Kembali Ke Permulaan
عود على بدء
Genre-genre
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
Halaman tidak diketahui
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
Halaman tidak diketahui
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
عود على بدء
عود على بدء
Halaman tidak diketahui
تأليف
إبراهيم عبد القادر المازني
الفصل الأول
قالت امرأتى ونحن ندنو بالسيارة من طنطا: «بعد زيارة السيد البدوى، مل بنا إلى بيت الشيخة صباح لنسلم عليها.»
قلت: «لا صباح ولا مساء. الوقت ضيق ...».
قالت: «أرجو، لأجل خاطرى ...».
قلت: «يا امرأة، ألا تتقين الله فى هذا العبد الصالح الذى سخره الله لخدمتك وخدمة بنيك»؟
قالت متهكمة، مستضحكة: «أنت عبد صالح»؟
قلت: «من حسن الحظ أنه لن تنصب امرأة لنا الميزان يوم الحساب. على كل حال، نحن الان بعد العصر، وما زال علينا - على أنا - أن نقطع مائة كيلو وزيادة قبل أن نبلغ القاهرة، وأخشى أن يتحلل بى التعب إذا أدركنا الليل قبل أن أفرغ من الطريق، أم ترى تعبى راحة لك؟ ثم إنك قد سلمت عليها منذ أربعة أيام ليس إلا، فما حاجتك إلى سلام جديد؟ أهو زاد تتزودينه للطريق»؟
قالت، وكأنها تحلم: «لست أشبع من النظر إلى حسن وجهها».
Halaman tidak diketahui
وقد صدقت.
فقد كانت الشيخة صباح، على الرغم من «التمشيخ» غيداء، حسناء، مبتلة، ورطبة حلوة، يجرى ماء الشباب فى محياها من نضرة النعمة، ولو طبع وجهها على «جنيه» لزانته وأغلته، وكان شعرها، الفاحم السبط، والورد الذى تتضرخ به وجنتاها من آيات صنع الله، تبارك وتعالى من خلاق عظيم، أما عينها النجلاء الرقيقة الجفن «الجنية» الانسان فأنقذ من أشعة «إكس» إلى حنايا الصدور وطوايا القلوب.
وقلت: «إذا كنت تشعرين أنك لن تطيقى الحياة إلا إذا حملتك إلى ذلك البيت الضيق لأختنق ساعة بالبخور المنطلق من المجامر حتى تتفضل فتبرز لك، وتمن عليك بإنبائك - وأنا من الشاهدين - أن «أمامك سفرا ...».
فصاحت بى مقاطعة: «اسكت، وحذار أن تذكرها بغير الخير».
فكست، وما حيلتى؟ •••
ورفع السجف، ودخلت علينا الشيخة صباح مسترسلة الأعطاف، ناعمة، غير متثنية على لينها، كأنها ملكة. وكانت ترتدى ثوبا أبيض رقيقا من الكتان، وتغطى رأسها بشف ينسدل على جانبي وجهها إلى كتفيها وصدرها الناهد، ويحجب جيدها الأتلع ويدور على ذقنها إلى قريب من ثغرها الدقيق الرفاف الشفتين الذى ما خلق إلا للقبلات الحرار، لا لما يلهج به، وأستغفر الله..
وقبلت زوجتى، ومدت إلى يدا هممت أن أبوسها بطنا وظهرا، لولا هذه الزوجة التى لا تزال تظلمنى بسوء ظنها.
ولما دارت القهوة. نظرت إلى وقالت: «أرنى كفيك ... ابسطهما».
ولمستهما لمسا خفيفا ثم أرسلتهما وأطرقت شيئا ثم رفعت رأسها وحدقت فى دون أن تطرف وقالت: «ستعطى ما لم تطلب، وتؤتى ما لا يباع ولا يشترى، وتسلبه فى اليوم نفسه ...».
فرفعت عينى إلى السماء - أو إلى السقف - ولمحت زوجتى وقد أخذ كتفاها يهتزان من الضحك المكتوم.
Halaman tidak diketahui
ومضت الشيخة صباح فى كهانتها غير عابئة بنا: «... وسينضى عنك ثوب الرجولة ... إلى حين يا صاحبى».
ونحت وجهها عنى.
وقالت وهى تودعنا: «أحسبنى لم أخاطب منك سوى أذنيك، فإنى أحس أن قلبك بعيد ...».
فأكدت لها أنه «ما زال فى موضعه، تحت الضلع العاشر، أم تراه الخامس عشر؟ معذرة، فلست أعرف عدد هذه الضلوع».
فجذبتنى امرأتى، من ذراعى، ثم دفعتنى خارجا، وسمعتها تقول للشيخة صباح: «إنه يمزح ... فلا تغضبى عليه».
فقرضت أسنانى، ولم أقل شيئا.
الفصل الثاني
ولما صرنا فى البيت، وجلسنا إلى المائدة نتعشى، قال أحد الشقيين - ولدى ولا فخر: «هل تعلمين يا ماما أنك عدت أصبى وأجمل؟ ومع ذلك لم تغيبى سوى أيام أربعة».
قلت: «لا عجب. فقد استراحت من وجع الرأس الذى تورثانها».
فضحك الشقى الأكبر، وعاد الأصغر يقول: «صحيح يا ماما - رجعت بنت عشرين».
Halaman tidak diketahui
فقلت: «فى مثلك سنك وتنافق، وتداهن، وتتملق، فكيف إذا دخلت مداخل الرجال»؟
فألقت إلى نظرة تنطوى على نذير أعرفه بالتجربة، فلئن لم أستدرك ليحيقن بى ما أكره من ائتمارها مع هذين اللعينين، فقلت: «وهل رأيتها أسنت وكبرت، وشابت، وشيخت حتى تقول إنها ارتدت بنت عشرين؟ ومتى كانت إلا بنت عشرين أو أقل ... رفافة الحسن..». «ولو ...».
فبلعت ريقى، وبلعت معه لقمة بلا مضغ.
وعاد الأصغر يسأل - فإنه ثرثارة مشهور: «قولى لى يا ماما. ماذا تصنعين إذا رددت بنت عشر»؟
قالت بسرعة: «أذهب ألعب معكما».
قال: «وبابا..؟ ماذا يصنع»؟
قالت، وهزت كتفيها: «يصنع ما بدا له.. مالى أنا»؟
قال: «وتظلين زوجته»؟
قالت، وعينها على: «أظل زوجة هذا الذى تصطك ركبتاه من الكبر»؟
ولم يكن عندى لهذا الطعن القبيح المفاجئ، جواب حاضر. وعلى أنها لم تمهلنى فمضت تقول: «بل كنت أنتظر حتى أبلغ وأرشد، ثم أزف إلى فتى نجيب بارع عليه طلاوة، وله مال، وفى خلقه دماثة، وفى نفسه طيب وخير».
