203

وقد أعوز أمير المؤمنين الكفاة والنصحاء بحضرته، وتناولك فزعا إليك في المعونة والتقوية له على أمره، فإن تجب أمير المؤمنين فيما دعاك إليه فنعمة عظيمة يتلافى بها رعيتك وأهل بيتك، وإن تقعد يغن الله أمير المؤمنين عنك، ولن يضعه ذلك مما هو عليه من البر بك، والاعتماد على طاعتك ونصيحتك.

وتكلم صالح صاحب المصلى فقال: أيها الأمير، إن الخلافة ثقيلة، والأعوان قليل، ومن يكيد هذه الدولة وينطوي على غشها والمعاندة لأوليائها من أهل الخلاف والمعصية كثير، وأنت أخو أمير المؤمنين وشقيقه، وصلاح الأمور وفسادها راجع عليك وعليه؛ إذ أنت ولي عهده والمشارك في سلطانه وولايته، وقد تناولك أمير المؤمنين بكتابه، ووثق بمعاونتك على ما استعانك عليه من أموره، وفي إجابتك إياه إلى القدوم عليه صلاح عظيم في الخلافة، وأنس وسكون لأهل الملة والذمة. وفق الله الأمير في أموره، وقضى له بالذي هو أحب إليه وأنفع له.

ثم انظر، رعاك الله، إلى مبلغ دهاء الفضل ودقة سياسته ومحكم أمره وما يرويه بنفسه عن صنيعه مع أحد أعضاء الوفد في إحدى الدفعات التي أرسل فيها إلى المأمون، لأنا نلاحظ وفود الأمين قد أرسلت إلى أخيه المأمون أكثر من مرة، قال: «أعجبني ما رأيت من ذكاء العباس بن موسى، فخلوت به فقلت: يذهب عليك بعقلك وسنك أن تأخذ بحظك من الإمام - أي المأمون؛ إذ سمي بذلك بسبب خلع الأمين له - فقال له العباس: قد سميتموه بالإمام!» فأجابه الفضل: «قد يكون إمام المسجد والقبيلة! فإن وفيتم لم يضركم، وإن غدرتم فهو ذاك» ثم وصل إلى أن قال للعباس: «لك عندي ولاية الموسم، ولا ولاية أشرف منها، ولك من مواضع الأعمال بمصر ما شئت ...»

وصل الفضل إلى ذلك القول وما برح به حتى أخذ عليه البيعة للمأمون بالخلافة، وتحول الأمر إلى أن أصبح للحزب المأموني من العباس العين التي تبلغهم الأخبار، والمتفاني في المأمونية يمدهم بالأفكار، ويشير عليهم بالآراء، وحتى أضحى منه الشخص الذي يقول لعلي بن يحيى السرخسي: إن ذا الرياستين أكبر مما وصفت، وإنه قد صافح المأمون الإمام، وإنه لذلك يمسح يده على رأس علي بن يحيى لتناله البركة والخير. فتأمل!

وإنه جميل حقا أن نرى المأمون يتريث في أمره تريث العاقل الحكيم لما جاءه الوفد الأميني، ويتصرف تصرف الكيس الحاذق إذ قال لهم، فيما أثبت الرواة، بعد أن حاجوه وناقشوه في أمر الأمين: قد عرفتموني من حق أمير المؤمنين، أكرمه الله، ما لا أنكره، ودعوتموني من الموالاة والمعونة إلى ما أوثره ولا أدفعه، وأنا لطاعة أمير المؤمنين مقدم، وعلى المسارعة إلى ما سره ووافقه حريص، وفي الروية تبيان الرأي، وفي إعمال الرأي نصح الاعتزام. والأمر الذي دعاني إليه أمير المؤمنين أمر لا أتأخر عنه تثبطا ومدافعة، ولا أتقدم عليه اعتسافا وعجلة وأنا في ثغر من ثغور المسلمين كلب عدوه شديد شوكته، وإن أهملت أمره لم آمن دخول الضرر والمكروه على الجنود والرعية، وإن أقمت عليه لم آمن فوت ما أحب من معونة أمير المؤمنين ومؤازرته وإيثار طاعته؛ فانصرفوا حتى أنظر في أمري ونصح الرأي فيما أعتزم عليه من مسيري إن شاء الله، ثم أمر بإنزالهم وإكرامهم والإحسان إليهم.

