Arabi Antara Dua Budaya
عربي بين ثقافتين
Genre-genre
ولقد ذكرنا لك فيما أسلفناه أن العربي بحكم محيطه الصحراوي الكبير أقرب إلى أن يتشرب رؤية تجعل سندها ذلك المطلق اللامتناهي بما له من ثبات ودوام، وجاءت إليه ديانات تتسق مع تلك الرؤية الفطرية، فاكتمل له من خبرته بأرضه ومن وحي السماء ينزل على رسله وأنبيائه الميزان الذي يفرق به بين من انحرف عن جادة الطريق ومن اهتدى إلى سواء السبيل، فمن وقف في نظرته عند الجزئي المفرد الزائل فقد انحرف، ومن جاوز الجزئي المحدود العابر إلى اللانهائي اللامحدود الخالد فقد اهتدى. وهو ميزان - كما ترى - واضح المعالم يتناول أول ما يتناول حياة الإنسان في مسالكها متى يصح السلوك ومتى يفسد؟ ومن هنا كانت الصور الحضارية كلها التي نبتت على الأرض العربية، تعنى في المقام الأول بالأخلاق قبل عنايتها بالمزروع والمصنوع. إنها لم تكن تقيس قيمة الإنسان بوفرة إنتاجه ولا بكثرة ماله ولا بشدة نشاطه وسرعة خطواته، بل كانت تقيسها - قبل أن تنظر في هذه الأمور كلها - إلى سلوكه هل يؤدي أو لا يؤدي إلى حسن العلاقة بربه وبضميره الخلقي وبالآخرين من أفراد الناس. إننا إذ نقول ذلك على سبيل المقارنة بين الغربي وغيره في رؤيته وموازينه، فإنما نقوله على سبيل التغليب، وإلا فلكل أمة نصيبها من جوانب الحياة، ثم يبقى السؤال عن الأولوية لأي جانب تكون عند هذه الأمة أو تلك. ونظرة فاحصة إلى العربي اليوم وكيف ينظر، كفيلة بأن تبين كيف تمزقت رؤيته شدا وجذبا بين أقطاب متضاربة، حتى لتجد فينا من يحيا حياته برؤية غربية خالصة، كما ترى إلى جواره من يحيا حياته على صور السلف البعيد، وكأن الزمن قد جمد والحياة لم تتغير. وبين هذين الطرفين النقيضين تجد كل الدرجات المتفاوتة في اغترافها من هذا الإناء أو ذاك. ويبدو أن العلة الأولى في هذا التمزق هي أن أبوابنا فتحت فجأة في أوائل القرن الماضي على حضارة الغرب الحديث؛ فبعد أن تدرج ذلك الغرب في تحديث حضارته على أسس جديدة غير التي كانت في العصور الوسطى، وصل إلى نقطة متقدمة من الشوط. وهنا وقعت المواجهة والمفاجأة كما يصطدم القطار السريع بعارض على قضبانه، فيتحطم العارض ولا يمس القطار بأذى، فهكذا تناثرنا أمام صدمة الحضارة الغربية جماعات جماعات، فلما أفقنا من الواقعة أخذت كل جماعة منها تشدد قبضتها على ما وجدت نفسها فيه، تدافع عنه وكأنه الحق كله والباطل هو سواه.
وقد كان يمكن للأمة العربية أن تأخذ الثقافة الجديدة التي أفرزتها حضارة العصر في الغرب، لتبحث لها عن مكان يلائمها في الإطار العربي، ولم يكن ذلك ليستحيل عليها؛ لأن «العلم» هو محور الغرب الحديث، ولم يكن النظر العلمي قط غريبا على هذه الأمة منذ ظهورها على مسرح التاريخ؛ فمنذ وعت وأخذت تتفهم ما حولها، وجدت بين يديها «الحقيقة» الكبرى ماثلة أمام عينيها في الآفاق ونابضة مع دقات قلبها في العقيدة الدينية، وما كان عليها إلا أن تحسن استنتاج الحقائق الفرعية من تلك الحقيقة الأولى، وفي مثل هذا الاستنتاج يولد «العلم». وإذا كان الغرب الحديث قد أقام حضارته الجديدة على علم من نوع آخر غير العلم الذي يتمثل في استنتاج النتائج «اللفظية» من مقدماتها «اللفظية» أيضا، ومدار هذا النوع الآخر هو استقراء «الأشياء» أو ظواهر الطبيعة، فقد كان في حياة العربي العلمية جوانب كثيرة تدل أقوى دلالة على بشائر وبوادر لمثل هذا النوع من النظر، أقول إنه كان يمكن للأمة العربية أن تهضم فكر الغرب الحديث هضما يزيدها صحة ولا يصيبها الأذى، لكنها لم تفعل حتى ألزمتها الحاجة إلى علم الغرب وصناعته فاشترتهما بالمال حينا، وبحريتها حينا.
