وكثيرا ما قيل إن فلسفة شوبنهور تتأثر بأفلاطون وبصوفية الهنود معا. وهذا صحيح، غير أن نظرته إلى حياة التأمل تختلف إلى حد عن نظرة هؤلاء إليها؛ فالتحرر من الرغبة يتم، عند شوبنهور، عن طريق التأمل الجمالي، وعن طريق تأمل الفن بوجه خاص. ففي التجاوب مع الفن الرفيع، ولا سيما الموسيقى، تنزه واضح، وخروج عن التصديق والتكذيب، والأمل واليأس، يتركنا أحرارا في تأمل صور الأشياء دون انشغال، بل في تأمل مظاهر الإرادة ذاتها دون اندماج أو اهتمام شخصي.
ولم يفت نقاد شوبنهور أن ينبهوا إلى أن هذا الوجه من أوجه مذهبه يفتقر إلى الاتساق الشكلي. فإذا كانت الإرادة «هي» الواقع
real ، وإذا كانت تتبدى في شكل من أشكال الحياة، فليس لنا أن نفترض أن التأمل قادر على «القضاء» عليها. فليس ما تقضي عليه الحياة التأملية عند شوبنهور هو الإرادة في ذاتها، وإنما الرغبات الجشعة المتشاحنة للحياة اليومية. غير أن عدم الاتساق لا يكون خطيرا، إذا ما نظرنا إلى ميتافيزيقا شوبنهور، لا على أنها محاولة لتشييد بناء منطقي، بل على أنها نظرة شخصية إلى العالم، كان فيها رده على الأيديولوجيات «الموضوعية» التي أتى بها السابقون عليه. والمسألة الأهم ليست هي كون حياة التأمل تخلصنا من الإرادة، بل هي ما إذا كانت تأتي لنا بحل شاف للمشاكل الروحية، كالقلق وخيبة الأمل، والعزلة والتغرب عن الذات، وهي مشاكل تعد من صميم إنتاج الحياة الحديثة. ولقد عادت نزعة شوبنهور الجمالية إلى الظهور لدى واحد على الأقل من فلاسفة القرن العشرين، هو سانتيانا،
4
كما أكد فلاسفة كثيرون آخرون، ممن يرون أن حياة التأمل لا يصح أن تكون مثلا أعلى يكتفي به المرء، أن التأمل الجمالي ينبغي مع ذلك أن يكون جزءا كبيرا مما نسميه ب «الحياة الطيبة».
وإنه ليكون من الخطأ أن ننظر إلى فلسفة شوبنهور على أنها مجرد تعبير عن شخصيته التي كانت عصابية شاذة المزاج إلى حد بعيد؛ فهذه الفلسفة ما هي إلا صورة واحدة من صور خيبة الأمل الدائمة التي تشعر بها النفوس الحساسة إزاء أنواع الخلاص الجماعي التي تقدمها النظم الاجتماعية. وفضلا عن ذلك، فقد كان شوبنهور صادق التنبؤ في اعترافه بأعماق «اللامعقول» البشري. وكثيرا ما يصادف المرء في كتاباته إدراكا يدعو إلى الدهشة لحياة الإرادة على المستوى دون العقلي واللاشعوري، وهي أمور أصبحت لها في عمرنا أهمية كبرى بفضل أتباع فرويد.
ولقد أدرك شوبنهور خطورة العقل وعقم الوقوف في وجه الإرادة بوساطة مجرد «أفكار»، ولكنه، على خلاف الكثيرين من «اللاعقليين» الآخرين، لم يمجد اللامعقولية أبدا. فهو مثل فرويد، قد اعترف بعصر الحيوانية في الطبيعة البشرية كاملا، دون أن يحاول تأليه هذا العنصر. بل إنه لم يكن في النهاية يخشاه حقيقة؛ إذ كان يعلم أن ثمة مخرجا منه، عن طريق الفهم والإبداع الفني، والتأمل الجمالي. ولكم في فلسفة هذا المتشائم الأكبر من عناصر حكيمة! إنه ليس مجرد «مرحلة» في تاريخ الفكر في القرن التاسع عشر؛ بل إنه يقف من هيجل، في نواح معينة، موقفا يشبه كثيرا موقف فرويد من كارل ماركس. ولو أغفله المرء لكان في ذلك إغفال لحقيقة هامة، هي أن العصر الذي قدس التقدم كان أيضا عصر يأس فردي.
والنصوص الآتية مقتطفة من الكتاب الأول (القسمين 1، 2) ومن الكتاب الثاني (الأقسام 17-19) من كتاب شوبنهور «العالم إرادة وتمثلا».
5 ⋆
وعنوان الكتاب الأول هو «العالم تمثلا. الوجه الأول: الفكرة خاضعة لمبدأ السبب الكافي: موضوع التجربة والعلم.»
Halaman tidak diketahui