الإهداء
كلمة
مقدمة
1 - مذهب التكذيب
2 - بوبر والتحليل النفسي1
3 - النفس ودماغها
4 - المجتمع المفتوح وأعداؤه
تذييل
5 - نظرة نقدية
6 - موجز لكارل بوبر
خاتمة
ثبت المراجع التي وردت بالكتاب
كتب للمؤلف
الإهداء
كلمة
مقدمة
1 - مذهب التكذيب
2 - بوبر والتحليل النفسي1
3 - النفس ودماغها
4 - المجتمع المفتوح وأعداؤه
تذييل
5 - نظرة نقدية
6 - موجز لكارل بوبر
خاتمة
ثبت المراجع التي وردت بالكتاب
كتب للمؤلف
كارل بوبر
كارل بوبر
مائة عام من التنوير
تأليف
عادل مصطفى
الإهداء
إلى العقل الثري والقلم المغير؛
أ.د. عبد السلام بن عبد العالي،
الذي نقرؤه ونعرفه ... ونراه أملا من البعيد،
وشروقا من المغرب.
عادل مصطفى
كلمة
«من دأب الفهم البشري عندما يتبنى رأيا (سواء لأنه الرأي السائد، أو لأنه يروقه ويسره)، أن يقسر كل شيء عداه على أن يؤيده ويتفق معه، ورغم أنه قد تكون هناك شواهد أكثر عددا وثقلا تقف على النقيض من هذا الرأي، فإنه إما أن يهمل هذه الشواهد السلبية ويستخف بها، وإما أن يختلق تفرقة تسول له أن يزيحها وينبذها، لكي يخلص، بواسطة هذا التقدير السبقي المسيطر والموبق، إلى أن استنتاجاته الأولى ما زالت سليمة ونافذة؛ ولذا فقد كان جوابا وجيها، ذلك الذي بدر من رجل أطلعوه على صورة معلقة بالمعبد لأناس دفعوا نذورهم ومن ثم نجوا من حطام سفينة، عساه أن يعترف الآن بقدرة الآلهة، فما كان جوابه إلا أن قال: «حسنا، ولكن أين صور أولئك الذين غرقوا بعد دفع النذور؟!»
وهكذا سبيل الخرافة، سواء في التنجيم أو في تفسير الأحلام أو الفأل أو ما شابه، حيث نجد الناس، وقد استهوتهم هذه الضلالات، يلتفتون إلى الأحداث التي تتفق معها، أما الأحداث التي لا تتفق، رغم أنها الأكثر والأغلب، فيغفلونها ويغضون عنها الطرف.
على أن هذا الأذى يتسلل بطريقة أشد خفاء ودقة إلى داخل الفلسفة والعلوم، حيث يفرض الحكم الأول لونه على ما يأتي بعده، ويحمله على الإذعان له والانسجام معه، ولو كان الجديد أفضل وأصوب بما لا يقاس، وفضلا عن هذا، وبغض النظر عن ذلك الهوى والضلال الذي ذكرت، فإن من الأخطاء التي تسم الفكر الإنساني في كل زمان أنه مغرم ومولع بالشواهد الموجبة أكثر من الشواهد السالبة، حيث ينبغي عليه أن يقف من الاثنين على حياد، والحق أنه في عملية البرهنة على أي مبدأ صحيح يكون المثال السلبي هو أقوى المثالين وأكثرهما وجاهة وفعالية.»
فرنسيس بيكون
الأورجانون الجديد: الكتاب الأول، شذرة 46
مقدمة
باختصار، ليس العلم شيئا أكثر من منهجه، ومنهجه ليس شيئا أكثر مما قاله كارل بوبر.
سير هيرمان بوندي
يعد كارل بوبر واحدا من أهم فلاسفة العلم في القرن العشرين، إن لم يكن أهمهم على الإطلاق، ويعد فضلا عن ذلك واحدا من أهم فلاسفة السياسة والاجتماع، ونصيرا مخلصا للديمقراطية، وداعية للمجتمع المفتوح، وخصما عنيدا لأعدائه على اختلاف مشاربهم، وللشمولية في جميع صورها وتجلياتها.
آمن بوبر بقيمة العقل ودوره وقدرته، وتبنى «النقد» منهجا لعمل العقل وتقدم المعرفة، وناهض كل نزعة «ارتيابية» أو «اصطلاحية» أو «نسبية» في العلم وفي الشئون البشرية بعامة، ورد إلى الفلسفة مكانتها الرفيعة ومشروعها الطموح، بعد أن انقلبت على نفسها زمنا وكادت تتحول على يد الوضعيين المناطقة وفلاسفة التحليل اللغوي إلى تابع ذليل للعلم، وضيف ثقيل على مائدة العلماء.
ولأول مرة في تاريخ العلم الحديث، وبشكل غير مسبوق في تاريخ الممارسة العلمية، صرنا نرى كبار العلماء وأفذاذهم يتدافعون إلى مائدة أحد الفلاسفة ويتسابقون على التهام أعماله واستلهامها، ويفيدون من مناهجه واستبصاراته في نشاطهم الفعلي، ويدينون له بالفضل فيما ظفروا به من نجاح وفيما حققوه من كشوف، ولأول مرة في تاريخ السياسة الحديثة صرنا نرى أمما عريقة، كالصين،
1
تأخذ بمنهج أحد الفلاسفة في تصحيح مسارها الاقتصادي، فتكتشف ذاتها الحقيقية، وتنشط من عقالها، وتنطلق انطلاق مارد من قمقمه، وصرنا نرى أمما مجهدة مثل دول أوروبا الشرقية، تدرس فكره السياسي في معاهدها، وتشرع في تطبيقه في بدايات بروزها من وراء الستار الحديدي،
2
وصرنا نرى أمما مزدهرة كاليابان تؤسس رابطة بوبرية لنشر فكره وتطويره من خلال نشرات ودوريات وبرامج تعليمية.
إنه صورة مضيئة لثراء الفكر، ومثال حي لخصوبة الفلسفة.
وأول ما يسترعي النظر في شخصية بوبر الفكرية هو موسوعيته وتعدد جوانبه واتساع مجال اهتمامه ونطاق تأثيره، على أن هناك وحدة جوهرية في رؤيته ومنهجه تجعل من إسهاماته، على تباعدها وتراميها، كلا واحدا منسجما يأخذ بعضه بحجز بعض، وقد درج الباحثون على تناول أعماله الإبستمولوجية والعلمية والاجتماعية كما لو كانت عناصر منفصلة لا يجمع بينها شيء ولا تتصل فيما بينها بسبب، وقد كان لهم في تعدد إنتاجه وغزارة مادته عذر واضح، غير أن هذه الطريقة في معالجة أعمال كارل بوبر جديرة أن تضيع هذا الخيط الواصل بين جميع عناصرها، وجديرة من ثم أن تفلت من أيدينا أهم عمل من أعمال بوبر على الإطلاق - ذلك الترابط الكلي الوثيق، وتلك الوحدة المنهجية الأصيلة.
الفلسفة عند بوبر ليست ترفا ذهنيا أو لعبا عقليا - الفلسفة نشاط ضروري، ذلك أننا جميعا نضمر في عقولنا ما لا يحصى من الأشياء، ونسلم بها تسليما، وكثير من هذه الافتراضات هو ذو طبيعة فلسفية، إننا نتصرف وفقا لها في حياتنا الخاصة، وفي مجال السياسة، وفي مجال العمل، وفي كل مجال آخر من حياتنا، ولكن على حين تعد بعض هذه الافتراضات حقا لا شك فيه، فمن الراجح أن أكثرها زائف، وأن بعضها مؤذ، من ذلك ينتج أن الفحص النقدي لأفكارنا المسبقة - أي النشاط الفلسفي - هو عمل هام من الوجهة الفكرية والأخلاقية أيضا.
ولد كارل ريموند بوبر
K. R. Popper
في الثامن والعشرين من يوليو عام 1902م، في مدينة فينا، التي كانت في ذلك الوقت عاصمة للثقافة في العالم الغربي، انحدر أبواه من أصل يهودي، غير أنهما تحولا إلى البروتستانتية اللوثرية قبل أن ينجبا أطفالهما. نشأ بوبر في مناخ منزلي مفعم بالثقافة معمور بالكتب، فقد كان أبوه حائزا على درجة الدكتوراه في القانون من جامعة فينا، وكان إلى جانب ممارسة المحاماة أستاذا وباحثا، أتاح هذا المناخ للصبي كارل فرصة التعرف المبكر على المسائل الفلسفية والعلمية والسياسية، والنهل من ينابيع الفكر والثقافة. وقد كان الأب فيما يبدو حريصا على تنشئة ولده على حب المعرفة، وحفزه على قراءة أمهات الكتب الفلسفية، ومناقشته في مشكلات الفلسفة وتجريداتها المعقدة منذ نعومة أظفاره.
أما والدته فقد كانت عاشقة للموسيقى، وتنحدر من عائلة تشكل الموسيقى اهتمامها الأول،
3
وقد غرست الأم في صغيرها هذا الحب، حتى إنه كان يفكر بجدية في أن يتخصص في الموسيقى ويهبها عمره، بل اختار بالفعل تاريخ الموسيقى كموضوع ثان في امتحان الدكتوراه، وقد بقي مشغوفا بالموسيقى طيلة حياته، يعزف البيانو ويختلف إلى قاعات الموسيقى الكلاسيكية، وله تأملات طويلة في الموسيقى منبثة في كتاباته، وهو يدين بالفضل للموسيقى الغربية البوليفونية (المتعددة النغم) في إلهامه بالكثير من أفكاره المحورية، ويرى أنها كانت قوة دافعة له في تطوره الفكري، وقد تمثل ذلك في تفسيره المبكر للعلاقة بين الفكر الدوجماطيقي والفكر النقدي، وفي شرحه للفارق بين الموضوعية والذاتية، وتمثل بصورة خاصة في تنامي عدائه لكل صور المذهب التاريخي (التاريخانية)
Historicism ، بما فيها الأفكار التاريخانية حول طبيعة «التقدمي» في الموسيقى.
وفي عام 1919م انخرط بوبر بشدة في النشاط السياسي اليساري، وانضم إلى «رابطة الطلاب الاشتراكيين»، وأصبح ماركسيا متحمسا فترة من الوقت، غير أنه سرعان ما خاب ظنه في الماركسية، وانكشف له طابعها النظري، فتركها إلى غير رجعة. وقد تعرف أيضا بنظريات التحليل النفسي لكل من فرويد وأدلر (الذي انخرط بوبر تحت إشرافه في العمل الاجتماعي من أجل الأطفال المحرومين والأيتام). وحدث ذات يوم أنه استمع منتشيا إلى محاضرة لأينشتين في فينا عن النظرية النسبية، كانت ملاحظته لتلك الروح النقدية السائدة في أينشتين والغائبة في ماركس وأدلر وفرويد هي الحدث الكبير الذي أيقظه من سباته وقدح زناد فكره، وأوحى إليه بفكرة «التمييز»
Demarcation
بين العلم واللاعلم، والتي شكلت النقطة المحورية في مذهبه الفلسفي بأسره.
4
لم تكن حياة بوبر في مرحلة اليفاع منعمة كما كانت في زمن الطفولة، فقد خسر والده كل مدخراته في التضخم المالي الذي تفاقم بعد الحرب العالمية الأولى، وأصر بوبر على ترك منزل والديه حتى يخفف عنهما عبء المعيشة، وعمل في مهن متواضعة ليعول نفسه ويتم دراسته، وفي عام 1925م حصل على إجازة للتدريس في المدارس الابتدائية ، وفي عام 1928م حصل على دكتوراه الفلسفة، وفي عام 1929م حصل على إجازة لتدريس الرياضيات والفيزياء بالمدارس الثانوية.
كان التيار الفلسفي السائد في فينا في ذلك الوقت تمثله جماعة من المفكرين ذوي التوجه العلمي الذين «تحلقوا» حول شخصية موريتس شليك
M. Schlick
ضمت هذه الجماعة شخصيات مثل رودلف كارنب، وأوتو نويرات، وفكتور كرافت، وهانز هان، وهربرت فايجل، وجعلت غايتها توحيد العلوم، الأمر الذي استلزم في زعمهم إقصاء الميتافيزيقا مرة وإلى الأبد بإثبات أن قضاياها لا معنى لها، هكذا نشأت الحركة التي أطلق عليها «الوضعية المنطقية»
Logical Positivism
أو «حلقة فينا»
Vienna Circle ، وجعلت أداتها الرئيسية هي مبدأ «التحقيق»
Verification ، ومفاد هذا المبدأ باختصار شديد أن معنى القضية هو طريقة تحقيقها، ومن ثم فليس هناك معنى لأي عبارة إلا إذا كان بإمكان المرء من حيث المبدأ أن يتحقق منها (تحققا تجريبيا حسيا بطبيعة الحال)، أو «يؤيدها» بشهادة الخبرة أو التجربة.
لم يرق هذا المبدأ، مبدأ التحقيق، لكارل بوبر، فقام بتفنيده تفنيدا منطقيا مفصلا، ومن المتفق عليه الآن أنه تفنيد حاسم، واستبدل به مبدأ جديدا، هو مبدأ «قابلية التكذيب»
Falsifiability
كمعيار للوضع العلمي لأية قضية، إنه مبدأ شديد البساطة وشديد الفعالية في الوقت نفسه،
5
مفاده ببساطة أيضا أن من صفة العبارة العلمية الأصيلة أن تشير إلى أمثلة لما تكون عليه حال الأشياء لو أنها كانت كاذبة، ورغم ما تعرض له هذا المبدأ العلمي الجديد من نقد وتصويب، فقد رسخ قدمه وثبتت عند العلماء الممارسين قيمته وجدواه، وهو يدرج الآن ضمن بضعة مبادئ أخرى تعد «ركائز مفترضة» للعلم الأصيل (منها مبدأ الاستقراء، وقانون عدم التناقض، ومبدأ الاقتصاد).
وعلى الرغم من أن بوبر كان على ود صادق ببعض أعضاء حلقة فينا، وبخاصة هربرت فايجل الذي شجع بوبر على وضع كتابه الأول، فقد كان بوبر مناوئا للأفكار الرئيسية للوضعية المنطقية، ولا سيما تركيزها على نظرية المعنى في الفلسفة وعلى مبدأ التحقيق في المنهج العلمي، وقد عبر عن وجهة نظره الخاصة في العلم وعن انتقاداته للوضعيين في كتابه الأول الذي نشر تحت عنوان
Logik der Forschung
في عام 1934م، واعتبر بوبر أن هذا الكتاب قد دق ناقوس موت الوضعية المنطقية، ومن عجائب الأقدار أن الوضعية المنطقية لم تكن قد «ولدت» بعد في العالم الناطق بالإنجليزية، والذي تعرف على الوضعية المنطقية لأول مرة من خلال كتاب أ. ج. آير
A. J. Ayer «اللغة والحقيقة والمنطق» (1936م)، الذي لفت إليها الأنظار على نطاق واسع في إنجلترا، وقبل أن يترجم كتاب بوبر إلى الإنجليزية بسنوات ظلت فيها الوضعية هي التيار الفلسفي السائد في العالم الغربي.
لم تمض بضع سنوات على نشر هذا الكتاب الأول حتى بدأت غيوم النازية تتراكم في أفق ألمانيا والنمسا، واضطر بوبر، شأنه شأن غيره من المفكرين الذين ينحدرون من أصل يهودي، إلى الهجرة من النمسا عام 1937م؛ خوفا من تعقب النازيين، ألقى بوبر مراسيه في نيوزيلندا حيث قضى سني الحرب يدرس الفلسفة في جامعاتها، وكان ضم النمسا عام 1938م هو الحافز له على توجيه كتاباته إلى الفلسفة الاجتماعية والسياسية، وفي عام 1946م انتقل إلى إنجلترا كلاجئ سياسي، وساعدته صديقته سوزان ستبنج في الحصول على وظيفة، فقام بتدريس المنطق ومناهج العلوم بمدرسة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية (وهي جزء من جامعة لندن) عام 1949م، ومنذ ذلك الحين نبه شأنه وطبقت شهرته الآفاق وانكب عن العمل الفلسفي المتواصل والإنتاج الثري، وأصبح كتابه «منطق الكشف العلمي»
Logic of Scientific Discovery (وهو الترجمة الإنجليزية لكتابه الأول) من أمهات الكتب في حقله، وفي عام 1965م منحته الأمة الإنجليزية لقب «سير»، وهو أعلى تشريف تمنحه لمواطن، ومنحته حكومة الدانمارك جائزة «سوننج» التي لم يفز بها إلا رجال من طبقة برتراند رسل وونستون تشرشل، ومنحته النمسا «وسام الشرف الذهبي الأكبر»، ومنحته الولايات المتحدة جائزة ليبنكوت للرابطة الأمريكية للعلوم السياسية، وتقاعد بوبر عن العمل بجامعة لندن عام 1969م، غير أنه ظل يمارس عمله بنشاط ككاتب ومحاضر ومحدث، حتى وافته المنية عام 1994م، وقد بلغ من العمر اثنين وتسعين عاما قضاها في خدمة التنوير ونصرة العقل.
حظي بوبر في حياته من المجد والتشريف بما لم يحظ به إلا القلة من قادة الإنسانية، وهو جدير بهذا المجد وهذا التشريف بما قدمه للعالم المتحضر من منجزات يكفي واحد منها أو اثنان لكي يضعا صاحبها في موضع فريد بين أعلى طبقة من نوابغ الفكر، ويمكن تلخيص أهم هذه المنجزات فيما يلي: (1)
أنه أول فيلسوف يلهم العلماء ويؤثر في أدائهم العلمي تأثيرا مثمرا، ويعزى الفضل لمنهجه العلمي في إنجاز كشوف علمية حقيقية. (2)
أنه حل «مشكلة الاستقراء»، ذلك الشبح القابع في خزانة الفلسفة، والذي حير الفلاسفة وأفزعهم منذ زمن ديفيد هيوم إلى اليوم. (3)
أنه قوض الوضعية المنطقية، حتى قبل أن تولد! وأعاد الفلسفة إلى مسارها الصحيح، وجعلها مرشدة للعلماء بعد أن انقلبت على نفسها وكادت تصير عالة على العلم. (4)
أنه قوض الماركسية وأعفى العالم الغربي من تجربة ثقيلة كانت كفيلة أن تهدر طاقته وتستهلك زمنه وتعطل تقدمه. (5)
أنه قدم أقوى دفاع عن الديمقراطية في الزمن المعاصر. (6)
أنه أثبت «موضوعية المعرفة»، وحل بها عددا من المشكلات المستعصية في تاريخ الفلسفة.
قد يماري المرء في بعض هذه المنجزات، وقد يطرح منها واحدا أو اثنين يرى فيهما شططا أو مبالغة، غير أنه لا شطط ولا مبالغة، بعد كل شيء، إذا قلنا: إننا مع بوبر بإزاء قامة استثنائية في مجال الفكر الإنساني، وإن الفلسفة بعد كارل بوبر لن تعود كما كانت قبله.
وإذ يحتفل العالم المتحضر بمرور قرن من الزمان على ميلاد كارل بوبر، فنحن نقدم هذه العجالة منه وإليه،
6
إجلالا لهذا العقل الكبير، وتحية لهذا الروح العظيم في عرسه المئوي، ونحن إذ نسدي إليه هذه الطاقة من قطوف فكره ومن ثمرات عقله، نعرف أنها «قربة لنا!»؛ فالحق أننا نحن العرب أحوج الخلق إلى صحبة هذا العقل والائتناس به؛ لأنه أقدر من يغرس فينا شيئا غائبا هو «التساؤل»، ويكمل فينا عضوا ناقصا هو «النقد»، ولست مغاليا إذا قلت: إننا لو كنا نعرف هذا الفيلسوف منذ «البداية» ونعي فكره لاختلفت أمور كثيرة!
فنحن بطبيعتنا نعيش في مناخ الأجوبة، ولا نعرف التساؤل ولا نستمرئ النقد، نحن نبتسر الأجوبة ابتسارا ، ولا نعرف أن الإجابة تأتي في المحل الثاني، وأن الخطوة الأولى نحو حل أي مشكلة هي البدء بالمشكلة نفسها، بالأسباب التي جعلتها مشكلة بموقف المشكلة، بصياغة المشكلة وفهمها من حيث هي مشكلة، أما النقد فنحن لا نقربه ولا نقترفه، ونحن نتجنبه ونجفل منه، ولا ندري أن خيط النقد داخل في نسيج عملية المعرفة، بل في نسيج أية عملية من عمليات الحياة، بحيث يصح أن نقول: إنه هو نفسه مسار التطور وجوهر التقدم.
7
وأما الخطأ فنحن ننكره ونعاقب عليه، ولا ندري أنه ضرورة وحتم، وأن التعثر بالخطأ هو طريقة للعقل في تلمس الحقيقة، الخطأ هو الوجه التقني للحقيقة! ... هو الحقيقة مقلوبة توشك أن تعدل وتعاد إلى نصابها.
العقل «حوار» ... ومن لم يصغ إلى صوت «الآخر» المتردد في أركان رأسه، ودأب على قمع المعارضة المتململة في تلافيف دماغه، فقد خرج على طبيعة العقل وسوائه، وفرض على نفسه فاشية ذهنية سيكون هو أول ضحاياها، وحكم على عقله بالسجن الأبدي في غيابات التحيز ومركزية الذات.
شد ما تستهوينا الأمثلة المؤيدة ويجرفنا التفاؤل الساذج، نحن لا نعرف التساؤل ولا النقد، ونحن نرى كل شيء بعين نظريتنا، فلا نرى غيرها! وغاية الفكر عندنا أن نبحث لقضيتنا عن مثال مؤيد أو بضعة أمثلة (أو تشبيه مقرب أو بضعة تشبيهات)، نظن فيها انبلاج الحق وفصل الخطاب، ولا ندري أن التأييدات
Confirmations
لا تثبت شيئا ولا تحسم قضية، وأن «المكذبات»
Falsifiers
هي المعيار والفيصل، نحن لا نطلع على عيوبنا وأعطابنا حتى يطلعنا عليها غيرنا، ولا نستكشف أخطاءنا حتى تكشفها لنا الأحداث الصماء التي لا تعرف الكذب ولا المجاملة، ونراهن على «نظرياتنا» بأرواحنا بدلا من أن نتركها تبيد عوضا عنا، وهكذا نعيش الخطأ ولا ننبذ الخطأ، وهكذا نجمد في مكاننا ولا نتقدم، ونبقى حيث نحن والدنيا تسير.
ولا دواء، فيما أعتقد، لهذا الداء الفكري المتوطن، أجدى من فلسفة بوبر العلمية، نتعلم منها كيف نسأل، ونتعلم منها كيف نحاول ونخطئ ثم نحذف الخطأ، فنكون قد قطعنا شوطا على درب المعرفة، واقتربنا خطوة من مظان الحقيقة.
د. عادل مصطفى
الكويت في 31 / 7 / 2002م
الفصل الأول
مذهب التكذيب
يبدو أنني لم أكن أكثر من صبي صغير يلهو على الشاطئ، أتسلى باكتشاف حصاة أكثر نعومة بين لحظة وأخرى، أو بالعثور على صدفة أكثر جمالا، بينما محيط الحقيقة العظيم يتمدد أمامي مبهما كله غير مستكشف.
إسحق نيوتن
يقول بوبر في «الحدوس الافتراضية والتفنيدات»:
1 «عندما تلقيت قائمة بالمشاركين في هذه الحلقة الدراسية، وعلمت أنني مدعو للحديث إلى زملاء في مجال الفلسفة، رأيت بعد شيء من التردد والمشورة أنكم ربما تفضلون أن أتحدث إليكم عن تلك المشكلات التي أثارت اهتمامي أكثر من غيرها، وعن تلك التطورات التي ألممت بها إلماما وثيقا؛ لذا فقد عقدت الرأي على أن أقوم بشيء لم أقم به من قبل: وهو أن أقدم لكم تقريرا عن إسهامي الشخصي في فلسفة العلم، منذ خريف عام 1919م عندما بدأت أشتبك لأول مرة بمشكلة «متى ينبغي أن تعد نظرية ما نظرية علمية؟» أو «هل ثمة معيار يحدد الصفة العلمية أو الوضع العلمي لنظرية ما؟»»
لم تكن المشكلة التي أرقتني آنئذ هي «متى تكون نظرية ما نظرية صادقة؟» ولا «متى تكون نظرية ما نظرية مقبولة؟» كان ما يؤرقني هو شيء آخر، كنت أريد أن أميز بين العلم والعلم الزائف، وأنا على إدراك واضح بأن العلم كثيرا ما يخطئ، وأن العلم الزائف قد يتفق له أن يعثر على الحقيقة.
كنت بالطبع على علم بالجواب الأوسع انتشارا وقبولا لهذه المسألة: وهو أن العلم يتميز عن العلم الزائف، أو عن الميتافيزيقا «بمنهجه التجريبي»، وهو منهج «استقرائي» في الصميم، ينطلق من الملاحظة أو التجربة، غير أن هذا الجواب لم يكن شافيا بالنسبة لي، بل إنني على العكس كنت أصوغ مشكلتي في الغالب كمشكلة تمييز بين المنهج التجريبي الأصيل والمنهج غير التجريبي أو حتى «التجريبي الزائف»، أي المنهج الذي لا يرقى رغم احتكامه إلى الملاحظة والتجربة إلى مستوى العلم ولا ينزل منزلته، ولعل «التنجيم»
Astrology
من أمثلة هذا المنهج الأخير، وهو علم يستند إلى كم هائل من الأدلة التجريبية القائمة على ملاحظة البروج وسيرة حياة الأشخاص.
غير أن التنجيم لم يكن هو المثال الذي أفضى بي إلى هذه المشكلة، ومن ثم فقد ينبغي علي أن ألقي بعض الضوء على المناخ الذي نشأت فيه مشكلتي والأمثلة التي أثارت لدي هذه المشكلة، كانت هناك ثورة في النمسا بعد انهيار الإمبراطورية النمسوية، وكان الجو يصخب بشعارات وأفكار ثورية، وبنظريات جديدة وجريئة، من بين هذه النظريات كانت نظرية النسبية لأينشتين بلا شك هي الأكثر استحواذا علي دون منازع، وثلاث أخريات أثرن اهتمامي أيضا: نظرية ماركس في التاريخ، ونظرية فرويد في التحليل النفسي، ونظرية ألفرد أدلر المسماة «علم النفس الفردي».
كان هراء شعبي كبير يروج حول هذه النظريات، وبخاصة حول النسبية (كما يحدث حتى في هذه الأيام)، غير أن الحظ قيض لي من يذلل قطوف هذه النظرية وييسر لي دراستها، لقد كنا جميعا - أنا والحلقة الصغيرة من الطلبة التي كنت أنتمي إليها - منتشين بنتيجة ملاحظات إدنجتون عن الكسوف، والتي جلبت أول تأييد هام لنظرية أينشتين في الجاذبية، لقد كانت تلك خبرة عظيمة لنا وتجربة كان لها أثر دائم على تطوري الفكري.
كانت النظريات الثلاث الأخرى التي ذكرتها هي أيضا مثار نقاش عريض بين الطلبة في ذلك الوقت، وقد أتاحت لي الظروف أن أعرف ألفرد أدلر معرفة شخصية، بل أن أتعاون معه في عمله الاجتماعي بين الأطفال والشباب في أحياء الطبقة العاملة في فينا حيث أسس أدلر عيادات إرشاد اجتماعي.
في صيف عام 1919م بدأ يداخلني شعور بعدم الارتياح لهذه النظريات الثلاث: النظرية الماركسية في التاريخ، والتحليل النفسي، وعلم النفس الفردي، وبدأ يخامرني شك حول ادعاءاتها للمنزلة العلمية، ربما أخذت مشكلتي في البداية شكلا بسيطا: «ما خطب هذه النظريات؟ لماذا تبدو مختلفة جدا عن النظريات الفيزيائية، عن نظرية نيوتن، وبشكل خاص عن نظرية النسبية؟»
ولكي تتضح هذه المقارنة لا بد أن أفضي بأن أغلبنا في ذلك الوقت لم يكن بوسعه أن يقول بأنه يعتقد في «صدق» نظرية أينشتين في الجاذبية، من هذا يتبين أن ما كان يؤرقني ليس هو الشك في «صدق» تلك النظريات الثلاث الأخرى، بل هو شيء آخر، ولا كان ما يؤرقني هو مجرد الشعور بأن الفيزياء الرياضية أكثر دقة من الصنف الاجتماعي أو النفسي من النظريات، لم يكن همي إذن هو مشكلة الصدق (في هذه المرحلة على الأقل)، ولا مشكلة الدقة والقابلية للقياس، بل هو بالأحرى شعوري بأن هذه النظريات الثلاث وإن اتشحت بوشاح العلم تشبه الأساطير البدائية أكثر مما تشبه العلم، وتشبه التنجيم أكثر مما تشبه علم الفلك.
وقد اكتشفت أن أولئك المعجبين بماركس وفرويد وأدلر من أصدقائي كانوا مأخوذين بعدد من الخصال المشتركة بين هذه النظريات، ولا سيما ما تتمتع به من قوة تفسيرية ظاهرة، لقد بدت هذه النظريات قادرة فعلا على تفسير كل شيء يحدث ضمن نطاقها الخاص، وبدا أن دراسة أي واحدة منها تقع منك موقع التحول الفكري الحاسم، أو موقع الوحي، فاتحة عينيك على حقيقة جديدة محجوبة عن أولئك الذين لم يهتدوا بعد، وما إن تتفتح عيناك هكذا حتى يتسنى لك أن ترى شواهد مؤيدة لها أينما نظرت، كان العالم يعج بتحقيقات
Verifications
للنظرية، وما من شيء يحدث إلا وهو تأييد لها، بذلك بدا صدقها أمرا ظاهرا، وبدا أي منكر لها مكابرا مبينا لا يريد أن يرى الحقيقة الواضحة، إما لأنها مضادة لمصالحه الطبقية، وإما بسبب ما يضمره من ألوان الكبت التي لم تحلل بعد، والتي تصرخ طلبا للعلاج.
كان العنصر المميز لهذا الأمر فيما أرى هو ذلك الفيض الذي لا ينقطع من «التأييدات» أو الملاحظات التي «تحقق» النظريات المعنية، وهو الشيء الذي كان معتنقوها يؤكدونه على الدوام، لم يكن بوسع الماركسي أن يفتح جريدة دون أن يعثر في كل صفحة على دليل مؤيد لتفسيره للتاريخ، ليس في الخبر فحسب بل في طريقة عرضه التي تكشف عن التحيز الطبقي للصحيفة، وبخاصة بالطبع فيما لم تقله الصحيفة، أما المحللون الفرويديون فكانوا يؤكدون أن نظرياتهم تجد لها تحقيقا دائما في «ملاحظاتهم الإكلينيكية»، أما عن أدلر، فقد كان لي معه موقف شخصي لا أنساه، فقد حدث ذات يوم في عام 1919م أن أدليت له عن حالة لم تبد لي أدلرية الطابع، غير أنه لم يجد أدنى صعوبة في تحليلها في ضوء نظريته عن مشاعر الدونية، رغم أنه حتى لم ير الطفل، فسألته وقد نالني دهش: «فيم كل هذه الثقة وأنت لم تر الطفل؟» فأجاب: «لأن لي بذلك ألف تجربة.» هنالك لم أتمالك نفسي قائلا: «وبهذه الحالة الجديدة أرى أن تجاربك صارت ألفا وواحدة.»
كنت أقول في نفسي: لعل ملاحظاته السابقة لم تكن أقوم من هذه الملاحظة الجديدة، لعله كان يفسر كل ملاحظة بدورها في ضوء الخبرة السابقة وفي نفس الوقت يعدها إثباتا جديدا، كنت أسأل نفسي: «ماذا أثبتت؟ أثبتت أن حالة قد أمكن تفسيرها في ضوء النظرية لا أكثر.» غير أن هذا لا يعني شيئا ما دامت كل حالة يتصورها المرء يمكن أن تفسر في ضوء نظرية أدلر، وكذلك الحال بالنسبة لنظرية فرويد، ولتوضيح ذلك أود أن ننظر في هذين المثالين المختلفين تماما من السلوك البشري: سلوك رجل يدفع بطفل إلى الماء بقصد إغراقه، وسلوك رجل يضحي بحياته في محاولة لإنقاذ الطفل، بمقدور كل من النظرية الفرويدية ونظرية أدلر أن تفسر سلوك كل من الرجلين بنفس السهولة، فحسب نظرية فرويد يعاني الرجل الأول من «الكبت»
Repression (من أحد مكونات عقدة أوديب مثلا)، بينما أمكن للثاني أن يحقق ضربا من «التسامي» أو «التصعيد»
Sublimation ، وبحسب نظرية أدلر كان الرجل الأول يعاني من مشاعر الدونية (التي ربما ألجأته إلى محاولة إثبات أن لديه الجرأة على ارتكاب جريمة ما)، وكذلك كان الرجل الثاني (الذي أراد إثبات أن لديه الجرأة على إنقاذ الطفل)، لم يكن بوسعي أن أتصور أي سلوك إنساني يستعصي على التفسير في ضوء كل من النظريتين، إنهما دائما منسجمتان على قوام المشاهدات، «على قدها»، دائما مؤيدتان، «كانت هذه الحقيقة بالتحديد هي الدليل الدامغ على صحتهما في نظر المعجبين بهما، أما بالنسبة لي فقد بدأ يتضح لعيني أن ما يبدو مظهر قوة في النظريتين هو بالضبط مكمن الضعف فيهما.»
أما مع نظرية أينشتين فقد كان الموقف جد مختلف، ولنأخذ مثالا نموذجيا، وهو تنبؤ أينشتين الذي كانت نتائج حملة إدينجتون قد أيدته للتو، كانت نظرية الجاذبية لأينشتين تفضي إلى نتيجة مفادها أن الضوء لا بد أن ينجذب نحو الأجسام الثقيلة (مثل الشمس)، تماما كما تنجذب الأجسام المادية، وكنتيجة لذلك أمكن تقدير أن الضوء القادم من نجم ثابت بعيد يبدو موقعه الظاهري قريبا من الشمس سوف يصل إلى الأرض من اتجاه من شأنه أن يجعل النجم يبدو مبعدا قليلا عن الشمس، وبعبارة أخرى أن النجوم القريبة من الشمس ستبدو كما لو كانت قد تحركت قليلا مبتعدة عن الشمس، وعن بعضها البعض، هذا شيء يتعذر على الملاحظة في الظروف العادية ما دامت هذه النجوم غير مرئية بالنهار بفعل التوهج الهائل للشمس، غير أن من الممكن أثناء كسوف للشمس أن نأخذ صورا فوتوغرافية لهذه النجوم، فإذا أخذنا صورة لنفس المجموعة من النجوم أثناء الليل أمكننا مضاهاة المسافات في كلتا الصورتين والتحقق من الأثر المتوقع.
والآن، ما هو الشيء اللافت في هذه الحالة؟
إنه ... «المخاطرة» التي ينطوي عليها هذا الصنف من التنبؤ، فإذا ما أظهرت الملاحظة أن الأثر المتوقع لا وجود له البتة تكون النظرية ببساطة قد دحضت، إن النظرية هنا غير متساوقة مع نتائج ممكنة معينة للملاحظة، مع نتائج كان كل شخص في الحقيقة قمينا قبل أينشتين أن يتوقعها، وهو موقف يختلف تماما عن الموقف الذي أسلفناه حيث تكشف أن النظريات المعنية كانت مساوقة لمعظم ألوان السلوك البشري المتباينة، بحيث يستحيل عمليا أن نصف سلوكا بشريا يتعذر علينا أن ندعي بأنه تحقق لهذه النظريات.
قادتني هذه الاعتبارات في شتاء 1919م-1920م إلى نتائج يمكننا الآن صياغتها كما يلي: (1)
من السهل أن نحصل على تأييدات، أو تحقيقات، لكل نظرية تقريبا، إذا بحثنا عن تأييدات. (2)
يجب ألا يعتد بالتأييدات إلا إذا كانت نتيجة لتنبؤات مخاطرة، بمعنى أننا إذا لم نستضئ بالنظرية المعنية لوجب أن نتوقع حدثا غير متساوق معها، حدثا جديرا بدحض النظرية. (3)
كل نظرية علمية هي نوع من «المنع» أو «الحظر»! إنها «تمنع» أشياء معينة أن تحدث، وكلما زاد ما تمنعه النظرية زاد نصيبها من الأصالة العلمية. (4)
النظرية التي لا تقبل الدحض بأي حدث يمكن تصوره هي نظرية غير علمية، فعدم القابلية للدحض ليست مزية للنظرية (كما يظن الناس غالبا) بل عيبا. (5)
كل اختبار أصيل للنظرية هو محاولة لتكذيبها، أو لدحضها، قابلية الاختبار هي قابلية التكذيب، غير أن هناك درجات من قابلية الاختبار، فبعض النظريات أكثر قابلية للاختبار من بعض؛ أي أكثر استهدافا للدحض، إنها نظريات تخوض مخاطر أكبر. (6)
الدليل المؤيد للنظرية يجب ألا يعتد به ما لم يكن نتيجة لاختبار أصيل للنظرية، وهذا يعني أنه يمثل محاولة خطرة، ولكن غير ناجحة لتكذيب النظرية وأنا هنا أتحدث عن حالات «الأدلة التعزيزية»
Corroborating Evidence .
2 (7)
عندما يتبين كذب بعض النظريات القابلة للاختبار، فإن مؤيديها يظلون متمسكين بها، وذلك مثلا بإدخال «فرض مساعد»
Auxiliary Hypothesis
على سبيل التحايل (الغرض العيني المحدد)
ad hoc ،
3
أو بإعادة تفسير النظرية بشكل تحايلي بحيث تتفادى التفنيد، مثل هذا الإجراء ممكن دائما وميسور، غير أنه ينقذ النظرية من الدحض على حساب مكانتها العلمية، فهو يحطم هذه المكانة أو يخفضها على أقل تقدير (وقد أطلقت على عملية الإنقاذ هذه فيما بعد «المناورة الاصطلاحية»
Conventionalist Twist ).
وجملة القول: إن محك المنزلة العلمية لنظرية من النظريات هو «قابليتها للتكذيب»
Falsifiability
أو قابليتها للتفنيد
Refutability
أو قابليتها للاختبار
Testability . •••
وبوسعي أن أقدم أمثلة على ذلك من النظريات المختلفة التي سلف ذكرها. فمن الواضح مثلا أن نظرية الجاذبية لأينشتين كانت تفي بمعيار قابلية التكذيب، وحتى ولو لم تسمح لنا أجهزة القياس آنذاك أن نبت في نتائج الاختبارات بثقة تامة، فمن الواضح أن إمكان دحض النظرية كان قائما.
أما علم التنجيم فلا يصمد للاختبار، فقد كان المنجمون مبهورين ومضللين بما كانوا يظنونه أدلة مؤيدة بحيث لم يلتفتوا البتة إلى أي دليل عكسي. وفضلا عن ذلك، فقد كان بوسعهم بما يضفونه على تفسيراتهم وتنبؤاتهم من غموض جم أن يتملصوا من أي شيء كان حقيقا أن يدحض النظرية لو أن النظرية والتنبؤات كانت أكثر دقة، فهم لكي يتفادوا تكذيب النظرية قاموا بتحطيم قابليتها للاختبار. ومن الحيل المألوفة للعرافين أن يقدموا تنبؤاتهم بطريقة غامضة تجعلها عصية على الإخفاق، تجعلها غير قابلة للدحض.
وأما النظرية الماركسية في التاريخ، فهي على الرغم من الجهود الصادقة التي بذلها بعض مؤسسيها وأتباعها، قد انتهت إلى تبني هذا الضرب من العرافة. فالماركسية في بعض صياغاتها الأولى (مثل تحليل ماركس لطبيعة الثورة الاجتماعية القادمة) كانت تنبؤاتها قابلة للاختبار، وتم في الحقيقة تكذيبها، إلا أنه بدلا من قبول التفنيدات، فقد قام أتباع ماركس بإعادة تأويل كل من النظرية والدليل لكي يجعلوهما متوافقين. بهذه الطريقة يكونون قد أنقذوا النظرية من الدحض، ولكنهم دفعوا في ذلك ثمنا باهظا، ذلك أنهم تبنوا طريقة من شأنها أن تجعل النظرية غير قابلة للدحض. لقد منحوها «مناورة اصطلاحية»، وهم بهذه الحيلة قد حطموا مكانتها العلمية التي يدعونها ويكثرون من الترويج لها.
وأما نظريتا التحليل النفسي «الفرويدية والأدلرية»، فتنتميان إلى فئة مختلفة. لقد كانتا ببساطة غير قابلتين للاختبار، غير قابلتين للدحض، إذ ليس بوسع أي سلوك إنساني يمكن تصوره أن يأتي مناقضا لهما. وهذا لا يعني أن فرويد وأدلر غير مصيبين في بعض الأمور، وأنا شخصيا لا أشك في أن كثيرا مما قاله الاثنان هو ذو أهمية كبيرة، وأنه قد يسهم ذات يوم إسهاما كبيرا في تأسيس علم سيكولوجي يكون قابلا للاختبار. غير أن هذا لا يمنعنا من القول بأن تلك «الملاحظات الإكلينيكية»
Clinical Observations
التي كان المحللون النفسيون يرون سذاجة أنها تؤيد نظريتهم لا تفترق في شيء عما يجده المنجمون في ممارساتهم من الشواهد اليومية المؤيدة لأقوالهم. وأما بالنسبة لملحمة فرويد عن الأنا والأنا الأعلى والهو، فهي لا يمكنها أن تدعي الصفة العلمية أكثر مما تدعيها حكايات هوميروس التي جمعها من جبال الأولمب، فهذه النظريات تصف بعض الوقائع، غير أنها تصفها كما تفعل الأساطير. إنها تحتوي على تصورات سيكولوجية جد شائقة، ولكن ليس بطريقة قابلة للاختبار.
وقد كنت في الوقت نفسه على إدراك بأن مثل هذه الأساطير يمكن تطويرها فتصبح قابلة للاختبار، وأن كل النظريات العلمية أو جلها من الوجهة التاريخية، قد نشأت عن أساطير. ورب أسطورة قد اشتملت في داخلها على استباقات هامة لنظريات علمية، ومن أمثلة ذلك نظرية أمبدوقليس في التطور بواسطة المحاولة والخطأ، أو أسطورة برمنيدس التي تقول بأن العالم لبنة واحدة ثابتة لا تتغير ولا يجري فيها أي شيء على الإطلاق، فهي إذا أضفنا إليها بعدا جديدا، فإنها تفضي إلى تصور أينشتين عن العالم، الكتلة المصمتة (وهو أيضا لا يستجد فيه شيء على الإطلاق، إذ إن كل شيء فيه بلغة الأبعاد الأربعة محدد مرسوم منذ البداية). هكذا كنت أشعر أننا إذا كنا بإزاء نظرية ما ووجدنا أنها غير علمية أو أنها «ميتافيزيقية» إن شئنا القول، فإن هذا لا يعني أنها غير ذات أهمية أو دلالة، أو أنها «بلا معنى»
Meaningless
أو «هراء»
Nonsense . إنها لا يمكن أن تدعي أنها تستند إلى أدلة إمبيريقية بالمعنى العلمي رغم أنها يمكن بسهولة أن تكون - بمعنى نشوئي ما - نتاجا للملاحظة. (كانت هناك نظريات أخرى جد كثيرة من هذا الصنف قبل العلمي أو العلمي الزائف، بعضها للأسف كان يتمتع بنفوذ مساو للتفسير الماركسي للتاريخ. منها على سبيل المثال التفسير العنصري للتاريخ، وهو مثال آخر لتلك النظريات المبهرة المفسرة لكل شيء والتي تخلب الأذهان الواهنة وتقع فيها موقع الوحي.)
المشكلة إذن التي كنت أسعى لحلها باقتراح معيار القابلية للتكذيب لم تكن هي مشكلة انعدام المعنى أو الدلالة. لا، ولا هي مشكلة «الصدق»
Truth
أو القبول، بل كانت مشكلة رسم خط (بأقصى قدر مستطاع من الدقة) يفصل بين عبارات (أو أنساق عبارات) العلوم التجريبية وبين جميع العبارات الأخرى، سواء كانت هذه عبارات ذات صبغة دينية أو ميتافيزيقية، أو كانت - ببساطة - عبارات علمية زائفة. كانت هذه هي المشكلة الأولى بالنسبة لي وقد أسميتها بعد سنوات (لعل ذلك كان في عام 1928 أو 1929) «مشكلة التمييز»
. كان معيار القابلية للتكذيب هو الحل لمشكلة التمييز، فهو يقول بأن العبارات أو أنساق العبارات، لكي تتصف بالصفة العلمية وتنزل منزلة العلم، ينبغي أن تتحلى بالقدرة على أن تصطرع مع ملاحظات ممكنة أو ملاحظات يمكن تصورها . •••
والآن دعونا ننتقل من نقدنا المنطقي لسيكولوجية الخبرة (التجربة) إلى مشكلتنا الحقيقية، مشكلة منطق العلم. ورغم أن بعض ما قلته آنفا قد يساعدنا هنا إذ يخلصنا من بعض تحيزاتنا النفسية إلى جانب الاستقراء، فإن معالجتي للمشكلة المنطقية للاستقراء لا صلة لها البتة بهذا النقد ولا بأية اعتبارات سيكولوجية، فإذا كنتم لا تعتقدون دوجماويا
4
في التفسير السيكولوجي المزعوم للاستقراء، فلكم الآن أن تصرفوا النظر عن قصتي برمتها باستثناء نقطتين منطقيتين اثنتين: (1) ملاحظاتي المنطقية عن قابلية الاختبار أو التكذيب بوصفها معيار التمييز. (2) نقد هيوم المنطقي لمبدأ الاستقراء.
من الواضح مما سبق أنه كانت هناك صلة وثيقة بين المشكلتين اللتين أثارتا اهتمامي في ذلك الوقت: التمييز
Demarcation ، والاستقراء
Induction (أو المنهج العلمي). لقد كان بميسوري أن أرى منهج العلم هو النقد، أي محاولة التكذيب. ورغم ذلك فقد اقتضت الأمور بضع سنوات لكي ألحظ أن المشكلتين - التمييز والاستقراء - هما بمعنى ما ... شيء واحد.
لقد عثرت مؤخرا بطريق الصدفة على صياغة شائقة لهذا الرأي في كتاب فلسفي رائع لعالم فيزياء عظيم، هو كتاب ماكس بورن «الفلسفة الطبيعية للعلة والمصادفة». يقول ماكس بورن: «يتيح لنا الاستقراء أن ننتقل من عدد من المشاهدات إلى قاعدة عامة، مثلا أن الليل يعقب النهار والنهار يعقب الليل، ولكن في حين أن الحياة اليومية لا تملك معيارا محددا لصواب أي استقراء، فقد قام العلم باصطناع مدونة أو دستور أو قاعدة حرفية لتطبيق الاستقراء.» لم يكشف بورن في أي موضع من أعماله عن مضامين هذا الدستور الاستقرائي (الذي يتضمن بحسب قوله معيارا محددا لصحة الاستقراء). غير أنه يؤكد أن «ليس هناك دليل منطقي يحتم قبوله»، «إنها مسألة إيمان»، وهو من أجل ذلك «يود أن يسمي الاستقراء مبدأ ميتافيزيقيا.»
ولكن لماذا يعتقد بورن أن مثل هذا الدستور الخاص بقواعد الاستقراء الصحيح لا بد أن يكون موجودا؟ هذا ما يتضح لنا عندما نسمعه يتحدث عن «الجموع الغفيرة من الناس الجاهلين بحكم العلم أو الرافضين له، ومن بين هؤلاء أعضاء جماعات مناهضة التطعيم، والمؤمنون بالطالع والتنجيم. لا جدوى من مناقشة هؤلاء، وليس بمقدوري أن أرغمهم على قبول نفس المعايير التي أعتقدها للاستقراء الصحيح: أعني دستور القواعد العلمية.» هكذا يتضح بجلاء أن «الاستقراء الصحيح» هنا كان المقصود منه أن يعمل كمحك للتمييز بين العلم والعلم الزائف.
إلا أن من البين أن قاعدة الاستقراء الصحيح هذه أو صنعته ليست حتى ميتافيزيقية، إنها ببساطة لا وجود لها. ليست هناك قاعدة على الإطلاق تضمن لنا أن تعميما مستفادا من ملاحظات صادقة، مهما كثر تكرارها وتواترها، هو تعميم صادق (بورن نفسه لا يعتقد في صدق الفيزياء النيوتونية بكل نجاحاتها رغم أنه يراها قائمة على الاستقراء). ونجاح العلم هو أمر لا يستند على قواعد الاستقراء، بل يعتمد على الحظ والعبقرية والقواعد الاستنباطية الخالصة للدليل النقدي.
وبإمكاني أن ألخص بعض النتائج التي خلصت إليها كما يلي: (1)
الاستقراء، أي الاستدلال القائم على ملاحظات عديدة، هو خرافة. إنه ليس واقعة سيكولوجية، ولا هو واقعة حياتية، ولا هو أحد الإجراءات العلمية. (2)
الإجراء الفعلي للعلم هو السير بالحدوس الافتراضية: هو القفز إلى الاستنتاجات، غالبا بعد ملاحظة فريدة (كما لاحظ مثلا هيوم وبورن). (3)
تعمل الملاحظات والتجارب في العلم كاختبارات لحدوسنا أو فرضياتنا؛ أي كمحاولات تفنيد. (4)
هذا الاعتقاد الخاطئ في الاستقراء تخلقه حاجتنا إلى معيار للتمييز، تلك الحاجة التي جرى العرف بطريق الخطأ على أن الاستقراء وحده هو الذي يفي بها. (5)
ينطوي هذا المنهج الاستقرائي، شأنه شأن معيار التحقيق
Verification ، على تمييز خاطئ. (6)
لا فائدة البتة في أن نقول إن الاستقراء يجعل النظريات احتمالية فحسب، لا يقينية، ولا يؤدي هذا القول إلى أدنى تغيير في الموقف.
فإذا كانت مشكلة الاستقراء، كما سبق أن ألمحت، هي مجرد مثال أو جانب من مشكلة التمييز، لوجب إذن أن يزودنا حلنا لمشكلة التمييز بحل لمشكلة الاستقراء. وهذا في اعتقادي هو وجه الأمر حقا رغم أنه لا يبدو جليا للوهلة الأولى.
ولعل من الخير أن نعود إلى بورن مرة ثانية لنحصل على صياغة موجزة لمشكلة الاستقراء. يقول بورن: «ليست هناك ملاحظة ولا تجربة، مهما مددناها وتوسعنا فيها، يمكن أن تمنحنا أكثر من عدد متناه من التكرارات»، ومن ثم «فإن العبارة (القانون) «ب تنتج عن أ» هي دائما تتجاوز الخبرة. ورغم ذلك فنحن نقوم بصياغة هذا الصنف من العبارات في كل مكان وكل زمان، وأحيانا نستخلصها من مادة ضئيلة.»
وبعبارة أخرى يمكننا القول بأن المشكلة المنطقية للاستقراء تنشأ مما يلي: (أ)
كشف هيوم (الذي عبر عنه بورن خير تعبير) بأن من المحال تبرير أي قانون بواسطة الملاحظة أو التجربة، لأنه «يتجاوز الخبرة». (ب)
واقعة أن العلم يدفع بقوانين ويستخدمها «في كل مكان وزمان»، وبورن في ذلك يعبر عن اندهاشه - شأنه شأن هيوم - من «ضآلة المادة»، أي قلة الأمثلة الملاحظة التي قد يؤسس عليها القانون. (ج)
مبدأ التجريبية الذي يقول بأنه في مجال العلم لا حكم لغير الملاحظة والتجربة في تقرير قبولنا أو رفضنا للعبارات العلمية، شاملة القوانين والنظريات.
هذه المبادئ الثلاثة المذكورة تبدو متعارضة للنظرة الأولى، وهذا التضارب الظاهري هو الذي يشكل أزمة الاستقراء.
ولما واجه بورن هذا التعارض فقد استبعد «ج»، أي مبدأ التجريبية (كما فعل كانت من قبل وكثير غيره بما فيهم برتراند رسل)، مفضلا عليه ما أسماه «مبدأ ميتافيزيقيا»، ذلك المبدأ الميتافيزيقي الذي لم يحاول حتى أن يصوغه، مكتفيا بالوصف الغامض «دستور أو قاعدة الصنعة»، والذي لم أشاهد له أي صياغة تحمل بصيصا من الوعد وليست واضحة الخلف.
غير أن المبادئ من «أ» إلى «ج» غير متعارضة في حقيقة الأمر. وبوسعنا أن ندرك ذلك في اللحظة التي ندرك فيها أن قبول العلم لقانون أو نظرية ... ما هو إلا قبول اختباري
Tentative
فحسب، بمعنى أن جميع القوانين والنظريات هي حدوس افتراضية (تخمينات)، أو فروض اختبارية (وهو موقف كنت أسميه أحيانا «النزعة الافتراضية»
Hypotheticalism )، وأن من الجائز لنا أن نرفض قانونا أو نظرية في ضوء بينة جديدة دون أن نلغي بالضرورة البينة القديمة التي أدت بنا في الأصل إلى قبولها.
وبإمكاننا أن نحتفظ تماما بالمبدأ التجريبي «ج» ما دام مصير أية نظرية من حيث القبول أو الرفض تقرره الملاحظة والتجربة عن طريق نتائج الاختبارات. وما دامت النظرية صامدة لأقصى ما نستطيع تصميمه من اختبارات فهي مقبولة، فإذا لم تصمد فهي مرفوضة. غير أن النظرية لا تستنتج بأي معنى من المعاني من الأدلة الإمبيريقية. ليس ثمة شيء من قبيل الاستقراء السيكولوجي ولا الاستقراء المنطقي. فليس بالإمكان أن نستنتج من الأدلة الإمبيريقية غير كذب النظرية، وهذا الاستدلال هو استدلال استنباطي صرف.
لقد أثبت هيوم أن من غير الممكن أن نستنتج نظرية من عبارات الملاحظة. غير أن هذا لا يمنع إمكانية أن ندحض نظرية بواسطة عبارات الملاحظة. ومن شأن الإدراك الكامل لهذه الإمكانية أن يجعل العلاقة بين النظريات والملاحظات على أتم الوضوح. هكذا يتم حل مشكلة التعارض المزعوم بين المبادئ «أ» و«ب» و«ج»، ويتم معه حل «مشكلة هيوم» أو «مشكلة الاستقراء».
كارل بوبر، الحدوس الافتراضية والتفنيدات (1) منطق التكذيب
بوسع المرء أن يتعرف على ثلاثة خيوط أساسية لفكر بوبر مجدولة معا لتشكل فلسفته العلمية الجديدة: (1)
حله لمشكلة الاستقراء. (2)
مشكلة «التمييز»
Demarcation
بين العلم واللاعلم. (3)
توكيده على أهمية تبني أقصى درجات النقد، والتذرع الدائم بالموقف النقدي بوصفه عنصرا أساسيا من عناصر العقلانية وسببا جوهريا لنمو المعرفة.
ذلك أن الفلسفة بطبيعتها تساؤل نقدي حول الافتراضات الأساسية التي نسلم بها تسليما، ونبني عليها أنساقنا الفكرية دون أن نسلط عليها أضواء النقد. هذا الموقف النقدي الصارم «الخيط الثالث» مرتبط أيضا بمشكلة الاستقراء «الخيط الأول» ومشكلة التمييز «الخيط الثاني»؛ لأننا درجنا على الاعتقاد بأن ما يميز العلم من اللاعلم هو المنهج الاستقرائي، فصدق قضايا العلم مستمد من استناده إلى وقائع التجربة. والصورة المثالية التي يثيرها في الذهن هذا المنهج الاستقرائي هي البدء بجمع ملاحظات خالصة دون فروض مسبقة تقدم لنا الوقائع بطريقة محايدة نزيهة. ومن تكرار هذه الملاحظات تبدأ أنماط معينة في الظهور، وتؤدي بنا إلى تكوين فروض عامة تربط بعض الظواهر الملاحظة. عندئذ نجري الاختبارات التجريبية التي تثبت صدق هذه الفروض، فترقى إلى منزلة النظريات.
5
يذهب بوبر إلى أن هناك مشكلتين تواجهان هذا التصور التقليدي للعلم: (1)
المشكلة الأولى هي أنه ليس هناك شيء من قبيل الملاحظة الخام المحايدة، بلا فروض مسبقة وبلا محتوى نظري. فجميع الملاحظات تتضمن فكرة معينة عن طبيعة الشيء الملاحظ تحدد لنا هذا الصنف من الأشياء وتفترضه مسبقا. وهي إذن فكرة محملة بالنظرية وسابقة على أي استنتاج نستمده من الملاحظة. لا ملاحظة بلا فروض نظرية مسبقة. فأن يلاحظ المرء على الإطلاق هو أمر يتضمن بالضرورة فروضا نظرية مسبقة عن الشيء الذي يلاحظه. ونحن في جميع الأحوال عندما نلاحظ فإنما نلاحظ شيئا ما بوصفه كذا أو كيت، هذا الكذا والكيت يحمل معه متضمنات نظرية تأخذنا في الأغلب وراء المحتوى الخالص للملاحظة. عندما نقول على سبيل المثال: «هذا كوب من الماء»، فإن هذا التقرير يحمل معه في حقيقة الأمر فروضا نظرية حول سلوك تلك الكيانات المشار إليها ب «الكوب» و«الماء»، وهي فروض تنطوي على ما يتجاوز مادة الملاحظة الراهنة.
6
ونحن عندما نتعرف على حدثين اثنين بوصفهما تكرارا لنفس الحدث، فإننا هنا ننتقي بالضرورة جانبا معينا يتشابهان فيه، ونضرب صفحا عن بقية الجوانب التي يختلفان فيها. فهما بالتأكيد مختلفان، وإلا لما كانا حدثين متمايزين (مبدأ ليبنتز - هوية اللامتمايزات
Identity of Indiscernibles ). فالملاحظات لكي تكون ممكنة على الإطلاق تتضمن دائما بشكل صريح أو مضمر انتقاء شطر معين من ملامح البيئة ورفض الملامح الأخرى. ذلك أن المجال الممكن للأشياء التي بوسعنا أن نلاحظها هو مجال لا نهاية له، ومن ثم فنحن مضطرون إلى الاختيار، وما نختار أن نلاحظه إنما تحدده لنا اهتمامات نظرية. (2)
المشكلة الثانية هي مشكلة الاستدلال الاستقرائي
Inductive Inference ، ويطلق عليها بوبر اسم «مشكلة هيوم». في حالة الاستدلال الاستنباطي
Deductive Inference
من المحال أن تصدق مقدمات الاستدلال الصحيح دون أن تصدق نتيجته. فإذا قلنا مثلا: [«جميع البشر فانون» و«سقراط من البشر»] فمن الضرورة أن «سقراط فان». أما الدليل الاستقرائي فليس قاطعا بهذه الطريقة، فقد تكون مقدماته صادقة ونتيجته رغم ذلك كاذبة.
تتصف النظريات العلمية بأنها قضايا عامة (كلية) تأخذ صيغة:
كل أ هو ب
All As are Bs
وهي صيغة تتجاوز الأدلة المستمدة من التجربة «الخبرة»
Experience ، فالقضية المقررة هنا لا تلزم عن أي عدد متناه من ملاحظاتنا لكل من «أ» و«ب». وإنما الذي يلزم هو فقط قضايا من الصيغة:
بعض أ هو ب
Some As are Bs
إذ ليس هناك استحالة منطقية في أن أ القادمة في رتل الملاحظة لن تكون ب.
يترتب على ذلك أنه ليس هناك قضية علمية كلية يمكننا أن نبرهن على أنها صادقة بالضرورة، فالقوانين العلمية دائما تتجاوز الملاحظات الممكنة، ودائما تتخطى الخبرة المتاحة.
7
والاستدلال من التجربة إلى القوانين الكلية ليس دليلا استنباطيا صحيحا منطقيا، ولا هو استدلال يمكن تبريره بالتجربة، لأن الانتقال من: «الأدلة الاستقرائية قد صدقت فيما مضى» إلى: «إذن الأدلة الاستقرائية سوف تسري في المستقبل»، هو نفسه استدلال استقرائي. ومن ثم فإن أي تبرير من هذا الصنف سيكون دائريا، أي منطويا على «دور منطقي»
Vicious Circle .
8
والحق أن الاستدلال الاستقرائي لا يمكن أن يكون صحيحا إلا إذا افترضنا أن الاطرادات
Uniformities
التي شملت الحالات التي تمت ملاحظتها هي اطرادات سارية على الحالات التي لم نلاحظها. ولكن هذا الافتراض ليس حقيقة منطقية «قبلية»
a Priori
9
ينطوي إنكارها على تناقض، ولا هو افتراض تبرره التجربة. إنه في الحقيقة «قفزة إيمانية»، ليس لها سند في العقل المحض ولا في التجربة الحسية، ولا يمكن تبريرها دون دور منطقي ظاهر.
هكذا يرفض بوبر الاستقراء، فالاستقراء عنده ليس منهجا مثمرا لصياغة نظريات علمية ولا هو منطق قويم لتبرير النظريات. وهو يزعم أنه قد حل مشكلة الاستقراء، ولكنه لم يحلها بتبرير الاستقراء، بل بطرح منهج علمي بديل عنه، ولكنه يؤدي نفس المهمة التي يؤديها الاستقراء من حيث إنه يتيح لنا أن نفضل نظرية على أخرى بناء على أسس تجريبية. وبوبر في ذلك ملتزم بعد بالمبدأ التجريبي القائل بأن الملاحظة والتجربة هما المحك الوحيد لقبول النظريات العلمية أو لرفضها، ومثل هذه القرارات لا يمكن تبريرها بشكل «قبلي» (أي سابق على التجربة )
a Priori . هكذا نكون قد نفذنا إلى لب فلسفة بوبر؛ أي الفكرة القائلة بأن ما يميز العلم عن اللاعلم ليس هو الاستقراء كمنهج أو كمنطق تبريري، بل إن العلم يتكون من نظريات تتصف في آن واحد بأنها متسقة ذاتيا وبأنها يمكن، من حيث المبدأ، أن تكذب أو تدحض.
يستخدم بوبر مصطلحات «الفروض»
Hypotheses ، «الحدوس الافتراضية» (التخمينات)
Conjectures ، «النظرية»
Theory ، «القانون العلمي»
Scientific Law ، على التعاوض. وذلك لسبب بسيط ومستمد من المبدأ الاستنباطي المسمى
Modus Tollens :
ق تلزم عنها ك
لا − ك
إذن، لا − ق
وهو مبدأ يقول على التقريب: إنه إذا كان تقريرنا للقضية ق يستلزم تقريرنا للقضية ك، وكانت ك كاذبة، تكون ق هي أيضا كاذبة. وبإمكاننا في هذه الصيغة أن نستبدل بالقضية ق الرمز ف الذي يمثل «فرضية» علمية كلية معينة، وأن نستبدل بالقضية ك الرمز ل الذي يرمز إلى عبارة تقرر «ملاحظة» معينة. عندئذ نظفر بالصيغة التالية:
ف تلزم عنها ل
لا − ل
إذن لا − ف
والنقطة الجوهرية التي ينبغي أن نلتفت إليها هنا هي أن هذه الصيغة تثبت الفارق المنطقي بين «التحقيق»
Verification
و«التكذيب»
Falsification . ففي حين لا يمكن إثبات صدق نظرية علمية كلية بأي عدد متناه من الملاحظات مهما ازداد ومهما ارتفع، فإننا من الوجهة المنطقية لا يلزمنا أكثر من ملاحظة حالة واحدة مناقضة للدعوى الكلية للنظرية لكي يتم تكذيبها أو دحضها. إذن من القضية الكلية «كل أ هو ب» (ف) يمكننا أن نستنبط القضية التالية: «من الخطأ أن بعض (حتى واحدة) أ ليس ب» (ل)، وأننا إذا لاحظنا أن «بعض (على الأقل واحدة) أ ليس ب» (لا − ل) لترتب على ذلك بالاستنباط المنطقي المحض أن «كل أ هو ب» قضية كاذبة (لا − ف). فالعبارة التقريرية «كل البجع أبيض» يمكن تكذيبها بملاحظة بجعة واحدة غير بيضاء، والتي يلزم عنها أن «ليس كل البجع أبيض». بذلك تكون نظرية ما قابلة للتكذيب
Falsifiable ، إذا وفقط إذا أمكن منها استنباط «عبارة ملاحظة» ما والتي إذا كذبت لكانت النظرية كاذبة. وعلى النظرية العلمية الأصيلة أن تستبعد حالة ممكنة منطقيا أي تحظرها أو تمنعها من الحدوث، وذلك بأن تحدد بأكبر قدر مستطاع من الدقة ماذا عسى أن تكون هذه الحالة. وهذا هو تأويل قول بوبر إن كل نظرية علمية هي نوع من المنع أو الحظر. فالنظرية الأصيلة يجب ألا تكون متساوقة مع كل الحالات الممكنة منطقيا. ويمكننا القول بتحديد أكثر: إن ما هو مستنبط من النظرية العلمية هو «عبارة أساسية» واحدة على الأقل تمثل«مكذبا بالقوة»
،
10
مثل هذه العبارة ستكون «عبارة ملاحظة»
Observation Statement
تشير إلى حدث ما قابل للملاحظة العامة. وهذا يستبعد «العبارات الوجودية» الخالصة التي تأخذ صيغة «بعض أ هو ب» من فئة العبارات العلمية، وذلك لأنها غير قابلة للاختبار. فليس هناك أي ملاحظة ممكنة تستطيع أن تدحض هذه العبارات الوجودية؛ لأنه يبقى هناك دائما مكان ما، إن صح التعبير، لم نفتش فيه بعد.
كان كارل بوبر مثقفا علميا ومتابعا لصيقا لعلوم عصره. وقد استوقفه التباين الشديد بين الماركسية والفرويدية من جهة ونظريات أينشتين من جهة أخرى. يقول بوبر إن الماركسيين والفرويديين كانوا يرون أينما نظروا تأييدا لنظرياتهم، بينما حاول أينشتين جهده أن يصوغ تنبؤا شديد التحديد وقابلا للملاحظة ومترتبا على نظريته على انحناء الضوء، وهو تنبؤ من شأنه إذا ما كذبته الملاحظة أن يدحض النظرية ويجهز عليها. إن نقطة الخلاف هنا ليست هي الواقعة السيكولوجية الخاصة بنفور الماركسيين والفرويديين من التسليم بوجود أدلة تدحض نظرياتهم، بل هي بالأحرى في طبيعة البنية المنطقية للنظريات الماركسية والفرويدية ذاتها والتي تجعلها محصنة من التكذيب. كان الأمر الذي يثير شكوك بوبر هو أن النظريات الماركسية والفرويدية كانت «مؤيدة» فقط، وأنها بدت مفسرة لكل شيء لأنها، بسبب غموضها أو بسبب آلياتها المصممة للتملص من الأدلة المضادة كانت غير قابلة للدحض
Irrefutable . مثل هذه النظريات تعد خرقا وانتهاكا للموقف العلمي النقدي الذي تمسك به بوبر. ولكن هذا لا يعني أنها «لا معنى لها» باصطلاح الوضعية المنطقية، ولا يعني حتى إنها غير صادقة، بل يريد بوبر أن يقول إنها ليست علمية من حيث إنها غير قابلة للاختبار؛ أي أنه من الصعب تكذيبها إن لم يكن من المستحيل. فقد كانت هذه النظريات تسيج باستمرار الشروط والمحاذير والتحفظات، بحيث لم يعد من الممكن أن تستنبط منها ملاحظات مضادة محددة. إنها لا تخبرنا بأي شيء محدد يكذب النظرية إذا ما لاحظناه، أو بعبارة أخرى هي نظريات لا تنبئنا بما عسى أن يكون عليه حال الأشياء لو أنها كانت كاذبة. وهو يعني أن معتنقي هذه النظريات قد تخلوا عن الموقف العلمي النقدي.
