Characteristics of Jurisprudential Thinking of Shaykh Muhammad ibn Abd al-Wahhab
خصائص التفكير الفقهي عند الشيخ محمد بن عبد الوهاب (مطبوع ضمن بحوث ندوة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الجزء الأول)
Penerbit
عمادة البحث العلمي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية،الرياض
Nombor Edisi
الثانية
Tahun Penerbitan
١٤١١هـ/١٩٩١م
Lokasi Penerbit
المملكة العربية السعودية
Genre-genre
خصائص التفكير الفقهي عند الشيخ محمد بن عبد الوهاب
تأليف: عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان
بسم الله الرحمن الرحيم
إن أهمية الدعوة السلفية التي نهض بها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، والتي تركت آثارا فكرية واضحة في كثير من المجتمعات الإسلامية في الوقت الحاضر، استقطبت الباحثين ووجهت أنظار المفكرين، فاستقلت بدراسات موسعة وبحوث علمية مختلفة، والجانب العقدي منها والمتمثل في حياة الشيخ نفسه وإنتاجه العلمي فيها كان له منها النصيب الأوفى، وهذا عائد إلى طبيعة دعوته والأولوية التي تصدى لها وركز عليها في دعوته، وهو تصحيح العقيدة الإسلامية لدى المسلمين. فبسلامتها يسلم للمرء كل شيء، وبفسادها يضيع كل شيء.
وإذا كان هذا هو الجانب الأهم في دعوته، فالجانب الثاني المهم هو تصحيح المسار الفقهي التشريعي بين المسلمين، والجوانب الإصلاحية التي نادى بها في هذا المجال! وخصائص تفكيره تجاه مسائله، وهذا لم يتجه إليه أكثر الباحثين، وهذه الدراسة تهتم بصورة خاصة بالخصائص الفكرية في اتجاهه الفقهي للتعرف على طبيعة دعوته واتجاهاته.
وهذه بمثابة مقدمة من شأنها أن تجلي حقيقة هذه الدعوة في المجال الفقهي والتشريعي.
ويركز البحث هنا على:-
أولا: الحالة الفقهية في العالم الإسلامي بعامة ونجد بخاصة.
ثانيا: الروافد الفكرية في تكوين الشخصية العلمية في الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
ثالثا: الخصائص والمميزات الفقهية عند الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
ويعتمد البحث في هذا الجانب منه على فحص وبحث التراث العلمي الذي ورثنا عنه بطريقة استقرائية واستنتاجية في نفس الوقت، مهتما بالخصائص والموضوعات الرئيسية دون الوقوف لدى المسائل الجزئية إلا بالقدر الذي توضح فيه الفكرة الأساسية.
1 / 379
الحالة الفقهية في العالم الإسلامي بعامة ونجد بخاصة:
إن الباحثين في الفقه الإسلامي يختلفون في تسمية المراحل التي مر بها الفقه الإسلامي تطورا وركودا، إلا أنهم يجمعون على أن الفقه الإسلامي دخل طور الشيخوخة والهرم منذ القرن الخامس الهجري، حيث بدأ في التدهور والضعف والاعتماد الكلي على ما خلفه الفقهاء قبلهم من تراث فقهي وثروة علمية دون أن تكون لهم فيه مساهمة بزيادة أو تجديد.
يعنون العلامة محمد بن الحسن الحجري الثعالبي الفاسي هذه الفترة في تاريخ الفقه الإسلامي بقوله:
"القسم الرابع: في الطور الرابع للفقه وهو طور الشيخوخة والهرم القريب من العدم".
ثم يذكر الظواهر العلمية الفقهية والأسباب التي أدت إليها بقوله: "هذا الطور مبدأه من أول القرن الخامس الهجري إلى وقتنا هذا الذي هو القرن الرابع عشر، وذلك أنه وصل إلى منتهى قوته في القرون الأربعة السابقة وتم نضجه فزاد بعد حتى احترق وذهبت عينه، ولم يبق إلا مرقه في القرن الخامس وما بعده إلى أن صار الآن أثرا بعد عين، ذلك لأسباب منها:
قصور الهمم عن الاجتهاد إلى الاقتصار على الترجيح في الأقوال المذهبية والاختيار منها ... ثم قصروا عن ذلك في هذه الأزمان واقتصروا على النقل عمن تقدم فقط، وانصرفت همتهم بشرح كتب المتقدمين وتفهمها ثم اختصارها، وفكرة الاختصار ثم التباري فيه مع جميع الفروع الكثيرة في اللفظ القليل هو الذي أوجب الهرم وأفسد الفقه بل العلوم كلها ... إذ صاروا قراء كتب لا محصلي علوم، ثم في الأخير قصروا عن الشرح، واقتصروا على التحشية والقشور ومن اشتغل بالحواشي ما حوى شيئا"١.
والفقه، أصبح يعنى في العصور المتأخرة تعلما وتعلما، حفظ متون معينة وترديد
_________
١ الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، خرج أحاديثه وعلق عليه عبد العزيز بن عبد الفتاح القاري (المدينة المنورة المكتبة العلمية ١٣٩٧هـ/١٩٧٧م ص١٦٣) .
1 / 380
عباراتها دون مجاوزة لها إلى غيرها من كتب الفقه فضلا عن الكتاب والسنة.
عكف الحنفية على كنز الدقائق، لحافظ الدين عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي المتوفى سنة ٧١٠ هـ.
وعكف المالكية على مختصر خليل، تأليف العلامة الشيخ خليل بن إسحاق المالكي المتوفى سنة ٧٦٧ هـ.
وعكف الشافعية على متن منهاج الطالبين، تأليف شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، المتوفى سنة ٩٢٦ هـ.
وعكف الحنابلة على كتاب المقنع في فقه الإمام أحمد، من تأليف موفق الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد بن قدامة، المتوفى سنة ٦٢٠ هـ.