Halaman tidak diketahui
فقلت: «حسبك! والله يسامحك، وما أظن بك إلا أنك ستعذبين فى جهنم الحمراء عذابا غليظا طويلا يما تجحدين من نعمة سيدك وتاج رأسك ...».
وسكنت الثورة، وقرت الفورة، وجمعت الخادمة ما على الأرض من المقذوفات المرتجلة المصنوعة من لباب الخبز الطرى على هيئة الكرات الصغيرة. وهى خادمة «فلكية» تغنيني عن مرصد، فترينى نجوم السماء طرا في الظهر الأحمر. ورثتها عن أمى. لأنها - أى الخادمة - آنقذتها من بين أخفاف الابل فى طريق «منى» قبل عهد السيارات. وكانت أمى رحمها الله قد استصحبتها فى حجها الأول لتقوم على خدمتها. ولعلها آنست منها القدرة على الشيل والحط. وكانت - أى أمى - وهنانة لا عهد لها بالجمال ولا قدرة على احتمال المخض من سيرها فدار رأسها فتدحرجت وهوت إلى الأرض. فلولا أن نطت الخادمة ورفعتها لقضى عليها فحفظت لها هذا الجميل، وأبت أن تسرحها بعد ذلك، وأوصتنى بها خيرا، وهكذا ورثتها عنها.
والإرث يباع، أو يرهن، أو يوهب أو يبدد. ولكن الدول، كما تعلم، آجمعت - لمكيدتى - على تحريم الرق. فلا سبيل إلى بيع هذه الخادمة أو رهنها أو وهبها. ثم إنها لا تساوى ملء أذنها نخالة. ومن المستحيل تبديدها لانها هائلة الأنحاء جدا. والعمر- كل العمر - أقصر من أن يتسع لهذا الجهد. وعسير جدا إضاعتها لأنها تعرف الطريق إلى البيت. ولعله كل ما تعرفه. وقد خطر لى أن أتخلص منها، كما تتخلص الناس من قطة مزعجة لم يبق فيها خير، فيضعونها فى غرارة ويحملونها إلى مكان سحيق، وهناك يطلقونها أو يدلقونها، فتضل الطريق ولا تعود. ولكن أين الغرارة التى تسعها - أعنى الخادمة - وأين الكتف التى تقوى على حملها؟ فهى قعيدة البيت ولا حيلة لى فى ذلك.
وشر ما فيها، إخلاصها، ومن العجائب أن تنقلب المحمدة مذمة، والمزية منقصة، والفضيلة رذيلة. ولكنها الدنيا وأنت سيد العارفين. وكل ما فيها اعتبارى، كما لا أحتاج أن أبين لك. قمت مرة برحلة مع صديق لى، فأضافنا رجل كريم، سيد ماجد. ففرحنا وزهينا. فإن مثله يفخر المرء بأن يكون - أى المرء - ضيفا عليه. وكان يسبق كل رغبة لنا باقتراحها وتحقيقها. ويعنى براحتنا وسرورنا، عناية لم تترك لنا رأيا أو إرادة أو شعورا حتى بحرية التفكير. وكانت مبالغته فى تحرى مرضاتنا، عن كرم وإحساس مرهف بالواجب، لا عن ثقل نفس، أو رغبة فى التظاهر. وكنا على يقين من هذا. ولكنا مع ذلك ضقنا ذرعا بهذا الكرم. وما كدنا نرحل حتى تشهدنا كأنا كنا سجناء. وما زلنا نضحك كلما تذكرنا كيف ظلمنا هذا الرجل الكريم وغمطنا حقه وجحدنا فضله.
وأعود إلى هذه الخادمة المخلصة الأمينة فأقول إنى أغلط أحيانا فأناديها وأطلب أن تجيئنى بشىء، فتجيئنى بخلافه. ولا تغلط مرة واحدة فتجىء بما أريد.
أقول: «هاتى الكبريت».
وليس فى لفظ الكبريت ولا فى حروفه ما يمكن أن يلتبس «بالجبن الرومى». وهى ليست بالصماء فإن سمعها كسمع القطة، وأنا خفيض الصوت ولكنى آتوخى معها أن أزعق وأصيح، حتى ليبح صوتى، ويوجعنى حلقى، وأمرض يوما أو يومين ومع ذلك لا تكاد تسمعنى أطلب الكبريت حتى تقول: «حاضر» وتعمد إلى ملاءة سوداء تلفها على نفسها - فإنها حيية - وتخرج فتشترى لى جبنا قد يكون روميا غير مزيف أو مقلد، ولكنه لم يخطر لى على بال، ولا كانت لى رغبة فيه.
وأراها مقبلة على تحمل على كفيها صينية عليها طبق فيه الجبن الرومى وشوكة وسكينة وفوطة ولقمة - فإنها تدرك من تلقاء نفسها وبغير حاجة إلى تلقين أن الجبن لا يؤكل وحده فلابد من خبز معه، وما دام سيدها سيأكل، وقد اشتهت نفسه الجبن الرومى فهل تتركه يوسخ يده؟ معاذ الله، وهذا هو تفسير الشوكة والسكينة.
وأنظر إلى هذا الذى على يديها فأتميز من الغيظ. وأكاد أطق وأنفلق، ولكنى ألم نفسى بجهد، وأهز رأسى، وأروح أتعجب لقدرة ربى على خلق كل هذه الأصناف من الناس. هذه امرأة لها كل ما لى - تقريبا - من الأعضاء. وليس ينقصها شىء. وهى تتكلم العامية التى نتكلمها ولا أعرف لها لغة غيرها. ومع ذلك لكل لفظ فى هذه اللغة معنى عندها غير معناه عندنا. فالكبريت معناه الجبن الرومى. والكتاب معناه طاحونة البن. والكلب معناه «الخيط وإلابرة». والكمون معناه السجاير إلخ.. حتى لقد خطر لى أن الألفاظ التي تبدأ بالكاف هى التى انفردت عندها بهذا الحال المقلوب. وأنا أحصى هذه الألفاظ - إيثارا للراحة - وآثبت معانيها إلى جانبها ليتسنى لى أن أخاطبها بلغتها فأقول لها مثلا: «خذى اشترى لى كمونا» ويكون مرادى السجاير. أو: «هاتى كلبا وخيطى هذا الزرار» وإذا مر بالشارع الذى يصلح طواحين البن قلت: «خذى الكتاب فأصلحيه عنده» أو: «اشترى لنا كرنبا» أى بترولا ... إلخ إلخ ولكنى أخشى أن تتطور اللغة عندها وتكتسب الألفاظ كل بضعة أيام معانى جديدة فيذهب تعبى سدى.
