216

ومهما يكن من شيء، فإن هذه التصرفات التي كانت من الفضل بن سهل وإقرار المأمون لها، وبقاء المأمون بعد أن تم له الأمر في مرو دون بغداد عاصمة الخلافة العباسية، كانت لها نتائجها السيئة في شيعة المأمون وأنصاره من جهة، وفي أعدائه والراغبين عن سلطانه من جهة أخرى، ذلك بأن أنصار المأمون وقواده ، ونخص بالذكر منهم طاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين، قد كسر قلوبهم وفل من عزائمهم، أن يكون جزاؤهم على فوزهم وحسن بلائهم وإخلاصهم تلك التصرفات السيئة التي كانت نصيبهم من المأمون ومن حاشية المأمون.

هذا كان أثرها في شيعته وخاصة أنصاره، وأما غير هؤلاء فقد جعلت هذه التصرفات ألسنتهم تنطلق باتهام المأمون بأنه يميل إلى الخراسانيين، وأنه أصبح آلة في أيديهم يحركونه كما يشاءون، وقد حدث من جراء هذه الإشاعات وفتور همة أنصار المأمون الذين لم يجازوا الجزاء الأوفى أن اضطربت الأمور وكثرت الفتن، ووجد أعداء المأمون الفرصة سانحة لتحقيق أطماعهم، ومن تلك الفتن ما يحدثنا التاريخ عنه من خروج محمد بن إبراهيم العلوي المعروف بابن طباطبا بالكوفة، وقد قام بتدبير أمره رجل من رجالات هرثمة بن أعين وكبار أنصاره، وقد خرج لأنه حبس عنه ما كان يعطاه من رزق. هذا الرجل هو أبو السرايا السري بن منصور، وكان هو الخارج على المأمون في الواقع لا ابن طباطبا، وقد بلغ من أمره أن ضرب الدراهم وجند الجنود حتى اضطر الحسن بن سهل أن يسترضي هرثمة ويستعينه؛ ليكفيه شر هذا الخارج القوي.

ويظهر أن موت الزعماء كان طلسما من الطلاسم أو سرا من الأسرار، أو صناعة من الصناعات الخفية؛ فإنا نجد أن محمد بن إبراهيم هذا، الذي سمت منزلته بين أتباعه وعظمت طاعتهم له، قد مات بعد أن كتب النصر للقائم بتدبير أموره على سليمان بن جعفر والي الكوفة من قبل المأمون، ثم نرى هذا المنتصر يولي مكانه غلاما أمرد حدثا هو محمد بن محمد بن زيد العلوي.

وتعال معي لننظر في حوادث سنة تسع وتسعين ومائة؛ ففيها ما يكشف القناع عن أمور جسام تفيدنا في تفهم الروح الحزبية بين العلويين والعباسيين، وتفيدنا أيضا في إماطة اللثام عن سبب هام من الأسباب التي يرجع إليها تبرم بعض الولاة الكفاة بدولة الفضل بن سهل، وانفراده هو وجماعته بمراتب الدولة ووظائفها.

تعال ننظر في حوادث تلك السنة، فنجد فيها أن هرثمة جد في طلب أبي السرايا صديقه بالأمس ومنازله اليوم، حتى وصل إلى قصر ابن هبيرة، فكانت بينهما وقعة شديدة قتل فيها من أصحاب أبي السرايا خلق كثير، أليس في هذا ما يقنعك بأن إيماضة رضا وابتسامة تشجيع، لرجل من رجالات الدولة، كافية لأن ينهض فيحارب زميله ويقاتل خدنه؟ ثم نجد في تلك السنة فيها أن محمد بن محمد وثب ومعه الحزب الطالبي على دور بني العباس ودور مواليهم وأتباعهم بالكوفة، فانتهبوها وخربوها وأخرجوهم من الكوفة، واستخرجوا الودائع التي كانت لهم عند الناس فأخذوها، وعملوا في ذلك عملا قبيحا، وتجد كذلك فيها أن مسرورا الكبير، الخادم الرشيدي، قد حج تلك السنة في مائتي فارس من أصحابه، وأنه عبي لحرب من يريد دخول مكة وأخذها من الطالبيين، وأنه قال لعامل مكة داود بن عيسى: أقم لي شخصك أو شخص بعض ولدك وأنا أكفيك قتالهم، فقال له داود: لا أستحل القتال في الحرم، والله لئن دخلوا من هذا الفج لأخرجن من الفج الآخر، فقال له مسرور: تسلم ملكك وسلطانك إلى عدوك ومن لا تأخذه فيك لومة لائم في دينك ولا حرمك ولا مالك؟! قال له: أي ملك لي؟! والله لقد أقمت معهم حتى شخت فما ولوني ولاية حتى كبرت سني، وفني عمري، فولوني من الحجاز ما فيه القوت، إنما هذا الملك لك ولأشباهك، فقاتل إن شئت أو دع.