وتبقى الآن نقطة أخرى علينا أن نلم بها قبل أن ننتقل من منطق التكذيب إلى منهجه، وهي تتعلق بالمقارنة بين نظرية نيوتن ونظرية أينشتين. لقد كانت الملاحظات تقدم كل يوم أدلة لا حصر لها تأييدا لنظرية نيوتن، ولكن التأكيد وحده كما ألح بوبر لا يكفي لتأسيس الصدق، وهذا هو الدرس الذي يريدنا بوبر أن نتعلمه ولا ننساه. لقد دبت التناقضات بين تنبؤات نظرية نيوتن وبين الملاحظات، مما أدى إلى نشأة نظرية منافسة لها هي نظرية أينشتين، على الرغم من التأييدات الهائلة لنظرية نيوتن. (2) منهج التكذيب
إذا كان منطق التكذيب بسيطا تماما، فإن منهج التكذيب أكثر تعقيدا بكثير. ذلك أن ما يمثل تفنيدا لنظرية من النظريات هو أمر واضح من الوجهة المنطقية، أما تقرير ما إذا كانت النظرية هي في الحقيقة مفندة، فهو أمر مختلف تماما. والمشكلة ليست مقصورة على وجود مصاعب في عملية البت في حدوث التفنيد، بل إن بوبر أيضا يسلم بوجود طرائق عديدة يمكن بها دائما تفادي وقوع تفنيد ظاهر.
ثمة مشكلات عديدة تبرز أثناء محاولة التكذيب الفعلي لنظرية ما بواسطة النقاش النقدي والملاحظة والتجربة: (1)
من الممكن دائما التشكك في سلامة الملاحظات التي تمت، فلعلنا ارتكبنا خطأ ما في ملاحظاتنا. وهنا تدخل مشكلة الأساس التجريبي: إذا لم يكن بإمكاننا الوثوق في صدق عبارات الملاحظة التي نستخدمها لاختبار نظرياتنا، فليس بإمكاننا الوثوق في إن نظرياتنا تفندها هذه العبارات. ويعترف بوبر بأن ليس هناك «عبارات - ملاحظة» لا يرقى إليها الشك، فجميع عبارات الملاحظة نفسها تنطوي على شيء من المحتوى النظري ، وهي مفتوحة لمزيد من الاختبار، غير أن هذا لا يفضي إلى نكوص (تراجع) لا نهائي
Infinite Regress ، فرغم أن جميع العبارات التجريبية قابلة للاختبار «بالقوة»
، فبوسعنا أن نسلم بصدقها مبدئيا أو اصطلاحيا
Conventionally ، ومن ثم نستعملها لاختبار أو تكذيب نظريات تكون هذه العبارات مكذبات لها بالقوة
. وإذا كنا في ريب منها، فما يزال بإمكاننا إجراء اختبارات أخرى، فليس هناك أسس تجريبية نهائية. (2)
المشكلة الثانية تتعلق بحقيقة أن النظريات العلمية يتم اختبارها دائما جماعات وليس فرادى. فمن الضروري في اختبار أي نظرية أن نصف الشروط المبدئية بواسطة مجموعة من الفروض المساعدة؛ أي أن هناك نظريات أخرى معينة يشملها البحث تعمل كافتراضات متعلقة بظروف الاختبار. هذه الفروض أيضا تقدم الدلالة التكذيبية للملاحظة المستنبطة من النظرية. مثلا حين تقوم بملاحظة معينة فقد نفترض أن الضوء ينتقل في خط مستقيم، هكذا تصبح صيغة التكذيب
Modus Tollens
أكثر تعقيدا:
ف + ف م (الفرضية + الفرضية المساعدة) تلزم عنها ل
لا − ل
إذن لا − ف
الآن إذا شئنا الدقة، فكل ما يمكننا قوله في هذا الموقف المعقد هو أن عنصرا ما في المجموع (ف + ف م) قد تم تفنيده - أي قد تكشف أنه كاذب - وهذا العنصر ليس بالضرورة هو النظرية ف التي نقوم باختبارها، بل قد تكون واحدة أو أكثر من الفرضيات المساعدة ف م. ما يمكننا أن نقوله هنا هو أن الفرضيات المساعدة نفسها مفتوحة للاختبار. (3)
المشكلة الثالثة وهي وثيقة الصلة بالمشكلة السابقة، هي أن من الممكن دائما تبني فروض عينية (تحايلية/غرضية)
ad hoc
لتحاشي التفنيد. والمقصود بالفروض العينية فروض معينة يتم وضعها، لا لشيء إلا لتجنب الدحض. مثال ذلك أن نظرية «كل الخبز مغذ» يمكن تحصينها من أن يدحضها وجود بعض الخبز السام في فرنسا بأن تضيف إليه قضية «كل الخبز مغذ» تعبير «إلا في فرنسا».
وهناك طريقة تحايلية أخرى لتفادي الدحض، وهي ببساطة أن تخرج الشاهد المضاد الظاهر من التعريف نفسه. فإذا كنا بصدد الفرضية «كل أ هو ب»، وداهمنا شاهد مضاد من أ الذي ليس ب، فمن الممكن القول بأننا إذا بدا لنا أننا لاحظنا واحدا من أ الذي ليس ب، إذن ما لاحظناه لا يمكن أن يكون واحدا من أ أصلا. هذا الأسلوب يجعل الصفة ب جزءا من التعريف المحدد لأي أ. هكذا يمكننا القول مثلا إن بجعة غير بيضاء هي ليست بجعة على الإطلاق.
ويعد استخدام الفروض العينية والمناورات الاصطلاحية في رأي بوبر نوعا من الغش الفكري، ومن ثم فمن اللازم اتخاذ بعض القواعد المنهجية لتجنب استخدام الفروض العينية. من ذلك اتباع المبدأ المنهجي القائل بأننا إذا قمنا بتعديل نظرية ما عن طريق إضافة بعض الفروض الجديدة بغرض تجنب التفنيد، فمن اللازم أن تكون هناك بعض المترتبات التي يمكن استنباطها من جماع [النظرية الأصلية والفروض المضافة الجديدة] والتي لم يكن من الممكن استنباطها من النظرية الأصلية غير المعدلة. وبتعبير آخر، يمكننا القول بأن الفروض المضافة أو المعدلة يجب أن تكون فرضية جديدة تكون قابلة للاختبار بطريقة لم تكن متاحة للفرضية الأصلية: أي أن هذه الفروض يجب أن تكون قابلة للاختبار بحد ذاتها بشكل مستقل. من هنا، فنحن نرفض «كل الخبز مغذ، إلا في فرنسا» بوصفها عينية «تحايلية»
ad hoc ، إذ ليس لها مترتبات جديدة قابلة للاختبار لم تكن أيضا اختبارا ل «كل الخبز مغذ». والعكس غير صحيح؛ لأن هناك مترتبات قابلة للاختبار ل «كل الخبز مغذ»، والتي ليست اختبارا ل «كل الخبز مغذ إلا في فرنسا.»
من الواضح أن بعض الفرضيات أكثر قابلية للاختبار أو التكذيب من بعض، فنظرية «كل الكواكب تتحرك في حلقات مغلقة» (ف1) أقل قابلية للتكذيب من «كل الكواكب تتحرك في مسارات بيضاوية «إهليلجية»» (ف2)؛ لأن ف1 أقل تحديدا بخصوص أي الأدلة يمكن أن تدحضها. وبتعبير آخر يمكن القول بأن ف1 «أقل منعا» من ف2، إن صدقها يتساوق مع نطاق من الملاحظات الممكنة أكبر بكثير مما تفعل ف2، ذلك أن ف2 لا تقول فقط بأن الكواكب تتحرك في حلقات مغلقة، بل تحدد أيضا نوع الحلقة بدقة. وعليه يمكن أن نقول بأن جميع الملاحظات التي ستكذب ف1 ستكذب ف2، ولكن بعض الملاحظات التي ستكذب ف2 لن تكذب ف1. فإذا كانت الكواكب تتحرك في أي شكل غير الشكل البيضاوي، فسوف تكون ف2 كاذبة، في حين أنها ما دامت تتحرك في أي شكل حلقي فإن ف1 ستكون صادقة. يعبر بوبر عن هذه النقطة بقوله: كلما زاد المحتوى المعلوماتي للنظرية كانت أكثر قابلية للتكذيب؛
11
إنها تنبئنا أكثر عن الحالة التي عليها العالم، وذلك بأن تستبعد عددا أكبر من الحالات الممكنة منطقيا، فالمحتوى المعلوماتي يزداد بازدياد مجموعة العبارات التي لا تتساوق (تتماشى) مع النظرية.
ويشير بوبر أيضا إلى أن قابلية التكذيب/والمحتوى المعلوماتي لنظرية ما يتناسبان عكسيا مع «احتماليتها»
، فالمحتوى المعلوماتي ل «تحصيل الحاصل»
Tautology
هو صفر، ذلك لأن تحصيل الحاصل لا ينبئنا بشيء عن حالة العالم المحدد الذي وجدنا فيه. مثال ذلك أن 1 + 1 = 2 في جميع «العوالم الممكنة». وهي تحصيل حاصل فارغ من المحتوى المعلوماتي. ومثال آخر: «إما أن السماء تمطر أو أنها لا تمطر»، فهي لا تخبرنا خبرا ومحتواها المعلوماتي = صفر، أما احتماليتها فهي أعلى الاحتماليات وتساوي 1، واحتمالية صدق ف2 (جميع الكواكب تتحرك في مسار بيضاوي) أقل بكثير من احتمالية صدق ف1 (جميع الكواكب تتحرك في حلقات مغلقة)، ذلك أن فئة «المكذبات بالقوة»
ل ف1 هي فئة فرعية من مكذبات ف2 فمثلا «الكواكب تتحرك في خط مستقيم» سوف تكذب كلا من ف1، ف2، ولكن «الكواكب تتحرك في دائرة» ستكذب ف2 ولكن لن تكذب ف1 لأن الدائرة نوع من الحلقة المغلقة. (2-1) تقدم المعرفة
يذهب بوبر إلى أننا نحقق تقدما في معرفتنا، ونقارب الحقيقة، بواسطة عملية محاولة وخطأ. ويقدم نظرة تطورية لنمو المعرفة العلمية تتخذ الصورة التالية:
م1 ←
ن، ن1 ←
أ، أ1 ←
م2
حيث م1 تشير إلى مشكلة معينة، تقوم إزاءها باقتراح «حل اختباري»
Tentative Solution
أو «نظرية اختبارية» (ن ن1)، ثم نحاول عندئذ استبعاد النظريات الكاذبة بتعريضها لاختبار قاس ونقد شديد (أ أ1)، عندئذ يبرز موقف جديد أو مشكلة جديدة (م2)، وهكذا تنمو المعرفة باطراد، في حلقات متتالية تبدأ من مشكلة وتنتهي بمشكلة، ولكنها ليست دائرية، فهي لا تنتهي من حيث بدأت، بل تنتهي بموقف جديد ومشاكل جديدة. هذه الجدة هي التي تكفل التقدم المستمر للمعرفة.
12
يحقق العلم تقدمه بواسطة «الحدوس الافتراضية»
Conjectures
و«التفنيدات»
Refutations . فنحن نتعلم من أخطائنا. نحن نبدأ من مشكلات ولا نبدأ من ملاحظة محايدة، أي أننا نبدأ من الخطأ! من الفشل في تفسير ظاهرة ما. فمجرد الملاحظة لا تشكل مشكلة، فنحن لا نعي مشكلة قط إلا في ضوء نظرية قائمة تفشل في تفسير ملاحظة معينة. ونحن لا نحاول حل المشكلة باقتراح أكثر النظريات احتمالا - فالنظريات الأكثر احتمالا تنطوي على أقل محتوى معلوماتي - بل باقتراح حلول جريئة أو تخمينات شديدة القابلية للتكذيب؛ لأنها شديدة التحديد والدقة فيما تقوله عن العالم. عندئذ يمكننا اختبار هذه النظريات باختبارات قاسية وفاصلة، وهي اختبارات قاسية لأن ما تستلزمه النظرية غير متساوق مع قطاع عريض جدا من الملاحظات الممكنة، بوسعنا حدسيا أن نرى قسوة الاختبار ستزداد كلما قلت احتمالية النظرية، ستكون النظرية الجديدة جريئة وغير محتملة، وستكون اختباراتها قاسية لأنها تتضمن رفضا لجزء من الخلفية المعرفية للنظريات العلمية السائدة في حقبتها التاريخية. فنظرية أينشتين مثلا كانت جريئة بالنسبة للافتراضات النظرية السائدة في زمنها؛ لأنها ناقضت الافتراض الشائع في زمنها بأن الضوء ينتقل في خطوط مستقيمة.
ومن الجدير بالذكر في مذهب بوبر التكذيبي أن مصدر النظرية العلمية هو أمر لا صلة له البتة بوضعها العلمي، أي بتحديد ما إذا كانت النظرية علمية أم لا. فالنظرية لا تكون علمية ما لم تكن قابلة للتكذيب، يستوي في ذلك أن تكون النظرية قد جاءت من المختبر أو من نفحة إلهام. بالطبع قد تكون إحدى الطرق أكثر خصوبة من غيرها كوسيلة لإنتاج نظريات أصيلة، ولكن هذا لا علاقة له بالسؤال عما إذا كانت عبارة ما هي عبارة علمية أم غير علمية، ولا علاقة له بالسؤال عن مدى أصالتها العلمية إن كانت عبارة علمية. ليست هناك طريقة آلية يمكن بها للعلم أن يحقق تقدما، وبوبر في ذلك يرخي العنان للتأمل الخيالي الجريء، فالعلم ليس أقل احتياجا للخيال من أي فن من الفنون.
يقول بوبر إننا في حقيقة الأمر لا نأتي إلى العالم كملاحظين سلبيين محايدين، بل نحن نولد مزودين بتوقعات أو ميول فطرية معينة، تعمل بنفس الطريقة التي تعمل بها النظريات المشيدة عن وعي ودراية. والحق أن جميع الحيوانات تقوم في سلوكها بتفعيل حلول فطرية للمشكلات.
13
ولكن في حين قد تكون هذه «النظريات» الفطرية قبلية سيكولوجيا
فإن ذلك لا يعني أنها صحيحة قبليا
a Priori Valid . إن أهم فارق بين الإنسان والحيوانات الأخرى هو قدرة الإنسان على أن يجعل نظرياته تموت نيابة عنه! بوسع الإنسان أن يتبنى نظريات جديدة بدلا من التشبث بنظرياته والموت معها، وبوسع المرء أن يرى جدوى هذه القدرة حين ينعم النظر في الطريقة التي ما ينفك الزنبور يخبط بها زجاج النافذة بلا هوادة، وفشل من ثم في حل «مشكلة» الهروب.
ونحن في الأحوال العادية لن نكون في موقف اختبار نظرية واحدة بمفردها، بل سيكون علينا أن نختار بين عدد من النظريات المتنافسة. وحتى لو صادفنا ملاحظة تكذب نظرية معينة، فنحن لن نقدم على رفض النظرية ما لم نعثر على نظرية أفضل منها نستبدلها بها. حقيقة الأمر أن قواعد بوبر المنهجية تطالبنا أن نتريث في رفض نظرية بعد شاهد مكذب واحد، وألا نتعجل في التخلي عنها إلا بعد تواتر تكذيبات قوية وبعد أن نعثر على نظرية أفضل.
ومحك المفاضلة بين النظريات المتنافسة يكون كالتالي: علينا أن نفضل النظرية ن2 على النظرية ن1 إذا كانت ن2 تحل جميع المشكلات التي تحلها ن1 وتحل المشكلات التي فشلت ن1 في حلها (أي حيث تم دحض ن1)، وتقدم حلولا لبعض المشكلات الإضافية التي لا تقول ن1 عنها شيئا، وبالتالي تتيح فرصة لمزيد من التكذيب. وبتعبير آخر، علينا أن نختار النظرية التي تفسر كل ما تفسره النظرية السابقة وتفسر ما فشلت النظرية السابقة في تفسيره، وتقدم تفسيرا لظواهر إضافية لا تفسرها النظرية السابقة. والإيفاء بهذه الشروط يضمن لنا ألا تكون نظريتنا الجديدة هي هي النظرية القديمة مضافا إليها فرض تحايلي (غرضي/عيني)
ad hoc
لا يخدم غير غرض واحد، وهو تفادي التفنيدات الواضحة أو الإخفاقات الظاهرة.
بوسع المرء أن يوجز فلسفة العلم عند بوبر فيما يلي: تتقدم المعرفة عن طريق اقتراح نظريات تفسيرية جريئة، أي اقتراح تفسيرات ذات محتوى معلوماتي عال وذات قابلية عالية للتكذيب، ثم تعريض هذه النظريات لاختبارات قاسية وفاصلة، ثم إحلال نظريات أفضل محل النظريات المكذبة. وبمقدورنا القول بأننا استبدلنا بالنظرية نظرية أفضل وأكثر أصالة ومعقولية، حتى لو لم يتم تكذيب النظرية القديمة بشكل نهائي، إذا كانت النظرية الجديدة - شريطة ألا تكون قد كذبت - قادرة على أن تفسر كل ما فسرته النظرية القديمة، وأشياء فشلت النظرية القديمة في تفسيرها، وتقدم أيضا تفسيرات لأشياء لم تقدم لها النظرية القديمة شيئا. أي أن النظرية الأفضل ن2 سوف تشتمل على النظرية ن1 بوصفها اقترابا نحو الحقيقة. فإذا كان أي تكذيب للنظرية ن1 سيعد تكذيبا للنظرية ن2 وكان العكس غير صحيح، فإذن تكون النظرية ن2 مفضلة عقلانيا على النظرية ن1 (شريطة ألا تكون ن2 قد تم تكذيبها). ومعنى ذلك أننا ننتقي النظرية التي هي أكثر قابلية للتكذيب - وبالتالي أكثر محتوى معلوماتيا - ما لم تكن قد نالها التكذيب.
14 (2-2) تعزيز النظريات
Corroboration
إذا صمدت نظرية ما لمحاولات مستمرة لتكذيبها باختبارات قاسية، عندئذ يمكننا القول بأنها على درجة عالية من التعزيز، وليس يعني ذلك أن صدقها قد ثبت بشكل نهائي، أو حتى إنها غدت أكثر احتمالية. فتعزيز نظرية ما في وقت ما هو في الحقيقة تقرير عن درجة قابليتها للتكذيب، ومدى قسوة الاختبارات التي تعرضت لها، والطريقة التي صمدت بها لهذه الاختبارات. ومن المنطقي أن يزداد تعزيز النظرية بازدياد قابليتها للتكذيب (شريطة ألا تكون قد كذبت) لأن قسوة الاختبارات التي يمكن أن تصمد لها يزداد بازدياد قابليتها للتكذيب.
ويعجل بوبر بإنكار أن يكون مفهوم التعزيز عودة جديدة لفكرة الاستقراء، ذلك أن التعزيز المقيض لنظرية ما لا يقول شيئا البتة عن ثباتها في المستقبل أو عن أدائها في المستقبل. وكلما قلت احتمالية النظرية زادت درجتها من التعزيز الممكن. فبإمكان النظرية الأقل احتمالية أن تخوض اختبارات أشد قسوة، وبالتالي أن تكون أكثر تعزيزا. وهذا يقدم مرة ثانية بيانا عن المفاضلة العقلية بين النظريات: تعد ن2 مفضلة على ن1 إذا كانت ن2 تصمد لكل الاختبارات التي تصمد لها ن1، وتصمد لاختبارات لم تصمد لها ن1، وتمضي لتفسر وقائع إضافية هي مترتبات عن ن2 قابلة للاختبار، وإذا كانت ن2 لم يتم تفنيدها بعد. (2-3) مذهب اللامعصومية
Fallibilism
من الجلي وفقا لموقف بوبر أننا لا يمكننا على الإطلاق أن نبرهن على أن نظرية ما هي نظرية صادقة، ذلك أننا لا يمكننا على الإطلاق أن «نعرف»، بمعنى أن نؤسس صدق نظرية بشكل نهائي لا يعود بعده أي احتمال بأن نكون مخطئين. بهذا المعنى يعد بوبر من القائلين بمذهب اللاعصمة أو اللامعصومية الذي قال به شارلس بيرس
C. Pierce
15 (1839-1914) من قبل: فمن المتعذر أن نكون على يقين تام بأننا قد عثرنا على الحقيقة. إن جميع نظرياتنا هي افتراضات حدسية وتخمينات مفتوحة دوما للاختبار. ولعل بإمكاننا إذ ذاك أن نقول إن بعض الحدوس أفضل من بعض؛ لأنها صمدت للاختبارات أكثر من غيرها. (2-4) الصدق ومظهر الصدق
Truth and Verisimilitude
وما دمنا حريصين على الحقيقة «الصدق»
Truth
فعلينا أن نكون حريصين على استبعاد أي نظرية نكتشف أنها كاذبة، لأننا بهذه الطريقة ربما نعثر على نظرية تكون صادقة. وبوبر في ذلك واضح تماما في تمييزه بين أمرين:
الأول:
ما إذا كانت نظرية ما صادقة أو كاذبة بصفة موضوعية من حيث هي متطابقة أو غير متطابقة مع الوقائع (ق تكون صادقة إذا، وفقط إذا، كانت متطابقة مع الوقائع).
الثاني:
أن «نعرف» ما إذا كانت ق متطابقة مع الوقائع.
وقد أخذ بوبر عن المنطقي العظيم ألفرد تارسكي (1902-1983) تعريفه للصدق:
ق صادقة إذا، وفقط إذا، ق.
ذلك أن كل عبارة غير ملتبسة هي إما صادقة أو كاذبة، وليس هناك احتمال ثالث، ولكن تقريرنا «متى» تكون قضية ما متطابقة مع الوقائع هو أمر مختلف تماما. ويذهب بوبر إلى أننا لا نملك أبدا، ولسنا في موقع يمكننا أن نقول إننا قد برهنا أو بررنا صدق نظرية.
16
ورغم ذلك فإن تعريف الصدق بأنه «تطابق»
Correspondence (تطابق ما في الأذهان مع ما في الأعيان كما تقول العرب، أو بتعبير آخر تطابق العبارة مع الوقائع التي تقررها العبارة)، يمكن أن يعمل كمبدأ تنظيمي
Regulative Principle : إنه شيء ما يمكن أن نبتغيه وندانيه. ومن الحق أنه كلما زاد تعزيز إحدى النظريات فمن المعقول أن نحزر بأننا نقترب من الحقيقة وندانيها. ويطلق بوبر على درجة اقتراب نظرية ما من الصدق اسم «مظهر الصدق»
Verisimilitude
الخاص بهذه النظرية. وهو يشتق فكرة مظهر الصدق من المحتوى المعلوماتي للنظرية: محتوى النظرية ن هو جميع تلك القضايا التي تلزم عن ن. ومحتوى ن يمكن إذن أن ينقسم إلى: «محتوى الصدق»
Truth Content (فئة جميع العبارات الصادقة التي تلزم عن ن)، و«محتوى الكذب»
Falsity Content (فئة جميع العبارات الكاذبة التي تلزم عن ن)، ومظهر صدق ن هو محتوى صدقها مطروحا منه محتوى كذبها. فإذا كنا نقارن بين ن1 ون2 فإن مظهر صدق ن2 يكون أكبر من مظهر صدق ن1 إذا كان محتوى صدقها أكبر من ن1 ولكن محتوى كذبها أقل، أو كان محتوى كذبها أقل ولكن محتوى صدقها أكبر. وبتعبير آخر، إذا كانت تترتب على ن2 عبارات صادقة أكثر من ن1 ولكن لا يترتب عليها عبارات كاذبة أكثر، إذن تكون ن2 أقرب إلى الصدق.
17
إذا كانت ن2 تلزم عنها جميع العبارات الصادقة التي تلزم عن ن1، وتلزم عنها بعض العبارات الصادقة التي لا تلزم عن ن1، ولا تلزم عنها عبارات كاذبة أكثر من ن1، فمن المعقول إذن أن نقول إن ن2 هي أقرب إلى الصدق من ن1؛ إن ن2 لديها مظهر صدق أكبر حتى لو كانت كاذبة. هكذا يمكننا عقليا أن نفضل ن2 على ن1 إذا كنا ننشد الحقيقة حتى لو كانت ن2 كاذبة، شريطة ألا يكون محتوى كذب ن2 كبيرا جدا.
ثمة صلة بين مظهر الصدق ودرجة التعزيز الخاصتين بنظرية ما، فإذا قارنا بين نظريتين من حيث درجة التعزيز ووجدنا أن جميع الاختبارات التي صمدت لها ن1 قد صمدت لها أيضا ن2، وأن ن2 قد صمدت لبعض الاختبارات التي لم تصمد لها ن1، وأن ن2 لم تفشل في اختبارات أكثر من الاختبارات التي فشلت فيها ن1، فمن المعقول إذن أن نفضل ن2 على ن1، ذلك أن بإمكاننا أن نحدس بأن ن2 لديها مظهر صدق أكبر؛ إنها أقرب إلى الحقيقة. إنها ستكون أكثر قابلية للاختبار من ن1؛ سيكون لها محتوى معلوماتي أكبر، ستخبرنا أكثر عن الحالة التي عليها العالم. ورغم أننا لم تتم لنا البرهنة على صدق ن2 (هناك احتمال حقا ما دمنا غير معصومين أن تكون كاذبة)، فإن بوسعنا أن نعرب عن تفضيلنا العقلي للنظرية ن2 بوصفها أشد تعزيزا من ن1، وأقرب منها إلى الصدق. النظرية ن2 أكثر قابلية للاختبار وتصمد لاختبارات أكثر مما تصمد لها ن1. (2-5) واقعية بوبر
من خلال تقبل بوبر لنظرية التطابق في الصدق، يمكن القول بأنه واقعي ميتافيزيقي
Metaphysical Realist ، أي أنه يرى أن نظرياتنا، إن صدقت، تشير إلى واقع مستقل عن الذهن ومستقل عن نظرياتنا. وعلى الرغم من ذلك، فهو لا يسمح لهذه الواقعية الميتافيزيقية أن تأخذنا بعيدا، أو أن تكون أكثر من «فكرة تنظيمية». فلا يزال علينا أن نقرر متى تكون نظرياتنا متطابقة مع الأشياء كما هي عليه بالفعل. ونحن لا يسعنا أن ننظر «من خارج» نظرياتنا إلى الواقع، ولا نملك إلا أن نعده واقعا ذلك الذي تخبرنا أفضل نظرياتنا، في ضوء النقد والاختبار الجاريين، أنه الواقع. ويذهب بوبر إلى أن من غير المحتمل أننا سنكتشف «الحقيقة» عن العالم أبدا. وبوبر مناوئ في العلم للنزعة الأداتية
Instrumentalism
التي تقول بأن النظريات العلمية لا تشير إلى كيانات حقيقية تفسر مسار ملاحظاتنا، بل هي بالأحرى «أدوات» و«وسائل» نافعة تقدم كل ما هو مطلوب، دون جزم بواقعيته، من أجل التنبؤ الدقيق عن مسار خبرتنا. تعد القوانين العلمية، وفقا لهذه الوجهة من الرأي (الأداتية)، قواعد لا حقائق.
18
وبوبر مناوئ أيضا لمذهب الماهية
Essentialism
الذي يقول إن بإمكاننا أن نكتشف واقعا نهائيا نفسر في ضوئه كل شيء آخر. ويرى بوبر أن هذا الموقف يسفه مساعينا الدائمة نحو تفسيرات أفضل. إنما يتخذ بوبر خطا وسطا يكون العلم بمقتضاه هو محاولة أصيلة لتفسير بعض الأشياء الحقيقية التي نعرف أو نفترض أنها حقيقية بواسطة أشياء أخرى مجهولة، وتتطلب الكشف ويمكن اختبار صدقها بمعزل عن الظواهر المطلوب تفسيرها، ولكن لا نهاية للعمق الذي يمكننا أن نوغل فيه التماسا للتفسيرات. (2-6) المعرفة موضوعية
عندما يتحدث بوبر عن «المعرفة»
Knowledge ، فهو لا يشير إلى حقائق مؤسسة أو مبررة بشكل نهائي. يؤكد بوبر فضلا عن ذلك أنه عندما يتحدث عن «المعرفة» فإنما يتحدث عن المعرفة «بالمعنى الموضوعي». ويقصد بذلك أن يميز تمييزا دالا بين المعرفة الذاتية لأي شخص وبين المعرفة الموضوعية كما هي مصوغة في اللغة وموجودة في الكتب والدوريات بالمكتبات ومؤسسات البحث ومفتوحة للتفحص والاختبار العام. بهذا المعنى، فإن المعرفة العلمية شيء موضوعي. ثمة علاقات منطقية موضوعية موجودة بين العبارات المصوغة في اللغة، بغض النظر عما إذا كان أي شخص على دراية فعلية بها أم لم يكن. وتتضاءل أهمية ما يعتقده العلماء الأفراد بالقياس إلى النمو الموضوعي للمعرفة. إن الخطأ الكامن فيما يسميه بوبر «فلسفة الاعتقاد»
Belief Philosophy
هو أنها تحاول أن ترى المعرفة بوصفها صنفا (مؤكدا بشكل خاص) من الاعتقاد. (2-7) العوالم الثلاثة
يميز بوبر في الحقيقة الأمر بين عوالم ثلاثة متبادلة التأثير والاعتماد:
العالم 1:
هو العالم الفيزيقي.
العالم 2:
هو العالم العقلي الذاتي.
العالم 3:
هو العالم الموضوعي للنظريات والرياضيات والأدب والفن ... إلخ الذي توجد داخله علاقات منطقية موضوعية، وهي موضوعية بمعنى أنها مستقلة عن وعي العقول الفردية ودرايتها.
تنشأ موضوعات العالم 3 بواسطة عقول العالم 2، استجابة في الأغلب مشكلات مدركة في العالم 1، غير أنها ما إن تتم صياغتها حتى يصبح لها وضع موضوعي يتجاوز نيات الفرد. ومع ذلك فقد ركزت الفلسفة التقليدية على المعرفة بمعناها الذاتي، أي ما يتسنى للشخص المفرد أن يعرفه؛ وكان منطلقها هو أنه من العقل الفردي فقط ومما يمكن أن يعرفه العقل الفردي بالفعل يمكن تبرير أية دعاوى معرفية جديدة. إلا أن معظم المعرفة البشرية بالمعنى الموضوعي ليست معروفة من قبل أي شخص بالمعنى الذاتي. فالمعرفة البشرية، وبخاصة المعرفة العلمية، تتألف كلها تقريبا من «معرفة بغير ذات عارفة».
19
أدرك بوبر مدى الثراء والخصب الذي تنطوي عليه فكرة «موضوعية المعرفة»، فهي علاج ناجع لتلك الذاتية المفرطة التي تسود مجالات كالفن والأدب وربما الأخلاق. يريد بوبر أن يقول إن هذه الأنشطة وإن تكن اختراعات بشرية، فهي ليست مجرد تعبير عن مشاعر إنسانية ذاتية. فكما أن الرياضيات من اختراع العقل البشري، ولكنها تخضع لمعايير موضوعية وتضم مشكلات حقيقية وإجابات صحيحة أو خاطئة عن هذه المشكلات، كذلك الحال بالنسبة للفن مثلا، فهو يطرح مشكلاته الخاصة ثم يحلها أو يفشل في حلها.
20
من الجلي أن هناك أوجه شبه كبيرة بين عالم بوبر الثالث وبين عالم المثل الأفلاطوني أو عالم الصور الموضوعية. غير أن هناك فرقا حاسما بينهما: وهو أن العالم 3 عند بوبر ليس ثابتا بأي حال من الأحوال بل يتغير باستمرار ويتطور كلما نمت المعرفة وتقدمت من خلال الفحص النقدي للمعارف التي تم لنا تحصيلها. وقد سبق أن ألمحنا إلى رفض بوبر لمذهب الماهية
Essentialism
أي رفضه لوجود واقع نهائي علينا أن نكتشفه ونفسر في ضوئه كل شيء آخر.
يقول بوبر في كتاب «النفس ودماغها»: «وفي حين أؤكد على وجود موضوعات العالم 3، فأنا لا أعتقد أن الماهيات موجودة، بمعنى أنني لا أعزو أي وضع وجودي لموضوعات تصوراتنا أو أفكارنا أو لمسميات هذه الأسماء. وأرى أن التأملات النظرية حول طبيعة أو تعريف الخير أو العدل ... إلخ تفضي إلى مماحكات لفظية وأن علينا اجتنابها. إنني مناوئ للمذهب الذي أسميته «مذهب الماهية»، ومن ثم أرى أن الماهيات العقلية الأفلاطونية لا تضطلع بأي دور في العالم 3 (أي أن عالم 3 الأفلاطوني - رغم أنه يعد استباقا واضحا للعالم 3 الذي قلت به - يبدو لي بناء عالم خاطئا). ومن جهة أخرى فلست أحسب أن أفلاطون كان على استعداد لقبول كيانات من قبيل المشكلات أو الحدوس الافتراضية - وبخاصة الكاذبة منها - داخل عالم الموضوعات العقلية الذي قال به.»
21 (2-8) مجمل مذهب التكذيب
للتنبؤ أهمية عظيمة تمنحنا أفضلية بقاء كبرى على أعضاء الفصائل الأخرى من الكائنات. وتعتبر القدرة على التنبؤ معيارا للعلم الصحيح بصفة عامة، فالتنبؤات الصحيحة هي المحك الذي تختبر به النظريات، وإذا تعذر اختبار نظرية ما بسبب عقمها من التنبؤات القابلة للاختبار بقيت هذه النظرية عديمة القيمة. وتؤكد التوصيفات التقليدية على أهمية «تحقيق» النظرية، أو إثباتها بالملاحظة والتجربة. غير أن التحقيق مهما امتد وتواتر لا يملك أن يقدم برهانا نهائيا على صحة النظرية. ولننظر، لتقريب ذلك، إلى هذه القضية التجريبية الشهيرة:
جميع الدببة القطبية بيضاء.
إن هذه النظرية تتنبأ بأن الدب الذي سأراه في المرة القادمة سيكون أبيض، قد نقول عندئذ إن هذا يحقق النظرية، ولكن الحقيقة أن هذا لا يعد برهانا نهائيا على صدق النظرية ما دام هناك احتمال على أي حال بأن يأتي الدب التالي لهذا غير أبيض. ولو صدق هذا وأتى الدب التالي غير أبيض فإن هذه الملاحظة بمفردها تكفي لتكذيب النظرية تكذيبا حاسما ونهائيا. هكذا نرى أن تحقيق النظريات لا يتأتى دفعة واحدة، بل تربو ثقتنا فيها رويدا رويدا، أما التكذيب فقد يجهز عليها في ضربة واحدة قاضية. التكذيب إذن هو الذي يحسم أمر القضية وليس التحقيق.
22
من صفة العلم الأصيل إذن أنه «قابل للتكذيب»
Falsifiable . وقد بين بوبر أن هناك أنظمة فكرية معينة تنتحل صفة العلم، علينا أن نرفضها ونعدها «علما زائفا» أو «شبه علم»
، نظرا إلى أنها لا تسفر عن تنبؤات قابلة للتكذيب [«شبه س» أو «س الزائف» هو أيما شيء يبدو كما لو أنه س، ولكنه يتكشف عن غير ذلك]. من الأمثلة التي ذكرها بوبر للعلم الزائف: النظرية الماركسية في التاريخ (كما عدلها أتباع ماركس)، والتحليل النفسي الفرويدي، وعلم النفس الفردي لأدلر. فالمنطق يقتضي أنها لو كانت علوما حقيقية لكان بإمكانها تحديد ما عساه أن يعد تكذيبا أو تفنيدا لها (للعلوم الأصيلة كثير من حالات التكذيب بالقوة لا بالفعل). ولكن لا بالماركسية ولا الفرويدية ولا الأدلرية قد اجتازت اختبار التكذيب في رأي بوبر، إنها علوم زائفة ترفض من حيث المبدأ السماح بإجراء عملية التكذيب على قضاياها. إنها مسيجة، في صيغتها ذاتها، بتحفظات والتواءات والتباسات تجعلها «محصنة»
Immunized
من التكذيب أصلا وأساسا، وتجعلها مساوقة لكل ملاحظة ممكنة، وتجعلها ملائمة للشيء ونقيضه. وهي تأبى بحكم صيغتها ذاتها، أن تفشي لنا بما عسى أن تكون عليه الأشياء الملاحظة لو أن قضاياها كانت كاذبة. وهي من أجل ذلك صفر من المحتوى المعلوماتي، ولا تأتينا بنبأ عن هذا العالم المحدد الذي نعيش فيه، وهي إذن علم زائف أو شبه علم.
23
يقول بوبر موجزا منهج جميع العلوم التي تستند إلى التجربة:
تفضي بنا الاختبارات إلى انتخاب الفروض التي صمدت أمامها، أو حذف الفروض التي لم تثبت أمامها فاطرحناها. ومن المهم أن نتبين ما يلزم عن هذا القول من نتائج. وهي أن الاختبارات يمكن النظر إليها جميعا على أنها محاولات ترمي إلى استئصال النظريات الكاذبة، أو اكتشاف مواضع الضعف في النظريات حتى ننبذها إن كان الاختبار يكذبها. وتبدو هذه النظرة أحيانا مخالفة لأهداف العلم، إذ يقال إن غايتنا إثبات النظريات، لا حذف الكاذب منها. ولكن استهدافنا إثبات النظريات إلى أقصى درجة نستطيعها هو نفسه الذي يدعونا إلى إخضاعها لأقسى أنواع الاختبار، فينبغي أن نحاول اكتشاف وجوه النقص فيها، وينبغي أن نحاول تكذيبها. وقد لا نستطيع القول إنها صمدت أمام الاختبارات العسيرة إلا إذا فشلت جهودنا التي نبذلها لتكذيبها. وهذا هو السبب في أن اكتشاف الشواهد المؤيدة للنظرية يكاد لا يكون له شأن إلا إذا حاولنا اكتشاف ما يكذبها وفشلنا في هذه المحاولة. ذلك أننا إذا لم نتخذ إزاء النظريات موقفا نقديا، فسوف نعثر دائما على ما نريد؛ أي أننا سنبحث عما يؤيدها وسنجده، وسنصرف النظر عن كل ما يمكن أن يهدد النظريات التي نفضلها فلا تقع عليه أبصارنا. وهكذا يسهل الحصول على ما يبدو لنا أنه حجة هائلة على صدق نظرياتنا، ولو نظرنا إلى هذه النظريات نظرة نقدية لتبين لنا كذبها. هكذا إذا أردنا لمنهج الانتخاب عن طريق الحذف أن يقوم بعمله ، وإذا أردنا أن نضمن البقاء للنظريات الصالحة وحدها علينا أن نجعل كفاحها من أجل الحياة عسيرا.
هذا هو باختصار منهج كل العلوم التي تستند إلى التجربة. لكن ماذا نقول عن المنهج الذي نحصل بواسطته على النظريات أو الفروض؟ ماذا نقول عن التعميمات الاستقرائية، والطريق الذي نمضي فيه من الملاحظات إلى النظريات؟ سأجيب عن هذا السؤال بجوابين: (أ)
لا أعتقد أننا نستخدم في أي وقت تعميمات استقرائية بمعنى أننا نبدأ بالملاحظات، ثم نحاول اشتقاق النظريات منها. ورأيي أن الاعتقاد بأننا نسير في العلوم على هذا النحو ضرب من خداع البصر. فنحن في كل مرحلة من مراحل البحث العلمي نبدأ بشيء له طبيعة النظرية، وذلك كالفرض، أو الحكم المسبق، أو المشكلة (وهي قد تكون في كثير من الأحيان مشكلة تقنية). وهذه الأشياء توجه ملاحظاتنا على نحو معين، فتساعدنا على انتخاب ما قد تكون له أهمية في نظرنا من بين عدد لا حصر له من الأمور الملاحظة. (ب)
إنه لا أهمية من وجهة النظر العلمية للاعتقاد بأننا نتوصل إلى نظرياتنا بالقفز إلى النتائج دون مبرر أو بمجرد العثور عليها بطريق المصادفة «أو بالحدس» أو بطريق الاستقراء. فالسؤال عن كيفية حصولنا على النظريات أول الأمر هو سؤال شخصي (إن صح التعبير)، في حين أن السؤال عن كيفية اختبارنا النظريات هو وحده الذي يهتم به العلم. وطريقة الاختبار التي وصفناها هنا طريقة خصبة، إذ تفضي بنا إلى ملاحظات جديدة، وتسمح بتبادل الأخذ والرد بين النظرية والملاحظة.
كل ذلك لا يصدق فقط على العلوم الطبيعية، إذ أعتقد أنه صادق على العلوم الاجتماعية كذلك. بل إن عجزنا عن رؤية الأشياء قبل التفكير فيها يكون أوضح في العلوم الاجتماعية منه في العلوم الطبيعية. ذلك أن معظم الأشياء التي تدرسها العلوم الاجتماعية، إن لم تكن كلها، أشياء مجردة، ومن ثم مركبات نظرية.
24 (2-9) الدرس الأخير
يجب أن نشير إلى أن كثيرا من الناس قد اختلفوا مع بوبر بشدة في حكمه على العلوم الثلاثة المذكورة، رغم أنه لم ينكر أنها ذات معنى، ولم ينفها من ساحة الفكر الخصب الذي يمكن أن يطور ذات يوم إلى علم أصيل قابل للتكذيب.
ومهما يكن الحكم النهائي على الماركسية والتحليل النفسي وعلم النفس الفردي، فإن من الجدير بالملاحظة أن كلا من الفلاسفة وعامة الناس كثيرا ما يدعون أشياء تبدو لأول وهلة أنها حقائق عن العالم، إلا أنها في الواقع غير قابلة للتكذيب أو الدحض. وكثيرا ما يفتنهم ما تتمتع به آراؤهم من «احتمالية» عالية، من حيث إنها متماشية مع كل ملاحظة ممكنة، ومنسجمة مع جميع الشواهد الكائنة، ومؤيدة بأي حدث يمكن تصوره، ومحصنة من الدحض بترسانة من الفروض الاحتيالية والمناورات التعريفية. يظن هؤلاء أن عدم قابلية آرائهم للدحض هو مظهر صدق ودليل قوة، وما يدرون أن هذا بعينه هو مكمن الضعف فيها وموطن القصور. إنها آراء لا تنبؤنا عن العالم نبأ محددا، ولا تزيدنا علما بالأشياء، ولا تقول لنا ماذا كنا حريين أن نرى لو أن هذه الآراء كانت كاذبة. إنها ترجف بكل شيء عدا شيء واحد: ما عسى أن تتخذ الأشياء من مجرى. وما عسى أن يكون عليه مسار الأمور لو أنها كانت كاذبة.
قد يدعي البعض على سبيل المثال أن كل فعل إنساني هو فعل أناني، والذين يقولون بذلك لن يقبلوا عادة الأمثلة المضادة العادية مثل تطوع الناس للخدمة في المستشفيات، ولن يقبلوا أي دليل يمكن أن يكذب رأيهم في الطبيعة البشرية، وسوف يردون مثلا على أي مثال مضاد بهذه الطريقة: ما دامت فاطمة تساعد المرضى في المستشفيات بمحض إرادتها، إذن مساعدة المرضى هي بالضرورة شيء تريد أن تفعله، وفعلك لأي شيء تريد أن تفعله هو فعل أناني، وهم بذلك يقومون بمناورة تعريفية تنقذ دعواهم من الدحض، ولكنها تنال من مكانتها العلمية ومن محتواها المعلوماتي. إن الدعوى التي تسمح برفض كل الأمثلة المضادة بهذه الطريقة هي شبه دعوى أو دعوى زائفة، وإقامة مثل هذه الدعاوى، في الحقيقة، هو شيء يشبه إلى حد كبير ممارسة العلم الزائف.
25
الفصل الثاني
بوبر والتحليل النفسي1
مع بزوغ العقل، وبزوغ النظريات، تغير أسلوب الانتخاب الطبيعي، وتبدلت عدة الصراع من أجل البقاء. وصار بوسعنا أن نترك نظرياتنا تصطرع نيابة عنا، وتموت بدلا منا. [بوبر: النفس ودماغها، الفصل 6، موجز]
للعلم مطلب صارم، هو تشييد نظريات علمية. ولا يمكن لنظرية أن تعد نظرية علمية مقبولة ما لم تضطلع بتفسير قطاع ما من الظواهر، وما لم تكن قابلة للاختبار. فالنظريات تتيح لنا أن نتخطى الارتباط الغفل بين الملاحظات، إذ تمكننا من تفسير ملاحظاتنا وارتباطاتها بلغة الضرورة القانونية. ولا يكتفي العلم بمجرد وصف الظواهر وارتباطاتها معا، بل يحاول تفسير الظواهر وتفسير ارتباطها. قد يلاحظ المرء مثلا أن الدببة القطبية بيضاء، فبياض الدببة القطبية هو «ظاهرة»
. ثم إن خاصية كونها دببة قطبية وخاصية كونها بيضاء هما خاصيتان «مرتبطتان إمبريقيا»
Empirically Correlated . كل ذلك حسن وجميل، ولكنه ليس تفسيرا. إنه مجرد وصف (هكذا حال العالم). أما التفسير فتأتي به نظرية الانتخاب الطبيعي التي فسرت سر بياض الدببة بين كثير مما فسرته: فللدببة البيضاء من بياضها مزية ترشحها للبقاء وأفضلية على منازعيها في عالمها الجليدي الأبيض.
ومن المزايا الكبرى للنظريات، فضلا عن التفسير، أنها تتيح لنا وضع تنبؤات. وقد كان بوسع البشر، حتى قبل عصر العلم أن يقيموا بعض التنبؤات: فاطراد الليل والنهار، وأطوار القمر، وتعاقب المواسم، كل أولئك كان يسمح لهم بدرجة من التنبؤ منذ زمن موغل في القدم، إلا أن العلم بطبيعة الحال قد وسع كثيرا من مجال قدراتهم التنبؤية.
وللتنبؤ الذكي أهمية كبرى تيسر للإنسان سبل العيش وتمنح بني الإنسان أفضلية بقاء على غيرهم من فصائل الكائنات. إلا أن للتنبؤات أهمية حتى في العلم البحت، فالتنبؤات التي تنتجها نظرية من النظريات هي ما يجعل اختبارها ممكنا. فإذا تعذر اختبار نظرية ما بسبب عقمها من التنبؤات القابلة للاختبار بقيت عديمة القيمة. وقد ركزت بعض المذاهب العلمية كالوضعية المنطقية على فكرة «التحقيق»
Verification
كمعيار للعلم ومحك لصدق النظرية وإثباتها بالملاحظة والتجربة. إلا أن كارل بوبر يبدهنا بغير ذلك فيقول إن مجرد التحقيق ليس شيئا، وإن التحقيق لا يؤدي إلى تقدم العلم ولا يحفز الكشف العلمي الأصيل. (1) التحقيق والتكذيب
يمكننا أن نفسر العلاقة المنطقية بين التحقيق والتكذيب كما يلي (وسوف نستخدم ارتباطا تجريبيا بدلا من نظرية حقيقية توخيا للتبسيط): تتنبأ النظرية القائلة بأن الدببة القطبية يجب أن تكون بيضاء بأن الدب الذي سأراه في المرة القادمة سيكون أبيض، فإذا حدث أن كان الدب القادم أبيض حقا فقد يغريني ذلك بأن أقول إن مشاهدتي هذه تحقق النظرية، ولكن الحقيقة أن هذه المشاهدة لا يمكن أن تعد برهانا نهائيا على صدق النظرية، ذلك لأن هناك احتمالا سيظل قائما أبدا بأن يأتي دب قادم في رتل الملاحظة غير أبيض، وإذا حدث هذا تكون هذه الملاحظة بمفردها كافية لتكذيب النظرية بصفة نهائية. «هكذا يتبين لنا أن التحقيق لا يحسم أمر النظرية، بينما التكذيب يمكن أن يكيل للنظرية ضربة واحدة قاضية.» (2) مفارقة التأييد (التحقيق)
توضح لنا هذه المفارقة (وتسمى أيضا مفارقة الغربان
Ravens Paradox ) مدى التعقد الكامن في منطق التحقيق: إن التعميم «جميع الغربان سود» مكافئ منطقيا ل «جميع الأشياء غير السوداء ليست غربانا». وبما أن الدليل المؤيد لعبارة هو مؤيد أيضا لمكافئاتها المنطقية، فإن وجود دب قطبي أبيض ما (وهو ليس أسود وليس غرابا) يجب إذن أن يدعم التعميم بأن كل الغربان سود! وهي مفارقة واضحة تتجنبها الآراء المنادية بالتكذيب كمعيار أساسي للعلم، فوجود دب قطبي أبيض لا يمكن أن يكذب التعميم المذكور، بعكس وجود غراب أبيض.
2
بدأ بوبر حياته الفكرية ماركسيا نشطا ومساعدا لألفرد أدلر السيكولوجي الشهير، ولكنه سرعان ما خاب أمله في الماركسية والأدلرية وتتبدد وهمه. وفي المقابل كانت اكتشافات أينشتين إلهاما عظيما له، وبخاصة في موقفها العلمي نفسه، ذلك الموقف الجسور المخاطر المفتوح للنقد: النقد الذاتي والنقد الخارجي. لقد كانت نظرياته جريئة بعيدة الاحتمال تخبر عن العالم خبرا محددا لا لبس فيه، وتعرض نفسها لأقسى الاختبارات، وتكشف صدرها لنصل الحقيقة، بل تحدد نقاطا بعينها وتقول: ها هنا مقتلي إن شئت قتلي!
أما التحليل النفسي والأدلرية فلم يجد فيهما بوبر هذه الأمارات العلمية . لقد كانا يشيران إلى كل بينة متسقة مع النظرية (أن بعض الناس لديهم أعصبة ناجمة عن دفعات جنسية أو صراعات مكبوتة، أو أن الناس مدفوعون في سلوكهم بعقدة النقص أو عقدة التفوق ... إلخ). هكذا كانت هذه النظريات «محققة»
Verified
بالمعنى الوضعي المنطقي. غير أن بوبر كان قد أدرك أن التحقيق لا يؤسس نظرية ولا يبرهن على شيء برهانا نهائيا. كذلك استرعت انتباهه تلك القدرة التي تتمتع بها هذه النظريات على تفسير كل كبيرة وصغيرة في مجريات الأحداث ومسارات السلوك أيا كانت وكيفما أتت، حتى تلك الأشياء التي تبدو للوهلة الأولى غير متسقة مع النظرية.
كان بوبر يسأل نفسه: ما هو الشيء الغائب عن هذه النظريات (أو أشباه النظريات ) والذي تتحلى به النظريات العلمية الحقيقية من مثل نظرية أينشتين في الجاذبية التي أيدتها ملاحظات إدنجتون أثناء كسوف الشمس؟ وكان الجواب قاطعا: «النظرية العلمية الأصيلة إنما هي النظرية التي لديها القدرة على تقديم تنبؤات يمكن من حيث المبدأ أن يتبين كذبها. قابلية التكذيب
Falsifiability
إذن، وليس قابلية التحقيق
Verifiability ، هي معيار العلم الأصيل وأمارته وسمته المميزة.»
أما عن التحقيق فإن بوسع أي نظرية أن تجد لها ما شاءت من الأدلة التي تتسق معها وتحققها. وتزعم معظم هذه النظريات أنها مشيدة أصلا على أساس من التفكير الاستقرائي؛ أي استقراء كل الحالات المعروفة واستخلاص تعميم يشملها جميعا. وماذا يكون التحقيق هنا سوى مجرد الإتيان بمزيد من نفس الصنف من الحالات؟! إن هذا من الوجهة المنطقية هو عقم لم يأت بجديد. أما المنهج المجدي عند بوبر فهو أن نفكر استنباطيا
Deductively ، ونفتش بهمة عن حالات مفندة للنظرية؛ لأن العثور على مثال مضاد واحد سيكون كافيا للإجهاز عليه. أما إذا صمدت النظرية للتفنيد، فإنها ستعد قوية وأهلا لاستمرار الدعم.
ويوجز بوبر تعريف النظرية التجريبية الأصيلة في كتابه «منطق الكشف العلمي» بقوله:
يقال للنظرية إنها «إمبيريقية» أو قابلة للتكذيب إذا قسمت فئة كل القضايا الأساسية الممكنة بغير غموض إلى الفئتين الفرعيتين غير الفارغتين الآتيتين:
الأولى:
فئة كل القضايا الأساسية التي لا تتسق معها (أي التي تمنعها النظرية من الحدوث)، ونحن نطلق عليها فئة «المكذبات بالقوة»
.
الثانية:
فئة كل القضايا الأساسية التي لا تناقضها (أو التي تسمح بها)، ويمكننا أن نضع هذه بصورة أكثر إيجازا بالقول: تكون النظرية قابلة للتكذيب إذا كانت فئة مكذباتها بالقوة غير فارغة. (بوبر: «منطق الكشف العلمي - الفحص المنطقي لقابلية التكذيب»)
وقد كشف بوبر النقاب عن مشكلة أخرى بشأن النظرة الوضعية المنطقية، وهي أن بإمكان النظرية أن تقدم تنبؤات شديدة الحذر والتحوط (وهو ما يمكن أن تفعله أيضا العديد من النظريات الأخرى حول نفس الموضوع)، والتي لا يكون تحقيقها مستغربا أو مثيرا، ولا تسهم بشيء في تقدم العلم. أما التنبؤات التي تسهم حقا في تقدم العلم فهي التنبؤات الجديدة المخاطرة غير المتوقعة والتي يسميها بوبر «الحدوس الافتراضية الجريئة»
Bold Conjectures . «ذلك أن كل نظرية علمية أصيلة هي نوع من «المنع» أو «الحظر»: إنها تمنع أشياء معينة من أن تحدث، وكلما زاد ما تمنعه النظرية زاد نصيبها من الأصالة العلمية. أما النظرية التي تسمح بكل شيء و«تمرر» كل شيء وتفسر كل شيء، فهي لا تقول شيئا، ولن تكون نهايتها المنطقية سوى أن تلحق بتحصيلات الحاصل.»
وكذلك الشأن بالنسبة لدرجة «احتمالية» الفرضية، باصطلاح بوبر: يذهب بوبر، وهو ما يبدو مفارقة للنظرة الأولى، إلى أن النظرية الأكثر احتمالا هي الأقل في المحتوى المعلوماتي، والعكس بالعكس، ومن هنا كانت الفرضيات غير المحتملة هي الأفضل من الوجهة العلمية والأكثر إثارة لاهتمام العلماء الحقيقيين، فمثل هذه الفرضيات الجريئة البعيدة الاحتمال تملك قوة تنبؤية عالية، وهي بالتالي أكثر قابلية للدحض. وبالطبع يشغف العلماء بالفرضيات البعيدة الاحتمال القريبة رغم ذلك من الحقيقة؛ أي التي صمدت لأعتى اختبارات التكذيب، مثل نظرية أينشتين عن «التواء المكان» بفعل الكتل الكبيرة. (3) تحصين النظريات
من دأب بعض أصحاب النظريات التي يتبين كذبها بالاختبار أن يظلوا متمسكين بها ولا يتخلوا عنها، وأن يقوموا بعملية أشبه بالترقيع النظري لإنقاذ النظرية من الدحض. ومن الوسائل المعهودة في ذلك إدخال «فرض مساعد»
Auxiliary Hypothesis ، أو «فرض عيني تحايلي »
ad hoc Hypothesis
على مقاس الشواهد المضادة بغرض استيعابها داخل النطاق التفسيري للنظرية. مثل هذا الإجراء ممكن دائما وميسور لأية فرضية مهما بلغت عبثيتها وهشاشتها، غير أنه ينقذ النظرية من الدحض بقدر ما ينال من مكانتها العلمية ومحتواها المعلوماتي.
وثمة تحايل آخر لتفادي الدحض، وهو ببساطة أن تخرج المثال المضاد
Counterexample
من التعريف نفسه. فإذا كنا مثلا بصدد العبارة الكلية «كل الغربان سود» وجابهنا شاهد مضاد لغراب أبيض لأمكننا القول: «إن غرابا أبيض هو ليس غرابا على الإطلاق.»
مثل هذه الفروض التحايلية المقحمة، والمناورات التعريفية، هي نوع من الغش والمماحكة، وهي إجراءات رخيصة ومبتذلة، وعلى العالم الحق أن يتجنبها قدر المستطاع. ورغم أن الفروض العينية تستخدم بالفعل في بعض الأحيان وتؤدي إلى نجاحات كشفية كبيرة، فقد بذل بوبر جهده لتحديد القواعد المنهجية لاستخدام مثل هذه الطرق بحيث تكون مشروعة علميا، وغير معطلة لتقدم المعرفة العلمية أو مطيلة لعمر نظريات بائدة لا تريد أن تتنحى وتفسح الطريق لفرضيات جديدة أكثر قوة تفسيرية وأكثر اقترابا من الحقيقة.
3
تعد هذه الطرق (الفروض العينية، المناورة الاصطلاحية ... إلخ) وسائل أو خدعا ل «تحصين» النظرية من الدحض
Immunization Stratagem . ويميز بوبر بين التحصين الصادق والتحصين الزائف، فالتحصين الصادق يدافع عن النظرية بواسطة توقعات هي ذاتها قابلة للتكذيب. ومن أمثلة التحصين الصادق ما زعمه علماء الفيزياء النيوتونية من أنه لا بد أن يكون هناك كوكب آخر بعد أورانوس، وذلك عندما أعجزهم تفسير انحراف المسار - وفقا للحسابات - بأي طريقة أخرى. بذلك حصنوا فرضيتهم، غير أن هذا التحصين هو في الحقيقة قابل للتكذيب من حيث المبدأ. وعندما تحسنت طرق الملاحظة فيما بعد تبين أنهم كانوا على حق. لقد أسهم تحصينهم في البحث عن الكوكب «نبتون» واكتشافه في النهاية. هذا مثال للتحصين الصادق، أما التحصين الزائف فمن شأنه أن يجعل تكذيب الفرضية أمرا محالا من حيث المبدأ. يقول بوبر: «حين تذهب لمحلل نفسي فإنه يعالجك، فإذا شعرت بتحسن بعد ذلك فهو يقول لك: ها أنت ترى الآن فعالية التحليل النفسي، فأنت تشعر بتحسن. أما إذا لم تتحسن حالتك بعد ذلك أو حتى إذا ساءت بحيث أبديت رغبتك في ألا تكمل العلاج فسوف يقول لك: الآن تجد نفسك في طور «المقاومة»
Resistance
وهو طور متوقع ويثبت أن كل شيء يمضي كما يجب.» (4) مجمل فكرة التكذيب
توجز باتريشيا تشرشلند فكرة التكذيب عند بوبر بصياغة محكمة إذ تقول: «كان بوبر مناوئا لفكرة أن المعرفة العلمية تتراكم عن طريق تأييد الفرضيات أو تحقيقها. وفي تصور شديد الاختلاف والجدة لدينامية العلم ذهب بوبر إلى أن الفرضيات لا تكون جديرة بالقبول ما لم تكن قابلة للتكذيب. كانت فكرته مدمرة وبسيطة: من السهل أن تجد أمثلة مؤيدة للفرضيات، سهولة تجعل من المستبعد أن يكون هذا هو طريق العلم الصحيح. تأمل مثلا فرضية بسيطة مثل: «جميع النباتات تتكاثر جنسيا». فإذا كان كل ما يلزمني هو الشواهد المؤيدة لذلك، فإن بميسوري أن أهرع إلى الحديقة واكتشف أن جميع الزنابق الستمائة وأربع وستين تتكاثر جنسيا، وجميع البنفسجات التسعمائة وثلاث وخمسين تتكاثر جنسيا، وهلم جرا. وسرعان ما يجتمع لدي عدد هائل من الأمثلة الموجبة. ومع ذلك فلو اطلع أي عالم نبات على عملي فلن يأبه له؛ لأنني لم أحاول أن أجد مثالا مفندا؛ لم أنظر إلى حالات يمكن أن تكون أمثلة مضادة، فقبل تبني أي فرضية ينبغي علي أن أفحص كثيرا من الأنواع المختلفة من النباتات المزهرة، وأن أفحص الأعشاب والسراخس، وبعامة يجب علي أن أحاول جهد ما أستطيع أن أكذب فرضيتي.»
تأمل فرضية أخرى، وهي الفرضية القائلة بأن «منطقة بروكا» هي التي تتحكم في إنتاج الكلام. فلكي يبرهن المرء على هذه الفرضية فلن يكفيه أن يعثر على ارتباط موجب بين حالات تلف منطقة بروكا وبين فقدان الكلام. فلا بد للمرء أن يكشف ما إذا كان هناك مرضى بتلف في منطقة بروكا بدون فقدان للنطق، وأن يكشف ما إذا كان هناك حالات فقدان نطق مع تلف في مناطق أخرى. عندئذ سيكون الفشل في التكذيب ذا دلالة، بعكس تجميع الحالات المؤيدة. تفيد دعوى بوبر أن العالم إذا قبل الفرضيات عن طريق إيجاد أمثلة مؤيدة فسوف ينتهي به المطاف إلى قبول ما لا يحصى من الفرضيات الكاذبة والسير فيما لا يحصى من الطرق المسدودة. أما إذا ظفر بفرضية صمدت لمحاولات عنيفة لتكذيبها، فعندئذ يمكنه قبول هذه الفرضية، لا باعتبارها صادقة، ولا باعتبارها مؤيدة، بل باعتبارها أفضل فرضية متاحة حتى الآن. لقد أتى بوبر بتصور للتبرير مختلف عمن قبله، وخلص من ثم إلى آراء مختلفة تماما حول ديناميات العالم وبنيته وديناميات المعرفة وبنيتها على وجه العموم.
وفضلا عن ذلك رفض بوبر الافتراض القائل بأن على العلم أن يحاول صياغة فروض شارحة عالية الاحتمال. وقال على العكس بأن الفروض لا تكون مثيرة للاهتمام ما لم تكن جريئة، أي غير محتملة، أي الأرجح لها أن تكذب، ذلك أنها إذا صمدت عندئذ للتكذيب باختبار عنيف يكون ذلك نصرا وتكون هذه الفرضية ذات دلالة كبيرة. إن الفروض الآمنة (أي المحتملة) رخيصة لا تساوي شيئا (العشرة بقرش) وأأمن الفروض هي الحقائق المنطقية. وإذا كان مرام العلم الأول هو مجموعة من الحقائق اليقينية فإن عليه بغزل المبرهنات المنطقية لا يبرحها. غير أن عيب هذا الأمان هو أنه لا يوصلنا لشيء. لقد كانت فرضية أينشتين بأن هندسة المكان «تنحني» بفعل الكتل الكبيرة فرضية بعيدة الاحتمال جدا باعتبار النظرية السائدة في ذلك الوقت. فإذا أصاب أينشتين لوجب أن يرى نجم معين أثناء كسوف الشمس في موضع معين، وإذا أخطأ لوجب أن يرى في موضع آخر. فلما صمدت الفرضية لاختبار التكذيب (مشاهدات إدنجتون) كان هذا أمرا بالغ الدلالة.
4 (5) بوبر والتحليل النفسي
في كتابه «الحدوس الافتراضية والتفنيدات» يروي بوبر رحلة عقله مع الأفكار العلمية. يقول بوبر: «في صيف عام 1919 بدأ يداخلني شعور بعدم الارتياح لهذه النظريات، وبدأ يخامرني شك حول ادعاءاتها للمنزلة العلمية. ربما أخذت مشكلتي في البداية شكلا بسيطا: «ما بال هذه النظريات؟ ولماذا تبدو مختلفة عن النظريات الفيزيائية، عن نظرية نيوتن، وبصفة خاصة عن نظرية النسبية؟» ولكي تتضح هذه المقارنة لا بد أن أفضي بأن أغلبنا في ذلك الوقت ما كان يمكن أن يقول إنه يعتقد في «صدق» نظرية أينشتين في الجاذبية. من هذا يتبين أن ما كان يؤرقني ليس هو الشك في «صدق» تلك النظريات، بل هو شيء آخر. ولا كان ما يؤرقني هو مجرد الشعور بأن الفيزياء الرياضية أكثر دقة من الصنف الاجتماعي أو النفسي من النظريات. لم يكن همي إذن هو مشكلة الصدق (في هذه المرحلة على الأقل)، ولا مشكلة الدقة والقابلية للقياس، بل هو بالأحرى شعوري بأن هذه النظريات، وإن اتشحت بوشاح العلم، تشبه الأساطير البدائية أكثر مما تشبه العلم، تشبه التنجيم أكثر مما تشبه علم الفلك.»
وقد اكتشفت أن أولئك المعجبين بماركس وفرويد وأدلر من أصدقائي كانوا مأخوذين بعدد من الخصال المشتركة بين هذه النظريات، ولا سيما ما تتمتع به من قوة تفسيرية واضحة. لقد بدت هذه النظريات قادرة فعلا على تفسير كل شيء يحدث ضمن نطاقها الخاص. وبدا أن دراسة أي واحدة منها تقع منك موقع التحول الفكري الحاسم، أو موقع الوحي، فاتحة عينيك على حقيقة جديدة محجوبة عن أولئك الذين لم يهتدوا بعد. وما إن تنفتح عيناك هكذا حتى يتسنى لك أن ترى شواهد مؤيدة لها حيثما نظرت. كان العالم يعج ب «تحقيقات»
Verifications
للنظرية. وما من شيء يحدث إلا هو تأييد لها. بذلك بدا صدقها أمرا ظاهرا وبدا أي منكر لها مكابرا مبينا لا يريد أن يرى الحقيقة الواضحة، إما لأنها مضادة لمصالحه الطبقية، وإما بسبب ما يضمره من ألوان «الكبت» التي لم تحلل بعد والتي تصرخ طلبا للعلاج.
هكذا بدأت الشرارة الأولى في ثورة بوبر المنطقية على العلم الزائف. لقد استوقفه التباين الشديد بين الماركسية والفرويدية من جهة، ونظرية أينشتين من جهة أخرى. كان الماركسيون والفرويديون يرون أينما نظروا تأييدات لنظرياتهم، بينما جهد أينشتين غاية الجهد لكي يصوغ تنبؤا بالغ الدقة والتحديد وقابلا للملاحظة، ومن شأنه إذا كذبته الملاحظة أن يدحض النظرية ويأتي عليها. لم يكن الفارق الذي استرعى انتباه بوبر في هذا الأمر فارقا سيكولوجيا يتعلق بالنزاهة العلمية في مقابل العناد والمكابرة وعدم الرغبة في الاعتراف بوجود حالات لا تؤيد النظرية. وإنما الفارق منطقي محض يتعلق بطبيعة البنية المنطقية للنظرية الماركسية والفرويدية ذاتها والتي تجعلها «محصنة» من التكذيب. يقول بوبر في «منطق الكشف العلمي»: «إن النسق الذي ينتمي إلى العلم التجريبي ينبغي أن يكون في إمكان التجربة أن تكذبه، وهكذا، فعبارة «قد تمطر السماء هنا غدا أو لا تمطر» لن تعتبر عبارة تجريبية، لسبب بسيط وهو أنها لا يمكن تفنيدها، على العكس من عبارة «ستمطر السماء هنا غدا» التي ستؤخذ على أنها عبارة تجريبية.» أما العلم الزائف فهو يرفض من حيث المبدأ السماح بإجراء عملية التكذيب على قضاياه، فقضايا التحليل النفسي مثلا لا تعدو أن تفسر الأوضاع الممكنة للأشياء دون أن تشير إلى حالة الأشياء الملاحظة، ومن ثم لا يمكن تكذيبها بالملاحظة. إن النسق النظري للتحليل النفسي كله نسق لا وصفي، فهو يتساوق مع كل ملاحظة ممكنة، ويلائم الشيء ونقيضه، ولا يقدم لنا ما عسى أن تكون عليه الأشياء الملاحظة لو أن قضاياه كانت كاذبة. إن الفارق يجب أن يحدث فارقا، ولو كانت قضايا التحليل النفسي تقول شيئا محددا عن عالم الواقع لتسنى لها أن تحدد مشاهدات ممكنة كانت حرية أن تقع لو أنها كانت كاذبة؛ أي أن تحدد لنا أي فارق كان يحيق بعالم الشهادة لو أن ما تنبئنا به النظرية كان مجانبا للحق وكانت الأمور تسير في حقيقة الأمر على وتيرة أخرى.
ثمة وجه شبه لا تخطئه العين بين تأويلات المحللين النفسيين وبين أقوال المنجمين، وقد أشار بوبر في قصته إلى أن المنجمين أيضا كانوا مبهورين ومضللين بما كانوا يظنونه أدلة مؤيدة بحيث لم يلتفتوا البتة إلى أي دليل عكسي. وفضلا عن ذلك فقد كان بوسعهم بما يضفونه على تفسيراتهم وتنبؤاتهم من غموض أن يتملصوا من أي شيء كان حقيقا أن يفند النظرية لو أن النظرية والتنبؤات كانت أكثر دقة وتحديدا. فهم لكي يتفادوا تكذيب النظرية قاموا بتحطيم قابليتها للاختبار، ومن الحيل المألوفة للعرافين أن يقدموا تنبؤاتهم بطريقة غامضة تجعلها عصية على الإخفاق-تجعلها غير قابلة للدحض.
