Arabi Antara Dua Budaya
عربي بين ثقافتين
Genre-genre
لكن تلك القرون الأربعة التي يمكن ضمها معا تحت فكرة واحدة جديدة هي فكرة قراءة الطبيعة قراءة مباشرة يمكن كذلك أن تتفرع بين أيدينا إلى عصور فرعية، يمتد كل عصر منها قرنا واحدا على التقريب، ولكل من تلك الفروع خصائصه المميزة التي تجعل منه عصرا قائما بذاته. وعلى هذا الأساس ننظر الآن إلى عصرنا الفرعي الذي نعيش فيه، وأعني هذا القرن العشرين، فما هي «الفكرة» الجديدة التي باتت محور الرحى، وميزت هذا القرن عن سابقه. وأرجو من القارئ ألا ينسى أننا نتحدث الآن عن «الغرب» المتمثل في أوروبا وأمريكا الشمالية؛ لأن حضارة العصر من صنعه، ثم سارت معه على الطريق بعض أقطار الشرق الأقصى كاليابان، وأما بقية العالم فقد كفاها أن تأخذ ولا تعطي. وأعود بعد ذلك فأسأل: ماذا كانت «الفكرة» الفرعية الجديدة التي عملت على أن يكون القرن العشرون وحدة حضارية قائمة بذاتها؟
ولكي نجيب عن ذلك أريدك أن تقف معي لحظة عند مفترق القرنين؛ التاسع عشر والعشرين، لندير أبصارنا، في مجال العلوم متسائلين: هل حدث فيها من جديد؟ وعندئذ سيجيئنا الجواب واضحا نعم. فإذا كان العصر بمعناه الواسع الذي يشمل كل ما أعقب العصور الوسطى قد عرف بخروج العلماء من محابسهم ليجوبوا الأرض والبحر وأفلاك السماء، كاشفين عن كل مستور غطاءه ما أسعفتهم قدراتهم في هذا السبيل، ومع الكشف يقرءون صحائف الكون فيعلمون ظواهره. أقول إنه إذا كان العصر الحديث بمعناه الذي امتد أربعة قرون، قد كان مداره «قراءة» الطبيعة قراءة مباشرة، بعد أن كان شغل العلماء الشاغل قبل ذلك هو أن ينكبوا داخل الجدران يقرءون صحف السابقين، فإن «العصر» بمعناه الأضيق الذي يقتصر على القرن العشرين وحده، لا يزال استمرارا للاتجاه نفسه، إلا أن قراءته للطبيعة مختلفة الأساس عما كانت عليه. وقد تسأل أليس كتاب الطبيعة هو هو نفسه الكتاب الذي قرأه جاليليو ونيوتن؟ فنجيب نعم هو هو الكتاب، لكن الذي اختلف في القرن العشرين، هو الزاوية التي ينظر منها إلى المادة المقروءة. وأحب في هذه المناسبة أن ألفت نظر القارئ إلى نقطة مهمة في دنيا العلم هي أن الظاهرة المعروضة للبحث، ولنفرض مثلا أنها ظاهرة الضوء، لا تبوح بسرها طواعية، بل إن العالم الباحث هو الذي يقدح ذهنه ليهتدي إلى طريقة تجعل الظاهرة تفصح عن قوانينها؛ فعلماء «الضوء» قد ابتكروا من عندهم فكرة هي أن يحاولوا قراءة ظاهرة «الضوء» بطريقة «هندسية» أي كما تقرأ أشكال الهندسة من خطوط وزوايا. إنهم لا يرون هذه الخطوط والزوايا في «الضوء» بادئ ذي بدء، بل يرونه كما تراه أنت وكما أراه أنا حين ننظر إلى ضوء الشمس أو ضوء المصباح، ولكنهم - أعني علماء الضوء - افترضوا من عندهم أن سر قوانين الضوء قد ينكشف لهم إذا هم نظروا إلى الظاهرة من هذه الزاوية الهندسية. وقد كان أن دبروا التجارب التي يحصلون بها على خيط رفيع من الضوء يشبه الخط المستقيم، ويسقطونه على مرآة، فرأوه ينعكس على سطحها بزاوية قاسوها فوجودها مساوية لزاوية سقوط الضوء على سطح المرآة. إذن فها هو ذا قانون علمي عن ظاهرة الضوء، وهكذا.
