الإهداء
مقدمة
1 - الواقع العربي الراهن
2 - الدين والثقافة والسياسية
3 - أوروبة وأمريكة وإسرائيل
المراجع
الإهداء
مقدمة
1 - الواقع العربي الراهن
2 - الدين والثقافة والسياسية
3 - أوروبة وأمريكة وإسرائيل
المراجع
عرب هذا الزمان
عرب هذا الزمان
وطن بلا صاحب
تأليف
حسن حنفي
الإهداء
إلى المثقفين الوطنيين
وشهداء المقاومة
في فلسطين والعراق وأفغانستان.
حسن حنفي
مقدمة
هم الفكر والوطن، أو هم الدين والثقافة والسياسة، هم مستمر لجيلنا؛ فالأوطان مستباحة، والدين حنين إلى الماضي، والثقافة عجز عن التعامل مع الحاضر، وتخوف من المستقبل.
ومن دمشق، قلب العروبة النابض، وفي سورية التي لم تستسلم بعد لعصر التبعية والهوان، يظهر هذا الكتاب تحية من الإقليم الجنوبي إلى الإقليم الشمالي، من ذكرى الأيام العطرة، الجمهورية العربية المتحدة، 1958-1961م، وما زال صداها في القلوب.
ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا (الإسراء: 51).
حسن حنفي
مدينة نصر، 15 يناير 2008م
الفصل الأول
الواقع العربي الراهن
من المسئول؛ الخارج أم الداخل؟
تتوالى الأحداث، وتشتد الأزمات، وتقع الإهانات في الوطن العربي يوما وراء يوم. ويعلو الصراخ، وتحرر المقالات عن قوى الهيمنة الجديدة، والعالم ذي القطب الواحد، وإمبراطورية الولايات المتحدة الأمريكية، والعولمة، والسوق، والحداثة، والقوة، وثورة الاتصالات. وكلها عوامل خارجية، شماعة لتعليق الأزمات والكروب والبلايا الداخلية عليها. ولما كان من الصعب تغيير العوامل الخارجية إلا على الأمد الطويل، ينتهي الأمر بقبول الأوضاع الحالية، واعتبارها قدرا لا مفر منه. ولا حل إلا الانتظار حتى تتغير الظروف الدولية، وتتبدل موازين القوى العالمية، ويتم الاستسلام للضغوط الخارجية فتصبح نظم الحكم تابعة للخارج. تتحالف معه كي تضمن سلامتها، وتأمن من العدوان عليها. ومصير العراق وأفغانستان وفلسطين والصومال ماثل للعيان، ومشهد تعليق الرئيس العراقي السابق من حبل المشنقة محفور في الذاكرة لعدة أجيال وعند رؤساء الدول.
ولا حل في العاجل إلا الدفاع عن النظم السياسية حماية للأوضاع الداخلية، والحفاظ على الاستقرار السياسي حتى لا يهرب الاستثمار الخارجي، والاعتماد على أجهزة الأمن والشرطة حماية للأمن الداخلي، واستمرار العمل بقانون الطوارئ حماية للجبهة الداخلية، واعتقال مثيري الشغب وقادة المظاهرات والاضطرابات والاتحادات، وتجديد اعتقالهم إذا ما أفرجت عنهم النيابة العامة، وتقديمهم إلى محاكم عسكرية لسرعة الفصل فيها، والحكم بإطالة مدة الحبس، وتحويل الاعتقال المؤقت لبضعة شهور إلى حبس دائم لعدة سنوات لإطالة عمر النظم السياسية، وترحيل المشاكل إلى فيما بعد حتى نهاية الزمان حتى يرث الله الأرض ومن عليها. وتستمر التبعية للخارج عن طريق التحالف معه، وقبول القواعد العسكرية، والدخول في حروبه، ومؤازرة عدوانه، وتبريره بإيجاد الشرعية له. ويستمر القهر في الداخل، والفساد في الحكم، ونهب ثروات البلاد، وبيع أصولها. فالخارج مطمئن إلى تبعية النظم له، والداخل مغلوب على أمره، يجري وراء لقمة العيش، والمعارضة إما ضعيفة نخبوية لا تستطيع تحريك الشارع، أو قوية ولكنها محظورة أو اضطرابات عمالية مهنية يستجاب لها حتى لا تتحول من مطالب فئوية مثل الأرباح، إلى مطالب سياسية تهدد نظم الحكم. وينتهي الأمر كله إلى الاستكانة وقبول الأمر الواقع لاستحالة البديل، طالما أن قلب السلطان ما زال ينبض بالحياة له ومن بعده،
قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين (البقرة: 124).
والخارج لا يعتدي إلا بعد أن يكتشف المناطق القابلة للعدوان، لا يستعمر إلا إذا كان المستعمر قابلا للاستعمار. وكما يتم التنقيب عن النفط بالحفارات الأولى، وكما توجد المجسات على طبيعة التربة قبل حفرها والبناء عليها، كذلك توجد المجسات لدى قوة الهيمنة لمعرفة مدى قابلية الشعوب المستهدفة لتحقيق الأطماع، وهل هي مصمتة أم مفرغة، صلبة أم رخوة؛ لذلك يكثر جمع المعلومات عنها، ومعرفة ما لا يعرفه أهلها. ويعتمد على باحثين أوروبيين معروفين بدقة التحليل وجمع الإحصاءات، وعلى باحثين وطنيين لديهم رؤى حدسية بناء على التجارب المعاشة؛ فالحدود مفتوحة للباحثين الأجانب يجمعون ما يشاءون. ومراكز التصنت والاستخبارات وجمع المعلومات متطورة للغاية من خلال وسائل الاتصالات الحديثة.
والأمثلة على ذلك كثيرة؛ فلا يتم العدوان على شعب من الخارج إلا إذا وجد شرعية له في الداخل مثل قهر الحاكم. وتكون الذريعة تخليص الشعب من التسلط والطغيان، وإرساء قواعد الديمقراطية. وهكذا تم غزو العراق وأفغانستان، وأخيرا الصومال، ويتم تهديد سورية والسودان وإيران. ويعلم العدو أن الشعب المعتدى عليه يريد الخلاص من حاكمه القاهر. ويزيد بعض النخبة: حتى ولو كان بيد أجنبي وعلى أسنة الرماح. بينما يفضل المناضلون الوطنيون: «بيدي، لا بيد عمرو.»
وتتعامل قوى الهيمنة مع نظم الحكم التابعة، وجرها إلى أحلاف الدول المعتدلة في مواجهة الدول المتطرفة، وتنسق أجهزة المخابرات أعمالها للطرفين، بل وتسمح بقواعد عسكرية على أراضيها بدعوى حمايتها من العدوان الخارجي من دول الجوار. وهي تعلم أن نظام الحكم هو شخص الحاكم؛ فهو الذي يقرر الحرب والسلام في غياب المؤسسات المستقلة والرأي العام القوي باستثناء فلسطين ولبنان، حيث تفرض المقاومة الشعبية سياستها على أنظمة الحكم؛ فالسلطان بؤرة الدولة وعمادها الأول، وهو صاحب القرار في الحرب والسلم، والمؤسسات التنفيذية والتشريعية تابعة له، والحزب الحاكم له السيطرة على مظاهر الحياة السياسية في البلاد. لم يستعد المثقفون الوطنيون في الداخل لإبراز ثقافة المعارضة، ومواجهة السلطان الجائر، واعتبار الشعب مصدر السلطة، وضرورة الاستشارة؛ فلا خاب من استشار، فتحسب قوى الهيمنة حسابها على أن هناك طرفا آخر في المعادلة غير رأس النظام، وهو الشعب؛ ثقافته وتاريخه وكرامته واستقلاله.
والآن يواجه الوطن العربي خطر التجزئة والتفتيت والتحول إلى فسيفساء عرقي طائفي، دويلات سنية وشيعية وكردية وعربية وبربرية وزنجية وإسلامية وقبطية ونجدية وحجازية، حتى تصبح إسرائيل أقوى دولة طائفية عرقية، وتجد شرعية جديدة لوجودها من طبيعة الجغرافية السياسية للمنطقة، بدلا من أساطير المعاد الأولى التي شرع بها هرتزل وجودها في أواخر القرن التاسع عشر. وتقع المسئولية على الداخل؛ على الثقافة العربية التي تركت مجتمعاتها عرضة للتمزق والتفتيت. ورثت نظام الملة العثماني، وتحويل الأمة إلى ملل وأعراق، ومذاهب وطوائف، سنة وشيعة، زيدية وشوافع، عرب وأكراد، مسلمين وأقباط، عرب وبربر، أرمن وموارنة، تركمان ودروز.
كل طائفة تجد هويتها في عرقها أو مذهبها؛ فغاب مفهوم المواطنة ومفهوم المواطن، والهوية الواحدة للوطن الواحد. وتركت مصطلحات الفقه القديم دون تغيير؛ أهل الكتاب، وأهل الذمة، والعادات الاجتماعية؛ نجدي وحجازي، صعيدي وبحراوي، بدوي وحضري، سود وبيض. ولم تنفع الأيديولوجيات العلمانية للتحديث ، كالليبرالية والقومية والماركسية والإسلامية المحافظة، في تحقيق الهويات الوطنية في العمق. وما زال فقه المواطنة في البداية تحمله نخبة مستنيرة من المفكرين الإسلاميين والأقباط؛ فكان من السهل رسم استراتيجية جديدة للمنطقة بأسمائها المختلفة، الشرق الأوسط الجديد أو الكبير، والدخول إلى قلب المنطقة لتفتيتها، بداية بالعراق ثم السودان ثم الصومال؛ لأن الأرض تسمح بذلك.
وتركت الثقافة الموروثة تئن تحت عبء الفرقة الناجية، وهي فرقة الحكومة، والفرق الهالكة وهي فرق المعارضة، وأن الحق مع طرف واحد؛ فغابت التعددية السياسية، وعز الحوار الوطني، ووقع فرقاء الوطن الواحد في خصومات سياسية، موالاة ومعارضة، حكومة وشعب، كفار ومؤمنين، أبطال وخونة. فريق يكفر فريقا، وفريق يخون فريقا. يظل الحزب الحاكم في السلطة دون تداولها، ويبقى الرئيس مدى الحياة، ولا يترك الرئاسة إلا بموت طبيعي أو اغتيال سياسي أو انقلاب عسكري، وعرفت قوى الهيمنة ذلك بعد أن جست الأرضية التي تعمل فيها، وأيدت فريقا دون فريق، الموالاة ضد المعارضة، والأقباط دون المسلمين، والحكومة ضد الشعب، والمؤمنين ضد الكفار، أو الكفار ضد المؤمنين طبقا للمصلحة والظرف. وأيدت الجنوب ضد الشمال في السودان، والبربر ضد العرب في المغرب العربي كله، والبوليساريو ضد المغرب من أجل مزيد من تفتيت الأوطان. وجعلت نفسها حامية للأقليات العرقية والطائفية ضد اضطهاد الأغلبية لها. ونسي العرب
أشداء على الكفار رحماء بينهم (الفتح: 29)، وجعلوها أشداء بينهم رحماء على الكفار. ونسوا المثل الشعبي: «أنا وأخويا على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب.»
استعدت شعوب وثقافات أخرى داخليا لمواجهة المخاطر الخارجية، ومهدت أرضيتها الاجتماعية والثقافية لمقاومة الغزو الأجنبي، وأثبتت المجسات الأجنبية أن هذه الشعوب والثقافات صلبة جامدة لا يمكن اختراقها، مثل الصين واليابان وكوريا الشمالية وكوبا وماليزيا. يحمي الصين وحدتها القومية، وثورتها الاشتراكية، ومشاريعها التنموية، ومعدل زيادة نتاجها القومي بما يقارب 9٪. يخطب الجميع ودها، ويخشى من مستقبلها وفائض إنتاجها، بل ومن قوتها العسكرية. حررت هونج كونج سلميا، وبقيت تايوان. ومهما حاول الغرب الدخول من منطلق الحريات العامة وحقوق الإنسان فإنها تظل صامدة، بل وتطلب الاعتذار من دولة كبرى إذا ما أسقطت طائرتها للتجسس عليها.
واليابان مثل الصين تحافظ على وحدتها الوطنية بالديمقراطية التوافقية وبالإجماع الوطني على القضايا الكبرى. هزمت في الحرب العالمية الثانية، ولكنها انتصرت في النمو الاقتصادي وفي الصناعات الحديثة، وغزت منتجاتها أسواق العالم. وهي تستورد المواد الأولية من الغرب، والطاقة من الخليج، وليس لديها إلا العقل والإرادة.
وكوريا تقف صامدة في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية. تتمسك بحقها في امتلاك الطاقة النووية والصواريخ العابرة للقارات، وتسعى إلى توحيد شطري شبه الجزيرة الكورية بين الشمال والجنوب، وتساعد دول العالم الثالث في تنميتها الاقتصادية وصناعاتها العسكرية. وكوبا أيضا صامدة في مواجهة التدخلات الخارجية، ومحاولة قلب نظامها الوطني الاشتراكي على مدى أكثر من أربعين عاما. تنمية مستقلة، وقضاء على البطالة، وتمسك بالاستقلال الوطني بالرغم من قربها من الولايات المتحدة الأمريكية. وأصبحت أحد عوامل بلورة اليسار الجديد في أمريكة اللاتينية في فنزويلا وشيلي والبرازيل وبوليفيا. وقد يؤثر ذلك في الوطن العربي عن قريب؛ فقد بدءا معا، ناصر وجيفارا، وقد يعيدا البدء معا من جديد.
ومن البلاد الإسلامية تعطي ماليزيا نموذجا لإعادة بناء الداخل في مواجهة التهديدات الخارجية، وتجهر بمواجهة الغرب الرأسمالي الصهيوني العنصري، وجعلت الإسلام أحد مكونات الدولة والهوية الوطنية. وإيران صامدة في مواجهة المخاطر الخارجية. تدافع عن استقلالها الوطني وحقها في امتلاك الطاقة النووية للأغراض السلمية، أسوة بغيرها التي تجهر بالحرب والتوسع، بل إن تركية التي كانت إلى عهد قريب جزءا من الحلف الغربي أصبحت الآن أكثر استقلالا، وابتعادا عن الغرب وإسرائيل، وأقرب إلى العرب وإيران دفاعا عن حق التعددية القطبية في نظام العالم.
فمتى يبدأ العرب بترتيب البيت من الداخل، والقضاء على الفجوات والفراغات في الثقافة والمجتمع، حتى تأمن الغيلة، وتستعد للمقاومة، وتقضي على مواطن الضعف فيها؛ حتى إذا ما جستها قوى الهيمنة الخارجية وجدتها صعبة الاختراق؟
الإهانة والتحدي
1
جرت العادة في فلسفات التاريخ أن يقرن التحدي بالاستجابة؛ فكل تحد له استجابة، ولكن في الوطن العربي يقرن التحدي بالإهانة؛ فالإهانة تبدأ أولا وتتكرر وتتراكم حتى تأتي لحظة التحدي والرفض لها والانتفاضة ضدها والثورة عليها.
وفي هذه اللحظة التاريخية، مفترق الطرق، تتكرر الإهانات واحدة تلو الأخرى، وكأن المواطن أصبح بلا كرامة، والوطن بلا شعب ودولة، وأن الساحة العربية كلها أصبحت بلا صاحب تفعل فيها القوى الخارجية كما تشاء، وتلعب في أحشائها كما تريد، وتجري العمليات الجراحية واستئصال الأعضاء، وتغيير مجرى الشرايين، وزرع الأعضاء الصناعية بما في ذلك القلب كما تهوى وتخطط. والوطن في حالة تخدير، جثة هامدة، تفعل فيه يد كبير الجراحين وفريقه ما يشاء. أصبح صدر المواطن عاريا يصوب إليه من يشاء، وسماء الوطن مفتوحة يخترقها من يريد، وأرضه بلا ثغور ولا حدود، يدهسها كل غاز، مع أن مهمة الإمام في الفقه القديم «الذب عن البيضة» بتقوية الثغور والدفاع عن الحدود؛ فالوطن كالبيضة إن لم يتم الدفاع عنه انكسرت قشرتها؛ أي إرادتها، وسال بياضها بالدموع، وصفارها بالدم.
تسيل الدماء في العراق بالمئات كل يوم على مدى أربع سنوات، وكأن المواطن لا وطن يحميه، ولا نظام سياسي يدافع عنه، ولا دولة تعطيه الأمان كما أعطته عبر التاريخ؛ «وا معتصماه».