5 (6) بين مآخذ بوبر على التحليل النفسي ومآخذ السلوكية
يأخذ البعض على فرويد أنه كان يتجنب أية معالجة كمية لمواده التجريبية، وأنه لم يصل إلى نتائجه بواسطة استدلال منطقي واضح، وأن ما نجده في كتاباته هو النتيجة النهائية لتفكيره بدون المادة الأصلية التي يعتمد عليها، ومن ثم يستحيل تكرار أي من بحوثه بدقة علمية. كما أنه لم يستخدم الأساليب التجريبية والتقييمات الموضوعية، وإنما كل نظرياته قائمة على الوقائع والخيالات التي كانت ترويها له شخصياته المريضة، والتي كان يسجلها بعد ساعات من سماعها، مما يجعلها هي ذاتها موضع شك، وهو لم يحاول التحقق من أقوال المرضى بمضاهاتها بأقوال أي من معارفه أو بأي طريقة أخرى اعتمادا على ثقته في التداعي الطليق.
غير أن هذه المآخذ ليست من التكذيبية البوبرية في شيء، والحق أن أغلب هذه المآخذ يعكس التعاليم المنهجية للعلوم الطبيعية والمذهب السلوكي، والتي قد لا تلائم دراسة الإنسان وقد لا تلائم العلوم الإنسانية بعامة. ففي مجال دراسة النفس البشرية يتعذر في كثير من الأحيان التحقق من الفروض أو نفيها بالطريقة العلمية المعيارية من خلال تكرار المواقف وضبط التفاعلات بين الأحداث واستجابات الأشخاص موضوع الدراسة. وفي العلوم الإنسانية بعامة فإن تكرار موقف تاريخي فردي أو جماعي هو أمر مستحيل في الأساس. ورغم ظهور ما يبدو أنه تكرار، فإنه في كل حال نتاج جهد خادع وهمي لتجريد الذات من التاريخ، وهي طريقة أساسية تستخدم لاختزال المسئولية الفردية وما يصاحبها من قلق، وفي محاولة ضبط المتغيرات، فإن النموذج العلمي المعاصر يضفي دورا سلبيا ضمنيا للأشخاص. ففي مثل هذه التجارب يعرض الشخص لمنبه، ويخضع لظروف مضبوطة معينة، والفرد لا ينظر إليه فقط بوصفه «موضوعا»
Object
بل إنه يعامل على أنه كذلك. وتدرس الاستجابة المجزأة المضبوطة بعناية، وليس الفعل الإنساني، ومن ثم فإن السلوك يخطط له بصورة يصعب فيها التعرف عليه. ومن الواضح أن ذلك نوع من «النبوءة المحققة لذاتها»، يتعرض فيه الناس لقواعد تتحكم في التجربة، وتحرمهم من المبادأة والابتكارية أو حرية الفعل، وفي محاولة التحكم في تلك العوامل المشوشة للعلاقات بين الأشخاص، فإن القائم بالتجربة يتجنب الأحداث الإنسانية الفريدة بوصفها الأحداث المركزية الجديرة بالدراسة. وبالتالي فإن الأشخاص الذين يعاملون بهذه الطريقة يغلب أن يستجيبوا طبقا لذلك،
6
وطبقا لنفس القواعد الوظيفية للسلوك كما تفعل الحمائم أو الفئران أو الأسماك. ويقرر زيمباردو أنه «في الظروف المعيارية، يستطيع القائم بالتجربة أن يفترض وجود استمرارية في السلوك، وقد خلقها بصورة مصطنعة.»
كان هذا استطرادا واجبا حتى لا تشتبه الأمور على القارئ، وحتى نضع تمييزا صارما بين مآخذ النزعة الطبيعية والسلوكية وبين مآخذ بوبر على كل قول تجريبي زائف يرفض التكذيب من حيث المبدأ، ويرفض الدحض من صميم بنيته المنطقية. وحتى لا يختلط موقف بوبر من التحليل النفسي بمواقف أخرى شهيرة مثل موقف كل من فيلسوف العلم الشهير أدولف جرونباوم، وعالم النفس الكبير هانز أيزنك. أما جرونباوم فذهب إلى أن التحليل النفسي قابل للتكذيب، وأنه في حقيقة الأمر قد تم تكذيبه مرارا، إنه «علم» ولكنه «علم خاطئ». وأما أيزنك فهو يؤيد جرونباوم في أن التحليل النفسي علم، ولكنه علم فاشل أثبتت التجارب البحثية الجيدة التصميم عدم جدواه في علاج ما يدعي علاجه. وقد أبدى أيزنك فضلا عن ذلك بعض الاعتراضات والتحفظات على مبدأ التكذيب نفسه كمعيار للعلم، إذ أن جميع النظريات لها ما يخالفها من الظواهر المشاهدة ويبدو مكذبا لها ورغم ذلك تبقى النظرية وتستمر وتنتعش، ومن الواضح أن أيزنك لم يضع يده على فكرة بوبر، ويبدو أنه كان يخلط بين «التكذيب» و«قابلية التكذيب» ولم يقدر أهمية «منهج التكذيب» كمتمم ضروري لمنطق التكذيب، إذ نراه يقرر أن علوم التنجيم والفراسة قابلة للتكذيب بشكل واضح، إذ يمكن استنباط وقائع تجريبية كاذبة من عباراتها!
وصفوة القول إن نقد بوبر للتحليل النفسي هو نقد منطقي بالأساس، وينصب على «الصورة» أو «الصغية» المنطقية للنظرية باعتبارها «غير قابلة للتكذيب من حيث المبدأ». وأما مصدر النظرية العلمية فهو في رأي بوبر شيء لا صلة له البتة بوضعها العلمي، أي بتحديد ما إذا كانت النظرية علمية أم غير علمية. ويبدو أن الإلحاح على مصدر النظرية هو من آثار وهم «الاستقراء» وبقايا مبدأ «التحقيق». إن النظرية عند بوبر لا تكون علمية ما لم تكن قابلة للتكذيب، يستوي في ذلك أن تكون النظرية قد جاءت من المختبر أم من نفحة إلهام. فالمعول الأكبر هو على عملية النقد التكذيبي والمحك النهائي هو الاختبارات التكذيبية القاسية. صحيح أن بعض الطرق الكشفية قد تكون أجدى من بعض كوسيلة لإنتاج نظريات أصيلة، غير أن هذا الأمر لا صلة له بالسؤال عما إذا كانت عبارة ما هي علمية أم غير علمية، ولا علاقة له بالسؤال عن مدى أصالتها العلمية إن كانت عبارة علمية. «ليست هناك طريقة آلية يمكن بها للعلم أن يحقق تقدما.»
هكذا يتبين أن بوبر لم يأخذ على فرويد طريقته في الكشف ولم يعرض لهذا الأمر قط. فهو لا يعنيه مصدر النظرية بل يعنيه منطق الاختبار. وهو لا يسأل العالم من أين جاء بنظريته بل يسأله عما أعد لها من اختبارات قاسية، وقد لاحظ أينشتين من قبل أنه بينما يمكن للنظرية أن تختبر بالبينة
Evidence ، فليس هناك طريق من البينة إلى النظرية! ومن الحق أن العلماء قد «يحلمون نظرياتهم حلما»! ومن الأمثلة المأثورة للحلم العلمي ما حدث به كيليكولي عام 1865. فقد وصل هذا العالم إلى بنية حلقة البنزين ذات الذرات الكربونية الست من خلال حلم شهد فيه ثعابين تشكل من نفسها حلقة بأن يعض كل ثعبان ذيل الآخر.
7
لا لم يكن مصدر النظرية مما يعني بوبر من قريب أو بعيد، فلتأت النظرية من حيث تأتي، المهم أن تكون علما، أي قولا يحمل نبأ عن العالم المحدد الذي وجدنا فيه، ويحمل في تضاعيفه تنبؤات محددة قابلة للاختبار أي الدحض. وليس التحليل النفسي من ذلك في شيء. إنه نظرية لا تؤدي إلى أي توقعات أو تنبؤات محددة، ولو صح ذلك لكانت لها «مكذبات بالقوة»
(كل ما هو خارج التنبؤ). ولكن أين هي هذه المكذبات؟ أين المشاهدات المحددة التي «تمنعها» النظرية من الحدوث. إنها تسمح بكل شيء وتمرر كل شيء، ثم ترخي عليه تصوراتها الفضفاضة الغامضة التي تشمل كل شيء وتفسر كل شيء وتقبل الشيء ونقيضه. (7) وهم الملاحظات الإكلينيكية
ولكن ماذا عن المشاهدات الإكلينيكية؟ أليست اختبارا مشروعا للنظرية؟ إن المحللين النفسيين هم ممارسون إكلينيكيون يناظرون المرضى ويتابعونهم ويعالجونهم بنظريات التحليل النفسي، بل «يشفونهم» في أحيان كثيرة إن جاز هذا التعبير. أليست المشاهدات الإكلينيكية وقائع تجريبية تربط النظرية بالعالم الإخباري ربطا اختباريا، فتمنحها الصفة العلمية؟
في كتابه «الحدوس الافتراضية والتفنيدات» يروي بوبر قصته مع الملاحظات الإكلينيكية، ولا ننس أنه كان مساعدا لأدلر في عيادته وأنه ملم إلماما حقيقيا بهذه النظريات. يقول بوبر: كان المحللون الفرويديون يؤكدون أن نظرياتهم تجد لها تحقيقا دائما في «ملاحظاتهم الإكلينيكية». أما عن أدلر فقد كان لي معه موقف شخصي لا أنساه، فقد حدث ذات يوم في عام 1919م أن أدليت له عن حالة لم تبد لي أدلرية الطابع. غير أنه لم يجد أدنى صعوبة في تحليلها في ضوء نظريته عن مشاعر الدونية
Inferiority Feelings ، رغم أنه حتى لم ير الطفل. فسألته وقد نالني دهش: «فيم كل هذه الثقة وأنت لم تر الطفل؟» فأجاب: «لأن لي بذلك الأمر ألف تجربة». هنالك لم أتمالك نفسي قائلا: «وبهذه الحالة الجديدة أرى أن تجاربك صارت ألفا وواحدة!»
8
كنت أقول في نفسي: لعل ملاحظاته السابقة لم تكن أقوم من هذه الملاحظة الجديدة. لعله كان يفسر كل ملاحظة في ضوء الخبرة السابقة وفي نفس الوقت يعدها إثباتا جديدا. كنت أسأل نفسي «ماذا أثبتت؟ ... أثبتت أن حالة قد أمكن تفسيرها في ضوء النظرية لا أكثر.» غير أن هذا لا يعني شيئا ما دامت كل حالة يتصورها المرء يمكن أن تفسر في ضوء نظرية أدلر. وكذلك الحال بالنسبة لنظرية فرويد. ولتوضيح ذلك أود أن ننظر في هذين المثالين المختلفين تماما من السلوك البشري: الأول سلوك رجل يدفع بطفل إلى الماء بقصد إغراقه، والثاني سلوك رجل يضحي بحياته في محاولة لإنقاذ الطفل. بمقدور كل من نظرية فرويد ونظرية أدلر أن تفسر سلوك كل من الرجلين بنفس السهولة. فبحسب نظرية فرويد يعاني الرجل الأول من «الكبت»
Repression (من أحد مكونات عقدة أوديب مثلا)، بينما أمكن للثاني أن يحقق ضربا من «التسامي» أو «التصعيد»
Sublimation . وبحسب نظرية أدلر كان الرجل الأول يعاني من مشاعر «الدونية»
Inferiority (التي ربما ألجأته إلى محاولة إثبات أن لديه الجرأة على ارتكاب جريمة ما)، وكذلك الحال بالنسبة للرجل الثاني (الذي أراد أن يثبت أن لديه الجرأة على إنقاذ الطفل). لم يكن بوسعي أن أتصور أي سلوك إنساني يستعصي على التفسير في ضوء كل من النظريتين. إنهما دائما منسجمتان على قوام المشاهدات، على قدها، دائما «مؤيدتان»
Confirmed . كانت هذه الحقيقة بالتحديد هي الدليل الدامغ على صحتهما في نظر المعجبين بهما. أما بالنسبة لي فقد بدأ يتضح لعيني أن ما يبدو مظهر قوة في النظريتين هو بالضبط مكمن الضعف فيهما.
إن تلك «الملاحظات الإكلينيكية» التي كان المحللون النفسيون يرون بسذاجة أنها تؤيد نظريتهم لا تفترق في شيء عما يجده المنجمون في ممارستهم من الشواهد اليومية المؤيدة لأقوالهم (بوبر، الحدوس الافتراضية والتفنيدات).
ذلك أن الملاحظات الإكلينيكية، شأنها شأن كل الملاحظات الأخرى، هي «تأولات» في ضوء النظرية. ولهذا السبب وحده تكتسب مظهر المدعم لتلك النظريات التي تم في ضوئها تفسير هذه الملاحظات. غير أن التدعيم الحقيقي لا يمكن أن يتم إلا من خلال الملاحظات التي تجري بوصفها اختبارات (بواسطة محاولات التفنيد). ولهذا الغرض لا بد من وضع «معايير التفنيد» بشكل مسبق، لا بد أن نتفق منذ البداية أي المواقف القابلة للملاحظة إذا ما لوحظت بالفعل تعني أن النظرية مرفوضة. «ولكن ليقر المحللون عينا: فأي صنف من الاستجابات الإكلينيكية ذاك الذي يمكنه أن يفند، لا مجرد تشخيص تحليلي معين، بل التحليل النفسي ذاته؟! وهل تم حتى مناقشة مثل هذه المعايير أو الاتفاق عليها من جانب المحللين؟ أليس هناك على العكس فصيلة بأكملها من التصورات التحليلية، من مثل «التناقض الوجداني»
Ambivalence (وأنا لا أقصد أنه لا يوجد شيء من قبيل التناقض الوجداني) تجعل من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، الاتفاق على هذه المعايير؟»
9
التحميل النظري
Theory-Ladenness : لعل الملاحظات الإكلينيكية النفسية هي أخصب حقل وأحفله بظاهرة «التحميل النظري». والتحميل النظري حقيقة شاملة ومشكلة عامة تواجه التصور التقليدي للعلم كله وليس التحليل النفسي وحده. فما قصة هذا التحميل النظري؟
تذهب النظرة الساذجة للعلم إلى أن العلماء «يلاحظون» الطبيعة ويجمعون ملاحظاتهم ليكونوا بها صورة صادقة للأشياء: مركبا من كل الحقائق وليس من شيء غير الحقائق. وبعبارة أخرى تذهب النظرة التقليدية للمنهج الاستقرائي إلى أننا نبدأ بجمع ملاحظات خالصة، دون فروض مسبقة، تقدم لنا الوقائع بطريقة محايدة نزيهة. ومن تكرار هذه الملاحظات تبدأ أنماط معينة في الظهور وتؤدي إلى تكوين فروض عامة تربط بعض الظواهر الملاحظة. عندئذ نجري الاختبارات التجريبية التي تثبت صدق الفروض فترقى إلى منزلة النظريات.
ورغم ذلك فقد كان على العلماء أنفسهم أن ينفقوا زمنا حتى يدركوا بوضوح أن الملاحظة لكي تكون ذات معنى يجب أن تسترشد بنظرية، وقد ظل كثير من الناس يصرون على أن الملاحظات يجب أن تأتي أولا، وبعدها وبناء عليها يمكن للنظريات أن تنشأ. ولكن ما يحدث في عامة الأحوال هو أن نظرية ما هي التي تخبر العالم على وجه التحديد أي الملاحظات هي الجديرة بأن يقوم بها. أضف إلى ذلك أن النظرية تمد العالم بالمفردات اللغوية التي يصف بها ملاحظاته. فللأشياء والأحداث والمواقف التجريبية ما لا ينتهي من الخواص القابلة للملاحظة والوصف. إن النظريات هي التي تحدد للعالم أي هذه الخواص هي التي تعنيه وتتصل بموضوعه خلال وحدة محددة من العمل العلمي. واللغة التي تستعمل لكي تجسد الملاحظات وتصف النتائج التجريبية هي ذاتها شيء تحدده نظرية معينة وتقدر له شكله وصفته مقدما. فتوصف اللغة التي يستخدمها عالم ملتزم بنظرية معينة بأنها لغة «محملة بالنظرية» أو «مشحونة بالنظرية»
Theory-Laden .
10
يذهب ن. ر. هانسون
N. R. Hanson
إلى أن هناك معنى بموجبه لا يشاهد العلماء نفس الشيء حين ينظرون إلى شيء واحد. ذلك أنهم يفرغون تأويلاتهم الداخلية والخاصة على الأشياء. إن الملاحظة العلمية «محملة بالنظرية»، أي أن العلماء المختلفين يرون أشياء مختلفة لأنهم يعتنقون نظريات مختلفة. بهذا المعنى لم يكن كبلر وتيكوبراهي مثلا يريان نفس الشيء حينما كانا يراقبان الفجر عند بزوغه. ذلك أن الأول كان ينظر وهو يعتقد بمركزية الشمس
Heliocentrism
بينما كان الثاني ينظر وهو ممتلئ بمركزية الأرض
Geocentrism .
11
وبصرف النظر عما تنطوي عليه صياغة هانسون لفكرة التحميل النظري من مصاعب، فإن التحميل النظري نفسه حقيقة لم يعد يختلف عليها اثنان من فلاسفة العلم. فليس هناك شيء من قبيل الملاحظة الخام المحايدة، بلا فروض مسبقة وبلا محتوى نظري. فجميع الملاحظات تتضمن فكرة معينة عن طبيعة الشيء الملاحظ تحدد لنا هذا الصنف من الأشياء وتفترضه مسبقا. وهي إذن فكرة محملة بالنظرية وسابقة على أي استنتاج نستمده من الملاحظة، ومتضمنة فروضا نظرية حول سلوك ذلك الشيء وأحواله، وهي فروض تنطوي في الأغلب على ما يتجاوز مادة الملاحظة الراهنة وتأخذنا وراء المحتوى الخالص لهذه الملاحظة.
لقد أخطأت الوضعية المنطقية حين ظنت أن العلم يشيد النظريات عن طريق التركيب الموضوعي لجميع «الوقائع» التي ثبت صدقها (تم تحقيقها). فلا توجد هناك وقائع ولا يوجد بحث عن وقائع دون أن يكون جزءا من نظرية أو من فحص للعالم مدفوع بغرض معين. وما إن تستمد الفروض من النظريات حتى لا تعود الملاحظات التي تختبر هذه الفروض ملاحظات محايدة. إنها موثوقة بالمصطلحات النظرية التي أنتجتها: الملاحظات ليست بريئة. إنها متلبسة بالنظرية، وليست محايدة، بل متحيزة للنظرية، فهي سليلة النظرية قبل كل شيء، وهي جديرة أن تبدو (في المجال النفسي الإكلينيكي بخاصة) مدعمة للنظرية ما لم نفطن لذلك ونعتصم بالملاحظات التفنيدية القاسية المناوئة، وبغير ذلك من عناصر منطق التكذيب ومنهجه كما فصله بوبر.
وصفوة القول إن بوبر لا يرى فائدة ترجى من مقارنة أي نتائج مستنبطة من النظرية بالوقائع الملاحظة، وذلك ببساطة لأنه ليست هناك «وقائع محضة»، فجميع عبارات الملاحظة «محملة بالنظرية». وهي مشربة بالعوامل الذاتية الصرف (الاهتمامات، التوقعات، الرغبات، إلخ) بقدر ما هي مشربة بالواقع الموضوعي، ولتفادي هذه الصعوبة يرى بوبر أن على العلم أن يتقدم في مراحل أربع:
12 (1)
الأولى مرحلة «صورية»
Formal
يتم فيها التثبت من الاتساق الداخلي
Internal Consistency
للنظرية، أي اتساق النظرية مع نفسها، وذلك بالتأكد من أن كل الفروض الأساسية تأخذ مكانها الصحيح في المنظومة النظرية، وأنه لا يوجد بينها تناقض منطقي. (2)
المرحلة الثانية «شبه صورية»
Semiformal : وفيها يتم التمييز بين العناصر الإمبيريقية والعناصر المنطقية؛ أي فصل القضايا التي لها نتائج أو مترتبات إمبيريقية عن القضايا التي ليس لها. ذلك أن معظم النظريات تشتمل على عناصر «تحليلية»
Analytic
قبلية
a Priori
وأخرى «تركيبية»
Synthetic . وبهذه الخطوة التمييزية يبرز العالم الصورة المنطقية للنظرية ويجعلها صريحة معلنة. ومن شأن التهرب من هذه الخطوة أن يؤدي إلى أخطاء مقولية
Category Mistakes
تؤدي بالعالم إلى أن يسأل السؤال الخطأ ، ويفتش عن معطيات إمبيريقية حيث لا توجد معطيات (فلعل النظرية كلها من قبيل تحصيل الحاصل). (3)
مقارنة النظرية الجديدة بالنظريات الموجودة التي تغطي نفس القطاع من الظواهر، لنرى إن كانت تمثل تقدما علميا عليها.
وتعد النظرية ن2 أفضل من النظرية ن1 إذا كانت أكبر منها من حيث المحتوى الإمبيريقي، وبالتالي أكبر منها من حيث القوة التنبؤية (شريطة ألا تكون مفندة بالطبع). (4)
اختبار النظرية تجريبيا، أي عن طريق التطبيقات التجريبية للنتائج المستنبطة منها. ولكن أية نتائج تلك التي ننتقيها للاختبار؟ يقول بوبر إن هناك قضايا مفردة معينة يتم استنباطها من النظرية، هذه القضايا تمثل تنبؤات. وأكثر ما يعنينا من بين هذه التنبؤات تلك التي تتسم بالمخاطرة والجسارة وبعد الاحتمال (بمعنى أنها غير معقولة حدسيا أو جديدة بصورة مذهلة)، وقابلية الاختبار التجريبي. ومن بين هذه التنبؤات الجريئة ننتقي تلك التي لا يمكن اشتقاقها من النظرية الموجودة، ويفضل بشكل خاص تلك المناقضة للنظرية الموجودة، فإذا جاء الاختبار في صالح التنبؤات الجديدة نقول إن النظرية الجديدة قد تم تعزيزها
Corroboration (ومن ثم يتم تبنيها كفرض عامل) وإن النظرية الموجودة قد تم تكذيبها. هكذا يكون معنى الاحتكام إلى التجربة في رأي بوبر. فالتجربة لا تثبت نظرية بل تنفيها. والتجربة لا تخبرنا أي النظريات هي الصادقة، بل أي النظريات هي الكاذبة. والملاحظات الإمبيريقية بحد ذاتها غير معصومة من الخطأ ولا يمكن أن تكون معصومة. ذلك أن الملاحظات هي ذاتها «محملة بالنظرية»
Theory-Laden .
هكذا يكشف بوبر وهم الملاحظات الإكلينيكية التي يستند إليها التحليليون وأشباههم. فهي بهذا التصور أشبه بثوب خلع من النظرية ثم خلع عليها ... فهالهم أنه انطبق على النظرية وأيدها تأييدا. وهو كما تبين منطق معكوس يقع فيه كل من يقرأ فكرته ويتأولها في كل شيء ويراها في كل شيء لأنه لا يرى إلا بها! وهو منطق معكوس تجد له أمثلة لا تحصى في النظريات الميتافيزيقية التي «تبدو الوقائع مؤيدة لها، ولو دققنا النظر في هذه الوقائع لتبين لنا أنها اختيرت في ضوء النظريات عينها التي نريد اختبارها بها» (بوبر: عقم المذهب التاريخي، القوانين والاتجاهات). (8) الإيحاء الإكلينيكي والأثر الأوديبي
ويزيد الأمر صعوبة في حالة التحليل النفسي وجود احتمال كبير لتأثير التأويلات التحليلية ذاتها على ذهن المريض. فهل بحث التحليليون مدى تأثير توقعاتهم (الشعورية واللاشعورية) ونظرياتهم التي يعتنقونها على الاستجابة الإكلينيكية للمريض؟ دعك من المحاولات الواعية للتأثير على المريض باقتراح تأويلات معينة عليه.
13 «إن الخداع الذاتي الذي يقع فيه المحلل نفسه دون دراية منه قد يؤدي إلى صياغات مغلوطة يراها هو متسقة ومعقولة، ومن أصعب الدروس التي يتعلمها المحللون هو أن يتفطنوا إلى استجاباتهم الذاتية الخاصة تجاه أقوال مرضاهم وتأثيراتهم الخاصة على هذه الأقوال مثل هذه الملاحظة الذاتية العسيرة هي ما يضفي على التحليل النفسي طابعه الإبستمولوجي الخاص، ويومئ إلى فائدته، وإلى حدوده أيضا، في دراسة عقول الآخرين.»
14
الأثر الأوديبي: سبق لبوبر في كتابه «عقم المذهب التاريخي» أن دفع بمصطلح «الأثر الأوديبي»
Oedipal Effect
ليصف تلك الظاهرة الخاصة بتأثير النظرية أو التوقع أو النبوءة على الحدث الذي تتنبأ به أو تصفه. وسبق أن أشار إلى أن السلسلة السببية التي أدت إلى قتل أوديب لوالده قد بدأت بنبوءة «الوحي» بهذا الحدث.
15
إن هذه هي الثيمة المميزة والمتكررة في مثل هذه الأساطير، غير أنها فيما يبدو لم تلفت انتباه التحليليين، ولعل هذه الغفلة لم تكن من قبيل الصدفة. لقد عرض فرويد لمسألة الأحلام المؤيدة والتي يوحي بها المحلل إلى عقل المريض، إذ يقول: «إذا قال لنا شخص إن معظم الأحلام التي يمكن الإفادة منها في عملية التحليل تعود في مصدرها إلى إيحاء المحلل النفسي، فلن يسع نظرية التحليل عندئذ أن تعترض على ذلك.» ثم يردف دون أن يطرف له جفن: «غير أن هذه الحقيقة لا تنتقص البتة من قيمة النظرية وثبات نتائجها.» «... والفكرة القائلة بأن التنبؤ قد يكون له أثر في الحادث المتنبأ به ترجع إلى عهد قديم جدا. فقد جاء في الأقاصيص القديمة أن أوديب قتل أباه ولم يكن قد رآه من قبل، وكان ذلك نتيجة مباشرة للنبوءة التي دفعت أباه إلى نبذه. ولهذا أود أن أطلق اسم «الأثر الأوديبي» على تأثير النبوءة في الحادث المتنبأ به (أو على تأثير المعرفة عامة في الموقف المتصل بها)، سواء كان من شأن هذا التأثير أن يساعد على وقوع الحادث أو على منعه ... ومن أمثلة التأثير المنعي أن التنبؤ بأن سعر الأسهم سوف يأخذ في الارتفاع على مدى ثلاثة أيام ثم يهبط بعدها سوف يدفع الناس إلى أن تبيع أسهمها في اليوم الثالث، وبذلك يهبط السعر ويكذب التنبؤ.»
نحن إذن في العلوم الاجتماعية بإزاء تفاعل شامل معقد بين المشاهد والمشاهد، بين الذات والموضوع. ومن المحتمل أن يكون لوعينا بوجود الاتجاهات التي قد تسبب في المستقبل حادثا معينا، ولإدراكنا أيضا أن التنبؤ قد يؤثر هو نفسه في الحوادث المتنبأ بها، من المحتمل أن تكون لكل ذلك آثاره في مضمون التنبؤ، وقد يكون من شأن هذه الآثار أن تخل بموضوعية التنبؤات وغيرها من نتائج البحث في العلوم الاجتماعية.
إن التنبؤ حادث اجتماعي قد يتأثر بغيره من الحوادث الاجتماعية ويؤثر فيها، ومن بين هذه الحوادث الحادث المتنبأ به. وقد يساعد التنبؤ كما رأينا على الإسراع بوقوع هذا الحادث، ولكن من السهل أن نرى أنه قد يؤثر فيه على أنحاء أخرى، فقد يتطرف التنبؤ إلى حد خلق الحادث الذي تنبأ به، بمعنى أن الحادث ما كان ليقع أصلا لو لم يحدث التنبؤ، وقد يتطرف في الجهة المضادة فيتسبب في منع وقوع الحادث الذي يقول بأنه آت لا محالة (بحيث يمكن القول إن العالم الاجتماعي في استطاعته أن يسبب وقوع الحادث بالامتناع عن التنبؤ إما عامدا أو غافلا). وواضح أن هناك حالات كثيرة متوسطة بين هذين الطرفين. أي أن فعل التنبؤ بأمر ما، أو الامتناع عن التنبؤ، قد يكون لهما كليهما نتائج من أي نوع.
16 (9) التحصين الذاتي لنظرية التحليل النفسي
17
سبق أن قلنا إن البنية المنطقية ذاتها للتحليل النفسي تجعله غير قابل للتكذيب، وبالتالي تجعله شبه علم. إن الصياغة ذاتها للنظرية، وطبيعة المفاهيم الأساسية لها تجعلها مائعة رواغة يصعب الإمساك بها واستخلاص «مكذبات » لها «بالقوة»
Falsifiers . كما أن ترسانة الفروض المساعدة
Auxiliary
والعينية (التحايلية)
ad hoc ، والمناورات التعريفية والاصطلاحية، وأرتال الشروط والمحاذير والتحفظات، كل أولئك من شأنه أن يجعلها مسيجة ممنعة «مصمتة استنباطيا» إن صح التعبير؛ أعني أنك لا تستطيع أن تستنبط منها عبارات إمبيريقية مضادة تعول عليها في عملية الاختبار. وكثيرا ما تنال هذه المداورات الكثيرة من الاتساق الداخلي للنظرية وتحول القضايا الكلية إلى قضايا جزئية يستحيل دحضها. فمهما تأت نتيجة الاختبار فإن جزءا من النظرية سيظل صائبا وبمنجاة من التفنيد.
ومن أمثلة هذه التحصينات المضادة للتكذيب:
التناقض الوجداني
Ambivalence : أي وجود شعورين متناقضين يعتملان في نفس المرء تجاه الشيء الواحد في الوقت الواحد. وهو حق ولسنا بصدد إنكاره (وقد نوه بوبر نفسه بذلك وذكر أنه لا ينكر وجود التناقض الوجداني بحد ذاته). غير أن هذا المفهوم يضع على كاهل النظرية عبئا منطقيا عليها أن تحمله ولا تتملص منه، وعليها ألا تترك مثل هذا المفهوم الرواغ يتداخل مع كل شيء دون ضابط ودون معيار. وإلا فهو يتحول في النهاية، كما نلمس جيدا في تأويلات المحللين، إلى فرض عيني تحايلي
ad hoc
يرتقون به كل فتق ويصادرون به دون دليل.
غريزة الموت
Thanatos : وهو افتراض آخر يمكن أن يكون شديد المداورة والروغان في التطبيق. ويشكل مع غريزة تملصا تاما من التكذيب ، وتناقضا وجدانيا على مستوى آخر. ويسري عليه ما يسري على التناقض الوجداني، فهو مفهوم غامض ويستحيل اشتقاق أية فروض تجريبية منه، وهو مهرب يسير وتسمية سهلة لكل ما نعجز عن تفسيره من ميول تدميرية نحو الذات أو الغير.
تكوين رد الفعل
Reaction Formation : وهو بالمثل تناقض يجب ألا يترك ألعوبة رخيصة نؤول بها سلوك الناس ونكمل بها ما لا يكتمل من صور الشخصية كيفما اتفق.
وشبيه بذلك أن من تعرض لصدمة نفسية مرتبطة بالكلاب مثلا سوف يدرج على الخوف من الكلاب، فإذا ما داهمتنا المشاهدات بأشخاص تعرضوا لنفس الصدمة ثم درجوا على حب الكلاب، فما أسهل أن نلجأ إلى الفرض المساعد
Auxiliary Hypothesis
القائل بأن: بعض الناس ممن يضمر مخاوف لا شعورية يستجيب تجاه هذه المخاوف ب «الإنكار»
Denial
و«احتضان»
Embracing
الموضوعات المخيفة، وبذلك ننقذ النظرية. قد يكون ذلك حقا، ولسنا بصدد إنكاره، غير أن مثل هذا الفرض المساعد يدرع النظرية الرئيسية ويحصنها من الدحض، ويعمل دائما كمصد
Buffer
يحميها من التكذيب ويجعلها غير قابلة للاختبار العلمي. إننا نسأل هنا ماذا قدمت النظرية من «محتوى معلوماتي» ومن تنبؤات محددة؟ وماذا عسى أن يكون عليه الحال لو أنها كانت كاذبة؟ أكان يكون شيئا آخر غير أن بعض الناس يخاف من الكلاب وبعضهم لا يخاف؟ وماذا يكون التنبؤ؟ أيكون شيئا آخر غير أن «س سوف يخاف من الكلاب أو لا يخاف»؟ وهل تبقى شطر ثالث في «عالم المقال»
Universe of Discourse ؟!
ومن الإنصاف لفرويد أن نذكر له أنه حذر من اللعب بالتحليل النفسي واستعمال تقنياته كيفما اتفق، وقال قولته البليغة المأثورة: «أحيانا ما يكون السيجار سيجارا ولا شيء غير سيجار!» مشيرا إلى أن الديناميات النفسية والدفاعية التي كشف عنها ينبغي ألا تلصق بالناس جزافا دون «دليل». ويعني بمثاله أنه ليس كل من يدخن السيجار «مثبتا»
Fixated
بالضرورة عند المرحلة الفمية من النمو النفسجنسي، غير أنه لم يذكر لنا ما يكون ذلك «الدليل» الذي أشار إليه. ولعله كان ينفي عن نفسه تهمة «التثبيت» إذ كان فرويد مدخنا للسيجار! تراه إذن يستعمل الميكانزمات؛ لأنه يدخن أم يدخن لأنه يستعمل الميكانزمات؟ وهل ترانا وقعنا معه في «نكوص لا نهائي»
Infinite Regress
كما ألمح فيكتور فرانكل مداعبا؟
وليس بدعا أن نجد الأمر يسفر في كثير من الأحيان عن تحصيلات حاصل، فكثير من هذه النظريات «السائبة» هي من قبيل «تفسيرات تحصيل الحاصل»
Tautological Explanation ، وهي صفة العلم الأجوف الخالي من المحتوى المعلوماتي الحقيقي، ويعرف «تفسير تحصيل الحاصل» بأنه ذلك التفسير الذي يكون فيه «المفسر»
Explanans (القضية التي تضطلع بالتفسير) لا يقول شيئا أكثر من «المفسر»
Explanandum (القضية المطلوب تفسيرها). مثال ذلك سخرية موليير المأثورة من تفسير مهنة الطب (في زمنه) لظاهرة نوم الناس على أثر تعاطي الأفيون بأن الأفيون يجعل الناس تنام «لأن له تأثيرا منوما» (أي أن الأفيون «ينوم لأنه ينوم»).
لا تعدو تفسيرات التحليل النفسي في بعض الأحيان أن تكون من هذا الصنف، فتفسر الشيء بنفسه، ولا تسعفنا بسلاح تنبؤي حقيقي، فالناس على سبيل المثال تنزع في بعض الأحيان إلى تدمير ذاتها أو تدمير الآخرين لأن فيهم «غريزة الموت»، وهو اسم آخر لنزعة التدمير (تدمير المستوى الحيوي الأعقد والعودة إلى الحالة الجمادية ... إلخ). وبذلك لا تقول النظرية شيئا أكثر من: «إن الناس تنزع إلى التدمير لأن لديها نزعة للتدمير.» والسؤال هنا أيضا: ماذا أضافت لي هذه القضية من محتوى معلوماتي حقيقي؟ وهل عرفت بها شيئا لم أكن أعرفه سابقا قبل أن أسمع بهذا المصطلح الجديد؟ أم هي رطانة توهمني بالعلم وليس وراءها أي محتوى حقيقي؟
ولعل كارل بوبر كان أرفق بالتحليل النفسي من أدولف جرونباوم
A. Grunbaum
وهو فيلسوف علم آخر اختلف مع بوبر في فكرته عن عدم قابلية التحليل النفسي للتكذيب، وذهب إلى أن التحليل النفسي قابل للتكذيب وأنه في حقيقة الأمر قد تم تكذيبه. أشار جرونباوم إلى أن من اليسير أن نختبر نظرية فرويد القائلة بأن البارانويا تنشأ عن نزعة مكبوتة للجنسية المثلية
Repressed Homosexuality
ولا يلزمنا أكثر من العثور على بارانوي مثلي واحد لكي نكذب النظرية!
18
غير أن بوبر كان أرفق من ذلك إذ ذهب إلى أن التحليل النفسي يتحلى بالمعنى والدلالة ، وأنه نظرية «قبل-علمية»
يمكن أن تطور ذات يوم إلى علم حقيقي قابل للاختبار. غير أنه في صيغته الحاضرة علم زائف لأنه محصن بطبيعته من التكذيب.
غير أن السؤال الأجدى عن أي حال هو ما إذا كان التحليل النفسي قابلا للاختبار في الممارسة الفعلية. فالحق أن التحليل النفسي قلما يخضع للاختبار في الممارسة الحقيقية. وحتى حين يعرض للاختبار فإن الاستدلال كثيرا ما يكون دائريا، بمعنى أن تفسير المعطيات نفسها يتطلب افتراض صدق النظرية. مثال ذلك ما ورد عن نتائج دراسة حول «عقدة أوديب»
Oedipus Complex
حيث كانت «نسبة الفتيات أكبر من نسبة الأولاد بدرجة عالية الدلالة فيما يتصل بتخيل الصورة الذكرية ترتقي الدرج وتدخل الغرفة. وهو بالطبع أقوى «دليل» على صدق نظرية فرويد، حيث إن ارتقاء السلم في نظرية فرويد هو رمز للجماع ودخول القضيب في المهبل.»
19
مثل هذا «الدليل» مشكوك فيه إلى حد كبير لأن هذا الفرق المذكور بين الذكور والإناث لا ينهض دليلا على صدق نظرية فرويد إلا إذا تبنى «التفسير الرمزي» الذي يتضمن أن الفتيات يفكرن في الاتصال الجنسي بأبيهن، أي ب «مصادرة على المطلوب»
Begging the Question ، فالتفسير الرمزي هنا هو فرضية «شيطانية» مختلقة تمنع النظرية من أن تختبر، وما من نتيجة إلا ويمكن أن تكون مؤيدة إذا نحن أفرغنا عليها التفسير المطلوب تأييده.
20
من المتيقن إذن أن التحليل النفسي محصن ذاتيا، وأنه يعج بفروض شيطانية متأصلة فيه من شأنها أن تتملص من أي بيانات مضادة. و«الكبت»
Repression
هو فرض شيطاني آخر: فإذا سلم المريض بأحد التأويلات التحليلية فهذا يثبت أن التأويل صحيح، فإذا لم يسلم فهو ببساطة «يكبت» الحقيقة. هكذا نرى أن وجود آلية الكبت قد مكن للنظرية أن تنقذ نفسها بكل بساطة. وعلى الرغم من أن استخدام الفروض «العينية»
ad hoc
لإنقاذ النظريات ليس في صميمه غير علمي، فإن النظرية التي تحصن نفسها بهذه السهولة سوف توقف نموها العلمي، وسيكون من المحال في الممارسة أن يتم تطويرها علميا.
ومن أقتل المآخذ التي تؤخذ على التحليل النفسي خلو جعبته من التنبؤات الحقيقية ، فهو متضلع في تأويل ما وقع ولكنه عاجز عن التنبؤ بما سيكون. وتتسم تصورات التحليل النفسي بقدر غير مسبوق من «التسيب النظري» الذي يمنحها قدرة من داخلها على التلون بلون أي مشاهدة، والتساوق مع أي ملاحظة كانت. مثال ذلك أن الصراع اللاشعوري المتعلق بالتعبير عن العدوان يمكن أن يؤدي من وجهة نظر التحليل النفسي إلى أي مما يأتي:
الغضب تجاه الذات.
الغضب تجاه شخص آخر.
الخلو تماما من الغضب.
نشاط آخر غير الغضب.
الاكتئاب ... إلخ.
تنص مبرهنة بايس
Bayes’ Theorem
على أنه «لا تعلو الثقة في النظرية إذا ما كان احتمال وقوع التنبؤات في حالة صدقها مساويا لاحتمال وقوعها في حالة كذبها.» ولكن إذا كانت النظرية الفرويدية تتنبأ بكل شيء فهي، وفقا لهذه المبرهنة، لا تؤيد إذا تمت ملاحظة أي شيء.
21 (10) متضمنات فكر بوبر حول البحث السيكولوجي
معظم الدراسات البحثية في علم النفس تقوم فعلا بتشييد فرضيات يمكن من حيث المبدأ أن يتبين كذبها، فإذا كان هناك تنبؤ مثلا بأن التدريب يرفع الأداء على اختبارات الذكاء، وإذا كانت التجربة تقدم تدريبا لمجموعة من المشاركين ولا تقدمه لمجموعة ثانية، وإذا كانت هاتان المجموعتان متكافئتين في السمات والقدرات الأخرى ذات الصلة، فالتجربة إذن يمكن من حيث المبدأ أن تمضي في أي من الاتجاهين: فقد تؤدي المجموعة المتدربة أداء أفضل على الاختبار، وقد لا تؤدي أداء أفضل. من الممكن للفرضية من ثم أن تدحض. وتبرز الصعوبة في علم النفس عندما نكون بصدد النظريات لا بصدد الفروض، أي عندما نتناول النموذج العام الذي يلهم بفرضيات معينة. فمن شأن النظريات التي تنسج بوضوح وتتمتع ببنية محددة المعالم ومترابطة الأجزاء أن تولد فرضيات محددة بدقة وقابلة للاختبار. أما النظريات غير المتسقة داخليا فهي لا يمكن اختبارها ولا دحضها، لأنه أيا ما تكون نتيجة أي تجربة فإن جزءا من النظرية سوف يتماشى معها. ولن تجد كالتحليل النفسي مثالا نموذجيا لهذه النظريات التي ترفض من حيث المبدأ أن يتم دحضها، وهي لا ترفض ذلك لدواع سيكولوجية كالتي تتحدث عنها، بل لدواع منطقية كامنة في صميم بنيتها.
استدراك واجب
التحليل النفسي نظرية جليلة، أثرها باق في بنية الثقافة المعاصرة وفي صميم بنية اللغة البشرية الجديدة، ودورها من ثم بالغ الأثر في تشكيل العقل الحديث وبنائه. وفرويد رائد كبير، وواحد من أعظم المبدعين في التاريخ كله. ولم ينكر بوبر على التحليل النفسي ورائده أي شيء من ذلك. ولم يتهم النظرية بالهراء وانعدام المعنى على طريقة الوضعية المنطقية. وحقيقة الأمر أنه اعتبر التحليل النفسي نظرية «قبل-علمية» أكثر مما هي علم زائف. يقول بوبر في الحدوس الافتراضية والتفنيدات بالحرف الواحد:
وهذا لا يعني أن فرويد وأدلر غير مصيبين في بعض الأمور، وأنا شخصيا لا أشك في أن كثيرا مما قاله الاثنان هو ذو أهمية كبيرة، وأنه قد يسهم ذات يوم إسهاما كبيرا في تأسيس علم سيكولوجي يكون قابلا للاختبار ... وقد كنت على إدراك بأن مثل هذه الأساطير يمكن تطويرها فتصبح قابلة للاختبار، وأن كل النظريات العلمية أو جلها، من الوجهة التاريخية، قد نشأت من أساطير. ورب أسطورة قد اشتملت في داخلها على استباقات هامة لنظريات علمية، ومن أمثلة ذلك نظرية أمبدوقليس في التطور بواسطة المحاولة والخطأ، أو أسطورة بارمنيدس التي تقول بأن العالم «لبنة» واحدة ثابتة لا تتغير ولا يجري فيها أي شيء على الإطلاق، فهي إذا أضفنا إليها بعدا جديدا فإنها تفضي إلى تصور أينشتين عن العالم - الكتلة (وهو أيضا لا يستجد فيه شيء على الإطلاق، إذ إن كل شيء فيه، بلغة الأبعاد الأربعة، محدد ومرسوم منذ البداية). هكذا كنت أشعر أننا إذا كنا بإزاء نظرية ما ووجدنا أنها غير علمية أو أنها «ميتافيزيقية» إن شئنا القول فإن هذا لا يعني أنها غير ذات أهمية أو دلالة، أو يعني بأنها لا معنى أو بأنها هراء.
وفي تصديره للطبعة الإنجليزية من «منطق الكشف العلمي» يقول بوبر: «إنه من الحقائق المسلم بها أن الأفكار الميتافيزيقية البحتة، ومن ثم الأفكار الفلسفية، ذات أهمية قصوى للكوزمولوجيا، فمن طاليس إلى أينشتين، ومن الذرية القديمة إلى تأملات ديكارت عن المادة، ومن تأملات جلبرت ونيوتن وليبنتز وبسكوفيك عن القوى إلى تأملات فاراداي وأينشتين عن مجالات القوى، أضاءت الأفكار الميتافيزيقية معالم الطريق.»
22
فكأن الآراء والأفكار الميتافيزيقية تسهم أحيانا في انطلاق الأفكار العلمية، وبلورة الخيال العلمي بصورة تؤدي إلى صدور نظرية علمية أصيلة.
23
إن أفكار فرويد هي «تأويلات» شديدة الخصب. والتأويلات كما بين بوبر في أكثر من مناسبة لا توصف «بالصدق أو الكذب» كما توصف «النظريات»، بل توصف «بالخصب أو العقم». وإذا تناولنا التحليل النفسي من هذا المنظور لتكشفت لنا أهميته البالغة في «فهم» الكائن الإنساني بما أمدنا به من مقولات ذكية مسعفة لنا حيث لا تسعفنا أي قوانين علمية محددة. وإذا تناولنا فكر فرويد بهذا المفهوم لتكشفت لنا أهميته البالغة في مجال العلم ذاته؛ إن ما يعد به أهم بكثير مما يقدمه. إنه علم خام إن صح التعبير، ومخزون هائل من التصورات الخصبة والفرضيات الملهمة، تدعو إلى العمل المنطقي والتنقيح المراجع، أكثر مما تدعو إلى التقديس والتصلب، من أجل استخلاص قضايا علمية متسقة ذاتيا وقابلة للاختبار. هنالك يكون إسهام فرويد العلمي إسهاما أصيلا، ويكون فضله على العلم فضلا مضاعفا.
الفصل الثالث
النفس ودماغها
أرى أن النفس والجسد يؤثر كل منهما في صاحبه: فأيما تغير يعتري حالة النفس يفضي إلى تغير في شكل الجسد، والعكس صحيح، فأي تغير في شكل الجسد يفضي إلى تغير في حالة النفس.
1
أرسطو
هذه العبارة الجامعة التي وردت في مستهل الفصل الرابع من كتاب «الفراسة»، والتي تعزى إلى أرسطو، ليس يعنيني في غرضي الحالي إن كانت لأرسطو حقا أم لواحد من تلامذته (قد يكون ثيوفراسطس)، غرضي الحالي هو أن أبين أن مشكلة الذهن-الجسم، والحل المقترح لها بواسطة التأثير المتبادل (التفاعل)
Interactionism
كانا هاجسين عامين لمدرسة أرسطو، لقد كان أعضاء هذه المدرسة الذين أخذوا بالمذهب القائل بأن العقل لا مادي يأخذون أيضا، ضمنيا ولكن بشكل واضح، بفكرة أن علاقة العقل-الجسم تقوم على التفاعل المتبادل الذي درجوا على اعتباره تفاعلا غير ميكانيكي. كانت هذه الطريقة كما قلت آنفا: هي الحل الذي أخذ به جميع المفكرين في هذا العصر، باستثناء الذريين
Atomists
الذين قالوا بالتفاعل الميكانيكي.
والدعوى التي أطرحها في هذا القسم هي دعوى بسيطة، وبادئ ذي بدء أود أن أؤكد أنه كانت هناك أرضية مشتركة بين أرسطو وديكارت فيما يتعلق بمذهب لا مادية النفس ومذهب التفاعل المتبادل، وأيضا فيما يتعلق بأخذهما بفكرة التفسير الماهوي
Essentialist ، إلا أن ديكارت قد صادف مصاعب معينة بصدد مشكلة التفاعل، فأصبحت المشكلة لديه هي كيف يتسنى لنفس غير مادية أن تؤثر على عالم مادي يعمل بآليات عمل الساعة، وكل ما فيه من علية فيزيائية إنما تقوم بالأساس وبالضرورة على الدفع الميكانيكي
Mechanical Push .
2
الذي أريد أن أطرحه هنا هو أن ديكارت، حين حاول أن يجمع بين مذهب لا مادية النفس وتفاعلها المتبادل وبين مبدأ ميكانيكي وواحدي في العلية الفيزيائية، قد خلق مشكلة جديدة تماما وبلا داع على الإطلاق، أدت هذه المشكلة إلى تحول جديد في مشكلة العقل-الجسم (وأفضت لدى خلفاء ديكارت إلى مذهب التوازي
بين العقل والجسم، وإلى مذهب الهوية
Identity
من بعده).
كان ديكارت، كما قلت، من القائلين بمذهب الماهية
Essentialism ، وكانت أفكاره الفيزيائية قائمة على فكرة حدسية عن ماهية الجسم (وهو يعني بالماهية تلك الخصائص الثابتة لجوهر ما)، وهو يؤسس صدق هذا الحدس على الضمان الإلهي. حاول ديكارت أن يثبت، بحجج تبدأ من «أنا أفكر، إذن أنا موجود»، أن الله موجود، وأنه بحكم كماله لا يمكن أن يسمح بأن ننخدع عندما يكون لدينا حدس أو إدراك واضح ومتميز؛ إذن وضوح الإدراكات (وبعض الأفكار الذاتية الأخرى) وتميزها، هي عند ديكارت معايير للحق (الصدق)
Truth
موثوق بها.
يعرف ديكارت الجسم (المادة) بأنه شيء «ممتد» في المكان الثلاثي الأبعاد. الامتداد إذن هو ماهية الجسم أو المادة (وهذا لا يختلف كثيرا عن نظرية أفلاطون في المكان في محاورة طيماوس، أو عن نظرية أرسطو عن المادة الأولى)، كان ديكارت يشارك كثيرا من المفكرين السابقين عليه (أفلاطون، أرسطو، القديس أوغسطين) رأيهم بأن العقل والوعي بالذات هما شيئان غير ماديين، وبما أنه قد أخذ بأن الامتداد هو ماهية المادة، فلم يكن بد له من أن يقول بأن النفس، ذلك الجوهر اللامادي، غير ممتدة (وقد أدى هذا بالفيلسوف ليبنتز إلى القول بأن الأرواح هي نقاط إقليدية غير ممتدة، أي «مونادات»
Monades ). ماهية النفس إذن - وفقا لديكارت - هي أنها جوهر «مفكر»، ومن الواضح أنه يعني بالتفكير هنا شيئا مرادفا للوعي أو الشعور، هذا التعريف للمادة أو الجسم كشيء «ممتد» هو ما أدى بديكارت مباشرة إلى صيغته الخاصة من النظرية الآلية للعلية، وهي النظرية القائلة بأن كل علية في «العالم 1» (العالم المادي) تتم بواسطة «الدفع»
.
كانت هذه نظرية قديمة بعض الشيء، إنها نظرية المحارب الذي يستخدم السيف أو الرمح ويحمي نفسه بالدرع والخوذة، وهي نظرية الحرفي الصانع : الخزاف أو بناء السفن أو الحداد (من الصعب أن تكون نظرية صاهر البرونز أو الحديد؛ لأن استخدام الحرارة يسخر عاملا عليا مختلفا عن مجرد الدفع، ولا هي نظرية الكيميائي القديم أو الحديث، ولا نظرية الشامان أو العراف أو المنجم، غير أن الدفع بطبيعة الحال هو أمر عالمي شامل وداخل في خبرة أي فرد منذ الطفولة).
كان ديمقريطس هو أول فيلسوف جعل الدفع هو (تقريبا) القوة الشاملة، فحتى اتحاد الذرات هو في نظره يتم «جزئيا» بواسطة الدفع، حين تشتبك خطافات الذرات بعضها ببعض، وهو بهذه الطريقة «يرد»
Reduce
الجذب إلى الدفع.
وفي المقابل رفض ديكارت المذهب الذري، فقد كان توحيده بين الامتداد الهندسي وبين الجسمية أو المادية يحول بينه وبين قبول المذهب الذري، وقد أدى به هذا التوحيد إلى حجتين ضد الذرية: فمن الممتنع أن يكون هناك خلاء أو فضاء فارغ؛ لأن المكان الهندسي هو امتداد، أي هو نفس ماهية الجسم أو المادة، ومن الممتنع أن يكون هناك حد نهائي لقابلية الانقسام؛ لأن المكان الهندسي قابل للانقسام إلى ما لا نهاية، وعلى الرغم من ذلك فقد قبل ديكارت، بغض النظر عن نظرية الدفع، كثيرا من الأفكار الكوزمولوجية للذريين (كما فعل أفلاطون وأرسطو من قبل)، أولها جميعا نظرية الدوامات، فلم يكن له بد من قبول هذه النظرية بحكم تعريفه لماهية المادة، فحيث إن هذا التعريف يحتم عليه القول بأن المكان مليء، فكل حركة لا بد أن يكون لها، من حيث المبدأ، طبيعة الدوامة، مثل حركة أوراق الشاي في الفنجان.
والكوزمولوجيا الديكارتية، شأنها شأن كوزمولوجيا الذريين، تصور العالم في صورة آلة ميكانيكية ضخمة ذات تروس: دوامات معشق بعضها ببعض ويدفع بعضها بعضا، وجميع الحيوانات هي جزء من هذه الآلية الميكانيكية الضخمة، كل حيوان هو آلة ميكانيكية تحتية، مثل الدمى الأوتوماتيكية التي تعمل بالماء والتي كانت في زمنه موضة سائدة تزدان بها بعض حدائق النبلاء.
والجسد الإنساني ليس استثناء لهذه القاعدة، فهو أيضا آلة ذاتية الحركة، باستثناء حركته الإرادية، فها هنا يوجد الاستثناء الوحيد في العالم كله، فالعقل الإنساني اللامادي قادر على أن يسبب حركات الجسم الإنساني، وبمقدوره أيضا أن يعي بعض الانطباعات الميكانيكية التي تحدثها القوى الفيزيائية، الضوء والصوت واللمس، في الجسم الإنساني.
من الجلي أن هذه النظرية في التفاعل المتبادل بين العقل والجسم لا تنسجم تماما مع كوزمولوجيا ذات آلية كاملة.
ولكي نلمس ذلك يكفينا أن نقارن بين كوزمولوجيا ديكارت وكوزمولوجيا أرسطو.
فالنفس الإنسانية اللامادية والخالدة في فلسفة ديكارت شبيهة غاية الشبه بالنفس العاقلة أو العقل
Nous
في فلسفة أرسطو، فمن الواضح أن كلتيهما لديها ملكة الوعي بالذات، وأن كلتيهما لا مادية وخالدة، وقادرة على السعي نحو هدف ما عن وعي ودراية، وقادرة على أن تستخدم الجسم كأداة أو عضو لكي يحقق غاياتها.
والنفس النامية (النباتية) والنفس الحاسة (والنفس الشهوية والمتحركة) عند أرسطو تناظر ما أسماه ديكارت «الأرواح الحيوانية»
Animal Spirits ، وبعكس الانطباع الأول الذي تعطيه لفظة «روح»، فإن الأرواح الحيوانية عند ديكارت هي جزء من الجهاز الجسمي الميكانيكي المحض، إنها سوائل - سوائل من صنف نادر جدا - تقوم في الحيوانات جميعا وفي الإنسان بالكثير من العمل الآلي للدماغ، وتربط الدماغ بأعضاء الحس وبالعضلات والأطراف، وهي تنتقل في الأعصاب (ومن ثم فهي استباق من ديكارت للإشارات الكهربية العصبية التي نعرفها الآن).
حتى الآن لا يوجد فرق يذكر بين نظريتي أرسطو وديكارت، غير أن التفاوت سيغدو هائلا إذا ما نظرنا إلى الصورة الكوزمولوجية ككل: يرى أرسطو إلى الإنسان بوصفه حيوانا راقيا، حيوانا عاقلا، ولكن جميع الحيوانات والنباتات، وحتى الكون الجمادي كله، هو عنده يسعى نحو أهداف وغايات، وما النباتات والحيوانات إلا درجات (بل ربما تكون درجات تطورية) تفضي من الطبيعة الجامدة إلى الإنسان، فأرسطو إذن يقول بالغائية.
أما عالم ديكارت فمختلف عن ذلك تمام الاختلاف، إنه عالم يتألف على وجه الحصر تقريبا من عدد ميكانيكية لا حياة فيها، فجميع النباتات والحيوانات هي آلات من هذا الصنف، والإنسان وحده هو من يتمتع بحياة حقيقية، هو الحي بحق، كانت هذه الصورة للعالم غير مقبولة عند الكثيرين، بل صادمة لمشاعرهم، وقد جعلتهم يشكون في صدق ديكارت وفيما إذا كان في حقيقة الأمر ماديا متخفيا أدخل فكرة النفس في نظامه لخوفه من الكنيسة الكاثوليكية وليس لأي سبب آخر (والدليل على أنه كان يخشى الكنيسة أنه أحجم عن نشر كتابه الأول «العالم» عندما سمع بمحاكمة جاليليو وإدانته).
قد يكون هذا الشك لا أساس له، ومع ذلك فمن الصعب تجاهله. لقد أخذ ديكارت بالنظام الكوبرنيقي، وبالعالم اللانهائي لجيوردانو برونو «لأن المكان الإقليدي لا نهائي»، لعل الاستثناء الفريد الذي جعل للإنسان في كوزمولوجيا سابقة على كوبرنيقوس كان أمرا مفهوما، غير أنه لا ينسجم في إطار الكوزمولوجيا الكوبرنيقية.
وإذا كانت النفس عند ديكارت غير ممتدة، فهي رغم ذلك متموضعة في المكان، ومن ثم فإنها تقع في نقطة إقليدية غير ممتدة، وديكارت في ذلك لا يبدو أنه استنتج هذه النتيجة من مقدماته (مثلما فعل ليبنتز مثلا)، غير أنه حدد موضع النفس بالفعل داخل عضو ضئيل جدا، هو الغدة الصنوبرية، وقال بأن الغدة الصنوبرية هي العضو الذي تحركه النفس الإنسانية بشكل مباشر، والنفس بدورها تؤثر على الأرواح الحيوانية تأثيرا أشبه بتأثير صمام في مكبر كهربائي، فهي توجه حركات الأرواح الحيوانية، ومن خلال هذه الحركات توجه حركة الجسم.
وبعد فقد أدت هذه النظرية إلى صعوبتين خطيرتين، وأخطر الاثنتين هي هذه، فالأرواح الحيوانية (والتي هي ممتدة) تحرك الجسم بواسطة الدفع، والأرواح الحيوانية هي بدورها محركة بالدفع، فهذه من المترتبات الضرورية عن نظرية ديكارت في العلية، ولكن كيف لنفس غير ممتدة أن تمارس أي شيء يشبه الدفع على جسم ممتد؟ ها هنا يكمن تناقض ذاتي.
كان هذا التناقض بعينه هو الدافع الرئيسي وراء تطور المذهب الديكارتي، فقد قام ليبنتز بإزالة هذا التناقض في النهاية كما سوف أبين، وكان في هذا الحل للمشكلة متأثرا بتوماس هوبز الذي يعد مستبقا له في ذلك بمعنى ما.
أما الصعوبة الثانية فهي أقل خطرا، فقد ذهب ديكارت إلى أن تأثير النفس على الأرواح الحيوانية هو بتغيير اتجاه حركتها، واعتقد أن هذا يمكن أن يتم بدون خرق لأي قانون فيزيائي ما دامت «كمية الحركة» (الكتلة مضروبة في السرعة) باقية (ثابتة).
وقد أثبت ليبنتز أن هذا خطأ، فقد اكتشف قانون «بقاء كمية الحركة» (الكتلة مضروبة في الحركة، أي في اتجاه معطى)، وأكد مرارا أن قانون بقاء كمية الحركة يقتضي أن كمية الحركة
Momentum ، ومن ثم اتجاه الحركة، يجب أن تكون باقية.
وبينما تعد هذه ضربة قوية ضد رأي ديكارت الخاص، فلست أرى قوانين البقاء الفيزيائية تشكل أي خطورة على من يقول بمذهب التفاعل المتبادل، ويمكننا توضيح ذلك بواقعة أن بوسع أي مركبة أو عربة أن تقاد من الداخل دون خرق لأي قانون فيزيائي (ويمكن أن يتم ذلك بقوى طفيفة من مثل الإشارات اللاسلكية)، كل ما هو مطلوب هو: (1)
أن تحمل المركبة معها مصدرا للطاقة. (2)
أن يكون بقدرتها، لكي تغير اتجاهها، أن تعادل التغير بدفع كتلة ما - كالأرض مثلا أو كمية ما من الماء - في الاتجاه المضاد (بوسع المرء أيضا أن يقول: إذا صح وجود صعوبة كبرى هنا إذن لما كان بوسعنا أبدا أن نغير اتجاهنا نحن، فكيفما كان اتجاهنا فإننا حين ننهض من الكرسي نقوم بدفع الأرض كلها في الاتجاه المضاد، وإن يكن ذلك دفعا بالغ الضآلة، وهكذا يظل قانون بقاء كمية الحركة مصونا).
وإذا قمنا، فضلا عن ذلك ، بتفسير مذهب ديكارت عن الأرواح الحيوانية، لا تفسيرا ميكانيكيا بل فيزيائيا، بوصفها ظواهر كهربية، فسوف تغدو عندئذ هذه الصعوبة الخاصة برمتها غير ذات بال، حيث إن كتلة التيار الكهربي المغير لاتجاهه تساوي صفرا تقريبا، ومن ثم لا توجد مشكلة في معادلة النقلة (التحويلة) التي تغير اتجاه التيار.
وجملة القول: إن الصعوبة الكبرى في نظرية ديكارت في التفاعل المتبادل بين العقل والجسم إنما تكمن في نظرية ديكارت في العلية الفيزيائية، والتي تقتضي أن كل فعل فيزيائي لا بد أن يكون بواسطة الدفع الميكانيكي. (1) جذور التصور الديكارتي للمادة والتأثير العلي المتبادل
في الفصل الأول من كتابه (المشترك) «النفس ودماغها» يبين بوبر كيف انسلخت النظرية الفيزيائية للمادة، خلال البحث الفيزيائي نفسه، من جلدها القديم، فلم تعد نظرية المادة «مادية»! واكتشفت كيانات جديدة غير مادية، مثل حقول القوى، احتلت الجانب الأكبر من رؤيتنا للعالم، ونسخت فكرتنا القديمة عن العلية الميكانيكية، وسيكون لكل هذا أثره في تقريب فكرة بوبر عن تفاعل الذات والدماغ إلى أفهامنا، ونفي الغرابة عن إمكانية تأثير الذات على العمليات الدماغية بواسطة «العلية الهابطة» من أعلى إلى أسفل، مما سيأتي تفصيله.
تفترض المادية الكلاسيكية (التي قال بها ليوسيبوس أو ديمقريطس)، شأنها شأن نظريات ديكارت وهوبز فيما بعد، أن المادة أو الجسم أو «الجوهر الممتد» يشغل أجزاء من المكان، وربما المكان كله، وأن الجسم يمكن أن «يدفع»
جسما آخر، الدفع إذن أو التصادم هو تفسير التفاعل العلي (التأثير بالتلامس)، والعالم أشبه بآلة كبيرة تعمل بآلية الدفع، تماما كما تعمل الساعة، وهو مكون من أجسام يدفع بعضها بعضا كما تفعل التروس.
3
كان أول تجاوز لهذه النظرية هو تصور نيوتن للجاذبية، فالجاذبية النيوتونية تتخطى ديكارت من جهتين: (1) فهي تقول بالجذب لا بالدفع. (2) وهي تقول بالتأثير المتبادل للأجسام عن بعد وبدون تلامس، وبذلك أعلن خلفاء نيوتن أن خاصية الجذب هي خاصية أساسية للمادة لا يمكن، ولا يلزمها، أن تفسر بأي شيء آخر.
والحدث الآخر في تاريخ تجاوز المادية لذاتها كان هو اكتشاف طمسون
Thomson
للإلكترون، والذي شخصه طمسون على أنه شظية دقيقة من الذرة، هكذا أمكن للذرة أن تنقسم، وهي غير القابلة للانقسام بحكم التعريف (
Atom
تعني حرفيا اللامنقسمة)، واستطاعت النظرية الجديدة - أن تفسر الدفع بين أجزاء المادة (عدم قابلية المادة للاختراق) بواسطة التنافر الكهربي بين الجسيمات المتساوية الشحنة (القشرة الإلكترونية للذرات)، كان هذا شيئا مقنعا، غير أنه دمر فكرة أن الدفع هو نموذج لكل فعل علي فيزيائي، وقد عرفت بعد ذلك جسيمات أولية لا يمكن وصفها بأنها أجزاء مادية مشحونة أو غير مشحونة؛ لأنها في الحقيقة غير ثابتة-إنها تنحل، وفضلا عن ذلك فحتى الجسيمات الثابتة مثل الإلكترونات يمكن أن تفنى أزواجا فتنتج الفوتونات (كمات الضوء)، ويمكن أن تخلق من فوتون (شعاع جاما)، ولكن الضوء ليس مادة ، وإن جاز لنا القول بأن الضوء والمادة هما شكلان من الطاقة.
4
هكذا تم التخلي عن قانون بقاء المادة (أو الكتلة)، فالمادة ليست جوهرا
Substance ؛ لأنها غير ثابتة، فمن الممكن أن تدمر، ومن الممكن أن تخلق، وحتى أكثر الجسيمات ثباتا، أي النويات، يمكن أن تدمر باصطدامها بجسيمات مضادة، إذ تتحول طاقتها إلى ضوء، لقد تكشف أن المادة هي «طاقة معبأة» قابلة للتحول إلى صور أخرى من الطاقة، وهي من ثم شيء له طبيعة «العملية»
، ما دام بالإمكان أن تتحول إلى عمليات أخرى مثل الضوء، ومثل الحركة والحرارة بطبيعة الحال.
بوسعنا أن نقول إذن إن نتائج الفيزياء الحديثة تهيب بنا أن نتخلى عن فكرة الجوهر أو الماهية، فليس هناك شيء من قبيل الكيان الثابت الدائم عبر الزمن من وراء جميع التغيرات (وإن كانت أجزاء المادة تفعل ذلك في الظروف العادية)، وليس هناك جوهر باق يحمل خصائص الشيء أو صفاته، فالعالم الآن لا يبدو أنه تجمع من الأشياء، بل مجموعة من «الأحداث»
Events
و«العمليات»
(كما أكد ألفرد نورث هويتهد
A. N. Whitehead
بصفة خاصة).
بذلك يسع الفيزيائي الحديث أن يقول بأن الأشياء المادية - الأجسام، المادة - لها بنية ذرية، ولكن الذرات لها بنية بدورها، وهي بنية يصعب أن نصفها بأنها «مادية»، ومن المتيقن أنها ليست «جوهرية»
Substantial ، هكذا يمكن القول، من خلال برنامج تفسير بنية المادة، بأن الفيزياء تحتم عليها أن تتجاوز المادية، لقد صارت (إلى جانب الجسيمات التي لم تعد مادة بالمعنى القديم) تتعامل أيضا مع «حقول القوى»
Fields of Forces ، ومع شتى صور الطاقة الإشعاعية، وصار بعض الماديين الجدد يسمون أنفسهم «أصحاب النزعة الفيزيائية»
، والبعض الآخر احتفظوا بالتسمية القديمة واكتفوا بأن يضفوا عليها المعنى الجديد، غير أنهم جميعا ظلوا على قناعتهم بأن الإنسان (والحيوان عامة) آلة، وكل ما فعلوه أن استبدلوا بالآلة الميكانيكية القديمة آلة جديدة قوامها العمليات الكهروكيميائية.
