Arabi Antara Dua Budaya
عربي بين ثقافتين
Genre-genre
2
ختمنا حديثنا السابق بلمحة سريعة عن الشعر العربي، وكيف تجيء نمطية أوزانه وقوافيه انعكاسا لروح الصحراء كما ينطبع بها ساكنوها، وذلك من حيث الشكل. وأما المحتوى الوجداني فهو كذلك يأتي وكأنه الصدى للانهائية والدوام، اللذين يراهما ويحسهما ساكن الصحراء في الحقيقة الكونية التي تحيط به، فالفلاة اليوم هي الفلاة بالأمس، وكثبان الرمال هي الكثبان، ونجوم السماء والشمس والقمر، هي النجوم والشمس والقمر، كل شيء مسطور أمام العين في وضوح؛ فقلما تغيم السماء لتحجب الرؤية، وقلما يشبع الهواء برطوبة تتغير بها ملامح الأشياء؛ ومن هنا كان تعلق الشاعر بالمثال لا بالمثل؛ فالكائن الجزئي المفرد، كهذا الجواد، وهذه الناقة، وهذه الحسناء، لا يقف الشاعر عند فرديتها وخصوصيتها، بل ينفذ منها إلى ما يكون عليه مثلها الأعلى كما يتصوره خياله؛ فالأفراد يجيئون ويذهبون، يولدون ويموتون، وأما المثال الكامن وراءها فثابت دائم لا يتحول ولا يزول، فقد أصاب من قال عن إيوان كسرى الذي وصفه البحتري في قصيدته السينية، قد بقي على الدهر من حيث هو شعر في ديوان، لكنه سرعان ما زال من حيث هو قصر وإيوان. ربما قيل هذا عن كل شعر وكل فن، في المقارنة بالأشياء التي دار حولها ذلك الشعر وهذا الفن، لكنه في ظن هذا الكاتب، يتمثل في الشعر العربي أكثر مما يتمثل في سواه، وذلك للسبب الذي ذكرناه، وهو أن الشاعر العربي - عن مبدأ وفطرة - يتجه بخياله نحو «المثال» خلال «المثل»، وتلك هي خصيصة من خصائص العروبة؛ فهكذا توحي الصحراء لأبنائها، والصحراء هي مسرح العربي أينما كان، فيما تمتد به الرقعة بين المحيط الأطلسي والخليج العربي.
ولم تقتصر هذه الخاصة العربية على الشعر، بل جاوزته لتشمل ضروب الفن رسما وزخرفة. وانظر إلى الرسوم على السجاد، أو حيثما جاءت، تجد الفنان يكتفي مما يصوره - طائرا، أو غزالة أو شجرة - بالخطوط الهيكلية التي تحدد الإطار، وقلما يعنى بتفصيلة من تفصيلات الجسم، وذلك لأنه يحاول أن يستصفي من الشيء «فكرته» أو «روحه»؛ لأنها هي التي يكتب لها الدوام، فكأن الفنان العربي قد أراد أن يرسم «النوع» وليس فردا من أفراده، و«النوع» ذو ثبات ودوام، وأما أفراده فإلى زوال. ولنلحظ في هذه المناسبة، أن ذلك هو الفرق دائما بين دنيا الكائنات الجزئية كما تقع على حواسنا، وعالم «الأفكار» كما يرتسم في رءوس العلماء؛ فالعلماء يحيون مع جمهور الناس في دنيا الأشياء، يبيعونها ويشترونها، ويأكلونها ويلبسونها، ويرونها بالأعين ويمسونها بالأيدي، لكنهم - دون جمهور الناس - يستخلصون من تلك الأشياء ما قد جسدته من أفكار، ليجعلوا هذه الأفكار بعد ذلك موضوع اهتمامهم، يخرجون منها القوانين العلمية التي بفضلها يمكن للإنسان بعد ذلك أن يرتد إلى دنيا الأشياء فيلجمها ويسخرها لخدمة أهدافه.
