وكذلك لم تكن تجارب سناء قد توقفت عند هذه التجربة الغريبة اليتيمة، ولا ظلت طويلا مثلها مثل يوم عرض الرشوة من محمد الجندي «أبشع وأضخم» حدث في حياتها، تلك الفتاة السمراء المسمسمة التقاطيع الجذابة المؤدبة، ظلت تجرب باستخفاء كثير ومن بعيد لبعيد وبتورط أحيانا وبفضائح محدودة الانتشار في أحيان، ولكنها دائما في وسط الحياة - ودائما داخلها يحفل بالنوازع والعواطف والأحياء - دائما هناك مرشح للزواج من قبل الأهل ومرشح للحب من قبلها، فإذا فشل المرشح والمشروع بعد أيام تبدو في الأفق رائحة آخر وآخرين، ونيران تنهش صدرها للعريس اللقطة إذا طار، والعشق الصامت طالما أرق لياليها، وأقربها ذلك الإعجاب الخفي الذي تكنه لزميلها في المكتب أحمد الطويل ... الإعجاب الذي لا يفصح عن نفسه إلا بأمنية أن تحدث معجزة لتنقل مكتبه مكان محمد الجندي في مواجهتها.
ورأسها الصغير رغم شعرها الناعم الغزير مليء بالأحلام أيضا باقتناء الملابس الفاخرة الأنيقة، بحياة الثروة والغنى، بالطموح، أحلام تتغير هي الأخرى وتتجدد ... إذ بينما كانت تحلم في العام الماضي بجوانتي من الجلد الفاخر المبطن بالفرو، في هذا العام هي تحلم بأن تبلغ في وظيفتها شأوا ومرتبا تستطيع أن تدفع منه أقساط عربة نصر 1100 وتسوقها وحدها وتفسح أمها وتذهلها بها، وكل هذا رائع وجميل وليس أسهل من ملء الصفحات به، فسناء وحياتها ونقاط حياتها إذا تقاس بالحياة، تكون إذا أردنا ذكرها بالتفصيل ملايين الأشياء وملايينها، حتى لو نحن فقط تتبعنا سناء من لحظة أن غادرت حفلة بهيجة زميلتها، عن عمد سنغفل أشياء كثيرة؛ حتى لا نفقد في غمارها ذلك الخط الواهي الدقيق الذي يحدد لنا مجال حركتنا خلال القطعة الصغيرة من بحر الحياة الزاخر التي اخترناها.
وآجلا أم عاجلا كنا سنصل إلى يوم الأحد التالي الذي ذهبت فيه سناء إلى المكتب وقد قضت ليلة من أتعس لياليها، يوم لن تنساه أبدا، فقد كان الأحد وغده الاثنين يوم امتحان أخيها، ذلك الذي عليه فيه قبل أن يدخل الامتحان أن يدفع المصاريف ويأخذ الإيصال، وبدون هذا الإيصال لا دخول ولا امتحان.
لم تكن أول الحاضرين كعادتها في الفترة الأخيرة ... وصلت فوجدتهم جميعا جالسين إلى مكاتبهم بنفس أنهكها التفكير ودبل خضرتها، حيتهم وجلست وقد عقدت العزم على أن تنتهز أي فرصة تلوح لتروي لهم كل شيء، ولتطلب منهم - هكذا ودون خجل أو تردد - أن يجدوا لها حلا، يومها كانت مستعدة أن تقتل أو تسرق أو تصنع أي شيء في سبيل أن تحصل لأخيها على قيمة القسط، فليلة الأمس بكى ... لأول مرة تراه منذ أن كبر يبكي كما كان يفعل وهو طفل، كانت تتناقش مع أمها في كيفية الحصول على النقود، وطرقا بنقاشهما كل الأبواب والاحتمالات دون جدوى، حتى بات واضحا أن النقود لن تأتيهم إلا إذا فتح الله سبحانه سقف حجرتهم وأسقط لهم من خلاله قيمة القسط، وكان النقاش قد استغرقهما إلى درجة نسيا معها أن أسامة موجود بجوارهما، ولم يفطنا لوجوده إلا حين سمعتا بكاءه والتفتتا لتجدا دموعه تلمع بكثرة فوق وجهه، وخيبة الأمل مرتسمة بصورة واضحة تنطقها رغم طفولتها الخرساء ملامحه، مس مرآه هكذا شعور سناء مسا سريعا حاسما داميا كقطع المشرط، ولحظتها صدر عن كل ذرة من كيانها قسم تلقائي مفاجئ غير منطوق ودون أن تعي أو تريد، قسم أنها لا بد واجدة حلا ... لا بد صانعة المستحيل وما هو أكثر منه كي لا يذرف أسامة دمعة أخرى، أو ترتسم على وجهه هذه الصورة الخرساء لخيبة الأمل.
