أنت عادل يجمع بين جنحي الكرم أحلام الضعفاء بأماني الأقوياء، وأنت شفوق يغمض بأصابعه الخفية أجفان التعساء، ويحمل قلوبهم إلى عالم أقل قساوة من هذا العالم.
بين طيات أثوابك الزرقاء يسكب المحبون أنفسهم، وعلى قدميك المغلفتين بقطر الندى يهرق المستوحشون قطرات دموعهم، وفي راحتيك المعطرتين بطيب الأودية يضيع الغرباء تنهدات شوقهم وحنينهم، فأنت نديم المحبين، وأنيس المستوحدين، ورفيق الغرباء، والمستوحشين.
في ظلالك تدب عواطف الشعراء، وعلى منكبيك تستفيق قلوب الأنبياء، وبين ثنايا ضفائرك ترتعش قرائح المفكرين، فأنت ملقن الشعراء، والموحي إلى الأنبياء، والموعز إلى المفكرين والمتأملين. •••
عندما ملت نفسي البشر، وتعبت أجفاني من النظر إلى وجه النار، سرت إلى تلك الحقول البعيدة حيث تهجع أشباح الأزمنة الغابرة.
هناك وقفت أمام كائن أقتم، جامد، مرتعش، سائر بألف قدم فوق السهول، والجبال، والأودية.
هنالك أحدقت شاخصا بعيون الدجى، مصغيا لحفيف الأجنحة غير المنظورة، وشاعرا بملامس ملابس السكوت، مستبسلا أمام مخاوف الظلام.
هنالك رأيتك أيها الليل شبحا، هائلا، جميلا، منتصبا بين الأرض والسماء، متشحا بالسحاب، ممنطقا بالضباب، ضاحكا من الشمس، ساخرا بالنهار، مستهزئا بالعبيد الساهرين أمام الأصنام، غاضبا على الملوك الراقدين فوق الحرير والديباج، محملقا بوجوه اللصوص، خافرا بقرب أسرة الأطفال، باكيا لابتسام الساقطات، مبتسما لبكاء العشاق، رافعا بيمينك كبار القلوب، ساحقا بقدميك صغار النفوس.
هنالك رأيتك أيها الليل، ورأيتني، فكنت بهولك لي أبا، وكنت بأحلامي لك ابنا، فأزيحت من بيننا ستائر الأشكال، وتمزق من وجهينا نقاب الظن والتخمين، فأبحت لي بأسرارك ونواياك، وأبنت لك أماني وآمالي، حتى إذا تحولت أهوالك إلى أنغام أعذب من همس الأزهار، وتبدلت مخاوفي بأنس أطيب من طمأنينة العصافير، رفعتني إليك، وأجلستني على منكبيك، وعلمت عيني النظر، وعلمت أذني السمع، وعلمت شفتي الكلام، وعلمت قلبي محبة ما لا يحبه الناس، وكره ما لا يكرهونه، ثم لمست بأناملك أفكاري، فتدفقت أفكاري نهرا راكضا مترنما يجرف الأعشاب الذابلة، ثم قبلت بشفتيك روحي، فتمايلت روحي شعلة متقدة تلتهم الأنصاب اليابسة. •••
لقد صحبتك أيها الليل، حتى صرت شبيها بك، وألفتك حتى تمازجت أميالي بأميالك، وأحببتك حتى تحول وجداني إلى صورة مصغرة لوجودك، ففي نفسي المظلمة كواكب متلمعة ينثرها الوجد عند المساء، وتلتقطها الهواجس في الصباح، وفي قلبي الرقيب قمر يسعى تارة في فضاء متلبد بالغيوم، وطورا في خلاء مفعم بمواكب الأحلام، وفي روحي الساهرة سكينة تبيح بتفاعيلها سرائر المحبين، وترجع خلاياها صدى صلوات المتعبدين، وحول رأسي غلاف من السحر تمزقه حشرجة المنازعين، ثم تحيطه أغاني المتشببين.
أنا مثلك أيها الليل، وهل يحسبني الناس مفاخرا إذا ما تشبهت بك، وهم إذا تفاخروا يتشبهون بالنهار!
Halaman tidak diketahui