هذه الكتب وما يدور في فلكها هي محور الدراسة والتعليم والتأليف، وكثيرا ما يعني استنباط الأحكام مباشرة من الكتاب والسنة الزيغ والانحراف، فيتصدى لأي محاولة من هذا القبيل بالنقد الشديد، نظرا لسد الفقهاء باب الاجتهاد وإصرارهم على قفله، ومن لم يتبين منهم هذا المبدأ كفقهاء الحنابلة وقولهم باستمرار الاجتهاد وفتح بابه لمن أوتي القدرة العلمية المؤهلة. فقد كان هذا منهم نظريا أكثر منه عمليا، يبرز هذا المعنى ما ذكره أحمد بن حمدان الحراني الحنبلي في أقسام المجتهدين في عبارته التالية:
"والمجتهد أربعة أقسام: مجتهد مطلق، ومجتهد في مذهب إمامه أو في مذهب إمام غيره، ومجتهد في نوع من العلم، ومجتهد في مسألة منه أو مسائل" وفي معرض حديثه عن المجتهد المطلق وتعريفه له يقول:
"وهو الذي إذا استقل بإدراكه للأحكام الشرعية من الأدلة الشرعية العامة والخاصة، وأحكام الحوادث منها مع حفظه لأكثر الفقه ولا يقلد أحدا ولا يتقيد بمذهب أحد.. ومن زمن طويل عدم المجتهد المطلق، مع أنه الآن أيسر منه في الزمن الأول لأن الحديث والفقه قد دونا، وكذا ما يتعلق بالاجتهاد من الآيات والآثار، وأصول الفقه، والعربية وغير ذلك، لكن الهمم قاصرة والرغبات فاترة، ونار الجد والحذر خامدة اكتفاء بالتقليد، واستعفاء من التعب الوكيد، وهربا من الأثقال، وأربا في تمشية الحال وبلوغ
1 / 381
الآمال، ولو بأقل الأعمال، وهو فرض كفاية قد أهملوه وملوه ولم يعقلوه ليفعلوه"١.
هذه هي الحالة العلمية الفقهية التي كانت تعيشها البلاد الإسلامية عموما. وهنا نريد من خلال هذه الصورة أن نتلمس ما كانت عليه الحالة العلمية والفقهية في مسقط رأس شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب خصوصا؛ لندرك مدى تأثره بها.
من الطبيعي أن تكون تلك الصورة للحالة العلمية والفقهية في العالم الإسلامي صادقة تماما على نجد، فتعيش التخلف الفكري الفقهي الذي يعيشه العالم الإسلامي صورة مطابقة، وهذا الجانب العلمي وإن لم يتعرض له الكثير من الدارسين لهذا الجزء في جزيرة العرب، فقد تعرض له البحاثة الفقيه الشيخ عبد الله البسام، وأعطى صورة وافية لما كانت عليه الحالة العلمية والفقهية فيها بقوله: "منذ عرفنا علماء نجد حتى قيام الشيخ محمد بن عبد الوهاب- رحمه الله تعالى- فإن علمهم يكاد ينحصر في الفقه، أي: في المسائل الفروعية الفقهية، والمذهب السائد لديهم هو مذهب الإمام أحمد بن حنبل ﵀ فعلمهم لا يكاد يخرج عن تحقيق هذا النوع من العلم؛ فعلوم التفسير والحديث والتوحيد مشاركتهم فيها قليلة جدا، وعلوم اللسان لا يهتمون منها إلا بعلم النحو في مختصرات كتبه التي يتعلمون فيها ما يقوم ألسنتهم عن اللحن، وماعدا هذا فيعتبرون تعلمه مضيعة للوقت ومشغلة عما هو أولى منه، ويندر منهم من يتعدى الفقه إلى غيره من العلوم فيشارك في تحصيله مشاركة قليلة.
أما فقه الإمام أحمد فهم يجيدونه إجادة تامة، ويعنون به عناية فائقة، حيث يدرسون كتبه دراسة إمعان، ويبحثونها بحث تحقيق وتدقيق٢.
وفيما يتصل بالوسط العائلي للشيخ محمد بن عبد الوهاب، فإنه عاش وسطا علميا متشبعا بالفقه في عائلة توارثت القضاء، فوالده الشيخ عبد الوهاب تولى قضاء العيينة
_________
١ صفة الفتوى والمستفتي، الطبعة الأولى (بيروت: منشورات المكتب الإسلامي ١٣٨٠) ص١٦،١٧.
٢ علماء نجد خلال ستة قرون، الطبعة الأولى (مكة المكرمة- مكتبة ومطبعة النهضة الحديثة ١٣٩٨ جـ١ ص١٧) .
1 / 382
ثم حريملاء، وكذلك جده من قبل الشيخ سلمان بن علي، انتهت إليهم الرئاسة في العلم والفقه في نجد١.
في هذا الوسط العلمي العام والخاص المتميز بمظهر فقهي معين يدور في آفاق تقليدية محدودة وإطارات فكرية ملتزمة، عاش الشيخ محمد بن عبد الوهاب حياته العلمية الأولى وتدرج في مراحلها.
وفي مثل هذه الأجواء التي تحكم فيها الانغلاق التام، ليس بالوسع أن يتكون بين أحضانها فقيه يتمتع بحرية فكرية واجتهاد محلق، بل سيكون بالضرورة وقانون الحياة صورة عصره ومرآة جيله، فقيها تقليديا متمسكا بحرفية النصوص لا يتجاوزها ولا إلى الكتاب والسنة.
والشيخ محمد بن عبد الوهاب عضو في ذلك المجتمع وجزء من تلك البيئة، يتأثر بها ويتجاوب فكرا وشعورا بإيجابياتها وسلبياتها. ولكن إلى أي مدى كان منه هذا التجاوب استقبالا أو رفضا؟
إن التاريخ يثبت أنه لم يكن هناك أي صدى وتأثير لتلك البيئة العلمية والاجتماعية على تفكير الشيخ محمد بن عبد الوهاب، بل كان أقوى من أن يتأثر بسلبياتها أو يخضع لمؤثراتها، فأفلت منها ومن أغلالها وأثقالها، فتميز بتفكير منطلق وعقلية مستقلة بدأت تتبين ملامحها في مرحلة شبابه.
الروافد الفكرية في تكوين الشخصية العلمية للشيخ محمد بن عبد الوهاب:
إن أول ما يثير فضول الباحث قبل أي شيء آخر، هو التعرف على المصادر العلمية والروافد الفكرية التي أسهمت في تكوين شخصيته العلمية والفقهية بصورة متباينة عن أبناء جيله وفقهاء عصره.
إننا لا نجده بين مشائخه الذين تتلمذ عليهم في صباه ومدارج شبابه، غير أن العلاقة والتأثر بشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، وتلميذه شمس الدين أبي عبد الله ابن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية واضح قوي.
_________
١ عثمان بن عبد الله بن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد الطبعة الثانية (الرياض: وزارة المعارف السعودية، ١٣٩١ جـ١ ص١١٤) .