5 (2) معنى الواقعية
لقد حاول بوبر أن يبين أن تطور المادية هو في الحقيقة تحرك في اتجاه المثالية، غير أن هذه مثالية من صنف جديد، فلا تزال علاقة «الأفكار» بالعالم المادي بحاجة إلى تفسير، وهو من أجل ذلك يكرس نفسه لحل مشكلة «الواقعية»
Realism ، ولتعريف لفظة «واقعي»
Real ، يقول بوبر إنه لا يميل بصفة عامة إلى تناول المشكلات اللفظية والأسئلة التعريفية؛ لأنها قمينة أن تؤدي إلى مماحكات لفظية تطغى دائما على المشكلات الحقيقية (وهو ارتكاز بوبري هام يعبر عن رفضه لمذهب الماهية
Essentialism
في الفلسفة وفي العلوم الطبيعية والاجتماعية كما رأينا وسنرى في غير موضع)، غير أنه استثنى من ذلك تعريفا واحدا هو تعريف «الواقعي»، فما هو «الواقعي»؟ ومتى نقول عن شيء أنه شيء «واقعي» (حقيقي)؟
يعرف بوبر الشيء «الواقعي» (الحقيقي) بأنه ذلك الشيء الذي يمكنه أن يمارس تأثيرا عليا (سببيا) على أشياء نسلم بواقعيتها للوهلة الأولى
(أي أنها واقعية ما لم ينقض ذلك بدليل، أو أن إنكارها هو الذي يحمل عبء البينة)، وهي تلك الأشياء المادية العادية الحجم (كالأشياء التي يمكن للطفل الرضيع أن يتناولها ويضعها في فمه)، وقد ظل الناس يتلكئون في قبول واقعية الذرات حتى جاءت نظرية أينشتين عن «الحركة البراونية» لتقدم تفسيرا لتلك الحركة المنظورة في ضوء التفسير العلي للجزيئات الصغيرة المتحركة للسائل، وبذلك قدم تبريرا وجيها لواقعية الجزيئات وبالتالي واقعية الذرات، وقد غدا وجود الذرات معرفة عامة عندما تسبب تفجيرها الاصطناعي إلى تدمير مدينتين آهلتين (هيروشيما وناجازاكي).
6
غير أن الأشياء أو الكيانات الواقعية قد تكون عينية أو مجردة، على تفاوت الدرجة، من هذه الكيانات المجردة في الفيزياء «القوى» و«حقول القوى»
Forces (مجالات القوى)
Fields of Forces . إن لها طبيعة «نزوعية»: إنها نزوع أو ميل إلى التأثير والتفاعل، إنها كيانات نظرية عالية التجريد، غير أنها تتفاعل بطريقة مباشرة أو غير مباشرة مع الأشياء المادية العادية التي نسلم جميعا بواقعيتها، القوى والمجالات إذن «واقعية»
Real ، ومشكلة الماديين في رأي بوبر أنهم يحلون المشكلات ببساطة بأن يسموا كل شيء يتفاعل مع عالمهم «مادة» أو شكلا من المادة، وبالتالي يرون أن ما ليس مادة ولا شكلا من أشكال المادة لا يمكن أن يتفاعل مع العالم الواقعي، هذه اللفتة شديدة الأهمية في فهم بوبر ونقده لمذهب التوازي وللمذهب المادي .
7 (2-1) تهافت مذهب التوازي
«التوازي»
صيغة شاذة من الصيغ الثنائية قال بها عدد غير قليل من مفكري العصر الحديث، بدءا بجيولنكس وليبنتز وانتهاء بفونت وماخ، ومفاد هذا المذهب أن الوظائف الذهنية والوظائف الفسيولوجية تمثل مجموعتين من الظواهر: ظواهر لا مادية وأخرى مادية (جسمية)، كل مجموعة منهما مغلقة على حالها وتجري «موازية» للمجموعة الأخرى بحيث إن هناك تناظرا بين كل عنصر من عناصر إحدى المجموعتين ومقابله في المجموعة الأخرى، فلكل حدث ذهني متلازم
Correlate
فسيولوجي يخصها وحدها، دون أن يكون بين المتلازمين، الذهني والفسيولوجي؛ أي تفاعل متبادل أو أي تأثير سببي، إن أحدهما لا يؤثر في الآخر ولا يتأثر به بأي شكل من الأشكال.
ها هنا تصطدم نظرية التوازي مع برهان «الواقعية» الذي قدمه بوبر والذي أسلفناه لتونا، فإذا صح أن نشاط العالم المادي لا يسفر عن نفسه في العالم الواقعي، لما كان بإمكاننا أن نعتبر العالم اللامادي واقعيا، ومن ثم يتعين علينا أن نأخذ بمذهب التأثير المتبادل لكي يتسنى لنا أن نعلل تأثير الأفكار، لقد أرادت نظرية التوازي أن تحتفظ بفكرة الثنائية دون أن تخترق قانون بقاء الطاقة، فأنكرت أي علاقة حقيقية بين الوظائف العقلية والوظائف الفسيولوجية، وهكذا، وخلال فهم ضيق للعلية، انتهت نظرية التوازي إلى القضية المتناقضة القائلة بأن العقل لا يمكن أن يوجد بدون جسم، وأنه مستقل عنه في الوقت نفسه وأنه موجود رغم كل ذلك.
8
أما بوبر فيذهب إلى أن هناك عالما لا ماديا واقعيا يؤثر على العالم المادي، وهو يفسر بزوغ العقل اللامادي الواقعي تفسيرا نشوئيا. (3) التطور العضوي: «العادات تتغير أولا»
ينظر عادة إلى الانتخاب الطبيعي
Natural Selection
على أنه تفاعل بين المصادفة العمياء (الطفرة
Mutation ) وبين قوى من الخارج ليس للكائن الحي بها يد، فأهداف الكائن العضوي ورغباته لا تقدم شيئا ولا تؤخر، أما نظريات لامارك وبطلر وبرجسون، والتي ترتكز على اختيارات الكائن وغاياته، فهي تناقض هذه الداروينية القديمة، وتقول بإمكان وراثة الصفات المكتسبة، وقد قام بولدوين ومورجان بتصويب هذه الأفكار في نظرتهما عن التطور العضوي، فذهبا إلى أن كل حيوان، وبخاصة في المستويات الأعلى من التطور، لديه مخزون متنوع من السلوك، وهو بتبني شكل جديد من السلوك يمكنه أن يغير البيئة، ومن خلال اختبار حقيقي - لغذاء جديد مثلا - يمكن أن يغير البيئة ويعرض نفسه وسلالته من بعده لضغوط انتخابية جديدة، وبذلك يكون من شأن رغبات الحيوان وأغراضه وتفضيلاته وخياراته أن تؤثر على نتيجة الانتخاب الطبيعي، بل إن بوسعنا أن نقول إن هذه الخيارات كثيرا ما تكون حاسمة في مآل التطور، فمن الأرجح كثيرا أن عادات الغذاء الجديدة هي التي تؤدي - بالانتخاب الطبيعي (وبطريق الطفرات العفوية) - إلى تكيف تشريحي جديد، لا أن التغير التشريحي العفوي هو الذي يفرض عادات غذائية جديدة، والمثال النموذجي على ذلك هو الزراف الذي طالت رقابه بسبب المحاولات المستمرة للوصول إلى غذاء مرتفع، فبحسب الداروينية الحديثة، فإن تفضيل الزراف لهذا الغذاء جاء أولا فخلق ضغطا انتخابيا يؤهل للبقاء تلك الأفراد الأطول عنقا، وإلا فما جدوى الرقاب الطويلة لو أن أسلاف الزراف كانت قد اختارت لها بيئة قريبة المأخذ دانية الزرع؟
يوافق بوبر على أن كلا الطريقين في التطور جائز، ولكنه يؤكد على أنه في حالات كثيرة، وفي بعض الحالات الأشد خطرا وأهمية، كانت العادة هي التي تتغير أولا، هذه الحالات هي ما يطلق عليها اسم «التطور العضوي»
Organic Evolution ، والأهم من ذلك أن بوبر يختلف مع دارون في قوله بأن هذه المسألة (أي أولوية العادة أو البنية التشريحية) «غير ذات بال بالنسبة لنا»، ذلك أن لها عند بوبر أهمية هائلة، فالتغيرات التطورية التي تبدأ بأنماط سلوكية جديدة - بخيارات جديدة، بأغراض جديدة للحيوان - لا تجعل التكيفات أقرب فهما فحسب، بل هي تعود، فتسبغ على أهداف الحيوان وأغراضه الذاتية دلالة تطورية،
9
كما أن نظرية التطور العضوي تفسر لنا كيف تصبح آلية الانتخاب الطبيعي أكثر كفاءة عندما يكون لدى الحيوان مخزون سلوكي أكبر، ومن ثم فهي تبرز القيمة الانتخابية لوجود حرية سلوكية فطرية معينة، بعكس التصلب السلوكي الذي يجعل من الصعب على الانتخاب الطبيعي أن يفضي إلى تكيفات جديدة، ولعل هذه النظرية أن تقرب إلى الفهم كيف بزغ العقل البشري، فكما نوه سير أليستر هاردي في كتابه «التيار الحي» فإن «هذه الصياغة الجديدة لنظرية دارون يمكن أن توضح علاقتها بروح الإنسان»، إن بمقدورنا أن نقول إن الإنسان حين اختار أن يتكلم وشغف بالحديث، فإنه اختار أن يطور دماغه وعقله، وأن اللغة ما إن ابتكرت حتى مارست ضغطا انتخابيا انبثق من تحته الدماغ البشري والوعي بالذات، فظهور اللغة هو الذي خلق الضغط الانتخابي الذي أدى إلى ظهور اللحاء المخي ومعه وعي الإنسان بذاته.
10 (4) لا جديد تحت الشمس: الردية والعلية الهابطة
يرى بوبر أن النفس (الذات) تعتمد اعتمادا كبيرا على العمليات الكهروكيميائية للدماغ، إلا أنها غير متماهية مع هذه العمليات، وبوسعها رغم ذلك أن تؤثر في الوقت المناسب في تلك العمليات الدماغية بواسطة العلية الهابطة (المتجهة من المستوى الأعلى إلى المستوى الأدنى).
من أقدم العقائد الفلسفية تلك العقيدة التي توجزها عبارة الكنسيين «لا جديد تحت الشمس»، هذا المعنى قائم أيضا في المذهب المادي بجميع صوره، وبكل مذهب حتمي يؤمن بأزلية قوانين الطبيعة وثباتها، ويؤمن أن النهاية كانت دائما قابعة في البداية، وأن الأحداث منذ الأزل وإلى الأبد لا تعدو أن تكون ظهور ما كان كامنا هناك وسفوره وانبلاجه، وتحقق ما كان موجودا «بالقوة » في باطن الطبيعة وقوانين الطبيعة.
كان الأساس المنطقي لهذه الآراء هو أنه «لا جديد تحت الشمس»، أو أنه «لا شيء يمكن أن يوجد من لا شيء»، كان الفيلسوف العظيم بارمنيدس يقول بهذا منذ ألفين وخمسمائة من الأعوام، واستنبط منه أن التغير أمر محال، ومن ثم فالتغير لا بد أن يكون وهما، وتبعه مؤسسو المذهب الذري، مثل ليوسيبوس وديمقريطس، بمعنى ما، حين قالوا بأنه لا يوجد ثمة غير ذرات لا تتغير، وأن هذه الذرات تتحرك في الخلاء، في فضاء خال، ومن ثم فإن التغيرات الوحيدة الممكنة هي حركات الذرات واصطدامها وإعادة اتحادها، بما في ذلك الذرات البالغة الدقة التي تكون الأرواح البشرية.
بل إن بعضا من أهم الفلاسفة المعاصرين (مثل كواين ) يقولون بأنه لا يمكن أن يكون هناك غير كائنات مادية، وأنه لا توجد أحداث ذهنية أو خبرات ذهنية. (هناك من يتخذ موقفا وسطا ويقر بوجود خبرات ذهنية، غير أنه يقول: إنها أحداث جسمية بمعنى ما أو «في هوية» مع أحداث جسمية.)
غير أننا نعرف اليوم أن التطور - تطور العالم، وبخاصة تطور الحياة على الأرض - قد أتى بأشياء جديدة إلى الوجود، أتى بجدة
Novelty
حقيقية،
11
ونشهد اليوم فصيلا من الآراء تجمع على أن المستقبل لا يمكن التنبؤ به ولم يكن يوما قابلا للتنبؤ (على الأقل بالنسبة للمعرفة البشرية المحدودة)، وهذا هو معنى «الانبثاق»
Emergence
و«التطور الانبثاقي»
Emergent Evolution ، يرى بوبر أن التطور «خالق»
Creative ، وأن تطور الحيوانات ذات الخبرة الواعية قد أتى بجديد إلى العالم، وقد كانت هذه الخبرات في البدء بدائية بسيطة، ثم تطورت إلى أنماط أعلى، إلى أن بلغت نمط الوعي الذاتي عند الإنسان، فمع ظهور الإنسان تجلى معنى التطور الخالق؛ لأن الإنسان أبدع عالما موضوعيا جديدا، ذلك هو عالم منتجات العقل البشري ... عالم الأساطير وحكايا الأشباح والنظريات العلمية والشعر والفن والموسيقى ... إلخ، والذي يطلق عليه بوبر «العالم 3»، ويميز بينه وبين «العالم 1» (العالم المادي) و«العالم 2» (عالم الخبرات الذاتية).
12
في بداية التكوين، وفي عالم لم يكن فيه أي عناصر أكثر من الهيدروجين مثلا والهيليوم، لم يكن بمقدور أي عالم ملم بقوانين الطبيعة السارية آنئذ أن يتنبأ بجميع خصائص العناصر الأثقل التي لم تظهر بعد، ولا أن يتنبأ بظهورها، ولا كان بمقدوره أن يتنبأ حتى بخصائص أبسط الجزيئات المركبة كالماء، ويبدو أن العالم قد مر بالمراحل التطورية التالية على أقل تقدير، والتي أنتج بعضها أشياء ذات خصائص جديدة أو «انبثاقية»
Emergent
أو غير متوقعة على الإطلاق: (1) ظهور العناصر الثقيلة (شاملة النظائر المشعة) وظهور السوائل والبلورات. (2) ظهور الحياة. (3) ظهور الوظيفة الحسية. (4) ظهور الوعي بالذات والوعي بالموت (متصاحبا مع اللغة البشرية)، أو حتى ظهور اللحاء المخي البشري. (5) ظهور اللغة البشرية ونظريات النفس والموت. (6) ظهور منتجات العقل الإنساني كالأساطير الشارحة أو النظريات العلمية أو الأعمال الفنية.
13
مخطط لبعض مراحل التطور الكوني.
العالم 3 (6) الأعمال الفنية والعلمية (شاملة التكنولوجيا).
منتجات العقل الإنساني (5) اللغة البشرية. نظريات النفس والموت.
العالم 2 (4) الوعي بالذات وبالموت.
عالم الخبرات الذاتية (3) الإحساس (الوعي الحيواني).
العالم 1 (2) الكائنات العضوية الحية.
عالم الأشياء الفيزيائية (1) العناصر الأثقل، السوائل والبلورات (صفر) الهيدروجين والهيليوم.
هذا بالطبع مخطط مفرط التبسيط، غير أنه يتميز بإبراز بعض الأحداث الكبرى في التطور الخالق أو التطور الانبثاقي.
ثمة حدس سبقي قوي يقف ضد قبول نظرية التطور الانبثاقي، فما دام العالم يتكون من ذرات أو جسيمات أولية، إذن جميع الأشياء هي مركبات من مثل هذه الجسيمات، ومن ثم فإن كل حدث في العالم ينبغي أن يكون قابلا للتفسير، وقابلا للتنبؤ من حيث المبدأ، في ضوء التركيب الجسيمي والتفاعل الجسيمي، وهكذا نكون قد وصلنا إلى ما يسمى «البرنامج الردي» (الاختزالي)
، ولكي نشرح هذا البرنامج سنستعين بالمخطط التالي الذي يشمل كل مستويات الوجود، وسنضرب صفحا عن بعض الاضطراب وبعض المصاعب التي ينطوي عليها المخطط، والتي إن دلت على شيء فإنما تدل على أن النسق الحيوي للوجود لا ينسلك في تراتب هرمي دقيق.
14
الأنساق (الأنظمة) البيولوجية وأجزاؤها المكونة (12) مستوى الأنساق الإيكولوجية (البيئية). (11) مستوى مجتمعات الميتازوا والنباتات. (10) مستوى الميتازوا (الحيوانات المتعددة الخلايا) والنباتات المتعددة الخلايا. (9) مستوى الأنسجة والأعضاء (وربما الإسفنج). (8) مستوى مجتمعات المتعضيات الوحيدة الخلية. (7) مستوى الخلايا والمتعضيات الوحيدة الخلية. (6) مستوى العضيوات (أعضاء الخلية) وربما الفيروسات. (5) مستوى السوائل والأجسام الصلبة (البلورات). (4) مستوى الجزيئات. (3) مستوى الذرات. (2) مستوى الجسيمات الأولية. (1) مستوى الجسيمات تحت الأولية. (صفر) مجهول (جسيمات تحت تحت أولية؟).
تفيد الفكرة الردية (الاختزالية) وراء هذا المخطط أن الأحداث أو الأشياء في كل مستوى يجب أن تفسر في ضوء المستويات الأدنى، أو بتحديد أكثر، إن ما يحدث للكل يمكن تفسيره عن طريق تفسير بنية أجزائه والتفاعل بين هذه الأجزاء.
هذه الفكرة الردية هي فكرة شائقة وهامة أيضا، فحيثما أمكننا أن نفسر كيانات أو أحداثا واقعة على مستوى أعلى بتلك الواقعة على مستوى أدنى أمكننا أن نقول: إننا أحرزنا تقدما علميا كبيرا، وأضفنا الكثير إلى معرفتنا بالمستوى الأعلى، الردية إذن برنامج بحثي هام بل جزء من البرنامج العلمي الذي يهدف إلى التفسير والفهم.
15
ولكن هل صحيح أن لدينا ما يبرر الأمل في إدراك هذه الغاية، أي تحقيق رد إلى المستويات الأدنى؟ أخشى أن الجواب هو النفي، فما أظن أن هناك أمثلة لأي رد ناجح أو كامل، وما أظن أن القائلين بالردية قد التفتوا إلى المصاعب القائمة في الجزء الأعلى من مخططنا التطوري، مثل رد تقلبات العجز التجاري البريطاني وعلاقاته بالدخل القومي إلى علم النفس ثم إلى البيولوجيا (أي رد الاقتصاد إلى السيكولوجيا وهذه إلى البيولوجيا)، وكذلك رد علم الاجتماع إلى علم النفس كما يدعي جون ستيوارت مل (والذي بينت نقاط ضعفه في موضع آخر)، وحتى رد الكيمياء إلى الفيزياء يبقى ردا غير كامل، يومئ المخطط الخاص بمستويات الوجود بأن مبدأ العلية يسري من المستوى الأدنى إلى المستوى الأعلى ولا يسري بالعكس على الإطلاق، ويسمى هذا المبدأ بالعلية الصاعدة
Upward Causality ، تفيد العلية الصاعدة أن ما يجري على مستوى أعلى يمكن تفسيره في ضوء المستوى الأدنى منه مباشرة، وهكذا نزلا إلى أن يتم التفسير في ضوء الجسيمات الأولية والقوانين الفيزيائية ذات الصلة، وقد يبدو للوهلة الأولى أن المستويات الأعلى لا يمكن أن تؤثر على المستويات الأدنى.
غير أن فكرة التفاعل بين جسيم وجسيم أو بين ذرة وذرة قد تخلت عنها الفيزياء نفسها، فالبلورة مثلا هي بناء هائل الامتداد المكاني مركب من بلايين الجزيئات، غير أنه يتفاعل ككل ممتد مع فوتونات أو جسيمات شعاع من الفوتونات والجسيمات، إننا هنا بإزاء مثال هام «للعلية الهابطة»
Downward Causality ، فها هنا يؤثر الكل بوصفه كلا على فوتون أو على جسيم أولي أو على ذرة.
بل إن العلية الهابطة لماثلة لنا في أي آلة ذاتية التحكم من خلال التغذية الراجعة، مثل الآلة البخارية، فها هو بناء ماكروسكوبي ينظم أحداث المستويات الأدنى مثل تدفق الجزيئات التي تكون البخار.
والنجوم أيضا رغم أنها تبدو كتلا غير مشكلة، هي أمثلة للعلية الهابطة، فوضع الذرات والجسيمات الأولية في مركزها تحت ضغط جاذبي مهول، وما ينتج عنه من اندماج بعض أنوية الذرات وتكوين أنوية عناصر أثقل، لهو مثال ممتاز على «العلية الهابطة» وعلى تأثير البنية الكلية على أجزائها المكونة.
أما الأمثلة الأكثر إثارة عن العلية الهابطة فإنما توجد في الكائنات العضوية وأنساقها الإيكولوجية، وفي المجتمعات المكونة من هذه الكائنات.
16
فالمجتمع مثلا يظل يؤدي وظائفه حتى بعد موت الكثير من أعضائه، بينما يسبب إضراب في صناعة حيوية كتوليد الكهرباء إلى معاناة الكثير من الأفراد، والحيوان قد يبقى بعد موت الكثير من خلاياه أو زوال عضو من أعضائه كالساق مثلا، بينما يفضي موت الحيوان عاجلا أو آجلا إلى موت أجزائه المكونة بما فيها الخلايا.
17
هذه الأمثلة وغيرها كثير تثبت بوضوح وجود العلية الهابطة، وتجعل نجاح أي برنامج ردي أمرا صعبا إن لم يكن مستحيلا. (5) اللاحتمية: التفاعل بين مستويات الانبثاق
يبدو أن النظرة «الطبيعية» للعالم هي نظرة لا حتمية: فالعالم هو المنتج القصدي الصنع، للآلهة أو للرب، وعند هوميروس لآلهة شديدة التعسف، وخالق الكون عند أفلاطون (
Demiurge ) هو صانع، وربما تبقى هذا بعد في محرك أرسطو الذي لا يتحرك، فما تزال نظرة أرسطو لا حتمية بهذا المعنى، ولهذا الأمر أهمية خاصة، إذ كان لأرسطو نظرية مفصلة في العلل، إلا أن أهم العلل الأرسطية هي العلة الغائية
Final Cause ، لقد كان الغرض هو ما حرك العالم، هو ما جعله يهفو إلى هدفه، إلى غايته، إلى «كماله»، هو ما جعله أفضل، يبين هذا أن الفكرة الأرسطية الخاصة بالعلة الغائية لا يمكن أن نصفها كعلة محتمة بالمعنى المتداول لدينا، فمبدأ الحركة إنما هو «روح»
Soul ، إما روح حيوانية أو إنسانية أو سبب إلهي، وما من حركة قانونية وعقلانية على نحو تام إلا حركة السموات، تخضع أحداث عالم ما تحت فلك القمر للتغيرات القانونية للعقل، وإن تكن غير محددة بها تمام التحديد، ولكنها تخضع أيضا لعلل غائية أخرى، وليس ثمة ما يشير إلى أن هذه يمكن أن تجمعها قوانين ثابتة، ولا سيما قوانين ميكانيكية، العلة عند أرسطو ليست ميكانيكية، والمستقبل ليس محددا تماما بقوانين.
كان مؤسسا المذهب الحتمي؛ ليوسيبوس وديمقريطس، أيضا مؤسسي المذهب الذري والمذهب المادي الميكانيكي، قال ليوسيبوس (
DK B2 ):
18 «لا شيء يحدث عشوائيا أو بدون علة، وإنما كل شيء يحدث وفقا للعقل، وبالضرورة»، وبالنسبة لديمقريطس ليس الزمن دوريا، بل هو لا نهائي، وإلى الأبد تأتي عوالم إلى الوجود وترحل: «ليس لعلل الأشياء بداية، بل من زمن لا نهائي في الماضي، ومقدرة بالضرورة، تكون الأشياء التي وجدت والأشياء الموجودة الآن والأشياء التي سوف توجد» (
DK A39 ). ويروي ديوجينيس لائرتيوس عن تعاليم ديمقريطس (
IX, 45 ): «جميع الأشياء تحدث وفقا للضرورة، فالدوامة هي علة تكوين جميع الأشياء، وهذه يسميها الضرورة»، ويتهم أرسطو (
De Generation Animalium, 789b2 ) ديمقريطس بأنه لم يعرف علة غائية: «أغفل ديمقريطس العلة الغائية، ولذا فإنه يرد كل عمليات الطبيعة إلى الضرورة.» ويعترض أرسطو (
) مرة أخرى بأنه وفقا لديمقريطس؛ (لأنه يبدو أن ديمقريطس هو المعني) فإن سماءنا وجميع العوالم تحكمها المصادفة (وليس الضرورة فحسب)، غير أن لفظة «مصادفة» هنا لا تعني العشوائية فيما يبدو، بل عدم وجود غرض، عدم وجود علة غائية.
ذهب ديمقريطس إلى أن جميع الأشياء قد نشأت بواسطة دوامة من الذرات: أي الذرات مصطدما بعضها ببعض، يدفع بعضها بعضا قدما، ويجذب بعضها بعضا أيضا لأن بعضها له كلابات يمكن للذرات من خلالها أن تتشابك وتكون خيوطا (
Cp. DK A66; and Aëtius I 26, 2. )، كانت الرؤية الذرية للعالم ميكانيكية بحتة، ولكن هذا لم يمنع ديمقريطس من أن يكون من عظام المذهب الإنساني.
ظلت النظرة السائدة للعلم حتى وقتنا هذا نظرة حتمية ذات طبيعة ميكانيكية تقريبا، من الأسماء الكبيرة التي أخذت بهذا الرأي في أزمنتنا الحديثة هوبز، وبرسلي، ولابلاس، وحتى أينشتين (كان نيوتن استثناء)، ولم تصبح الفيزياء لا حتمية إلا مع ميكانيكا الكوانتم، ومع تفسير أينشتين الاحتمالي لسعة الموجات الضوئية، ومن تفسير هيزنبرج لصيغه اللاحتمية، وبخاصة مع تفسير ماكس بورن الاحتمالي لسعة موجات شرودنجر.
ولكي أناقش فكرتي اللاحتمية والحتمية فقد أدخلت في عام 1965م استعارة «السحب» و«الساعات»، فالسحابة بالنسبة للإنسان العادي غير قابلة للتنبؤ إلى حد كبير، ولا حتمية حقا، وإن الطقس لمضرب الأمثال في كثرة التقلب ، وعلى النقيض من ذلك تعد الساعة قابلة للتنبؤ إلى حد كبير، والحق أن الساعة المتقنة الصنع هي نموذج لنظام مادي ميكانيكي وحتمي.
يمكننا إذ نأخذ السحب والساعات كنموذجين نبدأ بهما للأنظمة اللاحتمية والحتمية، أن نصوغ وجهة نظر مفكر حتمي، مثل ديمقريطس، كما يلي:
جميع الأنظمة الفيزيائية هي في الحقيقة ساعات.
إذن العالم بأسره هو آلية ساعة مكونة من ذرات يدفع بعضها بعضا مثل أسنان الترس، حتى السحب هي أجزاء من الساعة الكونية، رغم أنها بسبب تعقد الحركات الجزيئية فيها وتعذر التنبؤ بها عمليا قد تخلق فينا التوهم بأنها ليست ساعات بل سحبا غير محددة.
ولدى ميكانيكا الكوانتم، وبخاصة في صيغة شرودنجر، أشياء مهمة يمكن أن تقولها في هذه المسألة، إنها حقا تقول إن الإلكترونات تكون سحابة حول نواة الذرة، وإن مواضع وسرعات الإلكترونات المختلفة داخل السحابة هي غير محددة ومن ثم غير قابلة للتحديد، وفي زمن أحدث شخصت الجسيمات تحت الذرية كبناءات معقدة، وقد ناقش ديفيد بوم (1957م) احتمال وجود ما لا نهاية له من مثل هذه الطبقات التراتبية (المستوى صفر في المخطط 2 في قسم 7 قد يكون مؤسسا على مستويات سالبة)، إذا صح هذا فسوف يجعل فكرة كون حتمي تماما وقائم على ساعات ذرية فكرة مستحيلة.
وأيا ما كان هذا الأمر فإن تفسير النواة الذرية كمنظومة من الجسيمات في حركة سريعة، والإلكترونات المحيطة بها كسحابة إلكترونية هو تفسير كفيل بأن يقضي على حدس النظرية الذرية القديمة بوجود حتمية ميكانيكية، إن للتفاعل بين الذرات أو بين الجزيئات جانبا عشوائيا، جانبا اتفاقيا، «مصادفة» ليس فقط بالمعنى الأرسطي الذي يضعها كنقيض ل «الغرض»، بل مصادفة بالمعنى الذي يجعلها خاضعة للنظرية الاحتمالية الموضوعية للأحداث العشوائية، لا لأي شيء من قبيل القوانين الميكانيكية المحددة.
هكذا فإن الدعوى القائلة بأن جميع الأنظمة الفيزيائية، بما فيها السحب، هي في الحقيقة ساعات، قد تبين أنها دعوى خاطئة، وبحسب ميكانيكا الكوانتم فإن علينا أن نستبدل بها الدعوى المقابلة كما يلي:
جميع الأنظمة الفيزيائية، بما فيها الساعات، هي في الحقيقة سحب .
يتبين أن المذهب الميكانيكي القديم هو وهم، خلقته واقعة أن الأنظمة الثقيلة ثقلا كافيا (الأنظمة المكونة من بضعة ألوف من الذرات، مثل الجزيئات العضوية الكبيرة، والأنظمة الأثقل) تتفاعل «تقريبا» وفقا لقوانين الميكانيكا الكلاسيكية الخاصة بالساعة، شريطة ألا تتفاعل مع بعضها كيميائيا، فأنظمة البلورات - وهي الأجسام الفيزياء الصلبة التي نتناولها في أدواتنا المألوفة مثل ساعات يدنا ومنبهاتنا، والتي تكون الأثاث الرئيسي لبيئتنا - تسلك بالفعل مثل الأنظمة الميكانيكية تقريبا (ولكن تقريبا فقط)، الحق أن هذه الواقعة هي مصدر أوهامنا الحتمية والميكانيكية.
إن كل ترس من تروس ساعات يدنا هو بناء من البلورات، شبيكة من الجزيئات معلقة معا، مثل الذرات في الجزيئات، بواسطة قوى كهربية، هذا غريب، ولكنه أمر واقع أن الكهرباء هي ما يتبطن قوانين الميكانيكا، وفضلا عن ذلك فإن كل ذرة تتذبذب وكل جزيء يتذبذب، ذبذبات تعتمد سعة اهتزازها على درجة الحرارة (والعكس صحيح)، وإذا سخن الترس فسوف يتوقف عمل الساعة لأن أسنانه تتمدد (وإذا أمعن في السخونة فسوف ينصهر).
والتفاعل المتبادل بين الحرارة وساعة اليد هو أمر شائق للغاية، فمن ناحية يمكننا أن ننظر إلى درجة حرارة الساعة كشيء يحدده معدل سرعة ذراته وجزيئاته المتذبذبة، ومن ناحية أخرى يمكننا أن نسخن الساعة أو نبردها بأن نضعها في وسط ساخن أو بارد، وبحسب النظرية الحالية تعزى الحرارة إلى حركة الذرات الفردة، وهي في الوقت نفسه شيء يقع على مستوى مختلف عن مستوى الذرات الفردة المتحركة - مستوى كلي أو انبثاقي - ما دام يحدده «معدل» سرعة ذراته «جميعا».
تسلك الحرارة سلوكا شبيها جدا بسلوك سائل
Caloric ، وبوسعنا أن «نفسر» قوانين هذا السلوك باحتكامنا إلى الطريقة التي ينتقل بها أي ازدياد أو نقصان في سرعة ذرة (أو مجموعة ذرات) إلى الذرات المجاورة، يمكن وصف هذا التفسير على أنه «رد»
Reduction : إنه يرد الخواص الكلية للحرارة إلى خواص حركة الذرات أو الجزيئات، غير أن الرد ليس كاملا، لأن علينا استخدام أفكار جديدة؛ أفكار خاصة ب «الاضطراب الجزيئي» وب «أخذ المعدل»، وهذه في الحقيقة أفكار على مستوى كلي جديد.
19
يمكن للمستويات أن تتفاعل فيما بينها (هذه فكرة مهمة لمذهب التفاعل بين العقل والدماغ)، فعلى سبيل المثال: لا تؤثر حركة كل ذرة فردة على حركات الذرات المجاورة فحسب، بل إن «معدل» سرعة «مجموعة» من الذرات ليؤثر على «معدل» سرعة «المجموعات» المجاورة من الذرات، وهي بذلك تؤثر (وهنا يقع تفاعل المستويات، بما فيه «العلية الهابطة») على سرعات كثير من الذرات الفردة في المجموعة، أية ذرات فردة؟ ذلك شيء لا يمكننا الإجابة عنه دون أن نتفحص تفاصيل المستوى الأدنى.
هكذا سوف يؤثر أي تغير في المستوى الأعلى (درجة الحرارة) على المستوى الأدنى (حركة الذرات الفردة)، والعكس أيضا صحيح، على أنه بطبيعة الحال يمكن لذرة فردة، أو حتى لذرات فردة كثيرة، أن تزيد سرعاتها دون أن ترفع درجة الحرارة؛ لأن بعض الذرات الفردة الأخرى المجاورة قد تخفض سرعاتها في الوقت نفسه، يحدث مثل هذا طوال الوقت في الدرجة الثابتة من الحرارة. ها هو ذا مثال يستوي لدينا على «العلية الهابطة»؛ أي المستوى الأعلى إذ يؤثر على المستوى الأدنى (انظر أيضا قسم 7).
يبدو هذا مثالا مهما آخر للمبدأ العام القائل بأن المستوى الأعلى قد يمارس تأثيرا مسيطرا على المستوى الأدنى.
تعود السيطرة الأحادية الجانب، في هذه الحالة على الأقل، إلى الطبيعة العشوائية للحركة الحرارية للذرات، وبالتالي في ظني إلى الطبيعة السحابية للبلورة، فيبدو أنه إذا افترضنا جدلا أن العالم ساعة حتمية كاملة فلن يكون ثمة إنتاج حراري ولا طبقات، وبالتالي لن يحدث مثل هذا التأثير المسيطر.
يشير هذا إلى أن انبثاق المستويات أو الطبقات التراتبية، والتفاعل المتبادل بينها، يعتمد على لا حتمية أساسية للعالم الفيزيائي، فكل مستوى هو مفتوح للتأثيرات العلية الآتية من المستويات الأدنى ومن المستويات الأعلى.
يتصل هذا بالطبع اتصالا وثيقا بمشكلة العقل-الجسم، بالتفاعل المتبادل بين العالم 1 الفيزيائي والعالم 2 العقلي.
20 (6) العوالم الثلاثة
سواء أمكن رد البيولوجيا إلى الفيزياء أم لا فمن الظاهر أن القوانين الفيزيائية والكيميائية جميعها تسري على الأشياء الحية من النباتات والحيوانات، وحتى الفيروسات. الأشياء الحية هي أجسام مادية. والأشياء الحية، شأنها شأن جميع الأجسام المادية، هي عمليات
. وهي شأنها شأن بعض الأجسام المادية (كالسحب مثلا)، أنظمة مفتوحة
Open Systems
21
من الجزيئات: أي أنظمة تتبادل بعض أجزائها المكونة مع بيئتها المحيطة. وهي تنتمي إلى عالم الكيانات الفيزيائية أو الحالات الفيزيائية.
تتفاعل كيانات العالم الفيزيائي (العمليات، القوى، مجالات القوى) مع بعضها البعض، ومن ثم مع الأجسام المادية. ونحن بذلك نحدس بأنها واقعية
Real ، وإن ظلت واقعيتها أمرا حدسيا.
وإلى جانب الأشياء والحالات الفيزيائية هناك حالات ذهنية (عقلية)
Mental States
نحدس بوجودها ونحدس بأنها واقعية ما دامت تتفاعل في أجسامنا.
يضرب بوبر مثالا لحالة تعد عقلية وجسمية معا، هي ألم الأسنان. فتسوس الأسنان شيء مادي جسمي، والألم الناجم عنها (عبر سلسلة من العمليات الجسمية المحضة) هو شعور نفسي ذاتي ووعي عقلي ذهني. نحن هنا بإزاء عالمين اثنين: عالم فيزيائي، وآخر عقلي. غير أن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد. فقد يدفعني الألم الذاتي الناجم عن الخلل الجسمي المادي إلى أن أقوم وأتجه إلى الهاتف وأتصل بعيادة الأسنان وأحجز موعدا. إن «معرفتي» بوجود علم معين هو طب الأسنان، ووجود عيادات الأسنان، ووجود هواتف ومواعيد وعلاجات ... هذه المعرفة «العالم 3» هي التي جعلتني أحرك جسمي وأقوم «العالم 1 - عالم المادة» لأنجز التصرف اللازم للتخلص من الألم «العالم 2 - عالم الخبرة الذاتية».
هناك أصناف أخرى من الحالات العقلية التي تفسر الأفعال البشرية. قد يستمر متسلق جبال في تسلقه مرغما جسمه على مواصلة الصعود وإن يكن جسمه منهكا، نحن نتحدث عن طموحه، عن بلوغ القمة، عن عزيمته، بوصفها حالات عقلية قد تكون وراء مواصلته التسلق. وقد يضغط سائق سيارة بقدمه على الكابح لأنه يرى أضواء المرور تحولت إلى الأحمر، إن معرفته بقوانين الطريق هي ما يحمله على أن يفعل ذلك.
كل هذا واضح تماما، بل من نوافل القول. ومع ذلك فمن الفلاسفة من أنكر واقعية الحالات العقلية، ومنهم من يسلم بواقعية الحالات العقلية ولكنه ينكر أنها تتفاعل مع عالم الحالات الفيزيائية، وهو عندي رأي بعيد عن القبول بعد الرأي الرافض لواقعية الحالات العقلية.
يطلق على مسألة هل يوجد كلا النوعين من الحالات، الجسمية والعقلية، وهل يتفاعلان، أو هل يرتبطان معا بطريقة أو بأخرى. يطلق على هذه المسألة «مشكلة الجسم- العقل»
Body-Mind Problem ، أو مشكلة العقل-الجسم، أو يطلق عليها المشكلة السيكوفيزيقية.
من الحلول التي يمكن تصورها لهذه المشكلة مذهب التفاعل
Interactionism - أي النظرية القائلة بأن الحالات العقلية والحالات الجسمية تتفاعل معا. يفضي هذا بتحديد أكثر إلى وصف لمشكلة الجسم-العقل على أنها مشكلة الدماغ-العقل، إذ يحاج بأن التفاعل يقع في الدماغ. وقد أدى هذا ببعض أصحاب مذهب التفاعل «وبخاصة إكلس» إلى صوغ مشكلة الجسم-العقل على أنها مشكلة وصف (بأقصى دقة ممكنة) ل «الوصل»
Liaison
القائم بين الدماغ والعقل (
The Brain-Mind Liaison ).
يمكننا القول إن تبني مذهب التفاعل يمثل حلا لمشكلة الدماغ-العقل. ومثل هذا الحل ينبغي أن يدعمه تناول نقدي للآراء الأخرى ولمختلف الاعتراضات على مذهب التفاعل. يمكن أن نصف مذهب التفاعل على أنه نوع من برامج البحث، فهو يفتح الكثير من الأسئلة المفصلة، وسيتطلب الرد عليها الكثير من النظريات المفصلة.
يقال أحيانا أن حل مشكلة الدماغ-العقل يقتضي أن يجعل التفاعل بين أشياء متباينة، كالحالات والأحداث الجسمية ... والحالات والأحداث العقلية، أمرا مفهوما.
وبينا أوافق على أن المهمة الرئيسية للعلم هي أن يعزز فهمنا للأشياء ، فإنني أعتقد أيضا أن الوصول إلى الفهم الكامل، شأنه بالضبط شأن الوصول إلى المعرفة الكاملة، هو أمر يبقى إلى الأبد بعيد الاحتمال. وفضلا عن ذلك، فإن الفهم قد يكون خادعا. لقد وقر في عقلنا قرونا ما بدا لنا فهما كاملا لآليات عمل الساعة، حيث أسنان التروس يدفع بعضها بعضا إلى الأمام، ثم تبين أن هذا فهم شديد السطحية، وأن دفع جسم مادي لجسم آخر إنما يفسر بواسطة التنافر فيما بين أغلفة الإلكترونات السالبة الشحنة الخاصة بذرات هذين الجسمين. على أن هذا التفسير وهذا الفهم هو أيضا سطحي، كما تبين واقعتا الالتصاق والتماسك. هكذا يتبين أن الفهم النهائي ليس بالأمر اليسير حتى فيما يبدو أنه الجزء الأكثر بداءة من العلم الفيزيائي. وحين ننتقل إلى التفاعل بين الضوء والمادة فنحن ندخل في منطقة من المعرفة تركت واحدا من أعظم الرواد في هذا المجال، نيلز بور، في حيرة شديدة لدرجة أنه قال إنه في نظرية الكوانتم علينا أن نتخلى عن الأمل في فهم موضوعنا. ولكن رغم أنه يبدو أن علينا التخلي عن مثال الفهم الكامل، فإن وصفا تفصيليا قد يفضي بنا إلى فهم جزئي ما.
هكذا فإن فهما من قبيل ما توهمنا يوما أننا نحوزه في أمر الدفع الميكانيكي هو غير متوافر حتى في الفيزياء، وما يكون لنا أن نتوقعه في أمر تفاعل الدماغ- العقل، وإن كان مزيد من المعرفة المدققة عن عمل الدماغ قد يمنحنا ذلك الفهم الجزئي الذي يبدو أنه يمكن تحقيقه في العلم.
لقد تحدثت في هذا القسم عن الحالات الجسمية والحالات العقلية، غير أني أرى أن المشكلات التي نحن بصددها يمكن أن نجعلها أكثر وضوحا بكثير إذا نحن أدخلنا قسمة ثلاثية. أولا: هناك العالم الفيزيائي - عالم الكيانات الفيزيائية - الذي أشرت إليه في بداية هذا القسم، هذا سوف أسميه «العالم 1».
22
ثانيا: هناك عالم الحالات العقلية، شاملة حالات الوعي والميول النفسية وحالات اللاوعي. هذا سوف أسميها «العالم 2». ولكن هناك بعد عالما ثالثا: عالم محتويات الفكر ومنتجات العقل البشري في الحقيقة، هذا سوف أسميه «العالم 3».
23 •••
هذا ببساطة هي العوالم الثلاثة التي يقول بها بوبر ويقسم إليها الوجود: (1)
العالم 1: العالم الفيزيائي. الأجسام والحالات والأحداث الفيزيائي، القوى ومجالات القوى ... إلخ. (2)
العالم 2: العالم السيكولوجي الذاتي، عالم الخبرة الذاتية الواعية وغير الواعية، العقل، الذهن. (3)
العالم 3: عالم منتجات العقل البشري من لغة ونظريات وأساطير ومشكلات ولوحات وكتب وسيمفونيات وسيارات وطائرات وحواسب (الجانب الفكري المثالي التجريدي من كل ذلك).
24
هذا العالم الأخير العالم 3 هو الإضافة الحقيقية التي أضافتها بوبر إلى تصور العالم. إنه عالم «موضوعي»
Objective
بمعنى أنه مستقل عن عقول العالم 2 التي أنتجته، و«واقعي»
Real
لأنه يدفع الناس إلى إنتاج أشياء وإنجاز أفعال تؤثر على العالم 1 المادي الملموس.
وحين يقول بوبر إن العالم 3 هو عالم موضوعي فإنه يعني ما يقول رغم ما يبدو في ذلك من غرابة لأول وهلة. فأشياء العالم 3 هي من إنتاج الفكر الإنساني «العالم 2»، غير أنها ما إن تتم صياغتها حتى يصبح لها وضع موضوعي يتجاوز الذات، وتصبح «ملكا» بشريا قائما برأسه، تصبح معرفة بشرية «بغير ذات عارفة». إنها مستقلة عن وعينا ولكنها لا يمكن أن تتجسد إلا من خلاله. إننا نقابل هذا «التجسيد» في البحث العلمي وفي أعمال الفن (التمثال مثلا ينتمي إلى العالم 1، ولكن فكرته هي من العالم 3). كذلك تتصف موضوعات العالم 3 بأنها «واقعية»، حتى إن بلغت من التجريد غايته. فمشكلة تناقص ورود الأعداد الصماء على سبيل المثال هي مشكلة حقيقية أو «واقعية» حتى في غياب أي إنسان، وهي واقعية بنفس المعنى الذي ستعد به قمة إفرست واقعية حتى لو يبلغها إنسان قط. (7) العالم 3 ومشكلة العقل-الجسم
العالم 3 إذن عالم «واقعي»
Real ، رغم أنه عالم مجرد غاية في التجريد (أكثر تجريدا حتى من القوى الفيزيائية). وهو واقعي لأسباب ليس أقلها أن موضوعاته هي أدوات لتغيير العالم 1؛ أي أنه يؤثر على ما اصطلحنا على أنه «واقع».
ولا يمارس العالم 3 تأثيره على العالم 1 إلا من خلال التدخل الإنساني؛ أي تدخل صانعي العالم 3، وبخاصة من خلال فهمه وفهم موضوعاته، وهذا الفهم هو عملية عقلية تنتمي إلى العالم 2، أو إن شئت الدقة فهو عملية يتفاعل فيها العالم 2 والعالم 3.
من ذلك ينتج أن كلا العالمين 3، 2 (منتجات العقل، وعملياته) واقعي حقيقي، وإن كان الاعتراف بذلك صعبا على كل من يقدر التراث العظيم للمادية ويجله.
والآن، إذا سلمنا بالتفاعل بين العوالم الثلاثة، فربما يساعدنا فهمنا للتفاعل المتبادل بين العالم 2 و3 في فهم التفاعل المتبادل بين العالم 1 و2، ذلك التفاعل الذي يشكل جزءا من مشكلة العقل-الجسم. فقد رأينا أن صنفا من التفاعل بين العالمين 2 و3 وهو الفهم يمكن تفسيره بوصفه صنعا لأشياء العالم 3 ومقارنة بينها بالانتقاء النقدي، وأن شيئا شبيها بذلك يبدو أنه يصدق على الإدراك البصري لأشياء العالم 1. يشير ذلك إلى أننا يجب أن ننظر إلى العالم 2 بوصفه عالما نشطا فاعلا منتجا وناقدا (يصنع ويقارن ). غير أن لدينا ما يدفعنا إلى الاعتقاد بأن بعض العمليات النيوروفسيولوجية غير الواعية تؤدي هذا بالضبط. ولعل ذلك أن يسهل علينا أن «نفهم» أن العمليات الواعية قد تمضي في مسارات شبيهة: إنه لأمر لا يند كثيرا عن أفهامنا أن العمليات الواعية تؤدي مهام مثيلة بتلك التي تؤديها العمليات العصبية.
وجملة القول إنه لا يتسنى للعالم 2 (العمليات العقلية) أن يتصل بالعالم 3 (الأفكار والنظريات ...) إلا من خلال العالم 1 (العمليات الفسيولوجية، الكيميائية، الفيزيائية) والذي يعمل كنوع من الكمبيوتر (الدماغ، الآلة الدماغية).
وتضطلع «اللغة» بدور خطير في حسم مشكلة العقل-الجسم. تعد القدرة على تعلم اللغة جزءا من البنية الجينية للإنسان، غير أن التعلم الفعلي للغة معينة هو عملية «ثقافية»، أي عملية ينظمها العالم 3. تعلم اللغة إذن هو عملية تتداخل وتتفاعل فيها المواهب الجينية الناشئة بالانتخاب الطبيعي مع العملية الواعية للتعلم والاستكشاف، وهي عملية قائمة على التطور الثقافي. وهذا يدعم فكرة وجود تفاعل بين العالم 3 والعالم 1، ويدعم بالنظر إلى حججنا السابقة وجود العالم 2.
25
هكذا يمكننا القول بأن الطفل هو بمعنى ما صانع نفسه ونتاج إنجازه. إنه هو ذاته نتاج العالم 3 إلى حد ما. إن القدرة اللغوية التي يكتسبها تزيد من تمكنه من بيئته المادية ووعيه بها، وبنفس القدر أيضا تزيد من وعيه بذات. إن تكون الذات هو عملية كدح واكتساب وتطور. الذات ليست «معطاة»
Given
منذ البداية، بل تنشأ نشوءا وتكوينا وتدرجا ولا تأتي جملة واحدة. إنها «تنبثق» في التفاعل مع الذوات الأخرى ومع منتجات الثقافة، وبخاصة مع اكتساب اللغة. فاللغة تلعب دورا هاما في عملية النضج وتكون الذات والوعي بها. إن الحجة الديكارتية الشهيرة «أنا أفكر، إذن أنا موجود» تفترض وجود اللغة مسبقا واستخدام الضمائر.
26 (8) ما هي النفس؟
يود بوبر أن يقول بوضوح ودون لبس إنه على قناعة بوجود الأنفس.
27
غير أن النفس لا توجد عند الميلاد - لا تلقى في الجسد إلقاء كما ظن أفلاطون. إنها انبثاق فردي يتم بدأب منذ مرحلة الرضاعة، ويعتمد على النمو والتطور والتعلم. النفس ليست جوهرا وليست شبحا في آلة، على حد تعبير جلبرت رايل، وإنما هي الوعي بالذات والتفرد، ذلك الوعي الإنساني الانبثاقي الذي يعد النتاج الأخير لعملية تطور طويلة جرت تحت ضغوط الانتخاب الطبيعي. والذاكرة متطلب أساسي لعملية الوعي بالذات والشعور بالتفرد الذي يدوم طوال الحياة. وعن طريق التعلم يغدو الطفل على وعي بجسده وبيئته والشخصيات الهامة له في هذه البيئة. ومن خلال اهتمام هؤلاء الأشخاص به بالإضافة إلى معرفته بجسده يتعلم الطفل في الأوان المناسب أنه هو نفسه شخص. وفي المرحلة اللاحقة يصبح التعلم معتمدا إلى أبعد حد على اكتساب اللغة وفهمها.
ويؤكد بوبر أنه ليس هناك شيء من قبيل النفس «الخالصة» أو «المحضة»، أي الكائنة هناك من قبل أي خبرة. وإنما النفس عنده هي نتاج ميول فطرية وخبرة مكتسبة وبخاصة الخبرة الاجتماعية، فالطفل البشري الذي ينشأ في عزلة اجتماعية هيهات له أن يبلغ الوعي بالذات. فليست اللغة وحدها بحاجة إلى تعلم، بل الإدراك نفسه.
ومن التجارب الشائقة التي أجراها العلماء في باركلي تلك التي قسموا فيها الفئران إلى مجموعتين، إحداهما ربيت في جماعات من اثني عشر فردا تعيش في قفص كبير مع تشكيلة من مواد اللعب والنشاط تتغير كل يوم. أما المجموعة الثانية فقد ربيت في عزلة وعاشت في أقفاص مختبر تقليدية. كانت النتيجة الرئيسية هي أن الحيوانات التي عاشت في بيئة غنية بالمنبهات تضخم فيها لحاء المخ بعكس الحيوانات التي عاشت في بيئات رتيبة مقفرة. ونتجت هذه الزيادة عن تكاثر المشتبكات العصبية
Synapses
وتفرعات الخلايا العصبية (التشجرات)
Dendrites
والخلايا الدبقية
Glial Cells . من الواضح إذن أن الدماغ ينمو من خلال العمل والفعل، ومن خلال الاضطرار إلى حل المشكلات بشكل نشط.
28
وينكر بوبر هوية
Identity
العقل والدماغ، فالدماغ ليس هو العقل، والعمليات الدماغية ليست عمليات عقلية وإن كان النشاط الدماغي المكثف شرطا ضروريا للعمليات العقلية. وهناك وصل
Liaison
وثيق بين الدماغ والذات الواعية، غير أن هذا الوصل ليس علاقة ميكانيكية، فالدماغ في جوانب معينة يشبه الكمبيوتر. وقد نوه بعض كبار علماء الأعصاب في دراسات أعطاب المخ بأن نمو مركز جديد للكلام في النصف المخي غير المعطوب يذكرهم بعملية إعادة برمجة الكمبيوتر. غير أن الكمبيوتر لا حول له بدون المبرمج. وعلى ذلك يمكننا أن نمضي فنقول إن الدماغ مملوك للذات وليس العكس. والذات هي دائما تقريبا في حالة نشاط، ونشاط الذوات (الأنفس) هو النشاط الأصيل الوحيد الذي نعرفه. والذات السيكوفيزيقية النشطة هي المبرمج النشط للدماغ (أي للكمبيوتر). إنها المنفذ الذي أداته الدماغ. العقل كما قال أفلاطون هو ربان أو قائد وليس مجموعا كليا أو حزمة أو تيار من خبراته كما يومئ هيوم ووليم جيمس، ففي هذا التصور نوع من السلبية.
والنفس ليست «أنا خالصة»، أي مجرد ذات، بل هي ثرية إلى حد مذهل، إنها أشبه بالقائد، تلاحظ وتتخذ أفعالا في الوقت نفسه. إنها تفعل وتعاني وتتذكر الماضي وتخطط للمستقبل وتبرمجه، وتتوقع وتقدر، إنها تنطوي في تتابع سريع أو في الوقت نفسه على رغبات وخطط وآمال وقرارات بأفعال ووعي واضح بأنها ذات فاعلة، مركز نشاط. وهي مدينة كثيرا في هذه الذاتية لتفاعلها مع الأشخاص الآخرين (الذوات الأخرى) ومع العالم 3.
29
وكل هذا يتفاعل تفاعلا وثيقا مع «النشاط» الضخم الجاري في دماغها. (9) التعلم من الخبرة: الانتخاب الطبيعي للنظريات
النفس ليست شيئا ثابتا. النفس تتغير، فنحن نبدأ أطفالا، ثم ننمو، ثم نشيخ. ورغم ذلك فإن استمرارية النفس تؤكد أن النفس تبقى هي ذاتها بمعنى ما. وهي في ذلك أكثر ثباتا وهوية من الجسد المتغير (والذي يحتفظ أيضا بهوية واحدة بمعنى ما). تتغير النفس ببطء نتيجة لتقدم العمر، ونتيجة للنسيان. وتتغير بمعدل أسرع كثيرا نتيجة للتعلم من الخبرة.
ويتم التعلم من الخبرة بواسطة «الفعل والانتخاب». فأفعالنا قائمة على أهداف ورغبات معينة، وعلى توقعات ونظريات معينة، وبخاصة توقع تحقيق أهدافنا واختياراتنا. أي أن أفعالنا تتم وفقا لبرامج فعل. ووفقا لهذه الوجهة من الرأي فإن التعلم من الخبرة هو في جوهره عملية تعديل لتوقعاتنا ونظرياتنا وبرامج فعلنا. إنها عملية تعديل وانتقاء، وبخاصة من خلال تفنيد توقعاتنا. لا يمكن للكائنات العضوية أن تتعلم من الخبرة، وفقا لهذا الرأي، إلا إذا كانت نشطة، وإذا كان لها أهداف وتفضيلات، وإذا كانت تنتج توقعات. وحيث إن بوسعنا أن نستبدل بالحديث عن امتلاك توقعات امتلاك نظريات أو برامج فعل، فبوسعنا أن نصوغ كل هذا بقولنا إننا نتعلم بواسطة تعديل نظرياتنا وبرامج فعلنا بواسطة الانتخاب، أي بالمحاولة ونبذ الخطأ.
30
تنطبق هذه النظرية في عملية التعلم وتسري بالتساوي على التعلم التكيفي على مستوى السلوك الحيواني، وعلى مستوى تكوين المعرفة الموضوعية كالنظريات العلمية، وعلى التكيف بالانتخاب الطبيعي على المستوى الأكثر بداءة أي مستوى التكيف الجيني. في هذه المستويات الثلاثة جميعا (المستوى الجيني، والمستوى السلوكي، ومستوى تكوين النظريات العلمية) تبدأ التغيرات التكيفية دائما من بنيات معطاة معينة:
هذه البنية على المستوى الجيني هي الجينوم (بنية الدنا
DNA ).
وعلى مستوى السلوك الحيواني والإنساني هي المخزون الموروث جينيا من الأشكال الممكنة للسلوك، بالإضافة إلى قواعد السلوك المنتقلة بالعرف (بعض هذه، على المستوى البشري، ينتمي إلى العالم 3).
وعلى المستوى العلمي تتكون البنية من النظريات العلمية السائدة التي تنتقل بالعرف ومن المشكلات غير المحسومة.
هذه البنيات أو نقاط البدء تنتقل دائما بواسطة «التلقين»
Instruction . فالجينوم يتم نسخه بوصفه قالبا أو طبعة، وبالتالي بالتلقين. وينتقل العرف بالتلقين المباشر، بما فيه المحاكاة. غير أن التغيرات التكيفية الجديدة في البنية الموروثة تتم في المستويات الثلاثة جميعها عن طريق «الانتخاب الطبيعي»
Natural Selection : عن طريق التنافس ونبذ المحاولات الاختبارية غير الصالحة. في هذه العملية تقع الطفرات أو الانحرافات التصادفية بعض الشيء تحت الضغط الانتخابي للصراع المتبادل، أو تحت الضغط الانتخابي الخارجي الذي يقصي الانحرافات الأقل نجاحا. هكذا يتبين أن القوة المحافظة هي «التلقين»
Instruction ، وأن القوة التطورية أو الثورية هي «الانتخاب»
Selection .
على كل مستوى من المستويات يبدأ التكيف من بنية شديدة التعقيد والتي يمكن أن توصف (وصفا استعاريا بعض الشيء إذا أخذنا المستوى الجيني باعتبارنا) بأنها بنية النظريات الشديدة التعقيد المتلقاة حول البيئة، أو بأنها بنية «توقعات». ويتألف التكيف (أو التعلم التكيفي) من تعديل لهذه البنية الشديدة التعقيد بواسطة طفرات محاولة، وبواسطة الانتخاب.
تبدو هذه الطفرات، على المستوى الجيني، عشوائية تماما ، أو عمياء. غير أنها على المستوى السلوكي ليست عمياء تماما؛ لأنها تتأثر دائما بالخلفية المعرفية (الثابتة لحظيا) والتي تشمل البنية الداخلية للكائن العضوي، وتتأثر ببنية الأهداف وبنية والخيارات الخاصة بالكائن (وهي بنية ثابتة نسبيا). أما على مستوى تكوين نظريات العالم 3 فتأخذ الطفرات طابع الاستكشافات البصيرة المخططة للمجهول.
يتسم التكيف على المستوى السلوكي وعلى المستوى العلمي بأنه عادة عملية ناشطة بشدة. ويكفي أن ينظر المرء إلى حيوان صغير وهو يلعب، وإلى السلوك الذي أسماه بافلوف «السلوك الاستكشافي» و«السلوك الحر». صحيح أن هذه النشاطات مبرمجة جينيا إلى حد كبير، إلا أن من الممكن أن تقمعها قيود (ضوابط) بيئية. في حالة التعرض لمثل هذه الضوابط يعجز الحيوان عن التعلم، ويعجز دماغه عن النمو والنضج. فمن الثابت (من تجارب روزنزفيج وغيره) أن النمو الجديد الهائل للخلايا الدبقية وزوائد التشجرات والوصلات المشتبكية يعتمد على نشاط الأفراد واتصالهم النشط ببيئة ثرية.
وعلى المستوى العلمي تعد الكشوف عملية ثورية وإبداعية، وهي دائما أيضا نتاج لنشاط كبير: نتاج لطريقة جديدة في النظر إلى المشكلات، ونتاج نظريات جديدة، ونتاج أفكار تجريبية جديدة، ونقد جديد، واختبارات نقدية جديدة.
وعلى المستويات الثلاثة جميعها هناك تفاعل وتآزر بين الميول المحافظة والميول الثورية. فمن شأن الميول المحافظة أن تحمي الإنجاز البنائي المعقد وتحفظه، ومن شأن الميول الثورية أن تضيف تنويعات جديدة إلى هذه البنيات المعقدة.
31
ونحن لا نجد في أي من هذه الإجراءات التكيفية لتعلم أشياء جديدة وصنع كشوف تكيفية أي أثر من قبيل الإجراءات الاستقرائية، أو أي شيء من قبيل الكشف بالاستقراء أو التكرار. فالتكرار وإن كان يلعب بالفعل دورا ما في التكيف السلوكي، إلا أنه لا يسهم في الكشوف. إنه بالأحرى يعمل على أن يستوعب الكشف الذي تم، ويحوله إلى وتيرة غير إشكالية، ومن ثم يجعله شيئا لا شعوريا. (هكذا الحال مثلا في المهارات المكتسبة مثل المشي وقيادة الدراجة والعزف على البيانو ...) التكرار أو الممارسة ليسا طريقة لاكتساب تكيفات جديدة، بل طريقة لتحويل التكيفات الجديدة إلى تكيفات قديمة، إلى خلفية معرفية مسلم بها، إلى ميول لا شعورية.
لقد طالما تحدث بوبر عن أكذوبة الاستقراء، أي الوهم القائل بأننا نكتشف الاطرادات بأن نستمدها من الملاحظات المتكررة أو التجارب. وها هو يعيد واحدة من حججه في هذا المقام:
32
إن جميع الملاحظات (بل جميع التجارب) هي شيء مشرب بالنظرية ممتزج بها. إنها تأويلات في ضوء النظريات. إننا لا نلاحظ إلا ما تجعله مشكلاتنا (وموقفنا البيولوجي واهتماماتنا وتوقعاتنا وبرامج فعلنا) أمرا معنيا ذا صلة. وبالضبط كما أن أدواتنا التي نستخدمها في الملاحظة قائمة على نظريات، كذلك أعضاء حسنا نفسها التي بدونها لا يمكننا أن نلاحظ. فليس ثمة عضو حسي خلو من نظريات توقعية مدمجة به جينيا. مثال ذلك أن الضفدع يعجز عن رؤية ذبابة بالقرب منه إذا كانت لا تتحرك، إنه لا يميزها كفريسة سانحة. هكذا نجد أن أعضاء حسنا هي نتاج التكيف، وبوسعنا القول بأنها «نظريات»، أو تضمر نظريات. إن النظريات تأتي قبل الملاحظة، ومن ثم فهي لا يمكن أن تكون نواتج لملاحظات متكررة.
علينا إذن أن نتخلى عن نظرية الاستقراء بواسطة التكرار، وأن نستبدل بها نظرية تقول بتنويعة اختبارية من النظريات أو برامج الفعل، واختبارها النقدي من خلال استخدامها في أفعالنا.
33 (10) النفس مرساة في العالم 3
لا شك أن الحيوان يشعر ويعي، ولا شك أن الحيوانات تتألم كثيرا إن أصيب بأذى، وأن الكلب ينبهج كثيرا حين يعود صاحبه. غير أن الإنسان وحده هو القادر على الوعي بذاته والتأمل في نفسه. ومن المتيقن أن كل كائن عضوي لديه برنامج فعل، غير أن الإنسان وحده هو من يملك القدرة على أن يعي بأجزاء هذا البرنامج وأن يراجعها مراجعة نقدية. وتضطلع اللغة في هذه العملية بدور أساسي. وما من معنى يتأمله المرء ولا إبداع يبدعه إلا هو مستند إلى اللغة أو إلى النشاط الرمزي عموما، فما دام المرء يضمر حدسا ما دون تمثيل رمزي معين، فإنه يظل متوحدا بالحدس ممتزجا به، ولا يملك من ثم تقليبه ونقده. ولكن بمجرد أن يصوغ هذا الحدس أو يدونه في صورة رمزية فإنه «ينفصل» عنه، ويصبح قادرا على أن ينظر إلى حدسه بطريقة «موضوعية»، باعتباره شيئا من أشياء العالم 3، فينقده ويتعلم منه، وربما يتعلم من رفضه.
قد تكون للحيوانات العليا شخصية وطبع، وتكون لها فضائل ورذائل، فيكون الكلب مثلا شجاعا مخلصا ودودا أو يكون شريرا وخائنا. إلا أن الإنسان وحده هو الذي يمكنه أن يسعى إلى أن يصبح إنسانا أفضل، أن يتحكم في مخاوفه ويسيطر على اندفاعاته ويقوم عيوبه.
في جميع هذه الأمور يأتي الفارق بين الإنسان وغيره من الكائنات من ارتكاز النفس البشرية على العالم 3، وبخاصة على اللغة البشرية. فاللغة هي التي تتيح لنا أن ننعكس على أنفسنا ونجعل منها موضوعا لتأملنا النقدي. ذلك أن للغة طابعا اجتماعيا، وأنها تمكننا من أن نتحدث عن غيرنا من الناس وأن نفهمهم عندما يتحدثون عن أنفسهم.
34
هذه الصبغة الاجتماعية للغة، وهذا الفضل الذي ندين به للغة، وبالتالي للآخرين، في جعلنا بشرا مدركين عاقلين، يثبت لنا بوضوح أننا صنيعة العالم 3، الذي هو بدوره صنيعة ما لا يحصى من العقول البشرية.
يتألف العالم 3 كما أسلفنا من منتجات العقل البشري، إلا أن العقل البشري يتفاعل بدوره مع هذه المنتجات، فهناك تغذية راجعة
Feed-back ، فعقل الرسام مثلا أو المهندس يتأثر إلى أبعد حد بالعمل نفسه الذي يقوم بإنجازه، ويتأثر كذلك بأعمال الآخرين السابقين عليه والمعاصرين له. هذا التأثير يجري عن وعي وعن غير وعي، ويفعل فعله في اختياراته وتوقعاته وبرامجه. وبقدر ما نحن نتاج لعقول الآخرين ولعقولنا ذاتها يمكننا القول بأننا نحن أنفسنا ننتمي إلى العالم 3.
يقول إمانويل كانت: «إن الشخص هو تلك الذات المسئولة عن أفعالها». وبقدر ما يكون الشخص مسئولا عن أفعاله أمام الآخرين وأمام نفسه يمكن أن يقال إنه يفعل بطريقة عقلانية، ويمكن وصفه بأنه فاعل أخلاقي، أو ذات أخلاقية.
ونحن بالطبع حين نسمي شخصا ما «فاعلا أخلاقيا»
Moral Agent
بهذا المعنى، فإن ذلك لا يتضمن حكما إيجابيا بأنه شخص مسئول أو عقلاني، أو بأنه بالفعل يتصرف بطريقة صائبة أو عادلة أو أخلاقية، فالفاعل الأخلاقي قد يكون فعله مستأهلا للوم أو حتى إجراميا. فالحكم على أفعاله من الوجهة الأخلاقية سيتوقف على بواعث أفعاله، أي على الأهداف التي ينتويها من أفعاله، وبخاصة على الطريقة التي نظر بها إلى الآخرين ومصالحهم وأخذها بالاعتبار.
35
في كتابه البالغ الأهمية «نظرية في العدالة»، يدخل جون رولز
J. Rawls
فكرة «خطة الحياة»
ليصور الغايات والأهداف التي تجعل من الإنسان «شخصا أخلاقيا موحدا واعيا». هذه الفكرة عن خطة حياة من صنع الإنسان تنتمي إلى العالم 3 أقترح لها شيئا من التعديل، فليست وحدة خطة الحياة أو ثباتها هو ما يلزم لتأسيس وحدة النفس، بل حقيقة الأمر أن وراء كل فعل يتخذ هناك خطة، هناك مجموعة من التوقعات (أو من النظريات)، والأهداف والاختيارات؛ خطة مفتوحة للتطور والنضج وربما للتغيير الجذري على أثر استبصار نظري جديد مثلا. هذه الخطة النامية هي، بحسب رولز، ما يسبغ الوحدة على الشخص ويحدد طابعه الأخلاقي إلى حد كبير. وهذه الفكرة قريبة الشبه جدا من فكرة بوبر القائلة بأن أنفسنا «ترسو» في العالم 3، وإن كان بوبر يؤكد بدرجة أكبر، إلى جانب أهدافنا وخياراتنا، على توقعاتنا ونظرياتنا عن العالم (العالم 1، 2، 3) التي يعتنقها الشخص منا في وقت بعينه. إن امتلاكنا لمثل هذه الخطة «المتغيرة»، أو لمجموعة النظريات والخيارات، هو ما يجعلنا نتخطى أنفسنا، أي نتجاوز رغباتنا وميولنا الغريزية.
ثمة جانب بطولي كبير في الحياة الإنسانية، وأعني به تلك الأفعال التي تتسم بالعقلانية غير أنها تهدف لأشياء تصطدم مع مخاوفنا، ومع غريزة الأمن والسلامة بداخلنا.
