وأيا ما كان حكمنا على المقالين الآخرين، فإن مقال «الطبيعة» يمثل بلا جدال تفكير مل الناضج المتأني فيما بحثه من الموضوعات. (النص) «وإذن فالطبيعة، في أبسط معانيها، هي اسم جامع لكل الوقائع، الفعلية منها والممكنة. أو (بتعبير أدق) هي اسم لذلك الحال
mode
الذي تحدث فيه كل الأشياء، والذي لا نعرفه إلا جزئيا؛ ذلك لأن الكلمة لا تدل على التفاصيل الكثيرة للظواهر بقدر ما تدل على المفهوم الذي يمكن أن يكونه ذهن لديه معرفة كاملة بها، عن طريقتها في الوجود بوصفها كلا ذهنيا، وهو مفهوم يرمي العلم إلى الوصول إليه عن طريق خطوات متعاقبة من التعميم للتجربة.
ذلك، إذن، هو التعريف الصحيح للفظ الطبيعة. غير أن التعريف لا ينطبق إلا على واحد فقط من المعاني المتعددة لهذا اللفظ.
فمن الواضح أنه لا ينطبق على بعض الأحوال التي يشيع فيها استخدام اللفظ؛ فهو مثلا يتعارض تماما مع التعبير الشائع الذي يقال فيه، الطبيعة مقابل الفن (أو الصنعة)، والطبيعي مقابل الصناعي. ففي المعنى الذي عرضناه لكلمة الطبيعة، وهو المعنى العلمي الصحيح، يكون الفن (أو الصنعة) طبيعة، شأنه شأن أي شيء آخر، ويكون كل شيء صناعي طبيعيا؛ إذ ليست للفن قوة مستقلة خاصة به، وما هو إلا استخدام قوى الطبيعة لغاية ما؛ فالظواهر التي تنتجها فاعلية الإنسان، مثلها مثل تلك التي تكون، من وجهة نظرنا، تلقائيا، تتوقف على خصائص القوى الأولية، أو الجواهر الأولية ومركباتها، ولو اجتمعت قوى الجنس البشري بأكمله لما استطاعت أن تخلق صفة جديدة للمادة بوجه عام، أو لأي نوع من أنواعها. وكل ما يمكننا هو أن ننتفع لأغراضنا الخاصة، مما نجده من الخصائص.
وهكذا يبدو أن علينا الاعتراف بمعنيين رئيسيين على الأقل لكلمة الطبيعة؛ فالطبيعة، بأحد المعنيين، هي كل القوى الموجودة في العالم الخارجي أو الداخلي، وكل ما يحدث بفعل هذه القوى. وهي بالمعنى الآخر، ليست كل ما يحدث، وإنما كل ما يحدث دون تدخل الإنسان، أو دون تدخله الإرادي المقصود. وهذا التمييز لا يستنفد كل المعاني المختلفة للفظ، ولكنه مفتاح لتلك المعاني التي تتوقف عليها نتائج هامة.
فإذا كان هذان هما المعنيان الرئيسيان لكلمة الطبيعة، ففي أيهما، أو في أي معنى إذن، تقال الكلمة عندما تستخدم هي ومشتقاتها للدلالة على أفكار الإطراء والاستحسان بل والإلزام الخلقي؟ •••
أمن الضروري أن نرى في هذه التعبيرات معنى جديدا متميزا لكلمة الطبيعة؟ أم إن من الممكن ربطها، في أية وحدة معقولة، بأي من المعنيين السابقين؟ قد يبدو لأول وهلة أنه لا مناص لنا من الاعتراف بوجود اختلاف آخر في معنى اللفظ، فكل الأبحاث تنصب إما على ما هو كائن، أو على ما ينبغي أن يكون ؛ فالعلم والتاريخ ينتميان إلى القسم الأول، والفن والأخلاق والسياسة تنتمي إلى الثاني.
