوريات العلمية
Letters to Professor Henslow, read by him at the meeting of the Cambridge Philosophical Society, held Nov. 16, 1835. 31 pp. 8vo. Privately printed for distribution among the members of the Society.
Geological Notes made during a survey of the East and West Coasts of South America in the years 1832, 1833, 1834, and 1835; with an account of a transverse section of the Cordilleras of the Andes between Valparaiso and Mendoza. [Read Nov. 18, 1835.] Geol. Soc. Proc. ii. 1838, pp. 210-212. [This Paper is incorrectly described in Geol. Soc. Proc. ii., p. 210 as follows: - “Geological notes, & c., by F. Darwin, Esq., of St. John’s College, Cambridge: communicated by
Darwin.]
Notes upon the Rhea Americana. Zool. Soc. Proc., Part v. 1837, PP. 35-36.
Observations of proofs of recent elevation on the coast of Chili. made during the survey of H.M.S. “Beagle,” commanded by Capt. FitzRoy. [1837.] Geol. Soc. Proc. ii. 1838, pp. 446-449.
A sketch of the deposits containing extinct Mammalia in the neighbourhood of the Plata. [1837.] Geol. Soc. Proc. ii. 1838, pp. 542-544.
On certain areas of elevation and subsidence in the Pacific and Indian oceans, as deduced from the study of coral formations. [1837.] Geol. Soc.
On the Formation of Mould. [Read Nov. 1, 1837.] Geol. Soc. Proc. ii. 1838, pp. 574-576; Geol. Soc. Trans. v. 1840, pp. 505-510.
On the Connexion of certain Volcanic
the effects of continental elevations. [Read March 7, 1838.] Geol. Soc. Proc. ii. 1838, pp. 654-660; Geol. Soc. Trans. v. 1840, pp. 601-632. [In the Society’s Transactions the wording of the title is slightly different.]
Origin of saliferous deposits. Salt Lakes of Patagonia and La Plata. Geol. Soc. Journ. ii. (Part ii.), 1838, pp. 127-128.
Note on a Rock seen on an Iceberg in 16
South Latitude. Geogr. Soc. Journ. ix. 1839, pp. 528-529.
Observations on the Parallel Roads of Glen Roy, and of other parts of Lochaber in Scotland, with an attempt to prove that they are of marine origin.
On a remarkable Bar of Sandstone off
1841, pp. 257-260.
On the Distribution of the Erratic Boulders and on the Contemporaneous Unstratified Deposits of South America. [1841.] Geol. Soc. Proc. iii. 1842, pp. 425-430; Geol. Soc. Trans. [1841.] vi. 1842, pp. 415-432.
Notes on the Effects produced by the Ancient Glaciers of Caernarvonshire, and on the Boulders transported by Floating Ice. London Philosoph. Mag. vol. xxi. p. 180. 1842.
Remarks on the preceding paper, in a Letter from Charles Darwin, Esq., to Mr. Maclaren. Edinb. New Phil. Journ. xxxiv. 1843, pp. 47-50. [The “preceding” paper is: “On Coral Islands and Reefs as described by Mr. Darwin. By Charles Maclaren, Esq., F.R.S.E.”]
Observations on the Structure and
Sagitta . Ann. and Mag. Nat. Hist. xiii. 1844, pp. 1-6.
Brief Descriptions of several Terrestrial Planariæ, and of some remarkable Marine Species, with an Account of their Habits. Ann. and Mag. Nat. Hist. xiv. 1844, pp. 241-251.
An account of the Fine Dust which often falls on Vessels in the Atlantic Ocean. Geol. Soc. Journ. ii. 1846, pp. 26-30.
On the Geology of the Falkland Islands. Geol. Soc. Journ. ii. 1846, pp. 267-274.
A review of Waterhouse’s 'Natural History of the Mammalia.’ [Not signed.] Ann. and Mag. of Nat. Hist. 1847. Vol. xix. p. 53.