انظر إلى تسلق الجبال الشاهقة، إفرست على سبيل المثال، إنه يبدو لي دائما تفنيدا لافتا لوجهة النظر المادية على الإنسان. فأن تجابه الصعاب لذاتها وتواجه الأخطار الماحقة من أجل ذاتها فحسب، وتمضي في ذلك إلى حد الإنهاك التام: كيف يمكن لهذه الأفعال المضادة لغرائزنا الطبيعية أن تفسر في ضوء المذهب الفيزيائي أو السلوكي؟ لعل المذهبين أن يفسرا حالات قليلة يطمح فيها المخاطر إلى المجد والشهرة. غير أن هناك كثيرا من المتسلقين يزدرون الشهرة ولا يبالون بالصيت. إنهم يعشقون الجبال، ويحبون قهر الصعاب من أجل قهر الصعاب، إنه جزء من خطة حياتهم.
أليس شيء شبيه بذلك هو جزء من خطة حياة كثير من عظام الفنانين والعلماء؟ وأيا ما كان تفسير ذلك، حتى لو كان التفسير هو الطموح، فهو ليس تفسيرا فيزيائيا. بل يبدو التفسير لي هو أن العقل - بشكل ما - الذات الواعية ... قد تمت لها السيادة وتولت زمام الأمر.
36
ومجمل مذهب بوبر في النفس أن ليس هناك شيء من قبيل «الجوهر النفسي»
الذي يوجد بمعزل عن الجسم.
37
غير أن الحديث عن نفس جوهرية على سبيل الاستعارة هو أمر لا بأس به على الإطلاق، خاصة إذا حرصنا على أن نستبدل بالجوهر «عمليات» كما تنبأ هيراقليطس. إننا بالتأكيد نخبر أنفسنا ك «جوهر»، بل يبدو أن فكرة الجوهر نفسها مستمدة من هذه الخبرة، وهو ما يفسر لماذا تبدو هذه الفكرة شبيهة جدا بفكرة الروح. ولعل أسوأ ما في هذه الاستعارة هو أنها لا تبرز الطبيعة الناشطة للنفس. وإذا كان المرء من الرافضين لمذهب الماهية
Essentialism
فلا يزال بوسعه أن يصف النفس على أنها «شبه جوهر»، أي على أنها ذلك الشيء الذي يبدو جوهريا لوحدة الشخص المسئول وديمومته.
إن ما يميز النفس (بعكس العمليات الكهروكيميائية للدماغ والتي تعتمد عليها النفس اعتمادا متبادلا ) هو أن جميع خبراتنا وثيقة الارتباط ومدمجة، لا بخبرات الماضي فحسب، بل أيضا ببرامج فعلنا المتغيرة، وتوقعاتنا، ونظرياتنا، أي بنماذجنا الشارحة عن البيئة المادية والثقافية، الماضية والحاضرة والمستقبلة، متضمنة المشكلات التي تطرحها علينا لتقييمها ولتطوير برامج فعلنا في ضوئها. غير أن كل هذه الأشياء تنتمي جزئيا على الأقل إلى العالم 3.
هذا التصور العلائقي للنفس يظل غير كاف تماما، وذلك بسبب الطبيعة الناشطة والتكاملية الصميمة للنفس. وحتى بالنسبة للإدراك الحسي والذاكرة، فإن نموذج «المدخل» (وربما «المخرج» أيضا) ليس وافيا تماما، إذ أن كل شيء يعتمد على برنامج متغير باستمرار: فهناك انتقاء نشط، وهضم نشط جزئيا وتمثل نشط، وكل من هذه العمليات يعتمد على تقييمات نشطة.
38 (11) وهم المصاعب الديكارتية في التفاعل المتبادل
بعد أن افترض ديكارت وجود جوهرين متمايزين تماما: العقل (ماهيته فكر) والمادة (ماهيتها امتداد)، تعذر عليه أن يفسر التفاعل الظاهر بينهما دون التورط في خرق قوانين البقاء. وقد ورث تابعوه نفس التركة التصورية فلم يجدوا بدا من نبذ مذهب التفاعل وتفسير العلاقة بين النفس والجسد تفسيرات تورطت هي أيضا في أخطاء أخرى خاصة بها.
ويرى بوبر أن الأمر الذي خلق المشكلة لديكارت ووضع العقبة الكئود ليس هو افتراض جوهرين متمايزين، بل هو تصوره الخاص عن العلية الفيزيائية. لقد تصور المادة جوهرا ممتدا والعالم آلة مادية تعمل بالدفع (التلامس/التصادم) كما تعمل الساعة. غير أن هذا التصور العتيق للعلية الفيزيائية قد تجاوزته الفيزياء الحديثة التي لم تعد تتحدث عن كثرة من الجوهر بل عن كثرة من شتى أنماط القوى، أي عن كثرة من شتى المبادئ التفسيرية المتفاعلة.
يرى بوبر أنه قد تغلب على مصاعب التفاعل الثنائي دون خرق لقوانين بقاء الطاقة. وأوضح أن بالإمكان مثلا أن تدار مركبة من الداخل دون انتهاك لأي قانون طبيعي، وأن تقاد من الخارج بالاعتماد على قوى طفيفة من مثل الإشارات اللاسلكية. وكل ما هو مطلوب عندئذ هو أن تحمل المركبة مصدرها الخاص من الطاقة.
يقول بوبر: «لعل أوضح مثال مضاد للدعوى القائلة بأنه لا يؤثر على الشيء إلا شيء مثله هو هذا: في الفيزياء الحديثة نجد أن تأثير الأجسام على الأجسام تتوسطه مجالات
Fields - مجالات جاذبية وكهربية. وهكذا فالشبيه لا يؤثر على شبيهه، بل إن الأجسام تؤثر أولا على المجالات وتعدلها، وعندئذ يؤثر المجال (المعدل) على جسم آخر.»
39
وهكذا يتبين أن الصعوبة الخاصة بتفاعل العقل-الجسم لم تنشأ إلا كنتيجة للتصور الديكارتي الخاطئ عن العلية الفيزيائية. (12) المادية ومبدأ الاقتصاد
في القسم 18 من الجزء الأول من «النفس ودماغها» يتناول بوبر المذهب المادي بالتمحيص والنقد. ويستهل نقده بالحديث عن مبدأ الاقتصاد (البساطة/نصل أوكام) في صلته بالمذهب المادي، ومدى تدعيمه لهذا المذهب. يقول بوبر: «من المؤكد أن المادية الجذرية (الراديكالية) هي موقف متسق ذاتيا، فهي وجهة نظر إلى العالم كانت، على حد علمنا ، وافية يوما ما؛ أعني قبل انبثاق الحياة وبزوغ الوعي.»
على أن هناك شيئا من الصعوبة جعل يستشعرها الآن معظم الذين يتبنون هذه النظرية ويدافعون عنها، فهي لا تريحهم تماما لأن كل شيء لديهم يبدو مناقضا لها: اعتقادهم نفسه، كلماتهم نفسها، حججهم، واقعة أنهم يقدمون نظرية (بما هي نظرية). ومن أجل أن يتغلب المادي الجذري على هذه الصعوبة فلا مهرب له من أن يتبنى السلوكية الجذرية
Radical Behaviorism
ويطبقها على نفسه، فنظريته واعتقاده فيها ليس شيئا، فليس ثمة غير التعبير الفيزيائي في كلمات، وربما في حجج ليس ثمة غير السلوك اللفظي والحالات النزوعية التي تؤدي إليه.
إن ما يزكي المذهب المادي الجذري أو المذهب الفيزيائي الجذري هو بالطبع أنه يقدم لنا صيغة بسيطة لعالم بسيط، وهو أمر يبدو جذابا، بالضبط لأننا في مجال العلم نبحث عن النظريات البسيطة.
40
غير أنني أعتقد أن من المهم أن نلاحظ أن أمامنا طريقين مختلفين يمكننا بهما أن نبحث عن البساطة، يمكن أن نطلق عليهما باختصار «الرد الفلسفي»
و«الرد العلمي»
Scientific Reduction : يتميز الأول بمحاولة تبسيط رؤيتنا للعالم، ويتميز الثاني بمحاولة تقديم نظريات جريئة وقابلة للاختبار، وتتمتع بقدرة تفسيرية عالية، وباعتقادي أن الثاني بالغ النفع والأهمية، في حين لا قيمة للأول ما لم تكن لدينا أسباب وجيهة لافتراض أنه يناظر الوقائع الكائنة عن العالم.
الحق أن طلب البساطة بمعنى الرد الفلسفي لا العلمي قد يكون موبقا، ذلك أنه حتى في محاولة الرد العلمي لا بد لنا أولا أن نحيط إحاطة كاملة بالمشكلة المطلوب حلها، ولذا فإن من المهم للغاية ألا يصرفنا التحليل الفلسفي عن المشكلات الشائقة باعتبارها غير مشكلة. فإذا كان هناك على سبيل المثال أكثر من عامل واحد مسئول عن أثر ما، فمن المهم ألا نصادر على الحكم العلمي ونحتله بوضع اليد، إذ أن هناك دائما خطرا قائما هو أن نرفض الاعتراف بأية أفكار غير تلك التي اتفق أنها بحوزتنا، متغاضين عن المشكلة، منكرين وجودها أو مقللين من حجمها. ويزداد الخطر إذا ما حاولنا تسوية المسألة مقدما عن طريق الرد الفلسفي، فالرد الفلسفي يغشي أبصارنا أيضا عن أهمية الرد العلمي.
إنما في ضوء هذه الاعتبارات ينبغي، في رأيي، أن ننظر إلى المقاربة الفيزيائية الجذرية لمشكلة الوعي، فالمشكلة ليست فقط أن ظواهر الوعي تطرح علينا شيئا يبدو مختلفا تماما عما عسانا أن نجده، بنظرتنا الراهنة في العالم الفيزيائي،
41
بل هناك أيضا تلك التغيرات اللافتة والعجيبة، من وجهة نظر فيزيائية، التي اعترت البيئة المادية للإنسان من جراء فعله الواعي والغرضي كما يبدو. وهو أمر لا يمكن التغاضي عنه، ومشكلة لا يمكن إنكارها على نحو دوجماطيقي.
بل إنني لأزعم أن اللغز الأكبر في الكوزمولوجيا قد لا يكون في الانفجار العظيم
Big Bang
الأول، ولا مشكلة لماذا كان وجود ولم يكن عدم (فمن الجائز تماما أن تتكشف هذه المشكلات عن أشباه مشكلات)، بل في أن العالم خلاق بمعنى ما: إذ خلق الحياة، ومن الحياة خلق العقل - وعينا نحن البشر - الذي ينير العالم، والذي هو خالق بدوره. ولعل من أجل النقاط التي ضمنها هربرت فايجل إضافته الملحقة (1967) بمقاله «العقلي والجسمي»
The Mental and the Physical
تلك التي يروي فيها عن أينشتين قوله في محادثة معه بأنه «لو لم يكن ثمة هذا الضياء الداخلي لكان العالم مجرد كومة من النفاية»، وينبئنا فايجل أن هذا هو أحد الأسباب التي تجعله يعدل عن المذهب الفيزيائي الجذري (كما أسميه) ويقبل نظرية الهوية
Identity Theory ، التي تعترف بواقعية العمليات العقلية ولا سيما عمليات الوعي.
ومن الجدير بالاعتبار أيضا أنه في حين أن مطلبنا في العلم هو البساطة، فإن من غير المحقق ما إذا كان العالم نفسه هو بتلك البساطة التي يظنها بعض الفلاسفة.
42
أين ذهبت البساطة التي كانت تتحلى بها النظرية القديمة عن المادة (نظرية ديكارت أو نيوتن أو حتى بوسكوفيتش)؟ لقد انتهت. ذلك أنها اصطدمت مع الوقائع. والمصير نفسه قد لحق بالنظرية الكهربية عن المادة، والتي بدا طوال عشرين أو ثلاثين عاما أنها تعطي أملا في بساطة أكبر حتى من سابقتها. وها هي نظرياتنا الحالية في المادة، ميكانيكا الكوانتم، يتكشف أنها أقل بساطة مما كان يأمل المرء (وبخاصة حين ننظر إليها في ضوء التجربة الفكرية لأينشتين/بودولسكي/روزن. وفي ضوء نتائج ج. س. بل، س. ج. فريدمان، ر. أ. هولت). ومن الواضح أيضا أنها غير مكتملة: فعلى الرغم من النتيجة التي وصل إليها ديراك والتي قد تفسر على أنها التنبؤ بمضادات الجسيمات، فمن الصعب أن نقول بأن نظرية الكوانتم قد أدت إلى التنبؤ بشتى الجسيمات الأولية الجديدة التي اكتشفت حديثا أو إلى تفسيرها. من الصعب إذن أن نسلم بأن مطلب البساطة هو مطلب حاسم حتى داخل الفيزياء. علينا على وجه الخصوص ألا نحرم أنفسنا من المشكلات الشائقة والمرهقة - والتي يبدو أنها تشير إلى أن نظرياتنا الأثيرة غير صحيحة أو غير مكتملة - بأن نقنع أنفسنا بأن العالم حقيق بأن يكون أكثر بساطة لو انعدمت هذه المشكلات. غير أن هذا هو بالضبط ما يفعله الماديون المحدثون فيما يبدو لي.
ولعلي كنت حريا أن أعتبر المذهب الفيزيائي الجذري نظرية شافية فكريا لو أنها كانت متوافقة
Compatible
مع الوقائع. ولكنها غير متوافقة مع الوقائع، كما أن الوقائع، وهي ما هي من التعقد وصعوبة الاستيعاب مرهقة فكريا. من هنا يبدو لي أن الخيار الحقيقي إنما هو بين الاستسهال الفكري (ولنسمه التراخي والبطر) من جهة، وبين الكدح والجهد من جهة أخرى.
43
عندما يشتبك الماديون في جدل ضد الثنائية، فإنهم في الأغلب يوجهون سهام نقدهم إلى الثنائية الديكارتية، أي ثنائية الجوهر
Substance Dualism . فقد ذهب ديكارت إلى أن العقل جوهر منفصل ومتميز عن الدماغ ويوجد في عالم الجواهر العقلية. غير أن القول بالثنائية لا يستلزم بالضرورة الاعتقاد في الثنائية الديكارتية. فهناك اختيارات أخرى متاحة أمام المرء غير المادية وغير ثنائية الجوهر. هناك ثنائيات أخرى لا ديكارتية، منها على سبيل المثال «ثنائية الخصائص»
التي تقول بأن العقل لديه خصائص معينة غير فيزيائية. وليس يعني ذلك أن العقل يوجد في عالم مستقل عن الجسم، بل يعني فحسب أن الأحداث الذهنية لها خصائص لا يمكن وصفها بحدود فيزيائية.
وكثيرا ما يذكر الماديون بمعرض نقدهم للثنائية حقيقة أننا منذ عهد ديكارت قد كشفنا أن الدماغ هو مصدر الوعي، وهي حقيقة لم تعد محل خلاف، ولا تعتبر حجة للمادية وحدها. إذ أن ثنائية الخصائص تقول بأن العقل «متقوم» بالمادة المعقدة المخية ولا يقوم بذاته.
44
غير أن هذه هي «أولوية»
المادة لا «حصريتها»
Exclusivity . المادة أولا لا حصرا. وإذا كانت الكشوف العلمية قد قوضت الثنائية الديكارتية أو أضعفتها، فهي لا تنهض دليلا ضد ثنائية الخصائص. فحقيقة أن عمليات الدماغ تؤدي إلى أحداث عقلية هي حقيقة تتقبلها ثنائية الخصائص ولا تجفل منها. وذلك لأن هذه الحقيقة لا تستلزم بالضرورة أن الأحداث العقلية «ما هي إلا» العمليات المادية الدماغية، أو أن الشخص ما هو إلا آلة فيزيائية.
والدليل الذي تستند إليه ثنائية الخصائص في تفنيدها لهذه الردية المادية هو أن كل شخص يخبر الأحداث العقلية الخاصة به بطريقة لا يمكن للملاحظ الخارجي أن يخبرها. هذه الذاتية التي تتحلى بها العمليات العقلية هي التي تجعلها من نمط وجودي خاص لا يمكن رده إلى الحالات المخية.
إننا «نعرف» إحساساتنا الخاصة وعواطفنا ومشاعرنا، بينما «نستنتج» إحساسات الآخرين استنتاجا. ومن ثم فإن «الوعي» شيء «ذاتي». ربما استطاع حاسوب متطور في المستقبل أن يعدد لنا مشاعرنا بطريقة موضوعية من خلال تفرس الدماغ، غير أنه لن يستطيع أن «يخبر» هذه المشاعر ويكابدها. ذلك أن للمجريات العقلية بعض الخصائص التي تتعذر على الملاحظة الخارجية بغض النظر عن مدى تقدم المعرفة وتطور التكنولوجيا.
45
فالدماغ والعقل شيئان مختلفان لأن العقل لا تمكن معرفته إلا من موقع «المتكلم»
First Person ، بينما يخضع الدماغ للملاحظة الخارجية ويقبل الدراسة الموضوعية.
46
يقول توماس ناجل في مقاله الشهير
What is it like to be a bat? : «أما الشيء المحال فهو أن تضمن في وصف فيزيائي للعالم حقائق عما تشبه أن تكون الحالات الذهنية في خبرة صاحبها.» من هنا فرغم أن الوعي ينبثق من عمليات الدماغ فهو لا يمكن أن يعرف إلا من موقع ذاتي، وبالتالي فهو لا يقبل الرد إلى عمليات الدماغ.
47 •••
يبدو المذهب المادي كأنه مستعد للتضحية بالحقيقة من أجل البساطة! أو كأنه يملي على الحقيقة شروطه بدلا من أن يذعن لشروطها، أو كأنه يطلب من الحقيقة أن «تتخفف» قبل أن تتكشف! وينسى أن أوكام نفسه، صاحب النصل الشهير، لم يكن يقصد أن نجتز بنصله «الكائنات»
Entia ، بل كان يؤكد أن «الكائنات» لا يمكن للمنطق المساس بها، فالعقل لا يخلق الكائنات، بل يدركها.
48
ويباهي المذهب المادي بمزية البساطة، ولكن البساطة لا تكون مزية إلا إذا كانت تقبض على جمع المشكلة، وهي لا تعود مزية إذا كانت تفلت جانبا هاما من الظاهرة دون تفسير. إنما نريد البساطة المفتوحة العينين لا البساطة التي تغض الطرف عن عوامل هامة ضالعة في إحداث الظاهرة. من هنا لا تصح تزكية الواحدية لأنها واحدية، بل لأنها تفسر كل جوانب الظاهرة (العقل) تفسيرا اقتصاديا. ومن حقنا أن نفضل عليها الثنائية أو التعددية إذا كانت هذه أوفى بغرض التفسير وأكثر إحاطة بالظاهرة المعنية، ظاهرة العقل.
تذييل: نظرية التفاعل عند جون إكلس
يقول جون إكلس
John C. Eccles
في الجزء الثاني (الخاص به) من كتاب «النفس ودماغها»: ثمة بصفة عامة نظريتان تحاولان تفسير كيف ينتظم سلوك الحيوان «والإنسان» في وحدة جوهرية، تلك الوحدة التي هي ظاهرة للعيان على نحو جلي تماما:
النظرية الأولى:
هي التفسير المتأصل في الواحدية المادية وفي مختلف صور التوازي. وفي النظرية النيورولوجية (العصبية) الحالية تتفاعل مختلف المدخلات الواردة إلى الدماغ خلال جميع الترابطات البنيوية والوظيفية لتفضي إلى مخرج تكاملي في صورة أداء حركي. وتضطلع العلوم العصبية بتقديم صورة مترابطة ومكتملة لهذه المسألة. وقد نجح علم الأعصاب في تقديم تفسيرات مقبولة لجميع الحركات الأوتوماتيكية وتحت الشعورية حتى المعقد منها. غير أني أعتقد أن الاستراتيجية الردية
Reductionist
سوف تفشل في تفسير المستويات الأعلى من الأداء الواعي للدماغ البشري.
49
والنظرية الثانية:
هي التفسير الثنائي التفاعلي، والذي نشأ خصيصا وعني أساسا بالعلاقة بين العقل الواعي بذاته وبين الدماغ البشري. وبقي دوره بالنسبة لنصف الكرة المخي غير السائد هو دور خلافي غير مؤكد. تذهب هذه النظرية إلى أنه عند مواضع معينة من نصف الكرة المخي (مناطق الوصل
Liaison Areas ) هناك تفاعلات متبادلة جوهرية مع العقل الواعي بذاته، إن من حيث الأخذ أو العطاء، الاستقبال أو الإرسال.
50
هناك عوالم ثلاثة كما ذهب بوبر: عالم 1 و2 و3.
عالم 1:
هو عالم الأشياء والحالات الفيزيقية المادية.
عالم 2:
هو عالم حالات الوعي والمعرفة الذاتية بجميع أنواعها.
عالم 3:
هو عالم الثقافة التي صنعها الإنسان شاملة كل المعرفة الموضوعية.
هناك أيضا تفاعل بين هذه العوالم، هناك تفاعل متبادل بين عالم 1 و2، وبين عالم 2 و3 عبر عالم 1:
فعندما تسجل المعرفة الموضوعية للعالم 3 على أشياء العالم 1 (الكتب، اللوحات، الآلات، الأبنية)، فهي لا يمكن أن تدرك إدراكا واعيا، إلا عندما تسقط إلى الدماغ بواسطة مستقبلات (أعضاء استقبال
Receptor Organs ) مناسبة
واردة
Afferent Pathways .
ويؤثر العالم 2 «الخبرة الواعية» بدوره على العالم 1 تأثيرا واسعا، في الدماغ أولا ثم في انقباضات العضلات - وهي العملية التي نفترض حدوثها في الحركة الإرادية.
وبوسعنا أن نصوغ التفاعل الثلاثي الذي نفترضه كما يلي:
حيث عالم 2 ←
عالم 1 يتضمن مشكلة الفعل الإرادي، وعالم 1 ←
عالم 2 يتضمن مشكلة الإدراك الواعي. غير أنه عندما ينخرط العقل الواعي بذاته في تفكير إبداعي حول مشكلات أو أفكار، فإن هناك فيما يبدو تفاعل مباشر بين عالم 2 وعالم 3.
51
والشكل التالي يمثل التفاعل بين الدماغ والعقل. ينقسم عالم 2 (الخبرة الذاتية) إلى ثلاثة مكونات أساسية: (1)
الحس الخارجي: الرؤية والسمع والشم والذوق والألم واللمس. (2)
الحس الداخلي: الأفكار والمشاعر والذكريات والأحلام والخيالات والمقاصد. (3)
وهي لب العالم 2: النفس أو الأنا التي هي أساس الهوية الشخصية وديمومتها التي يخبرها كل منا طوال حياته.
مناطق الوصل المخية في نصف الكرة السائد (مناطق من لحاء المخ السائد تضطلع بالوظيفة اللغوية والفكرية، أهمها منطقتا برودمان 39 و40 والمنطقة قبل الجبهية
).
إن لدينا خبرة مستمرة ودائمة بأن بوسع العقل الواعي بذاته أن يؤثر على أحداث الدماغ، يتجلى ذلك في أوضح صورة في الفعل الإرادي. ويتجلى أيضا في محاولتنا تذكر شيء أو لفظة أو التعبير عن فكرة ... إلخ.
يمارس العقل الواعي بذاته تأثيره على المراكز العصبية النشطة في المستوى الأعلى من النشاط الدماغي، أي في مناطق الوصل «بين الدماغ والنفس/العقل» بنصف الكرة المخي السائد. يقوم العقل الواعي بذاته بتعديل الأنماط /النماذج الدينامية المكانية/الزمانية للأحداث العصبية. وبذلك يمارس العقل الواعي دورا تأويليا ومسيطرا على الأحداث العصبية.
52
العقل الواعي بذاته هو الذي يضفي الوحدة على الخبرة الواعية وليس الآلية العصبية لمناطق الوصل بنصف الكرة المخي. وبتعبير آخر فإن الوحدة التي نخبرها في أنفسنا تأتي لا من المركب النيوروفسيولوجي بل من الخاصة التكاملية الدمجية للعقل الواعي بذاته. ونحن نحدس بأن العقل الواعي ينشأ لكي يضفي هذه الوحدة النفسية (وحدة النفس) في جميع خبراتها وأفعالها الواعية.
يبدو أن العقل الواعي يتفرس أنشطة وحدات مناطق الوصل باللحاء المخي. ومن لحظة إلى أخرى يتخير وحدات مخية معينة ليتفرسها وفقا لاهتمامه اللحظي (ظاهرة الانتباه
Attention ). ويقوم بدمج مختلف الأنشطة ليعطي الخبرة الواعية الموحدة.
53
هذه الوظيفة الانتقائية «الانتباه» والدمجية التكاملية «الوحدة» يقوم بها العقل الواعي بذاته وليس أي شيء آخر. للعقل إذن دور إيجابي فعال ومسيطر (بعكس السلبية التي تتصف بها الخبرة الواعية في نظريات التوازي). بل إن الدور الإيجابي للعقل ليمتد في فرضيتنا بحيث يحدث تغييرات في الأحداث النيورونية (العصبية). فالعقل لا يكتفي بقراءة أو تفرس انتقائي للأنشطة الجارية في الآلية العصبية، بل إنه ليغير هذه الأنشطة ويعدلها ويحورها، حين أتبع مثلا خطا معينا من التفكير، أو حين أحاول أن أقبض على ذكرى معينة (أتذكر شيئا وأستعيده) يبدو أن العقل الواعي ينخرط عندئذ في عملية بحث وتحسس خلال مناطق مختارة من الآلية النيورونية، ومن ثم يكون بوسعه أن يحرف أو يشكل الأنشطة الدينامية ونماذجها وفق رغبته أو اهتمامه. وثمة جانب هام لهذا التدخل من قبل العقل في عمليات الآلية العصبية يتجلى في قدرته على إحداث حركات جسدية وفق الفعل الإرادي الذي يرغبه، ويمكن أن نسمي ذلك «أمرا حركيا».
ونكرر أن السمة الأساسية لفرضيتنا هي الدور الإيجابي الفاعل للعقل الواعي بذاته في تأثيره على الآلية النيورونية لمناطق الوصل بالدماغ.
54
الفصل الرابع
المجتمع المفتوح وأعداؤه
هذا عمل على أعلى درجة من الأهمية، وينبغي أن يقرأ على نطاق واسع لما يتضمنه من نقد بارع لأعداء الديمقراطية، قديمهم وحديثهم. فهجومه على أفلاطون غير تقليدي على أنه في رأيي مصيب تماما. أما تحليله لهيجل فهو مميت. وأما ماركس فقد تم تمحيصه بنفس الدرجة من الحذق، وحمل قسطه المستحق من المسئولية عما أصاب الإنسانية الحديثة من محن وكروب. إنه دفاع قوي وعميق عن الديمقراطية، جاء في أوانه، غاية في الإثارة وغاية في الإتقان.
برتراند رسل
لعب مذهب بوبر التكذيبي دورا بارزا ومحررا في المرحلة المبكرة من الانفتاح الصيني. ولعل الوقت قد أذن لتطبيق مجتمعه المفتوح.
رن زنج كيو
لو أن هناك شيئا من قبيل الاشتراكية المقترنة بالحرية الفردية، لوددت أن أكون اشتراكيا؛ إذ ليس أجمل من أن يعيش المرء حياة متواضعة بسيطة في مجتمع مساواة. غير أني أنفقت زمنا قبل أن أدرك أن هذا لا يعدو أن يكون حلما جميلا، وأن الحرية أهم من المساواة، وأن محاولة تحقيق المساواة من شأنها أن تهدد الحرية، وأن الحرية إذا فقدت فلن يتمتع فاقدوها حتى بالمساواة.
كارل بوبر
ترتكز فلسفة بوبر السياسية، شأنه شأن معظم فلاسفة السياسة الكبار منذ أفلاطون إلى ماركس، على فلسفته الإبستمولوجية. إنه يعتبر الحياة عملية متصلة من حل المشكلات، ومن ثم فقد كانت بغيته السياسية هي ذلك المجتمع الذي يتصف بأنه موصل جيد لعملية حل المشكلات. وحيث إن حل المشكلات يستلزم الطرح الجريء للحلول المقترحة التي توضع عندئذ على محك الاختبار النقدي لاستبعاد الحلول الفاشلة ونبذ الأخطاء، فإن أصلح المجتمعات هو ذلك الذي يسمح بالاختلاف ويصغي إلى شتى الآراء، ويتبع ذلك بعملية نقدية تفضي إلى إمكان حقيقي للتغيير في ضوء النقد. إن مجتمعا يتم تنظيمه وفقا لهذه التوجهات سيكون أقدر من غيره على حل مشكلاته، ويكون من ثم أكثر نجاحا في تحقيق أهداف مواطنيه مما لو نظم وفقا لتوجهات أخرى. أما الفكرة الرائجة التي تقول بأن أكثر المجتمعات كفاءة، من الوجهة النظرية على الأقل، هو ذلك الذي يتخذ شكلا ما من الديكتاتورية، فهي فكرة خاطئة فادحة الخطأ. إن الدول التي حققت أعلى مستويات المعيشة لأفرادها هي جميعا ديمقراطيات ليبرالية. لم تنم هذه الحقيقة من أن الديمقراطية ترف تمكنت هذه الدول من تقديمه بفضل ثرائها. بل العكس هو الصحيح، والصلة السببية هي في الاتجاه المضاد. لقد كانت أغلبية هذه الشعوب تعيش الفقر يوم انتزعت حق الاقتراع العام، وقد أسهمت الديمقراطية بدور أساسي في رفع مستوى معيشتهم؛ فالمجتمع الذي يمتلك نظما (مؤسسات) حرة هو جدير من الوجهة العملية أن يكون أكثر نجاحا في مراميه المادية وغير المادية من المجتمع الذي لا يمتلك هذه النظم.
1
تنطوي جميع السياسات الحكومية، بل جميع القرارات التنفيذية والإدارية، على تنبؤات إمبيريقية: «إذا فعلنا س لترتب على ذلك ص، ومن الجهة الأخرى إذا أردنا تحقيق ب لتوجب علينا أن نفعل أ.» مثل هذه التنبؤات، كما يعلم الجميع، كثيرا ما يتكشف خطؤها. ومن الطبيعي أن نضطر إلى تعديلها كلما مضينا في تطبيقها؛ فكل إجراء سياسي هو «فرضية»
Hypothesis
يجب اختبارها اختبار الواقع وتصويبها في ضوء الخبرة. ومن الحق أن تلمس الأخطاء والمخاطر الكامنة بالفحص النقدي المسبق هو إجراء أكثر عقلانية وأقل إهدارا للموارد والجهد والوقت من الانتظار حتى تسفر الأخطاء عن وجهها في التطبيق. «ومن الحق أيضا أن بعض الأخطاء لا يتضح إلا بالاختبار النقدي للنتائج العملية للسياسات كشيء متميز عن السياسات نفسها. ذلك أن من واجبنا في هذا الصدد أن نواجه حقيقة أن أي فعل نتخذه تكون له في الأرجح عواقب غير مقصودة؛ عواقب لم تكن في الحسبان. وهي حقيقة تحمل، على بساطتها، متضمنات شديدة الأهمية في مجال السياسة والإدارة وكل شكل من أشكال التخطيط.» وبميسورنا أن نقدم أمثلة كثيرة لهذا المبدأ. من ذلك أنني إذا ذهبت إلى السوق لأشتري منزلا فإن مجرد ظهوري في السوق كمشتر سيعمل على رفع السعر. فهذه نتيجة مباشرة لفعلي غير أن أحدا لا يمكن أن يدعي أنها نتيجة مقصودة. وإذا ذهبت لأستصدر وثيقة تأمين لكي أرفع رهنا، فإن ذلك سيعمل على رفع أسهم شركة التأمين. غير أن هذه النتيجة المباشرة لفعلي لا تتصل من قريب أو بعيد بمقاصدي ونياتي.
2
هكذا تجري الأمور كل لحظة بما لم يكن بتخطيط أحد أو مشيئته. وهذه حقيقة واقعة لا مهرب منها وعلينا أن نحسب حسابها في كل قرار نصنعه وفي كل بناء تنظيمي نؤسسه، وإلا كان إغفالنا لها مصدرا دائما للخلط والتشويه. وهي تؤكد مرة ثانية ضرورة التيقظ النقدي الدائم في إدارة السياسات، والسماح بتصويبها عن طريق استبعاد الخطأ بصفة مستمرة. من ذلك يتضح أن الأنظمة الكارهة للنقد تخطئ خطأ مضاعفا: الأول حين تحظر الفحص النقدي المسبق لسياساتها فتقع في أخطاء فادحة لا تكتشفها إلا لاحقا، والثاني حين تحظر الفحص النقدي للتطبيقات العملية لسياساتها، فتمضي في العمل بها وتواصل ارتكاب الأخطاء زمنا يطول أو يقصر بعد أن تكون الأخطاء قد جرت عواقب وبيلة لم تكن بالحسبان. هذا التوجه الذي يسم الأنظمة الشمولية هو توجه غير عقلاني، ومآله بالنسبة للأنظمة المتصلبة هو أن تبيد مع نظرياتها الزائفة، وبالنسبة للأنظمة الأقل تصلبا أن تحرز تقدما معطوبا ومكلفا وتمضي بخطى متعثرة بطيئة. (1) ضرورة التقنية السياسية
يؤثر عن ألدوس هكسلي قوله: «إن مشكلة الحرية، بمعناها السيكولوجي لا السياسي، هي مشكلة تقنية إلى حد كبير. ليس يكفي أن ترغب في السيادة، ولا هو بكاف أن تجد وتجتهد لكي تنال هذه السيادة. فالمعرفة الصحيحة لأفضل الوسائل لنيل السيادة هي أيضا شرط ضروري.»
3
وقريب من هذا ما ذهب إليه بوبر في مجال السياسة. ليس يكفي لأي شخص في موقع سلطة أن تكون لديه سياسات بمعنى غايات وأهداف مهما وضحت صياغاتها. فلا بد أن يمتلك أيضا وسائل تحقيقها؛ ومن ثم فمن واجبه أن ينظر إلى شتى أنواع النظم والمؤسسات بوصفها «آلات» لإنجاز سياساته. وإن تصميم نظام (مؤسسة) سياسي بحيث يؤتي الثمار المرجوة منه لهو أمر مضاه في صعوبته لتصميم آلة مادية. فإذا قام مهندس بتصميم آلة جديدة وكان تصميمه غير صحيح بالنظر إلى الغرض المطلوب، أو قام بتعديل آلة قائمة أصلا دون أن يجري جميع التغييرات المطلوبة، فإن نتاج الآلة لن يكون موافقا لما أراده منها، بل لما هو بطوقها أن تنتجه فحسب. وهو نتاج قد يكون مخالفا لجميع المواصفات المطلوبة، بل قد يكون مؤذيا خطرا.
هكذا الأمر بتمامه بالنسبة للآلية السياسية؛ فهي لن يكون بقدرتها أن تأتي بما يتوسمه القائمون عليها، بغض النظر عن كفاءتهم، وبغض النظر عن حسن أدائهم ونواياهم وصياغتهم لأهدافهم. ثمة إذن حاجة لتكنولوجيا سياسية وعلم سياسي (أو إداري) يجسد موقفا نقديا مستمرا وبناء للوسائل التنظيمية في ضوء الأهداف المتغيرة. ينبغي أن تخضع عملية تنفيذ السياسات لاختبار دائم، وأن يتم هذا الاختبار لا بالتثبت من أن الجهود المبذولة قد أتت بالنتائج المرغوبة بل بالتفتيش عن النتائج غير المرغوبة. «فاختبار السياسات كاختبار النظريات يجب أن يكون تكذيبيا.» مثل هذا الاختبار سهل دائما من الوجهة العملية وغير مكلف، كما أنه مفيد اقتصاديا وهائل الجدوى؛ ذلك أن من دأب الحكومات أن تنفق مبالغ طائلة وتستنزف جهودا كبيرة في سياسات خاطئة دون أن تبذل ذلك الجهد الهين والكلفة الزهيدة المطلوبة لرصد النتائج غير المرغوبة. يميل القائمون على النظم السياسية إلى غض الطرف عن الأدلة التي تشهد بأن النتائج التي يصبون إليها لا تحدث. إنهم لا يبحثون عن «المكذبات»
Falsifiers
رغم أنها أهم شيء ينبغي أن يلتفتوا إليه. وإن هذه المهمة، مهمة البحث الدائم عن الخلل حتى على مستوى التنظيم نفسه، لهي أصعب ما تكون في الأنظمة الاستبدادية. وهكذا تستشري اللا عقلانية لتطال الأدوات نفسها التي يستخدمونها.
كان بوبر داعية مخلصا للديمقراطية الليبرالية. يعبر بعمق عن مشاعره الأخلاقية تجاه المسائل السياسية، غير أن المشاعر الحارة كانت قاسما مشتركا بين كثرة المفكرين الليبراليين. أما ما يميز بوبر بحق عن غيره من فلاسفة الديمقراطية فهو ثراؤه الفكري والغزارة المنقطعة النظير لأدلته وبراهينه العقلية. لقد كان الاعتقاد السائد في نطاق عريض من الأمم والشعوب، في القرن العشرين بخاصة، هو أن منطق العقل والعلم لا بد أن ينادي بمجتمع منظم تنظيما مركزيا ومخطط بوصفه كلا واحدا لا انقسام فيه ولا تعدد. فجاء بوبر ليثبت أن هذا التصور، عدا أنه استبدادي تسلطي، يرتكز على تصور للعلم مغلوط وبائد. فكل من منطق العقل ومنهج العلم يشير إلى مجتمع «مفتوح» وتعددي، يسمح بالتعبير عن وجهات النظر المتعارضة وتبني الأهداف المتضادة ... مجتمع يتمتع فيه كل فرد بحرية البحث في المواقف الإشكالية، وحرية اقتراح الحلول، وحرية انتقاد الحلول التي يقترحها الآخرون وبخاصة أعضاء الحكومة، سواء في مرحلة الشروع النظري أو التطبيق العملي. مجتمع تتغير فيه سياسات الحكومة في ضوء المراجعة والفحص النقدي.
ولما كانت السياسات عادة هي خطط ينادي بها ويشرف على تنفيذها أناس ملتزمون بها بطريقة أو بأخرى، فإن التغيير المطلوب حين يتجاوز حجما معينا يقتضي تغيير الأشخاص. يترتب على ذلك أن تحقيق المجتمع المفتوح على أرض الواقع يستلزم أولا وقبل كل شيء أن يكون هناك مجال وإمكانية لإقصاء من هم في السلطة على فترات معقولة وبدون عنف واستبدال آخرين ذوي سياسات مختلفة. ولكي يكون هذا خيارا حقيقيا، فإن ذوي السياسات المخالفة لسياسات الحكومة يجب أن يتمتعوا بحرية تشكيل أنفسهم كحكومة بديلة جاهزة لتولي السلطة. يعني هذا أن بإمكانهم أن ينظموا أنفسهم ويتحدثوا ويكتبوا ويطبعوا ويذيعوا ويعلموا برامجهم المنتقدة للسلطة القائمة، وأن يكفل لهم الدستور منفذا إلى خلافة الحكومة. يتم ذلك على سبيل المثال عن طريق الاقتراع الدوري الحر.
مثل هذا المجتمع هو الذي يدعوه بوبر «الديمقراطية »، وإن كان كعادته لا تستعبده «الألفاظ» ولا يحب الجدل اللفظي. إنه يعني بالديمقراطية التمسك بالنظم (المؤسسات) الحرة القادرة على نقد الحكام وتغييرهم دون إراقة دماء، وهو غير مسئول عما لحق تعبير «المؤسسات الحرة» من سوء سمعة من جراء الصراع الدعاوي الأمريكي أثناء الحرب الباردة. (2) مفارقة الديمقراطية
لم تكن الديمقراطية التي تصورها بوبر مجرد حكومة تنتخبها الأغلبية من المحكومين، إذ أن هذه النظرة القاصرة من شأنها أن تفضي إلى ما يسمى «مفارقة الديمقراطية»: «هب أن الديمقراطية هي مجرد تصويت الأغلبية، فماذا لو صوتت الأغلبية لصالح حزب، كالحزب النازي أو الشيوعي أو ما شئت، لا يؤمن بالنظم الحرة، وجدير إذا قبض على زمام الأمور أن يطيح بها؟ إننا هنا أمام معضلة حقيقية، فإذا منعنا مثل هذا الحزب من نيل السلطة نكون قد نبذنا الديمقراطية، وإذا تركناه فإنه سيتكفل بالقضاء على الديمقراطية. وفي الحالتين تكون الديمقراطية إذا ما اقتصرت على تصويت الأغلبية قد حملت في داخلها جرثومة فنائها، تكون مفهوما انتحاريا.»
غير أن الخط السياسي الذي اتخذه تفكير بوبر لا يلتقي بهذه المفارقة ولا يتورط فيها، ذلك أن من يلتزم بالتمسك بالمؤسسات الحرة فإنه عليه - دون وقوع في التناقض الذاتي - أن يدافع عنها ضد أي خطر يأتيها من أي جهة، سواء من جهات أقليات أو من جهة أغلبيات. وإذا كانت هناك محاولة للإطاحة بالنظم الحرة بالقوة المسلحة فإن بوسعه - دون تناقض ذاتي - أن يدافع عنها بالقوة المسلحة. فالحق أن هناك مبررا أخلاقيا لاستخدام القوة ضد نظام قائم يفرض بقاءه بالقوة ما دام هدف المرء هو تأسيس نظام حرة، وما دامت لديه فرصة حقيقية للنجاح؛ لأن غايته عندئذ هي أن يستبدل بحكم القوة حكم العقل والتسامح.
4 (3) مفارقة التسامح
يشير بوبر إلى مفارقات أخرى يجب تفاديها، منها «مفارقة التسامح». ومؤداها أن المجتمع الذي يبسط ظل التسامح إلى غير حد مآله هو أن يزول ويزول معه التسامح! ومن ثم فإن على المجتمع المتسامح أن يكون مهيأ في بعض الظروف لأن يكبح أعداء التسامح (يتوجب بالطبع ألا يلجأ إلى ذلك ما لم يشكل هؤلاء خطرا حقيقيا وإلا أفضى به الأمر إلى الظلم والاضطهاد و«تصيد السحرة»)، وينبغي أن يحاول جهده أن يلاقي هؤلاء أولا على صعيد الحجة العقلية. غير أنهم قد يسارعون بشجب كل حوار ويحظرون على أتباعهم الإصغاء إلى الجدل العقلي لأنه خادع، ويعلمونهم أن يجيبوا على الحجة باستخدام قبضتهم وباستخدام الرصاص. وما كان لمجتمع التسامح أن يبقى إلا إذا كان مستعدا في نهاية المطاف لتقييد مثل هؤلاء القوة. يجب أن نعتبر الدعوة إلى التعصب جريمة، تماما كما نعتبرها جريمة أي دعوة إلى القتل أو الاختطاف أو العودة إلى الاستعباد وتجارة الرقيق.
5 (4) مفارقة الحرية
The Paradox of Freedom
الحرية المطلقة كالتسامح المطلق، مفهوم يدمر ذاته، بل هو مفهوم قمين أن يؤدي إلى نقيضه. ذلك أنه في حالة فك كل القيود عن الحرية لن يكون هناك أي شيء يوقف القوي عن استعباد الضعيف (أو الخنوع). الحرية الكاملة إذن من شأنها أن تقضي على الحرية، ودعاة الحرية الكاملة هم في حقيقة الأمر أعداء للحرية مهما خلصت نياتهم. وقد أشار بوبر بصفة خاصة إلى مفارقة الحرية الاقتصادية التي تفتح الطريق أمام استغلال الغني للفقير وتؤدي إلى فقدان الفقراء لكل حريتهم الاقتصادية. هنا أيضا ينبغي أن يكون لدينا علاج سياسي، علاج شبيه بذلك الذي نستخدمه ضد العنف المسلح. لا بد إذن أن نشيد مؤسسات اجتماعية مدعمة بقوة الدولة لحماية الأضعف اقتصاديا من الأقوى. يعني ذلك بطبيعة الحال ضرورة التخلي عن سياسة عدم التدخل
Nonintervention (والتي يطلق عليها الاسم الذي يفتقر إلى الدقة
Lassez Faire ، دعه يعمل)، وعن سياسة الحرية الاقتصادية غير المحدودة، وتبني سياسة «التدخل»
Interventionism
التخطيطي للدولة في الشئون الاقتصادية، إذا شئنا ضمانا للحرية. وبتعبير آخر لا بد أن تنتهي الرأسمالية المطلقة ويحل محلها مذهب التدخل الاقتصادي.
6
يقول بوبر إن مناهضي مذهب تدخل الدولة يرتكبون خطأ التناقض الذاتي، فأية حرية يجب أن تحميها الدولة، حرية سوق العمل أم حرية الفقراء أن يتحدوا؟ فأيما قرار سيتخذ سوف يفضي بالضرورة إلى تدخل الدولة، إلى استخدام القوة السياسية المنظمة، للدولة والنقابات العمالية أيضا، في مجال الشئون الاقتصادية. وسوف يفضي في ظل جميع الظروف إلى اتساع المسئولية الاقتصادية للدولة شئنا ذلك أم أبينا. وبصفة أعم إذا الدولة لم تتدخل فقد تتدخل عندئذ تنظيمات شبه سياسية مثل الشركات والاتحادات الاحتكارية وما إليها، فتختزل حرية السوق إلى وهم. ومن جهة أخرى فإن من الأهمية بمكان أن ندرك أنه في غياب الحماية اللصيقة للسوق الحرة، فمن المحتم أن يتوقف النظام الاقتصادي برمته عن تأدية الغرض الوحيد المنوط به وهو أن يفي بحاجات المستهلك ... إن التخطيط الاقتصادي الذي لا يحقق الحرية الاقتصادية بهذا المعنى سوف ينتهي به المطاف إلى شيء قريب من الشمولية.
7
في جميع هذه الأحوال نجد أن غاية التسامح (أو الحرية) الممكنة هي دائما قدر محسوب وليس مطلقا، إذ لا بد للتسامح والحرية أن يكونا محدودين إن شئنا لهما أن يوجدا على الإطلاق. ومن البين أن التدخل الحكومي، وهو الضمان الوحيد لوجودهما، هو سلاح ذو حدين: فبدونه تموت الحرية، وبزيادته عن الحد تموت الحرية أيضا. وهكذا نجد أنفسنا نعود أدراجنا إلى ضرورة الضبط، والذي يعني إمكانية تغيير الحكومة بواسطة المحكومين كشرط أساسي للديمقراطية. غير أن هذا التغيير، وإن يكن شرطا ضروريا، ليس شرطا كافيا. فهو لا يضمن بقاء الحرية، إذ لا شيء يضمن بقاءها، فثمن الحرية هو اليقظة الدائمة. إن النظم أو المؤسسات، كما أشار بوبر، هي كالحصون ... ليس يكفي أن تكون شديدة البنيان بل يجب أن تكون مزودة أيضا برجال أشداء. (5) مفارقة الحكم (السيادة)
دأب الفلاسفة السياسيون بعامة أن يعدوا السؤال الأهم في مجالهم هو «من الذي ينبغي أن يحكم؟» ثم يبرروا جوابهم عنه كل حسب توجهه الخاص: شخص واحد، الشخص الحسيب، الغني، الحكيم، القوي، الخير، الأغلبية، البروليتاريا، إلخ. ولم يجل بخاطر أحد أن السؤال نفسه مغلوط! وذلك لأسباب عديدة، فهو أولا يفضي مباشرة إلى ما أسماه بوبر «مفارقة الحكم»: «هب أننا أسلمنا مقاليد السلطة ليد أكثر الناس حكمة. إنه قد تقتضيه حكمته العميقة أن يقول: «ليس أنا، بل الأحسن خلقا هو من ينبغي أن يحكم». فإذا تولى هذا زمام السلطة فقد يقتضيه ورعه أن يقول: «لا يليق بي أن أفرض إرادتي على الآخرين، ليس أنا ولكن الأغلبية هي التي يجب أن تحكم». وبعد تنصيب الأغلبية فإنها قد تقول: «نريد رجلا قويا يفرض النظام ويخبرنا ماذا نفعل».»
وثمة اعتراض ثان مفاده أن السؤال: «أين يجب أن يكون الحكم؟» يفترض مسبقا ضرورة وجود السلطة النهائية في مكان ما، وهو غير صحيح. ففي معظم المجتمعات هناك مراكز قوى مختلفة ومصطرعة إلى حد ما وليس مركز واحد يمكنه أن يدير الأمور كما شاء. وفي بعض المجتمعات نجد النفوذ موزعا منتشرا على نطاق واسع. فإذا سأل سائل: «نعم، ولكن أين تقع السلطة في النهاية؟»، فإن سؤاله يستبعد قبل أن يطرح إمكانية وجود ضبط على الحكام، حين يكون هذا الضبط هو أولى الأشياء جميعا بترسيخه. ومن ثم فهو سؤال يحمل في داخله متضمنات شمولية. إن السؤال الحيوي ليس «من يجب أن يحكم؟» بل «كيف نحول دون إساءة الحكم؟ كيف نتجنب حدوثها، وإذا حدثت كيف نتجنب عواقبها؟»
نخلص مما سبق إلى أن أفضل مجتمع يمكننا تحقيقه هو ذلك الذي يكفل لأعضائه أكبر قدر ممكن من الحرية، وأن هذا الحد الأقصى هو قدر منضبط تخلقه وتحفظه نظم مصممة لهذا الغرض ومدعمة بقوة الدولة، وهذا يستلزم تدخلا واسع النطاق للدولة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وأن الإفراط في التدخل أو التفريط فيه كلاهما يؤدي إلى نفس النتيجة وهي ضياع الحرية. وأن تجنب كلا الخطرين هو في التمسك بنظم معينة، أولها وأهمها جميعا الاحتفاظ بوسائل دستورية يتسنى بها للمحكومين تغيير من بيدهم مقاليد سلطة الدولة، واستبدال غيرهم ممن لهم سياسات مختلفة. وأن أي محاولة لإضعاف هذه النظم وإبطال دورها هي محاولة لتنصيب حكم شمولي ولا بد أن تمنع (بالقوة إذا لزم الأمر). إن استخدام القوة ضد الطغيان هو أمر له ما يبرره حتى لو كان الطغيان يتمتع بتأييد الأغلبية، والاستخدام الوحيد المبرر للقوة هو للمحافظة على النظم الحرة حيثما وجدت وتأسيسها حيثما غابت. (6) مذهب المنفعة السلبي
Negative Utilitarianism
يقدم بوبر في كتابه «المجتمع المفتوح وأعداؤه» مبدأ شاملا مرشدا للسياسة العامة هو «أقل قدر ممكن من المعاناة»، كمقابل لمبدأ جون ستيوارت مل «أكبر قدر من السعادة». يتميز مبدأ بوبر عن مبدأ مل بأنه يلفت الانتباه مباشرة إلى المشكلات. إذا تصورنا مثلا إدارة تعليمية نذرت نفسها لتقديم أفضل حظ تعليمي لأطفالها، فقد تجد نفسها في حيرة من أمرها، فماذا عساه يكون أفضل شيء؟ وماذا تفعل بالضبط لكي تحققه؟ ولعلها تشرع في التفكير في إنفاق مالها على بناء مدارس نموذجية. ولكن إذا نذرت هذه الإدارة التعليمية نفسها بدلا من ذلك لتقليل المساوئ والعيوب فإنها عندئذ ستلتفت مباشرة إلى أكثر المدارس احتياجا: تلك التي يعاني مشرفوها أسوأ المشكلات، والتي تجد فصولها أشد ازدحاما ومبانيها أشد تهالكا وتجهيزاتها التعليمية أقل من سواها، فتجعل لها الصدارة في مجال اهتمامها. يقتضي منهج بوبر هذه النتيجة دون مواربة: فبدلا من أن تحفز المرء على التفكير في تشييد يوتوبيات، فإنها تحفزه على أن يفتش عن الشرور الاجتماعية المحددة التي يرزح تحتها البشر، وأن يحاول جهده أن يزيلها. إنه منهج عملي قبل كل شيء، غير أنه منهج يكرس نفسه للتغيير. إنه ينطلق من الحرص على مصلحة البشر ويشتمل على رغبة نشطة ودائمة في إعادة تشكيل المؤسسات. «أقل قدر من الشقاء» ليس مجرد صيغة سلبية لمبدأ النفعيين «أكبر قدر من السعادة»، فهنا «لا تماثل منطقي»: إننا لا نعرف كيف نجعل الناس سعداء، ولكننا نعرف جيدا سبلا لتقليل شقائهم. ولعل القارئ قد لاحظ لتوه تماثلا بين هذه المسألة وبين مسألة «التحقيق» و«التكذيب» في العبارات العلمية. يقول بوبر: «أعتقد أنه ليس هناك تماثل
Symmetry
بين الشقاء والسعادة، أو بين الألم واللذة ... ليس هناك نداء أخلاقي عاجل لاجتراح فعل معين تجاه الشخص السعيد، ولكن هناك نداء عاجلا بالعون والنجدة تجاه الشقي.
8
من شأن هذه المقاربة أن تحفز دائما على الفعل العاجل لإصلاح ما يتكشف من العيوب، وأن تؤدي إلى التحسين المستمر. ذلك أن بوبر حريص على أن يجنبنا الوقوع في قبضة التصورات اليوتوبية التي ترتبط في التطبيق العملي بالنزعة الشمولية وتفتقر إلى التسامح. وقد عرض بوبر هذا المدخل الإصلاحي بنبرة خفيضة سمحة. ولعله لم يقصد منه أن يكون أكثر من قاعدة منهجية تهيب بنا أن نبدأ بدفع الضرر لا أن نقف عنده، ثم نتجاوز ذلك إلى ما هو أكثر ارتقاء وطموحا، لكي نصل إلى الصيغة الثانية «أكبر قدر من الحرية للأفراد لأن يعيشوا وفق ما يرغبون»، وهو أمر يقتضي سد احتياجات الجميع من التعليم والإسكان والصحة والفنون، إلخ. على أن يكون الهدف دائما هو توسيع نطاق الاختيارات المتاحة للأفراد، وبالتالي توسيع نطاق حريتهم.
كان بوبر يكتب «المجتمع المفتوح وأعداؤه» في وقت كان فيه هتلر يحرز نجاحا تلو الآخر، وقد قهر معظم دول أوروبا دولة بعد أخرى، وتقدم في عمق روسيا. كانت الحضارة الغربية تواجه تهديدا مباشرا بقدوم عهد مظلم جديد. في هذه الظروف كان بوبر مهموما بأن يفسر جاذبية الأفكار الشمولية، ويحاول أن يكشف تهافتها ما استطاع إلى ذلك من سبيل، وأن يعلي قيمة الحرية بأوسع معانيها. كان هذا برنامجا رحبا متراميا يضع فلسفة الديمقراطية الاجتماعية في أوسع سياقاتها، أوسعها زمانيا ومكانيا أيضا. يقول بوبر في مقدمة الطبعة الثانية من الكتاب: «... لعل ذلك أن يفسر لماذا جاءت نبرة الكتاب انفعالية وقاسية بدرجة ما كنت أحبذها، غير أن الوقت لم يكن وقت تأنق لفظي. لم يرد في الكتاب ذكر صريح للحرب ولا لأي أحداث أخرى كانت تدور رحاها، بل كان الكتاب محاولة لفهم تلك الأحداث وخلفيتها، وفهم عدد من المسائل التي كانت جديرة أن تطرح بعد كسب الحرب. وكان التوقع الخاص بتعاظم خطر الماركسية سببا في معالجة هذه النظرية بشيء من التفصيل ... إن الماركسية هي مجرد حلقة، فصل، مرحلة، واحدة من الأخطاء الكثيرة التي ارتكبناها في نضالنا الدائم والخطر من أجل بناء مجتمع أفضل وأكثر حرية.
لا عجب إذن أن أنحى علي البعض باللائمة لقسوتي في تناول ماركس، بينما اعتبره البعض نقدا رفيقا بالقياس إلى عنف الهجوم الذي خصصت به أفلاطون. غير أني ما زلت أستشعر الحاجة إلى النظر إلى أفلاطون بعين النقد الشديد، بالضبط لأن التوقير العام الذي يحظى به «الفيلسوف الإلهي» له مبرر حقيقي من إنجازه الفكري الغامر؛ أما ماركس فقد استهدف للكثير جدا من النقد على أساس شخصي وأخلاقي، ولذا فقد اقتضى الحال أن أتناول نظرياته بنقد عقلي قاس مقترن بفهم متعاطف لنبله الخلقي وجاذبيته الفكري. وقد شعرت، عن خطأ أو عن صواب، أن نقدي كان ساحقا، وأنني من ثم قد استطعت أن أبحث عن إسهامات ماركس الحقيقية وأفسر الشك لصالحه. ومن الواضح على كل حال أن من واجبنا أن نقدر قوة الخصم إذا ما أردنا أن نكسب حربا.»
9 (7) توتر الحضارة
The Strain of Civilization
يرتكز تفسير بوبر لجاذبية المذهب الشمولي
Totalitarianism
على مفهوم نفسي اجتماعي أطلق عليه «توتر (عسر ) الحضارة». وهو مفهوم يعترف بوبر أنه يتصل بسبب وثيق بذلك المفهوم الذي طرحه فرويد في كتابه «مساوئ الحضارة»
Civilization and its Discontents . إن أغلب الناس في الحقيقة لا يريدون الحرية! ذلك أن الحرية تقتضي المسئولية، وأغلب الناس يخشون المسئولية، فقبول المسئولية عن حياتنا يتضمن مواجهة مستمرة لاختيارات وقرارات صعبة وتحمل تبعاتها إذا كانت خاطئة. إن هذا عبء ثقيل، وكلنا يطوي جوانحه على رغبة، قد تكون طفلية، بأن يتملص من هذا العبء ويضع عن كاهله هذا الإصر. ولما كانت أقوى غرائزنا، رغم ذلك، هي غريزة البقاء وغريزة الأمان، فإننا لا نشاء أن نحول المسئولية لا إلى شخص أو شيء تزيد ثقتنا فيه على ثقتنا بأنفسنا. ولعل هذا هو السبب في أن الناس تريد حكامها أن تكون أفضل منها، وفي أن الناس تعتنق كثيرا من الاعتقادات غير المعقولة التي تدعم ثقتها بذلك وتضطرب غاية الاضطراب إذا تكشف لها العكس. إننا نريد أن نوكل أمرنا من هو أقدر منا، ونريد أن يتخذ القرارات الصعبة في حياتنا شخص أقوى منا غير أنه يحب لنا الخير، وليكن هذا والدا حازما ولكنه طيب، أو فليكن نسقا عمليا من الفكر أكثر منا حكمة وأقل خطأ. إننا نريد فوق كل شيء أن نتحرر من الخوف. ومعظم المخاوف، بما فيها المخاوف الأساسية كالخوف من الظلام والخوف من الموت، والخوف من الغرباء، والخوف من نتائج أفعالنا والخوف من المستقبل، يمكن أن ترد إلى «الخوف من المجهول». ومن ثم فنحن طوال الوقت نلح في طلب ما يطمئننا بأن «المجهول» هو في حقيقة الأمر «معلوم»! وأن ما يخبئه لنا هو شيء سنطلبه ونريده على كل حال، ونرحب بكل مذهب سياسي يطمئننا بأن المستقبل سيكون خيرا، وربما عاجلا جدا.
كانت هذه الحاجات مستوفاة في المجتمعات القبلية قبل النقدية وثوابتها اليقينية: السلطة، التراتب، الطقوس، التابو، إلخ. ومع انتقال الإنسان من المرحلة القبلية إلى المرحلة النقدية فرضت عليه مطالب جديدة مخيفة، لقد أخلي بين الحرية وبين الفرد، رمي الفرد بحريته! وصار عليه أن يسائل السلطة ويبحث في المسلمات، مما يهدد المجتمع بالاختلال ويهدد الفرد بالتخبط والضلال. ونتيجة لذلك كان هناك منذ البدء رد فعل ضد ذلك، رد فعل في المجتمع ككل ورد فعل داخل كل فرد (وهذا الرأي يعود جزئيا لفرويد). إننا نحظى بالحرية على حساب أمننا، وبالمساواة على حساب اعتبارنا لذاتنا، وبالوعي النقدي بذاتنا على حساب راحة بالنا. إنه ثمن باهظ، لا يدفعه منا أحد وهو سعيد، وكثير منا لا يودون دفعه على الإطلاق. لم يكن خيرة اليونان في شك من مزايا هذه الصفقة، ومن أنه «خير للإنسان أن يكون سقراطا ساخطا من أن يكون خنزيرا راضيا». ومع ذلك فقد حدثت ردة حكم فيها على سقراط بالموت بسبب تساؤله. ومنذ تلميذه أفلاطون فصاعدا لم نعدم عباقرة أفذاذا يناهضون أي تحول إلى المجتمع المفتوح. لقد أرادوا للمجتمع أن يعود إلى الوراء، أو الأمام، إلى ذلك المجتمع الذي كان أكثر انغلاقا.
10
مجمل القول إنه منذ بداية الفكر النقدي مع الفلاسفة السابقين على سقراط
كان هناك تيار آخر من الفكر يجري موازيا للفكر الحضاري الجديد (ولعل الأدق أن نقول يجري بداخله)، ذلك هو تيار الرجعية أو الردة المضادة لعسر الحضارة
Strain of Civilization ، والذي أنتج فلسفات تدعو إلى العودة إلى رحم القبيلة، إلى أمان المجتمع القبلي (المجتمع قبل النقدي)، أو إلى التقدم إلى مجتمع مستقبلي يوتوبي.
تفي كل من الرجعية واليوتوبية بحاجات متماثلة في النفس البشرية، وهما من ثم شبيهان تربطهما أواصر قربى وثيقة وعميقة وجوهرية، فكلاهما يرفض المجتمع القائم ويدعي أن هناك مجتمعا أمثل يوجد في موضع آخر من الزمان. وكلاهما من ثم يميل إلى أن يكون عنيفا ورومانسيا في الوقت نفسه. فأنت إذا رأيت أن الأمور تسير من سيئ إلى أسوأ، فسوف تود أن توقف عمليات التغير، وإذا رأيت أنك تؤسس لمجتمع كامل في المستقبل فسوف تود أن يدوم هذا المجتمع عندما تجده، وهذا يعني بالمثل أن توقف عمليات التغير الحالية. هكذا يهدف كل من الرجعي والمستقبلي إلى مجتمع مقيد. ولما كان التغير أمرا لا يمكن منعه إلا بأقسى وسائل الضبط الاجتماعي ، بمنع الناس من المبادرة بأي فعل قد تكون له عواقب اجتماعية خطيرة، فإن كلا التوجهين الماضوي والمستقبلي ينتهي إلى نزعة شمولية. هذا المآل قابع في كلا التصورين منذ البداية، وإن كان وقوعه يخيل للناس أن النظرية قد حرفت. لقد اعتدنا أن نسمع عن هذه النظرية الرجعية أو تلك (القول مثلا بأن أفضل حكم هو حكم المستبد العادل) أو عن نظرية المستقبل السعيد (الشيوعية مثلا) أنها نظرية جد ممتازة كنظرية وإن كانت لسوء الحظ لا تعمل كما يجب عندما توضع على صعيد التطبيق العملي. وهذه مغالطة كبيرة، فإذا كانت النظرية فاشلة على الصعيد العملي، فهذا يكفي لإثبات أنها على خطأ نظري (وهذا بغض النظر عن أي شيء هو مغزى إجراء التجربة العلمية).
ورغم أن المحصلة العملية للنظريات الرجعية واليوتوبية هي مجتمعات من مثل مجتمعات هتلر وستالين، فإن التوق إلى مجتمع كامل ليس شيئا نابعا من الخبث البشري، بل العكس هو الصحيح. إن معظم أمثلة التطرف المروع قد أتت بها قناعة أخلاقية صادقة لأناس مثاليين كانت نياتهم حسنة، مثلما كانت نيات محاكم التفتيش الإسبانية. وإن الأوتوقراطيات والحروب الأيديولوجية والدينية التي تشكل شطرا كبيرا من التاريخ الغربي لهي تجسيد ساخر للمثل القائل: «إن الطريق إلى جهنم مفروش بالنوايا الطيبة.»
كما أن التوق إلى مجتمع كامل ليس شيئا نابعا من الحماقة البشرية، ولا الحمقى هم وحدهم رواد هذا الطريق. فالحق أن التبرم بالمجتمع القائم والرغبة في الخروج عليه هما من سمات الأذكياء من الناس، بينما نجد الأغبياء وضيقي الأفق أميل إلى المحافظة وإلى قبول الأشياء كما وجدوها. ومن ثم فإن الثورة ضد الحضارة (أي ضد حقائق الحرية والتسامح وما تجرها من تعددية وصراع ومخاطر وقبول للتغير المفاجئ الجموح) كانت الريادة فيها لنفر من أعظم قادة الفكر البشري، أفرزت عبقريتهم «نزعة نخبوية»
Elitism
تتمثل في ازدرائهم للتقليدية الخاملة عند دعامة الناس، وفي رفضهم للمساواة والديمقراطية. وفي هجومه على أعداء المجتمع المفتوح ينسب بوبر إلى معظم هؤلاء أنبل الدوافع، وينسب إلى بعضهم أعلى مستويات الذكاء العقلي، ويعترف أنهم يخاطبون فينا بعضا من أسمى غرائزنا، وأعمق مخاوفنا أيضا.
11 (8) طريقة جديدة في مهاجمة الخصوم
في الجزء الأول من «المجتمع المفتوح» نجد بوبر يتناول أفلاطون بوصفه أعلى مثال لفيلسوف عبقري تجسد نظريته السياسية رغبة في العودة إلى الماضي، ويقدم نقدا مفصلا لهذه النظرية. وفي الجزء الثاني يتناول ماركس من بين غيره بوصفه الفيلسوف الأكبر الذي تقدم نظريته إسقاطا لمستقبل كامل يتصوره في ذهنه. وقد استن بوبر في مواجهة خصومه الفكريين مبدأ جديدا يعد في ذاته درسا من أهم الدروس المنهجية المستفادة من كتاباته. لقد دأب المفكرون طوال تاريخ الجدل والمناظرة على مهاجمة النقاط الضعيفة في دعوى الخصوم، لا نستثني من ذلك أعتى المجادلين من أمثال فولتير. غير أن لهذه الطريقة عيوبا كبيرة، ذلك أن لكل دعوى جوانب قوية وجوانب أضعف. ومن البديهي أن جاذبية أي دعوى إنما تكمن في جوانبها القوية دون الضعيفة؛ ولذا فإن مهاجمة الجوانب الضعيفة في النظرية قد تحرج دعاتها ولكنها لن تقوض الجوانب القوية التي يرتكزون عليها بدرجة أكبر. لعل هذا هو السر في أننا قلما نجد الناس تتنازل عن آرائها بعد أن تخسر جدلا. فالأغلب أن تؤدي مثل هذه الخسارة في النهاية إلى تقوية موقفهم ، إذ أنها تدفعهم إلى التخلي عن الجوانب الضعيفة من نظريتهم أو تقويتها.
أما بوبر فقد كانت طريقته هي أن يواجه نظرية الخصم من زاويتها القوية، بل يحاول تقوية نظرية خصمه أكثر فأكثر وسد ثغرتها وتزويدها بمزيد من الحجج والدعامات قبل أن يشرع في شن هجومه. إنه يريد أن يجعل من خصمه «خصما جديرا بمهاجمته»، وأن ينقض على نظريته وهي في أوج قوتها وجاذبيتها. إنها طريقة مثيرة وشائقة، ونتائجها - إذا هي نجحت - قاصمة مدمرة. ومن الصعب أن تقوم لنظرية قائمة بعد أن يكون كل ما لديها من ذخر ومصادر إمداد قد تم تدميره. هكذا فعل بوبر حين تناول ماركس بالنقد المفصل، الأمر الذي دفع أشعيا برلين إلى أن يقول في كتابه عن سيرة كارل ماركس إن نقد بوبر في «المجتمع المفتوح » هو أقوى نقد للمذاهب الفلسفية والتاريخية للماركسية يوجهه إليها أي كاتب من الأحياء. ولم يتردد بريان ماجي في أن يعلن أنه يرى نفس الرأي، وأنه لا يعرف كيف يمكن لأي عاقل من البشر أن يفرغ من قراءة نقد بوبر لماركس ويبقى بعد ذلك ماركسيا. (9) أفلاطون
في الجزء الأول من «المجتمع المفتوح» يحاول بوبر أن يضع يده على السبب الذي دفع أفلاطون إلى الدعوة لأفكار شمولية. يقدم لنا هذا الجزء صورة قلمية للفتى أفلاطون، وهو يتأمل بانزعاج مجتمع أثينا القبلي يلفظ أنفاسه ويتحول شيئا فشيئا إلى مجتمع أكثر تحررا وانفتاحا، وتلتقي فيه الفوضى بفقدان الامتيازات الاجتماعية. ويؤكد بوبر روعة تحليل أفلاطون الاجتماعي لأسباب التغير الذي اعترى أثينا واقتراحاته لكبح التغير ووقف الانحدار الذي أتى به.