وشيء كهذا يحدث أيضا في الإبداع الفني؛ فالفنان - مهما يكن وسيطه الفني صوتا أو لونا أو كلمة - هو أيضا يعيش مع جمهور الناس في دنيا الأشياء، لكنه - دون جمهور الناس - يستخلص من تلك الأشياء سرها الذي هو جوهر حقيقتها، ثم يعود فيجسد ذلك السر فيما يبدعه من ألوان الفن. وإنه لفي مقدور المدرب المتمرس، أن يسمع معزوفة موسيقية، فيقول: هذه موسيقى عربية، أو أن يرى صورة فنية فيقول: هذا فن عربي، أو أيا ما كان انتماؤه، وكذلك قل في سائر الفنون، لماذا؟ لأن الفنان الأصيل يتشرب حياة أمته حتى لكأنها تجري في دمائه، ثم تلهمه الموهبة الفنية شكلا ما، ليبث فيه ما كان قد تشربه وتمثله. وهكذا يكون الفرق بين الحياة وهي «معاشة» والحياة وهي مقامة في مبدعات الفن والأدب. ولكم عجب هذا الكاتب من رجال نضعهم في حياتنا الثقافية في مكان الريادة، يخلطون بين هذين الظرفين؛ الحياة كما يعيشها الناس من جهة، والحياة كما يعرضها الإبداع الفني والأدب من جهة أخرى. ويظهر هذا الخلط أكثر ما يظهر عندما يدور الحديث حول «الثقافة» ومعناها، وعندئذ قد يصادفك من يقول - وكأنه قد اكتشف قارة جديدة - إن الثقافة هي مجموع ما يعيش به الناس من طعام، وثياب، ومسكن، وطريقة حكم وطريقة بناء الأسرة، وعقيدة دينية إلى آخر هذه المكونات التي تتجسد في حياة الناس العملية، أما الفنون والآداب والفكر فأمور قد تهم قلة قليلة، لكنها في عزلة عن الحقيقة المعاشة. والذي يفوت هؤلاء - هو كما ترى - الفرق بين الجانبين؛ فهذه هي حياة كما يعيشها الناس من جهة وبين هؤلاء الناس أصحاب موهبة في فن أو أدب، ثم تلك هي - من جهة ثانية - انعكاسات الحياة المعاشة في مبدعات لا تشبه في ظاهرها ما هو معاش بالفعل، لكنها تخليص لسرها وجوهر حقيقتها. ويعتقد هذا الكاتب أننا لو أدركنا في وضوح ذلك الفرق بين الطرفين لتقلصت إلى حد كبير دعوى الدعاة إلى «ثقافة جماهيرية» إذ ماذا يكون معناها، اللهم إلا في دنيا الكلمة؟ افرض أن بين أيدينا مجموعة مما أبدعه كبار رجال الفن والأدب عندنا؛ قطعة موسيقية لعبد الوهاب، ورواية لنجيب محفوظ، ولوحات لصلاح طاهر ... فقل لي بالله كيف أبسط هذه المبدعات لتصبح ثقافة جماهيرية؟ إن كل ما يطلب منا عندئذ هو أن نبين للجماهير كيف ترى حياتها التي تحياها مكثفة ومبلورة في تلك المعزوفة، أو الرواية أو اللوحة.
