فقال عزت ساخرا: لك الملهى وما فيه إن استطعت أن تشعل اهتمامي! - لكنه خبر يحكى على أي حال. - ما هو؟ - بدرية المناويشي، نجمة مسرحك القديم.
من أي صمت يخرج هذا الاسم؛ نجمة مسرحك القديم؟! لم يحدث أي رد فعل. نجمة يتهادى ضوءها إليه من خلال أعوام طويلة طويلة، وكالنجوم تشكل ذكرى متألقة وحاضرا مجهولا. أي معنى للخبر؟ لا معنى على الإطلاق ولا أهمية. تساءل بفتور: ماتت؟
فضحك يا مسهل وقال: كلا، يقال إنها ترملت منذ عامين أو نحو ذلك، وإنها ورثت مالا سائلا لا بأس به، ولكن أتدري كيف استثمرته؟ - كيف؟ - أسمعت عن ملهى زهرة النيل الليلي؟! - هو ملهى في عوامة فيما أعلم. - بدرية صاحبته ومديرته!
ابتسم ابتسامة بلهاء، تمتم: مدهش! - ربما تكون قد حنت إلى أصلها أو قريب منه. - أو أنها خافت الوحدة والكهولة. - الأرجح أنها اختارته لضمان الربح.
وضحك عزت. عزت صاحب ملهى الإليزيه، وبدرية صاحبة ملهى زهرة النيل! •••
بدافع الفضول، بدافع الضجر، قرر أن يسهر ليلة في زهرة النيل. قال لنفسه عرفت الآن لم يرغب الناس في زيارة الآثار. استعد بحمام فاتر، بدلة أنيقة، حلق ذقنه وسوى شاربه وشعره، مضى إلى زهرة النيل. أعمارنا متماثلة ... حمدون وأنا وبدرية وسيدة، وكل أخذ نصيبه بالعدل. من المسئول عن تعاسة الجميع؟ أنا ... حمدون؟ ... بدرية؟ ... سيدة؟ ... أما كان يجب أن نحاكم؟!
والعوامة معدة على هيئة صالة بالغة الأناقة مرتفعة الأسعار، تشهد لمن أسسها بالذوق الجميل والبراعة في الخيال. اتخذ مجلسه وراحت عيناه تجوسان في الأركان والصفوف والمسرح، إن صح ظنه فحجرة الإدارة تقع فوق السطح، ويصل إليها بهذا السلم الحلزوني المفروش بالبساط الأحمر. طلب زجاجة شمبانيا. كان الوحيد المنفرد بنفسه. لماذا جاء؟ ولماذا لا يجيء؟ وغنى شاب بطريقة الإفرنجوآراب. تلاه مونولوجست ثم راقصة. هل تمضي الليلة دون ظهور بدرية؟! كان ينظر من آن لآن إلى السلم الحلزوني. انتبه على طقة حذاء. أخذ الجسم يظهر رويدا فوق السلم الحلزوني من أسفل إلى أعلى حتى استوى عند رأس الصالة؛ بدرية المناويشي، وقفت تراقب وتلاحظ، مديرة بمعنى الكلمة، فراح يتفحصها. كان يتوقع تغيرا، ولكن غير هذا التغير الماثل. بدينة مثل امرأة عمدة، ريانة الوجه بدرجة تدعو للنفور. جف الماء العذب وانطفأ التألق. في مثل عمرها، يحتفظ نساء بآثار جمال، ولكنها لم تحتفظ بشيء. ثم ما معنى هذه النظرة في العينين المكحولتين؟ ليست طبيعية، مريضة؟ مهزوزة الأعصاب؟ فاقدة الذاكرة؟ حكاية تاريخ طويل تعيس! مرت به عيناها فلم تقف عنده. من الأفضل أن يتجاهلها وأن يتحاشاها، ولكن ها هي ذي تتهادى في الممشى الجانبي، ورغما عنه لم يهرب منها بعينيه. لقد جاء وعليه أن يتحمل المسئولية. لم يعد يفصلها عنه إلا متر، تلاقت العينان، ابتسم اضطرارا. وقفت مبهوتة لا تصدق عينيها. وقع المقدور. زحزح كرسيه ووقف. همست: يا ألطاف الله!
مد يده فتصافحا. أشار إلى الكرسي الخالي هامسا بدوره: تفضلي.
فجلست وهي تتمتم: يا حسين مدد!
فضحك عزت متسائلا: أطلب لك كأسا؟ - كلا ... نسيت عادتها ... وأنت لم تشرب بعد؟ - ولن أشرب، ولكن بسبب المرض. - سلامتك ... ليست صحتي على ما يرام أيضا ... ولكني لم أتوقع أن أراك قط. الظاهر أنه مكتوب على الأحياء أن يتلاقوا.
Halaman tidak diketahui