في محاولة لفهم وتفسير العالم الاجتماعي المتغير كما عاناه، انتهى أفلاطون إلى تأسيس علم اجتماع تاريخاني
Historicist
منهجي مفصل تفصيلا كبيرا، فنظر إلى الحكومات القائمة بوصفها نسخا مضمحلة لصورة أو مثال ثابت. وجهد لأن يعيد تشييد هذه الصورة أو هذا المثال للدولة، أو على الأقل لأن يرسم مجتمعا يقارب هذا المثال قدر المستطاع. وقد كانت مادته البنائية التي استخدمها لإعادة التشييد - إلى جانب التعاليم القديمة - هي نتائج تحليله للنظم الاجتماعية في إسبرطة وكريت، وهي أقدم صور الحياة الاجتماعية التي استطاع أن يجدها في بلاد اليونان، حيث تبين فيها أفلاطون صورا موقوفة لمجتمعات قبلية أقدم.
وبميسورنا حين نحلل علم الاجتماع الأفلاطوني أن نقف على برنامجه السياسي. كان لأفلاطون مطلبان أساسيان: الأول يتعلق بنظريته المثالية عن التغير والثبات، والثاني يتعلق بنزعته الطبيعية
Naturalism . أما النظرية المثالية فتتلخص في: «أوقف كل تغير سياسي!» فالتغير شر والثبات سمة إلهية. ومن الممكن وقف التغير إذا جعلنا الدولة نسخة دقيقة لأصلها، أي لمثال المدينة أو صورتها. فإذا سأل سائل: كيف يمكن تحقيق ذلك على الصعيد العملي، فإنه يجد الإجابة في صيغة النزعة الطبيعية «العودة إلى الطبيعة»، العودة إلى الدولة الأصلية لآبائنا، الدولة البدائية التي تأسست وفقا للطبيعة البشرية، ولذا فهي ثابتة مستقرة، العودة إلى المجتمع الأبوي القبلي لما قبل «السقوط»
The Fall ، إلى الحكم الطبقي الطبيعي، حكم القلة الحكماء للكثرة الجاهلة.
من هذين المطلبين يمكن استخلاص برنامج أفلاطون السياسي بجميع عناصره، وهي: (1)
الفصل الصارم بين الطبقات: أي أن الطبقة الحاكمة المكونة من رعاة المجتمع وحراسه يجب أن تفصل تماما عن القطيع البشري. (2)
مصير الدولة هو مصير الطبقة الحاكمة: الاهتمام الاستثنائي بهذه الطبقة وبوحدتها، القواعد الصارمة لتربيتها وتعليمها، الإشراف اللصيق عليها، شيوعية مصالح أعضائها. (3)
الطبقة الحاكمة تحتكر أشياء مثل التدريب العسكري وحق حمل السلاح والتعليم والتدريب، وتعفى من المشاركة في الأنشطة الاقتصادية وبخاصة التماس الرزق. (4)
ضرورة الرقابة على الأنشطة الفكرية للطبقة الحاكمة، والدعاية المستمرة الهادفة إلى تشكيل عقولهم وتوحيدها، ومنع كل تجديد في التعليم والتشريع والدين. (5)
يجب أن تكون الدولة مكتفية بذاتها، يجب أن تسعى للاكتفاء الذاتي الاقتصادي، وإلا لجأ الحكام إما إلى الاعتماد على التجار وإما إلى أن يصبحوا هم أنفسهم تجارا. أما الخيار الأول فسوف يضعف قدرتهم، وأما الثاني فسوف يهدد وحدتهم وثبات دولتهم.
ليس بدعا أن يعد هذا البرنامج في رأي بوبر برنامجا شموليا. ومن المؤكد أنه يرتكز على علم اجتماع تاريخاني. وليس يشفع لهذا البرنامج أن نوايا صاحبه كانت حسنة، وأنه كان يهدف إلى سعادة المواطنين وحكم العدالة، مفسرا السعادة والعدالة تفسيرا طبيعيا
Naturalistic ، أي سعادة وعدالة مناسبة لطبيعة الكل.
12
إنه في نهاية التحليل يريد أن يسير بالمجتمع في الطريق المفروش بالنوايا الطيبة، والمؤدي إلى الجحيم.
ولكي يكشف بوبر التزام أفلاطون وأتباعه بالشمولية، فقد شرع يوضح المثل الليبرالية والنظام الاجتماعي الديمقراطي، ويبين كيف انغمس أفلاطون في تعريفات مقنعة فيما هو يحاول أن يثبت أن جمهوريته الشمولية عادلة. ويشن بوبر أيضا هجوما عاما على فكرة أن الفلسفة يجب أن تسعى إلى معرفة ماهية الألفاظ الكلية من مثل العدالة، الديمقراطية، الطغيان، إلخ. ويؤكد بوبر أن العلم الطبيعي يستخدم منهج النزعة الاسمية
Nominalism
لا الماهوية
Essentialism ، وأن على العلم الاجتماعي والفلسفة أن يحذوا حذوه.
13
يعرض بوبر لفكرة الطغيان وهو متنبه لكراهة أفلاطون لحكم الأغلبية باعتباره حكم الرعاع أو حكم الأسوأ. ويخلص بوبر إلى أن المسألة ليست مسألة الشعبية، فبعض أصناف الطغاة يتمتعون بشعبية كبيرة، ويمكنهم كسب الانتخابات بسهولة. والمجتمع المفتوح والليبرالي ليس مجرد حكومة منتخبة شعبيا. ولا المسألة مسألة العدل والخير، إذ ليس في ذلك ما يقدم ضمانا ضد طغيان يعيش باسم العدل والخير. ووفقا لنظريته في العلم، وفي المعرفة بعامة، يقترح بوبر «مسارا سلبيا»
via Negative : إذ ليست المسألة مسألة ما هو النظام الذي نريده، بل ماذا نفعل للأنظمة التي لا نريدها. ومشكلة الطغيان هي أن المواطنين لا يملكون طرقا سلمية يتخلصون بها منه إذا أرادوا ذلك، الأمر الذي حدا بكارل بوبر إلى أن يقدم معيارا للديمقراطية أصبح اليوم شائعا ومتفقا عليه:
الديمقراطية هي ذلك النظام السياسي الذي يتيح للمواطنين أن يخلصوا أنفسهم من حكومة لا يرغبونها، دون الحاجة إلى اللجوء إلى العنف.
وهو يعرض سؤال أفلاطون: «من الذي ينبغي أن يحكم؟» (وجميع الأسئلة الشبيهة)، ويبين أن السؤال نفسه يحمل متضمنات شمولية، مفادها أن أيا من كان هذا الحاكم فهو «أهل للحكم». ويستبدل بهذا السؤال سؤالا عمليا هو: «كيف يمكننا أن نتخلص من الحكومات السيئة بدون عنف؟» وهو سؤال يتضمن أن الحكام هم في حالة «تعهد»
مستمرة. وهو ما يعني أن بوبر ينظر نظرة متشائمة إلى الحكومات ويراها عاجزة بدرجة أو بأخرى وقمينة بإساءة استخدام السلطة، ولا يكبحها عن هذا إلا نظام سياسي يتيح لها أن تحكم في حدود احتمال مواطنين بمكنتهم سحب تأييدهم لها في أي وقت. وحتى هذا غير كاف، فنظرياتنا في المؤسسات والنظم غير معصومة، والحكمة تفرض علينا اليقظة الدائمة.
لم يسلم النقد الذي وجهه بوبر للفكر السياسي الأفلاطوني هو ذاته من النقد، ولم يرق لكثير من المفكرين. غير أن الفلاسفة الأكثر أهمية أيدوا بوبر في هذا النقد وأشادوا به. فكتب برتراند رسل: «إن هجومه على أفلاطون، رغم أنه غير تقليدي، هو في رأيي صائب تماما.» وكتب جلبرت رايل، وهو نفسه أكاديمي متخصص في أفلاطون، في مراجعته لكتاب بوبر في العقل: «إن دراساته في التاريخ اليوناني والفكر اليوناني كانت بلا شك عميقة ومبتكرة، وإن تفسيراتنا لأفلاطون لن تعود بعدها أبدا كما كانت من قبل.» وقد عاد رايل فأكد حكمه هذا بعد ربع قرن من الزمن في حديث لإذاعة
BBC (28 يوليو عام 1972).
أرسطو: كان فكر أرسطو متأثرا تماما بفكر أفلاطون، وهو في مجال السياسة يظاهر آراء أستاذه عن العبودية (بعض البشر أحرار بالطبيعة وبعضهم عبيد بالطبيعة ... الهيلينيون أحرار والبرابرة عبيد ... العبد خلو من ملكة العقل). ونحن ندين لأرسطو بالفضل في معظم ما نعرفه عن الحركة الأثينية المضادة للعبودية. فمن خلال انتقاده لحجج دعاة الحرية فقد حفظ لنا بعض أقوالهم.
14
ولأرسطو أثر كبير على فكر هيجل السياسي. فقد ذهب هيجل إلى أن جميع العلاقات الشخصية يمكن ردها إلى العلاقة الأساسية بين السيد والعبد ... بين السيطرة والخضوع، وعلى كل امرئ أن يناضل لكي يؤكد ذاته، ومن افتقر إلى الشجاعة والقدرة على حفظ استقلاليته فلا بد أن يكون مآله إلى العبودية. هذه النظرة الهيجلية الجذابة عن العلاقات الشخصية كان لها بالطبع ما يناظرها في العلاقات الدولية. فالأمم أيضا يجب أن تؤكد ذاتها على مسرح التاريخ، ومن واجبها أن تحاول السيطرة على العالم. هذه النتائج البعيدة المدى كانت جميعا هاجعة لأكثر من عشرين قرنا، مخبوءة وغير منماة، في مذهب الماهية
Essentialism
الأرسطي. لقد كانت الأرسطية أخصب وأحفل بالنتائج مما يظن معظم دعاتها.
15 (10) هيجل
الحق أن الفصل الذي عقده بوبر لفلسفة هيجل السياسية هو أفقر الفصول بالنقد الموضوعي والرأي السديد، وأحفلها بالقدح الشخصي والسب المقذع. فهو لا يرى في هذا المارد الفكري الهائل أكثر من دجال مبين يتعمد استخدام أسلوب طنان ملغز لكي يواري الخواء الحقيقي لفكره، وهدفه الوحيد هو أن يخدم سيده الملك البروسي الرجعي الذي رد بدوره الجميل فيما أسبغه على هيجل من مكانة ونفوذ. لقد تمتع هيجل بنفوذ استثنائي في مجال العلوم الإنسانية والفلسفة، وعلى جميع الأجنحة السياسية: اليسار الماركسي المتطرف، والوسط المحافظ، واليمين الفاشي المتطرف. فاليسار قد أبدل بفكرة هيجل عن حرب الأمم فكرة حرب الطبقات، واليمين المتطرف أبدل بها الحرب العنصرية. غير أن كليهما قد اقتفى أثر هيجل عن وعي إلى حد كبير. أما الوسط المحافظ فهو أقل وعيا بدينه لهيجل.
يتساءل بوبر: «كيف يمكن تفسير كل هذا النفوذ؟» ثم يقدم بعض التفسيرات:
يستشهد بوبر برأي شوبنهاور حول سر نفوذ هيجل، فيقول إن فلسفة هيجل كانت تلهمها دوافع خفية، هي مصلحته الخاصة في عودة الحكومة البروسية لفردريك وليم الثالث، وهي بالتالي يجب ألا تؤخذ مأخذ الجد. لقد كانت الحكومات تستخدم الفلسفة كأداة لخدمة مصالحها، والفلاسفة قد جعلوا منها تجارة. ومن ذا الذي ينتظر من الحقيقة أن تظهر بهذه الطريقة إلى النور كمجرد نتاج ثانوي؟
16
لسبب ما، دأب الفلاسفة على أن يحيطوا أنفسهم بشيء من مناخ السحرة. ودأب الناس على أن يعدوا الفلسفة شيئا عجيبا وعويصا يتعامل مع تلك الأسرار التي يتعامل معها الدين، ولكن ليس بالطريقة التي يمكن أن يفهمها عامة الناس. إنها تعد أعمق من أن يفهمها هؤلاء، وتعد لاهوت المفكرين والمثقفين والحكماء. والهيجلية تطابق هذه المواصفات أروع مطابقة. إنها تطابق ما تفترضه هذه الخزعبلات الشعبية في الفلسفة. فهي تعرف كل شيء عن كل شيء، ولديها إجابة جاهزة عن كل سؤال (وحقا، من ذا الذي يمكنه أن يقسم أن الجواب غير صحيح؟) لقد كان هيجل، وهو مصدر كل التاريخانية المعاصرة، تابعا مباشرا لهيراقليطس وأفلاطون وأرسطو. وقد حقق أعجب العجائب، فهو ساحر قدير، وبميسور طريقته الديالكتيكية الفعالة أن تخرج أرانب فيزيقية حقيقية من قبعات ميتافيزيقية خالصة. وهكذا نجح هيجل منطلقا من محاورة طيماوس لأفلاطون وشعوذتها عن العدد في أن يثبت بالطرق الفلسفية الخالصة (بعد «أسس»
نيوتن بمائة وأربع عشرة سنة) أن الكواكب لا بد لها أن تتحرك وفق قوانين كبلر! بل إنه تمكن من استنباط الموقع الفعلي للكواكب، وبذلك أثبت أنه لا يمكن أن يقع كوكب ما بين المريخ والمشتري (ولسوء حظه فقد فاته أن مثل هذا الكوكب كان قد اكتشف قبل ذلك ببضعة أشهر).
17
ذنب إيمانويل كانت: في كتابه «نقد العقل الخالص» يحذر كانت، متأثرا في ذلك بهيوم، من أن نرخي العنان للتأمل النظري المحض دون سند، إذ إنه يؤدي إلى التورط في «النقائض»
Antinomies
وإلى إنتاج الهراء والوهم والدوجماطيقية العقيمة والتظاهر السطحي بمعرفة كل شيء. حاول كانت أن يبين أن كل حكم أو دعوى ميتافيزيقية عن بداية العالم في الزمان مثلا أو عن وجود كائن ضروري أو عن حرية الإرادة أو عن قابلية الانقسام اللانهائي للمكان، من الممكن أن تقابل بدعوى مضادة تنطلق من نفس الفروض ويبرهن عليها بنفس الدرجة من البينة.
كان هدف كانت ومقصده هو أن يوقف مرة وإلى الأبد ذلك التدفق اللعين للمتفيهقين في استخدام الجدل العقلي. وقد كانت النتيجة أنهم توقفوا عن محاولة التعليم ولم يتوقفوا عن اختلاب العامة. والحق أن كانت يتحمل شطرا كبيرا من المسئولية عن ذلك! لأن الأسلوب العويص المستغلق الذي كتب به «نقد العقل الخالص» (والذي كتبه بعجلة كبيرة، وإن جاءت بعد سنين طويلة من التأمل) قد أسهم إسهاما كبيرا في انحدار مستوى النصوع والوضوح في الكتابة النظرية الألمانية.
18 (11) ماركس
يقول بوبر في «المجتمع المفتوح»: «كانت نظرية الثورات المضادة للحرية هي دائما أن تستثمر العواطف لا أن تهدر جهدك في محاولات غير مجدية لتحطيمها». وكم رأينا أنبل الأفكار الإنسانية يهتف بها ألد أعدائها، وينجحون بذلك في اختراق المعسكر الإنساني متخفين في ثياب أنصار، فيوقعون الفرقة والاضطراب الشديد. وكم كتب النجاح لهذه الخطة الماكرة، كما نشهد من أن العديد من الإنسانيين الحقيقيين ما يزالون يوقرون فكرة أفلاطون عن «العدالة»، وفكرة العصور الوسطى عن السلطة «المسيحية»، وفكرة روسو عن «الإرادة العامة»، وأفكار فخته وهيجل عن «الحرية القومية». غير أن هذه الطريقة في اختراق المعسكر الإنساني وتفريقه وتشتيته وزرع طابور خامس غير ملحوظ (وبالتالي مضاعف الضرر)، هذه الطريقة لم تبلغ أوج نجاحها إلا بعد أن رسخت الهيجلية نفسها كأساس لواحدة من الحركات الإنسانية الحقيقية: الماركسية، وهي أنقى صورة حتى الآن من صور التاريخانية وأكثرها نضجا وأشدها خطرا.
وإنه لمن المثير للإغراء أن ينكب المرء على تفحص وجوه الشبه بين الماركسية (الجناح الأيسر للهيجلية) ونظيرها الفاشي (الجناح الأيمن للهيجلية). غير أن من الإجحاف أن نغفل وجوه الاختلاف بينهما. فرغم اتفاق الماركسية والهيجلية تقريبا في الأساس الفكري، فقد كان للماركسية دوافع إنسانية لا شك فيها. كما أن ماركس على العكس من اليمين الهيجلي قد حاول محاولة صادقة لتطبيق المناهج العقلية على أكثر مشكلات الحياة الاجتماعية إلحاحا. وإن فشل هذه المحاولة لا ينال من قيمتها، فالعلم يتقدم بالمحاولة والخطأ. وقد حاول ماركس، ورغم أنه أخطأ في مذاهبه الرئيسية فإن محاولته لم تذهب سدى. لقد فتح أعيننا على أشياء كثيرة، وجعل العودة إلى علم الاجتماع السابق عليه أمرا لا يمكن تصوره. وإن جميع الكتاب المحدثين مدينون لماركس حتى لو لم يعلموا بذلك. وإن هذا الدين لمستحق بصفة خاصة على أولئك الذين يختلفون معه في مذهبه، وأنا واحد منهم».
19
ومن الإنصاف لماركس أن نتبين إخلاصه. إن سعة أفقه وحسه بالوقائع وكراهته للحشو اللفظي (الأخلاقي بخاصة) يجعل منه واحدا من أشد المنافحين في العالم ضد الرياء والفريسية. لقد كان متحرقا لنجدة المظلومين وكان على وعي واضح بضرورة إثبات ذاته في الأفعال لا في الأقوال وحدها. ولما كانت مواهبه الرئيسية نظرية فقد كرس جهدا ضخما لكي يصوغ ما اعتقد أنه أسلحة علمية للنضال من أجل تحسين أحوال الأغلبية العظمى من بني البشر. وإن إخلاصه في بحثه عن الحقيقة وأمانته الفكرية لتميزه عن كثير من أتباعه. كان اهتمام ماركس بالعلم الاجتماعي والفلسفة الاجتماعية اهتماما عمليا بالدرجة الأساس، فقد رأى في المعرفة وسيلة لتعزيز التقدم الإنساني.
يقول بوبر: «لماذا إذن أهاجم ماركس على الرغم من فضائله؟ كان ماركس، فيما أعتقد، نبيا اختص بمسار التاريخ، ولم تصدق نبوءاته. ولكن هذه ليست تهمته الرئيسية، فالأهم من ذلك أنه غرر بأعداد من خيرة العقول إلى الاعتقاد بأن التنبؤ التاريخي هو الطريقة العلمية لمقاربة المشكلات الاجتماعية. فماركس مسئول عن التأثير المخرب الذي يحدثه المذهب الفكري التاريخاني داخل صفوف أولئك الذين يودون نصرة قضية المجتمع المفتوح.»
20
النزعة السيكولوجية عند مل: «النزعة السيكولوجية» أو «المذهب السيكولوجي»
هو ذلك الاتجاه الذي يريد أن يرد كل شيء إلى السيكولوجيا، بما في ذلك المنطق والجمال والتاريخ والاجتماع، إلخ. يقول مل: «إن جميع ظواهر المجتمع هي ظواهر للطبيعة البشرية، وقوانينه هي قوانين هذه الظواهر الخاصة بالطبيعة الإنسانية الفردية. فالبشر حين يضمون معا لا يتحولون إلى صنف آخر من الجوهر». هذه الملاحظة الأخيرة لمل تمثل جانبا من أهم الجوانب المضيئة للنزعة السيكولوجية، وأعني مناوأتها الحصيفة للاتجاه الجمعي
Collectivism
وللنزعة الكلية
Holism ، ومقاومتها لإغراء التصورات الرومانسية لروسو وهيجل من مثل «الإرادة العامة» أو «الروح القومي»، أو ربما «عقل الجماعة».
21 (12) المذهب السيكولوجي، والتاريخانية، ونظريات المؤامرة
إن تورط المذهب السيكولوجي في فكرة المنشأ السيكولوجي للمجتمع يمثل في رأي بوبر حجة حاسمة، غير أن أهم نقد يوجه إلى المذهب السيكولوجي هو فشل هذا المذهب في فهم المهمة الرئيسية للعلوم الاجتماعية التفسيرية. ليست هذه المهمة كما يظن التاريخانيون هي التنبؤ بالمسار المستقبلي للتاريخ، وإنما هي الكشف عن الآليات الخفية التي تقف في طريق الفعل الاجتماعي؛ ولنقل هي دراسة المادة أو النسيج الاجتماعي: عناده وهشاشته ونزوعه إلى الردة وصعوبة مراسه ومقاومته لمحاولاتنا تشكيله وتناوله.
ولكي يوضح بوبر هذه النقطة، فإنه يعرض لنظرية تحظى بقبول عريض، والتي يعدها رغم ذلك مضادة تماما للغرض الحقيقي للعلم الاجتماعي. ويطلق بوبر على هذه النظرية «نظرية المؤامرة في المجتمع»
Conspiracy Theory of Society . تعني نظرية المؤامرة تلك الوجهة من الرأي القائلة بأن تفسير أي ظاهرة اجتماعية يتألف من كشف أولئك الأشخاص أو الجماعات الذين لهم مصلحة في وقوع هذه الظاهرة (وأحيانا ما تكون هذه مصلحة مستترة يجب أن يتم الكشف عنها أولا)، والذين خططوا لها وتواطئوا على إحداثها.
تنبع هذه النظرة إلى أهداف العلوم الاجتماعية بطبيعة الحال، من نظرية مغلوطة مفادها أنه ما من شيء يحدث في المجتمع (وبخاصة أشياء من قبيل الحرب، البطالة، الفقر ... إلخ، والتي يبغضها الناس) إلا هو نتاج لتدبير مباشر من جانب أشخاص أو جماعات معينة ذات نفوذ. تحظى هذه النظرية بقبول عريض، وهي أقدم من المذهب التاريخي (التاريخانية)
Historicism (والذي يتبين من صيغته اللاهوتية البدائية أنه مشتق من نظرية المؤامرة). وهي في صيغتها الحديثة تعد نتيجة نموذجية لعلمنة إحدى الخرافات اللاهوتية. إن الاعتقاد في آلهة هومرية تضطلع مؤامراتها بتفسير تاريخ حرب طروادة قد انتهى. لقد ولى زمان الآلهة الهومرية. غير أن مكانها قد ملأه «بشر» أو جماعات ذات نفوذ - جماعات ضغط مشئومة يتحمل مكرها مسئولية جميع الشرور التي نعاني منها - من قبيل: «حكماء صهيون»، «الاحتكاريون»، «الرأسماليون»، «الإمبرياليون» ... إلخ.
لا يود بوبر أن نفهم من ذلك أن المؤامرات لا تحدث ولا تحاك على الإطلاق. إذ هي على العكس ظاهرة اجتماعية صميمة. وتبرز أهمية المؤامرات مثلا كلما تقلد الحكم أناس يؤمنون بنظرية المؤامرة. هنالك يتبنى هؤلاء (وبخاصة من يؤمنون بصدق أنهم يعرفون كيف يحققون الفردوس على الأرض) نظرية المؤامرة وينخرطون في نظرية مؤامرة مضادة موجهة إلى متآمرين لا وجود لهم. ذلك أن التفسير الوحيد الذي يستطيعونه لفشلهم في تحقيق جنتهم هو النوايا الشريرة لذلك «الشيطان» الذي له مصلحة مكتسبة في الجحيم!
إن المؤامرات لتحدث، وعلينا أن نعترف بذلك. غير أن الحقيقة المثيرة التي تكذب نظرية المؤامرة، على الرغم من حدوث المؤامرات، هي أن المؤامرات قلما تنجح في النهاية، وأن المتآمرين قلما يتمون مؤامرتهم!
ولكن لماذا تفشل المؤامرات؟ لماذا يتسع البون بين الإنجازات والأماني؟ الجواب أن هكذا الحال دائما في الحياة الاجتماعية، بمؤامرة أو بغير مؤامرة. فالحياة الاجتماعية ليست مجرد اختبار قوة بين جماعات متعارضة: إنها فعل داخل إطار رجوع هش من المؤسسات والتعاليم، وهي تخلق - بمعزل عن أي فعل مضاد واع - كثيرا من ردود الأفعال (الاستجابات) غير المتوقعة في هذا الإطار، ولا يمكن توقعها في بعض الأحيان.
إن المهمة الرئيسية للعلوم الاجتماعية هي محاولة تحليل هذه الاستجابات والتنبؤ بها قدر المستطاع. إنها مهمة تحليل الآثار الاجتماعية غير المقصودة للأفعال الإنسانية المقصودة، تلك الآثار التي أغفلت كل من نظرية المؤامرة والمذهب السيكولوجي دلالتها كما أشرنا. إن الفعل الذي يمضي وفق المقصود تماما لا يخلق مشكلة للعلم الاجتماعي (اللهم إلا تفسير لماذا خلت هذه الحالة الخاصة من أي آثار غير مقصودة ). وقد سبق أن ضربنا مثلا للآثار غير المقصودة لأفعالنا بواحد من أشد الأفعال الاقتصادية بدائية، فإذا أراد رجل أن يشتري منزلا بصفة عاجلة، فإن لنا أن نفترض أنه لا يرغب في رفع سعر المنازل في السوق. غير أن واقعة ظهوره في السوق كمشتر هي نفسها ستنزع إلى رفع أسعار السوق. وتنطبق على البائع ملاحظات مثيلة. ولنأخذ مثالا آخر من مجال مختلف تماما. إذا قرر رجل أن يؤمن على حياته، فمن غير المحتمل أنه يقصد تشجيع بعض الناس على استثمار ما لهم في أسهم التأمين، غير أنه سيفعل ذلك! هكذا يتبدى بوضوح أن نتائج أفعالنا ليست كلها نتائج مقصودة، ويتبين بالتالي أن نظرية المؤامرة لا يمكن أن تصدق؛ لأنها تقول بأن جميع النتائج، حتى التي لا تبدو لأي شخص مقصودة للنظرة الأولى، هي نتائج مقصودة لأفعال أناس لديهم مصلحة في هذه النتائج.
والأمثلة التي ذكرناها لا تفند المذهب السيكولوجي بنفس السهولة التي تفند بها نظرية المؤامرة، إذ يمكن للمرء أن يرد بأن «معرفة» البائعين بوجود المشترين في السوق، و«أملهم» في رفع السعر (أي - بتعبير آخر - عوامل سيكولوجية) هي التي تفسر النتائج المذكورة. وهذا صحيح تماما بطبيعة الحال، غير أن علينا ألا ننسى أن هذه المعرفة وهذا الأمل ليسا معطيات نهائية للطبيعة البشرية، وأنهما بدورهما يقبلان التفسير في ضوء الموقف الاجتماعي؛ موقف السوق (وبعبارة أخرى يمكننا القول بأن «الاجتماعي» هنا يفسر «النفسي» لا العكس).
22
في القلب من فكر ماركس ادعاؤه علمية مذهبه، وزعمه بأنه نيوتن (أو دارون) العلوم الاجتماعية: التاريخية والسياسية والاقتصادية. اعتقد ماركس أن نمو المجتمعات محكوم بقوانين علمية، وأنه مكتشف هذه القوانين. وهو يتصور العلم تصورا نيوتونيا، وهو أمر لم تكن له حيلة فيه ولا لأي معاصر له. ويرى أن نيوتن قد اكتشف القوانين الطبيعية التي تحكم حركة المادة في المكان، بحيث يمكننا أن نتنبأ بمواقيت شروق الشمس وغروبها، والكسوف والخسوف، وحركات المد والجزر، إلخ. ولكن على الرغم من أن معرفتنا بقوانين الطبيعة تمكننا من التنبؤ بمستقبل منظومتنا الشمسية ، فهي لا تمكننا من التحكم فيها. ذلك أنها تسير بضرورة صارمة نحو نتائج محتومة بمقدورنا أن نتنبأ بها علميا ونصفها، ولكن ليس بمقدورنا تغييرها. يرى ماركس أن اكتشافاته توازي ذلك تماما. وقد تعمد في هذا استخدام مصطلحات نيوتونية، فهو يصف نفسه في كتابه «رأس المال» بأنه قد اكتشف «القوانين الخاصة بالإنتاج الرأسمالي»، ويحذر من أنه «حتى إذا اهتدى مجتمع ما إلى الطريق الصحيح لاكتشاف القوانين الطبيعية لحركته (وإن غايته من عمله هي أن يكشف القانون الاقتصادي لحركة المجتمع الحديث)، فما هو بمستطيع، لا بقفزات جريئة ولا بتشريعات قانونية، أن يزيل العقبات التي تفرضها المراحل المتعاقبة لنموه الطبيعي ... فذلك أمر يتوقف على هذه القوانين نفسها، وعلى هذه الميول وهي تمضي بضرورة لا تلين إلى نتائج محتومة. وحدها الدولة الأكثر نموا صناعيا هي من يكشف للدولة الأقل نموا صورة لمستقبلها الخاص.»
23 (13) الماركسية الحقيقية والماركسية السوقية
وحقيقة ترحيب ماركس بالمستقبل الذي رآه محتوما هي حقيقة خارجة عن الموضوع من الوجهة العلمية. فنحن إن شئنا الدقة لا يمكن أن نصفه بذلك إلا بقدر ما يمكننا أن نصف عالما فلكيا بأنه يرحب بكسوف تنبأ به، وإن جاز له أن ينبهج بمشاهدة الكسوف عندما يقع وأن يتشوف إليه ويسر بمجيئه. كان ماركس دوما يصر على أن نظريته «علمية» بهذا المعنى؛ إنه يقدم «وصفا»
Description
لا «وصفة»
. وهو بالمقابل يرفض بقية أشكال الاشتراكية على أنها «يوتوبية»
Utopian ، في أحسن أحوالها مجرد دعوة، وفي أسوأها مجرد رؤى.
يؤكد بوبر على هذا التمييز بين الاعتقاد «الماركسي» بأن لا حيلة لنا في رسم مسار التاريخ، وبين الاعتقادات «اليوتوبية» بأن في مكنتنا أن نصنع مجتمعا كاملا، وإن تكن الماركسية قد أسيء فهمها على أنها اعتقاد من النوع الثاني. ويبدو أن معظم «الشيوعيين» قد فهموها فعلا بهذا المعنى المغلوط، وهم بذلك استحقوا أن يسميهم بوبر «الماركسيين السوقيين». ولو كان أدركهم ماركس لكان أسماهم «الاشتراكيين اليوتوبيين». فالحق أن «الشيوعية» يوتوبية، أما «الماركسية» فلا. ومن الأهمية ألا نغفل هذا التمييز.
24
تأويل التناقض الظاهري: غير أن الماركسية ، وكل نزعة تاريخية حقيقية، لا تستلزم القول بالقدرية ولا تؤدي إلى التكاسل عن العمل. بل الصحيح خلاف ذلك تماما، فكثير من التاريخانيين تظهر عندهم ميول واضحة نحو «النزعة العملية»
Activism . والمذهب التاريخاني يعلم تمام العلم أن رغباتنا وأفكارنا وأحلامنا واستدلالاتنا، ومخاوفنا ومعارفنا، ومصالحنا وأعمالنا، هي كلها قوى مؤثرة في تطور المجتمع. ولا يقول المذهب بعجزنا عن إحداث أي شيء كان، وإنما يتنبأ بأنك لن تستطيع أن تحقق شيئا بأحلامك أو بما يركبه عقلك طبقا لخطة مرسومة. فلا تأثير إلا للخطط التي تتمشى مع تيار التاريخ الرئيسي. ونرى الآن على وجه الدقة أي نوع من العمل يعتبره التارخانيون معقولا. فالأعمال المعقولة ليست إلا ما يتلاءم مع التغيرات الوشيكة الوقوع ويساعد على تحقيقها. إذن فالتوليد الاجتماعي هو العمل الوحيد المعقول الذي يجوز لنا القيام به، وهو العمل الوحيد الذي يمكن أن يعتمد عليه على أساس من بعد النظر العلمي.
ورغم أن النظرية العلمية، من حيث هي كذلك، ليس فيها ما يدعونا مباشرة إلى العمل (إذ لا يمكن إلا أن تصرفنا عن بعض الأعمال باعتبارها لا تلائم الواقع)، فقد يكون فيما يلزم عنها ما يشجع على العمل أولئك الذين يشعرون بأن واجبهم أن يعملوا شيئا. ولا شك في أن المذهب التاريخاني يتقدم بهذا النوع من التشجيع، بل إنه يمنح العقل الإنساني دورا معينا يؤديه، لأن التفكير العلمي، أي علم الاجتماع الموافق للمذهب التاريخي، وهو وحده الذي يستطيع إرشادنا إلى الجهة التي يجب أن يقصد إليها أي عمل معقول حتى يطابق اتجاه التغيرات الوشيكة الوقوع.
إن المجتمع متغير بالضرورة، ولكنه يسير في طريق مرسوم لا يمكن أن يتغير، ويمر بمراحل عينتها من قبل ضرورة لا تلين. ومن ثم فالنزعة العملية لا يمكن تبريرها إلا إذا سايرت التغيرات الوشيكة الوقوع وساعدت على تحقيقها. يقول ماركس في مقدمة «رأس المال»: «فإذا اكتشف مجتمع من المجتمعات قانونه الطبيعي الذي يعين حركته، فلن يمكنه ذلك من تخطي المراحل الطبيعية لتطوره، أو حذفها من الوجود بجرة قلم. ولكن في استطاعته أن يفعل شيئا واحدا، هو التقليل من آلام الوضع والتقصير من مدتها.» هذه الصيغة التي وضعها ماركس تعبر تعبيرا بارعا عن موقف التاريخانيين، فالموقف التاريخاني، إن كان لا يقول بالتواكل والقدرية بمعناهما الصحيح، إلا أنه يقول ببطلان كل محاولة تهدف إلى تغيير التطورات الوشيكة الوقوع. إن هذا المذهب نوع فريد من القدرية، وكأنها قدرية بإزاء الاتجاهات التاريخية. ومن المسلم به أن قول ماركس في كتابه «أقوال في فيورباخ»: «لقد وقف الفلاسفة حتى الآن عند تفسير العالم على أنحاء مختلفة، ولكن المهم هو تغييره»؛ هو قول يتعارض مع أهم دعاوى المذهب التاريخي، ويتعارض في ظاهره مع العبارة الأولى لماركس. وربما يقرر التاريخاني أن العبارتين لا تتناقضان بل تكمل إحداهما الأخرى. وعلى الرغم من أن العبارة الثانية (وهي الأقدم عهدا) قد تبدو وحدها متطرفة قليلا في النزعة العملية إلا أن العبارة الأولى تعين حدودها الصحيحة، وأن العبارة الثانية إذا كانت قد راقت للراديكاليين المتطرفين في نزعتهم العملية فدفعتهم إلى احتضان المذهب التاريخاني، فيجب أن ترشدهم العبارة الثانية إلى موضع الحدود الصحيحة لكل عمل، وإن ترتب على ذلك أن تفقد هذه العبارة عطفهم. إن خضوعنا لقوانين التطور القائمة هو كخضوعنا لقانون الجاذبية أمر لا مفر منه. وإن أكثر المواقف مطابقة للعقل هو أن يعدل المرء مجموع القيم التي يأخذ بها بحيث تصير موافقة للتغيرات الموشكة على الوقوع.
25 (14) الماركسية الحقيقية على محك التكذيب
من المترتبات الحاسمة لدعوى الماركسية بأنها «علمية» هو أن عليها أن تدافع عن نفسها بنجاح على مستوى علمي من الجدل، وإلا فهي تقع في التفكك والتشوش. وإذا حدث أنها لقيت الهزيمة في أي نقطة على هذا المستوى، فلا يحق لها أن تلجأ إلى صور أخرى من الجدال، إن عليها باختصار أن تسلم نفسها للاختبارات، وأن تتقبل النتائج. ويتفق الكثير من المفكرين على أن بوبر قد قام بتقويض دعاوى الماركسية عن صدقها العلمي تقويضا تاما لا يترك أي احتمال حقيقي بإعادة بنائها. إنه لم يفعل ذلك بإثبات أن نظرية ماركس غير قابلة للتكذيب، فالماركسية السوقية هي غير القابلة للتكذيب، ولكن بوبر لا يقع في خطأ إسناد الماركسية السوقية إلى ماركس. إن نظرية ماركس الخاصة، حين نتناولها بما هي أهل له من الجدية الفكرية، تنتج عددا من التنبؤات القابلة للتكذيب، ولقد تم الآن تكذيب أهم هذه التنبؤات، وفيما يلي قائمة بأهم هذه المكذبات:
وفقا لنظرية ماركس لن يمكن لغير الرأسمالية المكتملة النمو أن تصبح «شيوعية». ومن ثم فلا بد لجميع المجتمعات من أن تتم المرحلة الرأسمالية من التطور أولا. ولكن ما حدث في الواقع هو أن جميع البلاد التي أصبحت شيوعية، باستثناء تشيكوسلوفاكيا، كانت بلادا «قبل-صناعية»
، ولم يكن أي منها مجتمعا رأسماليا مكتمل النمو.
وفقا لنظرية ماركس كان يتعين أن تقوم الثورة على أكتاف البروليتاريا الصناعية. غير أن ماو تسي تونج، وهوشي منه، وفيدل كاسترو رفضوا ذلك جهارا وأقاموا ثوراتهم بنجاح على أكتاف الفلاحين من بلادهم المختلفة.
وفقا لنظرية ماركس هناك أسباب معقدة تحتم على البروليتاريا الصناعية أن تزداد فقرا، وتزداد عددا، ويزداد وعيها الطبقي، ويزداد نزوعها إلى الثورة. ولكن ما حدث على صعيد الواقع هو أن جميع البلاد الصناعية منذ عهد ماركس قد صارت أغنى وأقل عددا وأقل وعيا طبقيا وأقل ميلا إلى الثورة.
وفقا لنظرية ماركس لا يمكن قيام الشيوعية إلا بيد العمال أنفسهم، بيد الجماهير. ولكن الحقيقة أن الحزب الشيوعي لم يتمكن في أي دولة، حتى في شيلي، من أن يحظى بتأييد الأغلبية في اقتراع حر. وحيثما انتزع السلطة الكاملة فقد كان ذلك أمرا مفروضا على الأغلبية بواسطة الجيش، ودائما جيش أجنبي.
وفقا لنظرية ماركس فإن مصير ملكية وسائل الإنتاج الرأسمالية هو أن تتركز في أيد أقل فأقل. ولكن مع تطور شركات رأس المال المشترك توزعت الملكية على نطاق واسع بحيث انتقلت السيطرة إلى أيدي طبقة جديدة من المديرين المهنيين. كما أن ظهور هذه الطبقة هو بحد ذاته بمثابة دحض لتنبؤ ماركس بأن جميع الطبقات سوف تزول حتما وتستقطب إلى طبقتين: طبقة رأسمالية تتقلص على الدوام، وهي التي تملك وتسيطر ولكن لا تعمل، وطبقة بروليتاريا تتمدد على الدوام، وهي التي تعمل ولكن لا تملك ولا تسيطر.
26
وإذا تأملنا النظرية من زاوية أخرى، نجد أن ما قاله ماركس وإنجلز عن معظم العلوم قد عفا عليه الزمن، وقضت عليه التطورات اللاحقة في هذه العلوم، فقد قضت فيزياء ما بعد أينشتين على نظريتهما في المادة. وقضت سيكولوجيا ما بعد فرويد على فهمهما للسلوك الفردي. وقضى علم الاقتصاد الجديد على الاقتصاد الريكاردي الذي تأسست عليه النظرية الماركسية. وقضى منطق ما بعد فريجه على المنطق الهيجلي الذي قامت عليه النظرية. أما تصورهما للتطور المستقبلي للنظم السياسية فلا يشبه النظم الحالية من قريب أو بعيد، وذلك لأنهما لم يأخذا نمو الديمقراطية مأخذ الجد. وهو فشل فرضته عليهما نظريتهما التي لا تسمح بأي شيء من هذه التطورات الخطيرة.
كل أولئك يشكل دحضا لنظرية تدعي أنها علمية. وهو دحض يتم بالمنهج الأساسي القائم على تعريض التنبؤات لاختبار التجربة وبيان أنها كاذبة. غير أن هذا وإن كان هو المعيار الأساسي ليس هو الصنف الوحيد من الاختبار الذي يتعين على النظرية أن تصمد له، فالنظرية يجب أيضا أن تفي بالمعايير المنطقية الخاصة بالاتساق الداخلي والترابط. ومن الجلي أن الاعتقاد الأساسي للماركسية والقائل بأن نمو وسائل الإنتاج هو المحدد الوحيد للتغير التاريخي، هو اعتقاد غير متسق منطقيا، إذ لا تملك مثل هذه النظرية أن تفسر كيف يتأتى لوسائل الإنتاج أن تنمو فعلا بدلا من أن تبقى كما هي.
البريطانيون يكذبون باستهانة تنبؤات ماركس: كانت الصورة المرعبة التي رسمها ماركس لاقتصاد زمنه صورة صادقة غاية الصدق، غير أن قانونه القائل بأن البؤس يجب أن يزداد مع تكدس رأس المال هو غير صحيح. لقد تراكمت وسائل الإنتاج وزادت إنتاجية العمل زيادة ما كانت تخطر ببال ماركس. غير أن ساعات العمل، وعمل الأطفال، ومعاناة العامل، كل ذلك لم يزدد بل تضاءل. يختصر باركس
الموقف الفعلي في عبارة واحدة: «الأجور المنخفضة، وساعات العمل الطويلة، وعمل الأطفال، كانت هذه سمات الرأسمالية، ليس في شيخوختها كما تنبأ ماركس، بل في طفولتها الأولى.»
لقد ذهبت الرأسمالية المطلقة إلى غير رجعة، ومنذ زمان ماركس حقق مذهب التدخل
Interventionism
الديمقراطي تقدما هائلا، وأدى تحسن إنتاجية العمل - وهو من نتائج تكدس رأس المال - إلى محو الفقر والشقاء.
إن مسير الأمور في بريطانيا، حيث كان بوبر يسطر كتابه، قد كذب نبوءات ماركس وإنجلز. فوفقا لتنظيرات إنجلز نجد أن الأمة الإنجليزية هي الأشد برجوازية بين جميع الأمم، وقد كان المتوقع، بحسب مذهب ماركس، هو أن نرى في إنجلترا استفحال الفقر والتوتر الطبقي الذي لا يزول إلا باندلاع الثورة البروليتارية اندلاعا عاجلا غير آجل. ولكن شيئا من ذلك لم يحدث.
27
ومن الحق والإنصاف أن نقول إن جميع نبوءات ماركس تتعلق بالرأسمالية الطليقة؛ رأسمالية عدم التدخل، ولكن مذهب التدخل قد هون العواقب وخفف الأضرار وغير المسار وكذب توقعات ماركس. (15) تقييم نبوءة ماركس
لم تكن الأدلة التي أقام عليها ماركس نبوءته التاريخية أدلة صائبة. وقد فشلت محاولته البارعة لاستخلاص نتائج نبوئية من ملاحظاته للاتجاهات الاقتصادية التي عاصرها. لم يكن فشله بسبب قصور في الأساس الإمبيريقي لحجته. فرغم أن تحليلاته الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع المعاصر له كانت أحادية الجانب بعض الشيء، فقد كانت تحليلات ممتازة من الناحية الوصفية . إنما يرجع فشله كنبي إلى عقم المذهب التاريخي نفسه، إلى الحقيقة البسيطة القائلة بأننا حتى لو لاحظنا اليوم ما يظهر أنه اتجاه أو ميل تاريخي فما هو بإمكاننا أن نعرف إن كان هذا الميل سوف يتخذ نفس المظهر غدا.
وعلينا أن نعترف أن ماركس رأى أشياء كثيرة رؤية صحيحة. ويكفي أن نتأمل نبوءته بالنهاية القريبة للرأسمالية الطليقة كما عرفها. وقد كان ماركس مصيبا أيضا حين ذهب إلى أن الصراع الطبقي «وتضامن العمال» هو الذي سوف يبدل الرأسمالية الطليقة إلى نظام اقتصادي جديد. غير أننا لا يمكن أن نذهب أبعد من ذلك ونقول إنه تنبأ بنظام «التدخل»
Interventionism
تحت اسم آخر هو «الاشتراكية»
Socialism . فالحق أنه لم يكن على أدنى معرفة بما يحمله المستقبل. أما ما أسماه «اشتراكية» فهو شيء مختلف تماما عن أي شكل من أشكال مذهب «التدخل»، ذلك أنه تنبأ بأن النمو الوشيك سوف يضائل من نفوذ الدولة السياسي والاقتصادي، بينما أدى مذهب التدخل إلى زيادة نفوذ الدولة في كل مكان.
28
كان ماركس متفائلا يؤمن بقانون «التقدم» الذي كان يؤمن به أيضا بورجوازيو عصره، فترتب على ذلك أن كانت خطته تصور مجتمعا ديناميكيا متحركا. وقد تنبأ للمجتمع بتطور ينتهي به إلى نظام مثالي لا مكان فيه للقهر السياسي والاقتصادي. وقد حاول أن يعمل على تحقيق هذا النظام المثالي الذي تذوي فيه الدولة ويتعاون فيه الأفراد على أساس من الحرية، فيقوم كل منهم بالعمل الملائم لقدراته، واجدا في المجتمع كل ما يرضي حاجاته. غير أن هذا التفاؤل التاريخاني لا يليق بنبي، إذ أنه يقيد الخيال التاريخي، كما أن واقعة التقدم، كما يقول فيشر: «مكتوبة بوضوح على صفحة التاريخ، غير أن التقدم ليس قانونا للطبيعة، فالأرض التي يكسبها جيل قد يخسرها الجيل الذي يليه.»
وتمشيا مع هذا المبدأ «كل شيء جائز» كان من الممكن أن تتحقق نبوءات ماركس، شأنها شأن جميع النبوءات التي تحقق ذاتها. فمذهب التقدم في القرن التاسع عشر يمكن أن يكون قوة سياسية كبيرة، ويمكن أن يحقق ما تنبأ به . وهكذا فحتى لو تحققت نبوءة ماركس فإن هذا ينبغي ألا يؤخذ على أنه تعزيز للنظرية ولصفتها العلمية. فقد يكون هذا بالأحرى نتيجة لطبيعتها الدينية ودليلا على قوة الروح الدينية التي استطاعت أن تبثها في الناس. وقد كان العنصر الديني في الماركسية بصفة خاصة واضحا لا تخطئه العين. لقد منحت نبوءة ماركس العمال في أحلك لحظات بؤسهم إيمانا بأنفسهم وبرسالتهم وبالمستقبل العظيم الذي ينتظر كل البشر على أيديهم.
غير أن الأمور أخذت منحى آخر. وتمكن العنصر النبوئي للماركسية من أذهان أتباعه وأزاح كل شيء عداها، وغيب ملكة الحكم النقدي الهادئ، وحطم الإيمان بأننا باستخدام العقل يمكننا أن نغير العالم. ولم يبق من تعاليم ماركس غير الفلسفة النبوئية الهيجلية التي هددت، في ثوبها الماركسي القشيب، بشل حركة النضال من أجل المجتمع المفتوح .
29 (16) الأساس الأخلاقي لكتابات ماركس
كانت المهمة التي نذر ماركس نفسه لها في كتابه «رأس المال» هي أن يكتشف القوانين الصارمة للتطور الاجتماعي. لم يكن همه أن يكشف القوانين الاقتصادية التي يرجى نفعها للتكنولوجي الاجتماعي. ولم تكن مهمته تحليل الشروط الاقتصادية التي تتيح تحقيق الأهداف الاجتماعية بأثمان عادلة: التوزيع العادل للثروة، الأمان، التخطيط المعقول للإنتاج، وفوق كل شيء «الحرية». ولا كانت مهمته محاولة تحليل هذه الأهداف وتوضيحها.
ولكن رغم أن ماركس كان مناوئا بشدة للتكنولوجيا اليوتوبية ولكل محاولة لتقديم تبرير أخلاقي للأهداف الاجتماعية، فقد كانت كتاباته تنطوي في داخلها على نظرية أخلاقية. وقد عبر عن هذه النظرية من خلال تقييمه الأخلاقي للنظم الاجتماعية بالدرجة الأساس. إن شجب ماركس للرأسمالية هو في نهاية المطاف شجب أخلاقي في جوهره. فالنظام الرأسمالي مدان، لأنه يشتمل على ظلم وحشي متأصل فيه ومقترن بتبرير «شرعي» كامل. النظام الرأسمالي مدان لأنه إذ يدفع المستغلين لاستعباد المستغلين فإنه يجرد كلا الطرفين من الحرية. إن ماركس لا يحارب الثراء ولا يقرظ الفقر. لقد كان يكره الرأسمالية، لا لأنها تكدس الثروة، بل لأنها أوليجاركية الطبع. كان يكرهها لأن الثروة في نظامها تعني النفوذ السياسي بمعنى التسلط على بقية الخلق. إنها تحول قوة العمل إلى سلعة، وهو ما يعني أن على الناس أن يبيعوا أنفسهم في السوق. كان ماركس يكره النظام الرأسمالي لأنه يشبه الرق.
يبدهنا بوبر بأن إيمان ماركس الحقيقي في نظره كان إيمانا بالمجتمع المفتوح! لقد كان موقف ماركس من المسيحية وثيق الصلة بموقفه من الرأسمالية، وبحقيقة أن الدفاع المنافق عن الاستغلال الرأسمالي كان في زمنه سمة من سمات المسيحية الرسمية. ولم يكن موقف ماركس في ذلك بعيدا عن موقف معاصره كيركجار، المصلح العظيم للأخلاق المسيحية الذي بين أن الأخلاق المسيحية الرسمية في عصره كانت أخلاقا مضادة للمسيحية، وكانت رياء مضادا للنزعة الإنسانية. كان النموذج الصارخ لهذا الصنف من المسيحية هو الكاهن الأكبر تاونسند، الذي ألف دفاعا سافرا عن الاستغلال، يؤكد فيه أن الجوع هو المحرك الطبيعي للصناعة والعمل ، وأن كل شيء في نظام العالم يعتمد على إفشاء الجوع بين الطبقة العاملة وإبقائه على الدوام! يرى تاونسند أن هذه هي الحكمة الإلهية من وراء مبدأ النمو السكاني، إذ يبدو أن من قوانين الطبيعة، ومن منابع السعادة، أن يكون الفقير «لا أباليا» قصير النظر حتى تبقى هناك فئة من البشر موكلة بالمهام الشاقة والوضيعة، مفسحة المجال للسراة من الناس لكي يفرغوا لأداء ما انتدبوا له وفق ميولهم. ويزيد هذا السري الأذل، كما يسميه ماركس، أن محو الفقر من شأنه أن يفسد الانسجام والجمال والاتساق الذي ينطوي عليه ذلك النظام الذي وضعه الله ووضعته الطبيعة في العالم!
إذا كان هذا الصنف من المسيحية قد انمحى اليوم من وجه الأرض، فإن الفضل في ذلك يعود في جزء كبير منه إلى الإصلاح الأخلاقي الذي جاء به ماركس. ولعل تأثيره على المسيحية أن يكون مكافئا لتأثير لوثر على الكنيسة الكاثوليكية، فكلاهما كان تحديا، وكلاهما أدى إلى إصلاح مضاد في معسكر الأعداء، إلى تنقيح ومراجعة وإعادة تقييم لمعاييرهم الأخلاقية.
30
كان ماركس مناهضا للوضعية الأخلاقية
Moral Positivism
القائلة بأن ما هو قائم على حق وخير ... أن الحق هو القوة
Might is Right ... أن ما هو كائن هو بعينه ما ينبغي أن يكون. بين ماركس أن ما هو قائم قد يكون شرا، وأن النسق الاجتماعي قد يكون ظالما بوصفه نسقا. وإذا كان النسق زائفا فكل حق واستحقاق هو محض رياء، لأن مسئوليتنا تمتد إلى النسق ... إلى النظم التي نسمح ببقائها.
إن الراديكالية الأخلاقية عند ماركس هي سر نفوذه، وهذه حقيقة مضيئة بحد ذاتها. هذه الراديكالية الأخلاقية لا تزال حية. وإن مهمتنا هي أن نبقي عليها ونحميها من أن يلحقها نفس المصير الذي لحق براديكاليته السياسية. لقد ماتت «الماركسية العلمية»، لكن شعورها بالمسئولية الاجتماعية يجب أن يبقى، وحبها للحرية يجب أن يعيش.
31 (17) معنى المذهب التاريخي (التاريخانية)
Historicism
لتعبير «المذهب التاريخي» معان متعددة قد تختلف فيما بينها حتى التناقض.
32
ولكن لا ضير في ذلك ما تذكرنا مبدأ بوبر المناوئ للمعارك التعريفية والمماحكات اللفظية. إنه يحدد ما يعنيه بكلمة
Historicism ، ويمضي في تحليلاته وفقا لهذا التعريف. ومن ثم فليس هناك أي مجال للبس ولا للجدل حول ألفاظ. يقول بوبر: «أعني بالمذهب التاريخي طريقة في معالجة العلوم الاجتماعية تفترض أن التنبؤ التاريخي هو غايتها الرئيسية، وتفترض أن هذه الغاية يمكن الوصول إليها بالكشف عن «الإيقاعات» أو «الأنماط» أو «القوانين» أو «الاتجاهات» التي يسير التطور التاريخي وفقا لها.»
33
من أمثلة الاعتقادات التاريخانية:
اعتقاد يهود العهد القديم في رسالة الشعب المختار.
اعتقاد المسيحيين الأوائل في حتمية اهتداء الجموع البشرية متبوعا ب «المجيء الثاني»
Second Coming .
اعتقاد بعض الرومان بأن قدر روما أن تحكم العالم.
اعتقاد التحرريين في عصر التنوير بحتمية التقدم البشري.
اعتقاد كثير من الاشتراكيين بحتمية الاشتراكية.
اعتقاد هتلر في تأسيس رايخ الألف عام.
وبحسب المرء أن يشرع في سرد بعض الأمثلة الشهيرة لكي يدرك أن مثل هذه النبوءات التاريخانية قلما تتحقق. وبصرف النظر عن أي نظرية محددة فإن التصور العام بوجود مصير تاريخي محتم (أو على الأقل خطة أو معنى أو نمط مترابط) هو تصور يحظى بانتشار واسع.
وإذا شاء المرء أن يظاهر الحتمية التاريخية فلا مناص له من أحد التفسيرات الثلاثة الآتية: (1)
إما أن التاريخ يسيره عقل خارجي ما وفقا لمشيئته الخاصة (التفسير الثيولوجي). (2)
أو أن التاريخ يدفعه إلى الأمام عقل داخلي (روح محايث، سورة الحياة، مصير الإنسان ...) (3)
أو أن ليس في الأمر روح على الإطلاق، وفي هذه الحالة تكون هناك عمليات مادية حتمية تماما يسير التاريخ وفقا لها.
أما الخياران الأولان فمن الجلي أنهما ميتافيزيقيان، ومن ثم فهما غير قابلين للتكذيب
Unfalsifiable
وغير علميين بكل تأكيد. أما الخيار الثالث فيركز على تصور للعلم عفا عليه الزمن.
لا جرم يرفض بوبر علمية التفسيرات الثلاثة، ذلك أن بوبر يقول باللاحتمية
Indeterminism ، ويرى أن التغيير إنما ينتج عن محاولاتنا نحن لحل مشكلاتنا، وأن محاولاتنا لحل مشكلاتنا تتوقف على أشياء لا يمكن التنبؤ بها، منها: الاختيار، الصدفة، التطور، إلخ. ونحن مسئولون، من بين هذه الأشياء، عن اختيارنا. فإذا كان هناك مسير حقيقي للتاريخ فإنه نحن! نحن الذين نسير التاريخ: في تفاعلنا بعضنا مع بعض، ومع البيئة المادية (التي نحن، بوصفنا جنسا من الكائنات، لم نخلقها)، ومع العالم 3 (الذي نحن - بوصفنا جنسا - صنعناه، غير أن كلا منه يرثه ولا يملك أن يغير فيه إلا قليلا). نحن الذين نسير التاريخ، ونجسد فيه غاياتنا، ونسبغ عليه ما نشاء من المعنى.
من هذا المنطلق يهاجم بوبر جميع النظريات التاريخانية، وقد خص الماركسية بأعتى هجماته. ذلك أنها الأكثر نفوذا في العالم الحديث، وأنها هي التي تدعي أن التاريخ يمضي وفقا لقوانين علمية، وأننا بمعرفة هذه القوانين (والتي تزودنا بهذه الماركسية) يمكن أن نتنبأ بالمستقبل. (18) تفنيد المذهب التاريخي
قدر العلوم الإنسانية أنها اختصت بدراسة آثار كائن حر مريد تقف القوانين السببية عنده مستأذنة وتتحدد نتائجه بيقين الحتمية مضروبا في «لا يقين» الحرية!
إنه المخلوق الخالق الذي يوجد خارج واقعه وخارج ماهيته.
إنه الكائن الذي يدخل «الوعي» في نسيج العالم.
ويجلب «القيمة» إلى باحة الخليقة.
ويسبغ «المعنى» على صمت الكون.
ويفرز «عدما» من حوله
34
في قلب الوجود الشيئي المكتمل.
إنه الدودة في التفاحة.
أرق في سبات الضرورة.
صدع بين «الأشياء».
مملكة داخل المملكة.
35
ولا حيلة للعلم في التنبؤ بمآله.
وليس يجدي بإزائه إلا «الفهم» لا «التفسير». «التأويل» لا «التنبؤ».
36
ع. م.
يقول بوبر في مقدمته لكتابه «عقم المذهب التاريخي»: «... ومن ذلك الحين وفقت إلى تفنيد المذهب التاريخي، إذ بينت أنه يستحيل علينا التنبؤ بمستقبل سير التاريخ، وذلك لأسباب منطقية بحتة ... ويمكن حصر الدليل في القضايا الخمس الآتية: (1)
يتأثر التاريخ الإنساني في سيره تأثرا قويا بنمو المعرفة الإنسانية. (وهذه المقدمة لا بد من أن يسلم بها حتى أولئك الذين يرون في أفكارنا، بما في ذلك أفكارنا العلمية، نتاجا عرضيا لنوع من التطور المادي.) (2)
لا يمكن لنا بالطرق العقلية أو العلمية، أن نتنبأ بكيفية نمو معارفنا العلمية. (3)
إذن فلا يمكننا التنبؤ بمستقبل سير التاريخ الإنساني. (4)
وهذا معناه أننا يجب أن نرفض إمكان قيام تاريخ نظري، أي إمكان قيام علم تاريخي اجتماعي يقابل علم الطبيعة النظري. ولا يمكن أن تقوم نظرية علمية في التطور التاريخي تصلح أن تكون أساسا للتنبؤ التاريخي. (5)
إذن فقد أخطأ المذهب التاريخي في تصوره للغاية الأساسية التي يتوسل إليها بمناهجه، وببيان ذلك يتداعى المذهب التاريخي» (عقم المذهب التاريخي، مقدمة).
والنقطة الحاسمة في هذا الدليل هي النقطة رقم (2) التي تقول باستحالة التنبؤ بنمو المعرفة، ذلك أنه إذا أمكن التنبؤ بالمعرفة المستقبلية فإنها تكون بحوزتنا «الآن»، ولن تكون «مستقبلية». إذا أمكننا التنبؤ بالمكتشفات المستقبلية، فإنها تكون مكتشفات «حاضرة». من ذلك يترتب أنه إذا كان المستقبل يشتمل على أية مكتشفات هامة على الإطلاق، فإن من المحال التنبؤ بها علميا، حتى لو كانت محتمة بمعزل عن الرغبات الإنسانية.
37
وهناك دليل آخر: إذا كان المستقبل قابلا للتنبؤ العلمي فإنه فور اكتشافه لن يعود سرا ما دام قابلا من حيث المبدأ لإعادة الاكتشاف من جانب أي فرد، وهذا يفضي فضلا عن ذلك إلى مفارقة حول إمكان/عدم إمكان أخذ إجراءات وقائية.
لهذه الأسباب المنطقية وحدها تنهار التاريخانية. وتنهار الفكرة المحورية في البرنامج الماركسي، والقائلة بتاريخ نظري مناظر للفيزياء النظرية. وبانهيار فكرة التنبؤ العلمي بالمستقبل تنهار أيضا فكرة التخطيط الاجتماعي الشامل. ويتكشف التناقض المنطقي لهذه الفكرة أيضا بطرق أخرى: أولا لأنها لا تقدم إجابة متسقة عن السؤال: «من يخطط المخططين؟!» وثانيا لأن أفعالنا كما قلنا آنفا لها دائما نتائج غير مقصودة. وإن إغفال ذلك يوقع اليوتوبيين في مغالطة المؤامرة التي سبق لنا تفصيلها.
حين دفع ماركس بما أسماه «المذهب الاجتماعي العلمي»
Scientific Socialism
كان مخطئا من جهتين لا من جهة واحدة. كان مخطئا في فهمه للمجتمع ومخطئا في فهمه للعلم. وقد تكفل بوبر في كتاباته كلها تقريبا ببيان هذا التهافت الذي لا يسم ماركس وحده، بل يسم جميع التاريخانيين الذين أسكرهم نجاح العلوم الطبيعية في التنبؤ، فظنوا أن العلوم الاجتماعية موكولة بالكشف عن قانون تطور المجتمع حتى يتنبأ بمستقبله. ربما أمكن وصف هذه الدعوى بأنها الدعوى المركزية في المذهب التاريخاني. لقد ظن ماركس أنه عثر على «قوانين حركة المجتمع » مثلما عثر نيوتن على قوانين حركة الأجسام الفيزيقية. وهو ظن يقوم على فهم خاطئ للمجتمع، فالمجتمع ليست له حركة شبيهة بحركة الأجسام أو مماثلة لها على أي نحو من الأنحاء، فمثل هذه القوانين لا يمكن أن يكون لها وجود. يقول ه. أ. فيشر: «لقد تبين الناس في التاريخ خطة وإيقاعا منتظما ونمطا مرسوما، ولست أرى فيه إلا مفاجأة تتلوها مفاجأة، أو مجرد واقعة واحدة كبرى يستحيل علينا أن نصدر التعميمات بشأنها، لأنها واقعة فردة.»
قد ينكر التاريخانيون دعوانا بأن عملية التطور عملية فردة، ويستندون في ذلك إلى فكرة أن دورة الحياة المتدرجة من الطفولة إلى الشباب إلى الشيخوخة تنطبق على المجتمع مثلما تنطبق على الفرد، وهم يقدمون أمثلة تبين أن «التاريخ يعيد نفسه»، فينبشون في قديم التاريخ وحديثه عن «تشابهات» و«توازيات» تؤيد زعمهم. لكن هذه ليست أكثر من مثال من أمثلة النظريات الميتافيزيقية الكثيرة التي يبدو أن الوقائع تؤيدها. ولو دققنا النظر في هذه الوقائع لتبين لنا أنها اختيرت في ضوء النظريات عينها التي نريد اختبارها بها (انظر ما قلناه في ذلك في الفصل الأول).
وقد يقرر التاريخانيون أن عملية التطور، حتى ولو كانت وحيدة في نوعها، فباستطاعتنا أن نتبين فيه «ميلا» أو «اتجاها»، وأن نتنبأ بوجهته في المستقبل. وهم في ذلك يقعون في تقليد أعمى لعلم الطبيعة والفلك. ذلك أن نجاح التنبؤات البعيدة المدى في علم الفلك إنما يعتمد كل الاعتماد على ما للمجموعة الشمسية من طابع تكراري
Repetitive
موقوف
Stationary ؛ أي أن نجاح التنبؤات معتمد في هذه الحالة على إهمالنا لكل عوارض التطور التاريخي. ومن الخطأ أن نستدل من ذلك على إمكان التنبؤات التاريخية البعيدة المدى الخاصة بالأنساق الاجتماعية غير التكرارية.
وقد يقول التاريخانيون إن «الاتجاهات» و«الميول» أمور ظاهرة في التغير الاجتماعي ولا يجوز الشك في وجودها، وباستطاعة كل مشتغل بالإحصائيات حسابها. أليست هذه الاتجاهات شبيهة بقانون نيوتن في القصور الذاتي؟ ونحن نجيب على هذا بالقول بأن الاتجاهات موجودة فعلا، أو بعبارة أدق إن فرض وجود الاتجاهات كثيرا ما يفيدنا بوصفه حيلة إحصائية. لكن الاتجاهات شيء والقوانين شيء آخر. فالقضية القائلة بوجود اتجاه معين هي قضية وجودية، وليست قضية كلية. (أما القانون الكلي فلا يقرر وجودا، بل إنه على العكس من ذلك يقرر استحالة وجود شيء أو آخر). والقضية القائلة بوجود اتجاه ما في مكان وزمان معينين هي قضية تاريخية مخصوصة، وليست قانونا كليا. ولهذا الوضع المنطقي أهمية عملية كبرى، إذ باستطاعتنا أن نقيمها على مجرد وجود الاتجاهات (كما يعلم كل إحصائي حذر). فالاتجاه الذي بقي ثابتا لا يتغير مئات بل آلافا من السنين (وليكن نمو السكان مثالا على ذلك) قد يعتريه التغير في سنوات معدودات.