وتثار النعرات الطائفية والمذهبية والعرقية فيه لتؤجج نار الحرب الداخلية؛ لتهميش المقاومة الوطنية ضد الاحتلال الأمريكي، وإبعادها عن الأنظار. ويقتل النساء والأطفال والشيوخ بدك المنازل بدعوى البحث عن رجال المقاومة، ويذبح الجرحى في المساجد؛ فلا حياة للمسلمين ما داموا يحبون الموت، ويعشقون الشهادة، وينالون الحياة الأبدية. ويطلق النار على كل مقاوم كما كان يطلق النار على كل شيء يتحرك في فيتنام؛ فلا مكان للأسرى بالرغم من الاتفاقيات الدولية التي تنظم قواعد الحرب ومعاملة المقاتلين والأسرى.
وتسيل الدماء في فلسطين كل يوم. تخترق المدن، وتدهم المنازل، ويحاصر الأحياء، ويؤسر المقاومون ويؤخذون في العربات المصفحة، والأيدي فوق الرءوس أمام الجند المدجج بالسلاح؛ فالوطن بلا كرامة، والسلطة بلا حضور، والمواطن بلا ستار أو غطاء يحميه. وفي نفس الوقت تطالب المقاومة بالتوقف وبنزع السلاح، والاعتراف بالعدو المحتل دون مقابل إلا بوعود كلامية؛ دولتان متعايشتان، جنبا إلى جنب.
ثم جاءت الصومال، والدول الثلاث العراق وفلسطين والصومال أعضاء في جامعة الدول العربية الاثنين وعشرين، لتقع تحت الاحتلال الحبشي بدعوى نصرة فريق على فريق، وتأييد الدولة ضد خصومها السياسيين، والدفاع عن السلم ضد الإرهاب، وعن النظام ضد الفوضى، وعن التحضر والتمدن ضد القاعدة والطالبان. وتتفشى الكوليرا لدى الفقراء بسبب الماء غير الصالح للشرب؛ فالكل يتصارع على السلطة، ولا أحد يدافع عن الشعب مع أن السلطة للشعب.
ما يحدث في دول الجوار الإسلامي، أفغانستان والشيشان وكشمير، هو امتداد لما يحدث في الوطن العربي. ويتم الغزو الأجنبي للدول الثلاث بطريقة القرن التاسع عشر، والاستعمار في أوجه، والغزو العسكري والاحتلال المباشر هو وسيلة التخاطب بين الشعوب؛ فالحق هو القوة، والقوة هي الحق. وتأتي أصوات الاستغاثة عن بعد من المسلمين في بورما وتايلاند، أصوات بعيدة تنضم إلى الأصوات القريبة في فلسطين والعراق.
ويعلق أحد الرؤساء العرب على المشنقة هو ورفاقه حتى انفصال الرأس عن الجسد بمحاكمة غير شرعية، ودفاع منقوص، وأحكام مسبقة صدرت؛ فلا مانع اليوم من اليد الطويلة، والقوة القاهرة. والقاهر للداخل لا يقوى على صد القهر من الخارج حتى لو تحالف معه، والدرس لكل رئيس عربي يخرج على بيت الطاعة.
وتظل الصورة في الذاكرة الوطنية، ولا يتحملها حتى الأطفال، فيشنقون أنفسهم طوعا في اليمن وباكستان، ويتحول الرئيس من ظل الله في الأرض إلى أسطورة في التاريخ مثل المسيح على الصليب، ويتحول الطغاة إلى شهداء.
ويعلن كل يوم عن أن القوات الأمريكية وجدت في الخليج لتبقى، وأن بقاءها ليس مرهونا بما يدور في العراق أو فلسطين أو إيران أو سورية أو لبنان، بل دفاعا عن المصالح الأمريكية في المنطقة؛ النفط وعوائده، والمواقع الاستراتيجية والأسواق ومناطق النفوذ؛ فالحرب الباردة لم تنته بعد، والإمبراطورية الأمريكية للمحافظين الجدد مشروع متواصل، من رئيس إلى رئيس، ومن إدارة إلى إدارة، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى اندلاع الحرب العالمية الثالثة. ويعلن عن بناء أكبر قاعدة عسكرية في شمال العراق للتنسيق مع قاعدة إنجرليك في تركية لحصار الاتحاد السوفيتي من الشمال والجنوب؛ فالأرض لا صاحب لها. وكما فعلت الصهيونية في فلسطين وبداية الهجرات اليهودية منذ أوائل القرن الماضي، شعب بلا أرض في أرض بلا شعب، وتبني قاعدة ثالثة في قازخستان، أكبر قاعدة في آسيا، حتى يتم حصار آسيا كلها من الجنوب والغرب؛ الشمال جليد، والشرق الصين هي الهدف من الحصار.
ويتم تهديد سورية ولبنان وإيران كل يوم؛ فسورية تؤيد المقاومة في العراق وطريق إيصال الأسلحة إلى حزب الله في جنوب لبنان، وترفض الصلح مع إسرائيل، والجولان محتل، وهي آخر من تبقى من النظام العربي القديم والمشروع القومي العربي في مناهضة الاستعمار والصهيونية في الخارج، وتحقيق الوحدة والاشتراكية في الداخل. والمطلوب من المقاومة في لبنان نزع السلاح وجزء من التراب الوطني ما زال محتلا، ومطلوب أيضا التخلي عن القضية الفلسطينية والهم العربي، وأن تكون جزءا من المشروع الأمريكي الصهيوني للبنان والوطن العربي. وتهدد إيران لأنها تجرأت على الدفاع عن إرادتها الوطنية، وحقها في امتلاك الطاقة النووية حتى للأغراض السلمية، وأربعون دولة تمتلك هذه الطاقة، ومن دول الجوار من حولتها إلى سلاح نووي في إسرائيل والهند وباكستان وكوريا في الشرق، وأمريكة لا تهددها بالعدوان طبقا للمعيار المزدوج الذي يمارسه الغرب في سياساته الداخلية بين البيض والسود، بين المواطنين والمهاجرين، وفي سياساته الخارجية بين إسرائيل والدول العربية والإسلامية. ويطالب لبنان بقبول محكمة دولية للتحقيق في اغتيال رئيس الوزراء السابق تحقيقا سياسيا، وليس جنائيا، مع تجاوز نظام القضاء اللبناني. وفي نفس الوقت تتم تبرئة دولة صربية من جرائم البوسنة والهرسك، وذبح الآلاف من المسلمين في المناطق الآمنة التي أعلنتها الأمم المتحدة. ولا يتم التحقيق دوليا في اغتيال عالم الذرة المصري المشد، ولا في وقوع الطائرة المصرية المدنية بالقرب من نيويورك، ولا في اغتيال إسرائيل لأبي جهاد في تونس، أو أبي عمار في رام الله، أو في مقتل مئات من المصريين العزل الأسرى في سيناء في عدوان 1967م، أو في العدوان الأمريكي على العراق وأفغانستان، أو الإسرائيلي على فلسطين، أو الروسي في الشيشان، أو الهندي على كشمير.
تستمر الإهانات بخضوع النظم السياسية لإرادة الأجنبي المحتل، مثل تأييد خطة بوش الأخيرة لتحقيق الأمن في العراق، والمقاومة تزداد كل يوم وتشتد، وتقبل دول عربية مركزية أن تكون طوقا للاعتدال ضد مخاطر نظم عربية أخرى أو مع دول الجوار متهمة بالتطرف؛ فيقسم الوطن العربي إلى محاور ومناطق نفوذ طالما قاومها في تاريخه الحديث قبل الثورات العربية في النصف الأول من القرن العشرين، أو بعدها في النصف الثاني منه. وأخيرا نشأ طوق آخر من دول سنية لإحكام الطوق حول الدول الشيعية لقسمة العالم الإسلامي قسمة داخلية، بدلا من مواجهة العدوان والهيمنة الخارجية. وتحولت دول الطوق من حصار إسرائيل إلى حصار إيران.
تستمر الإهانات وتزداد يوما وراء يوم، فيتعود عليها المواطن فيقبلها، ويستسلم لها، ويعتبرها القاعدة وليس الاستثناء، وتتأثر نفسية الشعوب وتفقد احترامها لذاتها، وتتعود على الإهانة وهي تصارع من أجل لقمة العيش وغريزة حب البقاء، وتتحول الإهانات المتكررة إلى ذاكرة جماعية، وتخلق وعيا تاريخيا بالرضا والقبول والاستكانة والاستسلام للأمر الواقع، ويصاب بالفتور واللامبالاة كما وصف الكواكبي في «أم القرى»، وينعزل المواطن والشعب عن العالم، وينكمش على ذاته، ويتحول إلى محميات كما حدث للهنود الحمر في الولايات المتحدة، بعد أن تعود على العجز، ووجد مهربا له وخلاصا في الطرق الصوفية وقيم الفقر والصبر والرضا والتوكل والقضاء والقدر والاستسلام.
ومع ذلك فالكرامة الإنسانية والاحترام الذاتي جزء لا يتجزأ من الوجود الإنساني، يحميه من الضياع والاندثار. يتمسك به بالقلب وإن استعصى الكلام باللسان أو التغيير باليد، يظهر في مقاومة المثقفين الوطنيين ومظاهرات الطلاب، ويندلع بين الحين والآخر في الحركات الشعبية للعمال والنقابات والاتحادات، وينفجر في الانتفاضات الشعبية مثل انتفاضة الخبز في يناير 1977م، وانتفاضة الفقر للأمن المركزي في يناير 1986م، ويتفجر في الثورات الوطنية مثل ثورة عرابي في 1882م، وثورة 1919م، وثورة يوليو 1952م.
فكما أن كل تحد له استجابة، فكذلك كل إهانة لها تحد،
ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا (الإسراء: 51).
الاتجاه المعاكس أم الاتجاه المغاير؟
2
من أهم البرامج الإعلامية الذائعة الصيت في أهم القنوات الفضائية العربية التي أحدثت قفزة إعلامية في الإعلام العربي، والذي يراه الملايين من العرب، برنامج «الاتجاه المعاكس»، وهو من حيث الشهرة والذيوع له كل التقدير، يثير الذهن، ويدفع إلى التفكير، ويحرك المياه الراكدة في ثقافة غلب عليها الرأي الواحد، والفرقة الناجية، والإعلام الحكومي.
يفضح المواقف التي تقبل التطبيع مع إسرائيل، والتي تود تكرار النموذج العراقي، الغزو الأمريكي، تخليصا للوطن العربي من النظم التسلطية، وتحريرا له من القهر والطغيان. ويكشف عن أهداف الليبرالية الجديدة التي تريد وراثة الليبرالية القديمة التي سادت مصر في النصف الأول من القرن العشرين، والقومية العربية والاشتراكية التي حملتها ثورات الضباط الأحرار في النصف الثاني منه. كما يتمتع بحيوية فائقة تشد الأنظار إليه، وتجعل المواطن العربي يثق بإعلامه بعد أن أشاح بوجهه عنه؛ لأنه تعبير عن النظم السياسية التي يعاني منها الأمرين، والتي تبدأ بأخبار الرئيس وحرم الرئيس وكل رجال الرئيس.
تتمثل فيه القدرة على الهجوم والدفاع والجدل والسجال والتوثيق والاطلاع على آخر التقارير والمقالات لتدعيم وجهتي النظر، ويتعرض للموضوعات التي تختلج في قلب كل عربي، والتي لا يجرؤ الحديث عنها بصوت عال مسموع؛ الغزو الأمريكي للعراق، نفط العراق، المقاومة العراقية، تدمير العراق، فتح وحماس، مؤتمرات القمة العربية، القدس ... إلخ.
أصبح البرنامج الرئة التي يتنفس بها كل عربي في عصر بلغت فيه القلوب الحناجر، والعقل الذي يفكر به كل عربي في زمن ساد فيه الإعلام الرسمي، ورفعت الشعارات في بعض المطارات: «لا تفكر، نحن نفكر لك.» والعين التي يشاهد بها كل عربي في وقت غمضت فيه الأعين، والأذن التي يسمع بها كل عربي بعد أن صمت الآذان بالرغم من علو الضجيج وشدة الصخب، وسيادة الضوضاء.
ومع ذلك قد ينتهي «الاتجاه المعاكس» إلى عكس ما يهدف إليه. وبقدر ما يحقق من نجاحات يحقق من إخفاقات، وبقدر ما يعطي الزهو بالإعلام العربي يسبب الإحباطات في النفس العربية بعد أن اختلف الرفاق، وتقاتل المتخاصمون، وتلاعن المختلفون، دون وحدة تجمعهم إلا شد الأيادي من الأخ مقدم البرنامج بعد أن كادا يتشابكان بالأيدي وهو يفرق بين المتقاتلين .
لا توجد نقطة التقاء بين الاتجاهين المتعاكسين، أحدهما ضد الآخر ونقيضه. يهدم الأول ما يبنيه الثاني، ويهدم الثاني ما يبنيه الأول. ويبدو المثقفان العربيان وكأنهما لا ينتسبان إلى وطن عربي واحد، بل وإلى قطر عربي واحد. أحدهما أمريكي غاز، والآخر وطني مقاوم. الأول إسرائيلي تطبيعي، والثاني مناضل يبغي الشهادة. الغاية الهدم المتبادل للشيء ونقيضه، والاستبعاد والإقصاء. وقع في ثنائيات حادة بين البطولة والخيانة، والوطنية والعمالة، والحق والباطل، والصواب والخطأ، والخير والشر، والملاك والشيطان. ويشتد الاستقطاب بين الفريقين المتنازعين؛ هذا سلفي وذاك علماني، ولا سبيل للالتقاء بينهما في الإسلام المستنير. هذا مقاوم للتطبيع وذاك من أنصاره، ولا سبيل للالتقاء بينهما في مبادرة السلام العربية؛ الأرض مقابل السلام. فيصبح الحوار حوار الطرشان، ويزيد من كب الزيت على النار، ويكون أشبه بنقار الديوك، كل من الفريقين ينقر الآخر في رأسه حتى يسيل دمه.
وتتبادل الاتهامات بالخيانة والعمالة، بالصدامية والأمريكية، بالقهر والاحتلال. ويصل الأمر إلى التجريح الشخصي، وإعلان السيرة الخفية لكل طرف، والكشف عن سلوكه؛ فالأمر ليس فقط اتجاها معاكسا، بل سلوك نقيض. ويظهر المفكرون والمثقفون كأبطال إعلاميين مثل مشايخ الفضائيات، وينالون من الشهرة الكثير من شهرة البرنامج. ويفسح المجال للصحفيين والكتاب ليزدادوا شهرة بعد أن عزت القراءة لحساب المشاهدة. ويظهر كل طرف قدراته الشخصية في الهجوم على الآخر، والدفاع عن النفس، واتهام الغير، وتبرئة النفس. ويضيع الموضوع لصالح الشخص، ويقضى على الموضوعية لصالح الذاتية، ويتحول الفكر كله إلى ثنائيات متعارضة متضادة كما هو الحال في المانوية القديمة التي لا يلتقي طرفاها؛ النور والظلمة، والفضيلة والرذيلة. وهو عكس ما يهدف إليه التوحيد في لقاء الأطراف؛ الله والعالم في العناية، الدنيا والآخرة في العمل الصالح، الخير والشر في النفس، الأصل والفرع في القياس، الصواب والخطأ في الاجتهاد. وفي المواقف الحدية يلتقي الطرفان في الباطن وإن تناقضا في الظاهر؛ فكلاهما إطلاقي، كل منهما يمثل الفرقة الناجية، والآخر الفرقة الهالكة. وهو ما تعاني منه الثقافة بسيادة الرأي الواحد، وما تعاني منه السياسة بسيادة الحزب الحاكم، والبقاء في السلطة مدى الحياة.
والخطورة تساوي الطرفين، الشيء ونقيضه، لا غالب ولا مغلوب؛ مما يوقع المواطنين في الحيرة. لكل طرف حججه ومنطقه؛ الفلسطيني والإسرائيلي، العراقي الوطني والعراقي الأمريكي؛ مما يصيب المشاهد بالحيرة واليأس، فيتوقف عن التفكير والفعل، أو يأخذ جانبا ضد آخر، فتنشق الأمة إلى فريقين متصارعين، ويزداد تقسيمها وتفتيتها وتفرقها وتشيعها إلى فرق وأحزاب متناحرة.