وآه إذا مرضت ... تلازمنى ولا تبرح كرسيها إلى جانب سريرى، وليتها تسكت ولكنها لا تكف عن الكلام والدعاء والتنهد وضرب الكف بالكف. ثم ليت هذا كان كل ما تصنع فإنها تفتأ تجسنى، وتلفنى، وتدس اللحاف تحتى هنا، وههنا، وتسوى لى المخدة، وترفع رأسى وتحطها، وتستخبرنى عن حالى ومبلغ سوئه، حتى يكاد عقلى يطير. وما دمت مفطوما عن طعام أهل البيت وملتزما الحمية الموصوفة فهى صائمة، لا كصيام المسلمين من عباد الله، بل كصيام غاندى إلا عن قطرات من الماء كحسو الطائر، لبل الريق.
Halaman tidak diketahui
وربما تعجبت لها وتساءلت: «أترى أمى لم تكن أمى، بل تبنتنى، وهذه هى أمى الحقيقية؟ وإذا لم يكن ذاك - وأرجو ألا يكون - فهل الأمومة عندها قوية إلى هذا الحد؟ ولكأنى بها تنظر إلى ضخامة جسمها، وذهابه طولا وعرضا، وضالة جسمى وهزاله فتحنو على، وترأمنى».
وأقول قد برمت بهذا العطف «الفاحش»: «ما كان ضر أمى لو نسيت أن توصينى بها قبل موتها»؟
ويجىء الطبيب، وهو يعرفها ويطيب له أن يعابثها، فيهول عليها بما أصابنى من برد أو غيره، فتروح تبكى وتندبنى، قبل الأوان سامحها الله! وينال الطبيب جزاءه أيضا. فتأخذ بتلابيبه ولا تدعه يبرح غرفتى إلا بحيلة يحتالها. ولولا ذلك لسجنته معى حتى أشفى. وكثيرا ما يقول لها: «يا ستى الحاجة الشفاء من الله، ولست إلا واسطة خير». فلا تقتنع ولا تطلق سراحه.
وأقول لامرأتى: «هاتى لى كل ما أمر الطبيب باجتنابه من الأكل».
فتسأل عن السبب فأقول: «إن هذه الحاجة لا تقتنع بأنى شفيت إلا إذا أكلت ما يأكل الناس. ولن تعفينى من عطفها ما لم أفعل. فاصنعى معروفا وأطعينى وأمرى إلى الله. وسأموت على التحقيق وسيكون دمى في عنقها ولكن ما حيلتى»؟
فتضحك الزوجة وتقول: «لا تغالط. إنما تريد أن تأكل وتخالف أمر الطبيب».
فأقسم بكل يمين أعرفها. ولكن من يصدق؟
حتى أنا، ينتهى الأمر بأن يساورنى الشك، أحيانا، ولى العذر .... •••
وقالت امرأتى تخاطب أصغر الشقيين: «لقد أذكرنى سؤالك حكاية سمعتها، أو قرأتها، وأنا صغيرة. قالوا إن ملكا واسع السلطان، أسن ولم يرزق ولدا، وكان تقيا صالحا فدعا الله أن يرده شابا. ونام فهتف به هاتف أن قم فكل من شجرة التفاح، فإن عليها ثمرة فى غير أوانها. وكان له بستانى هرم هم يتوكأ على العصا، وكان يجوس خلال البستان، فبلغ الشجرة ونظر فإذا ثمرة ناضجة تتدلى فتعجب، ومد يده فقطفها، وخطر له أن يهديها إلى الملك، غير أنه راجع نفسه، واستقل الهدية وإن كانت نادرة، وقال لنفسه إن تفاحة واحدة ولو كانت فى غير أوانها، لا تستحق أن ترفع إلى ملك، وليس يضيرنى أن أكلها، فلن يفتقدها أحد وهذا غير أوان التفاح، ثم إنى جوعان فما طعمت فى يومى شيئا. فأهوى عليها بأسنانه حتى أتى عليها، وعاد إلى كوخه فنام. وجاء الملك بعد قليل، فلم يجد تفاحة، ولا إيذانا بتفاحة، فلم يستغرب، وقال ما كان لى أن أتوقع غير ذلك، إن هى إلا أضغاث أحلام. وكر راجعا إلى قصره.
وأقبل ابن البستان على الكوخ ليوقظ أباه، فألفى فى فراشه فتى منظرانيا فتعجب وتساءل من عساه يكون؟ وأيقظه وراح يسأله من يكون؟ وماذا جاء به؟ وماذا يصنع فى كوخ أبيه؟ فقال: «أنا أبوك ... ألا تعرفنى»؟ قال: «أبى؟ وكيف يمكن ان تكونه وأنت أصغر منى وأصبى»؟.
Halaman tidak diketahui
وأمسكت. وجلسنا صامتين ننتظر البقية. فضحكت وقالت: «نسيت بقية الحكاية».
فصاح بها الشقيان محتجين: «لا، لا، لا، يا ماما ... هذا لا يجوز ...».
قالت: «فليتمها بابا».
قلت: «كيف يمكن أن أفعل وأنا ما سمعتها إلا الساعة»؟
قالت، وهى تنهض عن المائدة وترفع أطباقا: «أليست دعواك أنك واسع الخيال؟ تخيل إذن، ولا تخيب أمل ولديك ...».
فنهضت مثلها، ودنوت منها، وغافلتها، وقرصتها، فلولا لطف الله لتهاوت الأطباق قطعا متناثرة..
وكانت ساعة! ثم لاحت لى فرصة، ففررت إلى غرفتى، وأوصدت بابها.
الفصل الثالث
فكأنما أوصدته دون عالمى كله..