تريث المأمون مع الوفد تريث العاقل الحكيم وإن كان في الواقع قد هاله الأمر وخشي سوء مغبته، ويذكر لنا أحد المعاصرين، وهو سفيان بن محمد، أن المأمون لما قرأ الكتاب سقط في يده، وتعاظمه ما ورد عليه منه، ولم يدر ما يرد عليه، فدعا الفضل بن سهل فأقرأه الكتاب وقال: ما عندك في هذا الأمر؟ قال: أرى أن تتمسك بموضعك، ولا تجعل علينا سبيلا وأنت تجد من ذلك بدا، قال: وكيف يمكنني التمسك بموضعي ومخالفة محمد وعظم القواد والجنود معه، وأكثر الأموال والخزائن قد صارت إليه، مع ما قد فرق في أهل بغداد من صلاته وفوائده، وإنما الناس مائلون مع الدراهم منقادون لها، لا ينظرون إذا وجدوها حفظ بيعة ولا يرغبون في وفاء عهد ولا أمانة؟ فقال له الفضل: إذا وقعت التهمة حق الاحتراس، وأنا لغدر محمد متخوف، ومن شرهه إلى ما في يديك مشفق، ولأن تكون في جندك وعزك مقيما بين ظهراني أهل ولايتك أحرى ، فإن دهمك منه أمر جردت له وناجزته وكايدته، فإما أعطاك الله الظفر عليه بوفائك ونيتك، أو كانت الأخرى فمت محافظا مكرما غير ملق بيديك ولا ممكن عدوك من الاحتكام قي نفسك ودمك، قال: إن هذا الأمر لو كان أتاني وأنا في قوة من أمري وصلاح من الأمور كان خطبه يسيرا، والاحتيال في دفعه ممكنا، ولكنه أتاني بعد إفساد خراسان، واضطراب عامرها وغامرها، ومفارقة جيغويه الطاعة، والتواء خاقان صاحب التبت، وتهيؤ ملك «كابل» للغارة على ما يليه من بلاد خراسان، وامتناع ملك أترابنده بالضريبة التي كان يؤديها، وما لي بواحدة من هذه الأمور يد، وأنا أعلم أن محمدا لم يطلب قدومي إلا لشر يريده، وما أرى إلا تخلية ما أنا فيه واللحاق بخاقان ملك الترك والاستجارة به وببلاده، فبالحرى أن آمن على نفسي وأمتنع ممن أراد قهري والغدر بي، فقال له الفضل: أيها الأمير، إن عاقبة الغدر شديدة، وتبعة الظلم والبغي غير مأمون شرها، ورب مستذل قد عاد عزيزا، ومقهور قد عاد قاهرا مستطيلا، وليس النصر بالقلة والكثرة، وحرج الموت أسلم من حرج الذل والضيم، وما أرى أن تفارق ما أنت فيه، وتصير إلى طاعة محمد متجردا من قوادك وجندك كالرأس المختزل عن بدنه، يجري عليك حكمه فتدخل في جملة أهل مملكته من غير أن تبلي عذرا في جهاد ولا قتال، ولكن اكتب إلى جيغويه وخاقان، فولهما بلادهما، وعدهما التقوية لهما في محاربة الملوك، وابعث إلى ملك كابل بعض هدايا خراسان وطرفها وسله الموادعة تجده على ذلك حريصا، وسلم لملك أترابنده ضريبته في هذه السنة، وصيرها صلة منك وصلته بها، ثم اجمع إليك أطرافك، واضمم إليك من شذ من جندك، ثم اضرب الخيل بالخيل والرجال بالرجال، فإن ظفرت وإلا كنت على ما تريد من اللحاق بخاقان قادرا. فعرف عبد الله صدق ما قال، فقال: اعمل في هذا الأمر وغيره من أموري بما ترى. فتدبر، وفقك الله، هذا التفكير الدقيق، وهذه السياسة المحكمة الأطراف من كليهما.

ثم انظر إلى تصرف المأمون الحكيم ، بعد ما قدمناه لك، فإنه أنفذ الكتب إلى رجاله وأنصاره، وعمل على لم شعثه ورأب صدعه، واستقدم طاهر بن الحسين، عامله على الري ، ليعهد إليه في قيادة جنده، ثم مكث يدبر الرأي فيما يجيب به أخاه، واستقر رأيه على مناجزة أخيه ومنازلته، بعد أن أعلمه ابن سهل أن النصر له، وأن النجوم تنبئ بذلك.

وانظر ما يرويه لنا المؤرخون من أنه كتب إلى الأمين:

أما بعد، فقد وصل إلي كتاب أمير المؤمنين، وإنما أنا عامل من عماله، وعون من أعوانه، أمرني الرشيد، صلوات الله عليه، بلزوم هذا الثغر، ومكايدة من كايد أهله من عدو أمير المؤمنين، ولعمري إن مقامي به أرد على أمير المؤمنين، وأعظم غناء عن المسلمين من الشخوص إلى أمير المؤمنين، وإن كنت مغتبطا بقربه، مسرورا بمشاهدة نعمة الله عنده، فإن رأى أن يقرني على عملي، ويعفيني من الشخوص إليه فعل إن شاء الله. والسلام.

ثم دعا العباس بن موسى وعيسى بن جعفر ومحمدا وصالحا فدفع إليهم الكتاب، وأحسن إليهم في جوائزهم، وحمل إلى محمد ما تهيأ له من ألطاف خراسان، وسألهم أن يحسنوا أمره عنده، وأن يقوموا بعذره لديه. (6) إعلان الحرب

Halaman tidak diketahui