وتستعمل كل أساليب الإقناع اللغوية والحركية؛ فقد تحول البرنامج إلى مسرحية تشد الانتباه، وأحيانا إلى سيرك بين المتقاتلين المتناطحين، يتفوق فيها البطل على خصومه، ويهزم فيها الخير الشر. ويخشى من ذلك على سؤال: أين المعركة؛ في الذهن أم في الواقع؟ على المسرح أم في الميدان؟ في «التليفزيون» أم على الأرض؟ وقد يشيع ذلك في المشاهدين الرغبة في الانتصار، والتوق إلى النصر؛ تعويضا عن الإحساس بالهزائم المتكررة منذ 1948م؛ احتلال فلسطين، حتى 2003م؛ احتلال العراق، والعجز عن المشاركة وصنع النصر. قد تعطي الإحساس بالطمأنينة بأن العرب أصحاب معارك، وهو يسمع «يا أهلا بالمعارك!» وأنها معارك متساوية بين الأطراف. المهم أن يشد الحيل لمزيد من الكلام والبلاغة وحسن القول وقوة الإقناع؛ مما دفع بأحد المستشرقين المعاصرين إلى الحكم على العرب بأنهم «ظاهرة صوتية».
أليس من الأفضل منطق الحوار، وآداب الحوار دون تكفير طرف لطرف أو تخوين طرف لطرف
وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين (سبأ: 24)؟ أليس من الأفضل الوصول إلى الحد الأدنى من الاتفاق بين فرقاء الوطن الواحد وهو الوطن؛ فالوطنية هي الحل، وليست الاختيارات السياسية المسبقة، أو المصالح الشخصية غير المعلنة، أو الأهواء والانفعالات التي تخفي الهويات البديلة الطائفية أو العرقية في غياب الهوية الوطنية أو القومية؟ ولصالح من شق الصف الوطني، وضرب الاتجاهات الفكرية والاختيارات السياسية بعضها بالبعض الآخر، وزيادة الفرقة والتشتت وهي سمة الآخرين
بأسهم بينهم شديد (الحشر: 14)، وليس سمة المواطنين
أشداء على الكفار رحماء بينهم (الفتح: 29).
إن التعددية السياسية والفكرية لا تعني التضارب والتناقض والتناطح، بل السماح بأكبر قدر ممكن من المداخل النظرية للموضوع العملي الواحد؛ فالحقيقة النظرية وجهة نظر، رأي، منظور ، رؤية، في حين أن الحقيقة العملية، تحقيق المصالح العامة، واحدة. على هذا الأساس أجمع الفقهاء على أن الحق النظري متعدد، والحق العملي واحد، «كلكم راد وكلكم مردود عليه.» وكان الرسول
صلى الله عليه وسلم
يقول لأبي بكر: «يا أبا بكر، انزل قليلا. وكان يقول لعمر: يا عمر، اصعد قليلا.» فقد كان أبو بكر يتمسك بالنص والمبدأ، وعمر يدافع عن الواقع والمصلحة.
إن أحد أسباب المواقف الحدية هو الانفعال والهوى، وأحد أسباب المواقف التوحيدية هو العقل والواقع. أيهما أفضل إذن؛ الاتجاه المعاكس أم الاتجاه المغاير؟ فالمعاكس مناقض ونقيض في النظر وفي العمل، والمغاير مجرد خلاف في النظر دون خلاف في العمل.
القهر الاجتماعي
3
تتعدد أنواع القهر كما تتعدد أسباب الموت، والنتيجة واحدة؛ فالموت موت نفسي. وأشهر أنواع القهر هو القهر السياسي، علاقة الحاكم بالمحكوم في نظم الحكم التي تقوم على التسلط وكبت الحريات العامة، والتفرد بالقرار، وهو ما سماه ابن رشد «وحدانية التسلط». كما تقوم على تزييف الانتخابات، وأجهزة الأمن، وقوانين الطوارئ، والاعتقال والسجن بلا محاكمة. وهي النظم الأيديولوجية التي تحكم باسم الحقيقة المطلقة، دينية أو سياسية، الفرقة الناجية الواحدة التي في الحكم في مقابل الفرق الضالة الهالكة التي في المعارضة.
وهناك القهر الديني والثقافي، ويقوم على إجبار الناس على الإيمان بعقائد دينية، سنية أو شيعية، أو سياسية معينة، اشتراكية أو قومية، نازية أو فاشية، كما حدث في التاريخ بإجبار الناس على القول بخلق القرآن، أو انبساط الأرض دون كرويتها، أو مركزيتها ودوران الشمس حولها، وإجبار الناس على اتباع تأويل معين للنص الديني، أو التضييق عليهم في السلوك اليومي باسم تطبيق الشريعة، بل ويحدث ذلك أيضا في الفنون والآداب، وليس فقط في العلوم والديانات، وإجبار صغار المبدعين على اتباع مذهب معين في الفن والأدب.
وهناك أيضا القهر الاقتصادي، قهر الفقر والضنك والعوز والحاجة. يشعر به العامة قبل الخاصة. هو قهر رغيف العيش والقوت اليومي الذي يدعو إليه المسيحيون في الصلاة الربانية : «أعطنا خبزنا اليومي.» والذي من أجله قال عمر بن الخطاب : «والله لو كان الفقر رجلا لقتلته.» وهو ناشئ عن سوء توزيع الثروة في البلاد، ويؤدي إلى الغش والاحتيال لدى الأغنياء ليزدادوا غنى، ولدى الفقراء من أجل غريزة حب البقاء. وبسببه تقوم الهبات الشعبية وثورات الجياع.
والأخطر من ذلك كله القهر الاجتماعي، قهر العرف والعادات والتقاليد الذي نقده القرآن الكريم
إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون (الزخرف: 23)، وفي آية أخرى
مهتدون (الزخرف: 22)، وعلى هذا الأساس لم يعتبر الأصوليون القدماء التقليد مصدرا من مصادر العلم مثل الحس والعقل والخبر الصحيح، وثار المصلحون الدينيون المعاصرون كالشوكاني والأفغاني ومحمد عبده، أو الليبراليون مثل الطهطاوي، على التقليد، وجعلوه أحد أسباب التخلف الاجتماعي والانحطاط الحضاري.
اتباع التقاليد هو اتباع القدماء بالرغم من القول المأثور الذي يعزى إلى أفلاطون، كما ينسب إلى الرسول
صلى الله عليه وسلم : «لا تؤدبوا أولادكم بآدابكم؛ فقد خلقوا لغير زمانكم.» القدماء هم الأوائل، عاشوا في الماضي، وتغير الزمن، ولكل زمن عاداته وتقاليده وأعرافه.
كثيرا ما كتب علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا عن تطور العادات الاجتماعية، وتغير التقاليد. هي تعبير عن سلوك الناس في كل وقت، والزمان متغير، والتقاليد تتغير بتغيره. التقليد اشتقاقا يعني الاتباع، في حين أن التجديد يعني الإبداع. ويتهم أنصار التقليد أنصار التجديد بالابتداع، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار؛ فيؤثر الناس السلامة والاتباع عن غير اقتناع.
ويتبع الناس العرف، وهي العادات الشعبية السائدة، وتسود الأعراف الطبقات الشعبية مثل طهارة الإناث، وما تسببه من قهر نفسي للأنثى منذ الطفولة حتى البلوغ. ويتبع الناس العادات الاستهلاكية في الأعياد، مثل مأكولات رمضان ومشروباته وكعك العيد، بما لا تطيقه ميزانية الأسر، وضرورات التباهي والتفاخر بين الناس. وقد يؤدي ذلك إلى جرائم بين الرجل وزوجته. وهي عادات وأعراف من وضع المجتمع وتطوره عبر التاريخ لتوظيفها اجتماعيا لخلق دين شعبي مواز للدين الشرعي، يلهي الناس ويبعدهم عن ظلم الحكام.
وتحول التيارات المحافظة في المجتمع هذه العادات والأعراف إلى ثوابت، مع أنها متغيرة بتغير المجتمع. ومنها عادات ترجع إلى عصر الصحابة والفتنة الأولى مثل التلاعن، وأقوال مأثورة مثل: «إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.» وأدبيات طاعة الحكام وعدم الخروج عليهم، وإلا كان الجزاء القتل. الثوابت هي القيم الإنسانية العامة التي لا تتغير بتغير الزمان، مثل حقوق الإنسان، واحترام النفس، والعدالة الاجتماعية، والمساواة بين البشر في الحقوق والواجبات، والحريات العامة، والشورى، والمصالح العامة. وهي المقاصد العامة التي تقوم عليها الشريعة؛ الحفاظ على الحياة والعقل والدين والعرض والمال. الحياة هي الحاجات الأساسية للناس من طعام وشراب ولباس وسكن وتعليم وعلاج، والعقل هو حق الإنسان الطبيعي في المعرفة والفكر والنظر، والدين هو الثوابت العامة التي يجتمع عليها الفقهاء، والعرض هو الكرامة الشخصية والوطنية، والمال هو الثروة الفردية والثروة العامة.
وقد وضعت بعض المجتمعات التقليدية عدة قوانين للضبط الاجتماعي لمنع تحركه، مثل قانون العيب، وقانون الاشتباه؛ وقوانين حماية المجتمع والأمن والاستقرار السياسي، مثل قوانين الطوارئ ومكافحة الإرهاب، مهمتها إرهاب الناس وتخويفهم، ومنعهم من السلوك الطبيعي التلقائي القائم على الثقة بالنفس واحترام الآخرين، ثم تحولت هذه القوانين إلى عادات وتعبيرات، مثل: «عيب عليك»، «يا عيب الشوم»، «حشومة»، «اختشي»، «يا نهار أسود»، «يا دهوتي»، «يا مصيبتي». وأصبح كل خروج على هذه القوانين انحرافا وشذوذا.
ولما كان المجتمع يتقدم بصرف النظر عن أساليب الضبط الاجتماعي، تنقسم الحياة إلى ظاهر يتبع التقاليد والأعراف والعادات، وباطن يتبع تطور الحياة وتغير قواعد السلوك الاجتماعي، فتنشأ مظاهر النفاق والرياء والتظاهر والكذب. قول باللسان لا يقتنع به القلب، وسلوك في الظاهر لا ينم عن إيمان بالباطن. وتصبح الحياة كلها حجابا في الظاهر، وسفورا في الباطن. كما تنشأ ظواهر الكبت وأمراض القهر النفسي وقمع الرغبات، ويعيش الإنسان بشخصيتين، ويقابل المجتمع بوجهين؛ وجه يرضاه المجتمع، ووجه آخر يرضاه الفرد، لا يجرؤ على التعبير عنه صراحة. ويكون له سلوكان:
سلوك اجتماعي علني، وسلوك آخر فردي سري. الأول كاذب، والثاني صادق. فإذا ما تجرأ أحد على الإعلان والتمسك بالوجه الواحد والسلوك الواحد والشخصية الواحدة تم إقصاؤه واستبعاده واتهامه بالردة والكفر، وكان جزاؤه القتل الصريح. ويؤثر البعض السلامة والرضا بالسلوك الاجتماعي، وينغمس في الدنيا ينهل منها بالحلال، والأرزاق مقدرة مسبقا.
ومع ذلك ظهرت نماذج ثائرة على هذا القهر الاجتماعي في التاريخ، في كل عصر، وفي كل ثقافة، ولدى كل شعب. ثار سقراط على تعدد الآلهة عند الأثينيين، فاتهم بإفساد الشباب، وحكم عليه بالموت سما، ورفض الهرب درءا للظلم، وهو رذيلة، طاعة لقوانين البلاد، وهي فضيلة. وثار ديكارت على عادات العصر الوسيط في التفكير والتعلم. وثار اسبينوزا على العقائد اليهودية، مثل شعب الله المختار وأرض المعاد. وحرق جيوردانو برونو حيا في روما لأنه قال بعقيدة مخالفة للفلك السائد ولتصور الإنسان. وثار مارتن لوثر على الكنيسة رافضا توسطها بين الإنسان والله، واحتكارها لتفسير الكتاب المقدس، وتبعيتها لسلطة الآباء الأولين. قدم المفكرون الأحرار الذين رفضوا عادات وتقاليد وأعراف القدماء أمام محاكم التفتيش في أواخر العصر الوسيط الأوروبي، وكان جزاؤهم القتل أو الحرق أو التعذيب أو النفي أو السجن.
وفي تاريخنا القديم حدث نفس الشيء؛ فقد ذبح الجعد بن درهم يوم عيد الأضحى أسفل المنبر لأنه كان معارضا للحكم الأموي، ويقول بقدرة الإنسان على الاختيار. وقتل أبو نواس بتهمة الزندقة. وصلب الحلاج بتهمة الخروج على العقائد. وذبح السهروردي لقوله بحكمة الإشراق.
كانت كل حركات التجديد والتحديث والنهضة والإصلاح والتغير الاجتماعي والنهضة الحضارية والثورة ضد القهر الاجتماعي بالرغم من سطوته، وكان الاستسلام للقهر الاجتماعي أحد أسباب الركون والخمول والتأخر والانحطاط. لا تقوم نهضة على قهر، ولا تقدم على تقليد، ولا ثورة على تسليم. في لحظات الانتصار يتم تغيير التقاليد، وفي لحظات الانكسار تتم المحافظة عليها حماية للمجتمعات. وهي حماية وقتية بالانكفاء على الداخل لحماية النفس بعد أن ضاع العالم. ولما كان المجتمع العربي يمر الآن بمرحلة انكسار، باستثناء المقاومة في العراق وفلسطين، اشتد القهر الاجتماعي. ولما كان أيضا يتوق إلى الانتصار، يكون تحرره من القهر الاجتماعي قريبا.
التناقضات الهدامة
ما زال الغرب هو الذي ينتج المفاهيم ونحن نشرحها. ما زال الغرب يزهو عليها بأنه وحده القادر على التنظير المباشر للواقع وإنتاج المفاهيم والنظريات، في حين أننا ما زلنا نعتمد على النصوص القديمة كحجة سلطة نفسر بها أوضاع العالم، وتحدد لنا موجهات السلوك. ما زلنا نعتمد على الأيديولوجيات الجاهزة، الإسلامية أو القومية أو الليبرالية أو الماركسية، لتفسر لنا العالم، وتحدد لنا اتجاهات التحرك فيه.
فقد أنتجت أمريكة مفهوم «الفوضى الخلاقة»، وتعني بها تفجير التناقضات في الوطن العربي والعالم الإسلامي بحيث يتفتت الكل، ويصبح كل جزء نقيض كل جزء كما هو الحال في القنابل العنقودية، فتتناثر الأجزاء وتتباعد بعد أن يصطدم بعضها بالبعض الآخر في اتجاهات عشوائية لا يمكن ضبطها مهما بلغت ضربات العصا للاعب الماهر، ويتحول الجسد العربي الإسلامي إلى شظايا يصعب جمعها من جديد في جسد واحد بعد أن تبتلع القوى النشطة في المنطقة، مثل إيران أو تركية أو إسرائيل، بعضا منها إلى غير رجعة، كما ابتلعت القوى الكبرى ممتلكات الدولة العثمانية بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، وابتلعت روسية القيصرية في القرن التاسع عشر، ثم روسية الاشتراكية للجمهوريات الإسلامية في أواسط آسيا بعد ثورة أكتوبر 1917م. وما زالت ظواهر التفتيت والتقسيم للإمبراطورية العثمانية قائما.
ظن العرب أن القومية العربية هي البديل عن دولة الخلافة تحميهم من التقسيم، فاحتلت بلاد العرب، واستبدل العرب بالسيد الإسلامي السيد الغربي، ولم تستطع الجامعة العربية إعادة جمع الأقسام إلا على مستوى النظم السياسية المتناقضة فيما بينها، ولم تستطع القومية العربية كحركة تحرر وطني إلا تحرير الأوطان بمساعدة الشقيقة الكبرى. وبعد هزيمة يونيو (حزيران) 1967م، لم تستطع القومية العربية حماية الشقيقة الكبرى ولا فلسطين ولا روسية ولا لبنان. واحتلت فلسطين كلها؛ نصفها في العصر الليبرالي في 1948م، والنصف الآخر في المد القومي في 1967م، ثم وقعت حرب الخليج الأولى، وظهر التناقض المفتعل بين القومية العربية التي احتجت بها العراق والثورة الإسلامية في إيران، ثم وقعت حرب الخليج الثانية، وتحولت القومية العربية من مدافع عن الأوطان إلى محتل لها، وأصبح العدو للكويت هو العراق واقعا، وليست إيران وهما، أو إسرائيل أو الولايات المتحدة فعلا.