وكنت قد أشعلت سيجارة، واستلقيت على جنبى معتمدا بكوعى على المخدة، ومسندا رأسى إلى كفى، وذهبت أفكر فى أمر هذه الزوجة الصالحة التى لا تفتأ تغرى ولدينا بالمعابثة وتشاركهما فيها. وحدثت نفسى أنهما ولدان صغيران غريران، وإن كانا عفريتين، وأنها هى ليست إلا امرأة، والمرأة فيما تصفها الحكمة المأثورة أو الشائعة على الأقل، ينقصها العقل والدين. ولأنا خليق، بفضل السن، والتجربة، والخيال، وسعة الحيلة، والقدرة على الابتكار، أن أقهر ثلاثتهم فى هذا المعترك، وإنى لأعلم أن الكثرة تغلب الشجاعة، وأعرف أن هؤلاء الثلاثة لا تنقصهم الشجاعة، ولكنى أعرف أيضا أن شجاعتهم هذه إن هى إلا ثمرة تدليلى لهم، وطول أناتى وحلمى معهم. وإنما يتعفرتون، ويتشيطنون، ويركبون رؤوسهم بالعبث، لأنى أستملح ذلك وأحبه لهم وأوثر تفكيههم بما يطيب به عيشهم، ويجمل الحياة والدنيا فى عيونهم، وقد أوهمهم طول مساناتى لهم، وفرط ترفقى بهم، أنهم يستطيعون أن يبذونى ويسبقونى فى هذه الحلبة، فيحسن أن أريهم «بعض» النجوم فى الظهر الأحمر ... أى نعم، أدب هين آؤدبهم إياه، يزجرهم زجرا كافيا عن طمع مسرف يطمعونه فى حلمى.
Halaman tidak diketahui
وغلبنى النعاس، وأنا أحدث نفسى بهذا. ونمت ملء جفونى على هذه النية الطيبة السارة بإذن الله.
وكان النوم عميقا هنيئا لا حلم فيه فاستوفيت حظى منه كاملا لا ينقص دقيقه واحدة، ثم استيقظت على نور الصبح، فتعجبت لهذه البلجة من أين جاءت، وأنا قد غلقت الشبابيك والباب قبل أن اوى إلى الفراش؟ وفركت عينى لأستثبت. ولكن الضوء الساطع كان يحوجنى إلى تغميض عينى، والمداناة بين جفونهما. على أنى ما لبثت أن فتحت عينى جدا، فقد رأيت امرأة فى مئزر أبيض، تنحى ستائر عن شباك - كاباب - عريض لا عهد لى به. فغضضت البصر وأدرت وجهى إلى الحائط، وفى ظنى أن هذا حلم يتراءى لى. ومن أين بالله يمكن أن تجىء المرأة ذات المئزر الأبيض؟ ومن أين تدخل والباب موصد ومفتاحه فيه - أو لابد أن يكون فيه فما رفعته منه؟ وأنى لى هذه الستائر الرقاق الموشاة بمثل صور الطير، وليس فى بيتي من الأستار إلا كل غليظ النسج قاتم اللون؟ وما هذا الشباك العريض كالباب؟ بل هو باب، وغرفتى ذات شباكين ولا باب فيها إلا ما أوصدت.
إنه حلم على التحقيق، فلننعم به ما دام. وألفيتنى أدعو الله فى سرى أن يجعل المرأة ذات المئزر خودا منظرانية، فإنه ما دمنا نحلم ولا نرى حقا فلا أقل من أن نحلم بخير.
وسرعان ما استجاب الله دعائى، فليته يفعل ذلك فى اليقظة - يقظتى آنا، كما لا أحتاج أن أقول فإنه - سبحانه - لا ينام - فاستدارت، فإذا هى من البيض الحسان والحواريات المسمورات، حلوة رقراقة ناعمة، ووضيئة قسيمة، مستغنية بجمالها عن كل زينة، فتبسمت لها، وقد رف لها قلبى، وهى مقبلة على، تهفو كالنسيم، ولا تكاد تمس الأرض، فما كنت أسمع وقع قدميها وهى تمشى إلى، وعلى ثغرها النضيد إبتسامة ما أحلاها وأعذبها! فلماذا يا ترى نحرم مثل هذا فى عالم الحقيقة، ونخايل به فى أحلامنا، وأشفقت - وأنا أرنو إليها مغتبطا بدنوها منى شيئا فشيئا، متطلعا إلا حلاوات سأتذوقها مها، ولذات سأفوز بها من قربها - أقول آشفقت أن يكون مصور الحلم قد جعل لها قدمين على هيئة السمك أو ذنبه، وخفت أن تنقلب الغرفة بحيرة والسرير زورقا، وتذهب تسبح بنت الماء هذه، وتطالعنى من هنا وههنا وتحاورنى، فأحاول أن أدركها، فيضطرب الزورق فى الماء وأغرق فما أحسن السباحة، أو أبتل على الأقل.
وصوبت عينى إلى الأرض فاطمأنت نفسى. فما زلنا فى الغرفة. وإن للفتاة لقدمين دقيقتين جميلتين، وإن ساقيها لممشوقتان.
واتكأت على السرير براحتيها، ومالت، وصار محياها فوق وجهى، وبينهما شبران، أو أقل، فليتها تختصر المسافة أو تختزلها أو تمحوها! وقالت بأعذب صوت صافح أذنى: «صباح الخير يا بابا..» فحيرنى قولها «يا بابا»، أهو تدليل لى أو مفاكهة؟ إن كان هذا فأنا خليق أن أسر، أم هي إشارة إلى ما بيننا من فرق السن؟ إن تكن الأخرى فهى ليست من حسن الذوق على الريق. وخطر لى أنى جدير - على الحالين - أن أسر بأن أصبح على هذا الوجة الحسن، وراقتنى، وأنا أنظر إليها - بل أحدق فيها - نقرتان عند الشدقين حفرهما الابتسام، فافتررت لها كما تفتر وقلت لها أمازحها مثل مزاحها، وإنها لأولى بذلك من الحاجة! «صباح الخير يا ماما ...».
وما كدت أفعل، حتى وجمت، ووضعت يدى على فمى فما كان هذا بصوتى ولا هو يشبهه، وإن صوتى لأجش، جهير، وفيه برجمة، وغلظ، وكثيرا ما عابتنى به امرأتى وزعمته صلبا شديدا، مبالغة منها على عادتها، عندما تمزح. وقد قالت فى صفته مرة إنه «ضوضاء». أما هذا الذى سمعته من نفسى حين حييتها فصوت ناعم دقيق مع ارتفاع، كأصوات الصبيان قبل أن يبلغوا الحلم، أو أصوات البنات، فماذا جرى ؟ هل أصاب حلقى شىء؟
وتحسست رقبتي، وبلعت ريقى لأستوثق، فلم أشعر أن بى شيئا.
ورأت الفتاة سهوم وجهى، وشرود نظراتى، فأراحت كفها على كتفى وسآلتنى: «مالك؟ ألست بخير هذا الصباح»؟
فتنبهت. ووقع فى نفسى ما فى صوتها من الحنو. وأسرعت فقلت: «نعم بخير. شكرا لك».