On the Transportal of Erratic Boulders from a lower to a higher level. Geol. Soc. Journ. iv. 1848, pp. 315-323.
On British fossil Lepadidæ. Geol. Soc. Journ. vi. 1850, pp. 439-440. [The G. S. J. says, “This paper was withdrawn by the author with the permission of the Council.”]
Analogy of the Structure of some Volcanic Rocks with that of Glaciers. Edinb. Roy. Soc.
On the power of Icebergs to make rectilinear, uniformly-directed Grooves across a Submarine Undulatory Surface. Phil. Mag. x. 1855, pp. 96-98.
Vitality of Seeds.
Gardeners’ Chronicle , Nov. 17, 1855, p. 758.
On the action of Sea-water on the Germination of Seeds. [1856.]
Linn. Soc. Journ. i. 1857 (
Botany ), pp. 130-140.
On the Agency of Bees in the Fertilisation of Papilionaceous Flowers.
Gardeners’ Chronicle , p. 725, 1857.
On the Tendency of Species to form Varieties; and on the Perpetuation of Varieties and Species by Natural Means of Selection. By Charles Darwin, Esq., F.R.S., F.L.S., and F.G.S., and Alfred Wallace, Esq. [Read July 1st, 1858.] Journ. Linn. Soc. 1859, vol. iii. (
Zoology ), p. 45.
Special titles of C. Darwin’s contributions to the foregoing: (i) Extract from an unpublished work on Species by C. Darwin, Esq., consisting of a portion of a chapter entitled, “On the Variation of Organic Beings in a State of Nature; on the Natural Means of Selection; on the Comparison of Domestic Races and true Species.” (ii) Abstract of a Letter from C. Darwin, Esq., to Professor Asa Gray, of Boston, U. S., dated Sept. 5, 1857.
On the Agency of Bees in the Fertilisation of Papilionaceous Flowers, and on the Crossing of Kidney Beans.
Gardeners’ Chronicle , 1858, p. 828 and Ann. Nat. Hist. 3rd series ii. 1858, pp. 459-465.
Do the Tineina or other small Moths suck Flowers, and if so what Flowers?
Entom. Weekly Intell . vol. viii. 1860, p. 103.
Note on the achenia of
.
Gardeners’ Chronicle , Jan. 5, 1861, p. 4.
Fertilisation of Vincas.
Gardeners’ Chronicle , pp. 552, 831, 832. 1861.
On the Two Forms, or Dimorphic Condition, in the species of
, and on their remarkable Sexual Relations. Linn. Soc. Journ. vi. 1862 (
Botany ), pp. 77-96.
On the Three remarkable Sexual Forms of
Catasetum tridentatum , an Orchid in the possession of the Linnean Society. Linn. Soc. Journ. vi. 1862 (
Botany ), pp. 151-157.
Yellow Rain.
Gardeners’ Chronicle , July 18, 1863, p. 675.
On the thickness of the Pampean formation near Buenos Ayres. Geol. Soc. Journ. xix. 1863, pp. 68-71.
On the so-called “Auditory-sac” of Cirripedes. Nat. Hist. Review, 1863, pp. 115-116.
A review of Mr. Bates’ paper on 'Mimetic Butterflies.’ Nat. Hist. Review, 1863, p. 221-. [Not signed.]
On the existence of two forms, and on their reciprocal sexual relation, in several species of the genus
Linum . Linn. Soc. Journ. vii. 1864 (
Botany ), pp. 69-83.
On the Sexual Relations of the Three Forms of
Lythrum salicaria . [1864.] Linn. Soc. Journ. viii. 1865 (
Botany ), pp. 169-196.
On the Movement and Habits of Climbing
Botany ), pp. 1-118.
Note on the Common Broom (
Cytisus scolarius ). [1866.] Linn. Soc. Journ. ix. 1867 (
Botany ), p. 358.
Notes on the Fertilization of Orchids. Ann. and Mag. Nat. Hist. 4th series, iv. 1869, pp. 141-159.