بدأت التناقضات الهدامة بالتناقض بين المقاومة الفلسطينية والنظم السياسية العربية كما حدث في أيلول الأسود في الأردن عام 1970م. ظهر التناقض بين المقاومة كحركة شعبية والنظام السياسي كدولة مستقلة تفرض سيادتها على مجموع أراضيها. وهو التناقض الذي ضحى عبد الناصر بحياته من أجل حله والتخلص منه في نفس الشهر عندما أراق العربي دم العربي.
ثم وقع تناقض آخر بعد إنشاء السلطة الفلسطينية إثر اتفاق مدريد وأوسلو بين فصائل المقاومة والسلطة الجديدة، بين الثورة والدولة، وكلاهما شرعيان، ثم وقع التناقض بين أهم فصيلين للمقاومة؛ فتح وحماس. أراق فيها الفلسطيني دم الفلسطيني، وما زال الوضع متفجرا. وتسيل الدماء بعد أن تفشل محاولات إيقاف النزيف في مكة والقاهرة.
وحاول البعض إيقاع التناقض بين حزب الله والدولة اللبنانية، حرب تموز (يوليو) العام الماضي؛ فقد دمرت لبنان بسبب خروج المقاومة على شرعية الدولة، حربها وسلامها ومبادرتها واستقلالها، ولم يشفع لها رصيدها السابق في تحرير الجنوب، ثم يقع تناقض ثان الآن بين فتح الإسلام والجيش اللبناني الذي ظهر بعد طول صمت، وأراق العربي دم العربي من أجل استئصال المقاومة بالرغم من أخطاء بعض عناصرها، كأحد مراحل تصفية المقاومة في لبنان، مرة في الشمال ومرة في الجنوب، ومرة في الشرق، في البقاع وغلق الحدود مع الشقيقة سورية.
وبصرف النظر عن المقاومة في لبنان يقع تناقض أشمل داخل لبنان بين الاستقلال الوطني والتبعية للغرب والولايات المتحدة الأمريكية، وينزل الفريقان إلى الشارع للاعتصام وللاصطدام، فيسيل الدم اللبناني بيد اللبناني، وتشل الحياة السياسية؛ فريق ضد المحكمة الدولية احتراما لسيادة لبنان، وآخر مع المحكمة الدولية لإدانة سورية كمقدمة للهجوم عليها وتصفية نظامها، الذي ما زال يرفض المخطط الإسرائيلي الأمريكي لتصفية مقاومته؛ فسورية هي الجسر بين إيران ولبنان؛ فقد نجح التهديد الأمريكي بإخراج القوات السورية من لبنان، وما زال التهديد موجها إلى سورية حتى يقل تأثير إيران في الوطن العربي، سورية والعراق ولبنان؛ فسورية راعية الإرهاب في لبنان، وإيران مورد السلاح الرئيسي إلى المقاومة في جنوب لبنان.
ويقع تناقض آخر بين المقاومة الفلسطينية والعراق عندما أيدت المقاومة حرب الخليج الثانية والعدوان العراقي على الكويت؛ نظرا لوجود خمسة وثلاثين ألفا من المقاومة الفلسطينية في العراق، بناها العراق. والمقاومة الفلسطينية في النهاية تدين بالولاء للقومية العربية بالرغم من انتماءاتها الإسلامية. تجمع بين الوطنية والقومية والإسلام، الدوائر الثلاث، ميادين التحرك للتحرر الوطني العربي. كانت المقاومة الفلسطينية مع الثورة الإسلامية في إيران في بدايتها، وكان من الصعب عليها أن تأخذ موقفا في صف هذا الفريق أو ذاك، وبعد مرحلة الرومانسية الأولى في الثورة الإسلامية والمقاومة الفلسطينية عادت الحسابات السياسية التي قد تخطئ أو تصيب في الانحياز إلى أحد طرفي التناقض، وهو اختيار حر.
وانعكس ذلك على الوجود الفلسطيني في الخليج؛ فشعب فلسطين وعمال فلسطين لا بد أن يعاقبوا بسبب مواقف المقاومة الفلسطينية في حرب الخليج الثانية. ونشأ تناقض فرعي بين الوجود الفلسطيني والوجود المصري والوجود السوري في تولي الوظائف في الخليج، والكل يأكل من خشاش الأرض. وبدأ الترحيل للفلسطينيين إلى الوطن المحتل، أو إلى أوطان بديلة.
وظهر التناقض بين ما تبقى من نظم قومية والوجود الفلسطيني في ليبيا؛ فعلى العمال الفلسطينيين الرحيل إلى الدولة المقاومة التي لم تقم بعد، وما زالت أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع، وإلى الوهم منها إلى الحقيقة. وموريتانيا تعترف بإسرائيل، وتقيم علاقات دبلوماسية معها، وهي ليست من دول الجوار؛ بناء على ضغوط أمريكية لإيقاع التناقض داخل الشعب الموريتاني بين مقاومة التطبيع وأنصاره كما وقع التناقض في جيش علي بين رفض التحكيم وقبوله، ثم تفتح مكاتب اتصال أو مكاتب تجارية في بعض دول الخليج وفي بعض دول المغرب العربي بحجة التجارة، أو عودة اليهود المغاربة إلى أوطانهم، كما يقع التناقض بين الشقيقة الكبرى والفلسطينيين المقيمين حول صعوبات الإقامة، والحصول على تأشيرات الدخول، وتحديد النشاط الساسي، أسوة بنشاط المعارضة من المصريين.
وتمتد التناقضات الهدامة خارج نطاق فلسطين ودول الجوار إلى تناقضات طائفية ومذهبية وعرقية في شتى أرجاء الوطن العربي، أكراد وتركمان وعرب في العراق، وبداية التطهير العرقي والترحيل، وعرب وبربر في دول المغرب العربي، وسنة وشيعة في العراق وباقي دول الخليج، ومسلمون وأقباط في مصر، ودروز وأكراد وعلويون ونصيريون وسنة في سورية، وموارنة وسنة في لبنان، وشماليون وجنوبيون في اليمن، زيدية وشوافع، وشماليون وجنوبيون وشرق وغرب في السودان حتى يبقى القلب وحيدا بلا أطراف، ونجديون وحجازيون في المملكة العربية السعودية، تقليديون ومجددون، محافظون وليبراليون، وقوميون وإسلاميون وقطريون في الكويت، وإسلاميون وعلمانيون في مصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب، وقبائل متناحرة على الجوع والجفاف في إريتريا والصومال، والحبشة لهما بالمرصاد.
لا يحمي الأوطان من هذه التناقضات الهدامة إلا وحدة الأوطان والولاء الوطني؛ فالوطنية هي الحل بصرف النظر عن تعدديتها العرقية والطائفية والمذهبية. ولما كان حدود الأوطان مصطنعة من بقايا الاستعمار القديم، فإن القومية العربية قد تكون هي الحل للم شمل الوطن العربي، ورفع التناقضات الهدامة فيه كما كان الحال في المد القومي العربي في الخمسينيات والستينيات، وكما جسدته الناصرية؛ أكبر تجربة قومية في تاريخ العرب الحديث قبل الوحدة اليمنية بين شطري اليمن. وقد يكون التجمع الثقافي هو الحل؛ الثقافة الإسلامية التي جعلت الوطن العربي بؤرة عالم إسلامي أوسع يتبرك به، ويسعى إليه لتعلم اللغة والثقافة والتراث المشترك. قد تكون التجمعات الإقليمية هي الوسيلة لحماية الوطن من التفتيت والتمزق، مثل تجمع مصر وإيران وتركية لحماية المنطقة من التجزئة الداخلية والعدوان الخارجي.
وتتطلب هذه البدائل الوحدوية كلها خيالا سياسيا قادرا على تجاوز الواقعية السياسية المرة، التي هي أقرب إلى الاستسلام منها إلى المقاومة. يتطلب نخبة ثورية جديدة بدلا من النخب الحاكمة التي طال عليها الزمن، أو إرادة شعبية قوية تفرض نفسها على مسار الأحداث،
ورحمتي وسعت كل شيء (الأعراف: 156).
غياب الوعي التاريخي
تهيج الذكريات في يونيو (حزيران) من كل عام؛ ذكريات الألم والمرارة والهزيمة من النكبة الثانية. ضاعت نصف فلسطين في العصر الليبرالي في 1948م، وضاع النصف الثاني في العصر القومي الاشتراكي في 1967م. ويقتتل الرفاق، حماس وفتح، في العصر الإسلامي. والماركسيون إما في السجون، أو عند الله، أو ما زالوا يحللون أو ينظرون. وتهيج الذكريات أكثر إذا ما انقضى عقد أو فاتت عقود من الزمان؛ فنحن الآن في الذكرى الأربعين، يونيو 1967م.
الاحتلال ما زال على الأرض فيما تبقى من فلسطين وعلى الجولان وفي جنوب لبنان، وسيناء منزوعة السلاح، وإسرائيل تفعل ما تشاء في فلسطين ضد المقاومة بعد أن قص ريش العرب حول مصر، وحوصرت مصر داخل حدودها من عدو بلا حدود. أمريكة حدودها العالم كله، وإسرائيل حدودها ما يستطيع جيش الدفاع الإسرائيلي أن يصل إليه. والمنقذ، أمريكة، لا ينقذ ولا يبيع إلا الوعود؛ دولتان جنبا إلى جنب يتعايشان في سلام، وإسرائيل تعتدي كل يوم على فلسطين، خارطة الطريق التي قبلها العرب على ضيم، حلم صعب المنال. ومبادرة السلام العربية لا أحد يتعامل معها؛ فإسرائيل تكسب بالعدوان أكثر مما تكسب بالسلام، وأمريكة تستعد للعدوان على سورية وإيران الرافضين لمشاريع التسوية، واللذين ما زالا يدعمان المقاومة، تكسب من السلام ومن العدوان في آن واحد، كالمقامر الخبير الذي يكسب في كل الاحتمالات أمام العرب الذين يخسرون في كل الأحوال.
بالنسبة لجيلنا، جيل الخمسينيات والستينيات 1967م، ما زال جرحا في القلب وغصة في الحلق. هو جيل الحركة الوطنية في الأربعينيات، جيل لجنة الطلبة والعمال، الجيل الذي تكون فيه الضباط الأحرار الذين فجروا ثورة يوليو 1952م. لم يندمل الجرح بانتصار أكتوبر 1973م بسبب الهزيمة التامة للإرادة الوطنية بعد أن كانت الشعارات: خسرنا معركة ولم نخسر الحرب، ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، إزالة آثار العدوان. والأخطر هو الانقلاب على المشروع القومي الاشتراكي الوحدوي في 15 مايو 1971م، والتحالف مع الاستعمار والاعتراف بالصهيونية، وهي أهداف عدوان 1967م؛ فالسياسة هي الحرب بوسائل أخرى طبقا للتعريف الشهير.
وفي استطلاع أخير لرأي الجيل الجديد من الشباب العربي أجرته إحدى قنوات الإعلام الشهيرة عن مدى وعيهم بهزيمة يونيو (حزيران) 1967م، كانت النتيجة صدمة لجيل الخمسينيات والستينيات الذي أفنى عمره في التحرر الوطني، وما زال يقاوم الاحتلال والاستعمار والهيمنة من الخارج، والقهر والفساد والتبعية في الداخل. ظهر التغييب التام للوعي التاريخي، وهو أخطر من تزييف الوعي. التغييب نفي تام في حين أن التزييف وعي بديل. والوعي التاريخي هو أساس الوعي السياسي؛ لذلك يزهو علينا الغرب بأنه هو الذي أعطى العالم فلسفة التاريخ، واكتشف الوعي التاريخي بالرغم من اعتراف فيكو مؤسس فلسفة التاريخ مع هردر أنه استمد قانونه الثلاثي لتطور التاريخ، من مرحلة الآلهة إلى مرحلة الأبطال إلى مرحلة البشر، من مصر القديمة. وضعف أمريكة في غياب وعيها التاريخي وتأسيس وعيها السياسي على المصالح والهيمنة، وربما على العنصرية، وسيادة الجنس الأبيض على الأجناس الأخرى، السوداء والسمراء والصفراء، والنازية والصهيونية والمحافظون الجدد بعض صياغاتها. والأخطر هو تغييب الوعي التاريخي العربي الذي يمتد إلى سبعة آلاف عام في مصر القديمة وحضارات ما بين النهرين وفي كنعان؛ فلسطين القديمة.
انتهى استطلاع الرأي إلى ستة مستويات للوعي التاريخي:
الأول غيابه التام:
فهذه الشريحة من الشباب لم تسمع عن 1967م، لم يأخذوها في المدرسة، ولم يشاهدوا البرامج السياسية في أجهزة الإعلام. لا يقرءون الصحف، ولا يتحدثون مع الأصدقاء أو داخل الأسرة في الشأن العام. لم تعد هناك مقررات في التربية الوطنية أو التربية القومية في المدارس. ومقرر التربية الدينية عقائد وعبادات دون معاملات وعلاقات دولية، وعي ديني فارغ من أي مضمون اجتماعي سياسي، وطني أو قومي؛ خشية من الحركة الإسلامية، وتسلل الجماعات الجهادية إلى عقول الطلاب، فينشأ وعي ديني جهادي خارج المدارس، في الشارع وتحت الأرض.
والثاني يسخر من السؤال:
عن مدى الوعي التاريخي بهزيمة 1967م؛ فالمعارك لديه، كسبا أم خسارة، في الأسهم والشركات وحسابات البنوك. لا يعرف في الحياة إلا المال، ولا يهدف إلا إلى زيادته أو تبديده. وهو جزء من العولمة الاقتصادية. ورأس المال لا وطن له. وهو ممثل لأحد الشركات المتعددة الجنسيات، وحساباته في البنوك الأجنبية. جسده عربي، وروحه أمريكية. وعقاله عربي، وذهنه عولمي. ولا مانع أن يقرأ
المال والبنون زينة الحياة الدنيا (الكهف: 46)، وينسى
والآخرة خير وأبقى (الأعلى: 17)، ويخشى من قراءة
ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال (البقرة: 155)، ولا يعلم أن المال زائل، وأن مدن المال قد اندثرت
كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا (التوبة: 69).
والثالث وعي غائم:
بأننا هزمنا دون معرفة بالظروف والأسباب والعوامل والنتائج. وعي يأتي من وراء السحب أو من الماضي البعيد مثل استيلاء التتار على بغداد، والصليبيين على القدس، وسقوط غرناطة. لا يمسه في شيء، ولا يؤثر عليه، ولا يتفاعل معه؛ فالتاريخ مصير، والماضي انقضى، والحاضر أبلغ وأوضح وأكثر إشراقا. وغياب الوعي التاريخي هو سبب غياب الوعي السياسي. لا تطلب الهزيمة موقفا، ولا يحدد لفظ «انهزمنا» من الذي انهزم. وعي جماعي غامض، وهوية فارغة، واستسلام للأقدار، ونقص في الحمية والرجولة. ولم يسمع خطاب عبد الناصر في الأزهر يوم العدوان: «سنقاتل.»
والرابع انهزمت مصر:
فالحرب حرب مصر، الشقيقة الكبرى في الذهن وفي الوجدان، لكنه غير متضامن معها في حروبها منذ 1948م حتى 1973م. مصر هو الغريب، المغاير وربما المخالف. هي التي ما زالت تتمسك بمسئوليتها وتتحمل عبء العرب، ولكنها في عالم، وهو في عالم آخر. لا يتماهى معها، له عالمه الخاص المباشر الواقعي، وهي لها عالمها الخاص المثالي. مصر هي البلد الغريب، والتي تطالب العرب بالتضامن والتضحية، وهو يريد راحة البال دون أن يعكر عليه صفو أحد.
