فأدركت غرضه وقالت: «لا يطول بقائي هنا إلا ريثما تنقضي عدة الحداد، ثم أسافر إلى بغداد؛ فإني لم أعد أطيق البقاء في هذا البلد بعد وفاة أبي، وقد أصبحت رغم ما ألقاه من مؤانسة الفرغانيين ومحبتهم أشعر بأني غريبة بينهم، ولا سيما بعد أن تسافر.»
وكان سامان يسمع ما يدور بينهما ولا يشعر؛ لأن قلب الأجرود مغلق لا نافذة فيه ولا سبيل للحب إليه، ولكنه رأى من الحكمة أن يجاريهما فلما سمع كلام أخته قال: «إن جهان ولا شك مشتاقة إلى رؤية والدتك في بغداد، فهي صديقتها وكانت تحبها وتأنس بها.»
فالتفتت جهان إلى أخيها لفتة تأنيب وقالت: «أنا لا أحب غير الصراحة ، لكأنك تظنني أخشى التصريح بحبي ضرغاما، على أني لا أرى في الحب عارا، ولو مد أورمزد في أجل أبي عاما آخر لانتهى الأمر على ما تمنيناه. فماذا ترى أنت؟»
فقال سامان: «لا أرى بأسا بحبك ضرغاما؛ إنه أهل لذلك، ولو لم تسبقيني إلى حبه لسبقتك أنا إليه. لولا أنه لا يرضى بهذا البدل!»
فراقها مزاح أخيها، على ما في قلبه من الغيظ منذ سمع الوصية. ولكنها كانت تعرف فيه الكظم والدهاء والحقد. فلما سمعت مزاحه نظرت إليه شذرا في غير غضب، ثم وجهت كلامها إلى ضرغام قائلة: «إن سفرك يسوءني، ولكنه واجب، ولا يمضي إلا القليل حتى ألحق بك.» فقطع سامان كلامها قائلا: «وأنا أكون في خدمتها حتى أصل بها إليك، أو إلى والدتك.»
فأتمت كلامها قائلة: «ولا تظن شيئا من حطام الدنيا يحول بيني وبينك وقد أكتب إليك قبل سفري.» قالت ذلك وهي تشعر بما يهددها من التعب ولكنها كانت كثيرة التعويل على نفسها كبيرة الثقة بتدبيرها. أما ضرغام فكان يخشى أن تمنعه من السفر وهو راغب فيه تحقيقا لآماله، فلما رآها تدعوه إليه زهد فيه وآثر البقاء، فسكت وهو لا يعلم بماذا يجيب، فأدركت تردده فقالت: «إن بقاءك معي أكبر أسباب سعادتي، ولكن القائد الباسل ليس من شأنه إلا أن يلبي الدعوة، فما بالك وهي موجهة إليه من الخليفة مالك رقاب الناس؟!»
وقال له سامان: «كن مطمئنا فإني في خدمتها حتى تصل إليك سالمة.»
ولم يكن ضرغام ممن يتخلفون عن أداء الواجب، ولكنه ظن أن في سفره وحده ما يسوء جهان؛ لأنها لا تستطيع مصاحبته قبل انتهاء أيام الحداد، فلما رآها ترغبه في السفر سري عنه فقال: «إذا كان هذا ما تريدين فأنا طوع أمرك، وغدا أسافر إن شاء الله.»
وأحس سامان بثقل وجوده في تلك الساعة، فنهض بحجة أن لديه أمورا خاصة لا بد من ذهابه لإنجازها ثم يعود، فقالت له جهان: «لا تطل غيابك كعادتك فقد تغيرت الأحوال الآن وأصبح وجودك في القصر ضروريا.»
فأشار مطيعا وخرج مسرعا يتعثر بأذيال قبائه. أما ضرغام فلما رأى نفسه في خلوة مع جهان شعر كأنه في عالم غير هذا العالم، ونسي السفر والحرب والرتب والألقاب، وتمنى لو تتحول تلك الساعة إلى دهر أو تمتد إلى الأبد، لا يلتمس معها طعاما ولا شرابا ولا ثراء، كأنه تجرد عن المادة ورأى في تقارب روحيهما معنى لا يشوبه شيء مما يفتقر إليه البدن أو تجر إليه الشهوات. والحب تجاذب بين الأرواح لا يفسده أو يضعفه غير الجسد بشهواته وميوله؛ ولذلك لا يبرح قويا ما دام عذريا. فمن رغب في بقاء الحب فلينزهه عن شهوة الجسد. فإذا بادل المحب حبيبته حبا بحب أتته السعادة صاغرة وأنبأ الملأ الذين عجزوا عن تمثيل النعيم أنه استمتاع الأرواح بالحب الطاهر المنزه عن أغراض الجسد - وقد يعد الناس هذا الحب خيالا شعريا، ولكن ما أدرانا أن هذا الخيال لا يكون حقيقة في وقت من الأوقات.
Halaman tidak diketahui