38
وجملة القول إن من أهم المغالطات التي يقع فيها التاريخانيون هي أنهم يستعيرون أمثلة من التنبؤات من العلم الطبيعي باعتبارها تشكل ماهية التنبؤ العلمي، ويفوتهم أن هذه التنبؤات لا تنطبق إلا على الأنظمة التكرارية الموقوفة المعزولة، ثم يريدون أن يطبقوا منهج التنبؤ العلمي على المجتمع البشري والتاريخ الإنساني. إن التاريخ الإنساني بطبيعة الحال ليس نظاما معزولا (والحق أنه ليس نظاما على الإطلاق)، فهو في تغير مستمر، وفي تطور دائب غير تكراري (لا يعيد نفسه). كل حادثة في التاريخ هي حادثة مفردة جديدة فذة، ومتمايزة أنطولوجيا عن أي حادثة أخرى، ولهذا السبب فإن من الممتنع من حيث المبدأ إمكان وضع تنبؤات علمية غير مشروطة فيما يتعلق بالتاريخ البشري. أما فكرة أن نجاح التنبؤ بالكسوف يقدم أملا في نجاح التنبؤ بتطور التاريخ البشري، فقد تبين أنه يقوم على سوء فهم فادح، وأنه مغلوط تماما. يقول بوبر في «الحدوس الافتراضية والتفنيدات»: «إن واقعة أننا نتنبأ بظواهر الكسوف والخسوف لا تقدم إذن مبررا صحيحا لأن نتوقع أن بإمكاننا أن نتنبأ بالثورات.» (19) لا معنى في التاريخ إلا ما نضفيه عليه نحن في معنى
هذه هي الدعوى التي خلص إليها بوبر في «المجتمع المفتوح»، بعد أن هاجم المذاهب التاريخانية وأثخنها. وهي دعوى تزعج البعض وتؤرقهم؛ لأنها ترمي بهم فيما يشبه الفراغ الوجودي. والبعض الآخر يخشون أنه إذا صح قول بوبر فلا بد أن تكون جميع القيم والمعايير تعسفية اعتباطية
Arbitary . وفي ذلك يقول بوبر: «إن كل ضروب سوء الفهم يمكن أن ترد إلى ضرب واحد، هو الاعتقاد بأن «الاتفاق»
Convention
يتضمن «الاعتباطية»
Arbitrariness ؛ أي أننا إذا كنا أحرارا في اختيار أي منظومة نحبها من المعايير، فإن أي منظومة تكون كأي منظومة أخرى. علينا بالطبع أن نعترف أن القول بأن المعايير شيء اتفاقي أو اصطناعي يدل على أن الأمر سينطوي على عنصر اعتباطي مؤكد، أي قد يكون هناك منظومات مختلفة من المعايير، ليس بينها شيء عظيم لكي نختاره (وهي حقيقة أكد عليها بروتاجوراس كما يجب). غير أن الاصطناعية لا تتضمن الاعتباطية التامة بأي شكل من الأشكال. فالحسابات الرياضية مثلا أو السيمفونيات أو المسرحيات هي أشياء اصطناعية إلى حد كبير. ولكن لا يترتب على ذلك أن كل حسبة أو مسرحية هي كغيرها». وقد تكلفت نظرية بوبر في تطور المعرفة بالتفسير الكامل لذلك وبيان ما يعتقد أنه التوجه الحق للإنسان. وتجلي ذلك بصفة خاصة في نظريته عن العالم 3 التي فصلناها في مواضعها. (20) تفنيد النزعة اليوتوبية والتخطيط الشمولي
من الحجج البوبرية المضادة للماركسية ما ينطبق أيضا على المذهب اليوتوبي
Utopianism . يمكن وصف المقاربة اليوتوبية كما يلي :
يتوجب على أي فعل عقلاني أن يكون له هدف محدد. إنه عقلاني بقدر ما يسعى إلى غايته بوعي واتساق، وبقدر ما يحدد وسائله وفقا لغايته. تحديد الغاية النهائية إذن هو أول شيء علينا أن نفعله إذا شئنا أن نسلك بعقلانية. وعلينا أن نحرص على تحديد غايتنا الحقيقية أو النهائية، وأن نميزها بوضوح عن تلك الغايات الوسطى أو الجزئية، والتي هي في حقيقة الأمر مجرد وسائل أو هي خطوات على الطريق إلى الغاية النهائية. ونحن إذا أهملنا هذا التمييز فلا بد أيضا أن نهمل السؤال عما إذا كانت هذه الأهداف الجزئية يمكن أن تخدم الغاية النهائية، ولا بد بالتالي أن نعجز عن أن نعمل بعقلانية. هذه المبادئ حين تطبق على عالم النشاط السياسي، تستلزم منا أن نحدد هدفها السياسي النهائي، أو «الحكومة المثالية» قبل أن نتخذ أي خطوة عملية. فليس قبل أن نحدد هذا الهدف النهائي، في تخطيط تقريبي على الأقل، وليس قبل أن يستوي لنا شيء شبيه برسم هندسي للمجتمع الذي ننشده، يمكننا أن نشرع في تدبير أفضل الطرق والوسائل لتحقيقه، وفي رسم خطة للتنفيذ العملي.
39
وقد قدم بوبر حججا لتفنيد أي مدخل إلى السياسة يبدأ من «رسم»
Blueprint ، ثم يشرع في تحقيقه، وهي حجج يتعين على أي مثالي أن يتدبرها إذا كان حقا يريد أن يكون مثاليا بلا أوهام:
إنك حيثما شئت أن تذهب فلا بديل لك من أن تبدأ من حيث أنت. فالبدء من لا شيء هو أمر محال في السياسة قدر ما هو محال في الإبستمولوجيا أو العلم أو الفنون، فلا يمكن لأي تغيير حقيقي، كمقال للتغيير الموهوم، إلا أن يكون تغييرا في ظروف قائمة فعلا. وقد دأب اليوتوبيون على توكيد أنه قبل أن يمكن تغيير هذا الشيء أو ذاك لا بد من تغيير المجتمع ككل. غير أن ما يفضي إليه هذا القول هو أنك قبل أن يمكنك تغيير أي شيء ينبغي أن تغير كل شيء! وهو تناقض واضح.
أيا ما كانت الأفعال التي نتخذها فسوف يكون لها نتائج غير مقصودة، والتي قد تكون ببساطة أشياء مخالفة للرسم الذي رسمناه. وكلما اتسع نطاق مشروعنا زاد عدد النتائج غير المقصودة. وادعاؤنا العقلانية في خطط شاملة لتغيير المجتمع ككل هو ادعاء بمعرفة سوسيولوجية مفصلة نحن ببساطة لا نملكها، كما أن الحديث بالطريقة اليوتوبية عن الوسائل والغايات هو بمثابة استخدام استعارة بلاغية بطريقة مضللة، فليس ثمة في حقيقة الأمر غير مجموعة من الأحداث القريبة زمنيا يطلق عليها «الوسيلة»، متبوعة بمجموعة أبعد من الأحداث يطلق عليها «الغاية». غير أن هذه المجموعة الأخيرة سوف تتبع بدورها - ما لم يتوقف التاريخ تماما - بمجموعات متتالية من الأحداث. ومن ثم فإن «الغاية» ليست غاية في حقيقة الأمر. ولا فائدة ترجى في الدفاع عن مزايا ندعيها لشيء لا يعدو أن يكون مجموعة ثانية من الأحداث في سلسلة لا متناهية. وفضلا عن ذلك، وحيث إن المجموعة الأولى هي أقرب زمنيا، فإن احتمال تحقيقها بالشكل المطلوب هو أكبر من احتمال تحقيق المجموعة الثانية الأبعد زمنيا والأقل يقينا. ومن ثم فالمكاسب التي تعدنا بها الأخيرة هي أقل ضمانا من التضحيات التي قدمت لها في الأولى. وإذا كان لجميع الأفراد دعاوى أخلاقية متساوية، فمن الخطأ أن نضحي بجيل لمصلحة الجيل التالي.
حجة خاصة بالرسم نفسه: إن اختلاف الناس حول نوع المجتمع الذي يريدونه هو حقيقة واقعة، حتى المحافظين التقليديين والتحرريين والاشتراكيين، لكي لا نستثنى أحدا. ومن ثم فأيا ما كانت طبيعة الجماعة التي تتقلد السلطة بهدف تحقيق رسمها المتصور للمجتمع، فإنها سوف تكبح معارضة الآخرين، إن لم تقسرهم على خدمة هدف لا يريدونه. وفي حين يربأ المجتمع الحر عن فرض أهداف اجتماعية مشتركة، فإن الحكومة ذات الأهداف اليوتوبية مضطرة إلى أن تصبح استبدادية، ومصيرها أن تكون استبدادية.
لما كانت إعادة التشييد الجذرية للمجتمع هي مطلب ضخم، فمن المقدر له أن يستغرق زمنا طويلا. ولكن من الضامن أن الأهداف والأفكار والمثل الاجتماعية لن تتغير تغيرا جوهريا خلال هذا الزمن، وهو زمن فوران ثوري بحكم التعريف؟ فإذا حدث ذلك بالفعل فهو يعني أن ما بدا حتى لواضعي الرسم على أنه أفضل صور المجتمع سوف يتباعد عن ذلك كلما اقتربوا منه، وسوف يختلف عن أي شيء مطلوب بالنسبة للخلف الذين لا علاقة لهم بهذا الرسم قبل كل شيء.
ويتعلق ذلك بحجة أخرى: إن المخططين أنفسهم جزء من المجتمع الذي يرغبون في محوه. ليس هذا فحسب، بل إن تجربتهم الاجتماعية، ومن ثم فروضهم وأهدافهم مهما بلغت نقديتها، قد قدر لها أن تكون مكيفة به بعمق، مما يعني أن محو هذا المجتمع يتضمن محوهم ومحو خططهم أيضا!
إن إعادة البناء الاجتماعي بصورة جذرية، وبالتالي بصورة ممتدة زمنيا، يعني أن تستأصل وتشتت عددا كبيرا جدا من الناس، خالقا بذلك محنة نفسية ومادية هائلة. ومن المتوقع أن بعض الناس على الأقل سوف يناهضون الإجراءات التي تهددهم بهذه الآثار . مثل هؤلاء المناهضين سوف تراهم الفئة الحاكمة التي تحاول تحقيق المجتمع المثالي على أنهم مناهضون للخير كله بباعث من المصلحة الشخصية (وسيكون في ذلك شيء من الحقيقة)، ومن ثم على أنهم أعداء المجتمع. وسيكون هؤلاء ضحايا ما سيأتي، فلما كانت الأهداف المثالية البعيدة المنال يتأخر مجيئها طويلا، وفترة خنق النقد والمعارضة تطول أكثر فأكثر، فإن الاضطهاد والاستبداد سيزدادان حدة (وإن خلصت النوايا!)، وبالضبط لأن المقاصد والأهداف ترى مثالية فإن الفشل المستمر في تحقيقها جدير بأن يؤدي إلى القذف بالتهم وادعاء أن «شخصا ما يهز القارب!» لا بد أن هناك تخريبا، أو تدخلا أجنبيا، أو قيادة فاسدة (إذ إن جميع التفسيرات الممكنة التي تستثني نقد الثورة نفسها تتضمن بالضرورة خبثا وشرا من جانب شخص ما).
حينئذ تبرز ضرورة كشف المذنبين واستئصال شأفتهم، ومن طلب مذنبين وجد مذنبين! وهنا يكون النظام الثوري قد غرق للأذقان في عواقب غير متوقعة ونتائج غير مقصودة لأفعاله؛ لأنه حتى بعد أن يلقى أعداء الثورة جزاءهم ستظل الأهداف الثورية متعسرة لا تتحقق. وسوف يضطر الحكام أكثر فأكثر إلى الأخذ بالحلول المباشرة للمشكلات العاجلة الملحة (ما يطلق عليه بوبر «التخطيط غير المخطط») وهو عادة شيء من الأشياء التي ازدروا عليها الأنظمة السابقة. وسوف تتسع الفجوة بين أهدافهم المعلنة وبين ما يصنعونه بالفعل. وسوف يقترب ما يصنعونه أكثر فأكثر من ذلك الذي تصنعه الحكومات الشديدة البعد عن اليوتوبية. ذلك أن الحياة بعد كل شيء لا بد أن تسير بأي شيء، لا بد للناس أن يطعموا ويلبسوا ويسكنوا، ولا بد للأطفال أن يتعلموا، ولا بد أن تستمر الخدمة الطبية والنقل والشرطة والإطفاء، وكل هذه أشياء تعتمد في المجتمع الحديث على تنظيم واسع النطاق. ومعنى أن تمحو كل هذه الأشياء مرة واحدة هو أن تخلق فوضى بمعنى الكلمة. وإنه لضرب من الجنون أن تعتقد أنه من هذا العماء يمكن بشكل ما أن يبزغ مجتمع مثالي! وضرب من الجنون حتى أن تعتقد أن مجتمعا أفضل من هذا قليلا يحتمل أن يبزغ من العماء أكثر مما يحتمل أن يبزغ من هذا المجتمع الذي وصلنا إليه الآن. ورغم هذا فحتى لو صممنا على ذلك فلن نستطيع، برغم أحلامنا بالكمال، أن نمحو كل شيء ونبدأ من جديد مرة ثانية.
إن البشر على حد قول أوتو نويرات أشبه ببحارة سفينة في عرض البحر، يمكنهم أن يصلحوا أي جزء من السفينة التي يعيشون فيها، ويمكنهم أن يصلحوا السفينة كلها جزءا جزءا، ولكن لا يمكنهم أن يصلحوها كلها دفعة واحدة.
إن التغير لن يتوقف إلى الأبد، وهذه حقيقة تجعل فكرة «رسم» مجتمع فاضل هي بحد ذاتها فكرة غير ذات معنى. إذ حتى لو حصلنا على مجتمع مطابق للرسم، فإنه سيبدأ بحكم حقيقة التغير في الابتعاد عن «الرسم». ومن ثم فإن المجتمعات المثالية مستحيلة التحقيق، لا لأنها مثالية فحسب، بل لأن مطابقة أي «رسم» على الإطلاق يستلزم أن يكون المجتمع ثابتا سكونيا لا يتغير، وليس هناك مجتمع بهذه المواصفات يمكن تصوره أو التنبؤ به. والحق أن تسارع خطوات التغير الاجتماعي تبدو في ازدياد مستمر عاما بعد عام. ويبدو أن عملية التغير، على حد إدراكنا، لن تنتهي عند حد. ومن ثم فإن أي توجه سياسي يرجى له أن يطابق الحقائق يجب أن يكون مكيفا لا بالأحوال الثابتة بل بالتغير.
يجب إذن ألا تكون مهمتنا هي تأسيس صورة معينة للمجتمع والإبقاء عليها، فهذا كما رأينا أمر مستحيل، بل أن نصل إلى أقصى سيطرة على التغيرات الفعلية التي تحدث في عملية تحول لا نهاية لها، وأن نستعمل هذا الضبط بحكمة. وحيث إن المجتمع لن يكون كاملا فإن السؤال «ما هو شكل المجتمع المثالي؟» هو سؤال نظري أكاديمي. إن بوبر كما قلنا مرارا يكره أسئلة «ما هو؟»: ما هي الجاذبية؟ ما هي العدالة؟ ما هي الحياة؟ ... إن أسئلة من هذا القبيل هي أسئلة لا يرجى منها أن تصنع تقدما في العلم. مثلما أن: ما هي الحرية؟ ما هي العدالة؟ ... إلخ هي أسئلة لا تصنع تقدما في السياسة. مثل هذه المحاولات شبه السحرية لحبس ماهية الواقع في تعريف هو ما حدا ببوبر إلى أن يدرجها تحت تصنيف «الماهوية»
Essentialism . ومن طبيعة هذا المدخل الماهوي في السياسة أن يؤدي إلى اليوتوبية والصراع المذهبي.
40
أما الأسئلة الأكثر أصالة وجدوى فهي أسئلة من قبيل: «ماذا ينبغي علينا أن نفعل في هذه الظروف؟»، «ما هي مقترحاتك؟» ... فإجابات مثل هذه الأسئلة يمكن أن تناقش وتنقد بطريقة مثمرة، فإذا صمدت لذلك فهي جديرة بأن نجربها عمليا. فالعمل الأجدى في السياسة، كما في العلم، ليس هو تحليل المفاهيم بل التمحيص النقدي للنظريات وتعريضها لاختبار التجربة.
41 (21) الهندسة الاجتماعية الجزئية
ثمة تطابق لا تخطئه العين بين فكر بوبر السياسي وفكره العلمي. فالحجج التي يمضي بها نقده للنظرة السياسية القائلة بإمكان تأسيس شكل معين للمجتمع والإبقاء عليه، تناظر نقطة لنقطة حججه التي يقوم عليها نقده للنظرة التي تقول بأن العلم يمكنه أن يؤسس معرفة يقينية ويبقي عليها. ورأيه القائل بأن العلم هو المنهج العلمي يناظر رأيه بأن السياسة هي المنهج السياسي. وفي كلتا الحالتين فإن ما يريدنا بوبر أن نستخدمه هو عملية «تغذية راجعة»
Feed-back
لا تنتهي، ندفع فيها بأفكار جديدة جريئة يتم تعريضها جميعا لتمحيص قاس لاستبعاد الخطأ في ضوء التجربة. وهو يسمي هذه الطريقة «العقلانية النقدية»
Critical Rationalism
في الفلسفة، ويسميها في السياسة «الهندسة الاجتماعية الجزئية»
.
والمهندس الاجتماعي الجزئي، مثله مثل سقراط، يعلم أنه لا يعلم إلا قليلا. وهو يعرف أن أخطاءنا هي سبيلنا الوحيد إلى التعلم. ومن ثم فهو يتلمس طريقه خطوة خطوة، يقارن النتائج التي كان يتوقعها بالنتائج التي تحققت بالفعل، وهو يرتقب على الدوام ظهور النتائج التي لا يرغب فيها ولكنها لا مفر منها في كل إصلاح. هذا فضلا عن أنه لا يقدم على الإصلاحات إذا كانت من التعقيد وسعة النطاق بحيث يمتنع عليه التمييز بين العلل والمعلولات المتشابكة فيها، فيمتنع عليه نتيجة لذلك إدراك ما هو في سبيل القيام به على حقيقته.
إنه منهجي علمي في تناول المجتمع والسياسة، إذ يتخذ موقفا نقديا، ويتبنى أسلوب المحاولة والخطأ، وهو لا يتوقع فقط الوقوع في الأخطاء، بل يتعلم أيضا منها ويفتش عنها عامدا. ذلك أن بنا جميعا ضعفا يتنافى والروح العلمية يجعلنا نعتقد أننا دائما على صواب. ويبدو أن هذا الضعف شائع بصفة خاصة بين السياسيين المحترفين منهم والهواة. والسبيل الوحيد للاقتراب من المنهج العلمي في السياسة هو التسليم في أعمالنا بأنه لا يمكن القيام بعمل سياسي خال من العيوب، أو عمل لا تترتب عليه نتائج غير مرغوبة. ولكن «الترصد» لهذه الأخطاء والعثور عليها والكشف عنها وتحليلها والتعلم منها. هذا هو عمل السياسي إذا شاء أن يكون علميا. فالمنهج العلمي في السياسة معناه أن نطرح عنا ذلك الفن العظيم الذي نوفق بواسطته إلى إقناع أنفسنا بأننا لم نقترف خطأ من الأخطاء، كما نستعين به على تجاهل هذه الأخطاء وإخفائها ولوم الآخرين عليها. فلنستبدل بهذا الفن العظيم فنا أعظم يساعدنا على تحمل مسئولية أخطائنا والتعلم منها والإفادة من هذا العلم والعمل على تجنبها في المستقبل.
42
والمهندس الجزئي يولي اهتمامه للبحث عن العيوب الملحة في المجتمع وإصلاحها، لا للبحث عن الغايات المثالية القصوى للمجتمع والنضال في سبيلها. والفرق بعيد بين الوجهتين، فالهندسة الجزئية منهج يمكن تطبيقه في أي وقت، بينما تدعو الهندسة الكلية إلى التسويف المستمر للفعل ريثما تحين ظروف مواتية. ومن الأرجح أن تحظى إصلاحات المهندس الجزئي بقبول الجميع، وألا تثير أي خلاف أو تضارب في الرأي، فالشقاء والمعاناة والبؤس أمور لا يختلف عليها الناس، فالواقع في قبضتها يعرفها جيدا وسواه لا يود أن يبتلى بها، أما التصورات الكلية لما ينبغي أن يكون عليه المجتمع وتكون عليه الخطط العريضة النطاق ولما يمكن أن تحققه وما يمكن أن تجره من عواقب، فهذه أمور يكثر فيها التردد والحيرة والخلاف.
43
سمة الهندسة الجزئية أن رسومها بسيطة تخص نظاما واحدا: الصحة، التأمين ضد البطالة، المحاكم، ميزانية معالجة الكساد، إلخ. إذا أخطأت الهندسة الجزئية فأخطاؤها غير فادحة وتدارك الأخطاء غير بعيد وإعادة التأقلم غير عسيرة. ولما كانت أقل خطرا فهي أقل إثارة للشقاق والتصدع. أما التخطيط الكلي المثالي فيقتضي مركزية السلطة وقوتها، ويؤدي مباشرة إلى الديكتاتورية، وقمع النقد، وفقدان التغذية الراجعة الضرورية للرؤية الصائبة وحذف الخطأ. ولما كان التخطيط الكلي حريا أن يضر بمصالح الكثيرين، فإن المهندس الكلي يجد نفسه مضطرا إلى أن يصم أذنيه عن شكاوى كثيرة، وربما جعل مهمته أن يكبح الاعتراضات السفيهة، وأن يسكت الأصوات الناشزة، وأن يقول - مع لينين: «ليس بإمكانك أن تصنع عجة دون أن تكسر بيضا.» غير أنه إذ يفعل ذلك سيكون قد خسر النقد الحكيم أيضا والتوجيه المخلص.
ثمة مشكلة أخرى تتعلق بالهندسة اليوتوبية هي مشكلة خليفة الديكتاتور. ومؤدى هذه المشكلة أن ضخامة المشروع اليوتوبي نفسها تجعله متعذرا عن التحقق خلال حكم واحد، فالأغلب أن يرث خليفة الديكتاتور، أو سلسلة من خلفائه، نفس التركة اليوتوبية غير المتحققة. وإذا لم يواصلوا خطته (إن كانت قد بقيت خطة) ويسيروا على دربه تكون كل التضحيات التي تحملتها الأجيال من أجل وهم المثال قد ذهبت سدى!
44
في كتابه «عقم المذهب التاريخي» يقول بوبر في هذا الصدد: «والمخطط الكلي يغفل الحقيقة الآتية: إن من السهل تركيز السلطة، ولكن من المستحيل تركيز كل المعارف الموزعة على كثرة العقول الفردية «العالم 3». ولا مفر من تركيز هذه المعارف حتى يمكن تصريف السلطة المركزة تصريفا حكيما. ولعل هذا ما يدفع المخطط الكلي إلى محاولة تبسيط مشكلاته باستبعاد التعددية الفكرية. وهو مضطر في ذلك إلى محاولة السيطرة على العقول والتحكم في الميول والمعتقدات وتجميدها بواسطة التربية الموحدة والغرس العقائدي. ولكن هذا لا بد من أن يحجب عنه ما يجري حقا في عقول الناس، ومن أن يقضي على التفكير الحر والنقدي، ومن أن يقضي في نهاية المطاف على المعرفة، وأهون ما تثمره هذه الطريقة هو أن تعمي على المخطط الكلي نتائج تشريعاته وتجعله لا يتبين إن كانت تتفق ومقاصده الطيبة. أما في الطريقة الجزئية فمن السهل تبين مقدار النجاح والفشل، وليس من حاجة إلى تكديس السلطة وقمع النقد. والأرجح أيضا أن يجد الكفاح ضد العيوب المحددة والأخطار المعينة تأييدا أكثر مما يلقاه الكفاح لأجل تحقيق مجتمع يوتوبي، مهما اصطبغ في نظر المخططين بصبغة المثل الأعلى. وربما كان في هذا ما يلقي بعض الضوء على أن البلاد الديمقراطية في دفاعها عن نفسها ضد العدوان تجد التأييد الكافي لما تضطرها إليه طبيعة الحال من تشريعات متطرفة (تذهب إلى حد الانطباع بطابع التخطيط الكلي) دون حاجة بها إلى كبت النقد العام، في حين أن البلاد التي تستعد للهجوم أو لشن حرب عدائية تضطر في الغالب إلى كبت النقد العام، حتى تتمكن من تعبئة التأييد الشعبي بتصوير الاعتداء في صورة الدفاع.
45 (22) التأويل التاريخي/معنى التاريخ
ليس هناك إذن «علم» للتاريخ، فالتاريخ ليس مجالا للعلم بل التأويل.
ليست هناك «نظريات» تاريخية، بل «وجهات نظر» أو «تأويلات» لا يمكن اختبارها، إذ هي لا تقبل «التكذيب»، ومن ثم فكل الملاحظات التي يبدو أنها تؤيدها لا قيمة لها ولو بلغت نجوم السماء عددا.
والمذهب التاريخي يفهم هذه التأويلات خطأ على أنها نظريات، وهذه إحدى مثالبه الكبرى. فمن الممكن مثلا تأويل التاريخ باعتباره تاريخ صراع بين الطبقات، أو تاريخ الصراع بين الأجناس البشرية من أجل السيادة، أو تاريخ الصراع بين الأفكار الدينية، أو بين المجتمع المفتوح والمجتمع المقفل، أو باعتباره تاريخ التقدم العلمي والصناعي. وكل هذه وجهات نظر تزيد أو تنقص في أهميتها، ولا اعتراض عليها من حيث خلوها من الإلزام (وإن تميز بعضها على بعض بالخصوبة، وهذه نقطة جديرة بالاهتمام)، وإنما هم يعرضون هذه التأويلات على أنها مذاهب أو نظريات، فيقررون أن كل تاريخ هو تاريخ الصراع بين الطبقات أو ما إلى ذلك. وهم إذا اكتشفوا شيئا من «الخصوبة» في وجهة النظر التي يأخذون بها، فتبينوا أن كثيرا من الوقائع يمكن تنظيمها في ضوئها، فهموا ذلك خطأ على أنه تأييد لمذهبهم، بل برهان على صدقه.
تختلف التأويلات فيما بينها بشكل واضح، غير أن التأويلات المختلفة، من حيث هي وجهات نظر متعددة لنفس الشيء، ليست متضاربة بالضرورة، فقد تكون «متتامة»
Complementary
يكمل أحدها الآخر. تماما مثلما تكون لقطتان من زاويتين مختلفتين لنفس المنظر الطبيعي . وهذا أمر جدير بالاعتبار، ويحمل متضمنات اجتماعية وسياسية هامة. فكل جيل لديه مشكلاته الخاصة، ومن ثم لديه مصالحه الخاصة ووجهة نظره الفريدة. ويترتب على ذلك أن على كل جيل أن «يعيد تأويل» التاريخ من زاويته، ليظفر بالتاريخ الذي يهمه والتأويل الذي يعنيه، وهو تأويل يكمل تأويل الجيل السابق ولا يناقضه، وتأويل لا يقل شأنا عما يكتبه التاريخي الساذج الذي يظن أنه بلغ من الموضوعية مبلغا يسمح له أن يسرد «أحداث التاريخ كما وقعت حقا». إذ ليست هناك «حقائق موضوعية» في التاريخ، بل هناك «تأويلات» جهدها من الموضوعية أن تتجنب الميل اللاشعوري والتحيز غير النقدي، وفضيلتها عندئذ هي «الخصوبة»، أي قدرتها على إضاءة الوقائع الماضية وإبراز موضوعها المعني وتوضيح مشكلاتها الحاضرة.
46 •••
ومجمل القول إنه لا يمكن أن يكون هناك تاريخ ل «الماضي كما حدث بالفعل»، بل يمكن أن تكون هناك «تأويلات تاريخية»، جميعها احتمالية غير نهائية. وإعادة كتابة التاريخ ليست «حقا» لكل جيل فحسب، بل «واجبا» عليه. لأن لكل جيل حاجة يريد أن يفي بها. إننا نريد أن نعرف كيف تتصل مشكلاتنا الحالية بالماضي، ونريد أن نرى الخط الذي سنأخذه في تقدمنا تجاه حل ما نشعر أنه مشكلتنا الرئيسية. إن هذه الحاجة هي التي تؤدي إذا لم تجد الإجابة العقلانية والوسائل الجيدة إلى التأويلات التاريخانية. وإنما تحت ضغط هذه الحاجة يستبدل التاريخاني بالسؤال العقلاني «ماذا علينا أن ننتقي بوصفه مشكلاتنا الأكثر إلحاحا؟ كيف نشأت هذه المشكلات، وأي الطرق يمكننا أن نتخذ لحلها؟» يستبدل به سؤاله الذي يبدو وقائعيا
Factual : «ما هو الدور الذي قدر لنا التاريخ أن نلعبه؟»
47
لقد خرج المذهب التاريخي ليبحث عن «الطريق» الذي كتب على البشرية أن تقطعه. خرج ليبحث عن «مفتاح» لغز التاريخ، خرج ليبحث عن «معنى» التاريخ. ولكن هل هناك «مفتاح» للتاريخ؟ هل للتاريخ معنى؟
يريد بوبر قبل كل شيء أن يقول إننا جميعا نلفظ كلمة «تاريخ» ونتحدث عن التاريخ كما لو كان هو ذاته شيئا لا يحتاج إلى تفسير. فالحق أن «التاريخ» بالمعنى الذي يتحدث به معظم الناس هو ببساطة لا وجود له. وهذا على الأقل واحد من الأسباب التي تدعو بوبر لأن يقول بأن ليس للتاريخ معنى. لقد اعتاد الناس الحديث عن التاريخ، وتعلموا شيئا منه في المدرسة أو الجامعة، وقرءوا كتبا حوله، ورأوا ما يعالج في هذه الكتب تحت اسم «تاريخ العالم» أو «تاريخ الجنس البشري»، ودرجوا على أن ينظروا إليه بوصفه سلسلة محددة من الوقائع، واعتقدوا أن هذه الوقائع تشكل تاريخ الجنس البشري.
غير أننا رأينا أن عالم الوقائع يعج بما لا نهاية له منها، وأن لا مناص لنا من الانتقاء. بوسعنا مثلا أن نكتب وفقا لاهتماماتنا، عن تاريخ «الفن» أو «اللغة» أو «العادات الغذائية» أو «تاريخ حمى التيفوس». يقينا ليس واحد من هذه هو تاريخ الجنس البشري (ولا كلها مجتمعة). فالذي يقر في ذهن الناس عندما يتحدثون عن تاريخ الجنس البشري هو تاريخ الإمبراطورية المصرية والبابلية والمقدونية والرومانية وما إليها وصولا إلى يومنا هذا. هم إذن يتحدثون عن «تاريخ الجنس البشري»، ولكنهم يعنون «تاريخ السلطان السياسي».
ليس هناك تاريخ للجنس البشري، بل هناك عدد لا حصر له من تواريخ الجوانب المختلفة من الحياة البشرية. وما التاريخ السياسي سوى واحد من هذه التواريخ ، غير أنه رفع ليكون هو تاريخ العالم (وإن هذه لإهانة لكل تصور سام عن الجنس البشري). وما هو بأقوم من أن تعرض تاريخ الاختلاس أو النهب أو دس السم بوصفه تاريخ الجنس البشري. ذلك أن تاريخ النفوذ السياسي ما هو إلا تاريخ الجرائم الدولية والقتل الجماعي (متضمنا حقا بعض المحاولات لكبح ذلك). ونحن نتعلم في المدارس أن هذا هو التاريخ، ونحمل على تمجيد حفنة من عتاة المجرمين بوصفهم أبطاله.
يعلم بوبر أن هذه الآراء سوف تلقى معارضة شديدة من جانب الكثيرين، بما فيهم العديد من المدافعين عن المسيحية. فقد ترسخ في التعاليم المسيحية أن الله يكشف عن نفسه في التاريخ وأن للتاريخ معنى، وأن هذا المعنى هو مشيئة الله. وهكذا وقر الاعتقاد بأن التاريخانية عنصر ضروري من عناصر الدين. غير أن بوبر يأبى الاعتراف بذلك، ويؤكد أن هذا الاعتقاد هو محض «وثنية» وخرافة، من وجهة النظر العقلانية أو الإنسانية، بل من وجهة النظر المسيحية نفسها.
ماذا وراء هذه التاريخانية الثيولوجية؟ مع هيجل تنظر هذه التاريخانية إلى التاريخ (السياسي بطبيعة الحال) بوصفه مسرحا أو بالأحرى بوصفه نوعا من المسرحية الشكسبيرية الطويلة، يرى المشاهدون فيها «الشخصيات التاريخية الكبرى» أو «البشرية» بمعناها المجرد، كأبطال للمسرحية، ثم يسألون عندئذ: «من الذي كتب هذه المسرحية؟» ويظنون أنهم يقدمون جوابا تقيا حين يقولون: «الله» ولكنهم مخطئون، وجوابهم محض تجديف، ذلك أن المسرحية لم يكتبها الله، (وهم يعرفون ذلك)، بل كتبها أساتذة التاريخ تحت إشراف الجنرالات والحكام المستبدين.
48
ليس للتاريخ معنى، هكذا يصرح بوبر. غير أن هذا التصريح لا يعني أن كل ما يمكننا أن نفعله بإزائه هو أن ننظر نظرة المشدوه إلى تاريخ النفوذ السياسي، أو أن ننظر إليه على أنه نكتة فظة. ذلك أن بوسعنا أن «نؤوله»، وأعيننا على تلك المشكلات السياسية التي ننتقي حلولها لكي نجربها في زمننا نحن. بوسعنا أن نؤول تاريخ السلطان السياسي من وجهة نظر نضالنا الحالي من أجل المجتمع المفتوح، ومن أجل حكم العقل، ومن أجل العدالة والحرية والمساواة، ومن أجل الحد من الجرائم الدولية. ليس للتاريخ غايات، ولكن بوسعنا نحن أن نفرض عليه غاياتنا. وليس للتاريخ معنى، ولكن بوسعنا نحن أن نضفي عليه المعنى.
إنها مشكلة «الطبيعة»
Nature ، و«العرف»
Convention (الاتفاق، المواضعة، الاصطلاح)، تلك التي تواجهنا هنا مرة ثانية. فلا الطبيعة ولا التاريخ يمكن أن ينبئنا بما ينبغي علينا أن نفعل. فالوقائع
Facts
سواء كانت وقائع الطبيعة أو وقائع العلوم، لا يمكنها أن تصنع القرار لنا، ولا يمكنها أن تحدد الغايات التي سيقع عليها اختيارنا. إنما نحن من يدخل الغاية والمعنى في الطبيعة وفي التاريخ. الناس ليسوا سواسية «بالطبيعة»، غير أن بوسعنا أن نقرر أن نقاتل من أجل مساواة في الحقوق. والمؤسسات الإنسانية، من مثل الدولة، ليست عقلانية، ولكن بإمكاننا أن نقرر أن نناضل لكي نجعلها أكثر عقلانية. نحن أنفسنا، ولغتنا العادية، فينا من الانفعال أكثر مما فينا من العقل، ولكن بمقدورنا أن نصبح أكثر عقلانية وأن نروض أنفسنا على استخدام اللغة لا كأداة للتعبير عن الذات بل للتواصل العقلي.
هذه الثنائية «الوقائع، والقرارات» هي ثنائية أساسية. الوقائع، بوصفها وقائع، ليس لها معنى، ولا تحظى بالمعنى إلا من خلال قراراتنا. إن التاريخانية مجرد واحدة من محاولات كثيرة للتغلب على هذه الثنائية. إنها وليدة الخوف، لأنها ترتعد من إدراك أننا نحمل المسئولية الكاملة حتى عن المعايير التي نختارها. غير أن هذه المحاولة تمثل ما يوصف دائما على أنه «خرافة»، لأنها تفترض أن بإمكاننا أن نحصد حيث لم نزرع. وتحاول أن تقنعنا أننا إذا اكتفينا بمسايرة التاريخ حيث يسير فإن كل شيء سيكون على ما يرام، دون أي قرار جوهري من جانبنا. تريد أن ترفع عنا المسئولية وتضعها على كاهل التاريخ، ومنه إلى رواية القوى الشبحية خارج أنفسنا، وتريد أن تؤسس أفعالنا على المقاصد الخفية لهذه القوى، والتي لا تتكشف لنا إلا بإلهامات باطنية أو بحدوس صوفية. وبذلك تضع أفعالنا وتضعنا على المستوى الأخلاقي لرجل يتخير رقمه المحظوظ في اليانصيب بوحي من خرائط البروج ومن الأحلام. التاريخانية كالقمار، هي وليدة يأسنا من العقل ومن مسئولياتنا عن أفعالنا، هي أمل زائف وإيمان ممذوق، ومحاولة للاستعاضة عن الأمل والإيمان اللذين ينبعان من أريحيتنا الأخلاقية وازدرائنا للثروة، بيقين ينبع من علم زائف بالطالع، وبالطبيعة البشرية، وبالمصير التاريخي.
49
التاريخانية وريثة مذاهب عتيقة وغائية بدائية تترجم شعور الإنسان القديم بأنه يساق نحو المستقبل بتأثير قوى لا يعرفها ولا يملك مقاومتها. إنها تبلور ذلك الخوف نفسه، والعجز نفسه. يبدو أن التاريخانيين يبشرون بالتغير في مناورة التفافية لاحتواء خطره وكبح جماحه. لعلهم خائفون من التغير، أو أنهم يريدون أن يروضوا التغير ويحبسوا مارده في مصطلحات من صنعهم وتصورات من وهمهم، أو أنهم على حد قول بوبر في خاتمة «عقم المذهب»: «يحاولون تعويض أنفسهم عن فقدان عالم لا يتغير فيتشبثون بالاعتقاد بأن التغير يمكن التنبؤ به لأنه محكوم بقانون لا يتغير !» (23) التقدم يعتمد على الديمقراطية
ربما تكون قلة منا نحن الأثينيين هي القادرة على وضع السياسات، لكننا جميعا نملك القدرة على الحكم عليها، وبدلا من أن ننظر إلى الحوار على أنه حجر عثرة في طريق الفعل، فنحن نراه مقدمة لا غنى عنها لكل فعل سديد على الإطلاق.
بركليز
يفند بوبر في «عقم المذهب التاريخي» النظرية السيكولوجية في التقدم التي قال بها مفكرون مثل أوغست كونت، وجون ستيوارت مل. اعتقد كونت أن قانون التقدم يمكن استنباطه من ميل في طبيعة البشر يدفعهم إلى طلب الكمال أكثر فأكثر. ويتبعه مل في ذلك ويدفع بنظريته التي أسماها «تقدمية النفس الإنسانية»، هذه النفس التي يقول إن أول «قوة دافعة فيها ... هي الرغبة في تحقيق الرخاء المادي.» أما بوبر فقد اتخذ في ذلك منهجا أسماه «التحليل النظمي أو المؤسساتي (التكنولوجي) لشروط التقدم.» ولكي نعثر على شروط التقدم، فإن ذلك يقتضينا أن نحاول أن نتخيل الظروف التي يترتب على تحقيقها وقوف التقدم!
تقوم هذه الطريقة على فكرة بسطها بوبر في غير موضع، مفادها أن كل قانون من القوانين الطبيعية (والاجتماعية) يمكن وضعه في عبارة مؤداها أن أمورا معينة لا يمكن أن تحدث! أي في عبارة تشبه في صورتها المثل القائل «لا يمكنك أن تحمل الماء في مصفاة». فقانون بقاء الطاقة مثلا يمكن وضعه في الصيغة الآتية: «لا يمكنك أن تبني آلة دائمة الحركة»، وقانون الإنتروبي
Entropy
يمكن التعبير عنه كالآتي: «لا يمكنك أن تبني آلة كفايتها مائة في المائة». ومن شأن هذه الطريقة في صياغة القوانين الطبيعية أن تبرز المتضمنات التكنولوجية لهذه القوانين. ويمكننا بشيء من التبسط أن نقول إنها «تقلب القانون لتكشف وجهه التطبيقي!»
وإذا كنا بصدد بحث شروط التقدم، فإن ذلك يقتضينا أن نسأل: كيف نستطيع وقف التقدم العلمي والصناعي؟ والجواب: بإغلاق معامل البحوث العلمية أو التحكم فيها، وبإغلاق الجامعات وغيرها من دور العلم، وبوقف آلات الطباعة ومنع الكتب والكتابة، وأخيرا بتحريم الكلام. كل هذه الأشياء التي يمكن بالفعل قمعها (أو السيطرة عليها) هي مؤسسات اجتماعية . فاللغة مؤسسة (نظام) اجتماعية يستحيل تصور التقدم العلمي بدونها، إذ لا وجود للعلم بدونها، وبدونها لا تتقدم التقاليد ولا تنمو. والكتابة مؤسسة اجتماعية، وكذلك كل المنظمات الخاصة بالطباعة والنشر وسائر المؤسسات التي يتخذها المنهج العلمي أدوات له. وللمنهج العلمي نفسه جانب اجتماعي. فالعلم، والتقدم العلمي بنوع خاص، لا ينتجان عن الجهود المنعزلة بعضها عن بعض، بل ينتجان عن حرية التنافس الفكري. ذلك أن العلم محتاج إلى التنافس المتزايد بين الفرضيات، ومحتاج إلى الدقة المتزايدة في الاختبارات. وتحتاج الفرضيات المتنافسة إلى من يمثلها أو ينوب عنها من الأشخاص، إن صح التعبير، أي أنها تحتاج إلى محامين ومحلفين، بل تحتاج إلى جمهور. وهذا التمثيل الشخصي لا يقوم بوظيفته إلا إذا اتخذ صورة المؤسسات. وهذه المؤسسات لا بد من إمدادها بالمال، ولا بد من حمايتها بالقانون. ويعتمد التقدم، في نهاية الأمر، على العوامل السياسية إلى حد بعيد، أي أنه يعتمد على المؤسسات السياسية التي تحمي حرية الفكر: يعتمد على الديمقراطية.
50
ويهمنا أن نلاحظ أن «الموضوعية العلمية» صفة تعتمد إلى حد ما على المؤسسات الاجتماعية، فالقول الساذج بأن الموضوعية العلمية وليدة موقف ذهني أو سيكولوجي لدى الفرد من العلماء، وأنها تعتمد على ما حصله من تجربة وما اكتسبه من تعود على الحيطة وتجنب التحيز، هذا القول من شأنه أن يستثير الرأي المعارض الذي يذهب إلى التشكيك في قدرة العلماء على اتخاذ موقف موضوعي. يقول أصحاب هذا الرأي الأخير إن افتقار العلماء إلى الموضوعية قد لا يكون له تأثير يذكر في العلوم الطبيعية حيث لا يوجد ما يثير انفعالهم، أما في العلوم الاجتماعية التي لا تنجو أبحاثها من الأهواء الاجتماعية والتحيز الطبقي والمصالح الشخصية فقد يكون لهذا الافتقار إلى الموضوعية أثر فتاك. وهذا الرأي الذي ظهر بصورة مفصلة فيما يسمى «النظرية الاجتماعية في المعرفة»، يغفل تماما عما للمعرفة العلمية من طابع اجتماعي أو مؤسساتي؛ لأنه يرتكز على القول الساذج بأن الموضوعية معتمدة على سيكولوجية الأفراد من العلماء. وهو لا يرى أن جفاف موضوع البحث في العلوم الطبيعية أو بعده عن الأمور الشخصية لا يمنعان التحزب والمصلحة الذاتية من التسلل إلى معتقدات العالم، والحق أننا لو اعتمدنا كل الاعتماد على نزاهة العالم عن الهوى، لاستحال العلم تماما، بما في ذلك علم الطبيعة.
إن ما غفلت عنه «النظرية الاجتماعية في المعرفة» هو عين الصفة الاجتماعية للمعرفة، أعني ما للعلم من طابع اجتماعي أو عام: إذ إنها أهملت قيام العلم على قدرة الأفراد على اختباره، واستخدامها المؤسسات في نشر الأفكار الجديدة ومناقشتها، وهذان الأمران هما اللذان يصونان الموضوعية العلمية، وهما أيضا اللذان يفرضان على ذهن العالم نوعا من النظام يلتزم به.»
51
تذييل
مجتمع بوبر المفتوح وما يحمله للانفتاح الصيني «لعب مذهب بوبر التكذيبي دورا بارزا ومحررا في المرحلة المبكرة من انفتاح الصين. ولعل الوقت قد أذن لتطبيق مجتمعه المفتوح.
ينظر بوبر إلى المجتمع بوصفه تنظيما لحل المشكلات. والمجتمع المفتوح عند بوبر شبيه في عمله بالمجتمع العلمي الذي يسمح بتطبيق منهجه في العلم، منهج الحدوس الافتراضية والتفنيدات
Conjectures and Refutations ، تطبيقا أمينا.
وفي المجتمع، كما في العلم، يمكن للحدوس الممتازة أن تأتي من أي جهة بالإبداع الحر، ليس بالضرورة من أعلى. ويتوجب بالتالي أن يكون تدفق المعلومات صاعدا أيضا من القاعدة إلى القمة، وألا يكون مقصورا على الاتجاه من القمة إلى القاعدة. ويترتب على ذلك أن القرار السياسي يقتضي الحوار الحر على جميع المستويات، والتواصل الحر بين جميع أعضاء المجتمع. واقتداء بالمجتمع العلمي حيث تعرض النظرية للاختبار التجريبي وتوضع على محك المشاهدة والتجربة والنقد الموجه من النظريات الأخرى، فإن الخطة السياسية في المجتمع المفتوح يتعين أن تعرض للاختبار النقدي للنتائج المترتبة على تنفيذها، وللنقد الموجه إليها من القاعدة، شاملة المعارضين والمناهضين للخطة.
غير أن بوبر لم يقدم حلا لبعض المسائل الشائكة من قبيل: كيف يمكن أن توزع المعلومات ذات الصلة على جميع أعضاء المجتمع في بلد كالصين نام اقتصاديا وتعليميا، ويعاني شطر كبير من سكانه من الفقر الشديد والأمية؟ فمثل هؤلاء لا سبيل لهم إلى المعلومات ولا قدرة على استيعابها حين يطلب منهم المشاركة في الحوار الحر واتخاذ القرار، أو حين يطلب منهم تقديم النقد. كذلك لم يقدم بوبر حلا لمشكلة أخرى، هي كيف يمكن في مجتمع مفتوح أن نقدم حلا حكيما للخلافات بين الفئات الاجتماعية والعرقية والدينية والثقافية التي تعتنق منظومات مختلفة لا تقبل المقايسة
Incommensurable ،
1
حين نكون بصدد صناعة قرار متماسك.
ومهما يكن من أمر، فإن مجتمع بوبر المفتوح ذو قيمة كبيرة في الإصلاح السياسي بالصين. صحيح أن الانفتاح يدرج بعد في بداياته محدود المجال ملتبس المعنى، ولكن التجربة علمتنا أن اقتصار التدفق المعلوماتي على الاتجاه من القمة هو شيء خطر. وها هو النقد المتجه من القاعدة إلى القمة يمضي في خط مستمر رغم بطئه وتعرجه. ولا ضمان لتحقيق ما نصبو إليه من استقرار الصين ورخائه، ما لم يود الانفتاح الحالي إلى مجتمع بوبري مفتوح، يتمتع بسوق ناضجة، وديمقراطية ليبرالية تأخذ خصوصية الصين وطابعه بعين الاعتبار.»
رن-زنج كيو
معهد الفلسفة، الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية
الفصل الخامس
نظرة نقدية
قد تؤول الفلسفة على أنها تعاقب دائم لميلاد الأفكار، وقد تؤول على أنها تعاقب دائم لمصارع الأفكار. وقديما قال شيشرون إنه لا يوجد رأي مخالف للعقل لم يقل به من قبل بعض الفلاسفة. وهو قول حق، وأحق منه أنه لا يوجد رأي سديد محكم لم يجد له من الفلاسفة من يناوشه وينال من وجاهته. وقد كانت آراء بوبر من هذا الصنف الأخير. لم يسلم الرجل طوال حياته من سهام نقدية كثرت كثرة المعارك العنيفة التي أضرم أوارها. وهي انتقادات تعكس لنا تأثيره الفكري الهائل من جهة، وتهيب بنا من جهة أخرى أن نتدبر هذه الانتقادات وننعم فيها النظر، حتى تكتمل لنا صورة الرجل الذي جعل النقد ماهية الفلسفة، وأحب النقد حتى وسم به مذهبه كله وأفرغ لنفسه مكانا عزيزا في التراث الفلسفي تحت اسم «العقلانية النقدية».
في القسم الخاص بالسيرة الذاتية من كتاب «فلسفة كارل بوبر»
1 (وهو مجموعة مقالات نقدية لعدد من كبار الفلاسفة والعلماء مشفوعة بردود بوبر)، يحكي بوبر عن لقائه الأول بفتجنشتين. وهو مثال يعكس لنا البون الكبير الذي كان يفصل ما بين تصور بوبر للفلسفة والتصور الذي كان سائدا في إنجلترا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى أوائل الستينيات على التقريب. في عام 1946 دعي بوبر لتقديم ورقة علمية في كمبردج «تعرض بعض الأحاجي الفلسفية». كانت صياغة الدعوة تشي بأن كاتبها هو فتجنشتين الذي كان ينكر وجود مشكلات فلسفية حقيقية، ويرى المشكلات الفلسفية «أشباه مشكلات» أو مجرد «ألغاز» يتكفل التحليل الدقيق بتبديدها باستخدام «اللغة العادية». وكعادته، واجه بوبر التحدي دون مواربة بأن قال إنه إذا رأى أن ليس هناك مشكلات فلسفية حقيقية لما كان فيلسوفا. ومن الواضح أن فتجنشتين بعد نقاش قصير أيقن أن بوبر حالة ميئوس منها، فاندفع خارجا من الغرفة وصفق الباب خلفه.
هكذا في أوج نفوذ فتجنشتين بقي بوبر خارج التيار الرئيسي للفلسفة الإنجليزية، ماضيا في طريقه الفلسفي بإصرار وعزم وحس عنيد بما هو مهم حقا وما هو مجرد تناقر حول ألفاظ. هكذا كان الحال. وما كان يمكن أن يكون غير ذلك، فقد كانت هذه حقبة انقلبت فيها الفلسفة على نفسها وانشغل الفلاسفة بتبديد حفنة من الأحاجي الناجمة عن الاستخدام اللغوي والتي ضللت أسلافهم وأوقعتهم في مشكلات كاذبة. ولا عجب أن كان بوبر هو الفيلسوف المفضل عند الفيزيائيين وأهل الاقتصاد والتاريخ والسياسة، وبينما كان هؤلاء يقدرون أهمية المسائل التي شغلت بوبر والتي نذر لها نفسه، كان فلاسفة التيار السائد الأكاديميون يرونه متواضع المستوى محدود القدرة.
والحق أن بوبر نفسه مسئول عن هذا الانطباع الخاطئ؛ فقد كان أسلوبه الشخصي غير محبب لزملائه الإنجليز. كانت كتبه ومقالاته تنضح بالتزامه الشديد بأهمية موضوعه، فتحولت هذه الكتب إلى أسلحة يشن بها حربا ضد ما يراه خطأ، ويمطر خصومه بالحجج من كل صوب، وأحيانا بالسخرية والسباب. ولم يكتف بذلك، بل كان يقع أحيانا في التكرار الممل والاعتداد المنفر. (ويكفي أن نذكر أنه كرر في كتابه «المعرفة الموضوعية» في ثلاثة مواضع على الأقل أنه هو الذي أطلق على مشكلة الاستقراء اسم «مشكلة هيوم »!) وربما ألحت عليه الرغبة في أن يمطر خصومه بالحجج وملكت قواه فجعلته يخلط حجة قوية بحجة ضعيفة، ويقبل كل ما تورده عليه قريحته ويناجيه به طبعه. ورغم أن المرء يؤيد بوبر في قناعته بأن الحجة الحقيقية أجدى من الملاحظات الموحية التي اعتاد فتجنشتين وأتباعه أن ينثروها في أعمالهم، فإن بوبر نفسه قد «أرخص عملة الحجة» باستخدامه لأي حجة تقع عليها يده دون تمييز.
2
ورغم حرص بوبر على وضوح أفكاره وتحديدها، وتحريه الدقة والنصوع في عرضها، وتجنبه لأي التباس يفتح مجالا لإساءة الفهم أو للمماحكة اللفظية، فقد اختلف أتباعه في فهم الكثير من أفكاره المحورية، وانقسموا حول تصور مذهبه. وتعددت التأويلات فيمن كان حريصا على ألا يصير تأويلا! وقد كان بوبر نفسه يشكو كثيرا من أنه يساء فهمه. وكان محرر كتاب «فلسفة كارل بوبر» يصاب بالإحباط إذ يفشل الحوار بين بوبر ونقاده لأن مقالاتهم، وفقا لقول بوبر، موجهة ضد آراء لم يقل بها قط! وقد تكرر هذا الإحباط في مناسبات كثيرة بحيث إن المرء ليساوره شك في أن يكون الكاتب - أي بوبر - مسئولا عن ذلك قدر مسئولية المفسر أو الناقد.
وفيما يلي بعض الاعتراضات الشهيرة التي وجهت إلى فلسفة بوبر، نسردها باقتضاب لكي تكتمل الصورة التي رسمناها حتى الآن لفيلسوف النقد، ولكي نعي أن الفلسفة هي بطبيعتها نقد حتى للنقد نفسه.
3 (1) فلسفته العلمية (1-1) ماذا أنجز بوبر في فلسفة العلم؟ وكيف يرتبط إنجازه بمشكلة الاستقراء؟
إن العلم وفقا لتراث يرتد في الزمن إلى فرنسيس بيكون، ينطلق من تراكم الملاحظات المستنيرة. فبعد أن يجمع العالم ما يكفي من البيانات فإنه سيلاحظ أن «نمطا» معينا قد بدأ يبزغ. وسيفترض أن هذا النمط يومئ إلى قانون علمي ما. عندئذ يحاول أن يؤيد هذا القانون بإيجاد مزيد من الأدلة التي تدعمه، فإذا نجح في ذلك يكون قد «حقق»
Verified
فرضيته؛ يكون قد اكتشف قانونا جديدا من قوانين الطبيعة.
يرفض بوبر هذه النظرة ويبدأ من النقطة المنطقية البسيطة التي تفيد بأن العبارة الكلية من مثل «كل البجع أبيض » لا يمكن البرهنة عليها بملاحظة أي عدد كان من البجع الأبيض (فلعلنا فشلنا في اكتشاف بجعة سوداء في مكان ما)، ولكن من الممكن أن تكذب حالما رأينا بجعة سوداء واحدة مفردة. يتبين من ذلك أن القوانين العلمية ذات الصياغة الكلية لا يمكن «تحقيقها» على نحو حاسم في حين يمكن دحضها؛ ولذا فمن الخطأ أن نبدأ بتكديس ملاحظات، ومن الخطأ أن نبحث عن شواهد مؤيدة للنظرية، بل ينبغي أن ننطلق من حدوس افتراضية جريئة (مستمدة من الحدس أو العبقرية أو ما شئت)، ثم نحاول تفنيدها. من بين أي نظريتين متنافستين نعتبر النظرية التي تعرضت لخطر أكبر من التكذيب، ولكن لم يتم تكذيبها هي النظرية الأكثر «تعزيزا»
Corroboration . وليس يعني ذلك أنها صادقة (فقد تكذب في المستقبل)، بل يعني أنها «أقرب إلى الصدق» من منافستها. فمن الممتنع في العلم أن نعرف أننا اكتشفنا الحقيقة رغم وجود مثل هذه الحقيقة. إنها «فكرة مرشدة» أننا نحاول الاقتراب، ولكن لا نستطيع التيقن من الوصول.
وقد اعترض كل من هيلاري بتنام
Hilary Putnam
وتوماس كون
T. Kuhn
بأننا من الممكن دائما أن ننكر أن نظرية ما قد تم تكذيبها من خلال ملاحظة تبدو للوهلة الأولى أنها تكذبها. فقد نقول مثلا إن الملاحظة المسجلة غير صادقة، أو نقول مثلا إنه إذا كان الطائر الملاحظ أسود إذن فهو بحكم التعريف ليس بجعة مهما شابه البجع في صفاته الأخرى. وبصفة عامة، فإن النظريات العلمية لا تختبر منفصلة، بل مرتبطة بفروض أخرى؛ ومن ثم فبالإمكان إنقاذ النظرية وتفسير الملاحظة بأن ننسب الخطأ إلى أحد الفروض الأخرى. وقد سبق أن أوضحنا أن بوبر لم يغفل هذا الاعتراض. والحق أنه ذكره في أقدم كتاباته. وكان رده هو أن القاعدة المنهجية توجب علينا أن نتجنب «تحصين» نظرياتنا بهذه الطريقة، رغم أنه يعترف أن من الحكمة في بعض المواقف أن نحاول الاحتفاظ بالنظرية برغم الملاحظات الشاذة. غير أن قول بوبر في هذه المسألة يفتقر إلى الدقة، وربما لذلك لم يقنع ناقديه. وفي الوقت نفسه يحذرنا بوبر من طلب الدقة في مواطن لا تؤمل فيها الدقة، ويقول إن علينا أن نسترشد بالظروف الخاصة بكل حالة. وبذلك يتشبث بوبر بموقفه المحوري، وهو اللاتماثل
Asymmetry
بين التحقيق والتكذيب.
وقد يكون من المفيد أن نوضح ذلك بمثال، ولعل المثال الذي استرعى انتباه بوبر بشكل حاسم أن يفيدنا أكثر من غيره:
عندما خمن أينشتين بأن الأشعة الضوئية التي تمر بالقرب من جسم ثقيل كالشمس سوف تعاني انحرافا عن مسارها الطبيعي، لم يكن هذا التأثير قد لوحظ من قبل على الإطلاق، ولم تتنبأ الفيزياء النيوتونية بمثل هذه الظاهرة. فلما تمت الملاحظة وتأيد تنبؤ أينشتين اعتبر ذلك تكذيبا لقوانين نيوتن رغم الكم الهائل من «التحقيق» الذي لقيته عبر القرون. رغم ذلك فقد كان بالإمكان في حقيقة الأمر أن نتمسك بنظرية نيوتن وذلك بإدخال فروض عينية (تحايلية)
ad hoc
لكي تشرح الظواهر. غير أن هذا بدا غير مقبول إذ تبين أن النظرية الجديدة تفسر الأمور بطريقة أكثر «بساطة» (اقتصادا). لقد نجح أينشتين في أن يفسر كل ما نجح نيوتن في تفسيره علاوة على تفسير واحدة مما فشل
4
في تفسيره. ومن ثم لم تتمكن نظرية نيوتن من الصمود، إذ إن نظرية أينشتين هي أكثر اقترابا من الحقيقة. وقد استحقت البقاء لكي تواجه مزيدا من الاختبار.
هذا تقدم كبير في المنهج العلمي بلا ريب، ولكن هل هو أيضا حل لمشكلة الاستقراء؟ يدعي بوبر في أكثر من موضع أنه حل، ويشكو من أن الفلاسفة الآخرين لم يميزوا حله وأن نقاده لم يفهموه. ترى ما هي هذه المشكلة المشهرة العتيدة ... مشكلة الاستقراء؟ تتلخص مشكلة هيوم حول الاستقراء في الآتي: «هل لدينا ما يبرر الاستدلال من أمثلة لنا بها خبرة إلى أمثلة ليس لنا بها خبرة؟ لقد شاهدنا الشمس، على سبيل المثال، تشرق مرات سابقة عديدة، فهل هذا يبرر اعتقادنا بأنها سوف تشرق مرة تالية، غدا مثلا؟»
كيف يجيب بوبر عن سؤال هيوم؟ من الواجب أولا أن نلاحظ كيف يفسر سؤال هيوم. لقد اعتبره بحق لا مجرد مشكلة تعميم من حالات مفردة إلى جميع الحالات ، بل كمشكلة حول الاستدلال من حالات ماضية إلى حالة مستقبلية مفردة. وهو يوافق هيوم أيضا أن وصف اعتقادنا بشروق الغد بأنه احتمالي غير يقيني لا يحل المشكلة.
عندئذ يقول بوبر إن سؤال هيوم يجب أن تعاد صياغته، وهو يريد من إعادة الصياغة أن يحول المشكلة من سؤال عن حالات مفردة إلى سؤال عن نظريات تفسيرية كلية. وهو يجيب عن السؤال المعدل إجابته المتوقعة، وهي أن الملاحظات لا يمكن أن تبرر الدعوى بأن نظرية كلية هي نظرية صادقة، بل يمكنها فقط أن تتيح لنا القول بأنها كاذبة، وأن الملاحظات يمكن أن تبرر تفضيلنا لبعض النظريات على الأخرى.
غير أن نقاد بوبر أشاروا إلى أن هذا لا يبدو أنه إجابة عن سؤال هيوم! فالنظرية القائلة بأن الشمس تشرق كل يوم وإن كانت قد صمدت للتكذيب بالأمس، فهل يعد هذا سببا للاعتقاد بأنها سوف تصمد للتكذيب غدا؟ هذا هو ما أراد هيوم أن يعرفه.
يرد بوبر بأنه أجاب عن هذا السؤال. وجوابه: لا، الاستقراء ليس له من مبرر. فكون النظرية قد «تعززت» في الماضي «لا يفضي لنا بأي شيء مطلقا عن أدائها في المستقبل»، وإن أشد النظريات تعزيزا من الجائز أن تخفق غدا . «من الجائز تماما أن العالم كما نعرفه، بكل اطراداته الدالة من الوجهة العملية، قد ينهار تماما في الثانية القادمة.»
إن انهيار العالم بالطبع أمر ممكن، غير أن من الواضح أن لنا ما يبرر الرهان بثقل ضد حدوث الانهيار في الثانية القادمة حتى لو كان مبررنا الوحيد هو أن العالم لم يتقوض في أي ثانية سابقة من الثواني التي لدينا بها علم، وأننا لا نملك أساسا للاعتقاد بأن هذا الانهيار هو أكثر احتمالا في الثانية القادمة مما كان في أي ثانية أخرى.
أثبت هيوم رغم ذلك أن هذه الحجة المعقولة تفترض ببساطة أن الملاحظات الماضية تبرر بالفعل تنبؤات المستقبل. وعندما نحاول أن ندافع عن هذا الافتراض على أساس أن أولئك الذين افترضوا في الماضي أن المستقبل سوف يجيء على غرار الماضي قد تبين أنهم على صواب، فإننا نكون قد افترضنا مرة ثانية ما أردنا في الأصل أن نثبته. ومن ثم فهو افتراض قد يبدو من المحال أن ندافع عنه دون «دور منطقي» ومن المحال أيضا أن نتفادى اتخاذه.
يريد بوبر أن يقول إن بإمكاننا أن نتجنب افتراض أن المستقبل سوف يجيء (أو من المحتمل أن يجيء) على غرار الماضي، وهذا هو ما دعاه لأن يزعم أنه حل مشكلة الاستقراء. يقول بوبر إنني في غنى عن اتخاذ هذا الافتراض إذا انطلقنا من صياغة حدوس افتراضية وحاولنا أن نكذبها.
غير أن المسألة للأسف لم تحسم بعد. فإذا أنا لم أفترض أن انبثاق الماء من الصنبور في الماضي كلما أدرت المقبض هو سبب لأن أعتقد بأنه سينبثق اليوم، فمن الجائز لي بنفس الدرجة من المعقولية أن أمد الكوب تحت المصباح الكهربي بدلا من الصنبور! يرد بوبر على هذه المسألة البراجماتية بأننا يجب كأساس للفعل أن نفضل «النظرية الأفضل اختبارا». وهذا لا يمكن أن يعني أكثر من النظرية التي صمدت للتفنيد في الماضي، ولكن لماذا نفضلها عقليا ما دام بوبر يقول بأن التعزيز الماضي لا علاقة له بأداء النظرية في المستقبل؟ يقول بوبر إن من «العقلانية» أن نفعل ذلك، «بالمعنى الأوضح لي من معاني هذه الكلمة ... فأنا لا أعرف شيئا أكثر «عقلانية» من نقاش نقدي يدور بكفاءة.»
هكذا يقع بوبر في «المماحكة» اللغوية التي نذر نفسه لمناهضتها!
لقد طالما ازدرى فلسفة التحليل اللغوي إلى أن راقته الآن حجة الفلاسفة التحليليين المسماة
The
والكلمة هنا هي كلمة «عقلي» أو «عقلاني»
Rational . وهي حجة لا تثبت شيئا، فالألفاظ كما قال بوبر مرارا لا تهم ما دمنا لا نسمح لها أن تضللنا. والحق أن حجة بوبر ليست أفضل حالا من حجة ستروصن
Strawson
الذي زعم أن الاستقراء هو استدلال صحيح (منتج/صائب) لأن الاستدلال الاستقرائي هو «برادايم» (نموذج شارح) لما نعنيه من كلمة «استدلال صحيح»
Valid . بل إن مساواة بوبر بين «النقاش النقدي الجيد» وبين فكرة «العقلانية» هي أكثر خذلانا، ذلك أننا لن تتوافر لنا فكرة عن كيف ندير «نقاشا نقديا جيدا» قبل أن نعرف كيف نبرهن على أن نظرية بعينها هي الأكثر احتمالا بأن تصمد في المستقبل.
ولا يزال السؤال الأكثر جوهرية هو: كيف يمكننا حتى من الوجهة النظرية أن نفضل فرضية على أخرى، أو نعتبر نظرية أقرب للصدق من الأخرى، إذا لم تكن لتعزيزات الماضي أي دلالة مستقبلية. فبدون فرضية الاستقراء لن تكون لحقيقة أن نظرية ما قد فندت بالأمس أية صلة بصدقها اليوم. والحق أنه في الوقت الذي يستغرقه قولنا «هذه النتيجة تعزز نظرية أينشتين دون نظرية نيوتن» تكون قد تبددت كل دلالة لهذه الملاحظة، ولا يعود بإمكاننا أن نمضي لنقول «إذن نظرية أينشتين هي أكثر اقترابا من الصدق». يتبين من ذلك أن اطراح فرضية الاستقراء يجعل نظرية بوبر نفسه في نمو المعرفة العلمية بلا معنى. فرغم أن بوبر محق في أن الاستقراء ليس وسيلة للكشف العلمي فإنه يبقى مبدأ لا غنى عنه، وتظل المشكلة المنطقية للاستقراء عصية وبعيدة عن الحل، وليست أكثر اقترابا منه عما كانت عليه قبل أن يعالجها بوبر.
5 (1-2) يؤكد بوبر أنه مناهض للمذهب الاصطلاحي
Conventionalism (هو المذهب القائل بأن كل ما يبدو لنا موضوعيا
Objective
أو محددا بالطبيعة
by Nature
هو في حقيقته ظاهرة من صنع الإنسان
Artifact
وأمر يتوقف على الاتفاق البشري والقرار الإنساني شأنه شأن آداب اللياقة أو النحو أو القانون). ويؤكد بوبر دائما التزامه بنظرية التطابق (التناظر)
Correspondence
6
في الصدق، الأمر الذي يضعه في المعسكر «الواقعي»
Realist
عن جدارة. ورغم ذلك فهو يشجب (مقتفيا في ذلك خطى كانت) بشدة وجهة النظر الوضعية/التجريبية القائلة بأن «العبارات الأساسية»
Basic Statements (أي عبارات الملاحظة عن معطيات الحس مصوغة في زمن المضارع) هي عبارات «معصومة من الخطأ»
Infallible . ويبرهن بوبر بإقناع على أن مثل هذه العبارات الأساسية ليست مجرد «تقارير» عن إحساسات مسجلة على نحو سلبي، وإنما هي أوصاف لما هو ملاحظ، بعد تأويله من جانب الملاحظ بالإحالة إلى إطار نظري محدد. ومن ثم فإن هذه العبارات الأساسية غير معصومة، وهو ما يعنيه بوبر عندما يقول بأن هذه العبارات «محملة بالنظرية»
Theory-Laden - فالإدراك نفسه عملية نشطة يتمثل فيها العقل المعطيات الحسية بالإحالة إلى خلفية نظرية مفترضة. ويؤكد بوبر بناء على ذلك أن هذه العبارات الأساسية نفسها هي فرضيات غير محسومة: نعم هي مرتبطة سببيا بالخبرة ولكنها غير «محددة» بالخبرة، ولا يمكن تأييدها أو تحقيقها بواسطة الخبرة.
ولكن هذا يضع صعوبة تتعلق باتساق نظرية بوبر مع نفسها: فإذا تعين على النظرية س أن تكون قابلة للاختبار حقا (وتكون بالتالي نظرية علمية) فلا بد أن يكون بالإمكان تحديد ما إذا كانت القضايا الأساسية (التي يرجى إذا صدقت، أن تكذب النظرية) هي صادقة فعلا أم كاذبة (أي تحديد ما إذا كانت مكذباتها بالقوة هي مكذبات حقيقية).
ولكن كيف لنا أن نعرف ذلك ما دامت هذه العبارات الأساسية لا يمكن تحقيقها بالخبرة؟ يجيب بوبر أن هذه العبارات الأساسية لا يمكن تبريرها بخبراتنا المباشرة، بل نحن نقبلها بإرادة ... بقرار حر. ولكن مهما أنكر بوبر، فإن هذا شيء أقرب إلى أن يكون صيغة منقحة من «المذهب الاصطلاحي»
Conventionalism . ومن الصعب التوفيق بينه وبين قول بوبر بأن العلم يمضي قدما ليقارب الحقيقة (الحقيقة التي يتصورها في ضوء نظرية التطابق)؛ إذ إن هذا النوع من الاصطلاحية مناقض لهذا التصور عن الحقيقة. (1-3) كما بين إمري لاكاتوش
I. Lakatos
ترتكز نظرية التمييز عند بوبر ارتكازا أساسيا على وجود أشياء من قبيل «الاختبارات الحاسمة»
Critical Tests
التي إما أن تكذب النظرية تكذيبا حاسما أو تمنحها درجة عالية من التعزيز. وبوبر نفسه مغرم بذكر مثال معين على هذه الاختبارات الحاسمة: وهو الحل الذي جاء به آدمز وليفرير
Adams and Leverrier ، للمشكلة التي فرضها المسار الفلكي الشاذ لكوكب أورانوس على فلكيي القرن التاسع عشر. فقد توصل هذان العالمان، كل على حدة، إلى تفسير هذا الانحراف الفلكي لمسار أورانوس بحتمية وجود كوكب سابع غير مكتشف، وقد تمكنا من حساب الموقع الدقيق لهذا الكوكب الجديد. وهكذا عندما تمكن جول
Galle
في مرصد برلين من اكتشاف هذا الكوكب فيما بعد «كوكب نبتون» وتبين أنه موجود في الموضع الذي حدده آدمز ولفرير بالضبط، استقبل هذا الكشف بالتهليل، واعتبر نصرا مؤزرا للفيزياء النيوتونية. وبحسب مصطلح بوبر فإن نظرية نيوتن كانت قد تعرضت «لاختبار فاصل»
Critical Test
وخرجت منه بنصر عظيم. وقد اعتبر بوبر نفسه هذا التعزيز القوي للفيزياء النيوتونية «أروع نجاح يمكن أن يظفر به أي إنجاز فكري بشري.»