ونعود إلى حديثنا عن عصرنا بالمعنى الضيق الذي يحصر العصر في القرن العشرين فنقول إنه استمرار للثلاثة القرون السابقة في الاتجاه بالجهد العلمي نحو قراءة الطبيعة قراءة مباشرة، إلا أن القراءة اختلفت أبجديتها عما كانت؛ فبعد أن كان أساسها عند نيوتن وغيره من علماء الفترة السابقة هو أن أي شيء يبقى على حاله، عاجزا عن أن يغير شيئا من وضعه، حتى يأتيه عامل خارجي فيغيره، فالجسم المتحرك في اتجاه ما يظل متحركا في هذا الاتجاه لا ينحرف عنه إلا إذا صدمه جسم آخر فيتغير، لا يتغير إلا بفعل عامل خارجي، هو الأساس الذي نقرأ عليه ظواهر الطبيعة في مسالكها. جاء هذا القرن العشرون ليغير أساس القراءة، فيجعل التغير نتيجة اعتمال داخلي في الشيء المتغير، بالإضافة إلى ما قد يكون هنالك من مؤثرات خارجية، ولماذا غير العلماء أساس القراءة؟ إنهم فعلوا ذلك حين رأوا أن الفرض السابق قد ترك مشكلات بغير حل، فكان لا بد من بحث عن رؤية جديدة تفسر كل ما هنالك من ظواهر، فمثلا كان قانون الجاذبية عند نيوتن مقبولا في الأجسام التي تقع في خبرة الإنسان، لكنه لم يكن يصدق على طرفين؛ الأجسام ذات الأبعاد الفلكية البعيدة كالضوء الآتي من مصادر نائية يبعد ملايين السنين الضوئية، وكذلك لم يكن يصدق على المكان اللامتناهي في الصغر، كحركات الإلكترونات داخل الذرة؛ فالإلكترون يقفز من فلك إلى فلك آخر غير مقيد بقانون الجاذبية عند نيوتن. وهكذا كانت هنالك مشكلات لا تحلها الرؤية النيوتونية التي كانت لها السيادة نحو قرنين، وكان محورها أن المكان مطلق وأن الزمان مطلق، وأن قوانين المادة في حركتها حتمية الحدوث.
وجاء عصرنا ليرى غير ذلك، فيقرأ ظواهر الكون على أساس «النسبية»، لا على أساس أن حقائق الكون مطلقة، بمعنى أن كتلة أي شيء تتغير بتغير سرعته، وأن أطوال الأشياء تتغير بتغير اتجاه حركتها، وتفصيلات كثيرة في هذا الصدد يعرفها العلماء المختصون، لكن الذي يهمنا نحن ممن لا يعلمون إلا أقل من القليل عن تفصيلات العلوم الطبيعية وقوانينها، هو أن التغير قد شمل طبيعة القانون العلمي نفسه؛ فبعد أن كان يقينا رياضيا محتوما، أصبح عملية إحصائية تنتهي بنا إلى درجة عالية من «الاحتمال»، وذلك لأن الظاهرة الطبيعية لم نعد ننظر إليها على أنها محددة تحديدا قاطعا، بل هي في حقيقتها الموضوعية مذبذبة، ولذلك فمقاييس أطوالها وأحجامها وسرعاتها ... إلخ، تتغير قليلا في كل مرة، ويقتضي الأمر أن تؤخذ تلك المقاييس عدة مرات ليستخرج متوسطها، فضلا عن أن أجهزة القياس نفسها تزداد دقة كلما تقدم العلم، بل إن «تعريف» تقدم العلم هو ازدياد الدقة في أجهزته، ومع زيادة الدقة في الجهاز تتغير أرقام المقاييس.
