ولهذا أراني مضطرا أن أصف لك موقف القرية من العزوني، دون أن أذكر المهنة التي يمتهنها.
فكل رجل في القرية يحرص أن يكون حديثه إلى العزوني في خفية عن الأعين، وويل للرجل من زوجته كل الويل إذا هي سمعت أن جملتين من حوار اكتملتا حديثا بين زوجها وبين العزوني.
وقد نشأ حنفي بن العزوني وهو يرى أباه منبوذا من القرية جميعا، قصيا عن أهلها، لا يحادثه أحد منها إلا همسا، وفي غيبة كل العيون. وحين كان حنفي طفلا لم يكن يدرك سر أبيه. وحين ذهب إلى المدرسة وجد نفسه منبوذا من أطفالها، يعرضون جميعا عنه، ويرفضون حديثه إذا توجه به إليهم فرادى أو جماعات. وكان المدرسون أشد قسوة من التلاميذ في معاملاتهم له. وتعلم القراءة والكتابة، وسر أبيه ما زال مجهولا بالنسبة إليه. وأصبح الطفل صبيا يملؤه نشاط الصبا ولا مكان لمنشطه ولا ملعب له مع الأطفال، فيجري في الحقول لغير غاية، ويقف لا يدري لماذا وقف، ويجلس ولا يدري لماذا جلس. ويقصد إلى ملاعب الأطفال في الأجران فيقف منهم بمرقب، لا يجرؤ أن يعرض عليهم المشاركة في اللعب، طالما حاول ذلك فواجهه الصدود والرفض.
وأخيرا اطلع الفتى على سر أبيه، ثم ما لبث أن أصبح أبوه يجعله يقوم بالعمل عنه. وأتقن الصنعة بكل ما يحيط بها من احتقار ومذلة. وخلا بنفسه يوما، كم هو غبي أبوه العزوني هذا! إن الصنعة التي يمارسها لا تصلح في قرية؛ فالقرية مجتمع مقفل، كل شخص فيها مكشوف الجوانب للجميع، وعائد هذه الصنعة في القرية ضئيل الشأن؛ فأي معنى إذن لبقاء أبيه في هذه القرية؟! ربما قال أبوه لنفسه إنه في القرية محقور الشأن ولكنه أيضا يعرف زبائنه، وسيصبح من العسير عليه أن يتعرف على زبائن في المدينة. والمهنة تقوم على معرفة رغبة عند قوم تجد قبولا عند قوم آخرين؛ فمعرفة أصحاب الرغبة وأصحاب القبول هي أساس المهنة. وهذا أمر ميسور في القرية عسير في المدينة. ورأس مال هذه المهنة أن يرضى الذي يمتهنها أن يكون موضع احتقار الجميع في الظاهر وملتقى أموالهم في الخفاء. ولكن حنفي ما زال يعجب، ما دام أبوه قد تخطى مرحلة المحافظة على الكرامة إلى مرحلة الذلة والاحتقار، فلماذا يصحب رأس ماله الضخم هذا إلى المدينة؛ فهناك ينماع احتقاره في تيارها وأمواجها الصاخبة، وهناك كل إنسان له شأن يغنيه. وهناك لا يسعى كل إنسان إلى معرفة أسرار الآخرين. وإن حاول فنصيب محاولته - أغلب الأمر - الفشل والإخفاق.
لقد ذهب حنفي مرات إلى القاهرة، وأقام فيها عند خالته، فوجدها لا تدري عن مهنة أبيه في القرية شيئا، وجد زوج خالته يجهل شأن أبيه كل الجهل. وقد انساب حنفي في الجموع، وعرض صداقاته على الجلساء في المقاهي فما وجد إعراضا، وما صده رفض، وما سأله أحد ما صناعتك أو صناعة أبيك. وعرف حنفي في القاهرة مكتبات سور الأزبكية، واشترى ألف ليلة وليلة، وقصص عنترة وأبو زيد الهلالي سلامة، والأميرة ذات الهمة، ولم يرتفع مستواه إلى أعلى من ذلك.
وصحب هذه الكتب إلى القرية، وانغمس فيها يكب عليها في الأوقات التي لا يقوم فيها بعمل أبيه. ومن الطبيعي أن تكون أوقات القراءة متطاولة متسعة لأن أوقات العمل بطبيعتها ضئيلة منكمشة.
وهكذا لم يكن غريبا أن ينكر على أبيه بقاءه في القرية. ولم يكن عجيبا أن يصحب حقيبته وليس بها إلا شبه ملابس ويتجه إلى القاهرة.
ذهب إلى خالته. وأدركت أنه ينوي الإقامة، وفدحها الأمر. وأدرك أنه غير مقبول، وأن الترحيب الذي كان يجده في زيارة يومين أو ثلاثة أو أسبوع لن يجده في إقامة غير نازح.
ونزل إلى الطريق يحس أنه بالصنعة التي أتقنها وتلقاها عن أبيه أقوى الناس جميعا. ومن يستطيع أن يباري منعدم الكرامة في القوة والمتعة؟ إن الناس - سائر الناس - لديها بقية من حياء أو أثارة من خشية أن تذل لهم كرامة أو يوجه إليهم سباب، ولكنه هو بما وهبته صنعته وصنعة أبيه وبما احتقره الناس جميعا في مأمن كل مأمن أن يستطيع أحد النيل من كرامته؛ فلا كرامة له حتى تنال، أو الغض من شأنه؛ فلا شأن له حتى يغض منه إنسان.
ذهب إلى مقهى وجلس إليه، ولاحظ أن الباب المجاور للمقهى مفتوح على مصراعيه يلفظ الناس ويبتلعهم، لا يمل؛ فهو في حركة دائبة وفي شغل شاغل. ترك كرسيه ونظر إلى اللافتة المعلقة بجانب الباب «مجلة الفنون والسياسة». تقدم إلى رجل جالس على دكة بجانب الباب: ألا تحتاجون لعمال؟ - أي نوع من العمال؟ - أي نوع تريد؟ - هل تجمع الحروف؟ - أتعلم. - ومن سينتظرك حتى تتعلم؟ - أنا خدام نعليك. أي شغلة وأجرك عند الله. - تسمع الكلام. - قبل أن تقوله. - تعمل قاهيا؟ - وأقل من ذلك نعمة. - تعرف كيف تعمل القهوة؟ - والشاي. - ادخل.
Halaman tidak diketahui