هذه حالة نفسية لبعض الولاة العرب قد يكون من النفع أن تلاحظ تبرمها وسخطها من سياسة العصر، أو من الهيمنة الفارسية على شتى أمور الدولة عامة، والجسيمات منها خاصة في ذلك العصر، وربما كانت هذه الحالة النفسية تمثل لك حالات كثيرة من نفسيات العرب لذلك العهد.

ثم لننظر في حوادث سنة مائتين، فنجد أن زيد بن موسى الطالبي المعروف ب «زيد النار» كان بالبصرة، وإنما سمي «زيد النار» لكثرة ما حرقه من دور العباسيين وأتباعهم في البصرة، وكان إذا أتي برجل من المسودة العباسية كانت عقوبته عنده أن يحرق بالنار، ونجد فيها أن إبراهيم بن موسى الطالبي قد خرج باليمن، ونجد أيضا أن الكعبة وخزائنها وأحجارها الكريمة لم تسلم من أبي السرايا وأتباعه العلويين، وكم حبس من العباسيين وكم آذى! حتى ندب محمد بن مسلمة الكوفي لتولي عذاب العباسيين، فأسرف في ذلك حتى سميت داره ب «دار العذاب»، ونجد أيضا أن خارجيا آخر وهو حسن بن حسين أراد اقتفاء ما رسمه أبو السرايا، فذهب إلى علوي وداع محبب معروف في مكة والمدينة وهو محمد بن جعفر ونصبه خليفة اسما، وجعل السلطان بيده فعلا.

ونجد فيها قبائح وفضائح لحسن بن حسين هذا مع زوجة قرشية من بني فهر، وزوجها من بني مخزوم، ولها جمال بارع، فاغتصبها من زوجها، ونجد فيها مثل ذلك الصنيع المعيب من علي بن محمد، الخليفة المنصوب، مع ابن القاضي إسحاق بن محمد، وكان جميلا بارعا في الجمال.

نجد ذلك كله ونجد الكثير من أمثاله مما أدى إلى إثارة الرأي العام في مكة، فاحتجوا حتى رد الصبي لأبيه مكرها مرغما! ونجد فيها أمثلة عدة لاستلاب أموال الناس، كما نجد فيها رجلا عباسيا موتورا من العلويين، وهو محمد بن الحكيم، ممن كان الطالبيون قد انتهبوا داره وعذبوه عذابا شديدا، عثر على محمد بن جعفر الطالبي الخليفة المنصوب، وقد طرد شر طردة، وكان في مقدوره أن يقتله فلم يفعل، فلنقيد هذه الحادثة فإنها تنفعنا في تفهم السر الذي كان كثيرا ما يحدو بالمأمون إلى احترام العلويين وتقدير مكانتهم والعمل على إرضائهم؛ لأن لهم حرمة في نفوس حزب غير قليل من الشعب.

ونجد في السنة ذاتها أن الحج قد تولاه أكثر من شخص لتعدد السلطات، فندب المأمون أبا إسحاق بن هارون الرشيد، ووجه إبراهيم بن موسى الطالبي الذي خرج باليمن رجلا من ولد عقيل بن أبي طالب، كما وجه غيره من يمثله، مما يدل على الفرقة والانقسام وعلى الفوضى والاضطراب، فلتتعرف ذلك جيدا.

Halaman tidak diketahui