1 / 383
وإذا كانت كافة الدلائل تشير إلى هذا فإنه مما يستحق البحث تحديد الفترة التي تعرف بها على فكر هذين العالمين الجليلين، هل حدث له هذا أيام طلبه العلم ببلدته العيينة وقبل رحيله إلى الحجاز والبصرة، أم أن اهتمامه بفكرهما جاء صدى ونتيجة تنقله واحتكاكه بالعلماء في تلك البلاد؟
إن هذه التساؤلات تبدو للوهلة الأولى غير ذات جدوى، ولكن الباحث كما يهمه أن يعرف مصدر هذا الاستقلال الفكري الجديد، يهمه أن يعرف متى وكيف ظهر، وهل هو ذاتي صادر من داخل رغبة الشيخ محمد بن عبد الوهاب؟ أم هو بعامل خارجي شجعه على تبنيه والتحمس له؟
إن المؤرخين للشيخ محمد بن عبد الوهاب لم يحققوا هذه النقطة كما ينبغي ولهذا جاءت رواياتهم متضاربة.
١- ففريق لم ينوه عن هذه الصلة قصدا ولا استطرادا: ويتبين هذا من عرض نصوصهم لحياته العلمية.
يذكر المؤرخ عثمان بن بشر في معرض حديثه عن نشأته وحياته العلمية قوله: "وكان ﵀ في صغره كثير المطالعة في كتب التفسير والحديث وكلام العلماء في أصل الإسلام، فشرح الله صدره في معرفة التوحيد وتحقيقه ومعرفة نواقضه المضلة عن طريقه، وكان الشرك إذ ذاك قد مشى في نجد وغيرها.. فلما تحقق الشيخ- ﵀ معرفة التوحيد ومعرفة نواقضه وما وقع فيه كثير من الناس من هذه البدع المضلة صار ينكر هذه الأشياء ولما رأى أنه لا يغني القول، ولم يتلق الرؤساء الحق بالقبول، تجهز من بلد العيينة إلى حج بيت الله الحرام، فلما قضى حجه سار إلى المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، فلما وصلها وجد فيها الشيخ العالم عبد الله بن إبراهيم بن سيف من رؤساء بلد المجمعة، القرية المعروفة في ناحية سدير من نجد ... فأخذ الشيخ عنه، قال الشيخ: كنت عنده يوما فقال لي: أتريد أن أريك سلاحا أعددته للمجمعة، قلت: نعم، فأدخلني منزلا فيه كتب كثيرة فقال: هذا الذي أعددت لها، ثم إنه مضى به إلى الشيخ العلامة محمد حياة السندي المدني فأخبره بالشيخ محمد وعرفه به وبأهله، فأخذ عنه،
1 / 384
وحكى أن الشيخ وقف يوما عند الحجرة النبوية عند أناس يدعون ويستغيثون عند قبر النبي ﷺ فرآه محمد حياة السندي فأتى إلى الشيخ وقال ما تقول، قال: إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون، فأقام في المدينة ما شاء، ثم خرج منها إلى نجد١. وهنا لم يحدد هذا المؤرخ الجليل تأثر الشيخ بكتاب أو عالم معين، وإنما شمل وعمم دون الإشارة إلى شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم.
ومن الكتاب والمؤرخين الذين تتجه كتاباتهم هذا الاتجاه الأستاذ أحمد عبد الغفور العطار فيقول:
"ولما تجاوز محمد سن الطفولة زاد شغفه بالعلم، واستظهر أحاديث من الصحيحين والأمهات، وكلما تقدمت به السن تقدم في علمه وربا عقله، وما كاد يتم العشرين من عمره حتى صار عالما مرموقا في بلده.. "٢.
٢- وفريق آخر أثبت تعرفه وتعلقه بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم منذ صباه وقبل مغادرته مسقط رأسه تحديدا وتعيينا، ومن هؤلاء عبد الله بن سعد الرويشد، ففي معرض حديثه عن نشأة الإمام العلمية يقول:
"تعلم على والده فدرس القرآن وحفظه على يديه، وعليه تعلم علوم العربية والفقه الحنبلي، وهكذا نشأ نشأة صالحة وظهرت عليه مخايل الذكاء والنجابة منذ صباه، وأكثر من قراءة القرآن والاطلاع على الكتب المتداولة، وظهرت بوادر ألمعيته واتقاد ذهنه، وأعجب بكتب ابن تيمية وابن القيم ومال إليها. ورأى كثيرا مما نعاه ابن تيمية على أهل عصره من البدع والضلالات ماثلا أمام عينيه في معتقدات وأعمال أهل عصره وبخاصة العامة منهم، ولما بلغ السادسة عشرة من عمره رآه والده أهلا للإمامة في الصلاة، فقدمه إماما للناس في المسجد"٣.
في هذا الاتجاه يسير أحمد بن حجر بن محمد آل أبو طامي فيقول:
"درس على والده الفقه الحنبلي والتفسير والحديث، وكان في صغره مكبا على كتب
_________
١ عنوان المجد جـ١ ص١٩، ٢٠، ٢١.
٢ محمد بن عبد الوهاب، الطبعة الرابعة - بيروت: منشورات مكتبة العرفان ١٣٩٢/١٩٧٢م ص٣٢.
٣ الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب في التاريخ: مصر مكتبة عيسى البابي الحلبي جـ١ ص١١.
1 / 385
التفسير والحديث والعقائد، فكان يعتني بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله، ويكثر من مطالعة كتبهما.. ولما آب الشيخ من رحلته الطويلة وراء العلم والتحصيل لازم أباه واشتغل عليه في علم التفسير والحديث وغيرهما، وعكف على كتب الشيخين؛ شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم رحمهما الله، فزادته تلك الكتب القيمة علما ونورًا وبصيرة، ونفخت فيه روح العزيمة، ورأى الشيخ بثاقب نظره ما بنجد وبالأقطار التي رحل إليها من العقائد الضالة والعادات الفاسدة، فصمم على القيام بالدعوة"١.
٣. وممن يذهبون إلى أن لرحلة الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى البلاد الحجازية والبصرة دورا كبيرا في دعوته الاصلإحية، وأن احتكاكه بالعلماء السلفيين في مكة المكرمة والمدينة المنورة والبصرة أثر في اتجاهه العلمي؛ إذ أثار فيه نوازع الصلاح الديني والاجتماعي، فعاد إلى بلاده وهو ممتلئ حماسا لإعادة أهل بلاده إلى الدين الإسلامي الصحيح، وكان هذا أحد الآثار المباركة لارتحاله خارج نجد. وممن تبنى هذا الموقف الدكتور عبد الله صالح العثيمين إذ يقول في هذا الصدد:
"وبالرغم من أن محمد بن عبد الوهاب كان قد حضر - بدون شك - دروس عدة من العلماء في المسجد النبوي، فإن صلته بالشيخين عبد الله بن سيف ومحمد حياة كانت أوثق من صلته بسواهما من العلماء، وكان لهذين العالمين الجليلين أثر كبير على الشيخ محمد لا بالنسبة لتحصيله العلمي فقط، إنما بالنسبة لاتجاهه الإصلاحي أيضا، وقد أتت صلته بهما في مرحلة من مراحل عمره القابلة للتأثر والتوجيه، وكانت معرفته بابن سيف أسبق من معرفته بالسندي، وإن كان تأثير هذا الأخير عليه أعمق- فيما يبدو- من الأول.