والخامس انهزم عبد الناصر:
فله الفضل في أنه ما زال يتذكر الاسم، ولكن الحرب حربه، والنضال نضاله، والمعركة معركته. لا يعلم أن عبد الناصر كان يجسد روح أمة، ويناضل باسم شعب، ويحارب من أجل الحرية والاستقلال. يوحد بين الزعيم والوطن، بين القائد والجيش، بين الخليفة والخلافة، بين الرئيس والدولة، كما يشاهد في واقعه السياسي وثقافته الإعلامية. هي إذن قضية فردية شخصية، وليست صراعا تاريخيا بين قوى التحرر وقوى الاستعمار. وفي حالات أخرى ربما لم يسمع جيل بالاسم. سألني أحد أحفادي مرة: يتكلمون في المدرسة عن عبد الناصر. من هو، هل كان حاكما لمصر؟ اسم بلا مسمى، لفظ بلا مضمون، صورة بلا قضية.
والسادس احتلال الأراضي العربية:
وهو أقصى ما يستطيع الوعي التاريخي إحضاره. وما زالت الإجابة بها نوع من حضور الوعي التاريخي الوحدوي، وهو الاحتلال والأراضي العربية. وهو أقصى ما يصل إليه من وعي سياسي، دون ذكر للمقاومة، أو لطول فترة الاحتلال، أو لمخاطر السلام، أو لكامب ديفيد، أو للاعتراف والصلح والمفاوضة، أو اللاءات الثلاث، أو أي شيء عن المستقبل والمصير.
وعلى النقيض من تغييب التاريخ يحضر لدى العدو الإسرائيلي الوعي التاريخي في أشد صياغاته العنصرية والعدوانية؛ فقد كان الإسرائيلي عندما يقابل إسرائيليا منذ هدم المعبد (العام القادم في أورشليم) تقوم بالحفريات في القدس وأسفل المسجد الأقصى لإثبات وجود المعبد؛ ومن ثم ضرورة إعادة بناء ما انهدم بعد هدم ما انبنى على الأنقاض. وتكثر الدراسات والبحوث التاريخية حول الشعب الأول الذي سكن في فلسطين، وهم اليهود وليسوا الفلسطينيين في أرض كنعان. والاحتلال العربي للقدس مثل الاحتلال الصليبي والروماني والفارسي والبابلي. للعدو رؤية مستقبلية؛ فالوعي التاريخي ليس وعيا بالماضي فحسب، بل هو أيضا وعي بالحاضر وبالمستقبل، إسرائيل من الفرات إلى النيل، من مصر إلى العراق، بل وشبه الجزيرة العربية؛ فقد كان اليهود في مكة والمدينة واليمن، والتي يعيش فيها اليمنيون في المقابل وقت «الساعة السليمانية».
الخطورة الآن بعد تغييب الوعي التاريخي على الوجود العربي في التاريخ. لم يعد يتحدث أحد عن العرب إلا في مقابل البربر في المغرب العربي، وإلا في السودان في مقابل الأفارقة في الجنوب، أو في مقابل الكرد والترك في العراق، بل الحديث كله طائفي بين السنة والشيعة في الخليج والعراق، أو المسلمين والأقباط في مصر، والموارنة والمسلمين في لبنان، والزيدية والشوافع في اليمن. الخطورة الآن التضييق على مصر، وقص أجنحتها وخناقها من الشرق بتفتيت العراق، ومن الغرب بتفتيت المغرب العربي، ومن الجنوب بتقسيم السودان؛ حتى لا يترك لمصر إلا الشمال الأوروبي الذي ورث الخلافة. وإذا كان الحلم القديم «مصر قطعة من أوروبة»، فلماذا لا يعود من جديد؟
وطن بلا صاحب
لم يعد الوطن العربي قادرا على حماية سمائه والدفاع عن أرضه. تفعل فيه القوى الأجنبية ونظم الحكم ما تشاء وكأنه وطن بلا صاحب، جسم مخدر يفعل فيه الأجنبي ما يشاء بالتقطيع والترقيع ونقل الأعضاء بمساعدة الممرضين المحليين لخلق جسد جديد، فاقد الهوية، عاجز عن الحركة.
تقوم القوى الأجنبية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية بالغزو المباشر للعراق وأفغانستان ، وتقبض على زعمائها السياسيين بالغزو المباشر أو بالمحاكمة غير العادلة، وإعدام رموزها الذين كانوا يعتبرون الوطن أيضا بلا صاحب، ملكية خاصة لهم، ودرس لباقي الزعماء الذين ملكوا الأوطان كملوك صغار يأتمرون بأمر ملك الملوك، والسلطان الأعظم. وإسرائيل تقتل من تشاء، وتدمر ما تريد. سماء لبنان وفلسطين مفتوحتان، وأرضهما تجول فيهما مدرعات العدو. وتفعل المقاومة الشعبية ما تستطيع في العراق وأفغانستان وفلسطين ولبنان لتبين أن الأوطان لها صاحب، وهي الشعوب القاطنة فيها بعد أن أنكرتها القوى الكبرى من الخارج، واستعبدتها نظم الحكم في الداخل. الأولى بالغزو العسكري المباشر، والثانية بقوات الأمن والشرطة والجيش إن لزم الأمر ضد المعارضة السياسية؛ القلب الذي ما زال ينبض بالحياة. الأولى لنهب ثروات الأوطان؛ النفط وعوائده. والثانية لنهب ثرواته الداخلية، واحتكار مواردها، وتهريب الأموال. وتجتمع السلطة السياسية والثروة الاقتصادية في الحزب الحاكم المسيطر على جميع مظاهر الحياة المدنية. يزور الانتخابات، ويستأثر بالسلطة، ويدافع عن مكاسبه ومصلحته في الحكم والبقاء في السلطة إلى الأبد مثل رئيس النظام.
كما تفرض القوى الأجنبية إرادتها على الأوطان باسم الأمم المتحدة، وقراراتها في السودان لفرض قوات من الأمم المتحدة لحل قضية دارفور، والفلسطينيون منذ أكثر من نصف قرن ضحية دارفور الأولى، نزعهم خارج الأوطان، وتشريد نصف الشعب، ونزوحهم إلى الخارج، في المخيمات في دول الجوار، أو في بلاد النفط، أو في بلاد المهجر. ومن بقي منهم في الداخل يعيشون كمواطنين من الدرجة الثانية تحت الاحتلال. وتفرض الإرادة الدولية إرادتها على لبنان تحت ذريعة المحاكمة الدولية؛ مما يطعن في القضاء الوطني دون فرض إرادة مماثلة على إسرائيل وقد قتلت المئات من قادة المقاومة الفلسطينية.
وتدخلت القوات الأثيوبية ممثلة عن القوى الأجنبية للقضاء على نظام المحاكم الشرعية لصالح فريق آخر بدعوى القضاء على الإرهاب وتنظيم القاعدة. ويتم تهديد سورية وإيران بالغزو المباشر من أمريكة وإسرائيل لوضع حد لإمداد المقاومة اللبنانية بالسلاح من إيران، والتدخل السوري في لبنان، وتأييد المقاومة الفلسطينية، وزرع الإرهاب، ومقاومة مشاريع التسوية في المنطقة. وكما تم ضرب المفاعل النووي العراقي يتم الإعداد للقضاء على المفاعلات النووية الإيرانية حتى لا تمتلك إيران سلاح الردع النووي الذي يهدد أمن إسرائيل، تنفيذا لمخطط التخلص تماما من الجبهة الشرقية في الوطن العربي، سورية والعراق وإيران، بعد أن تم تحييد الجبهة الجنوبية في مصر، والشمالية في تركية، باتفاقات سلام واعتراف وصلح، والأراضي العربية في سورية ولبنان وفلسطين ما زالت محتلة.
والصاحب الأوحد مشغول بالتوريث أو بالحكم باسم الفرقة الناجية، أو الزعامة التاريخية، أو الإلهام السماوي، أو إرث الآباء والأجداد الذي يحافظ عليه الأحفاد. وتقوم الدول الصغرى بلعب دور الدول الكبرى ما دام الوطن بلا صاحب، تمهد لنظام عربي دولي جديد يصبح فيه الوطن العربي مركز خدمات واتصال بين الشرق والغرب، ومجالا للاستثمار مثل هونج كونج وتايوان وكوريا الجنوبية. وإسرائيل جزء فيه كقدرة على الاستثمار ودفع عوائد أكثر، ومرور أنابيب النفط من خلالها، وأداة للتحديث بعد أن تخلت مصر عن دورها التاريخي في الوطن العربي فأصبح بلا صاحب، يأتيه من يشاء لملء الفراغ.
أصحاب الأوطان في السجون والمعتقلات، تحت أهوال التعذيب الجسدي، والنفسي. يخضعون لقوانين الطوارئ أو مكافحة الإرهاب أو حماية الوحدة الوطنية. والأحرار منهم أقلية غير مؤثرة، مجرد صمام أمان للنظم السياسية القاهرة للداخل، والتابعة للخارج. والمثقفون والأدباء منهم يكتبون ويبدعون ثقافة وأدبا للتاريخ، يعبر عن مرحلة القهر والعجز والتبعية والضياع. يجرون عربة محملة بالأثقال بمفردهم ليصعدوا بها مسار التاريخ، يقيلون عثرته، وينهضون بكبوته حتى يأتي الزلزال فيغير الأوضاع، ويظهر التفاعلات الجديدة، وتنبثق منه المياه الجوفية السارية تحت الأرض في حمم البراكين بعد طول غليان.
وليست السماء والأرض وحدهما هما المفتوحتان للغزو العسكري المباشر، بل أيضا العقول ونظم التعليم والمؤسسات الثقافية والإعلامية للتبشير بالوطن البديل؛ التعليم للسوق باسم الجودة والحداثة، والثقافة العالمية لنشر قيم الاستهلاك، والإعلام لنشر قيم العولمة، وأن العالم قرية واحدة، قضت ثورة الاتصالات فيه على الخصوصيات الثقافية التي ما زالت تسبح ضد التيار.
وأصحاب الأوطان الشرعيين في أغلبيتهم مشغولون بلقمة العيش، أو البحث عن مصادر للرزق في الداخل أو في الخارج، بالكسب السريع أو الهجرة؛ فضعف الولاء، وعز الانتماء، وضاعت القضية التي طالما حلم بها الناس في الخمسينيات والستينيات. انتهى هذا الجيل الذي قاوم الاستعمار والصهيونية، وساهم في بناء الدولة الوطنية، وتحقيق المشروع القومي في الاستقلال الوطني والتصنيع، لحساب جيل جديد يوهم نفسه بالسعادة والخلاص عن طريق الدين أو «الشيشة»، أو السعي وراء ملذات الحياة في المأكل والمشرب والمسكن التي ملأت الحياة العامة في الطرقات والمنتديات، وتحزب الناس للنوادي الرياضية بعد أن انعزلوا عن الأحزاب السياسية.
فإذا ما كان للوطن صاحب وهو المقاومة الشعبية، فالكل صاحبه. يتنازعون فيما بينهم دون إمكانية للوفاق الوطني في لبنان وفلسطين والعراق. يقتتلون فيما بينهم على السلطة في الداخل، والسلطة الفعلية في الخارج. نسوا مرحلة التحرر الوطني التي قامت فيها الجبهة الوطنية بتحقيق الاستقلال ودحر المحتل.
طالما أن الوطن بلا صاحب فإن التطرف سيزداد، والعنف سيشتد لمن يريد تحويل العجز إلى قوة، واليأس إلى أمل، ويوقف الانهيار المستمر. ستنشط الحركات السرية بكل طوائفها، تنتظر لحظة الوثوب على السلطة كما حدث في الثورات العربية في أوائل الخمسينيات بقيادة الضباط الأحرار؛ فما زال يتراءى في الخيال البعيد صور أحمس ورمسيس وصلاح الدين وقطز ومحمد علي وعبد الناصر في مصر، وعمر المختار وصالح بن يوسف وبن بللا وعلال الفاسي بالمغرب، والمهدي بالسودان، وعز الدين القسام في فلسطين، وحزب الله في لبنان. فالأوطان لها صاحب؛ شعوبها، وقادتها الوطنيون، ومسارها عبر التاريخ.
ممنوع من الدخول
إذا أمكن منع الأجساد من الحركة بالاعتقال، والإقامة الجبرية، والترحيل في المطارات والمنع من الدخول بناء على القوائم السوداء في الأجهزة الإلكترونية وملفات الأمن، فإنه لا يمكن منع الأفكار من الانتشار. وطالما انتشرت أفكار المعتقلين بل والشهداء؛ فلا حدود أمامها، ولا مانع من انتشارها؛ فهي كالطاقة في الطبيعة، والكهرباء في الأسلاك. ولو أمكن منع الأجساد على الأمد القصير فإنه لا يمكن منع الأفكار على الأمد الطويل. ومنع الكتب ومصادرتها لا يمنع من انتشار الأفكار؛ فوسائل نقلها الآن مقامة عبر شبكات الاتصال (الانترنت)، وموجودة في القصور مثل الخمور ؛ فكل ممنوع مرغوب فيه. ولو تم وضع الحواجز على الأرض فإنه لا يمكن وضعها في السماء، ولو أمكن وضع الحدود الجغرافية فإنه لا يمكن وضعها في التاريخ، وإن أمكن تقطيع المكان إلى أجزاء فإنه لا يمكن تقطيع الزمان المتصل. وقد كان نيلسون مانديلا في السجن ربع قرن وهو يحكم جنوب أفريقية، وكان غاندي في السجون البريطانية والمقاومة السلمية تنتشر في ربوع الهند.
ولا فرق في منع المفكرين من الدخول إلى الدول بعد الوصول إلى المطارات بتأشيرات رسمية؛ فالأمن فوق الخارجية، والشرطة فوق السفارة. ولا فرق أيضا بين نظام عسكري باسم الجمهورية ونظام ملكي باسم العائلة؛ فمهما اختلفت النظم السياسية إلا أنها متفقة فيما بينها على التسلط والقهر. الدفاع عن النظام في كلتا الحالتين هو الهدف الرئيسي، وأمن النظام في كلتا الحالتين هو العامل الموجه. مع أن الأفكار الممنوعة قد تكون في صالح النظام إذا أراد الأمن على الأمد الطويل عن طريق الحوار مع الخصوم، وليس على الأمد القصير عن طريق المصادرة والمنع بأجهزة الرقابة والشرطة. قد يكون أثرها طيبا وليس سيئا، لصالح النظام وليس ضده، ولصالح الوطن الأبقى بعد تغير النظام.
وأثر الحركات الإسلامية على بعضها البعض شيء مشهود، يدل على وحدة فكر الأمة ومصدرها؛ فطالما تأثرت هذه الحركات بالأموات مثل ابن حنبل وابن تيمية وسيد قطب، وبالأحياء، متطرفين منهم ومعتدلين، محافظين وتقدميين، تقليديين ومجتهدين. ولا يستطيع نظام سياسي معاداة كل أطياف الفكر الإسلامي؛ فلو كان يظن أن المتطرفين خصومه فعليه الاعتماد على المعتدلين، وإذا ظن أن التقليديين والمحافظين أعداؤه فيعتمد على المجددين والتقدميين؛ فالحركة الإسلامية ليست نوعا واحدا ولا اتجاها واحدا. وقد أجادت النظم السياسية هذه اللعبة بالاعتماد على اليسار لضرب اليمين مرة إذا كان الخطر منه، وبالاعتماد على اليمين مرة أخرى لضرب اليسار إذا كان الخطر منه؛ وبالتالي يضعف الجناحان الرئيسيان في الفكر السياسي لصالح القلب. ولا يعادي نظام سياسي الإسلام الديمقراطي الذي يؤمن بالتعددية الحزبية وبالانتخابات البرلمانية إلا إذا كان معاديا للديمقراطية والتعددية السياسية، مزورا للانتخابات لصالح الحزب الحاكم الأوحد، أو ضد الفرق الضالة لصالح الفرقة الناجية. ولا يعادي نظام الإسلام الليبرالي الذي يعترف بحريات التعبير لكل الناس؛ فالكل راد والكل مردود عليه إلا كان معاديا للحرية والليبرالية.
يقوم على القهر والتسلط على المؤسسات السياسية الدستورية والتعليمية والثقافية والإعلامية، ولا يعادي الإسلام العقلاني المستنير الذي يدعو إلى الحوار العقلاني الهادئ إلا إذا كان معاديا للعقل لصالح الخرافة، وضد الاستنارة لصالح الأسطورة، مثل الحكم مدى الحياة والتوريث والزعامة في التاريخ.