ولم يشذ الفنان العربي عن دستور أي فنان وكل فنان، فكان أن استخلص في فنه روح الحياة العربية، فإذا أردنا - إذن - أن نرى «العروبة» في جوهرها وصميمها، فلنمعن الفكر في مبدعات الفن العربي، وسوف تمثل أمامنا عندئذ صفة تميز العربي في رؤيته للكون والحياة، فإذا كان العربي قد انطبع من محيطه الكوني بفكرة اللامتناهي والثابت والدائم، فماذا يكون الفن الذي يوضح هذه الرؤية ، إذا لم يكن هو الفن الذي يستخدم أسلوب «التجريد» إلى أقصى درجاته، وأقصى درجاته هي الأشكال الهندسية من مثلثات ومربعات ودوائر وما إليها؟ وهكذا كان، فالزخارف الفنية في الفن العربي سواء أكانت على جدران المساجد والمساكن، أم كانت نقوشا على خزف أو خشب، أو نحاس تقام في معظمها على أسس هندسية، فنعيد هنا ما قلناه عن تصاوير الطيور والغزلان والنبات عند الفنان العربي، أنه قد استهدف «الفكرة» الكامنة في الشيء ولم يستهدف جسده المادي، أو هو بعبارة أخرى قد بحث عن الثابت وراء المتغير وبحث عن الدائم الذي يسقط من حسابه ما يزول ويفنى. وتلك هي «العروبة»، وذلك هو موقفها من الحياة وأحداثها.
إن رؤية العربي لحقائق الوجود من حوله، تجنح به نحو التجريد الذي أشرنا إليه، تجريدا يزيل به القشور العارضة في سبيل الوصول إلى اللب والصميم، وهو تجريد قد يبلغ به - كما رأينا - حد التجريد الهندسي في إبداعه الفني؟ وإن شيئا يوحي بتلك النزعة الهندسية، يستوقف أسماعنا في العبارة العربية البليغة؛ فها هنا يجد قارئ الأدب العربي نفسه وكأنهما هو إزاء أنغام من معزوفة موسيقية أحكم بناؤها حتى لينسى أنه أمام «كلمات» من اللغة جاءت لتحمل إليه مضمونا ذا «معنى». ولقد يساء استخدام هذا الجانب المنغوم في تركيب العبارة العربية إساءة تجعل الكاتب يرص نغمات تطرب السمع وتخلو من المعنى. لكننا نتحدث هنا عن البلاغة العربية على أيدي أربابها الذين يعرفون كيف يرسلون جواهر المعاني على أجنحة النغم. وما أكثر ما يختلط الأمر بين الحالتين عند العاجزين فتجري أقلامهم بلفظ منغوم ثم لا معنى! وقد يحدث الخلط عند آخرين على صورة أخرى حين يخدعهم وهم بأنه إذا أراد الكاتب «معنى» فلن يحمل له ذلك المعنى إلا لفظ منفر قبيح. بيد أن الفرق بين الحالتين؛ حالة اللفظ المنغوم المثقل بالمعنى، وحالة اللفظ المنغوم الأجوف، هو كالفرق بين إنسان قوي فتي، وإنسان هزيل كسيح؛ فهما متساويان في ظاهر الأعضاء، وأما «الحياة» الكامنة في تلك الأعضاء فشتان ما بين صحة ومرض .
تلك ملاحظة عابرة حتى لا نخلط في الظاهرة الواحدة بين قوة وضعف. ونعود إلى ما كنا بصدد الحديث عنه، وهو أن المزاج الفني عند العربي يميل به إلى التجريد، وعلة ذلك أن الفكرة أو الصورة المجردة أبقى على الدهر من المفردات الجزئية العينية. والتجريد بدوره إذا ما بلغ حده الأقصى، أو ما يدنو به من حده الأقصى، كان في صورة رياضية أو ما يشبهها. وإن هذا الكاتب ليزعم بأن بلاغة العبارة العربية كثيرا جدا ما تقتضي ضربا من النظم الموسيقي، - سواء أكان ذلك النظم المنغوم ظاهرا أم مستترا - وأذكر في هذا السياق يوما بعيدا بعيدا كنت فيه مع صديق نقرأ صفحة من كتاب للدكتور طه حسين، «وقد نسيت ما هو»، فلفت سمعنا نغم في العبارات المتتابعة كالموج الهادئ، فأعدنا القراءة وكأنما نطقت شفاهنا في لحظة واحدة فرحة، لنقول إنها أسطر سبكت كل كلماتها في التفعيلات من عروض الشعر العربي. ولم يكن الكاتب - بالطبع - قد قصد عامدا أن يجري كلماته في تلك التفعيلات، ولكن القلم البليغ يسيل بسبائك اللفظ كما تسيل الأوتار بأنغامها.
