وفي ليلة شتاء وجدها.
الشجرة جذعها من جذور، ولهذا يسمونها «أم الشعور»، فجذورها في الهواء، تلتحم معا، وتجف ملتحمة، وتصنع جذعا وساقا، تتولى عشرات السنين تضخيمه وتكبيره ليتحمل عبء الشجرة المهول. ولأن ساقها جذور متلاصقة؛ فهي لا تكون جذعا مستديرا مصمتا، ولكن يظل في الجذع فجوات هي تلك المسافات التي كانت تفصل الجذور، فجوات كبيرة وصغيرة، مفتوحة من الناحيتين مرة، ومغلقة أحيانا صانعة عشا مسقوفا ذا فتحة واحدة.
ذات ليلة، وهو سائر بائس، ولكن غير باك، فحين يصبح البؤس هو القاعدة اليومية الليلية التي لا تتغير لا يعود الإنسان يبكي بؤسا، فالبكاء يجيء أملا في حل أو استدرارا لأمل، أو رجاء إلى الذي خلقنا أن يهدينا للحل أو بالحل، ويريحنا ولو ساعة من ألم مستمر أضاع منا حتى الإحساس بالألم.
كان الليل قد بدأ يمطر، ثم بغزارة راحت السماء تصب سيولا تفرغ الشوارع من الناس، والدنيا من الونس، وتخلق في النفس شعورا قويا بالخوف، ورغبة عارمة في البكاء.
ولجأ إلى الشجرة يحتمي من السيول التي بللته، حتى وصلت لنخاع عظمه. وعلى الضوء القليل القادم من عامود نور ساطع الضوء، رأى الفتحة واقترب، وبعينيه راح يتفحصها واستغرب حين وجد لها عمقا وكأنها كهف. وللكهف من الداخل بروزات وتجعيدات، وكأنه فم عجوز يحفل ببقايا أسنان معوجة.
دخل.
وكأنه إلى سرداب سعادة دخل، فمجرد إحساسه أن قذائف الأمطار وسياخها المائية قد كفت عن الدق فوق رأسه، واختراق أسماله، وأنه قد أصبح في مأمن، مجرد إحساسه بهذا سعد، فرحة كبرى غمرته، وكأنه الصعلوك قد أهدته السماء قصرا من عجب. واستمرأ الشعور حتى أنساه كل ما لاقاه في حياته من طرد وطفشان وصفعات وإهانات وعمر مديد مليء بالألم، لم يوقظه من شعوره ذاك إلا خاطر عن له، أن يكون في مخبئه هذا زملاء من ثعابين أو حيات أو فئران، أو أي مما يعض أو يلدغ.
وإمعانا في إرعابه كان البرق قد بدأ، وعلى ضوء البرق إذا برق والنور القادم من العامود الصامد ، شبرا شبرا راح يتفحص أرض الكهف النباتي وجدرانه، ولم يعثر إلا على جزء من هيكل عظمي لكلب لا بد وأنه مات من زمن، حين رماه بعيدا، وبخرقة عثر عليها أيضا في الكهف نظف أرضه، وأخيرا قرفص وجلس، أحس أنه أسعد إنسان على ظهر الأرض، أسعد من أي ملك أو غني أو الفرماوي نفسه صاحب كل عربات الكارو والخضر.
ومن فرط سعادته راح يقاوم الخدر الذي بدأ يدب في جسده ويقوده إذا استسلم إلى نوم ما ذاقه في عمره أبدا. إنه هنا ليس في ملك أحد كي يطارده أحد، وليس قريبا من مخزن أو دكان ليأخذوه بالشبهة، ولا عسكري يستطيع أن يراه، ولا إنس ولا جن أو بشر. راح يقاوم حتى يستمتع بشيء حرم منه على الدوام منذ كان لهم بيت، وكان له أب، وكانت له أم حنون يجد في حضنها الأمان والدفء والحماية من كل شرور البشر.
يقاوم الخدر المؤدي حتما إلى النوم، بإرادته يقاوم ومعه البرد الشديد يساعده، وكلما أحس بالدنيا خارج الكهف ترعد وتبرق والمطر بإلحاح ينهمر، وأحس بنفسه محميا بالشجرة العجوز وحضنها عن هذا كله، كلما أحس بشعور الناجي من غرق، المحمي في قلعة حصينة، حولها وحوش الدنيا كلها تعوي وتتلمظ، وهو يخرج لها لسانه اطمئنانا وتأكدا أن أنيابها تماما بعيدة عنه، وأن زئيرها زئير العاجز أن يناله، وأن الدنيا أمان مبطنة بالقطيفة، وقطيفتها الزغبية النباتية أصبحت تحنو عليه، ويسري إليه منها دفء لا يعرف مصدره.
Halaman tidak diketahui