وكان ابن سيف عالما بالفقه الحنبلي والحديث الشريف، وقد أجاز محمد بن عبد الوهاب في كل ما حواه ثبت الشيخ عبد الباقي أبي المواهب الحنبلي قراءة وتعلما وتعليما، وكان من المعجبين بالإمام المشهور ابن تيمية، ولا شك أنه شجع تلميذه على قراءة كتب هذا العالم الجليل، وكان أيضا مدركا للحالة التي وصلت إليها الأوضاع في نجد من الناحيتين الدينية والاجتماعية، وكان يرى أن إصلاحها لا يتم إلا بالتعليم.
_________
(م) الشيخ محمد بن عبد الوهاب - عقيدته السلفية ودعوته الإصلاحية وثناء العلماء عليه (مكة المكرمة. مطبعة الحكومة، ١٣٩٥) ص١٥، ١٨.
1 / 386
أما محمد حياة السندي فكان حجة في الحديث وعلومه، وصاحب مؤلفات مشهورة في هذا الحقل، وكان أستاذا لعدد من الطلاب الذين أصبح بعضهم دعاة إصلاح أو شخصيات علمية مشهورة في مناطق إسلامية مختلفة، وكان من المعارضين للتعصب للمذاهب الفقهية، ومن الداعين للاجتهاد في ميدان الشريعة، وبالإضافة إلى ذلك كان من أشد المحاربين للبدع في الدين والأعمال التي قد تؤدي إلى الشرك ... " ويستمر الدكتور العثيمين في تأكيده هذه النقطة فيقول:
"وحين اقتنع الشيخ محمد بكفاية المدة التي قضاها متعلما في المدينة، عاد إلى العيينة، ومن الممكن ملاحظة أمور كان لها تأثير في نفسه في أثناء إقامته في المدينة، منها: المناخ التعليمي الذي كان حافزا على الدراسة ومهيئا لمعرفة أنواع من العلوم، ومنها: بدؤه قراءة كتب ابن تيمية المهمة وتتلمذه على محمد حياة السندي المحارب للبدع والتعصب المذهبي والداعي إلى الاجتهاد، وكان ذلك في مرحلة هامة من مراحل تكوينه الفكري"١.
والذي يبدو أن هذا التضارب بين الروايات السابقة هو نتيجة الاجتهاد الفردي حول هذه النقطة، دون أن يؤيد أحد من أولئك الكتاب والمؤرخين ما دونه بشيء من التوثيق العلمي التاريخي.
إلا أنه من الممكن اعتبار ما كتبه المؤرخ عثمان بن بشر الرواية المعتمدة الموثقة لاعتبارات متعددة أهمها:
أنه أقدم المصادر التاريخية وأقربها تاريخا لحياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب حتى قيل عن تاريخه بـ "أنه المصدر الوحيد لما وقع في نجد من الحوادث منذ فجر النهضة الإصلاحية وظهور الدعوة السلفية إلى ما قبل وفاة الإمام فيصل بن تركي بن عبد الله ابن محمد بن سعود بخمس عشرة سنة"٢ أي من سنة ألف ومائة وثمان وخمسين من الهجرة إلى سنة ألف ومائتين وسبع وستين، كما أنه اعتنى في سوابقه بذكر حوادث ما قبل ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب من منتصف القرن التاسع الهجري إلى نهاية سنة ألف ومائة وست وخمسين من الهجرة٣. فهو كتاب متخصص ووثيقة تاريخية صحيحة
_________
١ الشيخ محمد بن عبد الوهاب، حياته وفكره (الرياض: دار العلوم) ص٣٣،٣٤،٣٥.
٢ عنوان المجد تحقيق عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ، جـ١، ص٧.
٣ انظر المصدر نفسه جـ١، ص٢.
1 / 387
في تاريخ الدعوة السلفية، ومن ثم ستكون رواية ابن بشر موضع الفحص والدراسة في تعرف الشيخ محمد بن عبد الوهاب على فكر ابن تيمية.
لم يرد في رواية ابن بشر في تاريخ نشأة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ما يشير إلى توجيه خاص من أحد ممن تلقى العلم على أيديهم إلى دراسة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وإنما تشير إلى أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب بدافع شخصي ورغبة ذاتية تولدت عنده إلى إعادة الإسلام إلى صفائه ونقائه كما عاشه الرسول ﷺ وأصحابه، وكان هذا نتيجة انكبابه على كتب التفسير والحديث وكثرة ملازمته لهما وتأمله لمعانيهما، والمقارنة بين ما جاء فيهما من عقيدة وتشريع، وبين ما عليه العمل بين المسلمين من انحراف عن جادة الإسلام عقيدة وتشريعا. وهذا هو الذي تشير إليه عبارة المؤرخ عثمان بن بشر في قوله السابق: ".. وكان ﵀ في صغره كثير المطالعة في كتب التفسير والحديث وكلام العلماء في أصل الإسلام، فشرح الله صدره في معرفة التوحيد وتحقيقه ومعرفة نواقضه المضلة عن طريقه.."١ الخ عبارته، وهو في هذا المنحنى والاتجاه يختلف عن الكثيرين من بني جيله وعصره؛ إذ كانت الأهمية القصوى والتركيز الشديد على دراسة الفقه المذهبي وحفظ نصوصه، وبذلك يكون قد فتح الشيخ محمد بن عبد الوهاب لنفسه آفاقا أوسع هيأته بالفعل لدعوته الإصلاحية التي انتدب نفسه لها.
وأما تعرفه على فكر ابن تيمية وتلميذه ابن القيم خاصة، فمن المهم عرض الحقائق التالية بين يدي هذا الموضوع:
أولا: إن الصلة بين نجد والشام كانت قوية، حيث كانت الأخيرة بالنسبة لبلاد نجد مركزا تجاريا وعلميا في آن واحد، وكان لهذا أثره العلمي الكبير، فالعدد الكبير من علماء نجد تلقوا علومهم وإجازاتهم من علماء الحنابلة بالشام، "وصار من هؤلاء التلاميذ النجديين علماء كبار كالشيخ أحمد بن يحيى بن عطوة تلميذ مؤلف الإنصاف الشيخ على ابن سليمان المرداوي، وصاحب جمع الجوامع الشيخ يوسف بن عبد الهادي، ومن العلماء النجديين الذين تلقوا العلم على حنابلة الشام الشيخ أبو نمي ابن راجح تلميذ الشيخ مرعي
_________
١ المصدر نفسه، جـ١، ص١٩.