وقد ترجح عند الأديب العربي أو الفنان العربي، تلك النزعة «الهندسية» حتى لتجاوز حدودها فيطغى القالب على حشوه، كما هي الحال (في رأي هذا الكاتب) في أدب «المقامات» وكما هي الحال أيضا في كتاب «الفصول والغايات» لأبي العلاء المعري. على أن «المقامات» والفصول والغايات فيها قوة زادت عن حدها حتى أصبحت كعضلات المصارعين أو حملة الأثقال في عالم الرياضة البدنية. لكن تضخم النزعة الهندسية في الكتابة الأدبية قد يجيء على صورة المريض بالورم أو بالبدانة المترهلة، كما قد حدث عند أصحاب النثر المسجوع في فترات الركاكة والضعف.
ونزوع العربي نحو التجريد في فكرة وأدبه وفنه، قد أدى به إلى ميل شديد نحو تكثيف المعنى الكبير في أقصر عبارة ممكنة. ومن هذا التكثيف نشأت عنده الأقوال الحكمية التي يسهل حفظها ويكثر دورانها على الألسنة في أحاديث الناس العابرة. والشعر العربي مليء بالأبيات التي تحمل الحكمة منظومة، فتزداد سهولة حفظها وكثرة دورانها فضلا عن جمال لفظها. وقد يضاف هنا - إذا أردنا تعليل هذه الظاهرة - أقول قد يضاف إلى نزعة التجريد الهندسي كثرة التجوال في حياة العربي قبل أن يستقر في مدن، كأنما أراد أن يضع خبرته في أقراص صغيرة ليسهل حملها في ترحاله المتصل. ولقد قرأت لابن جني في كتابه «الخصائص» تعليقا يلفت النظر يقول فيه إن آيات القرآن الكريم إذا وجهت الخطاب إلى العرب أوجزت العبارة في لفظ قليل، وأما إذا وجهت الخطاب إلى بني إسرائيل، فهي تطيل. وإذا صح هذا التعليق، كان مؤيدا لما ذكرناه عن المزاج العربي في صياغته لفكره وأدبه وفنه.
اللغة هي نفوس أصحابها وقلوبهم، وعقولهم جميعا، هي مرآة حياتهم في ظاهرها وفي باطنها معا. إنه لولا اللغة لاندرج الإنسان مع الحيوان الأعجم في عالم البكم. وإذا لم تكن للإنسان لغته فماذا يكشف عن حقيقته حيا ناطقا عاقلا عالما شاعرا؟ إنها هي حياة الفرد موصولا بسائر الأفراد في يومه، وهي حياته موصولا بأسلافه في تاريخ واحد، وهي حياته موصولا بأبنائه وأبناء أبنائه إلى ما شاء الله للأمة أن يمتد بها تاريخ. إلا أن الكون ليصبح كله كتلة حين الصمت لولا كلمتان؛ كلمة الله جل وعلا، وكلمة الإنسان. إن الكلمة إذ تشرف وتسمو تصنع القديس والعالم والشاعر والفيلسوف، وهي إذ تسفل بفحشها تصنع الفجار. لقد بدأت الإنسانية بآدم عليه السلام، وبدأ آدم بأسماء الكائنات علمه إياها ربه ليملك بها زمام مسمياتها؛ فالعلم بالاسم هو في الأساس علم بطبيعة مسماه. وإذا عرف الإنسان طبيعة شيء فقد عرف كيف يتحكم فيه ويسخره؛ ومن هنا كانت للغة البشرية قوتها وسلطانها.
Halaman tidak diketahui