فقر وكبرياء، من جيش المدقعين الذين لا يمت أحدهم بصلة إلى عين من الأعيان، أو عائلة من كبار العوائل، أمثاله قابلون لحياة الجدب تلك، لا يهمهم تهرؤ ثوب أو دفاع عن كبرياء، يقبلون حتى أن توزع عليهم الزكاة في الأعياد، ويلهجون بالدعاء والثناء إذا وزعت عليهم لحوم في مناسبة أو «موسم» أو احتفال ... «أبو سلطان» منهم هذا صحيح، بل ربما أشد فقرا من بعضهم، ولكنه نسيج وحده في اعتزازه بنفسه، يمشي إذا مشى وكأنه العمدة، وإذا تحدث فعل وكأن كلامه فقط هو الحكمة. يوما واحدا كل أسبوع، يوم السوق، حيث يودعه أصحاب الحمير القادمون من القرى المجاورة حميرهم ليضمها الفضاء الصغير المجاور لسور السوق، فضاء يستأجره «أبو سلطان» من صاحب الأرض المجاورة، وكأنه «جاراج» الركوبات، لا ينتهي اليوم إلا وقد امتلأ جيبه بقروش، وأحيانا بملاليم، تبدو كثيرة العدد والحجم، ولكنها في الحقيقة لا تكفي لقوته وقوت امرأته وعياله طوال أسبوع. سلطان أكبرهم، وثلاثة أولاد أخر، وأربع بنات، وأم شارفت الستين، وتدهش، ويدهش الناس، كيف بمثل ذلك الدخل يعيش كل هؤلاء البشر، وتمتلئ كل تلك الأفواه؟!
وسلطان ذكي باهر الذكاء، في المدرسة الإلزامية نابغة، ومع الأولاد أكثرهم شقاوة وأقواهم شخصية، ودائما هو القائد والمستشار الأعلى لعصابة كبيرة تتبعه، وتأتمر بأمره، مع أن بعضهم أكبر منه سنا، وبالطبع أكثر من عائلته غنى ونفوذا، بل الحقيقة المجردة كان أفقرهم، وأبأسهم ثيابا، فقد كان يظل يرتدي الجلبات حتى لا يتغير لونه فقط أو يذهب تماما، بل حتى يقصر عليه وخلال عامين هما عمر الجلباب يكون قد ضاق وقصر، حتى لا يكاد يصل إلى ركبتيه. وكم عير بفقر أبيه «الدكر»، وكم اشتبك وتخانق وجرح وضرب ممن هم أكبر إذا تطاول أحد على حالهم أو على أبيه بالذات وعلى وجه التحديد حين يقولون عنه: عريان المؤخرة ويحب الفشخرة.
وفي مداعبات الصبية، أو على وجه التحديد تلك الفترة من العمر التي لا بد يبدأ الصبية يلامسون بعضهم بعضا، ويستجيب بعضهم بلذة أن يكون السالب، والآخرون بلذة الموجب، أو بالاثنين معا، كان سلطان شديد الحساسية أنه لا يرضخ، بل حتى من فرط حساسيته ورغبته في رجولة سريعة مبكرة كان لا يسمح أبدا لأحد أن يلامسه، وبالتالي يرفض تماما أن يلامس هو أحدا. رجل صغير، ورث كبرياء أبيه، أو قل ماض قدما في تقليد أبيه وتشبهه به، ذلك الأب الذي كان يعتبره أكثر الرجال رجولة وأعظمهم مقاما، بل لم يحس أبدا، ولم يراوده مطلقا خاطر أن أباه رجل فقير، ففي مثل عمره لا يوجد فقراء وأغنياء، إنما فقط يوجد رجال رجال، ورجال أنصاف رجال، أو لا رجال بالمرة، والفارق الوحيد بين الناس هو ذلك الفارق بين الرجال الرجال والرجال أشباه الرجال.
