وقضى عامين في الكتاب، حظي فيهما بسعادة لا تتحقق إلا في دنيا من نسج الخيال والبراءة. •••
وعندما هبت رياح الخريف من مهدها الرطيب كعادتها في الأعوام السابقة، أذنت هذه المرة بفراق جديد، حاد وأليم، أنذر بإخراج الولد الثمل من جنته. اعترضه قرار جديد بالتوجه إلى المدرسة الابتدائية لأداء امتحان القبول، ولم يغره هذه المرة أن يجد حمدون في رفقته. أما بدرية وسيدة فقد غادرتا الكتاب، ومنعتا من اللعب في الحارة. فتر حماس عزت وخمدت روحه، نجح حمدون في امتحان القبول وسقط هو في الحساب، غير أن زيارة مباركة من أمه للمدرسة غيرت النتيجة وألحقته بالمدرسة بلا ترحاب من ناحيته ولا سرور. ولم تنقطع سيدة عن مجاله؛ فهي تزور الدار عادة بصحبة أمها، واعتاد منظرها أكثر وأكثر، فباتت دكنتها مألوفة، وتكويرة أنفها عادية، ومرحها محبوبا، وحديثها لا يخلو من تسلية، أما بدرية فلم يكن يراها إلا في النادر جدا من الأوقات، غالبا بصحبة أبيها، يسرق منها نظرة خاطفة، وتمضي هي جادة أكثر مما يحتمل عمرها، وكأنها لم تقاسمه عامين أفراح الحياة. وكان لديه من فرص العمل واللعب ما يشغله عنها، ولكنه لم يستطع أن يتحرر من ذكراها، ولا أن يمحو من ذاكرته تعلقه الفريد بوجهها الثري. •••
وبدا متعثرا في دراسته، تمضي الأيام ولا يحظى باستحسان واحد، لا يأنس إلى المدرسة، ويحن دائما إلى الحرية والحديقة. وذات يوم سمع تلميذا يقول وهو يومئ إليه: ما حاجته إلى التعليم وهو أغنى شخص في الحارة؟!
فعجب من إصرار أمه على تعذيبه، ولم يؤثر فيه تفوق حمدون إلا قليلا، وكان حمدون يشجعه على العمل، ولولا مواظبته على المذاكرة معه ما أصاب أي قدر من التقدم. وكان يقول له: عقلك ممتاز، ولكنك كسول.
فتساءل عزت باستهانة: أمن المهم أن أكون مجتهدا؟
فقالت عين وهي تتابع الحديث باهتمام: طبعا، ما أجمل الناجحين، العلم من الإيمان، وأنت من المؤمنين الصادقين.
أجل، كن محبا للعبادات ومغرما بالحكايات، ولكنه حزن قبل الأوان.
واستطردت أمه باسمة: عليك أن تزيد من المذاكرة وأن تزيد الطعام.
فقال حمدون مؤكدا: إنه نحيف جدا، في المدرسة يقولون إن والدته تنفق مالها على الفقراء، وإن الابن لا يجد ما يأكله!
فضحكت عين وقالت بلهجة متوعدة: العلم والطعام.
Halaman tidak diketahui