1 / 388
ابن يوسف مؤلف الغاية (غاية المنتهى في الجمع بين الإقناع والمنتهى)، وكذلك الشيخ زامل بن سلطان تلميذ الشيخ موسى الحجاوي مؤلف الإقناع. فأمثال هؤلاء العلماء النجديين الكبار بلغوا في العلم مبلغا كبيرا، وانتهت إليهم الرئاسة العلمية في بلدان نجد، وهم قد اعتنقوا المذهب الحنبلي، فأثروا في أهل بلادهم، فصار جمهور النجديين حنابلة"١.
ثانيا: إن ابن تيمية وابن القيم أعلام مشهورون وفقهاء نابهون في المذهب الحنبلي اجتهاداتهم وترجيحاتهم المشهورة، فالتعرف على فكرهم من قبل طالب العلم والتمذهب بالمذهب الحنبلي أمر بديهي وحقيقة ميسورة.
ثالثا: إن الاتصال الفكري بين الحنابلة في الشام والحنابلة في نجد قوي ووثيق، إذ كانت مؤلفات الشاميين تصل إلى نجد بصورة مستمرة، وكان لهؤلاء تآليف عن شيخ الإسلام ابن تيمية في اجتهاداته وجهاده للبدع والخرافات، مما جعله رمزا لبطولة العلماء وكفاح المخلصين في وسط الحنابلة أين كانوا، ولعل في (سابقة) التي ذكرها ابن بشر ما يشير إلى هذا المعنى إذ يقول: "وفي سنة ثلاث وثلاثين وألف توفي الشيخ العالم العلامة مرعي بن يوسف الحنبلي المقدسي الأزهري. كانت له اليد الطولى في معرفة الفقه وغيره، صنف مصنفات عديدة في فنون من العلوم.. فمنها دليل الطالب.. وصنف غاية المنتهى في جمع الإقناع والمنتهى.. وذكر لي شيخنا عثمان بن منصور أنه بيضها مرتين، واحدة أرسلها إلى نجد وواحدة أرسلها إلى الشام، فلهذا نجد في بعض النسخ منها زيادة ونقصانا عن الأخرى.. وصنف مرعي غير ذلك مصنفات كثيرة منها: كتاب بهجة الناظرين في العالم العلوي والسفلي، وصفة الجنة والنار وكتاب المرجان في الناسخ والمنسوخ من القرآن، وكتاب الدرة المضيئة في مناقب ابن تيمية.."٢.
ونخلص من هذا إلى أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب قد تعرف على فكر ابن تيمية وابن القيم من قبل رحلته إلى الحجاز والشام؛ إذ أن هذين العلمين كانا من أشهر أعلام
_________
١ عبد الله البسام، جـ١ ص١٩-٢٠.
٢ السوابق، ص١٩٧،١٩٨.
1 / 389
الحنابلة في الوسط العلمي للحنابلة، ولم تكن شهرتهم لدى علماء الحنابلة بنجد بأقل من أي وسط حنبلي آخر.
إلا أن انتماء الشيخ محمد بن عبد الوهاب ودراسته للمذهب الحنبلي سهل له التعرف على فكر شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في وقت مبكر جدا أثناء طلبه للعلم في بلاده مسقط رأسه، ووقوفه على جهادهما ما قوى فيه العزيمة للدعوة إلى الإسلام الصحيح عقيدة وشريعة، فرحل إلى ما رحل من أقطار وهو متشبع بفكر الدعوة الإصلاحية التي أصبح يعيشها فكرًا، ووطن نفسه للدعوة لها جهرا، وأن احتكاكه بعلماء السلف بمكة المكرمة والمدينة المنورة زاد من حماسه لها وتفانيه في سبيلها. فأعطته دفعة قوية للاستمرار في اتجاهاته الفكرية العقدية والفقهية، وضاعفت من ملازمته وعكوفه على كتب الشيخين ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله، فتشبع بمنهجهما أسلوبا وفكرا، فورث عنهما خصائصهما العلمية واتجاهاتهما المنهجية والنزعة الاجتهادية.
يتفق السلف والخلف من فقهاء الحنابلة على وجوب الاجتهاد في من تحققت فيه شروطه يقول القاضي أبو يعلى الفراء من متقدمي الحنابلة في كتابه العدة "مسألة في صفة المفتي في الأحكام الذي يحرم عليه التقليد"، ثم يذكر هذه الصفة بقوله: "الذي يحرم عليه التقليد فيها أن يكون عارفا بالقرآن ناسخه ومنسوخه، ومجمله ومحكمه، وعامه وخاصه، ومطلقه ومقيده، وهو المعرفة بما قصد به بيان الأحكام الحلال والحرام، فأما ما قصد به أخبار الأولين وقصص النبيين والوعد والوعيد فلا حاجة به إليه،.. ويعرف أيضا المتقدم والمتأخر، والناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيد، والمجمل والمفسر، والعام والخاص للمعنى الذي ذكرناه، ويحتاج أن يعرف إجماع أهل الأعصار عصرًا بعد عصر؛ لأنه يكون الأصل ما أجمعوا عليه فيرد الفرع إليه، ويحتاج أن يعرف من لغة العرب والإعراب ما يفهم عن الله تعالى وعن رسوله معنى خطابهما، وأن يكون عارفا باستنباط معاني الأصول والطرق الموصلة إليها، ليحكم في الفروع بحكم أصولها، ويكون عارفا بمراتب الأدلة، وما يجب تقديمه منها. فإذا كان بهذه الصفة وجب عليه أن يعمل في الأحكام باجتهاده وحرام عليه تقليد غيره"١.
_________
١ أبو يعلى محمد بن الحسين بن محمد الفرا، العمدة في أصول الفقه. مصور.
1 / 390
ويأتي شيخ الإسلام ابن تيمية ليقرر هذا المبدأ ويؤكده في أكثر من مؤلف فينقل نص القاضي أبي يعلى فيقره لفظا ومضمونا١، ويعرض هذا الموضوع في فتاويه بأسلوبه وطريقته الخاصة فيقول:
"نقل عن غير واحد الإجماع أنه لا يجوز للعالم أن يقلد غيره إذا كان قد اجتهد واستدل وتبين له الحق الذي جاء به الرسول، فهذا لا يجوز له تقليد من قال خلاف ذلك بلا نزاع"٢.
كما يقرر هذا المبدأ من الحنابلة المتأخرين، أبو العباس أحمد بن عبد العزيز الفتوحي فيقول:
"ويحرم تقليد على مجتهد أداه اجتهاده إلى حكم "٣ وهكذا فإن نصوص الحنابلة متواترة على وجوب الاجتهاد ممن استوفى شروطه وتحققت فيه مؤهلاته.