On the Character and Hybrid-like Nature of the Offspring from the Illegitimate Unions of Dimorphic and Trimorphic Plants. [1868.] Linn. Soc. Jour. x. 1869 (
Botany ), pp. 393-437.
On the Specific Difference between
, Brit. Fl. (var.
ogcinalis , of Linn.),
vulgaris , Brit. Fl. (var.
acaulis , Linn.), and
, Jacq.; and on the Hybrid Nature of the common Oxslip. With Supplementary Remarks on naturally produced Hybrids in the genus
Verbascum . [1868.] Linn. Soc. Journ. x. 1869 (
Botany ), pp. 437-454.
Note on the Habits of the Pampas Woodpecker (
Colaptes campestris ). Zool. Soc. Proc. Nov. 1, 1870, pp. 705-706.
Fertilisation of
Leschenaultia. Gardeners’ Chronicle , p. 1166, 1871.
The Fertilisation of Winter-flowering
85.
vol. iii. p. 502.
A new view of Darwinism. 'Nature,’ July 6, 1871, vol. iv. p. 180.
Bree on Darwinism. 'Nature,’ Aug. 8, 1872, vol. vi. p. 279.
Inherited Instinct. 'Nature,’ Feb. 13, 1873, vol. vii. p. 281.
'Nature,’ March 13, 1873, vol. vii. p. 360.
Origin of certain instincts. 'Nature,’ April 3, 1873, vol. vii. p. 417.
Habits of Ants. 'Nature,’ July 24, 1873, vol. viii. p. 244.
On the Males and Complemental Males of Certain Cirripedes, and on Rudimentary Structures. 'Nature,’ Sept. 25, 1873, vol. viii. p. 431.
Recent researches on Termites and Honey-bees. 'Nature,’ Feb. 19, 1874, vol. ix. p. 308.
Fertilisation of the Fumariaceæ. 'Nature,’ April 16, 1874, vol. ix. p. 460.
Flowers of the Primrose destroyed by Birds. 'Nature,’ April 23, 1874, vol. ix. p. 482; May 14, 1874, vol. x. p. 24.
Cherry Blossoms. 'Nature,’ May 11, 1876, vol. xiv. p. 28.
Sexual Selection in relation to Monkeys. 'Nature,’ Nov. 2, 1876, vol. xv. p. 18.
Fritz Müller on Flowers and Insects. 'Nature,’ Nov. 29, 1877, vol. xvii. p. 78.
The Scarcity of Holly Berries and Bees.
Gardeners’ Chronicle , Jan. 20, 1877, p. 83.
Note on Fertilization of Plants.
Gardeners’ Chronicle , vol. vii. p. 246, 1877.
A biographical sketch of an infant. 'Mind,’ No. 7, July, 1877.
Transplantation of Shells. 'Nature,’ May 30, 1878, vol. xviii. p. 120. Fritz Müller on a Frog having Eggs on its back-on the abortion of the hairs on the legs of certain Caddis-Flies, & c. 'Nature,’ March 20, 1879, vol. xix. p. 462.
Rats and Water-Casks. 'Nature,’ March 27, 1879, vol. xix. p. 481.
Fertility of Hybrids from the common and Chinese Goose. 'Nature,’ Jan. 1, 1880, vol. xxi. p. 207.
The Sexual Colours of certain Butterflies. 'Nature,’ Jan. 8, 1880, vol. xxi. p. 237.
The Omori Shell Mounds. 'Nature,’ April 15, 1880, vol. xxi. p. 561.
Sir Wyville Thomson and Natural Selection. 'Nature,’ Nov. 11, 1880, vol. xxiii. p. 32.
Black Sheep. 'Nature,’ Dec. 30, 1880, vol. xxiii. p. 193.
Movements of Plants. 'Nature,’ March 3, 1881, vol. xxiii. p. 409.
The Movements of Leaves. 'Nature,’ April 28, 1881, vol. xxiii. p. 603.