Halaman tidak diketahui
وارتعت ثانية لما سمعت هذا الصوت الجديد الناعم، وأحسب أن وجهى امتقع فقد حنت على، وراحت تمسحه لى بكفها الرخصة، وتجسه، وكاد طيب لمسها يذهلنى عن تعجبى لصوتى وإنكارى له.
وسمعتها تقول: «كلا. لا شىء بك. وسأجيئك بطعامك فتهيأ له»، وألقت إلى ابتسامة وانصرفت خفيفة كمر النسيم.
وجلست على السرير وقلت لنفسى: «هذه خلوة يحسن أن أقضيها في جلاء هذا الأمر»، ورفعت يدى إلى رأسى أسوى شعرى وأسرحه بأصابعى، وإذا بيدى تقف وعينى تشخص، فإن شعرى قليل خفيف، على طوله، وقد استوى بياضه وسواده أما هذا الذى تخللته بأصابعى فكثير مجتمع مسترسل إلى القفا، وهوت يدى إلى خدى من الدهشة، فإذا الصفحة ملساء ناعمة أسيلة، وبضة طرية لا أثر فيها لشعر نابت يحتاج إلى الموسى لحلقه. فأدنيت أصابعى فى حذر وإشفاق من شفتى العليا فكان ما خفت أن يكون، ولم أجد شيئا. وزاد عجبى أن أحسست فى هذه الشفة انقلابا يسيرا واسترخاء. فدفعت الغطاء وانتفضت أريد الوثوب إلي الأرض لانظر فى المرآة وأتبين ما حل بى، ولكن الغطاء لم يكد يطرح وينحسر حتى جمدت مكانى. فقد ألفيتنى فى ملابس الصبيان - سراويل قصير لا ساق له، وقميص مقور الجيب بغير كم، والجرم كله جرم حدث، لا جرم الرجل الذى أعرف أنى هو - أو أنى كنته - ودليت ساقى من فوق السرير فلم تبلغا الأرض، فجعلت أهزهما وأتأمل بضاضة بشرتهما، وأتعجب أين ذهب الجسم الذى كنت فيه؟ وكيف دسست فى هذا الإهاب الجديد؟ واشتقت أن أسمع صوتى فرحت أتكلم بصوت خفيض مخافة أن يدخل على داخل فيستقل عقلى. واشتهيت أن أرى وجهى وصورتى فى مرآة، فإنى أرى معظم بدنى، ولا أرى وجهى وطولى وعرضى، ولكنى خفت أن يباغتنى أحد وأنا أتأمل نفسى فى المرآة وأدور امامها، فقلت أنتظر حتى أغتسل أو أغير ثيابى. فلابد أن لى ثيابا أخرى وعسى أن تكون فى هذه الخزانة.
واستثقلت هذا الحلم، وضاق صدرى بالتحول الذى تحولته فيه، وإذا طال الحلم فستتراخى السنون وتتعاقب قبل أن أبلغ مبالغ الرجال مرة أخرى، ثم ضحكت، فإن الأحلام تبدو لرائيها كالدهر طولا فيما يحس، ولكنها لا تستغرق أكثر من ثوان أو دقائق، وفاء بى هذا الخاطر إلى حد من السكينة والرضا، فقلت إنها على كل حال رؤيا سينسخ الإصباح كل ما فيها من صور، ولا منطق للأحلام، ولاضابط، ولا ايين تجرى عليه فإنما هى خيالات تتمثل، وأضغاث كسمادير السكر، وليس بمستغرب فى حلم أن يرتد المرء حدثا ابن عشر - ترى كم بلغت؟ - ووالله لقد نسيت كيف كنت إذ أنا طفل، فلعل ما أنا فيه يجدد لى الذكرى ويحيى ما غمض، وينشر ما انطوى.
ولمحت الباب يفتح فاستحييت أن ترانى هذه الفتاة المليحة عارى الساقين، فآسرعت فرفعت رجلى إلى السرير وتغطيت بالملاءة وأسندت رأسى إلى شباك السرير.
وكانت تحمل صينية كبيرة عليها أطباق شتى مغطاة وفنجان وإبريق وفوطة. فوضعتها على منضدة قريبا من الشباك أو الباب على الأصح ثم انثنت إلى وقالت: «ألا تزال فى سريرك؟ ما هذا الكسل؟ تعال».
وحنت على، وطرحت الملاءة عنى، وراحت تدلك لى جسمى من فوق. فأغمضت عينى مستحليا ذلك منها، ولكنها هوت بكفيها إلى الفخذين فدفعت يدها وتغطيت وصحت بها، وقد أنسانى الحياء ما أنكر من صوتى: «كله إلا هذا»!
قالت متعجبة: «ماذا جرى لك اليوم؟ ألست أفعل هذا كل يوم تقريبا»؟
كل يوم..؟ إن هذا الحلم أطول مما أعرف! فما أغربه من حلم مقتضب يبدأ من نصفه؟ وهل ترى اسمى فيه بقى كما أعرفه أو تغير هذا أيضا؟ وهل ترانى أجرؤ على الاستفسار؟
أم ستتاح لى فرصة فأعرفه بلا سؤال؟
Halaman tidak diketahui
وسمعتها تقول: «مالك لا تعجب؟ إنك اليوم متغير».
فقلت فى سرى: «لو عرفت لعذرتنى». ثم لها: «لاحاجة بى إلى التدليك . ثم إنه غير لائق».
فاستضحكت ثم قالت: «غير لائق؟ هذا جديد ... هذا ممتع».
قلت: «ممتع أو غير ممتع، سيان. لا أريده والسلام».
فهزت رأسها وقالت: «إنك لطفل غريب. لا ينقضى منك عجبى، طيب. قم إلى طعامك».
فسألتها: «ألا أغتسل أولا»؟
قالت: «طبعا. تعال».
وتقدمتنى إلى باب لم أفطن إليه من قبل، يفتح على حمام، ورأيتها تسبقنى إليه فناديتها فخرجت إلى فما أسرع ما اندفعت داخلا وأغلقت الباب ورائى.
ورأيت فى الحمام مرآة فوق الحوض، إلا أنها عالية لا ترينى إلا وجهى وصدرى. ولم يخطئ ظنى. فقد كان الوجه صابحا والشعر شعر حدث، ولكنه لم يعجبنى، فقد كان - أى وجهى - كأنه منتفخ الصفحتين، وكانت الشفتان شديدتى الحمرة وعلياهما منقلبة قليلا قليلا كما ظننت، حيث ينبت الشارب، على أني حمدت للذى صورنى هذه الصورة آنه لم يجعلنى أشرم.