وإذا كان شيخ الإسلام ابن تيمية يدعو المؤهلين من الفقهاء إلى الاجتهاد وتحريم التقليد، فقد مارسه تأسيسا وترجيحا، بل إن اجتهاداته الفقهية معروفة لدى فقهاء المذاهب الأخرى، وترجيحاته في إطار المذهب الحنبلي مشهورة بين فقهائه معلومة لديهم. ولا شك أن الاجتهاد الفقهي إحدى خصائص التفكير الفقهي عند شيخ الإسلام ابن تيمية، والتي كان لها تأثير كبير على فكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب لم يدع الاجتهاد، ولكنه يدعو إليه عندما تختلف الآراء وتتعارض الأقوال، فحينئذ يتوجب الرجوع إلى الكتاب والسنة يستخلص منها الحكم الذي تطمئن إليه نفسه.
ففي جوابه عن سؤال وجه إليه بخصوص الروايات المختلفة عن الإمام أحمد أو تعدد الأقوال عن أصحابه واستدلال كل بدليل يقول:
"إذا اختلف كلام أحمد وكلام أصحابه فنقول: في محل النزاع التراد إلى الله والرسول
_________
١ المسودة، تحقيق محيي الدين عبد الحميد (مصر: مطبعة المدني) ص٥١٤.
٢ فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، جـ١٩ص٢٦٢.
٣ شرح الكوكب المنير، الطبعة الأولى (مصر: مطبعة السنة المحمدية ١٣٧٢-١٩٥٣) ص٤٠٦.
1 / 391
لا إلى كلام أصحابه، ولا إلى الراجح المرجح من الروايتين والقولين، خطأ قطعا١، وقد يكون صوابا، وقولك: إذا استدل كل منهما بدليل فالأدلة الصحيحة لا تتناقض بل يصدق بعضها بعضا، لكن قد يكون أحدهما أخطأ الدليل لأنه إما استدل بحديث لم يصح، وإما لأنه فهم من كلمة صحيحة مفهوما مخطأ.
وبالجملة فمتى رأيت الاختلاف فرده إلى الله والرسول، فإذا تبين لك الحق فاتبعه، فإن لم يتبين واحتجت إلى العمل فقلد من تثق بعلمه ودينه.. "٢.
والشيخ محمد بن عبد الوهاب وإن لم يؤثر عنه اجتهادات لم يسبق إليها إلا أن منحاه منحى اجتهادي، بمعنى أنه يسلم بالرأي إذا كان يعتمد على استدلال قوي مبني على فهم سليم. وهذا هو الموقف الذي أعلنه ونثره في مؤلفاته ومراسلاته إلى كل من يرغب الوقوف على حقيقة أمره.
فمن ذلك كتابه إلى عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف الذي جاء فيه: "ولا خلاف بيني وبينكم أن أهل العلم إذا أجمعوا وجب اتباعهم، وإنما الشأن إذا اختلفوا، هل يجب علي أن أقبل الحق ممن جاء به وأرد المسألة إلى الله والرسول مقتديا بأهل العلم؟ أو أنتحل بعضهم من غير حجة وأزعم أن الصواب في قوله؟ فأنتم على هذا الثاني وهو الذي ذمه الله وسماه شركًا، وهو اتخاذ العلماء أربابًا، وأنا على الأول أدعو إليه وأناظر عليه، فإن كان عندكم حق رجعنا إليه وقبلناه منكم، وإن أردت النظر في أعلام الموقعين فعليك بالمناظرة التي في أثنائه عقدها بين مقلد وصاحب حجة، وإن ألقي في ذهنك أن ابن القيم مبتدع وأن الآيات التي استدل بها ليس هذا معناها فاضرع إلى الله واسأله أن يهديك لما اختلفوا فيه من الحق، وتجرد إلى الله ناظرًا أو مناظرًا وطلب كلام أهل العلم في زمانه"٣ وعلى أساس هذا المبدأ كان اختيار الشيخ محمد بن عبد الوهاب وترجيحه لاختيارات شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية في أكثر الأحيان، وترجيحه لغيرها أحيانا أخرى.
على أن ما خلفه من تراث علمي يشير إلى معرفته بعلم أصول الفقه الذي يعتبر
_________
١ هذا هو نص العبارة ولعل ثمة سقط.
٢ مؤلفات محمد بن عبد الوهاب، مختصر سيرة الرسول والفتاوى، ص٢٧، ٣٢ - ٣٣.
٣ مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الرسائل الشخصية القسم الخاص، ص٢٥٤.
1 / 392
شرطا أساسيا في بلوغ درجة الاجتهاد حتى قيل (لا ثقة بفقه لا يعتمد على أصول)، ومظاهر هذا عنده تتجلى في أمرين اثنين:
الأول: مناقشته لأهم المسائل والقواعد الأصولية.
الثاني: تلخيصه وعرضه لبعض المسائل الأصولية من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، ولا يستطيع الخوض فيها إلا عالم متمرس بمسائله عارف بقوانينه، وفي كلا الحالين لا يمكن أن يقتحم أسوار هذا العلم إلا عالم ذو دراية وممارسة له.
ففي مناقشته لنسخ القرآن بالسنة يتعرض لهذا الموضوع من خلال الأمثلة التي يوردها العلماء في هذا الصدد، فيقول:
"ثبت أنه يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب وأن يجمع بين المرأة وعمتها وخالتها فقال طائفة هذا نسخ للقرآن، فإن أرادوا النسخ العام الذي هو تقييد المطلق فصحيح، وإن أرادوا النسخ الذي هو رفع الحكم فضعيف، فإنه لم يثبت أن الله أراد بقوله: ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ﴾ ١.
تحليل ذلك، فإن قيل هو عام بين الدليل المخصص أن الله لم يرد تلك الصورة كقوله: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي﴾ ٢ الآية لم يرد به الأمة، وقوله: ﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾ ٣ لم يرد الحامل ولا التي لم يدخل بها، ولم يثبت أن السنة نسخت القرآن، قال تعالى: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ﴾ ٤ الآية، فالقرآن لا ينسخه إلا مثله، وقال كثير: السنة خصصت القرآن وهم أكثر وأفضل من أولئك، وقد يقال: السنة فسرت القرآن، ولهذا في حديث معاذ وكلام عمر وابن مسعود وغيرهما أن يحكم بكتاب الله فإن لم يوجد فبسنة رسول الله، فلو كان في السنة ما يقدم على دلالة القرآن لم يكن كذلك بل السنة تفسر المراد منه.. "٥.
وفي موضوع التعارض والتعادل والترجيح الذي هو ثمرة أصول الفقه ونقطة
_________
١ سورة النساء آية: ٢٤.
