ولم يفترق عنهما إلا في اللحظة التي تحولت فيها حماستهما الأصيلة إلى مذهب روحي غيبي لا يتمشى مع فلسفة التجربة.
ولقد كان السبب الفعلي الذي أطلق من أجله مل على فلسفته اسم «فلسفة التجربة
phil. of experience »، هو رغبته في تمييزها من المذهب التجريبي
empiricism
في صورته العامية المجهولة، التي يؤدي بها عدم الاعتراف بأية قضية لا تؤيدها التجربة الحسية تأييدا مباشرا حاسما، إلى رفض الميتافيزيقا الترنسندنتالية والأديان المنزلة، بل إلى رفض العلم ذاته. ففي رأي مل أن على جميع القضايا أن تنجح في اختبار التجربة. ولكن ليست كل القضايا الصحيحة بمنبئة عن تجربة مباشرة. ولقد كان مل، مثل كونت، يدرك تماما أن العلم لا يمكن قيامه دون فروض ونظريات، فضلا عن الملاحظات، وأنه، مع وجوب اختبار الفروض الموثوق بها عن طريق الملاحظة، فإن هذه الفروض ليست مجرد تكديس لمادة الملاحظة. كما كان من السمات البارزة لنظريته في المعرفة أن الملاحظات الخام، التي تحدث خبط عشواء، وتنقل دون اختبار نقدي، لم تكن لها في نظره، من حيث البرهان، إلا قيمة ضئيلة. ولهذا السبب فإن «دروس التاريخ» لا تكون أساسا كافيا لإدارة الشئون السياسية ، كما دأب مل على تذكير «ماكولي
Macaulay »
3
وغيره من الممثلين المحافظين للمدرسة التاريخية. ولقد كان من الأغراض الرئيسية «لقوانين الاستقراء» المشهورة عند مل، إيجاد منهج لانتقاء الأدلة على الارتباطات المشتركة التي تبنى عليها القوانين العلمية. وقد أدرك مل المغالطة في القضية القائلة: «بعد هذا، وإذن فبسبب هذا
post hoc, ergo propter hoc » (أي إن الظاهرة التي تسبق ظاهرة أخرى هي سببها)، وكان يدرك تماما أن للتجريب أهمية حاسمة في الاختبار العلمي للنظريات. وقد ذكر مل أن الارتباطات الحقيقية في الطبيعة لا توجد دائما على السطح الخارجي للتجربة. ولا يمكن إقامة ارتباطات علية سليمة إلا عن طريق انتقاء دقيق وتنويع مستقل للمجموعة المعقدة من الظروف السابقة والنتائج اللاحقة التي تتوارى عن الملاحظة العلية. أما المظاهر غير المنتقاة، وضمنها مظاهر الارتباط المشترك (التضايف)، فهي خداعة إلى حد بعيد. وينبغي أن يكون من مهام المنطق الاستقرائي إيجاد أسلوب سليم لتنقيتها.
ومن المحال أن نعالج تفاصيل نظرية المنطق الاستقرائي في مثل هذا الحيز الضيق، وإنما ينبغي أن يقتصر بحثنا هنا على أهميتها الفلسفية الرئيسية، والمشاكل الفلسفية التي تثيرها.
Halaman tidak diketahui