فبأي رؤية تنظر الأمة العربية اليوم؟ لقد غامت رؤيتها وتعذر الجواب.
صورة الإنسان
كان ذلك على وجه التحديد، يوما في أواخر سنة 1950م، عندما جلست على مائدة الغداء في فندق بالقاهرة. واستأذن شاب إنجليزي في نحو الثلاثين من عمره، في أن يشاركني بالجلوس إلى المائدة، ثم ما هو إلا أن تبادلنا أطراف الحديث، فعرفت أنه أديب يكتب الرواية والمقالة، يحاضر في الأدب الإنجليزي بجامعة بغداد، وجاء إلى القاهرة ليقضي إجازة عيد الميلاد، وليجمع مادة يستعين بها في الرواية التي يكتبها، معتزما أن يجعل مصر عنصرا أساسيا من عناصرها. ولم تكن جلسة الغداء قد انتهت حين سمعنا من مائدة بجوارنا صوتا مشحونا بانفعال المسيطر الآمر، يتوجه به نحو عامل يخدم في غرفة الطعام. ولم ندر ما الذي فعله العامل أو قاله، مما استثار في «الزبون» المتجبر المتكبر جبروته وكبرياءه، إلا أن العبارات التي وجهها إلى العامل دلت على أن ذلك العامل قد استباح لنفسه تقريب المسافة الاجتماعية بينه وبين «الزبون»، فخاطبه بضمير المخاطب المفرد، بدل ضمير الجمع علامة على الاحترام الواجب؛ فربما أشار إلى معطف موضوع على مقعد قريب، سائلا: أهذا معطفك؟ ومثل هذه الصيغة في الحديث لم تكن تجوز بين خفيض ورفيع من درجات الحياة.
بل إنه لم يكن يجوز من الخفيض أن يخاطبه بلغة الخطاب المباشر بأية صورة جاءت، وإنما الخطاب في هذه الحالة يجب أن يوجه إلى حلقة وسطى بين الطرفين كالسعادة، أو الحضرة، أو الجناب، أو أي شيء من هذا القبيل، فكان على العامل أن يسأل قائلا: هل هذا معطف سعادتكم، أو معطف حضرتكم، أو معطف جنابكم؟ أو ما يؤدي هذا المعنى الدال على وجود فاصل يفصل الطرفين حتى لا تجيء المخاطبة نقطة التقاء بين الرفيع والخفيض من أبناء الوطن الواحد.
فلما ذهبت الصرخة وأصداؤها، وهدأت قاعة الطعام مرة أخرى إلا من طقطقة الأطباق والملاعق والشكوك والسكاكين، سألني الأديب الإنجليزي: ما الذي حدث بين الرجلين؟ قلت له إن خلاصة ما حدث هو أن العامل تحدث إلى الزبون بلغة توحي بأنهما «رجلان». فنظر إلي الإنجليزي نظرة الدهشة قائلا: وكم هما إذن؟ أليسا رجلين؟ قلت له: نعم، إنما كذلك في دنيا الأبدان، أما في عالم الحساب الاجتماعي، فأحدهما - وهو العامل - صفر، والآخر لست أدري كم يساوي لأني لا أعرفه؛ فربما كان بحكم بمنزلته الاجتماعية مساويا لألف رجل أو ألفين أو عدة آلاف. وأحس الإنجليزي بالطبع نبرة السخرية الحزينة في إجابتي، فصمت قليلا وسألني: متى وكيف في رأيك تحدث ثورة لتغيير هذه الأوضاع؟ فأجبته بقولي: أما «متى» فلا علم لي بغيب، وأما «كيف» فلا كيف في الموقف إلا كيف واحد هو أن يقوم الجيش بالثورة نيابة عن الشعب؛ لأن ما سوى الجيش من فئات، فيهم القلق الثائر وليس لديهم أدوات التنفيذ؛ فجماعات الطلاب - مثلا - لا تملك غير الحناجر للهتاف، وجماعات العمال لا تملك إلا الإضراب عن العمل، مما يضر أكثر مما ينفع.
وفرغنا من الغداء وافترقنا، كل في سبيله، لكنني لم أنس الصرخة المدوية التي صرخ بها ذلك المتجبر المتكبر في وجه العامل لغير ما سبب يجيزه إنصاف. وكان أول ما دار في خاطري تعليقا على ذلك الذي حدث، عبارة همست بها لنفسي قائلا: نعم إن ذلك العامل صفر اجتماعي يأيها المتجبر المتكبر، لكنه صفر نفيس. وأعجبتني هذه العبارة التي همست بها لنفسي، ولم أخلع ملابسي لأرتدي ثياب البيت، إلا بعد أن جلست إلى مكتبي وفرغت من مقال جعلت عنوانه «الصفر النفيس» ودفعت به إلى مجلة للنشر، وهو مثبت في كتاب يضمه مع طائفة أخرى من مقالات كنت أكتبها يومئذ بأنفاس من لهب. وأذكر أن كان بين ما قلته في ذلك المقال موجها حديثي إلى ذلك المتغطرس المجهول، إن ذلك الصفر البشري الذي نراه على نحو ما تراه، إنما هو اليوم صفر لأنه يقف على يسار العدد، ومن ذا يدريك كم يساوي هذا الصفر نفسه عندما يحدث ما يحدث فينتقل من يسار العدد إلى يمينه؟ إنه عندئذ قد يساوي ألفا، أو عشر آلاف أو ما مكنته طاقته أن يكون.
