فلما قرأ الرشيد الرقعة قال: انظروا ألا يكون هذا المعلم لوطيا، أنفوه من الدار؛ فأخرجوه عن تأديب الأمين. قيل: ثم جعل الرشيد على الأمين حراسا، واتخذ عليه حمادا وكان عليه رقباء سبعين أو ثمانين.
ربما كان من الحق أن نقول: إن هذه النشأة كانت لها آثارها السيئة، خصوصا أنا نلاحظ أن الأمين تنقصه الدربة السياسية، وأنت تعلم أن الدربة السياسية هي ناحية يؤبه لها كثيرا في تنمية روح الحكم، وتقوية المواهب الإدارية، وتنظيم ملكات السلطان في ولي العهد، خصوصا ذلك العصر الذي لم تكن فيه وسائل الثقافة الملكية متوافرة توافرها اليوم؛ من سياحة لولي العهد إلى الممالك المتمدينة، ووقوف على مبلغ الحضارة العالمية، كما هي حال ولي عهد إنجلترا ونظرائه مثلا، مع أن الحاجة إلى الثقافة السياسية في ذلك العصر كانت أشد منها اليوم؛ لأن الملك حين ذاك كان صاحب سلطان فعلي مطلق غير مقيد بقانون أو دستور إلا ما يرجع إلى دينه وورعه.
نريد أن نقول: إنه إذا كان ندب الهادي للرشيد حين ولاه قيادة الجند لحرب الروم، قد أوجد الرشيد في مركز القيادة العامة، وفيها من الشيوخ المحنكين والقادة المدربين والزعماء المنظمين مجموعة صالحة للثقافة السياسية، وفرص تسنح في الفينة بعد الفينة للمرانة السياسية، ولتخريج خليفة مدرب في فنون الملك، وإذا كان المأمون قد ندب للحكم في خراسان وغير خراسان حتى نكبت به ظروف الأحوال عن مفاسد مال الخلافة ونعمة ابن زبيدة ودلال الهاشميين، نريد أن نقول: إنه إذا كان ذلك كذلك، وكانت هذه هي نتائج الدربة السياسية، فمن الميسور أن نفهم مغبة افتقادها، كما أنه من الميسور أن نستنبط أن عنصرا هاما من عناصر تكوين رجال السياسة والحكم كان ينقص الأمين الذي لم تستطع غاشيته من الخدم، وبطانته من الموالي، وأخواله من الهاشميين، وأساتيذه من المربين أن يحولوا بينه وبين ما تشتهيه نفسه وتهوى طفولته.
وهل تظن أنهم يستطيعون أن يكرهوه على أن يأخذ نفسه بحزم في أموره، وبسداد في تصرفه، وقمع لميوله، وتقويم لاعوجاجه، وبما يجعله رجلا كاملا، أظن لا، وأظن أنك محق في نفيك هذا عمن كان في ظروفه وبيئته.
على أنه من العدل والحق أن نقرر أن الأمين لم يكن بليد الذهن أو ثقيل الظل، بل كان نقيض ذلك على حظ من توقد الذهن وفصاحة اللسان، وخفة الروح والظل، وحسبك أن ترى شيئا مما كان ينضح به في مجالس اللهو والمنادمة من سرعة البديهة، وظرافة النكتة، وحلاوة التندر، ورقة الدعابة، وعذوبة الفكاهة؛ لتؤمن بما نقول.
وكل ما أجمع عليه المؤرخون الفرنجة ك «ميور» وكتاب دائرة المعارف الإسلامية، واتفقت عليه كلمة المؤرخين العرب جميعا أنه كان مستهترا مسرفا، مع خور خلقي، وعدم تبصر في العواقب ولا ترو في مهمات الأمور - مما يرجع في الواقع إلى عدم العناية بثقافته السياسية، كما أسلفنا.
وإنا محقون إذا ما قررنا أنه لو وجد الأمين يدا حكيمة تقسو عليه أحيانا فتفل من شباة نفسه العابثة المرحة، وتقوم اعوجاج خلقه الرخو، وتقوي سجاياه المنحلة، وتبعث به إلى الحروب، ليصهر بلظى أوارها، ويصقل من جلادها وسجالها، ويفيد نفسه من خبرة كماتها، ودربة شيوخها، وخدع مديريها، وخطط مشيريها، وتوليه حكم صقع من الأصقاع للمرانة فيه على معضلات الحكم ومشكلاته، والاحتكاك بقادته وقضاته؛ إذن لكان للمأمون منه خصم لا يستهان به ولا تلين قناته لغامز.
على أنا وإن قلنا: إن الأمين كان مستهترا، لا نستطيع مع ذلك أن نستسيغ الخبر الذي رواه الطبري وغيره، والذي ضربه الفخري مثلا على إهمال الأمين وغفلته وجهله، إلا بشيء من التحفظ كثير، وهاك خلاصة الخبر لكي تقدر معنا ما لهذه الملاحظة من وجاهة وقيمة:
لما اشتد الخلاف بين الأمين والمأمون حتى انتهى إلى غايته، أرسل الأمين لمحاربة أخيه جيشا لم ير في بغداد قبل ذلك أكثف منه، قوامه أربعون ألفا، وقيل خمسون، وزوده بالسلاح الكثير والأموال الوافرة، وعلى رأسه شيخ من شيوخ الدولة جليل القدر، مهيب الجانب، هو علي بن عيسى بن ماهان. وقد خرج معه الأمين إلى ظاهر المدينة مشيعا مودعا، وكان في حكم اليقين أن الظفر سيكون حليفه؛ لكثرة عدده، ووفرة سلاحه وذخيرته، فلما التقى بجيش طاهر بن الحسين قائد المأمون، وعسكره في حدود أربعة آلاف، ثم كانت الغلبة لطاهر، وورد الخبر بنعي علي بن عيسى إلى الأمين وهو يصيد، قال للذي أخبره بذلك: دعني فإن كوثرا قد اصطاد سمكتين وأنا إلى الآن ما اصطدت شيئا! وكان كوثر هذا خادما من الخصيان قيل: إن الأمين كان يحبه كثيرا.
نقول، ولعلك توافقنا فيما نذهب إليه: إنا لا نستطيع أن نقبل هذا الخبر وأمثاله إلا بشيء من التحفظ كثير، فإن خليفة يسمع مثل هذا النبأ العظيم ويعلم أن وراءه الفصل في مصير سلطانه ثم لا يأبه له، لا يكفي أن يوصف بالإهمال والجهل، بل هو جدير بما فوق ذلك؛ بالسفه والبلاهة، والسفية الأبله أولى بالحجر عليه منه بأن يكون ذا سلطان مطلق في دولة بعيدة الأطراف والنواحي، ومحال على الرشيد الذي عرف بالحزم وجودة الحدس والتأني في الأمور أن يسند هذا السلطان العظيم من بعده لسفيه أبله.
Halaman tidak diketahui