جليل ما أقمت وما أزلتا
من غير أن يترك في نفسه بعض ما كانت تتركه على البرامكة أمثال تلك الأقوال في نفس الرشيد، ومهما قيل عن حلم المأمون وعفوه واعتدال مزاجه وسعة صدره؛ فإن النفس الإنسانية هي هي.
وقد مر بك فيما أجملناه لك من الحوادث التي وقعت في حكم المأمون، أنه جعل في سنة 201ه علي بن موسى العلوي ولي عهد المسلمين والخليفة من بعده، وسماه الرضا من آل محمد
صلى الله عليه وسلم ، وأنه أمر جنده بطرح السواد ولبس الخضرة، وبينا ما كان لذلك من ثورات وفتن لم تهدأ إلا بعد أن عاد إلى مقر ملكه، وأعلم آله وأنصاره بوفاة الرضا، وعاد إلى لبس السواد وهو شعار العباسيين.
ونريد الآن أن نشير هنا إلى ما كان من الفضل بن سهل فيما نحن في صدده، ونعتمد على ما رواه الطبري، قال: إن علي بن موسى بن جعفر بن محمد العلوي أخبر المأمون بما فيه الناس من الفتنة والقتال منذ قتل أخوه، وبما كان الفضل بن سهل يستر عنه من الأخبار، وأن أهل بيته والناس قد نقموا عليه أشياء، وأنهم يقولون: إنه مسحور مجنون، وأنهم لما رأوا ذلك بايعوا لعمه إبراهيم بن المهدي بالخلافة، فقال المأمون: إنهم لم يبايعوا له بالخلافة وإنما صيروه أميرا يقوم بأمرهم على ما أخبر به الفضل، فأعلمه أن الفضل قد كذبه وغشه، وأن الحرب قائمة بين إبراهيم والحسن بن سهل، وأن الناس ينقمون عليك مكانه ومكان أخيه، ومكاني ومكان بيعتك لي من بعدك، فقال: ومن يعلم هذا من أهل عسكري؟ فقال له: يحيى بن معاذ وعبد العزيز بن عمران وعدة من وجوه أهل العسكر، فقال له: أدخلهم علي حتى أسائلهم عما ذكرت، فأدخلهم عليه، وهم: يحيى بن معاذ، وعبد العزيز بن عمران، وموسى وعلي بن أبي سعيد، وهو ابن أخت الفضل، وخلف المصري، فسألهم عما أخبره فأبوا أن يخبروه حتى يجعل لهم الأمان من الفضل بن سهل ألا يعرض لهم فضمن ذلك لهم وكتب لكل رجل منهم كتابا بخطه ودفعه إليهم، فأخبروه بما فيه الناس من الفتن وبينوا ذلك له، وأخبروه بغضب أهل بيته ومواليه وقواده عليه في أشياء كثيرة، وبما موه عليه الفضل من أمر هرثمة، وأن هرثمة إنما جاء لينصحه وليبين له ما يعمل عليه، وأنه إن لم يتدارك أمره خرجت الخلافة منه ومن أهل بيته، وأن الفضل دس إلى هرثمة من قتله، وأنه أراد نصحه، وأن طاهر بن الحسين قد أبلى في طاعته ما أبلى، وافتتح ما افتتح، وقاد إليه الخلافة مزمومة حتى إذا وطأ الأمر أخرج من ذلك كله، وصير في زاوية من الأرض بالرقة قد حظرت عليه الأموال حتى ضعف أمره، فشغب عليه جنده، وأنه لو كان على خلافتك ببغداد لضبط الملك ولم يجترأ عليه بمثل ما اجترئ به على الحسن بن سهل، وأن الدنيا قد تفتقت من أقطارها، وأن طاهرا بن الحسين قد تنوسي في هذه السنين منذ قتل محمد في الرقة لا يستعان به في شيء من هذه الحروب، وقد استعين بمن هو دونه أضعافا، وسألوا المأمون الخروج إلى بغداد؛ فإن بني هاشم والموالي والقواد والجند لو رأوا غرتك سكنوا إلى ذلك، وبخعوا بالطاعة لك.
فلما تحقق ذلك عند المأمون أمر بالرحيل إلى بغداد، فلما أمر بذلك علم الفضل بن سهل ببعض ذلك من أمرهم، فتعنتهم حتى ضرب بعضهم بالسياط وحبس بعضا ونتف لحى بعض، فعاوده علي بن موسى في أمرهم، وأعلمه ما كان من ضمانه لهم، فأعلمه أنه يداري ما هو فيه، ثم ارتحل من مرو، فلما أتى سرخس شد قوم على الفضل بن سهل وهو في الحمام فضربوه بالسيوف حتى مات، وذلك يوم الجمعة لليلتين خلتا من شعبان سنة 202 فأخذوا. وكان الذين قتلوا الفضل من حشم المأمون، وهم أربعة نفر: غالب المسعودي الأسود، وقسطنطين الرومي، وفرج الديلمي، وموفق الصقلي، وقتلوه وله ستون سنة وهربوا، فبعث المأمون في طلبهم، وجعل لمن جاء بهم عشرة آلاف دينار، فجاء بهم العباس بن الهيثم بن بزرجمهر الدينوري، فقالوا للمأمون: أنت أمرتنا بقتله، فأمر بهم فضربت أعناقهم، وقد قيل: إن الذين قتلوا الفضل لما أخذوا سألهم المأمون، فمنهم من قال: إن علي بن أبي سعيد، ابن أخت الفضل، دسهم، ومنهم من أنكر ذلك، وأمر بهم فقتلوا، ثم بعث إلى عبد العزيز بن عمران وعلي وموسى وخلف فسألهم فأنكروا أن يكونوا علموا بشيء من ذلك، فلم يقبل ذلك منهم، وأمر بهم فقتلوا، وبعث برءوسهم إلى الحسن بن سهل في واسط، وأعلمه ما دخل عليه من المصيبة بقتل الفضل، وأنه قد صيره مكانه، وتزوج المأمون من ابنته بوران، وأظهر الحسن في حفلة زواجها من الكرم الخارق، والجود الحاتمي ما دعا المأمون إلى أن نسبه فيه إلى السرف، ولقد قدم على الحسن بن سهل شاعر يلتمس صلته وعارفته، فاشتغل عنه مديدة فكتب إليه:
المال والعقل مما يستعان به
على المقام بأبواب السلاطين
وأنت تعلم أني منهما عطل
إذا تأملتني يا ابن الدهاقين
Halaman tidak diketahui