من أين يجيئه إذن هذا الذي بدأ يزحف على نفسه زحف السحاب الأسود الذي يهدد بإحالة النهار ليلا، وينذر بغياب الشمس واقتراب يوم القيامة؟
طول عمره هكذا، زعيم وشهم وشجاع وجدع، وبجوار الإلزامية والابتدائية كان يعمل شهور الصيف كلها، ومعظم شهور الشتاء كي لا يوفر نفقات تعليمه فقط، وإنما أيضا ليساهم مع أبيه في ملء الأفواه الكثيرة المفتوحة جوعا طول الوقت، والتي عمرها ما امتلأت شبعا. وهو في تعليمه وفي علمه كانت تؤجج روحه فكرة وحيدة لم تتزعزع أبدا، أن يرد الاعتبار لفقر أبيه وعائلته وتواضع نشأته وأصله. كان جلباب أبيه الناصع النظيف مجرد ستار يخفي حقيقة شديدة المرارة، إذ لم يكن بداخل هذا الجلباب الستار شيء ذو قيمة، وكان على «سلطان» أن يملأ هذا الفراغ المخيف الذي يخفيه الجلباب، أن يجعل لكرامة أبيه وأنفه التي في السماء رصيدا يستحق معه فعلا أن يكون أنفه في السماء، وأن تتغطى مؤخرته العريانة، ليكون حرا أن يتفشخر إذا أراد فشخرة المغطاة مؤخراتهم بالحسب والنسب، والأفدنة والأموال والقيمة والامتلاء.
5
حتى أصبح «سلطان» زعيما فعلا.
قصة طويلة مليئة بإرادة الفلاح الرهيبة التي يحفر بها ترعا للنيل بإبرة، ويحمل بها صخور الجبل حتى يصنع بها هرما يكون أعجوبة الدنيا. الفلاح الذي يزحف إلى القاهرة حافي القدمين ماشيا على ساقيه الرفيعتين، صاعدا مع النهر، حتى يفرغ صبر النهر من فرط طوله، ويتشعب إلى فرعين أو حتى عدة فروع صانعا من نقطة التفرع عاصمة العالم القديم، ومولد النور تشعله البشرية لأول مرة لترى به العالم ويراها العالم، زاحفا حتى يصل إلى أم الدنيا، أو يصنع من نقطة التفرع أما للدنيا.
بالإرادة الدءوبة النحيلة البالغة الصلابة زحف «سلطان»، يجر وراءه عائلة مات عائلها، يجرها كما يشد المراكبي «اللبان»، جاذبا المركب بحبل طويل ليجرها عكس اتجاه الريح القادمة من الشمال. أجل شادا «اللبان»، لبانه، ولبان عائلته، بل لبان كل هؤلاء الفقراء ذوي الأنفة كانوا أو ذوي المسكنة، مستجيبا للمحرك الداخلي الذي لم يهدأ داخله أبدا، ولا لان، محرك أن يملأ جلباب أبيه، بحيث حتى لو خلع الجلباب لكشف عن مستور غنى عظيم مشرف.
قضى سنة الجامعة الأولى ومسكنه ومأواه وملاذه بيت، بالأصح عشة، تقع عند الطرف القصي لسور الجامعة، فيها اصطنع المسكن والمقام، فيها نام على حصير هو كل ما استطاعت عائلته أن تزوده به، عامل بناء في حي «بين السرايات» وما حوله في الجزء الأكبر من النهار، حامل قصعة أسمنت تقطم وحدها الظهر، ولكنه معها كان يحمل مسئولية أن يتعلم، وأن ينبغ، وأن ينجح بحيث يحظى بالاثنى عشر جنيها شهريا مكافأة النابغين، كان يحيا منها بستة ويرسل لأهله ستة، عليهم وبعائد إخوته الأصغر من أعمال أصغر أن يدبروا وجودهم بها.
Halaman tidak diketahui