Inheritance. 'Nature,’ July 21, 1881, vol. xxiv. p. 257.
Leaves injured at Night by Free Radiation. 'Nature,’ Sept. 15, 1881. vol. xxiv. p. 459.
The Parasitic Habits of Molothrus. 'Nature,’ Nov. 17, 1881, vol. xxv. p. 51.
On the Dispersal of Freshwater Bivalves. 'Nature,’ April 6, 1882, vol. xxv. p. 529.
The Action of Carbonate of Ammonia on the Roots of certain Plants. [Read March 16, 1882.] Linn. Soc. Journ. (
Botany ), vol. xix. 1882, pp. 239-261.
The Action of Carbonate of Ammonia on Chlorophyll-bodies. [Read March 6, 1882.] Linn. Soc. Journ. (
Botany ), vol. xix. 1882, pp. 262-284.
On the modification of a Race of Syrian Street-Dogs by means of Sexual Selection. By W. van Dyck. With a preliminary notice by Charles Darwin. [Read April 18, 1882.] Proc. Zoolog. Soc. 1882, pp. 367-370.
الملحق الثالث
الصور الشخصية
1838:
صورة بالألوان المائية بريشة جي ريتشموند بحوزة العائلة.
1851:
صورة مطبوعة طباعة حجرية ضمن سلسلة الجمعية البريطانية في إبسويتش.
1853:
صورة بالطباشير رسمها صامويل لورانس، وموجودة بحوزة العائلة.
1853؟:
صورة بالطباشير (يرجح أنها مسودة أولية رسمت في إحدى الجلسات المخصصة لرسم الصورة الأخيرة المذكورة.) رسمها صامويل لورانس، وموجودة بحوزة البروفيسور هيوز، في كامبريدج.
1869:
تمثال نصفي رخامي نحته تي وولنر، عضو أكاديمية الفنون الملكية، وهو بحوزة العائلة.
1875:
رسمة زيتية رسمها دبليو أوليس، عضو أكاديمية الفنون الملكية، ونقشها بي راجون، وهي بحوزة العائلة. (توجد منها نسخة طبق الأصل من صنع الفنان بحوزة كلية كريستس كوليدج، في كامبريدج.)
1879:
رسمة زيتية بريشة دبليو بي ريتشموند، وهي بحوزة جامعة كامبريدج.
1881:
رسمة زيتية رسمها الموقر جون كوليير، ونقشها ليوبولد فلامنج، وهي بحوزة العائلة (توجد منها نسخة طبق الأصل من صنع الفنان بحوزة المحترم دبليو إي داروين، في ساوثهامبتون.)
أبرز الصور الشخصية والتماثيل والنصب التذكارية التي لم تؤخذ من الحياة
تمثال نحته جوزيف بوم، عضو أكاديمية الفنون الملكية، وهو بحوزة المتحف، في حي ساوث كينزينجتون.
تمثال نصفي نحته كريستيان لير الابن.
لوح معدني من صنع تي وولنر، عضو أكاديمية الفنون الملكية، وجوزايا ويدجوود والأبناء، وهو بحوزة كلية كريستس كوليدج، في حجرة تشارلز داروين.
رصيعة عميقة صنعها جوزيف بوم، كي توضع في كنيسة ويستيمينستر آبي.
أبرز الصور التي نقشت من صور فوتوغرافية
1854؟:
صورة فوتوغرافية من تصوير السيدين مول وفوكس نقشت على الخشب لتنشر في مجلة «هاربرز ماجازين» (أكتوبر 1884).
1870؟:
صورة فوتوغرافية من تصوير أو جيه ريجلاندر نقشها سي إتش جيينز على الفولاذ لتنشر في دورية «نيتشر» (4 يونيو 1874).
1874؟:
صورة فوتوغرافية من تصوير الكابتن داروين، خريج كلية الهندسة الملكية، نقشت على الخشب لتنشر في مجلة «سينشري ماجازين» (يناير 1883). وهي الصورة المنشورة في الصفحة المقابلة لصفحة العنوان في الجزء الأول.
