استنشقت إلينورا الهواء الراكد، ثم عبرت الردهة وصعدت الدرج الخشبي. كانت تصدر صريرا مع كل خطوة، فتشبثت بالدرابزين طلبا للدعم. وفي أعلى الدرج وجدت بابا غير مزخرف مصنوعا من خشب الأرز، وحاولت أن تدير المقبض، فدار في يدها بيسر كاشفا عن رواق مظلم يمتد مستقيما في الاتجاه المعاكس لجوف الحائط. ولم تستطع إلينورا أن ترى من مكانها سوى غمامة من التراب ومجموعة من الفئران تعدو عبر العتبات. مسحت يدها في عباءتها من الأمام، وأخذت بضع خطوات حذرة في الرواق، واستطاعت أن تتبين بقعة من الضوء على بعد. وضعت ذراعيها أمام وجهها، وتوجهت نحو الضوء منحنية أسفل الأشعة، وأخذت تتوقف كل بضع خطوات كي تزيل خيوط العنكبوت عن شعرها.
اكتشفت أن الضوء يتدفق في الأروقة عبر حاجز شبكي يشبه ذلك الذي رأته على نافذة عربة البك. وضعت رأسها عند الحاجز، فشاهدت أسفل منها أرفف الكتب ومجسمات الكرة الأرضية وموائد القراءة بالمكتبة، كما لو كانت تشاهد مسرحا، ووضعت يدها على قلبها الذي خفق بشدة بين ضلوعها. كما علمت لاحقا، فإن تلك الأروقة أمر مألوف في إسطنبول، وهي مصممة كي تتمكن سيدات المنزل من مشاهدة المناسبات الاجتماعية دون أن يعرضن شرفهن للخطر، وهي مبنية في معظم القصور العتيقة الضخمة بامتداد البوسفور. ولكن عندما اكتشفت إلينورا تلك الأروقة للمرة الأولى، كانت كمن وجدت الباب السحري لعالم آخر، أو صندوقها الخاص الذي يمكنها من خلاله مراقبة كل غرفة في المنزل.
ربما كانت ستعود أدراجها لو لم تشعر عندئذ بتيار من الهواء البارد يخترق الظلام. مرت بمفاصل أصابعها على الألواح الخشبية المكشوفة التي تغطي حوائط الرواق، وواصلت تقدمها نحو مصدر الهواء. عبرت فوق غرفة الطعام وغرفة الانتظار؛ حيث رأت خيال السيدة داماكان يختفي في جناح الخدم. وفي زاوية المنزل بجوار ما قدرت أنه موضع غرفتها، انحنى الرواق انحناءة حادة وانفصل في اتجاه المطبخ. ومن هذا التقاطع وجدت سلما خشبيا ضيقا يقود لأسفل. لم تكن إلينورا على يقين من ذلك، ولكن بدا كما لو كان الهواء يأتي من أسفل الدرج.
أمسكت بالدرابزين بيدها الخالية، واتخذت طريقها بحذر أسفل الدرج إلى غرفة ذات باب حديدي صغير مثبت في الحائط. لم يكن ارتفاع الباب أطول منها كثيرا، ولم يزد عرضه عنها سوى ضعف واحد، وكان يعلوه الصدأ البرتقالي حول الأقفال، وتتجمد فوقه طبقة من الرطوبة المختلطة بالغبار. كان ملمسه دافئا، وبدا كما لو أنه لم يفتح منذ فترة طويلة. وجدت أن مصدر الهواء شق بين إطار الباب وخشب المنزل، ناتج عن استقرار المنزل في أساسه. كان ثمة شعاع ضئيل من ضوء النهار يتسلل عبر الشق، ورائحة التبن تملأ المكان حولها. نظرت إلينورا خلفها ثم قرعت منتصف الباب، فأصدر صوتا عميقا أجوف كما لو كان جرسا كبيرا. وضعت أذنها على الباب، ولكن فيما عدا صدى قرع الباب فإنها لم تسمع أي شيء. وقفت إلينورا فترة طويلة واضعة يدها على مقبض الباب قبل أن تقرر ألا تغامر، وأخبرت نفسها وهي تهرول صاعدة الدرج وتتتبع خطواتها عبر الرواق، بأن ذلك الاستكشاف يكفي ليوم واحد، ذلك الاستكشاف أكثر من كاف بالنسبة إلى يوم واحد.