كان الفكر العلمي إبان القرن الماضي قد أخذ يتراكم في توكيده للرؤية الجديدة التي تجعل تغير الأشياء - والأحياء منها بوجه خاص - مرهونا باعتمال كيانها الداخلي؛ أي إن التغير لم يعد مقصورا على العوامل الخارجية وحدها. وجاءت أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن بذروة ذلك التراكم في نظرية النسبية عند أينشتين، فماذا يكون وقع ذلك كله على «الإنسان» حين يتأمل حقيقة وجوده وصورة العلاقات التي تربطه بالآخرين؟ قد يدهشك أن نلقي هذا السؤال عقب اللمحة الخاطفة التي قدمناها عن تغير الرؤية عند علماء الطبيعة عما كانت عليه رؤية العلماء في القرون السابقة، ودع عنك رؤية ما قبل هذا وذاك من عصورهم الوسطى، لكن علم العلماء في أي عصر لا يخاطب الخلاء، بل إنه علم يتبعه تطبيق، والتطبيق لا يكون إلا في دنيا الناس؛ فمحال أن يكون لعلم العصر المعين اتجاه وأن يكون لأهل العصر اتجاه مضاد، كل ما في الأمر هو أن تغير النظرة العلمية يسبق تغير الحياة العملية، ريثما ينتقل التغير من النظرة إلى التطبيق. على أن الأرجح أن يكون علم العلماء قد سبقه بفترة قد تطول يسودها مناخ عام ينسج خيوطه السابقون لعصورهم من رجال الفكر والأدب والفن. وهذا هو بالفعل ما قد حدث في حالتنا هذه؛ فقد ظهر من الفلاسفة والمفكرين ورجال الأدب والفن، ابتداء من رومانسية العشرات الأولى من القرن الماضي، التي تبدت في كبار الشعراء والروائيين وفي فلسفة هيجل المثالية، ثم في فلسفة شوبنهاور ونيتشه التي تجعل أولوية الحياة في إرادتها قبل أن تكون في تعلقها، وكلها اتجاهات تحول محور الارتكاز في تطور الحياة من تأثير العوامل الخارجية إلى اعتمال الدوافع الداخلية. وانعكس الاتجاه نفسه في أواسط القرن الماضي على مفكرين من أمثال ماركس وفرويد. وربما كان الشذوذ الوحيد هو نظرية «دارون» في التطور وكان ظهورها في أواسط القرن الماضي أيضا؛ فهي وإن سايرت عصرها في توجيه الاهتمام نحو فكرة التطور، إلا أنها جعلت تطور الكائنات الحية نتيجة عوامل البيئة الخارجية، التي ترغم الكائن الحي على أن يتكيف لبيئته وإلا كان مصيره سرعة الفناء، وهو اتجاه جاء عصرنا ليعلن نقيضه - وهو أن حياة الكائن الحي من الداخل هي التي بفاعليتها تملي على البيئة شروطها وذلك بأن تغيرها لتجعلها أصلح لبقائها.
إلا أن العصر الواحد لا بد أن يسوده آخر الأمر صوت واحد، وإلا فلا هو «عصر» ولا هو يحيا كما تريد له الحياة السوية أن يحيا، فإذا كان العلم والفكر والفن والأدب قد عملت كلها خلال القرن الماضي وأوائل هذا القرن على أن تجعل الطبيعة تتحرك من داخلها - حتى ما هو مادي منها - فهل يمكن أن يأتي إنسان القرن العشرين ليترك نفسه فريسة عوامل خارجية تشكله كما أرادت؟ تسعده أو تشقيه كما تشاء؟ على أن زوال رؤية عامة لتأخذ مكانها رؤية جديدة، تنتشر حتى تصبح هي الرأي العام بين الجماهير، لا بد له من رجة كبرى تهز أوضاعا بالية فتهدمها لتقام أوضاع جديدة. وكانت هذه الرجة هي التي تمثلت في حربين عالميتين، وفي سلسلة من الثورات توسطتهما أو أعقبتهما مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية، وبينها ثورة مصر 1919م، وثورتها 1952م؛ أولاهما عقب الحرب العالمية الأولى والثانية عقب الحرب العالمية الثانية، وثورات أخرى رأيناها بعد ذلك بقليل في بعض أقطار العالم العربي وفي كثير من بلدان القارتين الآسيوية والأفريقية، فماذا أرادت كل هذه الثورات لشعوبها؟ الجواب في ضوء ما ذكرناه هو أنها أرادت لحياة الإنسان فردا أو شعبا أن يكون له ما لسائر كائنات الأرض والسماء من إرادة تغيير نفسها بنفسها.