ملحوظة: (لا بد أن تواريخ هذه الصور الفوتوغرافية ستظل غير مؤكدة؛ لأسباب مختلفة. فنظرا إلى فقدان الدفاتر بسبب الحريق، لا يستطيع السيدان مول وفوكس إلا ذكر تاريخ تقريبي فقط. أما السيد ريجلاندر، فقد توفي منذ بضع سنوات، وصفيت شركته للتصوير الفوتوغرافي. أما أخي، الكابتن داروين، فليس لديه سجل للتاريخ الذي التقطت فيه صورته.)
1881:
صورة فوتوغرافية من تصوير السيدين إليوت وفراي، نقشها على الخشب جي كرويلس من أجل هذا الكتاب.
الملحق الرابع
The list has been compiled from the diplomas and letters in my father’s possession, and is no doubt incomplete, as he seems to have lost or mislaid some of the papers received from foreign Societies. Where the name of a foreign Society (excluding those in the United States) is given in English, it is a translation of the Latin (or in one case Russian) of the original Diploma.
مراتب الشرف، والدرجات العلمية، والجمعيات، إلخ 'Pour le Mérite’. 1867.
Order .-Prussian Order,
1857.
Office .-County Magistrate
B.A. 1831 [1832]. *
Degrees .-Cambridge
M.A. 1837.
Hon. LL.D. 1877.
Doctor in Medicine and Surgery. 1862.
Breslau
Doctor in Medicine and Surgery. 1868.
Bonn
Hon. M.D. 1875.
Leyden
Zoological. Corresp. Member. 1831. †
Societies .-London
Entomological. 1833, Orig. Member.
Geological. 1836. Wollaston Medal, 1859.
Royal Geographical. 1838.
Royal. 1839. Royal Society’s Medal, 1853. Copley Medal, 1864.
Linnean. 1854.
Ethnological. 1861.
Medico-Chirurgical. Hon. Member. 1868.
Baly Medal of the Royal College of
*
See vol. i. p. 163. †
He afterwards became a Fellow of the Society.
الجمعيات الإقليمية، والاستعمارية، والهندية
Royal Society of Edinburgh, 1865.
Royal Medical Society of Edinburgh, 1826. Hon. Member, 1861.
Royal Irish Academy. Hon. Member, 1866.
Literary and Philosophical Society of Manchester. Hon. Member, 1868.
Watford Nat. Hist. Society. Hon. Member, 1877.
Asiatic Society of Bengal. Hon. Member, 1871.
Royal Society of New South Wales. Hon. Member, 1879.
New Zealand. Hon. Member, 1863.
New Zealand Institute. Hon. Member, 1872.
الجمعيات الأجنبية
أمريكا
Sociedad Científica Argentina. Hon. Member, 1877.
Academia Nacional de Ciencias, Argentine Republic. Hon. Member, 1878.
Sociedad Zoolójica Arjentina. Hon. Member, 1874.
Boston Society of Natural History. Hon. Member, 1873.
American Academy of Arts and Sciences (Boston). Foreign Hon. Member, 1874.
California Academy of Sciences. Hon. Member, 1872.
California State Geological Society. Corresp. Member, 1877.
Franklin Literary Society, Indiana. Hon. Member, 1878.
Sociedad de Naturalistas Neo-Granadinos. Hon. Member, 1860.
New York Academy of Sciences. Hon. Member, 1879.
Gabinete Portuguez de Leitura em
1879.
Academy of Natural Sciences of
1860.
American Philosophical Society,
النمسا - المجر
Imperial Academy of Sciences of Vienna. Foreign Corresponding Member, 1871; Hon. Foreign Member, 1875.
Anthropologische Gesellschaft in Wien. Hon. Member, 1872.
K. k. Zoologische botanische Gesellschaft in Wien. Member, 1867.
Magyar Tudományos Akadémia, Pest, 1872.