وأصبحت الساعة العاشرة دون أن تحين الفرصة، ودون أمل حتى أن تحين فرصة، وأمل سناء قد أصبح مركزا كله في هذه الساعات القليلة التي ستقضيها بالمصلحة، إذ ما لم تنجح في الوصول إلى حل قبل الساعة الثانية فقد انتهى كل شيء، حقيقة لمحت من كثرة المرات التي ضبطت فيها عيون زملائها وهي تحدق ناحيتها، أنهم لا بد أدركوا أنها في حالة غير عادية، ولكن أحدا منهم لم يتعد في اهتمامه بحالتها أكثر من مجرد النظر، أليس فيهم رجل أوتي ذرة من نخوة يستطيع أن يلقي إليها سؤالا ... مجرد سؤال؟ هل أصابهم العمى والعته؟
كان الزمن على عكس عادته يمضي بسرعة خارقة، فما أسرع ما أصبحت الساعة العاشرة والنصف، مضت ألف وثمانمائة ثانية دون أن يجد جديد.
ولكن في تلك اللحظة بالذات جد جديد ... فتح الباب ودخلت نور، بنت حلال حقيقة يا نور، جئتني في وقتك! حيتهم نور واتجهت إلى سناء تحييها التحية الخاصة، وتنتظر سناء أن يتحرك محمد الجندي الكلب ويصنع مظاهرته المعتادة، أو حتى حين تريثت وردت تحية نور بطريقة مهمومة مكروبة أن تسألها نور عما بها بلا جدوى، لكأنما هناك مؤامرة أو لكأن الجميع يعرفون المأزق ويتركونها عن عمد تختنق وحدها به ، انتظرت سناء السؤال المعتاد من نور عما فعلوه لحل مشكلة مصاريف أخيها؟ ولم يأت السؤال، كل حديث نور انصب على مباراة الأمس بين الزمالك والأهلي، وكيف أنها لو كانت رجلا لنزلت إلى الملعب وضربت الجناح الأيمن للزمالك - ذلك الذي ضيع المباراة على فريقه - علقة ساخنة، ومن المباراة استطردت تتحدث بلا مناسبة عن تليفزيونهم الجديد الذي حل موعد تسلمه اليوم، وكيف أنها ستخرج مبكرة، وقد عهدت إليها الأسرة بمهمة إحضاره و... وبدأت نور في تشطيب الحديث والتحرك حركات القلق فوق مقعدها علامة التهيؤ للرحيل، دون أن يبدو عليها أنها تذكرت أو في سبيلها لتذكر السؤال، أكثر من هذا غادرت المقعد فعلا وقالت: أسيبك بقى ... باي!
وكاد الأمل الذي علقته سناء على مقدمها أن يخبو تماما وينطفئ، بل خبا فعلا وانطفأ، حينئذ لم تستطع الصبر، وانطلقت الكلمات مستغيثة من فمها: اسمعي يا نور.
والتفتت نور، وأشارت لها سناء أن تعاود الجلوس وقد بدا واضحا أن ثمة شيئا هاما تريد إخبارها به، وحتى حين فعلت ذلك كادت نور تعتذر محتجة بأوراق عاجلة عليها أن تعرضها حالا، غير أن سناء كانت قد قررت ألا تتراجع، وهكذا ظلت تلح حتى عادت نور تجلس جلوسا على مضض، وكانت سناء تتوقع من كثرة ما دأبت نور على سؤالها واهتمامها بالمشكلة أن تفزع، أو على الأقل تندهش، حين تندفع وتروي لها الموقف الفاصل الرهيب الذي صار إليه الوضع، ثم إنها حرصت على أن تروي الموقف بكل تفاصيله بصوت عال كأصوات الخطباء لا يصل فقط إلى آذان زملائها، ولكن يخترقها اختراقا وينتزعها من أي عمل، ولقد روعت سناء للنتيجة، فقد استمعت نور باهتمام مصطنع ... حتى وسناء تتوقف عند دموع أسامة وتسهب في وصف وقعها على نفسها لاحظت أن نور رغم اهتمامها الظاهر سرحانة، بل حتى حين جابت الحجرة وأركانها الأربعة بطرف خفي من عينيها لم تر واحدا ترك عمله واعتدل، أو ترك اعتداله وانتبه، أو حاول بسؤال أو استفسار أن يصبح طرفا ثالثا في الحديث. - والنبي زعلتيني يا سنسن ... وانتي عارفه وحياة ماما أنا لو كان معايا القسط ما كنت اتأخرت، إنما ضروي حتلاقي حل إن شاء الله، عن إذنك بقى لحسن المفتش زمانه مشي وتبقى وقعتي سوده.
وقبل أن تنطق سناء كانت نور قد اخترقت الحجرة جريا وخرجت من الباب.
Halaman tidak diketahui