وقد يسمح النظام السياسي للمفكر الإسلامي بالدخول بعد طول انتظار منعا للإحراج المحلي والإقليمي والدولي، وكدليل على بعض الحريات العامة في النظام وكرم شيخ القبيلة وأريحية كبير العائلة، أو اختبار المفكر وحسن سلوكه ومدى اتصالاته؛ فعين الدولة في كل مكان، وأجهزة أمنها وشرطتها السرية تحيط بالأماكن التي يتواجد بها الفكر لاستيفاء ملفه وكتابة التقارير عنه وعن نشاطه في محيطه، بعد أن استعصى شراؤه للعمل مع النظام ضد خصومه السياسيين. وقد يسمح نظام سياسي آخر بدخول الكتب ثم بدخول أصحابها طبقا للقاعدة الفقهية؛ اختيار أخف الضررين؛ تفجير العقول أم تفجير المباني، استنارة العقول أم إشعال النار في المؤسسات، حرية الفكر أم الفوضى العارمة، تغيير النظام أم هدم الدولة، الإصلاح التدريجي أم الثورة العارمة؟
وقد يمنع نظام ثالث المفكر من الدخول منذ البداية، ورفض الرد حتى على طلب تأشيرة الدخول لحضوره ندوة أو لقاء أو مؤتمرا علميا؛ عقابا له على مواقفه، ومنعا لتأثيره في عدة قضايا اختارت الدولة أحد الحلول التي تتفق مع الهيمنة والسيطرة، واستبعدت كل الحلول الأخرى التي تقوم على حرية الشعوب وحق تقرير المصير. ففي عام 1948م خلقت بريطانية ثلاث مشاكل طبقا لسياسة «فرق تسد» في فلسطين بتقسيمها، وفي جنوب أفريقية بتأييد الحكم العنصري الأبيض للأقلية ضد الأغلبية الأفريقية، وفي الهند بتقسيمها إلى الهند وباكستان، وخلق منطقة توتر بينهما في كشمير التي من المفروض أن تنضم إلى باكستان طبقا لقرار الأمم المتحدة، الأغلبية الهندوسية في الهند، والأغلبية الإسلامية في باكستان. وكانت الأغلبية في كشمير إسلامية، ومع ذلك ضمتها الهند لثرواتها الطبيعية وموقعها الاستراتيجي.
ورفضت كل قرارات الأمم المتحدة الخاصة بحق تقرير المصير، ورفضت إجراء استفتاء عام في كشمير لمعرفة رأي شعبها إذا أراد الانضمام إلى الهند أو إلى باكستان، أو الاستقلال التام عن الجارتين. وماذا يضير الهند في استقلال كشمير وضم ما يقرب من ثمانين مليونا من المسلمين وقد فاق سكانها المليار، وهي أكبر دولة من حيث تعداد السكان بعد الصين، وتزيد نسبة المسلمين في الهند إلى الضعف، وتضع قنبلة سكانية موقوتة قد تنفجر في المستقبل، خاصة وأن النزاع الطائفي بين الهندوس والمسلمين لم يتوقف بعد؟ وماذا عن الهند ونظامها الديمقراطي الذي تفخر به، ومن مآثر بريطانية العريقة في الديمقراطية؟ انتخاباتها الحرة مشهود لها. وهي دليل على أن الديمقراطية ليست ميراثا غربيا فقط، بل هو تجربة آسيوية أيضا بدليل الهند. وهل تطبق الهند المعيار المزدوج الذي طالما كان نقدا رئيسيا للديمقراطية الغربية؛ الديمقراطية في الهند، واحتلال كشمير، ورفض سؤال أهلها عن مستقبلهم وحقهم في تقرير المصير؟
لقد كان حق تقرير المصير من مكتسبات حركات التحرر الوطني في العالم الثالث، والهند جزء منه، وأصبح قرارا من قرارات الأمم المتحدة، وتم إعلانه في الجزائر في 1973م في «الإعلان العالمي لحقوق الشعوب»، في مقابل «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان». وماذا عن تاريخ الهند ونضالها منذ غاندي ونهرو لحق تقرير المصير؟ هل تتكرر مأساة الاستقلال الوطني مرة ثانية في كشمير بعد أن بدأت في حيدر آباد-الدكن في جنوب وسط الهند التي كانت الأغلبية فيها مسلمة، ثم ضمتها الهند عنوة باسم وحدة الدولة واتصالها؟ وكشمير متصلة مع باكستان، ومع ذلك ضمتها الهند عنوة كما فعلت في الدكن. وماذا عن صداقة غاندي وسعد زغلول، ونهرو وعبد الناصر، وباندونج وبلجراد؟ وأيهما أفضل؛ كشمير صديقة للهند، وباكستان جارة للهند، أم جارتان عدوتان وحرب طاحنة بين المقاومة في كشمير وتأييد شعب باكستان لها، ودماء الشهداء تسيل من الطرفين؟
إن الهند وسط العالم الإسلامي، لم تنعم بوحدتها إلا أثناء الحكم الإسلامي. وإمبراطوريتها، إمبراطورية المغول، من عمل المسلمين. وآثارها، تاج محل، من فن المسلمين. وثقافتها وعلمها وحضارتها من آثار المسلمين. وموقعها الجغرافي في داخل المحيط الإسلامي غربا في إيران، وشرقا في ماليزيا وأندونيسية، وشمالا في أفغانستان وأواسط آسيا، وجنوبا في بحر العرب. وأي سياسية تقوم على الجغرافية والتاريخ تجعل الهند صديقة العرب والمسلمين وليست صديقة لإسرائيل. تلك كانت سياستها في الخمسينيات والستينيات أثناء حركات التحرر الوطني، يكفيها ما يحدث في سيريلانكا والصراع الطائفي هناك. وإذا كانت الهند تخشى من السلاح النووي الباكستاني، فالأولى التحالف مع دول الجوار ونزع أي فتيل للتوتر. ولا تخاف الهند من السلاح النووي الإسرائيلي وبها مائة مليون من المسلمين قادرون على الزحف على القدس لتحرير المسجد الأقصى. وآلاف الهنود المهاجرين في دول الخليج يسعون للرزق، ويعيلون الملايين من فقراء الهنود. مصالح الهند مع العرب والمسلمين، والسلام مع جيرانها أكسب لها من الحرب. يكفيها أنها فصلت باكستان الشرقية عن الغربية في 1971م بالحرب لإضعاف جارتها. وبالهند أكثر من أربعمائة قومية، وتهدد بالتقسيم للقضاء على وحدتها وقوتها بعد تفتيت يوغوسلافية، وتقسيم الوطن العربي بداية بالعراق ثم السودان ثم الخليج ثم المغرب العربي.
إن تجمع الصين والهند والعرب وأندونيسية وباكستان يمثل نصف سكان العالم في عالم التكتلات. وإذا انتهى المنع من الدخول في بلدين إسلاميين، فالأولى إلغاء المنع من الدخول في الهند؛ فكشمير الإسلامية هو رأي مليار وربع من المسلمين. وإذا انتهى النظام العنصري من جنوب أفريقية بقيت فلسطين وكشمير. ويعترف العالم كله بحق تقرير المصير للفلسطينيين وإنشاء الدولة الفلسطينية المستقلة، فماذا عن كشمير؟
بيع نفس عربية
على وزن «بيع نفس بشرية»، الرواية الشهيرة عن الاستغلال الجنسي للخادمات الفلبينيات في الخليج في المشرق العربي، شرق مصر، يحدث أيضا «بيع نفس عربية» في جريمة حقن الممرضات البلغاريات مع طبيبين فلسطيني وبلغاري، حوالي خمسمائة طفل ليبي، بمرض «الإيدز» في المغرب العربي ، غرب مصر. والفرق أنه في الشرق، الشاري عربي، والبضاعة آسيوية. وفي المغرب، البائع عربي، والبضاعة عربية.
ليس هذا تحليلا لأحكام القضاء الذي يبدو أنه قام بدوره، ولا تدخلا في شئون الدول وسياساتها المتقلبة؛ فذاك ما يخص شعوبها ومثقفيها الوطنيين ومفكريها الأحرار، بل الأمر يتعلق بما كثر الحديث عنه منذ أكثر من عشر سنوات باسم «حوار الحضارات»، أو حوار الثقافات، أو حوار «الشمال والجنوب»، أو «أوروبة والإسلام». وهو أيضا دفاع عن الثقافة العربية، واحترام الحياة فيها من أجل تغيير الصورة النمطية في الغرب عن العرب؛ أنهم أجساد بلا أرواح، أبدان بلا عقول، قبائل وطوائف بلا إنسان. قد يهزم العرب عسكريا، وقد يعجزون سياسيا، ولكنهم يظلون حاملين لثقافة أثرت في ثقافات العالم، وما زالت موضع عزة وافتخار.
وإن من مظاهر الأزمة العربية الراهنة اختلاط كل شيء بكل شيء؛ النصر والهزيمة، المقاومة والإرهاب، الواقعية والاستسلام، الشرعية والصورية، الحق والباطل، الاستقلال والتبعية، الاستقرار والطوارئ، الأمن والشرطة، القيمة والتجارة، المبدأ والسياسة. وكانت أحد مقومات النهضة توضيح هذا الخلط، والكشف عما يدور في الواقع من تداخل واختلاط الحابل بالنابل، حتى لم يعد يعرف العربي من الصديق ومن العدو، أين المنفعة وأين الضرر.
إن ما حدث من حقن أطفال بمرض «الإيدز» من ممرضات بلغاريات وطبيب بلغاري، ليس فقط جريمة في حق الأطفال أو في حق البشرية، بل هي جريمة ثقافية في رؤية الأوروبيين في شمال البحر الأبيض المتوسط لغيرهم، خاصة العرب والمسلمين في جنوبه، استمرارا لرؤيتهم للأتراك في العصر العثماني، القسوة والتعصب والقهر. وما زالت الرؤية مستمرة حتى الآن في الإرهاب والعنف والتخلف والتسلط، وخرق حقوق الإنسان والمرأة والطفل والشيخ والأقليات. وطالما استمرت العنصرية العرقية والمركزية الثقافية داء دفينا في الوعي الغربي، سيظل مستعمرا غيره، كارها ثقافته، نافيا وجوده الجسدي والحضاري؛ لذلك يناصب الغرب الإسلام العداء في أوروبة الشرقية. أوروبة مسلمة! ويعارض دخول تركية إلى الاتحاد الأوروبي بذرائع واهية اقتصادية وسياسية، والحقيقة برفض حضاري لثقافة مغايرة، وقد كانت يوما تسيطر على أوروبة الشرقية على مدى خمسة قرون . وهو موقف عام يظهر في نتوءات فاقعة بين الحين والآخر، خاصة في اليمين الأوروبي؛ برلسكوني وفالاتشي في إيطاليا، برنار لويس في إنكلترة وأمريكة، لوبين في فرنسة، بوش والمحافظون الجدد في الولايات المتحدة. لا فرق في ذلك بين ممرض وطبيب، بين ثقافة العامة وثقافة الخاصة اللتين تجمعهما الثقافة الإعلامية الحديثة، والإرث التاريخي الطويل. وقد يجمع البلغاري والفلسطيني هم الرزق، ولقمة العيش، وجمع المال، والعمل في بلاد النفط، والتضحية بكل ما هو إنساني في سبيل المال. وقد تعود الفلسطيني المهاجر على ذلك؛ غدرا بأخيه من أجل سوق العمل بعد أن هجر وطنه، وأخذ جنسية بديلة تحميه من غائلة العرب وهوس الحاضر وذاكرة التاريخ.
الآخر شيء للبيع والشراء كما بيع الرقيق الأفريقي في أسواق الولايات المتحدة، منذ خمسة قرون وما زال مستمرا حتى الآن. استضعاف طفل من ثقافة تفخر بأنها هي التي صاغت «الإعلان العالمي لحقوق الطفل»، تهبه الموت كما وهبته قوى الاستعمار لشعوب بأكملها استئصالا في أمريكة واستراليا، واستعبادا لكل الشعوب التاريخية القديمة في كل أرجاء أفريقية وآسيا وأمريكة اللاتينية، والوسيلة الحقن بفيروس «الإيدز» الذي لا علاج له حتى يصبح الموت قدرا محققا لخمسمائة طفل، جيلا بأكمله يورث من بقي منهم على قيد الحياة المرض لجيل لاحق. وينتشر المرض بوسائل أخرى من الأوروبيين الشاذين جنسيا عن طريق اتصالهم بالأطفال، وإغراء الفقراء منهم بالمال والحلوى أو المبيدات المسرطنة، وهو ما تفعله إسرائيل في الزراعة المصرية.
ودون افتراض أن يكون القضاء تمثيلية احتراما لسلطته واستقلاله، فقد أحسن القضاة صنعا بإصدار حكم الإعدام على الممرضات البلغاريات والطبيبين البلغاري والفلسطيني بدرجتيه، الأولى والثانية، العادي والاستئناف، تطبيقا للقصاص؛ فمن قتل نفسا واحدة فكأنما قتل الناس جميعا في كل الشرائع السماوية والقوانين الوضعية. ولا سلطة أعلى من سلطة القضاء، إلا أن لجنة أخرى موجهة سياسيا تعمل الإرادة السياسية من ورائها، والقضاء مجرد غطاء شرعي، خففت الحكم إلى السجن المؤبد، خمسة وعشرين عاما. ولو أن ذلك قد تم في بلد لا يسن به قانون القصاص مثل بعض البلاد الأوروبية التي تعتبر «الإعدام» ليس حلا، ولا يحيي الموتى، وخرقا لحقوق الإنسان، فالحياة حق طبيعي، ولا يمكن تصحيح خطأ وهو القتل بخطأ آخر وهو الإعدام، فمجموع الخطأين لا يكون صوابا، لكان الأمر مفهوما، ولكن إلغاء عقوبة الإعدام تم في ثقافة بها القصاص
ولكم في القصاص حياة (البقرة: 179)، وقد توفي ما يقرب من خمسين طفلا، بل في نظام سياسي يبيح التصفية الجسدية لخصومه السياسيين. واكتملت التمثيلية بدخول أهالي الأطفال الشهداء على الخطأ، وقيامهم بمظاهرات تطالب بالقصاص، وعبروا عن فرحتهم بإعدام القتلة، وهم أنفسهم الذين عبروا عن الفرحة بقبول التعويض وإنهاء الموضوع سلميا بعد تدخل مؤسسة خيرية على الخط، تقوم بدور الوسيط بين الضحية والجلاد لتعظيم دورها، واستعدادا للتوريث على الصعيدين الداخلي والخارجي.
كانت قيمة صفقة بيع النفس العربية مليون دولار لكل طفل، ومجموعها أربعمائة وخمسين مليونا لخمسين طفلا، وهو أقل من ضخة نفط في يوم واحد. وفرحت الأسرة ببيع طفلها، تنعم برغد العيش بثمن دمه، وفرحت أسرة أخرى بعلاج طفلها على نفقة القاتل مدى الحياة، وكسبت الدولة تحديث مستشفياتها بأطباء أوروبيين، وكأن الطب العربي المشهود له قديما وحديثا عاجز عن القيام بواجبه. ونجح النظام السياسي في فك الحصار عنه، وشطبه من قائمة الإرهاب، وزيادة التبادل التجاري بينه وبين الاتحاد الأوروبي، وتسهيلات تأشيرات الدخول لكل من الطرفين لدى الطرف الآخر، وزيادة البعثات الطلابية للدراسة في الغرب، وعودة العلاقات مع الغرب إلى مستواها الطبيعي، بدلا من تكرار غزوها في 1986م من القوات الأمريكية، وبدلا من الترصد لباقي القادة العرب أسوة بصدام وحبل المشنقة حول عنق رئيس عربي. وكلها في النهاية وعود قد لا تتحقق بمجرد الإفراج عن الرعايا البلغار.
وكسبت فرنسة، ورئيسها الجديد في حاجة إلى دور يلعبه في الحوار الوطني بين الخصماء في الوطن في لبنان، وفي الإفراج عن الممرضات البلغاريات ورفيقهن، وفرنسة هي التي صاغت «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواطن» أثناء الثورة الفرنسية. والسيدة حرمه تقوم بدور السيدة الأولى في رعاية الشئون الاجتماعية والخدمات الإنسانية والمشروعات الثقافية، كما هو الحال في معظم البلدان العربية. وفرنسة هي التي رفضت حتى الآن الاعتذار للجزائر عن جرائم الحقبة الاستعمارية الفرنسية والمليون شهيد، وهي التي تسعى إلى إقامة محكمة دولية لقتلة رفيق الحريري، وتترك عشرات الآلاف من السجناء الفلسطينيين في سجون إسرائيل. ودخلت دولة عربية صغرى على الخط لتساعد دولة عظمى، وتقوم بدور مصر المستمر في لم الشمل العربي محليا ودوليا.
