كان يوما شتويا مضيئا، باردا، ولكن في الوقت نفسه لطيفا. اختلطت رائحة الفحم المحترق بالصنوبر، ودب النشاط في أرصفة الميناء، وأخذ جمهرة من عمال السفن يحملون على ظهورهم الحقائب من عربات الركاب إلى بدن السفينة. وكان ثمة عدد قليل من لحظات الوداع الباكية، وسائق عربة ركاب يلوح بذراعيه غاضبا على الأرجح بسبب أجرة التوصيل الزهيدة التي تلقاها. وخلف أرصفة الميناء اصطفت كونستانتسا بين قمة تلين، وتجمعت بضع مئات من المنازل الرمادية الحجرية في نصف دائرة حول إحدى ساحات المدينة غير المميزة. أخذ جيمس نفسا عميقا، وأخرج سيجارة من جيب معطفه وأشعلها بحركة مسرحية متباهية. لا تبدو كونستانتسا مكانا رهيبا للعيش بالنسبة إلى من لا يعرف أفضل منها؛ فالمناخ لطيف بقدر كاف، وقد لعبت - حسبما يذكر - دورا ذا أهمية في سقوط الإمبراطورية الرومانية. أخذ نفسا عميقا ونفض الرماد قبل أن يتذكر ذلك الدور: لقد قضى أوفيد أعوامه الأخيرة البائسة في كونستانتسا التي كانت تعرف وقتها باسم توميس، أو كما أطلق عليها «آخر منطقة نائية في نهاية العالم»، ولا بد أنها بدت هكذا لتلك الروح العذبة الذكية في المنفى.
عندما فرغ الكاهن مولر من السيجارة، لاحظ طائرا غريبا حط بالقرب منه على السياج. بدا هذا الطائر كما لو كان هدهدا، رغم أنه لم يشهد مثيلا له في ألوانه من قبل، فهو ذو لون أرجواني فاتح مخطط بخطوط ناصعة البياض على الأجنحة والصدر. وعلى الرغم من أن الهداهد عموما تميل إلى تجنب التواصل مع الإنسان، فإن ذلك الهدهد ظل محدقا بقوة غير عادية كما لو كان يطلب شيئا. وبادله الرجل النظر، مركزا على الرقعة الأرجوانية التي تقع فوق منقاره المدبب الرقيق مباشرة. وبعد مرور بضع لحظات، حلق الطائر منضما إلى اثنين من رفاقه، وجثم ثلاثتهم فوق المقعد العلوي لعربة ركاب في انتظار إفراغ حمولتها. ألقى جيمس بعقب السيجارة في الميناء، وانحنى على السياج الخشبي يشاهد عمال السفن وهم يفرغون العربة من حمولتها من الأمتعة بينما يراقبهم رجل ممتلئ البنية ذو لحية سوداء كثيفة. لا شك أن الرجل تاجر، ويبدو أنه يهودي. ربما كان هو السيد يعقوب كوهين، أو ربما يكون مجرد يهودي آخر. وعندما تم تخزين الصندوق الأخير بسلام في بدن السفينة، اعتلى الرجل الملتحي متن السفينة، وحلقت الهداهد أعلى التل.
انتابت جسد الكاهن مولر قشعريرة وهو يعتدل، فجذب معطفه حول جسده. وكان قد رحل عن إسطنبول فصلا دراسيا كاملا، ولا بد أن لديه الكثير من الأعمال في انتظاره لدى عودته، فسوف يبدأ الفصل الدراسي الجديد بعد عودته بأربعة أيام فقط، وثمة ثلاثة معلمين جدد في المدرسة الثانوية، وعليه أن يكتب خطابا لحفل توزيع الشهادات. وبالإضافة إلى مسئولياته في كلية روبرت، لديه مقال مطلوب منه في «سجلات التعليم»، ونائب القنصل الأمريكي يتلهف على استلام تقريره عن حالة الأقليات الدينية في ظل النظام الخانع الجديد. وعلاوة على هذا كله، كان مصدر إحباط للمسئولين عنه في وزارة الحربية؛ حيث مرت بضع سنين وهو لم يتمكن بعد من كشف أي معلومات استخباراتية فيما يخص النفوذ الألماني في إسطنبول. وكانت تلك المهمة الأخيرة أقصى ما يشعره بالقلق. كان على دراية بكتابة التقارير، وتدريب المعلمين الجدد، وتحرير مقالات للنشر، ولكن لم تكن لديه فكرة عن كيفية جمع المعلومات. لم يكن جاسوسا، أو على الأقل لم يتلق أي تدريب رسمي في هذا المجال، ولم يكن النجاح الذي أحرزه في بيروت سوى نتاج حظ مثلما يعترف هو شخصيا، ولكن الأشخاص الرفيعي المستوى في الوزارة قد اعتبروا صراحته تواضعا، وهكذا أصبح في هذا الموقف.