ونظرت بعد ذلك إلى ألوان الطعام ثم إليها وسألتها: «ألا تشاركيننى»؟
Halaman tidak diketahui
فابتسمت، وشكرتنى وقالت إنه طعامى وحدى.
فقلت: «كل هذا لى؟ أتعنين أنك تتوقعين أن أحشو معدتى وأكظها بكل هذا؟ إذن سأمرض بلا شك».
قالت: «كلام فارغ، إنك أكول مبطان، أو تحسب أنى لا أعرف ماذا تلتهم فى نهارك بين الوجبات من شكولاته، وفول سودانى، وحمص وغير ذلك؟ كل وأنت ساكت، ولا تتظاهر بهذه الزهادة، فلولا شفقتى عليك لأخبرت آمك».
قلت فى سرى: «ولى أم أيضا.. ترى كيف هى»؟ ثم للفتاة: «ولكن.. زبدة وجبن وبيض مقلو مع اللحم المتمر، وقشدة، وعسل، ولبن وشاى، وهذا. ما هذا؟ آه خبز مكسر على السمن. فماذا تظنينى بالله؟ غولا.. ألا تعرفين أن «الغازات» تسود عيشى؟ فكيف آكل هذا وآمن فورتها وسورتها»؟
ونسيت وأنا أقول هذا أن الذى ردنى طفلا، وكر بى راجعا كل هذا الزمن لابد أن يكون قد عنى بأن يضع لى مكان معدتى العتيقة، معدة جديدة شابة. فما يعقل أن يكون هذا قد فاته، وإلا صار ما صنعه بى تخليطا لا يستقيم معه الأمر.
وقالت الفتاة: ألا ليت أحدا يناديها باسمها فأعرفه فقد أحتاج إليه،ثم ليتها تدعونى باسمى لأعرف من أنا؟: «ما هذا الكلام الذى تقول؟ إنه أشبه بالهذيان. سم بالله وكل».
فأطعت. وهل كان لى معدى عن الصبر؟ وجعلت فى أول الأمر أتناول بحذر وتقية، وآكل على مهل وبحساب، وأمضغ مضغا طويلا مستأنئا فيه، ثم أحسست وأنا ألوك أن رغبتي تشتد، وشهوتى تقوى، فعكفت على الطعام عكوف المنهوم الرغيب الذى لا تنتهى نفسه ولا تمتلئ عينه، وما هى إلا لحظة حتى كنت قد قششت كل ما أمامى. ثم اضطجعت وربت على بطنى وحدثت نفسى أن أملى لم يخب فيمن صنع بي هذا، فليتنى أعرف حيلة أستبقى بها هذه المعدة لما بعد اليقظة.
وتذكرت قول ابن الرومى: «ذى معدة ثعلبها لاحس
وتارة أرنبها ضاغب
تعلوه حمى شره نافض
Halaman tidak diketahui
لكن حمى هضمه صالب»
وتمنيت، وقد آتانى هذه المعدة الفتية، أن لو كان آتانى أيضا عقل حدث. وأحسبه نسى أن يغير لى نفسى كما غير لى جسمى، على أنى ما أظن إلا أنه لو كان فعل لما فطنت إلى أنى تغيرت.
وسمعت فتاتنا تقول: «هنيئا مريئا يا بابا».
قلت؟ «شكرا».
ووددت لو نسيت «بابا» وذكرت اسمى..
وخطر لى أن خادمتنا الحاجة لعلها صغرت مثلى!
الفصل الرابع
وخرجت فى الشباك العريض - أو الباب - بعد أن أعطيت ثيابا أخرى أرتديها - إلى شرفة رحيبة تصلح للعب وتتسع لفنون منه، وتطل على بستان زهر وثمر، تخترقه طرق ممهدة وبعضها مفروش بدقاق الحصى المصفر، وفى أرجائها المترامية ظلال من الحرور، وأكنان من القر، وبين الأفنان فواكه شتى، رأيت فمى يتحلب عليها فيتلمظ لسانى وشفتاى، وإن كنت ناهضا عن المائدة الساعة.
واشتهيت، وأنا واقف أجيل عينى فى هذه الحديقة، أن تكون بين أصابعى سيجارة وأمامى فنجان من القهوة، فأترشف وأدخن وأنعم، وأنى لى ذلك إلا بحيلة أحتالها؟
واتكأت على حافة الشرفة وذهبت أفكر فى أمرى، وتساءلت: «ترى ماذا صنع الله بإهابى الذى كنت فيه؟ بالجسم الذى كان لى»؟ وقلت فى جواب ذلك: إنى أحسبه ما زال مطروحا على سريره. وفزعت اذ خطر لى أنهم لعلهم وجدوه فى الصباح لا حياة فيه ولا حراك به - بعد أن خرجت منه ونضوته عنى - وما يدرينى أنهم حينئذ لا يعدونه ميتا فيدفن؟ إن هذه تكون إحدى المصائب الكبر، لأنه يقضى على أن أظل فى هذا الإهاب الصبيانى وينتسخ كل أمل فى إصلاح هذا الحال المقلوب.
Halaman tidak diketahui
وجرى ببالى أن لعل هذا هو تناسخ الأرواح الذى سمعت أن البعض قالوا أو يقولون به. ولكن التناسخ لا يجرى على هذا النحو، ولا يكون - أو لا ينبغى آن يكون - بنقل نفس حية من جسم إلى جسم آخر، فيه هو أيضا حية تطرد منه، ويتطلب طردها إحلالها محل ثالثة تنفى هى كذلك إلى جسم رابع وهكذا وليس لهذا آخر يقف عنده وينتهى إليه، ومؤداه الفوضى العميمة. وما ظنك بحال عالم يسمى ناسه وهم هم، ثم يصبحون وهم غيرهم؟ ولا خير فى هذا لأنه لا يعدو أن يكون مجرد تنقيل من آجسام. وإنما يحصل التناسخ بعد موت الجسم، وأنا لم أمت. أو من يدرى؟ لعلى مت، وانتقلت روحى أو نفسى إلى جسم هذا الصبى! ولكنى لم أولد معه، بل حللت فى بدنه فجأة فى بعض مراحل عمره، وليس هذا بجائز فيما أرى.