بلجيكا
Société Royale des Sciences Médicales et Naturelles de Bruxelles. Hon. Member, 1878.
Société Royale de Botanique de Belgique. 'Membre Associé,’ 1881.
Académie Royale des Sciences, &c., de Belgique. 'Associé de la Classe des Sciences.’ 1870.
الدنمارك
Royal Society of Copenhagen. Fellow, 1879.
فرنسا
Société d’Anthropologie de Paris. Foreign Member, 1871.
Société Entomologique de France. Hon. Member, 1874.
Société Géologique de France. (Life Member), 1837.
Institut de France. 'Correspondant’ Section of Botany, 1878.
ألمانيا
Royal Prussian Academy of Sciences (Berlin). Corresponding Member, 1863; Fellow, 1878.
Berliner Gesellschaft für Anthropologie, &c. Corresponding Member, 1877.
Schlesische Gesellschaft für Vaterländische Cultur (Breslau). Hon. Member, 1878.
Cæsarea Leopoldino-Carolina Academia Naturæ Curiosorum (Dresden). 1857. (The diploma contains the words “accipe ... ex antiqua nostra consuetudine cognomen Forster.” It was formerly the custom in the
Cæsarea Leopoldino-Carolina Academia , that each new member should receive as a 'cognomen,’ a name celebrated in that branch of science to which he belonged. Thus a physician might be christened Boerhaave, or an astronomer, Kepler. My father seems to have been named after the traveller John Reinhold Forster.)
Senkenbergische Naturforschende Gesellschaft zu Frankfurt am Main. Corresponding Member, 1873.
Naturforschende Gesellschaft zu Halle. Member, 1879.
Siebenbürgische Verein für Naturwissenschaften (Hermannstadt). Hon. Member, 1877.
Medicinisch-naturwissenschaftliche Gesellschaft zu Jena. Hon. Member, 1878.
Royal Bavarian Academy of Literature and Science (Munich). Foreign Member, 1878.
هولندا
Koninklijke Natuurkundige Vereeniging in Nederlandsch-Indie (Batavia). Corresponding Member, 1880.
Société Hollandaise des Sciences à Harlem. Foreign Member, 1877.
Zeeuwsch Genootschap der Wetenschappen te Middelburg. Foreign Member, 1877.
إيطاليا
Società Geografica Italiana (Florence). 1870.
Società Italiana di Antropologia e di Etnologia (Florence). Hon. Member, 1872.
Società dei Naturalisti in Modena. Hon. Member, 1875.
Academia de’ Lincei di Roma. Foreign Member, 1875.
La Scuola Italica, Academia Pitagorica, Reale ed Imp. Società (Rome). “Presidente Onorario degli Anziani Pitagorici,” 1880.
Royal Academy of Turin. 1873.
Bressa
1879.
البرتغال
Sociedade de Geographia de Lisboa (Lisbon). Corresponding Member, 1877.
روسيا
Society of Naturalists of the Imperial Kazan University. Hon. Member, 1875.
Societas Cæsarea Naturæ Curiosorum (Moscow). Hon. Member, 1870.
Imperial Academy of Sciences (St.
1867.
أسبانيا
Institucion Libre de Enseñanza (Madrid). Hon. Professor, 1877.
السويد
Royal Swedish Acad. of Sciences (Stockholm). Foreign Member, 1865.
Royal Society of Sciences (Upsala). Fellow, 1860.
سويسرا
Société des Sciences Naturelles du Neufchâtel. Corresponding Member, 1863.
مصادر الصور
CHARLES DARWIN IN 1881. FROM A PHOTOGRAPH BY MESSRS. ELLIOTT AND FRY ...
Frontispicce .
FACSIMILE OF A PAGE FROM A NOTE-BOOK OF 1837. PHOTO-LITHO-GARPHED BY THE CAMBRIDGE SCIENTIFIC INSTRUMENT COMPANY ... FACE p. 1.
Halaman tidak diketahui