٢ سورة النور آية: ٢.
٣ سورة البقرة آية: ٢٢٨.
٤ سورة البقرة آية: ١٠٦.
٥ مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ملحق المصنفات، ص٧٥-٧٦.
1 / 393
الارتكاز فيه، يلخص موقف ابن القيم في معضلة من معضلاته بتقرير الفاهم وأسلوب العالم فيقول: "قال ابن القيم في أعلام الموقعين: إذا قال الصحابي قولا فإما أن يخالفه صحابي آخر أو لا، فإن خالفه مثله لم يكن قول أحدهما حجة على الآخر، وإن خالفه أعلم منه كالخلفاء الراشدين أو بعضهم، فهل يكون الشق الذي فيه الخلفاء أو بعضهم حجة على الآخرين؟ فيه قولان للعلماء. هما روايتان عن أحمد، والصحيح أنه أرجح، فإن كان الأربعة في شق فلا شك أنه الصواب، وإن كان أكثرهم في شق، فالصواب فيه أغلب، وإن كانوا اثنين واثنين، فشق أبي بكر وعمر أقرب إلى الصواب، فإن اختلفا، فالصواب مع أبي بكر.."١. وقد استغرق هذا البحث خمسا وثلاثين صفحة، وقدم لإثباته والاستدلال له ستة وأربعين وجها. كما نفذ من هذا البحث إلى بحث الاحتجاج بفتوى التابعي٢.
النزعة المذهبية:
وهذا الجزء من البحث يقودنا إلى التعرف على موقفه من قضيتين هامتين هما: اختلاف المذاهب الفقهية أولا، والتقيد بها ثانيا.
والحقيقة المسلمة أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ينتمي إلى أسرة عريقة في المذهب الحنبلي؛ إذ غالب أفرادها من الفقهاء والقضاة الحنابلة، ولكنه يتميز عنها بأنه أضاف إلى حنبليته عنصرًا جديدًا: هو ما اكتسبه من دراسته وعكوفه على التراث العلمي لشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، فأمدته بخصائص فكرية وفقهية خاصة برزت بنتائجها وآثارها على مواقفه من كثير من القضايا الفقهية.
وقبل التعرف على موقفه خاصة من تلك القضيتين اللتين كانتا ولا تزالان مثار جدل وخصومة يحسن أن نتعرف قبل ذلك على موقف سلفه أعني شيخ الإسلام ابن تيمية خاصة حتى يتضح مدى عمقها وتأثره بها في نفسه.
أما فيما يتصل بالقضية الأولى: اختلاف المذاهب الفقهية فقد ألف ابن تيمية كتاب
_________
١ المصدر نفسه القسم الثاني (الفقه)، جـ٢ ص٥.
٢ المصدر نفسه، القسم الثاني (الفقه)، جـ٢ ص٣٥.
1 / 394
(رفع الملام عن الأئمة الأعلام)، وهذا الكتاب بهذا العنوان يعتبر فريدا في صياغته فريدا في موضوعه، فلئن شاركته كتب أخرى موضوعا إلا أنه مؤلف أساسا وبالذات للدفاع عن الأئمة، وعرض الأسباب التي أدت إلى اختلافهم، ليلتمس لدى القارئ والدارس الأعذار عما قد تحدثه نفسه من إدانتهم في التفرق والاختلاف، وفي نفس الوقت يعرفنا قدر هؤلاء الأئمة والجهد المخلص الذي بذلوه في فهم الكتاب والسنة، وأقتبس هنا جزءا من مقدمة هذا الكتاب لندرك مدى إنصاف ابن تيمية للأئمة الفقهاء وتقديره للتراث العلمي الذي تركوه، فيقول: "وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة المقبولين عن الأمة قبولا عاما، يتعمد مخالفة رسول الله ﷺ في شيء من سنته دقيق ولا جليل. فإنهم متفقون اتفاقا يقينيا على وجوب اتباع الرسول ﷺ، وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ﷺ، ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه، فلا بد أن يكون له من عذر في تركه، وجميع الأعذار ثلاثة أصناف:
أحدها: عدم اعتقاده أن النبي ﷺ قاله.
والثاني: عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول.
والثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ.١.
وهذا اعتراف بفضل الأئمة وإنصاف لهم وتقدير لجهودهم العلمية، وهو أقصى المطلوب، ومن ثم فلم يؤثر عن الإمام ابن تيمية قول أو تأليف يمس جانب الأئمة أو يعرض بهم، بل إنه عند الاختلاف يناقش الدليل مناقشة علمية هادئة. ويؤكد ابن تيمية هذا المبدأ في مؤلفاته وكتاباته في أكثر من موضع من هذا قوله:
"وقد اتفق الصحابة على إقرار كل فريق للفريق الآخر على العمل باجتهادهم في مسائل تنازعوا فيها كمسائل في العبادات، والمناكح، والمواريث، والعطاء، والسياسة وغير ذلك.. وهم الأئمة الذين ثبت بالنصوص أنهم لا يجتمعون على باطل ولا ضلالة، ودل
_________
١ رفع الملام عن الأعلام بنهاية الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف. الطبعة الأولى، جـ١٢-ص٢٩٩- ٣٠٠.
1 / 395
الكتاب والسنة على وجوب متابعتهم، وتنازعوا في مسائل علمية اعتقادية كسماع الميت صوت الحي، وتعذيب الميت ببكاء أهله، ورؤية محمد ﷺ ربه قبل الموت مع بقاء الجماعة والألفة.. ومذهب أهل السنة والجماعة أنه لا إثم على من اجتهد وإن أخطأ.
فالمذاهب والطرائق والسياسات للعلماء والمشايخ والأمراء إذا قصدوا بها وجه الله تعالى دون الأهواء ليكونوا مستمسكين بالملة والدين الجامع الذي هو عبادة الله وحده لا شريك له، واتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم من الكتاب والسنة بحسب الإمكان بعد الاجتهاد التام هي لهم من بعض الوجوه بمنزلة الشرع والمناهج للأنبياء على عبادتهم الله وحده لا شريك له، ويثابون على طاعة الله ورسوله فيما تمسكوا به من شرعة رسوله ومنهاجه، كما يثاب كل نبي على طاعة الله في شرعه ومنهاجه.
ثم يتحدث في عبارة واضحة عن الموقف الذي يجب أن يتخذه المسلم بالنسبة للأئمة ومذاهبهم فيقول:
"فمن ذمهم ولامهم على ما لم يؤاخذهم الله عليه فقد اعتدى، ومن أراد أن يجعل أقوالهم وأفعالهم بمنزلة قوق المعصوم وفعله وينتصر لها بغير هدى فقد اعتدى واتبع هواه بغير هدى من الله، ومن فعل ما أمر به بحسب حاله من اجتهاد يقدر عليه أو تقليد إذا لم يقدر على الاجتهاد وسلك في تقليده مسلك العدل فهو مقتصد؛ إذ الأمر مشروط بالقدرة ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ ١ ٢.