ونشف ريقى وأنا أفكر فى هذا ولا أهتدى. وتصببت عرقا. وحرك النسيم الأغصان فتنبهت إلى أن ههنا - تحت أنفى - شجرة عظيمة ذاهبة في الهواء، وفى وسعى بلا مشقة أن أتخطى الحافة إليها وأتدلى منها إلى الأرض، واستغربت أن يخطر لى خاطر هذا العبث الصبيانى، وماذا أصنع إذا لقيت من لا أعرف؟ وقد يبتدرنى بسؤال عن شىء أو أحد أو عن نفسي، أو يدخل معى فى حديث يتناول ما أجهل. كلا ... الخير أن أبقى حيث أنا، وأن أدع من شاء يصنع بى ما يشاء حتى أهتدى إلى نفسى.
وأقبلت الخادمة - أعنى الفتاة المليحة - مرة أخرى، فسألتها: «فى آى يوم نحن؟».
فابتسمت وهزت سبابتها فى وجهى وقالت: «تتباله؟ يا مكار».
فحدثت نفسى أنى لن أهتدى إلى شىء فى هذه الحياة الجديدة إذا ظل كل من ألقى يفترض أنى أعرف ما أجهل.
وقلت أستدرجها: «إنما أريد أن أستوثق».
قالت: «لا محل للشك. هو اليوم العظيم ولا كلام».
قلت: «بل شكى عظيم. ويخيل إلى أن هناك خطأ كبيرا».
قالت، وهزت رأسها: «آه، فهمت، ولك العذر إذا اختلج فى نفسك شك، فإنك ما زلت صغيرا، وصحيح أن اليوم قد يختلف فيكون السبت مرة، والجمعة مرة، ولكن التاريخ ثابت، وهو الذى عليه المعول».
فقلت لنفسى: «هذه فرصة فلأغتنمها»، ثم لها: «مهلا. أرجو أن تزيدي هذا إيضاحا، فإن الأمر مختلط على قليلا».
Halaman tidak diketahui
قالت: «حبا وكرامة. اليوم الجمعة، مثلا».
فلم يعجينى قولها «مثلا» لأنه يتركنى حيث كنت، حائرا لا أدرى، وضالا فقاطعتها سائلا: «مثلا أو هو يوم الجمعة فعلا؟ يجب أن يكون كل شىء واضحا بدقة».
قالت: «هو الجمعة فعلا».
فقلت فى نفسى: «إنى لا أستغرب أن يحيق بى هذا فى يوم جمعة، فالان آمنت بزعم العامة أن فى يوم الجمعة ساعة منحوسة، ولكنى نقلت هذه النقلة ليلا لا نهارا؟ وما الفرق؟ إن الجمعة تبدأ بالحساب القمرى من مغرب الخميس، فليلتها السوداء تبدأ حيث ينتهى نهار الخميس. وهى بالحساب الشمسى تبدأ بعد منتصف الليل، فهى الجمعة المنحوسة بنهارها وليلها على الحسابين جميعا.
وفاتنى وأنا أفكر فى هذا، بعض ما هى قائلة، فقرضت أسنانى من الغيظ، والسخط على نفسى، وقلت: «معذرة. ماذا كنت تقولين»؟
فزوت وجهها وتناولت كتفى وسألتنى: «ماذا جرى لك اليوم؟ واليوم على الخصوص؟ إنى خائفة ...».
فقلت مقاطعا: «على الخصوص؟ وما وجه هذا الخصوص»؟
فسألتنى، وهى مقطبة مضطربة: «أو نسيت هذا أيضا»؟
قلت، وأنا أتكلف السخر: «وما فضله على الأيام»؟
قالت، وضربت كفا بكف: «فضله؟ عيد ميلادك تتكلم عنه بهذه اللهجة»؟
Halaman tidak diketahui
ففهمت - هذا على الأقل - وقلت: «آه! تعنين «يوم» ميلادى الجديد»؟
قالت: «أيوه عيد ميلادك ... أعنى يوم عيد ميلادك ... أوه لقد أعديتنى فأنا أتكلم مثلك».
قلت: «الصواب أنه «يوم» ميلادى الجديد ...».
قالت: «هو كذلك. يوم ميلادك الجديد».
قلت: «إنك غير فاهمة - ولا أنا أيضا فاهم إذا أردت الحقيقة ».
قالت: «ماذا»؟
قلت: «لا شىء.. لا شىء. ولن تفهمى إذا قلت. فدعى عنك هذا. وهاتى أنت ما عندك».
قالت: «مالك تتكلم كأنك شيخ كبير، وأنت ما جاوزت العاشرة»؟
فحدثت نفسى أن هذا شىء آخر جديد عرفناه، وقد بقى أن نعرف من أنا. ومن هؤلاء ممن أرى ومن لا أرى، وقلت لها: «هذا إحساسى ... أنى شيخ ... أنى كبير، وإن كنت أبدو كما ترين غلاما صغيرا».
قالت: «كيف تقول هذا والدهر كله، مستقبلك كله، لا يزال أمامك»؟
Halaman tidak diketahui
قلت: «إلى البارحة فقط كنت قد خلفت ورائى شبابى، وفى هذا الصباح، أو فى الليل فما أدرى، دار الزمن - بى وحدى على ما يظهر - دورة انقلب معها الحال فصار قدامى ما كان ورائى، ماذا كنت أنت أمس؟ طفلة؟ امرأة عجوزا؟ الحاجة زكية»؟
فلمست جبينى بكفها وسألتنى: هل أنت مريض؟
أتشعر بشىء على خلاف العادة»؟
فقلت - برغمى، وإن كنت أدرك أن هذا عبث لا طائل تحته، وقد يجر على ما لا أحمد: «نعم أشعر، وأعرف، يقينا، أن كل شىء على خلاف العادة، ولكنى لست مريضا. أوه. ما الفائدة؟ لن تفهمى. ولن تصدقى إذا فهمت ...».
وأوليتها ظهرى، واتجهت إلى الباب، فلما بلغته سألتها: «هل أظل محبوسا فى الغرفة والشرفة»؟
فأسرعت إلى، وقالت: «أنا متعجبة وخائفة، فليست هذه عادتك».