غير أن المعنيين اللذين أوضحناهما أولا لكلمة الطبيعة، يتفقان في الإشارة إلى ما هو كائن فحسب؛ ففي المعنى الأول تكون الطبيعة اسما لكل ما يوجد بذاته، دون تدخل بشري إرادي. غير أنه يبدو أن استخدام لفظ الطبيعة بوصفه مصطلحا في الأخلاق يكشف عن معنى ثالث، لا تدل فيه الطبيعة على ما هو كائن، وإنما على ما ينبغي أن يكون، أو على قاعدة أو معيار ما ينبغي أن يكون. غير أن قليلا من التفكير كفيل بإيضاح أن هذه ليست حالة اختلاف في المعنى، وأنه ليس ثمة معنى ثالث للكلمة ها هنا. فأولئك الذين يقولون بالطبيعة معيارا للسلوك، لا يقصدون القول بقضية لفظية (لغوية) فحسب؛ أي إنهم لا يعنون أن المعيار، أيا كان، ينبغي أن يسمى بالطبيعة، وإنما يعتقدون أنهم يقدمون بعض المعلومات عما يكونه معيار السلوك بالفعل؛ أي إن القائلين بوجوب سلوكنا وفقا للطبيعة لا يعنون فقط قضية الهوية القائلة إننا ينبغي أن نفعل ما ينبغي أن نفعل، وإنما يعتقدون أن لفظ الطبيعة يمدنا بمعيار خارجي لما ينبغي أن نفعله. وإذا كانوا يختارون قاعدة لما ينبغي أن يكون، من كلمة تدل في معناها الصحيح على ما هو كائن، فإنهم يفعلون ذلك لأن لديهم فكرة، واضحة كانت أم غامضة، مؤداها أن ما هو كائن هو قاعدة ما ينبغي أن يكون ومعياره.
وهدفنا من هذا المقال هو دراسة هذه الفكرة؛ فالمقال يعتزم البحث في حقيقة المذاهب التي تتخذ من الطبيعة مقياسا للصواب والخطأ، وللخير والشر، أو التي تعزو فضلا وتبدي استحسانا، على أي نحو أو بأية درجة، لاتباع الطبيعة أو محاكاتها أو إطاعتها. ولقد كان البحث السابق الخاص بمعنى الألفاظ مقدمة لا غناء عنها لهذا البحث؛ فاللغة، إن جاز هذا التعبير، هي جو البحث الفلسفي، الذي ينبغي أن يصبح أكثر صفاء قبل أن يتسنى مشاهدة أي شيء من خلاله في شكله ووضعه الصحيح. ومن الضروري في هذه الحالة أن نحتاط من اختلاف آخر في المعنى، ضلل أحيانا، على وضوحه، عقولا بعضها راجح، ويحسن الإلمام به على حدة قبل المضي قدما في البحث. فليس ثمة كلمة ألصق ارتباطا بلفظ الطبيعة من كلمة القانون. ولهذه الكلمة الأخيرة معنيان متلازمان، تدل في أحدهما على جزء محدد مما ينبغي أن يكون؛ فحين نتحدث عن قانون الجاذبية، وقوانين الحركة الثلاثة، وقانون النسب المحددة في التفاعلات الكيميائية، والقوانين الحيوية للكائنات العضوية، نعني أجزاء مما هو كائن. أما عندما نتحدث عن القانون الجنائي والقانون المدني، وقانون الشرف، وقانون الصدق، وقانون العدل، فإنا نعني أجزاء مما ينبغي أن يكون، أو من افتراضات شخص ما أو مشاعره أو أوامره بشأن ما ينبغي أن يكون. فأما النوع الأول من القوانين، كقوانين الحركة والجاذبية، فما هو إلا الاطرادات الملاحظة في حدوث الظواهر؛ منها اطرادات تتعلق بالسابق واللاحق، ومنها اطرادات تتعلق بالتلازم في الحدوث. تلك هي القوانين المقصودة من كلمة «قوانين الطبيعة» في العلم، بل وفي الحديث المعتاد. أما القوانين بالمعنى الآخر فهي قوانين البلاد، أو قانون الأمم، أو القوانين الأخلاقية، وهي قوانين يقحم بينها المشرعون والمتفقهون، كما لاحظنا من قبل، شيئا يعتقدون أن من الصحيح تسميته بقانون الطبيعة.
Halaman tidak diketahui