ووصل الجناة الأبطال إلى صوفية، واستقبلوا بالورود والرياحين والدموع الإنسانية تنهمر من عيون القادمين والمستقبلين، وكأنهم أبطال عادوا منتصرين في الحرب ضد العرب. وفي نفس اللحظة، وبدلا من أن يقضوا الحكم المؤبد بسجون وطن الشهداء، وهو لا تنقصه السجون ولا المسجونون ولا السجانون، وبدلا من أن يقضوا المدة في أوطانهم وقد عرفت يوما بأنها أيضا تغص بالمسجونين السياسيين، واحتراما لأحكام القضاء، فإن الرئيس البلغاري أصدر حكما بالعفو عن القتلة، فيضيع دم الأطفال هباء، وتنتهي التمثيلية التي دامت تسع سنوات؛ فالغرب هو الغرب، والشرق هو الشرق. أوروبة هي أوروبة، والعرب هم العرب؛ تأكيدا على الصور النمطية التي تراكمت عبر التاريخ، وما زالت مستمرة في الحاضر والمستقبل.
ويظهر المعيار المزدوج الشهير في سلوك الغرب. يقيم الدنيا ويقعدها من أجل الممرضات البلغار والطبيب البلغاري وآلاف المعتقلين السياسيين في سجون إسرائيل، ومئات الشهداء من القصف الإسرائيلي، وملايين الأطفال العراقيين استشهدوا من جراء الحصار والقصف الأمريكي دون أن يحرك الغرب ساكنا، لا رئيس الجمهورية الفرنسية ولا أحد من المؤسسات الخيرية العربية أو الغربية، ولا دولة عربية صغرى أم كبرى. ولو قامت ممرضات وأطباء عرب بالقيام بنفس الجريمة التي قامت بها الممرضات البلغار في أطفال غربيين أو إسرائيليين انتقاما من حقبة استعمارية ما زالت مستمرة، لقامت الدنيا وقعدت ضد المجرمين العرب وثقافتهم اللاإنسانية. وقد غزت إسرائيل دولة بأكملها، لبنان، لتحرير ستة من أسرى الحرب الإسرائيليين، ولديها عشرة آلاف من السجناء الفلسطينيين.
دولة تبيع مواطنيها، وتتاجر بأطفالها لتحمي نظامها، وهي دولة مبادئ وأيديولوجيات قومية أولا وأفريقية ثانيا. اشتراكية أولا، وتعطي إشارات بالخصخصة والعولمة والرأسمالية ثانيا أسوة بغيرها. ولماذا تختلف الشقيقة الصغرى عن الشقيقة الكبرى؟ وبيع نفس عربية بالعشرات أقل بكثير من بيع نفس عربية أو إسلامية بالآلاف في فلسطين والعراق والشيشان وكشمير والسودان وتشاد ومالي أو في باكستان.
قد يغضب الإخوة الليبيون، ولكن ليبيا بالنسبة لجيلي هي السنوسية وعمر المختار. ليبيا ثورة الفاتح في 1969م لا الثورة المضادة. ليبيا القومية العربية لا المهادنة للغرب. ليبيا المبدأ لا المساومة. ليبيا التاريخ لا خارج التاريخ.
السلاح أم الحوار؟
4
إن حالة الاستقطاب الشديد لا تميز فقط الوطن العربي بين إسلاميين وعلمانيين، في فلسطين بين حماس وفتح، وفي الجزائر بين جبهة الإنقاذ الوطني والدولة، وفي الصومال بين المحاكم الشرعية والنظام السياسي المستعاد باسم الدولة، وفي السودان بين الشمال والجنوب، وبين الشمال والغرب، وفي اليمن بين الحوثيين والدولة، بل أيضا في العالم الإسلامي خاصة في باكستان كما دل على ذلك المواجهة الأخيرة بين قوات الجيش وطلاب الجامع الأحمر في إسلام آباد هذا الشهر. وتسيل دماء العرب والمسلمين كل يوم، مقاتلين وأبرياء، دينيين ومدنيين، حتى أصبح الدم العربي الإسلامي رخيصا يسفكه أعداء الأمة في فلسطين والعراق والشيشان وكشمير. وخطورة الاستقطاب هو الوقوع في ثنائية متعارضة بين طرفين، يستبعد كل منهما الآخر، ثنائية الحق والباطل، والصواب والخطأ، والإيمان والكفر. لا يبقى طرف إلا بالقضاء على الآخر، في الفكر وفي الواقع، في الذهن وفي السلطة؛ فالفرقة الناجية واحدة بالرغم من تعدد الفرق، وأن اختلاف الأئمة رحمة بينهم، وأهمية التعددية الفكرية والسياسية.
ولكل فريق من المتخاصمين المتحاربين من الإخوة الأعداء أخطاؤه، ومجموع الخطأين لا يكون صوابا، والاختيار بينهما يزيد من كب الزيت على النار، وشق الصف الوطني، وسفك الدماء، وشبح الحرب الأهلية. وهو منطق «إما ... أو ...» الذي ساد معظم الديانات الآسيوية، المانوية والهندوكية والزرادشتية، ودين الصين القديم قبل كونفوشيوس، وأصلتها الغنوصية التي دخلت معظم ديانات الوحي، خاصة المسيحية في التقابل بين ملكوت السموات وملكوت الأرض، ومقتضيات الروح ومتطلبات البدن، وفي الإسلام في تقابل مشابه بين الدنيا والآخرة، بين الملاك والشيطان.
والتعارض بين الفريقين ليس فقط كما يبدو في الظاهر صراع سلطة ، بل هو صراع ثقافي بين رؤيتين متباينتين «إما ... أو ...» بين منهجين وأسلوبين في الحياة، لا حل له إلا بالحوار والتكامل، وتصحيح أخطاء كل فريق بمميزات الفريق الآخر من أجل الوصول إلى الطريق الثالث الذي اشتقته تركية ممثلة في «حزب العدالة والتنمية»، وماليزيا ممثلة في حزب «الآمنو». وهو ما تسعى إليه جميع حركات التجديد والإصلاح في المغرب في حزب العدالة والتنمية، وليس بإقصاء الإسلاميين كما هو الحال في مصر وليبيا وتونس والجزائر، أو بإقصاء العلمانيين كما هو الحال في السعودية والإمارات وعمان. وما زال الوضع متوترا في اليمن والكويت والأردن.
ويتمثل خطأ الإسلاميين في الآتي: (1)
جعل المسجد دولة داخل دولة، وسلطة داخل سلطة، وحكومة داخل حكومة، وهو ما لا يقبله أي نظام سياسي، دكتاتوري أو ديمقراطي، رأسمالي أو اشتراكي. صحيح أن هناك سلطات عديدة داخل الدول قد تتناحر فيما بينها؛ بين السلطة القضائية من ناحية، والسلطتين التشريعية والتنفيذية من ناحية أخرى كما هو الحال في مصر. وقد تكون هناك سلطتان في الدولة؛ السلطة العسكرية والسلطة المدنية كما هو الحال في تركية، ولكن هذه الازدواجية في السلطة لا تصل إلى حد الصراع العلني المفتوح وشق الصف الوطني. (2)
صحيح أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب شرعي على العلماء؛ فالدين النصيحة. وهي الحسبة؛ الوظيفة الرئيسية للحكومة الإسلامية كما قرر ابن تيمية وابن القيم، وهي وظيفة مشروطة بأن تكون من العلماء وليس من الطلاب، متفقا عليها بينهم وليس عليها اختلاف، وبالحسنى وليس بالعنف، ودون أن تأتي بمنكر أعظم من المنكر الذي تنهى عنه، ودون ملء المسجد بالسلاح، ووضع النساء والأطفال والشيوخ في أتون المعركة. ومن الأفضل أن يكون النصح جماعيا
ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر (آل عمران: 104)، وليس نصحا فرديا أو لمجموعة صغيرة مذهبية أو عرقية مثل «جبهة علماء المسلمين».
لذلك قدم الإجماع على الاجتهاد في ترتيب مصادر الشرع الأربعة. وهناك عشرات الآلاف من المساجد مثل «المسجد الأحمر»، والحركة الإسلامية ممثلة في البرلمان. وكان يمكن القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلاله، وبالوسائل الديمقراطية الشرعية، والكتابة بالصحف، وحشد الرأي العام، وليس بالسلاح، بصرف النظر عن البادئ بالعنف؛ لذلك اقترح بعض علماء الأمة، ومنهم الإمام الخميني، وكرد فعل على استعمال العنف ، إعادة ترتيب الوسائل الثلاثة للتغيير في الحديث الشهير، بالقلب ثم باللسان ثم باليد. وهي الطرق المتبعة في مقاومة الحاكم الظالم، بالنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في خطب المساجد أولا؛ فإن لم يرعو الحاكم يتم اللجوء إلى قاضي القضاة الذي يعينه الحاكم ولكنه لا يستطيع أن يعزله حرصا على استقلاله؛ فإن لم يسمع لحكم القضاء ثار الناس عليه بقيادة العلماء وقاضي القضاة لعزله. ولا يمكن اختزال المراحل التدريجية الثلاث في مرحلة واحدة، وهي المرحلة الأخيرة، والقفز فوق المرحلتين الأولى والثانية. (3)
وفي المجتمعات الإسلامية في جنوب شرق آسيا تتنوع التركيبة السكانية والقبلية، وتتعدد المعتقدات الدينية والطوائف والمذاهب؛ فهناك البلوشي والباشتون، والسنة والشيعة، والهنود والصينيون والملاويون. وطبقا للشريعة الإسلامية، كل طائفة تحكم بشريعتها مثل أهل الذمة، النصارى واليهود، وأضاف الفقهاء المجوس والصابئة، بل وعبدة الأوثان. وإذا أراق المسلم خمر الذمي وجبت عليه الدية أو التعويض؛ فلا تطبق الشريعة الإسلامية إلا على المسلمين. والحفاظ على وحدة الأوطان، مثل السودان، مقدم على تطبيق الشريعة الإسلامية على الجنوب؛ ومن ثم يخطئ من يمارس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا ما طبقه على غير المسلمين، مثل الصينيين الذين يقومون بالحمامات التركية والتدليك، أو ما يسمى بالحمام التركي المنتشر في جنوب شرق آسيا. واحترام العادات والتقاليد والأعراف لغير المسلمين جزء من الشريعة الإسلامية، «من آذى ذميا فقد آذاني.» (4)
والخطورة أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مجرد ذريعة للصراع على السلطة، وممارسة المعارضة السياسية، والمسجد ليس مكانها. المسجد للحوار وليس للصراع، للنصيحة
وجادلهم بالتي هي أحسن (النحل: 125) وليس للقتال. المسجد سلطة معنوية وليس سلطة سياسية، حام للقيم الإسلامية وليس منفذا لها بالقوة كما يفعل المطوفون بالعصي لستر الأعقاب بعد النظر إلى السيقان. الصراع السياسي مكانه صناديق الاقتراع وأجهزة الإعلام والانتخابات الديمقراطية.
ويخطئ الفريق الآخر ، الدولة بأجهزتها، الرياسة والجيش والشرطة وكل أجهزة الأمن للآتي:
عدم الاستماع للنصيحة، والاستجابة لواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومواجهة الرأي بالرأي، والحجة بالحجة، والبرهان بالبرهان، وليس بالسلاح والحصار والمواجهة والقتل ورفض الحوار والوساطة وإظهار حق الدولة على حساب قوة المجتمع؛ فالمسجد في الإسلام له مكانته ودوره التعليمي والرقابي على المجتمع. ومواجهة الدولة مع المسجد هو السيطرة الكاملة للدولة على المجتمع المدني.
استعمال الجيش في المعارك الداخلية مع الشرطة وأجهزة الأمن. وظيفة الجيش الدفاع عن أمن البلاد ضد المخاطر الخارجية، وليس الدفاع عن النظام السياسي ضد معارضيه. الجيش مؤسسة مستقلة في البلاد، وليست أداة للنظام السياسي لاستتباب الأمن وإقرار النظام؛ فإذا ما تحول الجيش عن وظيفته، وأصبح أداة قمع في الداخل، قتل الأب ابنه والابن أبيه، والأخ أخاه وأخته في ثقافة قبلية ما زال الثأر فيها ممارسة شعبية، فيقتل الأبرياء من الطرفين. وكلاهما ضحايا النظام السياسي الذي يجعل المواطن يقتل المواطن، ويؤجج الاقتتال بين المواطنين. وقد يصل الأمر إلى الحرب الأهلية عندما ينقسم الشعب، كل قسم مع أحد الفريقين المتحاربين.
جعل رئيس الدولة نفسه رئيسا للسلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية؛ فهو رئيس الجيش، ورئيس الشرطة، ورئيس أجهزة الأمن، وهو الذي يشرع ويسمح بمرور الطائرات الأمريكية فوق أراضيها للعدوان على أفغانستان وضربها من بحارها كما تفعل بعض البلدان العربية. له سلطات مطلقة في الحرب والسلم بالرغم من البرلمان المنتخب وممثلي الشعب. يتبع سياسة الولايات المتحدة الأمريكية وما تمليه عليه بحجة محاربة الإرهاب، ومقاومة طالبان باكستان، والوقوف في مواجهة الحركات الإسلامية. وهو أعلى من السلطة القضائية بطرده رئيس المحكمة العليا، ثم إعادته لتخفيف التوتر بينه وبين المعارضة، وكسب ود الليبراليين ضد الإسلاميين.
التحرش بالقبائل على الحدود الطويلة الممتدة بين باكستان وأفغانستان، وهي قبائل واحدة على الحدود المصطنعة التي وضعها الاستعمار. وقد كانت القبائل عبر تاريخها هي الجانب المعنوي في حياة الأفغان والباكستانيين، ومعاداة الداخل وموالاة الخارج. والإسلام هو القوة السياسية الأولى في باكستان، وتيار شعبي عارم. لا يعاديه أحد، بل يحاوره بجوار التيارات الليبرالية النخبوية الضعيفة. كان يمكن تكوين جبهة وطنية عريضة حول حقوق شعب كشمير، والنووي الباكستاني في مواجهة الخطر النووي الإسرائيلي، وتحييد النووي الهندي، وتكوين كومنولث إسلامي آسيوي إقليمي يضم كل الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى مع إيران وماليزيا وأندونيسية لمواجهة قوى الاستعمار الجديد والهيمنة الأمريكية. الحوار مع الشعب وليس المواجهة معه، وفي الداخل ضد الخارج
أشداء على الكفار رحماء بينهم (الفتح: 29)؛ دفاعا عن التعددية السياسية والحوار الوطني للوصول إلى برنامج وطني عام يوافق عليه الجميع.
الحوار وليس السلاح هو الحل بين الدولة وخصومها، بين النظام السياسي والحركات الإسلامية من أجل إيجاد طريق ثالث يجمع بين القديم والجديد، بين الدولة والشعب، بين الجيش والأمة؛ حتى تتحول الدولة والنظام السياسي من القهر إلى الحرية، وحتى تتحول الحركات الإسلامية من المحافظة إلى التجديد. وطريق تركية وماليزيا وأندونيسية وموريتانية ممهد للجميع.
الأقوال والأفعال
5
تاريخ القضية الفلسطينية هو تاريخ الأقوال والأفعال. الأقوال من العرب عن العدوان والاستيطان الإسرائيلي والتأييد الأمريكي المطلق للكيان الصهيوني. أما الأفعال فهو الاعتراف والمفاوضة والصلح (وداوني بالتي كانت هي الداء). والأفعال من العدو الإسرائيلي، العدوان اليومي منذ نشأته حتى احتلال كل فلسطين وإقامة الجدار العازل. أما الأقوال فحديث عن السلام والأمن وإقامة دولتين تعيشان جنبا إلى جنب، والتفاوض مع المعتدلين، واستبعاد الإرهابيين.
فمنذ النكبة في 1948م ورفض العرب قرار التقسيم بالفعل، يستمر العرب في الرفض القولي، وتستمر إسرائيل في الاستيلاء على ما يتجاوز التقسيم في النقب حتى قرية أم الرشراش التي أصبحت إيلات، منفذ إسرائيل الوحيد على البحر الأحمر، وطريق التجارة البحرية إلى آسيا عبر المضايق العربية في تيران وباب المندب، وتهديد الأمن القومي العربي في البحر الأحمر الذي كان إلى عهد قريب بحيرة عربية بين مصر والأردن والسعودية واليمن والسودان وجيبوتي.