لكن شيئا يلفت أنظارنا فيما تميزت به العناصر المختلفة التي أخذت في الظهور منذ أواخر القرن الماضي، والتي اتجهت منذ ظهورها تتضافر عنصرا مع عنصر لينتهي أمرها إلى أن ينسج بعضها مع بعض في حياة هي الحياة التي يحياها العالم الآن، وذلك هو أن تلك العناصر المستحدثة كانت تنطوي على ضدين في وقت واحد؛ إذ تنطوي على ما من شأنه أن يزيد من حرية الإنسان مما يقيده في انطلاقة فكره ونشاطه، ثم ينطوي في الوقت نفسه على ما يزيد قيوده قيودا من نوع جديد. وأول ما نذكره في هذا الصدد هو ما أخذ يظهر منذ أواخر القرن الماضي وطفق منذ ظهوره وإلى يومنا هذا يثب وثبات سريعة جبارة حتى لقد أوشك أن يطوي الحياة الإنسانية بكل أطرافها تحت جناحيه وأعني به «العلم التكنولوجي». وهنا أود للقارئ أن يمعن النظر في قولنا «العلم التكنولوجي» ليلم بما تعنيه على وجه الدقة حتى لا تنقلب عليه العادة التي لا بد أن تكون قد تجمدت فيه من كثرة تكرار هذه العبارة أو ما يقرب منها مأخوذة عن غير فهم صحيح؛ فأولا: لا ينبغي لنا أن نتجاهل حقيقة هامة هي أن هذا الطراز الجديد من «العلم» يختلف اختلافا بعيدا عن صور «العلم» التي سبقت فيما سبق من مراحل التاريخ، وأساس الاختلاف هو استخدام الأجهزة في عملية البحث العلمي بصفة أساسية. ولم يكن العلم في تاريخه كله قد عرف قبل ذلك استخدام أجهزة تساعد على دقة البحث إلا بدرجة لا تكاد تستحق الذكر. وحتى ذلك القليل من الأجهزة الذي كان إنما كان على درجة من البساطة شديدة لا تقاس بما نألفه اليوم في أجهزة العلم من دقة بعيدة المدى. وثانيا: يحسن بنا أن نكون على وعي يقظ بأن معنى كلمة تكنولوجيا في هذا السياق ليس كما أصبح شائعا في الناس الآلات التي تنتج آخر الأمر ليستخدمها الناس في حياتهم من مصانع وأدوات للحياة اليومية كالسيارات وأسلحة القتال والثلاجات وغيرها؛ فهذه كلها ثمرات نتجت عن العلم التكنولوجي؛ فكلمة تكنولوجيا عندما استعملت لأول مرة في المجال العلمي إنما قصد بها منهج البحث العلمي عن طريق استخدام أجهزة تساعد على دقة النتائج. وإذا جاز لنا أن نصف عصرنا بأنه عصر التكنولوجيا؛ فذلك لأن الأجهزة العلمية قد كثرت وتنوعت وازدادت دقة حتى أصبحت ملمحا بارزا من ملامح العصر، ولم يكن العصر الواحد من العصور السابقة يعرف في ميادينه العلمية إلا عددا قليلا وبسيطا من أجهزة البحث العلمي بحيث لم يكن من حقه أن يصف نفسه بهذه الصفة. وثالثا: أن الأجهزة العلمية قد أخذت تتطور بسرعة شديدة حتى لتتعاقب الأجيال في كل نوع منها تعاقبا سرعان ما ينسخ جديدها قديمها مما يعمل على تغير وجه الحياة تغيرا يفوق شطحات الأحلام. وكان لهذا التغير السريع أثره العميق في بنية المجتمع؛ إذ أصبحت الخبرة الأكثر في أيدي الشباب بعد أن كانت على مدى التاريخ في أيدي الشيوخ.
وأخذت الآلات الناتجة عن العلم التكنولوجي من الكثرة والكفاءة بحيث وصلت إلى بيت الريفي في قراه وكفوره ونجوعه. ولأول مرة في تاريخ الإنسان يمد «العلم» أطرافه بما ينتج عنه إلى أبعد بعيد من حياة الناس اليومية. لقد كان العلم فيما مضى يشغل جماعة العلماء فيجيء ويمضي دون أن يشعر بمجيئه ومضيه إلا أقل من القليل بين أفراد يعدون على الأصابع، ولو أن تلك الآلات التي أنتجها العلم وجهازه كانت ضعيفة الأثر في الجانب الكيفي من حياة الإنسان لما حق لنا أن نطيل عنها الحديث، ولكنها جاءت لتزيد من حرية الإنسان بما لم تستطع أن تحققه كل القرون الماضية مجتمعة، فخذ معنى «الحرية» من أي جانب شئت تجدها قد زادت بفضل أجهزة العلم وما نتج عنها من آلات وأدوات زيادة تلفت النظر. ألم يكن الإنسان إلى عهد قريب يحمل الأثقال على ظهره وكتفيه كأنه دابة من دواب الحيوان؟ بل إنه لا يزال كذلك في كثير من بلدان العالم المتخلف؟ فجاءت الآلة لتحمل عنه هذه الأثقال. وانظر إلى العمارة تبنى في بلادنا وإلى العمارة تبنى في بلد تقدمت آلاته؛ فالإنسان عندنا لا يزال يحمل الحجارة والرمل وكل ما تتطلبه عملية البناء، والإنسان في البلد المتقدم لم يعد يحمل شيئا. تلك إذن حرية بدنية انتقل منها إلى حرية «عقلية». وانظر كم يستعين الإنسان في بلد متقدم بالجهاز والآلة على معرفة ما لم يكن ليعرفه أحد من قبل إذا اعتمد على حواسه وحدها وعلى قوته الذهنية وحدها. وبديهي أن حرية العقل مقرونة بسعة المعرفة؛ إذ ماذا تجدي كلمة حرية في مجال التفكير إذا لم يكن في حوزة الإنسان معرفة بطبائع الأشياء التي يريد أن يكون «حرا» في استخدامها؟ الحق أننا نقول لغوا إذا مضينا في ذكر ما قد بات جزءا لا يتجزأ من حياة الإنسان المعاصر. وكل ما في الأمر من اختلاف بين إنسان هنا وإنسان هناك هو اختلاف في درجة الحرية البدنية والعقلية؛ فكلما ازداد استخدام الأجهزة والآلات ازدادت معه الحرية، وكلما قل قلت، ولكن هل جاءتنا تكنولوجيا بما جاءت به من حرية البدن والعقل منحة خالصة من الشوائب والأضداد؟ كلا، كلا فحياة الإنسان لا تعطيه النعمة إلا إذا اقتصت منه الثمن باهظا كأنها المرابي اليهودي في مسرحية «تاجر البندقية» قد أعطى ليسترد مقابل ما أعطاه لحما ودما من جسد من نعم بعطائه. وهكذا أنعمت علينا تكنولوجيا العصر بحرية لم يكن أسلافنا ليحلموا بجزء منها، لكنها أعطت بشمالها ما اقتصت أضعافه بيمينها، قيودا على قيود لم يكن ليشقى بها أسلافنا؛ فالعامل في مصنع حديث ينتج الكثرة الغزيرة، أما هو في شخصه فقد سلبه ذلك المصنع نفسه فرديته وحريته وجعله لا يزيد إلا قليلا على أي مسمار أو ترس من مسامير الآلات وتروسها. إنه يعمل من الصباح إلى غروب الشمس دون أن يعلم ماذا صنع، ولماذا؟ لأنه مكلف بجزء يسير لا معنى له عنده يكرره ويكرره آلاف المرات دون أن يدري كيف بدأت السيرة وإلى أية غاية تنتهي، فأصيب العامل بما نقرأ عنه من ويلات الحياة الصناعية؛ قلق وتمزق واغتراب وملل ويأس وضيعة إيمان بقيمته وقيمة حياته.
وانظر إلى أمثلة من الأجهزة التي تنتجها مصانع التكنولوجيا مما له صلة بحياة الإنسان الخاصة كالراديو والتليفزيون تجد إلى جانب فوائدها العظيمة في طريق المعرفة والتنوير وفي التسوية بين عباد الله غنيهم وفقيرهم في قضاء أوقات الفراغ؛ فجميعهم على السواء يشاهدون ويسمعون ما يشهده الجميع ويسمعونه، ولكن اقلب صفحة هذه النعمة لترى النقمة كامنة في ظهرها؛ فأولا كان حتما محتوما بطبيعة الحال أن تراعى أغلبية الجمهور فيما تعرضه هذه الأدوات؛ ومن ثم وجب تبسيط المعرفة وتسطيحها. ووجب كذلك تفتيتها وجبات مجزأة بحيث لا يزيد عرض الموضوع الواحد على أكثر من بضع دقائق. ومن هذه الأشياء المبتورة أصبحت تتكون ثقافة من يتثقف، ومع ذلك فلا تقاس هذه البلوى بالنكبة الكبرى التي تلحق بحرية الإنسان، فتأمل كم أعطتنا من حرية العقل بما قدمته لنا من معارف وكم سلبت من حرياتنا حين حتمت على المستقبل أن يبلع المر، ولا تناقش. وتبلغ النكبة أقصاها عندما يهبط على الشعب مستبد، وعندئذ فلا يسمع المتلقي إلا كلمة واحدة هي كلمته. ولا غرابة أن نجد زعيم الانقلاب حيثما وقع انقلاب يسرع أول ما يسرع إلى دار الإذاعة، فإذا سيطر عليها فقد قطع معظم الطريق إلى ذروته. ولا نقول شيئا عن ويلات الحروب الحديثة بما أمدها به العلم الحديث وتقنياته، فذلك مكرور معاد ومعلوم للكبار وللصغار.
وللحديث بقية نستكمل بها صورة عصرنا وأين يقع العربي منه وأين يقع هو من قلب العربي وعقله.
Halaman tidak diketahui