الفصل الثالث عشر
تسلل فصل الصيف إلى إسطنبول تحت غطاء أمطار منتصف النهار، واتخذ مستقرا له بالقرب من قواعد جسر جالاتا، ثم اندفع في المدينة ككلب ضال. ظل الفصل الجديد يدخل الممرات الضيقة ويخرج منها، وأعلن عن نفسه بوضوح في عناد ذبابة الفاكهة وهي تحوم حول جبل من ثمار التين، وفي نبرة المؤذن ذات الثقة المتزايدة، وفي حدة الطبع المتزايدة لأصحاب المتاجر في السوق التجارية. تفتحت براعم الأشجار وأزهرت وأثمرت، بينما امتلأ المضيق بالطيور المهاجرة، واحتشدت موجة تلو الأخرى من الصقور واللقالق وطيور السنونو وغربان البحر في أسراب فوق البوسفور في طريقها إلى أماكن التكاثر في أوروبا. كان بوسع المرء أن يتبين قدوم الصيف في رائحة شراب الكرز الدبق والحمام المشوي وثمار السفرجل الفاسدة. كما لو كان جلدا مدبوغا حديثا يتم شده أكثر فأكثر، كان كل نهار يزداد طولا عن النهار السابق بفارق ضئيل، وكل صباح يأتي مبكرا أكثر، ووطيس الشمس يصير أقوى.
حدقت إلينورا إلى تلك الممرات المائية البطيئة في تدفقها، فشاهدت مجموعة من الصقور التي يعلو رقبتها ريش أبيض تمتطي عصفات غير مرئية من الهواء الدافئ كما لو كانت مطبات في الطريق. ورأت هجمة من الحدآن السوداء في الاتجاه بين قباب مسجد السليمانية، وحصارا من طيور البلشون ذات الأعناق الشبيهة بالثعبان، التي تبسط أجنحتها على مداها كقوارب التجديف بالأسفل. كانت قد اكتشفت في ذلك الصباح في المواضع الخلفية من مكتبة البك نسخة مغلفة بجلد العجل من كتاب «عن التاريخ الطبيعي وتصنيف الطيور» لويليام سوينسون. وعندما طابقت صور الكتاب بما رأته خارج النافذة، تمكنت من التعرف على الصقور والحدآن وطيور البلشون، بالإضافة إلى مجموعة من النسور ذات الذيول البيضاء، وصقر شاهين وحيد يحمل طائرا بحريا في مخالبه.
بينما هدأت الشمس وانحدرت وسط الأشجار خلف أوسكادار، لمحت إلينورا وميضا أرجوانيا بطرف عينها، وحط هدهد أرجواني اللون ذو تاج من الريش المخطط بالأبيض على حافة نافذتها. أمال الطائر رأسه إلى اليسار كما لو كان يشير إلى نقطة مهمة، وراقبت سربها وهو يظهر حول انحناء القرن الذهبي. وبينما كانت أفراد السرب تتوجه نحوها وهي تحلق وتنطلق عبر السماء التي يراوح لونها بين البرتقالي والرمادي، شعرت إلينورا بشيء ينهار داخلها، كما لو كان تيارا جليديا يتحطم. وعندما فتحت النافذة، حلق المستكشف كي ينضم إلى إخوته.
دفعت إلينورا خصلة من شعرها بعيدا عن عينيها، واستندت بمرفقيها إلى حافة النافذة، وراقبت الغسق وهو ينتشر أسفل منها. كانت المدينة ذلك المساء مشحونة بالطاقة التي تنبعث من هدف جديد؛ فبدلا من أن تهدأ حركة السفن مع غروب الشمس - كما تفعل غالبا - بدا أنها تزيد، وبدا المسافرون متلهفين على الوصول إلى وجهتهم، ولاحظت فريقا من الرجال يعلقون المصابيح بين مآذن المسجد الجديد، ورست سلسلة من الزوارق البخارية بامتداد بيشكطاش بير. وعندما لمست الشمس قاع الأفق كانت المدينة قد أصبحت خالية، وتوقفت حركة السفن في البوسفور، وخلت الطرق من العربات. صمت الباعة الجائلون، ولم تسمع صوتا سوى ثغاء خروف مقيد خارج مسجد بيشكطاش. وعندما هرب آخر ضوء للنهار أسفل منحنى الأفق فور اختفاء الشمس، انطلق صوت مدفع بالقرب من قصر توب كابي. سقطت إلينورا على الأرض خائفة، وغطت رأسها بيديها وهي تقاوم أسفل مكتبها. فإذا كان ثمة المزيد من المدافع أو ثمة حرب، فهي ترغب في الشعور بأقصى قدر من الأمان.
كانت في نفس الوضع عندما أتى السيد كروم إلى غرفتها حاملا العشاء.
Halaman tidak diketahui