ولقد جاء موقف الشيخ محمد بن عبد الوهاب متطابقا مع موقف شيخه ابن تيمية في هذه القضية، مقدرا لجهود الأئمة الفقهاء، ومعتزا بانتسابه إليهم وانتمائه إلى جمهورهم. هذا ما أعلنه صراحة وأعرض هنا له بعض هذه المواقف التي تكشف عن هذا الجانب في تفكيره.
في ختام إجابته على عبد العزيز الحصين عن مسائل شرعية يقول:
"فينبغي للمؤمن أن يجعل همه ومقصده معرفة أمر الله ورسوله في مسائل الخلاف
_________
١ سورة البقرة آية: ٢٨٦.
٢ مجموعة فتاوى ابن تيمية، جـ١٩، ص١٢٢.
1 / 396
والعمل بذلك، ويحترم أهل العلم ويوقرهم ولو أخطأوا، ولكن لا يتخذهم أربابا من دون الله، هذا طريق المنعم عليهم، أما اطراح كلامهم وعدم توقيرهم فهو طريق المغضوب عليهم..) ١.
كما جاء في افتتاحية خطابه إلى علماء مكة: "إلى العلماء الأعلام في بلد الله الحرام، نصر الله بهم سيد الأنام وتابعي الأئمة الأعلام ... " إلى أن يقول:
" وأنا أخبركم بما نحن عليه خبرا لا أستطيع أن أكذب بسبب أن مثلكم لا يروج عليه الكذب على أناس متظاهرين بمذهبهم عند الخاص والعام، فنحن ولله الحمد متبعون غير مبتدعين على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، وحتى من البهتان الذي أشاع الأعداء أنى ادعى الاجتهاد ولا أتبع الأئمة، فإن بان لكم أن هدم البناء على القبور، والأمر بترك دعوة الصالحين لما أظهرناه، وتعلمون أعزكم الله أن المطاع في كثير من البلدان لو تبين بالعمل بهاتين المسألتين أنها تكبر على العامة الذين درجوا هم وإياهم على ضد ذلك، فإن كان الأمر كذلك فهذه كتب الحنابلة عندكم بمكة مثل (الإقناع) و(غاية المنتهى) و(الإنصاف) التي عليها اعتماد المتأخرين وهو عند الحنابلة (كالتحفة) و(النهاية) عند الشافعية، وهم ذكروا في باب الجنايز هدم البنا على القبور ... وبعضهم يحكي الإجماع على ذلك، فإن كانت المسألة إجماعا فلا كلام، وإن كانت مسألة اجتهاد فمعلومكم أنه لا إنكار في مسائل الاجتهاد، فمن عمل بمذهبه في محل ولايته لا ينكر عليه ... "٢.
وفي رسالة له إلى أحمد بن محمد العديلي البكبكي، صاحب اليمن جاء في افتتاحيته قوله:
" سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: لفانا (وافانا) كتابكم وسر الخاطر بما ذكرتم فيه من سؤالكم، وما بلغنا على البعد من أخباركم وسؤالكم عما نحن عليه وما دعونا الناس إليه، فأردنا أن نكشف عنكم الشبهة بالتفصيل ونوضح لكم القول الراجح بالدليل، ونسأل الله أن يسلك بنا وبكم أحسن منهج وسبيل ... " إلى أن يقول:
_________
١ مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، القسم الثالث، مختصر سيرة الرسول والفتاوى، (فتاوى ومسائل)، ص٩٧.
٢ مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب. القسم الخامس، الرسائل الشخصية ص٤٠.
1 / 397
"وأما ما ذكرتم من حقيقة الاجتهاد فنحن مقلدون الكتاب والسنة وصالح سلف الأمة وما عليه الاعتماد من أقوال الأئمة الأربعة أبي حنيفة النعمان بن ثابت، ومالك بن أنس، ومحمد بن إدريس، وأحمد بن حنبل رحمهم الله تعالى.."١.
كما بعث إلى إسماعيل الجراعي باليمن خطابا يوضح فيه موقفه من كتب المتأخرين فيقول:
"وأما المتأخرون ﵏ فكتبهم عندنا، فنعمل بما وافق النص منها وما لا يوافق النص لا نعمل به".
وفي كتابه إلى عبد الله بن عبد الله الصنعاني يقول:
"وأما مذهبنا فمذهب الإمام أحمد بن حنبل، إمام أهل السنة. ولا ننكر على أهل المذاهب الأربعة إذا لم يخالف نص الكتاب والسنة وإجماع الأمة وقول جمهورها..٢. ولقد دلل الشيخ محمد بن عبد الوهاب على هذا عمليا بمؤلفاته الفقهية التي تنتمي معنى ومضمونا إلى المذهب الحنبلي.
وينفرد المؤرخ عثمان بن عبد الله بن بشر٣ برواية تحمل الكثير من الدلالات للباحث في هذا الصدد، فقد جاء في معرض الحديث عن مؤلفاته العلمية قوله: "واختصر من الشرح الكبير والإنصاف مجلدا لبيان الخلاف، وأمر بالقراءة فيه، فلما سمع بذلك المنتسبون للعلم من أهل نجد كذبوا عليه أنه طعن في كتب المذهب كالإقناع والمنتهى التي على قول واحد، فأخذ من شرح الإقناع نبذة في أحكام الصلاة والزكاة والصيام من باب آداب المشي إلى الصلاة إلى باب ما يفسد الصوم، وأمر بالقراءة فيها
_________
١المصدر نفسه.
٢المصدر نفسه، ص١٠٧.
٣هو الشيخ عثمان بن عبد الله بن عثمان بن أحمد بن بشر النجدي الحنبلي، ولد في بلدة جلاجل من بلدان سدير بنجد سنة ١٢١٠، وتوفي بها سنة ١٢٩٠هـ. صنف مؤلفات عديدة هي: سهيل في ذكر الخيل، الإشارة في منازل السبع السيارة، بغية الحاسب، الخصائص ومبدأ النقائص في الطفيليين، والثقلاء، وفهرس طبقات الحنابلة لابن رجب على حروف المعجم، وكتاب عنوان المجد في تاريخ نجد. انظر ترجمته للشيخ عبد الرحمن ابن عبد اللطيف آل الشيخ في تصديره لكتاب بعنوان المجد في تاريخ نجد، ص١١ طبعة وزارة المعارف السعودية عام ١٣٩١هـ.
1 / 398