وفي وصف المنصور يقول يزيد بن هبيرة: «ما رأيت رجلا قط في حرب ولا سمعت به في سلم أمكر ولا أبدع ولا أشد تيقظا من المنصور، لقد حصرني في مدينتي تسعة أشهر ومعي فرسان العرب، فجهدنا كل الجهد أن ننال من عسكره شيئا نكسره به فما تهيأ، ولقد حصرني وما في رأسي بيضاء، فخرجت إليه وما في رأسي سوداء.»
وكان المنصور يعطي في موضع العطاء ويمنع في موضع المنع، ولكن المنع كان أغلب عليه، حتى ضرب المثل بشحه وسمي «أبا الدوانيق»؛ لشدته في محاسبة العمال والصناع على الحبة والدانق.
وقد يكون من المستطرف أن نذكر شيئا مما رواه الطبري في تمثيل هذه الناحية من أخلاق المنصور، فقد جاء فيه أن واضحا مولاه قال: «إني لواقف يوما على رأس أبي جعفر إذ دخل المهدي وعليه قباء أسود جديد، فسلم وجلس ، ثم قام منصرفا وأتبعه أبو جعفر بصره؛ لحبه له وإعجابه به، فلما توسط الرواق عثر بسيفه فتخرق سواده، فقام ومضى لوجهه غير مكثرت لذلك ولا حافل به، فقال أبو جعفر: ردوا أبا عبد الله. فرددناه، فقال: يا أبا عبد الله، أستقلالا للمواهب أم بطرا بالنعمة، أم قلة علم بالمصيبة كأنك جاهل بما لك وما عليك؟»
فانظر إليه كيف لام ابنه وولي عهده وقد كان عنده أثيرا، ولامه بمحضر من حاشيته في شيء ليس ذا بال عند أوساط الناس فضلا عن الخلفاء!
ومهما يعتذر للمنصور بحرصه على الاقتصاد في أموال دولة ناشئة، وأخذ ولي العهد بتجنب الإسراف والإهمال، فقد نرى أن هذه الحادثة وأمثالها - مما سنرويه لك - تظهر ناحية صغيرة من نفسية المنصور، فقد كانت أمامه جلائل الأعمال في الدولة يستطيع أن يظهر فيها ميله إلى الحرص والاقتصاد دون أن يسف إلى هذه الصغائر. •••
على أننا لا نستطيع أن نمتنع عن ذكر معاوية مؤسس الدولة الأموية والمقارنة بينه وبين المنصور مؤسس الدولة العباسية حقا من هذه الناحية؛ فقد كان معاوية - كما رأيت - أكرم الناس، وأشدهم تسخيرا للأموال العامة والخاصة في الأغراض السياسية، وكان المنصور أشح الناس بالأموال العامة والخاصة، يؤثر التضحية بالدماء والكفايات في سبيل أغراضه السياسية على التضحية بالأموال.
ولعل من الإنصاف أن نلاحظ الفرق بين العصرين، وبين الدعائم التي اعتمد عليها الرجلان في إقامة ملكهما، فقد كان معاوية في بيئة عربية لم تخلص بعد من البداوة ولا من سماحة الدين، فكان الحلم والكرم أليق به وأنفع، بينما كان المنصور في بيئة من الفرس والموالي تأثرها بالحضارة شديد، وحظها من الدين قليل.
ولو بسط معاوية سلطانه بالسيف لفشل، ولكننا نرى أن لو بسط المنصور سلطانه بالمال في شيء من الحزم لوفق ولحقن الدماء، ولرسم لخلفائه خطة أقرب إلى اللين والعافية من هذه الخطة العنيفة التي ستراها في سيرة أكثرهم.
وحدث الوضين بن عطاء قال: «استزارني أبو جعفر - وكانت بيني وبينه خلالة قبل الخلافة - فصرت إلى مدينة السلام، فخلونا يوما فقال لي: يا أبا عبد الله، ما مالك؟ فقلت: الخير الذي يعرفه أمير المؤمنين، قال: وما عيالك؟ قلت: ثلاث بنات والمرأة وخادم لهن، فقال لي: أربع في بيتك؟ قلت: نعم، قال: فوالله لردد ذلك علي حتى ظننت أنه سيمولني، قال: ثم رفع رأسه إلي فقال: أنت أيسر العرب؛ أربع مغازل يدرن في بيتك!»
على أن شح المنصور لم يكن يخلو أحيانا من بعض الظرف والفكاهة؛ فقد ذكر إبراهيم بن عبد الرحمن أن أبا جعفر كان نازلا على رجل يقال له: أزهر السمان، قبل خلافته، فلما ولي الخلافة زاره الرجل وطلب صلته، فوصله، ثم عاوده فوصله، وجاءه في الثالثة فقال له المنصور: يا أزهر، ما جاء بك؟ قال: دعاء سمعته منك أحببت أن آخذه عنك، قال: لا ترده فإنه غير مستجاب؛ لأني قد دعوت الله أن يريحني من خلقتك فلم يفعل! وصرفه ولم يعطه شيئا.
Halaman tidak diketahui