أشعل سيجارته الثانية، وأخذته أفكاره بعيدا نحو نيران يالطا الدافئة، وممراتها ذات الرياح العاصفة، والواجهة الحزينة للمنازل الصيفية الخالية. كانت يالطا المكان المثالي الذي يقصده للراحة من متاعب إسطنبول، بعيدا عن أحزابها، بعيدا عن خداعها ومكائدها، ولكنه كان يعلم طوال الوقت أن عليه العودة. أسند سيجارته على السياج، وأخذ ينظر بلا مبالاة إلى مجموعة من الركاب الجدد وهم يركبون السفينة، ووسط موجة من المناديل الملوحة بالوداع نفثت السفينة دخانها راحلة من المرفأ. وبدأ يشعر بالندم لعدم اختياره الرحلة المباشرة من سيفاستوبول إلى إسطنبول، فتلك السفينة البخارية المحلية تتوقف على الأقل مرة يوميا، وأهم من ذلك أنه لم يكن على متنها من يمكن إجراء حوار هادف معه. أدرك هذا الصباح أنه سوف يقضي ليلة رأس السنة في السفينة؛ ذلك لأنه لا أحد على متن السفينة يتبع التقويم الغربي. أرغم جيمس نفسه على الابتسام وهو يتذكر شعار والدته المفضل: «لا يمكننا إلا أن نستفيد قدر ما نستطيع من الموقف الذي يضعنا الله فيه.» ربت على جيبه العلوي مودعا من تبقى على رصيف الميناء وداعا حارا، وإن كان تهكميا بعض الشيء، ثم هبط إلى سطح المركب كي يقابل رفيقه الجديد في الغرفة.
كان رفيقه الجديد - حسبما اتضح - هو السيد يعقوب كوهين، نفس الشخص الملتحي الممتلئ البنية الذي لاحظه الكاهن مولر وهو على ظهر السفينة. وعند دخول غرفتهما المشتركة، وجد الرجل يفرغ محتويات حقيبة سفر بالية. «أهلا بك.»
استدار السيد كوهين ومد يده. «السيد مولر؟»
أجاب الكاهن كعادته عندما يتجاهل الناس لقبه: «يمكنك أن تدعوني جيمس، أو الكاهن مولر إذا سمحت.»
فقال: «وأنا يعقوب كوهين.» ثم تصافحا، وأردف قائلا: «في طريقي إلى إسطنبول.»
فابتسم جيمس قائلا: «حسنا، أؤكد لك أنك في السفينة المناسبة.»
كان السيد كوهين يتحدث الإنجليزية بصورة مقبولة، بالإضافة إلى بعض الفرنسية ومعرفة سطحية بالروسية. وبعد أن حاولا التفاهم بتلك اللغات بالإضافة إلى بعض اللغات الأخرى، استقرا على التركية وسيلة للتواصل بينهما. وبينما كان رفيقه في الغرفة يفرغ أمتعته، جلس جيمس أمام المائدة في زاوية الغرفة، وأخذا يتحدثان بحرية عن الرحلة. ومثلما توقع جيمس، كان السيد كوهين يزور إسطنبول في رحلة عمل؛ حيث كان يعمل على وجه التحديد في تجارة المنسوجات، وينوي تصفية بعض المخزون الزائد. ورغم أن كونستانتسا لم تعد تحت السيطرة السياسية للدولة العثمانية، فما زال لإسطنبول تأثير اقتصادي على المنطقة. وأوضح السيد كوهين أن التأثير الأكبر كان في تجارة المنسوجات على وجه الخصوص، فرغم أن أهل كونستانتسا وروسيا يقدرون السجاد الشرقي، كما هو الحال في كل أنحاء أوروبا، فإن بعض الأنواع الأكثر تميزا كانت أسهل في البيع في إسطنبول، أو هكذا كان يأمل.
Halaman tidak diketahui