فكان يتغيب عن الباقين أياما، يمضيها عدوا بفرسته الشهباء، مواصلا تجميع معلوماته باثا عيونه مرسلا رسائله بالحمام الزاجل التي كان يحسن تدريبها واستخدامها في أحلك المآزق وأكثرها تطلبا للسرعة والملاحة، فهو كما يقول عن نفسه: عين هنا، والثانية على نجد والأهل.
حتى زوجته العالية بنت جابر، والتي أجهضت هذه الرحلة زواجه منها، ولم يكن يبخل عليها بخطاباته التي عادة ما تتجمع كلها لتحط كمثل وفد من الحمائم على كتفي ورأس عياره وتابعه أبي القمصان أينما كان في خلوته: حمام الحبايب.
هنا كانت أهمية أبي القمصان تتزايد في نظر نفسه ليروح معلنا للسلطان حسن والجازية والعالية زوجة أبي زيد التي كانت تنتظر على أحر من الجمر وصول الرسائل: وصلت المكاتيب.
وهو تعبير أعطاه أبو القمصان أهمية خاصة؛ نظرا إلى الكيفية التي يعلن بها عنه، سواء للجازية أو الأميرة العالية، إذ تنشق الأرض فجأة عن أبي القمصان متشحا بزيه الرسمي، كجندي منح نفسه ذات يوم لقب فارس والذي تطور معه مع مرور الزمن إلى لقب أبي الفوارس.
ففي العادة يقف أبو القمصان فجأة أقرب إلى منطقة الرأس من «ضحاياه»، معلنا بصوته المختنق المتعدد النبرات، داقا الأرض بعصاه أو كعب رمحه، الذي عادة ما ينتهي بشارة الهلاليين الخضراء يتوسطها هلال أبيض صريح، معلنا كمثل منادي قرية أو نجع: الحين وصلت الرسائل.
أما في حالة العالية زوجة أبي زيد، فقد أفرط زوجها الغائب في الكتابة لها مطولا، خاصة بسبب ظروف عشقه الجارف لها منذ أول لقاء تصافحا فيه، حين قدمها له السلطان حسن خلال عزاء الشماء وهو يأخذ بيدها البضة الدافئة نازلة عن هودجها المطرز برقائق الذهب البخاري الأحمر: الأميرة العالية بنت جابر.
حينذاك استحال لون أبي زيد الأبنوسي الأسود إلى اكفهرار أصفر يقارب شحوب الموت ذاته، وهو يمد لها يده مصافحا مساعدا: أهلا وسهلا.
ولم يعرف كيف يكمل جملته هذه مرحبا بها حول سلامة الرحلة من وادي الحجاز وما تنطوي عليه من مخاطر حتى الوصول إلى نجد.
ذلك أن العالية سلطت عليه وهو ينزوي خجلا أهدابا مسلطة كمشرطي حربة همجية لها وقع أكثر من أربعة وعشرين نصل حسام بينما السلطان حسن ينطق باسمه معرفا ومقدما: بركات، الأمير أبو زيد الهلالي.
ليته لم ينطق باسمه أمامها! ساعتها لم يكن حدث ما حدث لأبي زيد الذي تراجع من فوره متقهقرا إلى الخلف كما لو كان ينادي، أو يبحث بعينيه عن شيء وليكن مجرد غطاء خباء يستر به نفسه وهو في مواجهتها.
Halaman tidak diketahui