سارت العربة محدثة ضجيجا مرورا بالألواح الخشبية لجسر جالاتا، ثم استدارت يسارا عند البازار المصري مفرقة حشدا من الحمام مقيما تحت القباب الخارجية للمسجد الجديد. ومن الناحية الأخرى، استطاعت إلينورا أن ترى برج جالاتا وهو ينحني فوق المدينة كما لو كان أصبعا منذرا. وها هي بيشكطاش تستلقي في كسل على الشاطئ: المرفأ ومسجد بيشكطاش والمنازل التي تطل على الماء، وقد استطاعت أن تحدد من بينها بسهولة الواجهة الصفراء لمنزل البك. انحنت مقتربة من نافذة العربة حتى لمست حافة أنفها الزجاج؛ هناك في الطابق الثاني عند الفتحة الثالثة إلى اليسار تقع النافذة البارزة التي قضت خلفها العديد من الأمسيات وهي تقرأ وتشاهد مرور السفن وتتخيل حياة الناس على الجانب الآخر من المياه. ولكن إلينورا لن تعلم أبدا ما إذا كان أحد السكان في الجانب الآخر من المضيق، سواء باعة السمك أو خادمة تبتاع الكركم من سوق التوابل أو صاحب متجر تقي يتوضأ في النافورة العامة التي تقع خارج المسجد الجديد، قد نظر وفكر في حياتها. «هل أنت على دراية كافية بأصول وقواعد البلاط الملكي؟»
فقالت وهي ترفع ذقنها للأمام: «كلا.»
فتنحنح الرسول قليلا وارتسم على وجهه تعبير شديد الجدية. «في بلاط السلطان ثمة قواعد محددة عليك اتباعها. لقد كتبت كتب كاملة في هذا الموضوع، وللأسف لا وقت لدينا الآن لتوضيح ذلك.»
فهزت إلينورا رأسها. «أهم ثلاث قواعد عليك أن تتذكريها هي؛ أولا: الانحناء فور دخول غرفة المقابلات، وعندما تنحنين يجب أن تلمس جبهتك الأرض.»
لمست جبهتها بإبهامها كي توضح أنها فهمت الأمر. «ثانيا: عليك دائما أن تخاطبي السلطان إذا خاطبته بلقب فخامة السلطان.»
فرددت: «فخامته.»
فصحح لها قائلا: «بل فخامتك . عندما تخاطبين السلطان تطلقين عليه فخامتك، أما إذا كنت تحدثين عنه شخصا آخر، وهو ما يجب ألا تقومي به، فسوف تطلقين عليه فخامته.» «فخامتك.» «ثالثا: يجب أن تتذكري دائما أن تواجهي السلطان، مهما يكن من يتحدث إليك فلا تديري ظهرك للسلطان.»
كررت إلينورا القواعد الثلاث لنفسها. «تلك هي الأساسيات الثلاثة في البلاط الملكي. وثمة الكثير من القواعد الأخرى، فعلى سبيل المثال عليك ألا تعارضي السلطان أبدا، وألا تقاطعي فخامته أثناء تحدثه، وألا تقدمي له النصيحة ما لم تطلب منك صراحة. ولكننا لا نملك وقتا لتوضيح تلك القواعد.»
وهنا انعطفت العربة إلى شارع منحدر ملتو مقحم وسط المحلات، مكتظ بموكب مترب من المستجدين السائلين. أبطأت الجياد وهي تمر عبر الحشود - غطاء الرأس المجعد الأبيض الخاص بالبدو، والسكاكين القوقازية المعلقة في أحزمة زاهية مزركشة، والأوشمة الهندسية على ذقون النساء البربريات وجبهاتهن - الكل صاعد التل نحو القصر محدثا الكثير من الضوضاء. كانت بوابة السلام معلما جديرا بالمشاهدة في حد ذاته؛ حيث يعلوها سقف أخضر مكسو بالخشب على هيئة موجة، ويحرسها ستة من الحراس؛ اثنان منهم كي يفتحا البوابة، وأربعة كي يمنعوا الزائرين من الدخول. وأمام الحشود لاحظت إلينورا فلاحا مسنا يرتدي طربوشا أحمر اللون مهترئا، ويحمل خروفا تحت ذراعه ويلوح بعصاه في الهواء مرددا إحدى الكلمات مرارا وتكرارا، كما لو كان التكرار سوف يصلح من أي خطأ قد ارتكب من قبل.
تساءلت إلينورا وهما يترجلان من العربة: «ماذا يريد؟»
Halaman tidak diketahui