فلم أرحمها وقلت: «إن كل ما اعتدته تغير - كل شىء تغير - صدقينى وإن لم تفهمى، وقولى لى ماذا ينبغى أن أصنع الآن»؟
قالت: «أرجو إذا نزلت إلى ماما أن لا تتكلم هكذا فإنه لن يسرها، وفى يوم عيدك على الخصوص ... ليتنى أعرف ما بك»؟
فرق لها قلبى، وهممت أن أقبلها شكرا لها على عطفها، واندفعت يداى تريدان تطويقها، ولكنى صددت نفسى مستحييا. وإنى لغلام صغير فيما ترى، ولكن إحساسى إحساس رجل، وطاف برأسى أن هذه فرصة لى، إذا شئت اغتنمتها فلن تردنى عن عناقها وتقبيلها، فما تدرى إلا أنى طفل، ويغنم الرجل الذى انطوى عليه، والذى تنكر فى زى غلام، حلاوة القبلة ومتعتها. ولكنى صرفت نفسى عما يغريها بذلك ، وقلت لها فيما قلت: إنها قد تحنو على، ويعطفها ما يعطف المرأة على الصغار، وقد تحتمل ثقل تقبيلى لها وتعلقى بعنقها، لأنى صغير يلاطف، وقد يسر الأم الكامنة فى نفسها أن يلاعبها طفل، ولكنها لن تستحلى القبلة أو تستطيبها وتستمتع بها إلا من رجل، وما خير قبلة لا تبادلنيها؟ وأنفت أيضا أن أخدعها، وإن كان ما تحولت إليه ليس من فعلى أو تدبيرى.
وقلت لها: «ألا ترافقيننى إلى حيث ماما»؟ فابتسمت وقالت: «كأنك لا تعرف طريقك ... إن كل أحوالك اليوم غريبة. كلا. لا أستطيع مرافقتك. فإن عملى هنا، وهو كثير، كما تعلم».
Halaman tidak diketahui
فتوكلت على الله، فما بقيت لى حيلة إلا أن أقذف بنفسى على المجهول.
الفصل الخامس
ورأيت سلما عريضا درابزونه من الخشب المصقول، ودرجاته مكسوة ببساط، فقلت فى نفسى: إن هذا قصر على ما يظهر. فلماذا يا تري آثروا لأرض غرفتى العرى وقد كسوا السلم؟ وهبطت على مهل،درجة درجة، ونفسى تحدثنى أن أركب الدرابزون فأنزل عليه! وكنت لا أنفك أتلفت فى كل ناحية، ولكنى لم ألق أحدا، فاستوحشت من هذا السكون، ولما بلغت آخر درجة نظرت فإذا أمامى بهو أوسع من دهليز، وفيه مقاعد قليلة، وعلى جدرانه صور شمسية لم أستبعد أن تكون لبعض «أهلي» فصعدت طرفى إليها ولكنها كانت عالية، والبهو مظلم. وأبصرت بابا مواربا إلى يسارى فنظرت منه ولم تكن بى حاجة إلى انحناء فإن قامتى الجديدة ليست مديدة، وأنا لا أنظر من ثقب المفتاح بل من فرجة الباب الموارب، ومع ذلك انحنيت كأنى ما زلت أنا. وأنسيت أنى قد صرت هذا الذى لا أعرف من هو، فأخذت عينى سيدة كدت أهجم عليها حين وقع عليها بصرى فقد كانت هى زوجتى بعينها، ولكن شيئا فى جلستها، وهيئتها، وثيابها، ردنى وكبحنى عن الاندفاع، فقد كانت إحدى ساقيها ملتفة بالأخرى، ولا أعرف زوجتى تفعل ذلك، وكانت فى حجرها كرة من الخيط وفى يديها مسلتان تنسج بهما الخيط، مداولة، على مقدار، وامرأتى لا ترى أن تشتغل بهذا عن معابثتى . وهذه ثوبها معرج وبين خطوطه الملتوية ترابيع بيض وحمر، وامرأتى تؤثر ما لا وشى فيه ولا تخطيط. وهذه شعرها فينان مفروق من الوسط ومرسل إلى الخلف، وفى شعر امرأتى شىء من التحجن. وهى ترفعه فوق الجبين وتلويه، وتثبته بما يمسكه.
وخطر لى أن لعل هذه هى «ماما» وخفت أن لا تكون، وحرت ماذا أصنع وكيف أخاطبها - وأخيرا وبعد تردد، قلت الرأى أن أدبدب وأحدث صوتا وضجة، حتى إذا التفت وتكلمت رجوت أن أعرف من تكون، والله المعين ....
وخبطت الباب، ودبدبت، وتقلبت أيضا - على البساط الوثير - وما كان ظنى أن أحسن هذا، ولا كنت أنويه أو أفكر فيه، ولكنى دفعت إليه دفعا، وأغرتنى به وزينته لى فيما أظن طبيعة هذا الجسم الصبيانى. فلما عاد رأسى إلى مكانه، واستقرت قدماى مرة أخرى على البساط، رأيت هذه التى ما شككت أنها امرأتى تنظر إلى راضية مغتبطة - وسمعتها تقول: «آه. سونه. عيد سعيد يا سونه. تعال هات بوسه».
فقلت لنفسى وأنا أخطو إليها وأمط بوزى، وأدانى ما بين جفونى، وأهز ساعدى هزا قويا: «إن اسمك يا هذا «سونه» وقد عرفناه، أو عرفنا ما يكفى. وقد يكون الاسم الكامل «حسونه» أو «حسنى» أو «محسن» أو «حسن» أو «حسين» أو غير ذلك مما يمكن أن يتألف من الحاء والسين والنون. أو من يدرى؟ فقد لا تكون فيه حاء، ولكن شيئا خير من لا شيء. ولست أتوقع أن أتلقى كتبا بالبريد، وإن كان هذا محتملا فى يوم عيدى السعيد، ولكنى أحسبهم سيجمعون ما يرد من التهنئات - إذا ورد شىء - ويحملونه إلى جملة، فلا خوف إذن. وسنعرف ما نجهل متى آن الأوان».
ولما صرت على أشبار منها نططت فإذا أنا فى حجرها، وذراعاى حول عنقها وفمى على خدها، فقبلت رأسى، وما بين عينى، وخدى، وقرصت وجنتى قرص مداعبة لا قرص إيجاع (وقد أسلفت أنهما منتفختان قليلا، فهما يغريان بالقرص) ثم عاودنى الحياء فنهضت ومشيت مطرقا إلى مقعد كبير منجد، فانحططت عليه وذهبت أحرك ساقى وأحك بقدمي ما يليهما من البساط وذراعاى على المسندين.
و قالت، ويداها لا تكفان عن النسج: «سيتغدى عمك معنا وقد سبقته هديته إليك».
فهممت أن أشيل نفسى عن المقعد. فأشارت إلى تردنى عن ذلك وقالت: «لا تعجل - فى المساء بعد اكتمال الجمع، نفتح الهدايا ... تعلم الصبر ...».
وكان لابد أن أقول شيئا فسألتها: «ولكن ألا يمكن أن أعرف الهدية ما هى؟ باللسان فقط».
Halaman tidak diketahui