غير أن لاكاتوش ينكر بصريح العبارة وجود اختبارات فاصلة بالمعنى البوبري في العلم، ويثبت رأيه بشكل مقنع إذ يقلب المثال السابق (الذي يزعم بوبر أنه اختبار فاصل) رأسا على عقب. يقول لاكاتوش:
ماذا كان يمكن أن يحدث لو أن جول لم يجد كوكب نبتون؟ أكنا سنهجر الفيزياء النيوتونية أو نعد نظرية نيوتن قد كذبت؟ الجواب هو: بالطبع لا. لأن فشل جول كان من الممكن عندئذ أن يعزى إلى أسباب كثيرة غير كذب نظرية نيوتن (مثل تدخل الغلاف الهوائي للأرض مع التلسكوب، وجود حزام شبه نجمي يحجب الكوكب عن الأرض ... إلخ). المشكلة هنا هي أن الفصل الذي قدمه بوبر بين التكذيب والتعزيز دقيق منطقيا بدرجة مفرطة: إن عدم التعزيز لا يعني التكذيب بالضرورة. وتكذيب النظريات العالية المستوى لا يمكن أن يتأتى بملاحظات معزولة أو بمجموعة من الملاحظات. ومن المتفق عليه الآن أن هذه النظريات عصية جدا على التكذيب. إنها إن أمكن أن تكذب على الإطلاق فإنما يتم ذلك لا باختبارات بوبر الفاصلة، بل داخل السياق المعقد ل «برامج البحث»
Research Programmes
المرتبطة بها إذ يلاحظ أنها تتحرك بعسر حتى تتوقف، الأمر الذي يخلق فجوة تتسع باستمرار بين الوقائع المطلوب تفسيرها وبين برامج البحث نفسها.
7
إن تمييز بوبر بين منطق التكذيب ومنهجه لا يقدم في نهاية المطاف تفسيرا شافيا لحقيقة أن جميع النظريات العالية المستوى تنمو وتعيش برغم وجود شذوذات
Anomalies (أي وجود أحداث أو ظواهر غير متفقة مع النظريات). وإن وجود مثل هذه الشذوذات لا يؤخذ عادة من جانب العلماء كدليل على كذب النظرية، بل على العكس، إنهم سيفترضون دائما وبالضرورة أن الفروض المساعدة
Auxiliary Hypotheses
المقترنة بالنظرية يمكن أن تعدل بحيث تستوعب الشذوذات الموجودة وتفسرها. (1-4) تتم صياغة القوانين العلمية في عبارات كلية (أي أنها تأخذ الصورة المنطقية التالية أو مكافئا لها)
كل أ هو ب.
وهي لذلك تعد بمثابة عبارات شرطية متخفية، وينبغي أن نفهمها على أنها عبارات افتراضية تخبر عما يكون عليه الحال تحت ظروف مثالية معينة، وهي بحد ذاتها ليست عبارات «وجودية» الطابع. وعلى ذلك فإن:
كل أ هي ب تعني: إذا كان أي شيء هو أ، إذن فهو ب.
وحيث إن القوانين العلمية هي قضايا غير وجودية، فهي لا يمكن من الوجهة المنطقية أن تتضمن أي عبارات أساسية، ما دامت العبارات الأساسية هي عبارات وجودية بشكل صريح. السؤال الذي يبرز إذن هو: كيف يتسنى لأي عبارة أساسية أن تكذب قانونا علميا، ما دامت العبارات الأساسية غير مستنبطة بحد ذاتها من قوانين علمية؟
يجيب بوبر بأن القوانين العلمية تؤخذ دائما مقترنة مع عبارات تحدد «الشروط المبدئية» للنظام المشمول بالبحث، وهذه العبارات الأخيرة، والتي هي عبارات وجودية فردية، تنتج فعلا حين تضم مع القانون العلمي متضمنات صلبة وثابتة. وهكذا فإن القانون «كل أ هو ب» مقترنا بعبارة الحالة المبدئية «هناك واحدة من أ في ط» ينتج المتضمنة «أ التي في ط هي ب»، والتي إذا كانت كاذبة فهي تكذب القانون الأصلي.
لا يكون هذا الرد وافيا بالغرض إلا إذا صح أن العبارات الوجودية الفردية ستقوم كما يزعم بوبر بمهمة سد الفجوة ما بين النظرية وبين التنبؤ. وقد اعترض هيلاري بتنام بوجه خاص بأن هذا الافتراض غير صحيح، لأنه في بعض الأحيان على أقل تقدير تكون العبارات المطلوبة لسد الفجوة (والتي يسميها «الفرضيات المساعدة») عبارات كلية لا جزئية. ومن ثم فإذا تكشف أن التنبؤ كاذب فلا سبيل إلى أن نعرف إن كان هذا بسبب كذب القانون العلمي أم بسبب كذب الفرضيات المساعدة. ومن دأب العلماء دائما أن يفترضوا في البداية كذب الفرضيات المساعدة، الأمر الذي يبين لنا ليس فقط أن القوانين العلمية عصية على التكذيب، بعكس ما يقوله بوبر، بل يبين أيضا لماذا هي عصية.
والموقف الأخير الذي يتذرع به بوبر هو أنه يعترف أن من غير الممكن أن نميز العلم من اللاعلم على أساس قابلية تكذيب العبارات العلمية وحدها، فقد أدرك أن النظريات العلمية لا تكون تنبؤية، وبالتالي حظرية (منعية)، إلا إذا أخذت مقترنة مع فرضيات مساعدة، وقد أدرك أيضا أن تعديل أو تحوير هذه الفرضيات المساعدة هو جزء متمم للممارسة العلمية. وقد جعل همه النهائي بالتالي هو أن يحدد الشروط التي تبين متى تكون هذه التعديلات علمية أصيلة ومتى تكون مجرد تعديلات تحايلية (عينية)
ad hoc . هذا بحد ذاته تغيير كبير في موقف بوبر، ويمثل تراجعا جوهريا من جانبه: لم يعد من الممكن أن نرمي الماركسية باللاعلمية لمجرد أن دعاتها حفظوا النظرية من التكذيب بتعديلها (لأن مثل هذا الإجراء الذي اتخذوه قد اتضح أنه مسلك علمي وجيه تماما). إن بوبر يرمي ماركسية اليوم باللاعلمية لأن الأساس المنطقي الوحيد للتعديلات التي أدخلت على النظرية الأصلية هي أن تضمن لها التملص من التكذيب، وأن هذه التعديلات هي بالتالي تحايلية (عينية)
ad hoc
وليست علمية. هذه الدعوى من جانب بوبر، رغم أنها غير ممتنعة على الإطلاق، لا تخلو من مسحة تحايلية، ومن المستبعد أن تؤرق الماركسي الصميم. وهذا التراجع الواضح لموقف بوبر يعتبره بعض النقاد دليلا على أن «مذهب التكذيب»
Falsificationism ، رغم كل ما يتحلى به من مزايا واضحة، لم يحرز في نهاية التحليل نجاحا أكثر مما أحرزه «مذهب التحقيق»
Verificationism . (2) فلسفته السياسية والاجتماعية
لم تكن فلسفة بوبر السياسية أقل شأنا وتأثيرا في الأوساط الفلسفية وغير الفلسفية من فلسفته العلمية. ويذكر إدوارد بويل في مقاله المدرج بكتاب «فلسفة كارل بوبر» أن «المذهب الإيجابي في «المجتمع المفتوح وأعداؤه» كان له أثر هائل في الأذكياء من جيل السياسيين الشبان من كلا الحزبين الرئيسيين في بريطانيا بعد الحرب الثانية.»
كانت السمة المميزة لدفاع بوبر عن الديمقراطية هي أنه جمع في معالجتها لموضوعه بين مجالات متباعدة تباعد فلسفة العلم والفلسفة السياسية. وكان العنصر الموحد بين هذه المجالات هو تطبيقه لمنهجه النقدي على المسائل الاجتماعية والسياسية. وعلى النقيض من الاعتقاد الشائع بأن الديكتاتورية أو «الاستبداد العادل» هو شكل من الحكومة أكثر كفاءة من الشكل الديمقراطي، أثبت بوبر بالحجة الدامغة أن المجتمع المفتوح بمؤسساته الحرة وانفتاحه على النقد هو أقدر على أن يجد سبلا أفضل لحل مشكلاته على المدى البعيد. فالمؤسسات الحرة تتيح لنا أن نغير رأينا فيما ينبغي أن يكون عليه الحكم وأن نضع هذا التغيير موضع التنفيذ دون إراقة دماء.
وعلى أسس شبيهة بهذه يدعو بوبر إلى ما اسماه «الهندسة الاجتماعية الجزئية»
كمقابل للتخطيط الكلي اليوتوبي. فمن شأن التحسينات الجزئية أن تقبل التصويب إذا تبين أنها على خطأ، بينما التخطيط الكلي اليوتوبي جدير بأن يولد اضطرابات كبيرة قد تؤدي إلى وضع أسوأ بكثير من الوضع الذي بدأ منه. وفي هذا المجال السياسي، كما في مجال المنهج العلمي، يفضل بوبر طريقة المحاولة ونبذ الخطأ على أحلام الكمال اليوتوبي التي لا تتحقق.
ووراء كل ذلك يقع مذهب بوبر عن «النفعية السلبية»
Negative Utilitarianism (الذي يجاوب المذهب الإسلامي القائل بأن دفع الضرر مقدم على جلب المنفعة). وهو متبوع ومقترن بالضرورة بالمبدأ الثاني القائل ب «أكبر قدر من الحرية للأفراد بأن يعيشوا وفق ما يرغبون.»
كرس بوبر في كتابيه «عقم النزعة التاريخية» و«المجتمع المفتوح وأعداؤه» جهدا كبيرا ومنظما لتقويض ما أسماه «المذهب التاريخي» أو «النزعة التاريخية»
Historicism
الذي يهدف إلى التنبؤ بمسار التاريخ، ويظن أن هذا غاية تدرك بمجرد أن نكشف عن القوانين العامة والأنماط التي يفترض أن التاريخ يسير وفقا لها. وكانت الحجة المحورية لبوبر هي أن التنبؤ التاريخي مستحيل لأن مسار التاريخ يتأثر حتما بتقدم المعرفة البشرية، وهو أمر غير قابل للتنبؤ من حيث المبدأ، ومن شأنه أن يغير «الشروط المبدئية»
Initial Conditions
التي تقوم عليها التنبؤات.
ويذكرنا الآن دوناجان
Alan Donagan
في مقاله عن «المذهب التاريخي» المدرج في كتاب «فلسفة كارل بوبر» أن بوبر كتب كتابه «عقم المذهب التاريخي» في وقت كان فيه الاعتقاد بوجود قوانين صارمة تحدد مسار المستقبل اعتقادا واسع الانتشار في العالم؛ وأن الفضل يعود إلى بوبر في تقلص شعبية هذه الفكرة في الدوائر الفكرية الغربية . وقد صرح البعض بأن فشل تنبؤات ماركس وتأبي الأحداث على أن تجيء مصداقا لها كان أقوى تأثيرا في تقويض الماركسية من نقد بوبر. غير أن هذا القول على صدقه لا يعدو أن يكون تمجيدا آخر لفكر بوبر، وشهادة بأن النقد العقلاني هو أكثر خصبا من الأيديولوجيات وأكثر اقترابا من الحقيقة.
ورغم مضي قرابة ثلثي قرن على كتابة الخطوط الأولى من «عقم المذهب التاريخي» (1935) فإن استبصاراته الثاقبة لا تزال على بريقها الأول، وما نحسب أنها سوف تفقده في أي زمن يأتي. وتلك هي صفة الفكر الفلسفي الأصيل الذي يضفر الدليل المنطقي القبلي
a Priori
بالشواهد الإمبيريقية البعدية
a Posteriori .
في هذا الكتاب الذي يشبه البيان المحكم الجامع، يطبق بوبر منهجه النقدي في المجال الاجتماعي والسياسي. يقول بوبر إن أولئك الذين يظنون أن تأويل التاريخ كصراع للطبقات (أو كصراع بين الجنس الآري وغير الآري) هو نظرية علمية يرتكبون خطأ أساسيا. فالتأويل التاريخي مهم وملهم، ولكنه ليس نظرية. إنه مصدر خصب لاستخلاص فروض وصياغتها بحيث تكون قابلة للاختبار، وبدون هذه المهمة المنطقية يبقى التأويل تأويلا مهما حشد له التاريخاني من شواهد واستنفر من أدلة. إن عليه أن يقول لنا أي التطورات المستقبلية أو الاكتشافات الجدية عن الماضي من شأنها أن تدحض النظرية. فإن لم يفعل، أو لم يقدر، فإن ادعاءه الوضع العلمي لتنبؤاته يجب ألا يؤخذ مأخذ الجد، فهي تلحق بتأويلات المنجم الذي يدعي وجود قوانين تربط بين موقع النجوم وأحداث الأرض، ويأتي بشواهد لا تحصى دون أن يحدد لنا بشكل مسبق أي حال معين يمكن إن صدق أن يكون مكذبا لأقواله. (2-1) نقده لهيجل
في كتابه «المجتمع المفتوح وأعداؤه»، يفرد بوبر فصلا طويلا عن هيجل، لعله أقذع الفصول جميعا في تاريخ التراث الجدلي، ويقف هذا الفصل، فيما نرى، نشازا بين فصول المكتبة البوبرية، لست ترى فيه غير سباب وقدح لم نعتد رؤيته في الجدال الفلسفي، وليس يحوي غير تعريض شخصي يلحق بما يسمى «الحجة الشخصية»
Argumentum ad Hominem
وهي المغالطة المنطقية (غير الصورية) التي يقع فيها من يهاجم شخص الخصم (قدراته، دوافعه، أخلاقه ... إلخ) بدلا من حجته، فيبدو كأن حجته قد دمغت! فالحق أنك قد تهاجم شخص الخصم، بحق أو بباطل، فتدميه وتصميه وحجته بعد حية ترزق! إنك إذن تفند شخصه لا حجته، وإن تفنيد شخصه هو أمر «خارج عن الموضوع»
Irrelevant
إذا كان المقام تفنيد حجة.
8
الحق أن المرء لا يجد في هذا الفصل أي دليل يعالجه، ولا حجة يتناولها، ولا حصن يغريه بالهجوم، وإن المرء ليسأل نفسه بعد قراءة هذا الفصل: «حسنا، ولكن أين هيجل؟» أين ذلك الصرح العقلي الشامخ الذي لا يعرف الخصم من أين يناله ولا من أين يأتيه؟ ربما لذلك اتجه بوبر إلى شخص الخصم بعد أن أعيته الحيلة في النيل من فكره.
إنه يصف هيجل بأنه أفاق يعمد إلى استخدام طنين لفظي يغشي به على فراغ فكره، وأنه متملق ذليل يهدف من مذهبه إلى تمكين عرش سيده وولي نعمته الملك البروسي الرجعي، وأن نفوذه الفكري المطبق هو مما أفاضه عليه سيده ثمنا لبضاعته الدعاوية الخبيثة، ومما أفاضه عليه عامة الناس الذين وجدوا فيه ما صورته لهم أفكارهم المغلوطة عن الفلسفة وطبيعتها، وبوبر في كل هذا يؤيد دعواه بشواهد مطولة من نصوص هيجل اقتلعها من سياقاتها ولفقها تلفيقا، وهي طريقة لو طبقتها على أعمق كتاب لبدا أحمق مأفونا، وإن هيجل لأيسر ضحية لمثل هذه الطريقة من العرض، ذلك أنه دأب على شرح كل جانب من جوانب موضوعه على حدة، فإذا تحدث مثلا عن «الدولة» فإنه يركز على الوجه الجمعي من السياسة، وإذا تحدث عن المجتمع المدني، فهو أكثر تركيزا على النزعة الفردية، ولا تكتمل الصورة الحقيقية التي يريد أن يرسمها إلا باجتماع الوجهين وضمهما سويا، غير أن بوبر لم يكن مقصده في هذا الفصل أن يفهم هيجل بل أن يدمره.
إن نظرة هيجل إلى المواطن بوصفه فردا هو حجر الزاوية في بناء الدولة عنده، والدستور الذي ينبع من إرادة الشعب هو المبدأ النهائي الذي ينظم شئون الدولة ومؤسساتها، والمواطن في دولة هيجل يشارك في العملية السياسية ، أي في صياغة القانون وتنفيذه، بطريقتين: (1)
فهو يشارك بطريقة غير مباشرة بواسطة السلطة التشريعية التي هي مجلس للمقاطعات أو للطبقات أو للفئات ينتخب الشعب أعضاءه، وتقوم هذه المؤسسة بصياغة قوانين الدولة ووضع البرامج التي تكفل الرخاء للمجتمع ككل. (2)
ويشارك المواطن على نحو مباشر في العملية السياسية عن طريق التصويت العلني بإبداء رأيه الشخصي الخاص في المسائل المتعلقة بشئون الدولة، يقول هيجل في «فلسفة الحق»: «تعتمد حرية الأفراد الذاتية على أنهم يكونون آراءهم الخاصة وأحكامهم الشخصية ويعبرون عنها فضلا عن توصياتهم في شئون الدولة، وتتجلى هذه الحرية على نحو جمعي فيما نطلق عليها اسم «الرأي العام» الذي يرتبط فيه ما هو كلي وجوهري وحق بضده؛ أعني بما هو جزئي وبآراء شخصية للكثرة أو المجموع» (الفقرة 316). وهكذا نجد أن «الرأي العام» هو خليط من الكلي والجزئي، من العقل واللاعقل، من الجاد والتافه، إذ يعبر عنه الأفراد المختلفون في درجة ذكائهم ومزاجهم واهتماماتهم وبواعثهم، وهذا يظهر لنا على أن الرأي العام يبدو أمام الحكومة بطريقة غير منظمة، لكن الدولة ينبغي أن تؤدي عملها في جو من النظام والتخطيط الفكري، وبالتالي ينبغي انتقاء تلك الأفكار أو الآراء التي تعبر أعظم تعبير عن المصلحة العقلية للمجتمع ككل، وما هو هام في ذلك الانتقاء أو الاختيار ليس من يعبر عن هذه الفكرة أو ذلك الرأي أو عددهم، بل ما هي الفكرة الخيرة أو العظيمة؟ عظيم من يستطيع أن ينظم الحاجة الكلية للشعب! «فالرجل العظيم في عصر ما هو الرجل الذي يستطيع أن يضع إرادة عصره في كلمات، إن الرجل الذي يتنبأ لعصره بما يريد ثم يقوم بإنجازه، وما يفعله هو قلب عصره وماهيته، إنه يحقق عصره بالفعل.
أما من ينقصه الحس الكافي لاحتقار الرأي العام الذي يتجسد في الإشاعات، فإنه لن ينتج أبدا شيئا عظيما» (الفقرة 318). وبالتالي فإننا نستطيع أن نحترم الرأي العام أو نحتقره، إننا نحتقره بمقدار ما يتضمن من أكاذيب ومصالح ذاتية، لكننا يمكن أن نحترمه بمقدار ما يتضمن من مصالح حقيقية للأمة، «ومن ثم فإن الرأي العام هو مستودع، ليس فقط للحاجات الأصلية والميول الصحيحة في الحياة العامة، بل هو أيضا مستودع لمبادئ العدل الجوهرية الأزلية أعني المضمون الحقيقي للدستور كله وللتشريع والحياة الاجتماعية والوضع العام للدولة» (الفقرة 317).
يتبين من ذلك أن الدولة عند هيجل ليست سلطة لا تناقش، وإنما هي على العكس تستمد سلطتها من إرادة الشعب: ليس فقط مما يقوله الناس على نحو مباشر بالتصويت على آرائهم كتابة أو مشافهة، بل أيضا ما يقولونه بطريق غير مباشر عن طريق السلطة التشريعية، وأيضا عن طريق حكمة أولئك المواطنين الذين لديهم استبصارات غنية لما هو أفضل للدولة ككل.
9
لست ترى في ذلك أثرا لأي سلطة مطلقة أو دولة تعرف كل شيء وتمارس سلطة عليا في المعرفة والقوة على مواطنيها، إن أساس الدولة عند هيجل هو سلطة العقل، ويكون الدستور عقليا إذا ما عبر عن غاية الإنسان القصوى ألا وهي الحرية: «إن غاية «العقل المطلق» أن تتحقق الحرية بالفعل» (هيجل، فلسفة الحق، ملحق للفقرة 258). وعلى ذلك فإننا لا نستطيع أن نقبل أن يوصف الدستور بالعقلانية؛ وبالتالي أن نقول: إنه مشروع، ما لم يوفر شرطا كافيا لبلوغ الحرية، غير أن السؤال الذي نبحث له عن إجابة ملحة هو: كيف تكون الحرية العينية ممكنة في دولة ذات دستور عقلي؟ ولقد كان هيجل على وعي بأهمية هذا السؤال؛ لأنه في بداية تحليله للفكرة الشاملة عن الدولة كتب يقول: «إن العقلانية، إذا ما أخذت، بصفة عامة، على نحو مجرد، فإنها تقوم على الوحدة التامة والكاملة بين «الكلي» و«الفردي»، وتعتمد العقلانية عندما تصبح عينية في الدولة على التالي:
من حيث مضمونها تعتمد على وحدة الحرية الموضوعية (أي حرية الإرادة الكلية أو الجوهرية) والحرية الذاتية (أي حرية كل فرد في أن يعرف وأن يريد غايات جزئية).
من حيث صورتها فهي تحدد ذاتها عن طريق القوانين والمبادئ التي هي أفكار ومن ثم كلية» (فلسفة الحق، فقرة 258).
المواطن في الدولة إذن هو فرد هو عالم من الفكر والشعور والفعل، وهو قادر على السعي نحو تحقيق غايات تنتمي إلى شخصيته، وهو يميز نفسه على نحو فريد بالاهتمامات الشخصية والأفكار والقيم وسمات الشخصية، لكنه كذلك عضو في دولة، وهو بما هو كذلك يسعى إلى تحقيق الكلي؛ أعني الحكومة والقانون والعادات في حياته، وهذا الكلي الذي هو الدستور يكمن تحت إرادة الشعب ككل ويجسد القيم الأساسية، بمقدار ما يتلقى تصديق العقل، ومن ثم فإن المواطن الذي هو على وعي بعضويته في الدولة يعي كذلك أن حريته الحقيقية تتجسد من خلال الكلي أو الدستور؛ لأنه تعبير عن إرادته الكلية، والقوانين التي يقضي بها الدستور لم تعد بعد أوامر خارجية محايدة عليه أن يطيعها لو أراد أن ينجز غايات معينة وإنما هي قوانينه الخاصة، القوانين التي تعبر هي إرادته بوصفه عضوا في الدولة: «غير أن هذه القوانين، وهذه المؤسسات من ناحية أخرى ليست شيئا غريبا عن الذات، بل على العكس فإن روح الذات تشهد عليها بوصفها ماهيتها، أعني الماهية التي تشعر فيها الذات بذاتيتها، والتي تعيش فيها كما تعيش في عنصرها الخاص الذي لا تنفصل عنه» (فقرة 147). وهذا هو السبب في أن حريته يمكن إنجازها فقط عندما يريد في أفعاله أن يحقق نسق القوانين التي تنبع من الدستور، وإذا عبرنا عن ذلك بطريقة أخرى، قلنا: إن المواطن يحدد نفسه ويتنسم نسيم الحرية عندما يعمل طبقا للقوانين التي يضعها الدستور، وبالتالي فإن المواطن الذي يفشل في توحيد إرادته الشخصية الذاتية مع الإرادة الموضوعية التي تجسد الدرجة القصوى من العقلانية، لن يحقق في فعله حريته الكاملة. «الدولة في ذاتها ولذاتها هي كل أخلاقي، إنها التحقق الفعلي للحرية، وتلك هي الغاية المطلقة للعقل أن تتحقق الحرية تحققا فعليا» (ملحق للفقرة 258). وبالتالي فما دامت الدولة هي الروح على الأرض - وهي تتحقق هناك بوعي - وما دامت هي التحقق الأعلى للفكرة الأخلاقية على الأرض، فإنه ينتج من ذلك أن المواطن - شاء أم أبى - لن يستطيع أن يحقق حريته إلا كعضو في الدولة، كعضو يتطلع لتحقيق الغاية التي تعبر عن الإرادة الكلية، «إن ماهية الدولة الحديثة هي أنها اتحاد الكلي بالحرية الكاملة لأعضائها الجزئيين وبمصلحة الأفراد، حتى إن مصلحة الأسرة والمجتمع المدني لا بد أن تتمركز في الدولة، رغم أن الغاية الكلية لا يمكن أن تتقدم بغير معرفة شخصية، وإرادة أعضائها الذين لا بد أن تتأكد حقوقهم الخاصة. وهكذا نجد أنه لا بد من تعزيز الكلي من ناحية، ولا بد للذاتية من ناحية أخرى أن تبلغ تطورها الحي الكامل، وعندما توجد هاتان اللحظتان معا وفي قوتهما، عندئذ فقط يمكن أن ينظر إلى الدولة على أنها تنظيم عضوي أصيل منسق» (ملحق للفقرة 260). وعلى ذلك نجد أن الدولة بخلاف الحكومة في المجتمع المدني لا تقف أمام أعضائها على أنها «آخر»، أو على أنها شيء خارجي عنهم، وإنما هي الآن وحدة تجسد حقوقهم ومصالحهم، فإذا لم تنسجم غاية الفرد مع غاية الدولة بشكل أو بآخر، فإن الدولة تصبح «معلقة في الهواء» وتأخذ مكان المجتمع المدني. ومن ثم فإن المواطن حين يطيع القوانين التي سنتها الدولة فإنه يحقق حريته؛ لأن القانون الذي يطيعه إنما هو تعبير عن إرادته وغايته الحقيقية-إنه قانونه هو، وهذا هو أساس الدعوة بأن «على الأفراد واجبات تجاه الدولة بمقدار ما لهم عليها من حقوق» (فقرة 261).
هكذا يتبين أن نقاد هيجل قد جانبوا الصواب حين نعتوا فكرته عن الدولة بأنها فكرة شمولية، وحين اتهموه بتجاهل الفردية الإنسانية
Individualism
وإقصائها من تخطيطه السياسي والاجتماعي، ويتبين أن أغلب الاعتراضات التي قدمت ضد تصور هيجل للدولة هي اعتراضات أحادية الجانب تقوم على قراءة شذرات مبتورة من «فلسفة الحق»، وتغفل تلك الوحدة العضوية العميقة لنظرة هيجل إلى الواقع السياسي. إن بنية الدليل الفلسفي الذي ساقه هيجل في «فلسفة الحق» لا تسمح، حتى من حيث المبدأ بالمجتمع الشمولي أو السلطوي، فنقاد هيجل لا يتبينون بوضوح كاف الأساس الذي أقام عليه الدولة من ناحية وغاية الدولة من ناحية أخرى.
أساس الدولة عند هيجل هو القانون، فما يحكم ويحدد حياة الفرد في الدولة ليس عاملا خارجيا، ولا قوة خارجة عن الفرد ، وإنما هو القانون، القانون الذي يدركه المواطن عن وعي بوصفه موجودا عاقلا حرا، ومن ثم فإن المواطن الذي هو عضو في الدولة إنما يوجد في ظروف فردية وبوصفه مصدر السلطة؛ أعني الدولة التي تحدد حياته وحياة المجتمع بصفة عامة.
وغاية الدولة عند هيجل هي الحرية لأعضائها، وبالتالي فإن الدولة هي الوسط الذي يحقق فيه المواطن حريته بوصفه فردا بشريا، ولا يمكن للدولة أن تستخدم المواطن كوسيلة لغاية جزئية أنانية، بل على العكس إنها تبلغ خاصيتها كدولة فقط عندما تعامل كل مواطن على أنه شخص، أعني على أنه غاية في ذاته.
10
أليس من العبث والمغالطة أن نصرف أنظارنا عن عمق التحليل الهيجلي للدولة، ثم نطبق عليه ببساطة أسماء وعناوين مثل: شمولي، غير ديمقراطي، غير ليبرالي؟ ذلك أن من المحال لأي لقب من هذه الألقاب أن يصف موقف هيجل وصفا كافيا. والحق أن هيجل نفسه ينفر من هذه الألقاب، واهتمامه الأساسي هو ببساطة أن يحلل الطبيعة الجوهرية أو المبدأ الأساسي للدولة ... ما يجعل من المجتمع المنظم دولة ... الشروط التي يستطيع فيها أي عضو في هذا المجتمع أن يحقق فرديته الإنسانية أو حريته. إن الشكل الذي يتخذه الدستور عند هيجل (الشكل الديمقراطي، الكلي ، ... إلخ) ليس هو الأمر الحاسم وإنما السؤال الحقيقي هو: بأية طريقة يستطيع الدستور - عندما يصبح عاملا في تشكيل سلوك المواطنين - أن يساعد في نمو النوع الأعلى من الشخصية البشرية، الشخصية التي تستطيع تحديد مصيرها، أو باختصار الشخصية الفاضلة؟ «عندما سأل أحد الآباء فيلسوفا فيثاغوريا عن أفضل طريقة لتربية ابنه تربية أخلاقية، أجاب الفيلسوف الفيثاغوري بقوله: اجعل منه مواطنا في دولة ذات قوانين صالحة» (فلسفة الحق فقرة 153، إضافة). هكذا يلح هيجل على أن تطور القيم لا يتم في فراغ، وإنما يتم في وسط عيني من القوانين والعرف والمؤسسات بصفة عامة، وليس في استطاعتنا، شئنا أم لم نشأ، أن نتجاهل دور هذه العوامل في ازدهار الشخصية البشرية.
يقول هيجل بوضوح: إنه لم يهتم في تحليله لفكرة الدولة بأن يفحص دولا تاريخية معينة ، ولا الشروط التي توجد فيها دول معينة وتمارس نشاطها، وإنما هو يهتم بتحليل فكرة الدولة أو بعينية أكثر كيف نفهم الدولة كشيء عقلي؟ وهو لا يفعل ذلك على نحو مجرد أو على نحو يوتوبي خيالي، وإنما بنظرة نقدية إلى الطبيعة البشرية من ناحية والتاريخ الفعلي للدول في العالم من ناحية أخرى، في تصديره لكتاب «فلسفة الحق» يقول هيجل: «هذا الكتاب إذن وهو يحتوي على علم الدولة لا يريد أن يكون أكثر من محاولة لفهم الدولة ورسم صورة لها بوصفها شيئا عقليا في ذاتها، ولا بد له بوصفه عملا فلسفيا أن يكون بعيدا عن محاولة بناء دولة ما على نحو ما ينبغي أن تكون عليه الدولة. والدرس الذي يتضمنه لا يمكن أن يعتمد على تعليم ما ينبغي أن تكون عليه الدولة، إنه لا يبين إلا الكيفية التي ينبغي أن تفهم بها الدولة بوصفها عالما أخلاقيا.»
11 (2-2) أوجه الشبه بين هيجل وبوبر
على الرغم من ذلك اللدد والعداء الشديد، فإن بوبر يعود في كتابه الأحدث «المعرفة الموضوعية»، فيعترف أن هيجل قد سبقه في كل من نظرية المعرفة الموضوعية نفسها، والمخطط التطوري لنمو المعرفة (بدءا من مشكلة ما، ومرورا بحل اختباري للمشكلة، ثم نقد لهذا الحل، وانتهاء بمشكلة جديدة). ومهما حاول بوبر إبراز الفروق فإن تلامذة هيجل لن يجدوا صعوبة في تبين التصور البوبري للمعرفة في هيجل، والديالكتيك الهيجلي في بوبر، يدعي بوبر أن هناك فارقا كبيرا بين الديالكتيك الهيجلي وبين مخططه لتقدم المعرفة، غير أن هذا الفارق قائم على فكرة خاطئة تقول بأن النظام الهيجلي يحتمل التناقضات، بينما لا يحتملها مخطط بوبر، فالحق أن هيجل لا يقبل التناقض أكثر مما يقبله بوبر، ووفقا لهيجل فإن استحالة احتمال التناقض في أي مرحلة من المراحل يدفعنا إلى التقدم إلى وضع آخر يمكن أن يوفق بين وجهتي النظر المتناقضتين سابقا، عندئذ تبرز تناقضات جديدة وتتكرر نفس العملية، ومجمل القول: إن التوازي بين فكرتي هيجل وبوبر شديد الوضوح، وأن سلطان هيجل العقلي قد شمل بوبر نفسه من حيث لا يدري، وأن حال بوبر في ذلك يذكر بقول النابغة للنعمان:
وإنك كالليل الذي هو مدركي
وإن خلت أن المنتأى عنه واسع (2-3) نقده لماركس
من المتفق عليه أن بوبر قدم أعنف نقد وجه إلى الماركسية منذ نشأتها، وأنه كان موفقا فيه إلى أبعد حد. ويتميز نقد بوبر لماركس بأنه موضوعي يخلو من القدح والسباب ولا يتناول شخص الخصم دون حجته، بل هو نقد منصف في مجمله يعرف لماركس قيمته الفلسفية ويقدر نبل نواياه وسلامة مقاصده.
غير أن ماركس شخصية تميزت بتعدد الجوانب ومرت بتطورات فكرية جارفة، فاختلف فهم الناس لها في حياتها، ثم تعرض مذهبه لتحولات أعنف بعد وفاته فاختلفت تصورات الناس لهذه الشخصية اختلافا خلق فجوة هائلة بين الحقيقة والأسطورة، ثمة إذن أكثر من ماركس في أذهان الناس، سواء كانوا من أتباعه أو من خصومه، ترى أي «ماركس» ذاك الذي تناوله بوبر بالنقد في «المجتمع المفتوح»؟
يبدو لنا ماركس في «المجتمع المفتوح» مفكرا «حتميا»
Determinist
متصلبا يعتقد أنه اكتشف القوانين الصارمة للأقدار البشرية، تلك القوانين التي لا نملك حيلة إزاءها، فالنسق الاجتماعي هو الكل في الكل، ونحن فيه مجرد دمى تحركها خيوط اقتصادية، ولا تملك من أمرها شيئا، وماركس شأنه شأن كل تاريخاني مخلص، يفترض أنه اعتبر نفسه في وضع نبي يتنبأ بالمصير المحتوم للتاريخ البشري.
لم يكن بوبر هو أول من أساء فهم ماركس بهذه الطريقة. فالحق أن ماركس لم يعدم في حياته من أساء فهمه، ولعل حالة ماركس هي من الأمثلة النادرة لمؤلف يمد له في الأجل حتى يبطل بنفسه سوء الفهم! فمن بين رسائل ماركس هناك رسالة كتبها ردا على ناقد معاصر له، هو ميخائيلوفسكي، في هذه الرسالة ينكر ماركس أنه قدم «نظرية تاريخية-فلسفية عن الطريق العام الذي قدر للناس أن تطأه»، ويكتب ماركس محتجا: «إن ميخائيلوفسكي يبالغ في تمجيدي وتسفيهي في الوقت نفسه».
12
إنما لهذا الصنف من التفسير الحتمي المتصلب الدوجماوي لأفكاره دأب ماركس في أواخر أيامه أن يقول بأنه: «ليس ماركسيا!»
ومن الحق أن ماركس كان ماكرا بعض الشيء، وكما كتب إنجلز في رسالة إلى بلوك، فإن إنجلز وماركس مسئولان عن سوء الفهم بعد أن ألحت عليهما الحاجة إلى إبراز الجانب الاقتصادي لمعارضة أولئك الذين أنكروا أي دور له على الإطلاق في التاريخ، ويمضي إنجلز قائلا: [بحسب المرء أن ينظر في كتابات ماركس التاريخية نفسها (وبخاصة
The Eighteenth Brumair of Louis Napoleon ) لكي يجد ماركس على وعي تام (كما تقول الصفحة الأولى من هذا العمل) «بأن البشر يصنعون تاريخهم الخاص»، وإن يكن ذلك وفقا للإرث الذي انحدر إليهم من الماضي، ونفس الشيء نجده في نصوص نظرية تماما وغير تاريخية، وأفضل مثال عليها نجده في «أطروحات في فيورباخ»].
لقد كان ماركس وإنجلز مسئولين عن كل ذلك، فقد كان ماركس في بعض الأحيان (وإنجلز في كثير من الأحيان) يكتب كما لو كانت الماركسية صرحا من المعرفة العلمية تحتوي على قوانين عامة تحكم تطور التاريخ كله، ولما كان هذا التصور للماركسية سهل الفهم وجذابا بالنسبة لحقبة انبهر الناس فيها بإنجازات العلم في مجالات أخرى، فقد تبين أنه كان تصورا رائجا بين الماركسيين المتأخرين. وحيث إن معظم التنبؤات عن القوانين العامة الأصلية قد تبين كذبها، فإن المرء حقيق ألا يملك نفسه عن الميل المفرط للتمسك بهذه النظرة اليوم، هذا هو التأويل الوحيد الممكن للماركسية الذي يستطيع بوبر أن يقول إنه دحضه، وهو تأويل غير مقبول في يومنا هذا، ولقد رأينا أن ماركس وإنجلز قد رفضا في أواخر أيامهما فكرة القوانين الكلية المتحكمة في مسار التاريخ كله.
ما يبقى من ماركس
ولكن هل هذا هو ماركس كله؟ بالطبع لا، فهناك نصوص هيجلية الطابع كتبها ماركس ولم يطلع عليها بوبر يوم كتب «المجتمع المفتوح»، لم يكن ماركس في هذه النصوص «نيوتن العلوم الاجتماعية»، بل كان فيلسوفا حصيفا يستخدم المقولات والمصطلحات الهيجلية، ولا يدعي يقينا علميا، بل يحاول أن يطبق على العالم الواقعي تلك الاستبصارات التي استمدها من هيجل.
والواقع الحق أن هذه الاستبصارات تبقى مشرقة ومضيئة، والفهم الحقيقي للماركسية الحقيقية يحملنا على أن نقدر هذا التوجه الفلسفي، ونرى فيه إلهاما بطرائق في النظر إلى الإنسان والمجتمع مثمرة علميا وإن لم تكن علما بالمعنى الكامل، بوسعنا أن نضرب صفحا عن إسراف ماركس في ادعاء اليقين في بعض الأحيان، وعن نبوءاته الخاطئة، وأن نوافق رغم ذلك على أنه أشار إلى طريق يمكن أن تتقدم فيه العلوم الاجتماعية، لقد كان السائد قبل ماركس أن يدرس الإنسان وأفكاره كما لو كان تاريخهما وتطورهما لا علاقة له البتة بمتطلبات العيش اليومية وحاجات الحياة الأرضية الملحة، ومنذ ماركس انعقد الإجماع على أن أنشطة الإنسان الأيديولوجية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية مشتبكة معا، ولا يمكن فهمها بمعزل عن بعضها البعض، لهذا السبب يمكننا أن نقول بحق: إن استبصاراته قد جعلت نشوء علم للمجتمع أمرا ممكنا.
ولسنا نرى داعيا لأن ينكر بوبر أي شيء من ذلك، فكله يتفق تمام الاتفاق مع نظرته عن الدور الذي يمكن أن تضطلع به الميتافيزيقا في العلم، كمصدر للفرضيات التي تقدم إلى العلم لكي يختبرها، ويجتبي الصامد منها.
لقد كف ماركس الحقيقي عن ادعاء العلم وأصبح «تأويلا»، فما اهتزت مكانته ولا هوى ركنه، ولعله يفرغ اليوم له مكانا فلسفيا بين عظام «التأويل النقدي»
Critical Hermeneutics
و«التأويل المحرر»
Emancipating Hermeneutics
بين قوم يفهمونه، مكانا لا يقل عن مكانه شبه الديني الذي فرضه عليه السوقة، وحددوا فيه إقامته زمنا طال حتى حجب عنا كاتبا من أعمق الكتاب فكرا وأكثرهم نبلا وأروعهم أسلوبا.
الفصل السادس
موجز لكارل بوبر
طوال مائتي عام على الأقل، وقر في عقول أغلب مثقفي الغرب أن العلم الجديد يشكل معرفة يقينية، وحقائق صلبة ثابتة كل الثبوت، وما إن يتم اكتشاف «واقعة»
Fact
علمية جديدة أو قانون علمي حتى يعد ذلك حقيقة نهائية غير قابلة للتغيير، كان هذا اليقين يعد السمة المميزة للعلم، فالمعرفة العلمية هي أرسخ ما يمتلكه البشر من معارف، ومن الممكن اعتبارها حقائق معصومة (لا تقبل التصويب)
Incorrigible .
أما نمو المعرفة فكان يتألف، وفقا للتصور السائد، من إضافة حقائق يقينية حديثة الاكتشاف إلى مجموعة الحقائق القائمة التي تتمدد وتتسع على الدوام، شأنها شأن خزينة نفائس لا تزال محتوياتها في ازدياد على مر الزمن: فالموجود فيها أصلا يبقى كما هو بطبيعة الحال، فيما يضاف الجديد إليه فيظل المخزون في تزايد مطرد، أما أولئك الذين كانوا على إلمام بأفكار لوك وهيوم، فكانوا يعلمون أن القوانين العلمية لم تتم البرهنة عليها بصفة نهائية، غير أنه في ظل النجاح الساحق لتطبيقات هذه القوانين على مدى أحقاب طويلة من الزمن، فقد كان هؤلاء يميلون إلى اعتبار القوانين العلمية أشبه بما يمكن أن يسمى «لا نهائي الاحتمال»، بمعنى أنه شديد القرب من اليقين بحيث ينعدم الفرق على صعيد الأغراض العملية. (1) المعرفة غير اليقينية
في منعطف القرن العشرين ظهر في الساحة عبقري علمي جديد لا يقل حجما عن نيوتن، إنه يهودي ألماني يدعى ألبرت أينشتين (1879-1955م)، قدم أينشتين نظريات لا تتفق مع نظريات نيوتن، وكان عقله مثل نيوتن، مذهل الخصب يضج بأفكار جوهرية. دفع أينشتين بنظريته الخاصة في النسبية عام 1905م، وبنظريته العامة عام 1915م، وليس من المستغرب أن النظريتين كانتا مثار خلاف كبير في البداية، ولكن أهميتهما لم تكن لدى أي متخصص محل خلاف، وكانت هذه الحقيقة بحد ذاتها مبعث قلق، ذلك أنه إذا كان أينشتين على صواب لكان نيوتن على خطأ، وفي هذه الحالة يتكشف أننا لم نكن «نعرف» مضامين العلم النيوتوني طوال هذه الحقب.
وهذا بعينه ما تكشف، فقد صممت تجارب إمبيريقية فاصلة لتحكم بين النظريتين، جاءت نتائجها، بما لا يدع مجالا للشك، لمصلحة أينشتين، وكانت آثار ذلك في مجال الفلسفة أشبه بالزلزال، فمنذ عهد ديكارت، كان البحث عن اليقين يمثل لب لباب الفلسفة الغربية، ومع العلم النيوتوني ترسخ في اعتقاد الإنسان الغربي أنه قد أماط اللثام عن كم هائل من المعرفة الوثيقة عن عالمه الذي يعيش فيه، وعما يتجاوز عالمه أيضا، وأن هذه المعرفة هي ذات أهمية جوهرية ونفع كبير.
وفوق ذلك فإن مناهج البحث التي أثمرت هذه المعرفة كانت تعد مناهج محكمة الصنع دقيقة التنظيم، وكان يعتقد أن هذه المناهج تضمن للمعرفة يقينها وتكفل لها شرعيتها كمعرفة وثيقة، ولكن ها هي الآن تلك المعرفة الوثيقة يفتضح أمرها ويتبين أنها لم تكن «معرفة» على الإطلاق، ماذا كانت إذن؟! لقد استخدمناها وحققنا بها تقدما عظيما في فهمنا للعالم، وجربناها في التطبيق التكنولوجي ففتحت لنا عهدا تاريخيا جديدا هو عهد الحضارة الصناعية الحديثة، ورغم ذلك فها نحن نكتشف أنها غير دقيقة، لقد وضعنا ذلك في موقف محير غاية الحيرة، «فقد ظهر أننا كنا على خطأ، ليس فقط فيما كنا نعرفه، بل أيضا فيما تكونه «المعرفة» نفسها، المعرفة على الإطلاق.»
1 (2) تنشئة ثرية وحياة طائلة
مثلما تكفل جون لوك سابقا بالتعبير عن منطويات العلم النيوتوني، وما يحمله من دلالات فلسفية واجتماعية وسياسية، كان فيلسوف القرن العشرين الذي حمل على عاتقه هذه المهمة بالنسبة لثورة أينشتين العلمية هو كارل بوبر الذي ولد في فينا عام 1902م، ابنا لمحام نابه، وتلقى رغم أصله اليهودي تربية مسيحية لوثرية، واعتنق الماركسية في صباه الباكر ثم عافها حين رأى «الشيوعيين» يجيزون التضحية بالبشر العاديين إذا كان هذا يخدم مخططهم، وتحول إلى جانب الديمقراطيين الاشتراكيين، وعاش بوبر «اشتراكيته» يرتدي ثوب العمال ويخالط العاطلين ويخدم الأطفال المعاقين، وكان هذا الميل الأخير سببا لتعرفه بالمحلل النفسي ألفرد أدلر، وفي هذا الوقت أيضا تعرف بالحركة الطليعية في الموسيقى وزعيمها «شوينبرج»، وجمعته الصداقة بالموسيقار فيبرن، أما في عطلاته فقد كان مغرما بتسلق الجبال، وتزوج بطالبة من حسناوات جيله.
كانت حياة بوبر في فينا ثرية إلى أبعد حد، ومتعددة الجوانب ومليئة بالالتزام المتحمس والنشاط المثير، غير أن مجيء النازية ألجأه عام 1937م، أي قبل عام من احتلال النمسا، إلى قبول وظيفة جامعية في نيوزيلندا، حيث قضى سني الحرب العالمية الثانية، وعندما وضعت الحرب أوزارها عام 1945م انتقل بوبر إلى إنجلترا وقضى بقية حياته الوظيفية أستاذا للمنطق ومناهج العلوم بمدرسة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، وفي إنجلترا عاش حياة مختلفة تماما عن حياة شبابه في فينا، إذا فرض على نفسه العزلة لكي يتفرغ لكتاباته التي شملت مجالا عريضا جدا من الموضوعات، وكان لا يزال ينشر أفكارا جديدة مثيرة في عام 1994م حين قضى نحبه عن اثنين وتسعين عاما، كان فيها شاهدا بقدر ما كان محولا لعصر بأسره وقرن بأكمله.
2 (3) يقين العلم
أدرك بوبر أنه إذا كانت قرون من «التعزيزات»
Corroborations
3
التي استأثر بها العلم النيوتوني لم تبرهن على صدق هذا العلم، فمن المستبعد أن يبرهن أي شيء على صدق أي نظرية علمية على الإطلاق. «إن ما تسمى «قوانين علمية» ليست حقائق نهائية عن العالم لا تقبل التصويب، إنها نظريات، وهي بهذه الصفة منتجات للعقل الإنساني، فإذا تبين نجاحها في التطبيق العملي، فإن هذا يعني أنها «تقترب من الحقيقة»، غير أنه من الجائز دائما، حتى بعد مئات الأعوام من النجاح العملي أن يأتي شخص ما بنظرية أفضل وأكثر «اقترابا من الحقيقة».»
طور بوبر هذا الاستبصار إلى نظرية مكتملة في المعرفة، وفقا لهذه النظرية يعد الواقع الفيزيائي موجودا بمعزل عن عقل الإنسان، وله نظام مختلف جذريا عن خبرة الإنسان، ولهذا السبب عينه لا يتسنى فهمه بطريق مباشر، فنحن ننتج نظريات معقولة لكي نفسر هذا الواقع، ونظل نستخدم هذه النظريات ما دامت تعمل بنجاح وتؤدي إلى نتائج عملية ناجحة، غير أنه في جميع الحالات تقريبا سوف تضعنا هذه النظريات، عاجلا أم آجلا، أمام مصاعب عندما يتبين قصورها في جانب معين، هنالك سوف نجيل النظر طلبا لنظرية أفضل: نظرية أكثر رحابة تضطلع بتفسير كل ما تمكنت النظرية الأولى من تفسيره وتتلافى في الوقت نفسه أوجه القصور التي تنطوي عليها النظرية الأولى، ونحن لا نستن هذه الطريقة في العلم وحده، بل في كل حقل من حقول النشاط الأخرى، بما فيها أفعال الحياة اليومية، يعني ذلك أن طريقنا في معالجة الأمور هي في صميمها طريقة «حل مشكلات»، «وأننا نحرز تقدمنا لا عن طريق إضافة يقين معرفي جديد إلى كم المعارف القائم، بل بإحلال نظريات أفضل محل النظريات القائمة، باستمرار وبصفة دائمة؛ ومن ثم فإن علينا أن نتخلى عن البحث عن اليقين، ذلك البحث الذي استحوذ على عقول أعظم فلاسفة الغرب بدءا من ديكارت وانتهاء برسل، ذلك أن هذا اليقين لا وجود له.»
إن من المتعذر أن نثبت، بصفة نهائية، صدق أي نظرية علمية، أو أن نقيم العلم كله أو الرياضيات كلها على أسس مطلقة اليقين، إن «مذهب التبرير»
Justificationism
كما يسميه بوبر هو خطل تام، فأنت إذا بنيت منزلا على دعائم في مستنقع، فإن عليك أن تعمق الدعائم بما يكفي لحمل البناء، وكلما شئت تضخيم المنزل سيكون عليك أن تعمق الدعائم أكثر فأكثر، غير أنه ليست هناك حدود ضرورية لهذه العملية، ليست هناك مستوى «نهائي» من الأسس سوف يضطلع بحمل أي شيء كان، ليس هناك أساس «طبيعي» أو معطى لهذا البناء ولا لغيره.
ورغم ذلك، ففي حين لا يمكن إثبات أي نظرية كلية، فإن بالإمكان دحضها، وهذا يعني أن بالإمكان اختبارها، فإذا لم تكن ثمة نهاية لعدد البجعات البيضاء التي تلزم ملاحظتها لإثبات صدق العبارة الكلية «كل البجع أبيض»، فإن ملاحظة بجعة واحدة سوداء تكفي لدحض العبارة، من ذلك يتبين أن الاختبار الممكن للعبارات الكلية هو بالبحث عن أمثلة مضادة، فإذا كان الأمر كذلك، يصبح «النقد» هو الوسيلة الرئيسية التي نحرز بها تقدما في حقيقة الأمر، «فالعبارة التي لا توجد أية ملاحظة يمكن أن تدحضها، هي عبارة لا يمكن اختبارها؛ ومن ثم لا يمكن أن تعد عبارة علمية، ذلك أنه إذا كان أي شيء ممكن الحدوث سيكون متفقا مع العبارة، فلا شيء إذن يمكن أن يعتبر بينة على صدقها.» (4) المجتمع المفتوح
كان الكتاب الرائد الذي ضمنه بوبر هذه الأفكار هو كتاب «منطق الكشف العلمي» الذي نشر بالألمانية عام 1934م وبالإنجليزية عام 1959م، وليس قبل أن يستوثق من نجاح أفكاره بصدد العلوم الطبيعية أدرك بوبر أنها تنطبق أيضا على العلوم الاجتماعية، وفي عام 1945م نشر بوبر كتابا بعنوان «المجتمع المفتوح وأعداؤه» في مجلدين، وفيه قام بتطبيق أفكاره العلمية على النظرية السياسية والاجتماعية.
يبرهن بوبر بالحجة على أن اليقين لا وجود له في السياسة مثلما هو لا وجود له في العلم، ومن ثم فإن فرض وجهة لواحدة من الرأي هو أمر لا مبرر له، وأسوأ صور المجتمع الحديث جميعا هي تلك المجتمعات التي تفرض تخطيطا مركزيا ولا تسمح بالمعارضة، فالنقد هو الطريق الرئيسي الذي يمكن فيه تنقيح السياسات الاجتماعية قبل تنفيذها، وملاحظة النتائج غير المرغوبة هي أوجب سبب لتعديل السياسات أو نبذها بعد أن يتم تنفيذها.
يتبين من ذلك أن المجتمع الذي يسمح بالمعارضة والحوار النقدي (ما يسميه بوبر «المجتمع المفتوح») سيكون بالتأكيد أقدر على حل المشكلات العملية لصناع السياسات من المجتمع الذي لا يسمح بذلك، وسيكون تقدمه أسرع وأقل تكلفة.
في السياسة إذن كما في العلم نحن نتخلى عن الأفكار الراسخة لصالح ما نتوسم فيه أنه الأفضل، فالمجتمع أيضا في تغير دائم، ومعدل التغير في زيادة مطردة، وإذا كان الأمر كذلك، فإن خلق حالة مثالية للمجتمع والإبقاء عليها ليس هو الخيار الأفضل لنا، وواجبنا هو أن نتحكم في عملية التغير المستمر الذي لا يتوقف عند حد، لذا، فإن شغلنا الشاغل هو حل المشكلات، شغلنا هو البحث الدائم عن أسوأ الشرور الاجتماعية ومحاولة إزالتها، الفقر والبؤس، تهديد الأمن، مساوئ التعليم والخدمة الطبية، إلخ، ولأن الكمال أو اليقين غاية لا تدرك، فإن واجبنا ألا ننصرف إلى بناء مدارس ومستشفيات نموذجية بقدر ما ننكب على التخلص من الخدمات الأسوأ وتحسين نصيب الناس من هذه الخدمات، إننا لا نعرف كيف نجعل الناس سعداء، ولكن بإمكاننا رفع ما يمكن رفعه من المعاناة والضنك.
4 (5) بوبر يحفر قبر الماركسية
فيما يقدم بوبر هذه الأفكار كان يشن هجوما شرسا على عتاة المجتمع المثالي، وأهمهم أفلاطون وماركس، ومن المتفق عليه على نطاق واسع أن هجومه على الماركسية هو أقوى هجوم تعرضت له في حياتها، وقد كان هذا الهجوم هو ما أذاع اسم بوبر لأول مرة على المستوى الدولي، لقد أتى على العالم حين من الدهر بعد نشر «المجتمع المفتوح» كان فيه زهاء ثلث الجنس البشري يعيش تحت إمرة حكومات أسمت نفسها «ماركسية»، وهذه الحقيقة وحدها تمنح أفكار الكتاب دلالة كونية، ربما لم يعد هذا الجانب من الكتاب ملحا اليوم كما كان أيام سطوة الماركسية، غير أن ما يتضمنه الكتاب من دفاع إيجابي عن الانفتاح الديمقراطي وعن التسامح يبقى - ربما - أقوى دفاع يسطره قلم في جميع العصور.
5
خاتمة
ولا يسعنا في النهاية إلا أن نختم حديثنا بما كان يحب بوبر أن يختم به أحاديثه، وهو تصوره المبدع عن «صراع النظريات»، إنه تصور ذكي ألح عليه بوبر وأكده مرارا وتكرارا، فهو منبث في تضاعيف كتاباته كلها، وقد ختم به عملا من أجل أعماله «النفس ودماغها»، وختم به أكثر من مقال من مقالاته الهامة.
مع ظهور الإنسان العاقل
Homo Sapiens ، وربما قبل ذلك، بدأ مبدأ جديد للنمو، وهو التطور الثقافي، في التفاعل مع مبادئ التطور التي تحكم الأنواع الأخرى من الكائنات ... إن السمة الأساسية في هذا التغيير كانت هي أن التعديل في المنتجات (المصنوعات)
Artifacts - بدلا من التعديل في الخصائص المورفولوجية أو التشريحية مثل الفك أو الأسنان أو الأيدي - أصبح هو الشكل الأساسي في آلية التكيف. يذهب بيكرتون إلى أن اللغة والقدرة على خلق المنتجات كانت هي العامل الحفاز للشكل الجديد نوعيا من التفاعل بين النوع والبيئة المميز ل «الإنسان العاقل العاقل»
Homo Sapiens Sapiens ، وهو موقف يتفق بوضوح مع المنظور التاريخي الثقافي.
1
ويلخص وستون لابار
W. La Barre
فكرة شكل جديد من الوراثة والتغير كما يلي: «مع ظهور الأيدي البشرية أصبحت الطريقة القديمة في التطور عن طريق الجسد طريقة بالية، خضعت كل الحيوانات السابقة على الإنسان لتطور أوتوبلاستي (ترقيع ذاتي) لمادتها، مسلمة أجسادها لتجارب في التكيف، في رهان نشوئي أعمى من أجل البقاء، كانت المقامرة في هذه اللعبة عالية: الحياة أو الموت، أما الإنسان فقد تم تطوره، على العكس من ذلك، من خلال تجارب «ألوبلاستية» (ترقيع غيري) على الأشياء خارج جسده، وتتعلق فقط بمنتجات يديه ودماغه وعينيه، وليس بجسده نفسه.»
2
من الخصائص الأساسية لهذا الشكل الجديد من العمل الذي تتوسطه اللغة/الثقافة أنه يراكم التفاعلات «الناجحة» مع البيئة خارج الجسم، بالتالي على حين يعد التغير الوراثي أساسا تغيرا داروينيا (أي أنه يحدث عن طريق الانتخاب الطبيعي الذي يقع على تغيرات غير موجهة)، فإن التطور الثقافي هو أساسا تطور لاماركي، بمعنى أن الاكتشافات المفيدة التي يقوم بها جيل يتم نقلها مباشرة إلى الجيل الذي يليه.
الثقافة إذن يمكن أن تنتشر بمعزل عن مورثاتنا واستجابة لقرارات واعية، وفي حين لا يتضمن الانتخاب الطبيعي أي اختيار واع من جانب تلك الموروثات أو تركيباتها التي تصادف أعلى نجاح تناسلي، فإن الثقافة تتقدم في الغالب عن طريق الاختيار المتعمد لممارسات معينة من بين عدد كبير من المتاح منها، بهذا المعنى إذن تعد الثقافة «غائية»
Teleological
أو هادفة بشكل غير متاح على الإطلاق للتطور البيولوجي.
3
هكذا نرى فكر بوبر العلمي متجسدا في أرقى ما وصل إليه العلم الاجتماعي الجديد، غير أننا قلما نجد هذا العلم مصوغا بهذه اللغة العالية الآسرة التي تميز كارل بوبر، ولا بهذا الجلال العقلي الأخاذ الذي يشيع في كتاباته.
يقول بوبر في كتابه «المعرفة الموضوعية»: «إن لنا أن نعد هذه الأساطير، وهذه الأفكار، وهذه النظريات من أهم منتجات العمل الإنساني وأميزها. إنها، شأنها شأن الأدوات، أعضاء تتطور خارج جلدنا. إنها مصنوعات خارج الجسد، ولنا من ثم أن نعد من أخص هذه المنتجات ذلك الذي أسميناه «المعرفة البشرية»، آخذين لفظة «معرفة» بالمعنى الموضوعي أو غير الشخصي، الذي يتيح لنا أن نقول إنها توضع في كتاب أو تذخر في مكتبة أو تدرس في جامعة.» «ينظر عادة إلى الانتخاب الطبيعي والضغط الانتخابي على أنهما نتاجان لصراع عنيف من أجل الحياة، غير أنه مع انبثاق العقل، وعالم 3، والنظريات، تغير الأمر، وصار بوسعنا أن نترك نظرياتنا تصطرع نيابة عنا، وتموت بدلا منا، ومن وجهة نظر الانتخاب الطبيعي فإن الوظيفة الرئيسية للعقل وللعالم 3 هي أنهما جعلا من الممكن استخدام منهج المحاولة وإقصاء الخطأ بدون إقصاء عنيف لأنفسنا، ها هنا تكمن القيمة البقائية الكبرى للعقل وللعالم 3، فمع انبثاق العالم 3 لم يعد الانتخاب بحاجة إلى العنف: لقد أصبح بوسعنا أن نستبعد النظريات الزائفة بواسطة نقد لا عنفي، لم يعد التطور الثقافي اللاعنفي مجرد حلم يوتوبي، بل أصبح نتيجة ممكنة لبزوغ العقل من خلال الانتخاب الطبيعي.»
4
ثبت المراجع التي وردت بالكتاب
(1) أعمال لكارل بوبر
Conjectures and Refutations, the Growth of Scientific Knowledge, Fifth edition, Routledge and Kegan Paul, London, 1974.
Logic of Scientific Discovery, Hutchinson of London, 1976.
Objective Knowledge, The Clarenton Press, Oxford, 1972.
The Open Society and Its Enemies (2 Vols), fifth edition, Princeton University press, 1966.
Brain, corrected second printing, Springer International, 1985.
Unended Quest: An Intellectual Autobiography, William Collins Sons and Co. Ltd. Glasgo, Great Britain, 1976.
بحثا عن عالم أفضل، ترجمة د. أحمد مستجير، الألف كتاب الثاني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1996.
عقم المذهب التاريخي (ترجم بعنوان: بؤس الأيديولوجيا)، ترجمة د. عبد الحميد صبرة، طبعة دار الساقي، بيروت ولندن، 1992. (2) مراجع عربية
آرون بيك: العلاج المعرفي والاضطرابات الانفعالية، ترجمة د. عادل مصطفى، دار النهضة العربية، بيروت، 2000.
إسماعيل علي سعد: المدخل إلى علم الاجتماع السياسي، دار النهضة العربية، بيروت، 1989.
المعجم الفلسفي: مجمع اللغة العربية، الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية، القاهرة، 1979.
برتراند رسل: حكمة الغرب، ترجمة د. فؤاد زكريا، عالم المعرفة، ديسمبر 1983.
لويس مليكة: التحليل النفسي والمنهج الإنساني، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1990.
ماهر عبد القادر محمد: «فلسفة العلوم: المشكلات المعرفية»، الجزء الثاني، دار النهضة العربية، بيروت، 1984.
محمد مهران: فلسفة برتراند رسل، دار المعارف، القاهرة، 1976.
ميشيل ميتياس: هيجل والديمقراطية، ترجمة د. إمام عبد الفتاح إمام، دار الحداثة، بيروت، 1990.
هيجل: أصول فلسفة الحق، ترجمة د. إمام عبد الفتاح إمام، دار التنوير، بيروت، 1983.
يمنى طريف الخولي: فلسفة كارل بوبر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1989. (3) مراجع أجنبية
Addis, L., Parallelism, interactionism an causation. In
Causation and Causal Theories, Midwest studies in philosophy, Vol. 9, Minneapolis: University of Minnesota Press, 1984.
Barash, D. P., The Hare and the Tortoise: Culture, Behavior and Human Nature. New York: Viking, 1984. 3. Brody, E. B.,
Churchland, P. S., Neurophilosophy, ninth edition, A Bradford Book, The MIP Press, 1996.
Earle, W. J., Introduction to Philosophy, McGraw-Hill., Inc., 1992.
Ehand, J., Philosophy and Philosophers, Penguin Book, 1993.
Grunbaum, A., precis of “The Foundations of
1986.
Kline, P., Psychology and Freudian Theory, New York, Methuer, 1984.
Lakatos, I., The Methodology of Scientific Research
La Barre, W., The Human Mind, Chicago: University of Chicago press, 1954.
Magee, B., Philosophy and The Real World: An Introduction to Karl Popper, Open Court Pub Co, July 1985.
Magee, B., The History of Philosophy, DK Publishing, Inc. 1998.
Marks and Engles: Basic Writings on Politics and
1959).
Meehl, P. E., & Feigl, H., the determinism-freedom and body-mind problems. In C. A. Anderson & K. Gunderson (Eds.), P. Meehl, Selected philosophical and methodological papers, Minneapolis: University of Minnesota press, 1991.
Nagel, T., What is it like to be a bat? In T. Nagel, Mortal questions, Cambridge: Cambridge University press, 1979.
Natsaoulas, T., Gestav Bergmann’s psychophysical parallelism. Behaviorism, 12, 1984.
Singer, P., Discovering Karl Popper, In The New York Review Books, May 2, 1974.
Reznek, L., The Philosophical Defense of Psychiatry, Routledge, London and New York, 1991.
Schilpp, P. A. (ed) The Philosophy of Karl Popper. (2 Vols). Open Court Press, La Salle, 1982.
Stanford Encyclopedia of Philosophy, entry: Karl
Swinburne, R., An Introduction to Confirmation theory, London, Methuen, 1973.
Turner, P. N., Remembering Karl Popper, Hoover Digest, 2000 No. 1.
كتب للمؤلف
مدخل إلى العلاج النفسي الوجودي (ترجمة)، رولو ماي، وإرفين يالوم، مراجعة. أ.د غسان يعقوب أستاذ علم النفس بالجامعة اللبنانية، دار النهضة العربية، بيروت، 1999.
العلاج المعرفي والاضطرابات الانفعالية (ترجمة)، آرون بك، تصدير د. آرون بك، مراجعة أ.د. غسان يعقوب، أستاذ علم النفس بالجامعة اللبنانية، دار النهضة العربية، بيروت، 2000.
دلالة الشكل، دراسة في الإستطيقا الشكلية وقراءة في كتاب الفن، دار النهضة العربية، بيروت، 2001.
الفن، كلايف بل (ترجمة)، مراجعة وتقديم أ.د. ميشيل متياس، أستاذ الفلسفة وعلم الجمال ورئيس قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة الكويت، دار النهضة العربية، بيروت، 2001.
الدليل التشخيصي والإحصائي الرابع للأمراض النفسية (ترجمة بالاشتراك مع. أ.د أمينة السماك، أستاذ علم النفس)، الرابطة الأمريكية للطب النفسي، دار المنار الإسلامية، الكويت، 2001.
علم النفس الثقافي: ماضيه ومستقبله، مايكل كول (ترجمة بالاشتراك مع أ.د. كمال شاهين أستاذ اللغويات)، دار النهضة العربية، بيروت، 2002.
كارل بوبر : مائة عام من التنوير ونصرة العقل، دار النهضة العربية، بيروت، 2002.
مدخل إلى الهرمنيوطيقا، نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر، دار النهضة العربية، بيروت، 2003.
صوت الأعماق: قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس، دار النهضة العربية، بيروت، 2004.
مدخل إلى الفلسفة، وليم جيمس إيرل (ترجمة ومراجعة أ.د. يمنى طريف الخولي، رئيس قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة)، المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومي للترجمة، كتاب رقم 962، القاهرة، 2005.
العولمة: من زاوية سيكولوجية، دار النهضة العربية، بيروت، 2006.
مادة «نظرية التأويل»
Hermeneutics
في موسوعة كمبردج للنقد الأدبي (ترجمة ومراجعة أ.د. ماري تريز عبد المسيح، أستاذ الأدب الإنجليزي كلية الآداب جامعة القاهرة)، المجلد الثامن، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2006.
المغالطات المنطقية، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2007.
عزاء الفلسفة، بوئثيوس (راجعه على اللاتينية أ.د. أحمد عتمان، أستاذ الأدب اللاتيني واليوناني بكلية الآداب جامعة القاهرة)، دار رؤية للنشر، القاهرة، 2007.
ألوان من النسبية، دار الآفاق العربية، القاهرة، 2008.
حكايات إيسوب (ثنائي اللغة)، دار النهضة العربية، بيروت، 2008.
التأملات: ماركوس أوريليوس (ترجمة ودراسة)، راجعه على اليونانية أ.د. أحمد عتمان، دار رؤية للنشر، القاهرة، 2010.
النفس ودماغها: كارل بوبر وجون إكلس (ترجمة)، دار رؤية للنشر، القاهرة، 2012.
الطريق الثالث إلى فصحى جديدة، مراجعات في فقه اللغة العربية، دار رؤية للنشر، القاهرة، 2011.
نغم الأفكار، دار الفارابي، بيروت، 1997.
ديوان النثر، دار الفارابي، بيروت، 1997.
إبكتيتوس: المختصر (ترجمة ودراسة)، دار رؤية للنشر (تحت الطبع).
فقه الديمقراطية، دار رؤية للنشر، القاهرة، 2012.
شجون النثر (تحت الطبع).
المؤلف حائز على جائزة أندريه لالاند للفلسفة، وجائزة الدولة التشجيعية في الفلسفة لعام 2005.
Halaman tidak diketahui