ذكرت تلك الذكرى للحظة عشتها ذات يوم من شهر ديسمبر سنة 1950م، ذكرتها الآن حين هممت أن أكتب عن صور الإنسان بصفة عامة ما مقوماتها، وصورة الإنسان العربي بصفة خاصة ماذا حققت من المثل الأعلى، وماذا فاتها أن تحققه في المرحلة الحاضرة من تاريخها؟ إذن فسؤالنا الأول هو عن الصور المثلى، ما هي ليقاس عليها؟ لقد كان لرجال الفكر في هذا المجال اجتهادات بدأت لكيلا تنتهي، وعلينا نحن أن نستعرض ونقارن ونختار. وأول صورة مما يستحق الذكر، هي الصورة التي قدمها الفيلسوف اليوناني القديم - أفلاطون - إذ كان في سبيله إلى تحديد «العدل» تحديدا واضحا ، لكي يجعل منه الأساس الذي تقام عليه الدولة المثلى، واستطردت لمحاورة حول معنى «العدل» استطرادا مستفيضا يستعرض مختلف المعاني التي يمكن أن يفهم «العدل» على أساسها، حتى انتهى به الأمر إلى ضرورة تحليل النفس الإنسانية إلى عناصرها؛ ففي هذه التجزئة ما يوضح الصورة، فوجد هو ومحاوروه من تلاميذه أن النفس مؤلفة من عناصر ثلاثة، لكل منها صفة إذا توافرت، كانت له بمثابة «الفضيلة» الخاصة به. وتلك العناصر الثلاثة هي «العقل» وفضيلته «الحكمة»، و«القلب» وعواطفه وفضيلته «الشجاعة»، و«البطن» وشهواته وفضيلته «العفة»، فإذا اجتمعت تلك الفضائل الثلاث معا تحقق بذلك العدل؛ أي إن العدل محصلة مجموعة فضائل وليس شيئا قائما بذاته. ونفهم ذلك الرأي فهما أوضح، حين ننتقل بالحديث من الفرد البشري الواحد، إلى المجتمع وما يقع فيه من تفاعل بين أفراده، فها هنا نقول إن المجتمع يصبح مجتمعا عادلا، إذا «تعادلت» فيه القوى الثلاث؛ فهنالك عالم الحاجات الطبيعية الغريزية، وهنالك العواطف وانفعالاتها، وكل من هاتين القوتين تدفع وتندفع ولا تتزن وتتعادل إلا إذا جاءت قوة العقل فأمسكت لهما الزمام بحكمتها، لتترك لكل منها حرية الحركة في حدود لا تطغى ولا تجاوز المعقول. وقد ترك لنا أفلاطون صورة تصور ما أراده، عربة يجرها جوادان يمسك بلجامهما سائق مدرب، أما الجوادان فهما دوافع العاطفة ودفعات الشهوة، وأما السائق فهو العقل يلجم الجوادين بحكمة تضبط لهما إيقاع الحركة.
تلك - إذن - هي إحدى الصور، أو قل أحد التصورات التي صور بها الإنسان، لا لنقف أمامها نتلقاها في سلبية وسكون، بل لنستدل منها - إذا قبلناها - ما يترتب عليها من حقوق للإنسان ومن واجبات عليه. وظهر الإسلام حين ظهر لتتفرع عنه حركة ثقافية بلغت أوجها بعد أربعة قرون من ظهوره، وكان بين رجالها عندئذ «مسكويه» الذي كتب عن فلسفة «الأخلاق » كتابة ربما تفرد بها دون معاصريه. وكان مما لفت النظر عند كاتب هذه السطور، أن يجد «مسكويه» قد أخذ بالصورة الأفلاطونية المثلثة العناصر، وتساءل هذا الكاتب يومئذ: ألم يكن الأجدر بمسكويه أن يضيف إلى العناصر الثلاثة عنصرا رابعا لتلتئم الصورة مع الثقافة الإسلامية الجديدة، ألا وهو عنصر «الدين»؟ نعم، قد يكون «مسكويه» قد ذكر بين تفصيلات الحياة الخلقية عددا من أخلاقيات الإسلام، إلا أن الصورة العامة عنده بقيت عربة تجرها عواطف وشهوات ويلجمهما سائق العقل بحكمته.
Halaman tidak diketahui