منذ انسحاب إسرائيل من شبه جزيرة سيناء بعد العدوان الثلاثي على مصر في 1956م، واحتفال مصر بعيد تحرير سيناء، إلا أن قوات الأمم المتحدة ما زالت موجودة في مضايق تيران. نحتفل بالقول، وإسرائيل تحتل بالفعل. وبعد عدوان 1967م الذي كان سببه الرئيسي سحب قوات الأمم المتحدة من المضايق وغلق مدخل الخليج، قبلنا قراري 242، وقرار 338، الداعيين لانسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة، وإسرائيل تبني المستوطنات وتبتلع أراضي غزة والضفة الغربية. وقبل العرب مشروع روجرز، ورفعوا شعار «إزالة آثار العدوان» وليس تحرير فلسطين، كل فلسطين من البحر إلى النهر، وإسرائيل تستوطن وتضم الأراضي المحتلة.
وفي حرب تشرين (أكتوبر) 1973م تحول العرب إلى الفعل الصامت فأنجزوا العبور العظيم، ثم سرعان ما تحول إلى أقوال: «حرب أكتوبر آخر الحروب»، «السلام خيار استراتيجي». وفي نفس الوقت الذي تقوم فيه إسرائيل بالفعل بالتركيز على بناء المستوطنات وتوسيعها، وإحضار ما يقرب من مليون يهودي روسي مهاجر في موجة ثانية بعد الموجة الأولى في 1948م من اليهود العرب، تعترف مصر بإسرائيل، وتفاوض المحتل، وتصالحه في كامب ديفيد الأولى في 1978م، وفي معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في 1979م. وندعي أننا نعمل على تحرير باقي الأراضي المحتلة في فلسطين وسورية بالقول، ونتبادل السفراء مع إسرائيل، وتطبع الحكومة المصرية معها سرا بالفعل.
وبعد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى والثانية، وفرض المقاومة الفلسطينية وجودها على الساحة السياسية، بدأت الولايات المتحدة تبيع الأقوال: خارطة الطريق، الدولتان، الانسحاب من معظم الأراضي المحتلة، القدس الشرقية. وقد عبرت ورقة كلينتون عن ذلك أولا بعد كامب ديفيد الثانية بين منظمة التحرير وإسرائيل، بعد الاعتراف المتبادل بينهما. ومن ذلك الوقت يرفض العرب قولا كل مشاريع التسوية المقدمة من إسرائيل، غزة أولا، أريحا أولا، الخيار الأردني، ومن الولايات المتحدة الأمريكية يقبلون خارطة الطريق أخيرا التي تبيع الأقوال والآمال. أما الأفعال فالتأييد المطلق لإسرائيل للغزو والعدوان والقتل والتدمير بدعوى دفاع إسرائيل عن حقها في الوجود والأمن ضد الإرهاب الفلسطيني والدولي الإسلامي ممثلا في تنظيم القاعدة. وأخيرا جاءت «مبادرة السلام العربية» لتؤكد مقررات مدريد وأوسلو، الأرض في مقابل السلام، الانسحاب الكامل من الأراضي العربية المحتلة في مقابل التطبيع الكامل مع إسرائيل. وأعلنتها السعودية بما لها من ثقل اقتصادي وديني. وإسرائيل بالأفعال ترفض وتعتدي وتحتل وتغتال وتدمر وتقتل وتطارد.
والعرب يرفضون العدوان الإسرائيلي المتجدد بالقول، ويتصالحون معها، ويطبعون ويتاجرون وينسقون أمنيا معها. ويدينون العرب تأييد الولايات المتحدة إسرائيل بالمال والسلاح وفي المنظمات الدولية. وفي نفس الوقت تتبع النظم العربية سياسات الولايات المتحدة، ويأتمرون بمؤتمراتها ضد الإرهاب، وتجميع المعتدلين ضد المتطرفين، ويؤيدون الغزو الأمريكي للعراق وأفغانستان، ويعادون إيران، ملكيون أكثر من الملك.
ويتكرر الأمر ذاته في مؤتمر الخريف القادم، يبيعون الأقوال على حذر، الدولة الفلسطينية الموعودة، وبالأفعال تعقد أمريكة مع إسرائيل صفقة بثلاثين مليار دولار على مدى عشر سنوات قادمة، معونات عسكرية واقتصادية. وتحاصر حماس وترفض التعاون معها بالرغم من أنها أتت إلى السلطة بانتخاب ديمقراطي شرعي. يأخذون باليمين ما يعطونه باليسار. وظيفة المؤتمر القادم مجرد اكتشاف آفاق للسلام، وضع مبادئ عامة وضعت من قبل في مدريد وأوسلو، إيجاد إطار عام، عدم الدخول في التفاصيل أو التعرض للقضايا الجوهرية، القدس واللاجئين والحدود وحق العودة. يقدمون الأقوال دون الأفعال. يبيعون لنا التزاما بتعبير أحد الكتاب النابهين.
وإسرائيل تقبل على مضض فكرة المؤتمر الدولي. وهو ليس مؤتمرا، بل لقاء لتفريغه من مضمونه الدولي الإلزامي. تتحدث عن السلام والتسوية وضرورة المفاوضات المباشرة، ولكنها لا تجد الشريك الفلسطيني. وإن وجدت فمن اختيارها، السلطة الوطنية الفلسطينية، ممثلة في رئيسها، وليس الإرهابيين الذين يودون تدمير إسرائيل ولا يعترفون بوجودها. تتحدث عن الدولتين، وتقيم جدار الفصل العنصري، وتوسع المستوطنات، وتعتدي يوميا على غزة، وتداهم المدن الفلسطينية، تهدم المنازل، وتغتال النشطاء، وتعتقل المطلوبين، وتضع مئات الحواجز في الضفة لتقطيع أوصالها، ومنع الشعب الفلسطيني من التحرك على أرضه. وتستعد للحرب ضد سورية وإيران ولبنان لإنهاء ما تبقى من مقاومة عربية وإسلامية لإرادتها وإرادة الولايات المتحدة الأمريكية.
وأحد أسباب هذا الخلف بين الأقوال والأفعال هو الموروث الثقافي؛ فالقول لدينا مكتف بذاته، والخطاب له أثر سحري، الخطاب الديني أو الخطاب السياسي. يفرج الكرب، ويخفف الهم، ويريح النفس، ويحل المشاكل، ويقضي الأزمات. واللغة العربية وسحر الكلمات يساعد على ذلك. وقد نبه القرآن العرب على ذلك، وعاتبهم بأنهم يقولون ما لا يفعلون
يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون (الصف: 2-3)، ويصفهم بأنهم
يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم (آل عمران: 167)، ويحكم على الأعراب بأنهم أهل كفر ونفاق ورياء.
وفي المقابل سيطرت البرجماتية على الفكر الغربي . وهي تعطي الأولوية للفعل على القول، والعمل على النظر. وصدق الفكر ليس في صدقه النظري المنطقي، اتفاق المقدمات مع النتائج، بل في إمكانية تحقيقه العملي وأثره الفعلي في الواقع وبين الناس.
شيء واحد يتم تحقيقه خير من عشرة أشياء يتم التنظير لها. وهو أقرب إلى الموقف الإسلامي في أولوية العمل على النظر
وقل اعملوا (التوبة: 105)،
يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل (هود: 93)،
فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض (الرعد: 17).
قد تكون الأقوال دون الأفعال هي حيلة العاجز عن فعل شيء. فيتحرك عن طريق اللسان، ويناضل بالكلام، ويصول ويجول على مستوى الأقوال. وهو ما عرف باسم الخطاب السياسي العربي الذي يهدف إلى الاستهلاك المحلي وامتصاص غضب الجماهير، وهو امتداد للخطاب الديني التقليدي، «أسمع كلامك يعجبني، أشوف أفعالك أستعجب»، أو «خد من كلام الشيخ ولا تأخذ من أفعاله». أما القوي بالفعل القادر على فعل فلا يحتاج إلى قول. الفعل قوله، والصمت لغة لا يحسنها العرب. وقد وصل الأمر إلى حد اعتبار أحد المستشرقين العرب ظاهرة صوتية. والله متكلم مع أن كلام الله فعل
كن فيكون (النحل: 40)، والقرآن كلام، ولكنه دعوة إلى الفعل
وقل اعملوا . وقد غير جوته أول آية في إنجيل يوحنا «في البدء كانت الكلمة»، إلى «في البدء كان الفعل».
فمتى تتغير بنية الثقافة العربية، وتتحول من القول إلى الفعل، ومن الكلام إلى التحقيق، ومن اللغو إلى الصمت، كما نظم الشاعر العربي:
والفدائي وحده يكتب الشعر
وكل الذي كتبنا هراء
العصا
6
الحياة رموز، والدين والسياسة والثقافة رموز، والأشكال الأدبية كلها رموز. يعيش الإنسان في عالم من الرموز، ومهمته فك الشفرة ومعرفة دلالات الرموز. ضاقت الحياة بالعبارة؛ فكلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة، كما لاحظ النفري، فتحولت إلى حروف، والحروف إلى أرقام، حتى أصبحت الأرقام (الديجيتال) سمة العصر.
وتؤثر هذه الرموز في اللاوعي الديني والسياسي والثقافي وتنبثق منه، وتحليلها جزء من الأنثروبولوجيا الثقافية وسبر أغوار النفس. ولما كنا بعد عدة تجارب سياسية على مدى قرنين من الزمان ، منذ محمد علي حتى عبد الناصر، نحاول بناء الأوطان، وتعثرت محاولاتنا عدة مرات بتكالب الغرب على محمد علي وإنهاء مشروعه، وتكالبه مرة ثانية، الاستعمار والصهيونية، للقضاء على عبد الناصر الذي أراد استئناف المشروع الأول؛ نهضة مصر من أجل القضاء على استقلال مصر وتفردها في محيطها.
ومن ضمن هذه الرموز العلم الوطني الذي يعكس بؤرة الحياة الدينية والجغرافية والسياسية. العلم الكوري في وسطه الدائرة المنقسمة إلى أنصاف دائرة، الرمز البوذي. والعلم السويسري والبريطاني وسطه الصليب رمزا للمسيحية، أو الصليب المعقوف رمزا للنازية. والعلم التركي والمصري قبل الثورة وسطه الهلال والنجوم رمزا للشهور العربية والانتماء الإسلامي. وقد يكون الرمز جغرافية، مثل شجرة الأرز في علم لبنان، وورقة الشجر في العلم الكندي. وقد يكون سياسيا مثل المطرقة والسندان في العلم الروسي والصيني للدلالة على ثورة العمال والفلاحين. وقد يكون النجوم التي ترمز إلى الوحدات السياسية، الولايات، في الدول الاتحادية، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، أو تجارب الوحدة في الوطن العربي، الجمهورية العربية المتحدة، نجمتان، والوحدة الثلاثية بين مصر وسورية والعراق، ثلاثة نجوم. وما زال القوميون يأملون في علم عربي واحد به اثنتان وعشرون نجمة.
وقد تغني الألوان عن الرسوم والأشكال منذ الثورة الفرنسية في العلم المثلث الألوان الشهير، الأحمر والأزرق والأبيض بالطول في فرنسة، وبالعرض في إيطاليا. وقد يضاف إليها الأسود علامة على العهد البائد في ألمانية. وقد تكون أرضيته حمراء إيثارا للثورة على غيرها مثل العلم الصيني والروسي، أو التحرر الوطني مثل العلم المغربي. وقد تكون الأرضية خضراء رمزا للزراعة والأرض الخضراء في تركية ومصر قبل الثورة. وقد تجتمع عدة ألوان؛ الأسود رمزا للعهد البائد، والأحمر رمزا للثورة، والأبيض رمزا للسلام.
وقد توضع رموز القوة مثل السيف والصحراء والقبيلة في علم المملكة العربية السعودية مع الكلام، عبقرية العرب التي تجلت في الشعر، ثم ورثها الوحي «لا إله إلا الله، محمد رسول الله». وفي الصراع السياسي يستبدل كلام بكلام مع تعدد الألوان الثلاثية، وعليها «الله أكبر» توظيفا للدين في الحرب، كما هو الحال في العلم العراقي بعد حربي الخليج الأولى والثانية استنهاضا للدين ضد إيران والخليج، ضد الشيعة والسنة على حد سواء. أما صقر قريش فهم مخفوض الجناحين، وليس كالنسر الأمريكي الفارد الجناحين ليضم العالم كله شرقا وغربا. وعديد من البلدان الشمالية والأمم المتحدة تستعمل اللون الأزرق رمزا على زرقة السماء وصفاء الروح وكتائب حفظ السلام (القبعات الزرق).
وقد يوضع في بعض الشعارات السياسية المصحف مع السيفين دليلا على القوة المستندة إلى الكتاب. والخطورة أن تكون هناك قوة تستمد من الكتاب شرعيتها دون رقابة من الكتاب عليها. الخطورة أن يتحول الكتاب إلى مصدر للعقوبات باسم تطبيق الشريعة، والوقوع في النصية والحرفية دون الواقع ومصالح الناس، «واحتمى أبوك بالنصوص، فدخل اللصوص.» الخطورة أن يرمز الكتاب إلى التقاليد والعلم المكتوب؛ فالعلم ليس في كتاب، بل في قدرة العقل على فهم قوانين الطبيعة واستقراء قوانين التاريخ، قيام المجتمعات وسقوطها، العلم الطبيعي والعلم الإنساني.
ومن الرموز المرئية طريقة تحية الرؤساء العرب والمسلمين الرجال، مثل تقبيل الوجنتين والأنف والكتف واليدين طبقا لدرجة علو الرؤساء. وقد أثرت هذه العادة في الرؤساء الأوروبيين في استقبالهم للرؤساء العرب بتقبيل الوجنتين، بالإضافة إلى عاداتهم في تقبيل الرؤساء الرجال للرئيسات النساء؛ فتقبيل الرجل للرجل حتى ولو كان رئيسا له مغزى، وتقبيل الرجل للمرأة له مغزى آخر، وكلاهما تقاليد اجتماعية تختلف من شعب إلى آخر.
والأخطر هو رمز «العصا»، عصا المارشالية التي كان يمسك بها رئيس الجمهورية الثانية في مصر، الصولجان الذي يجمع بين السلطة العسكرية والسلطة السياسية. ومثلها عصا رومل، وعصا أخرى يمسك بها الرئيس السوداني ويرفعها عاليا لتحية الشعب، وهو تراث ديني قديم منذ عصا موسى التي كان يتكئ عليها نظرا لكبر سنه، ويهش بها على غنمه لأنه كان راعيا. هي العصا السحرية التي لقفت كل عصي السحرة، والقادرة على التغلب على كل القوى الأخرى، حتى استقر في الاستعمال اليومي تعبير «العصا السحرية»، ثم يتحول راعي الغنم إلى راعي الشعوب. واستمر ذلك في سيف المعز، وكرباج الوالي، وعصا الشرطي في الطريق العام، والأمن المركزي ضد مظاهرات الطلاب والعمال، والناظر والمشرف في المدرسة يهش بها الطلاب كما يفعل راعي الغنم. وهي عصا الفتوة كما صور نجيب محفوظ في «التوت والنبوت»، وفي ملحمة «الحرافيش». وهي عصا الأب ضد أبنائه وبناته من أجل «سك على بناتك». وهي رمز العقاب والقرع والتأنيب والتهذيب والتربية. وقديما قال المتنبي:
لا تشتر العبد إلا والعصا معه
إن العبيد لأنجاس مناكيد
وقال شاعر آخر:
والعبد يقرع بالعصا
والحر تكفيه الملامة
وفي الأمثال العامية: «العصا لمن عصى.» وكلاهما، العصا والعصيان، من اشتقاق واحد؛ فالعصا جزاء العصيان. وهو ما يفسر قسوة الأمن المركزي في قمع المظاهرات، وسحل المعارضين، وضرب الطلاب والعمال المعتصمين.
والسؤال الآن، ما هو الرمز أو الرموز التي يمكن أن تعتز بها الحياة الدينية والسياسية والثقافية العربية؟ حتما، ليست العصا أو الهراوة بيد الشرطي، أو السيف بيد السياف، أو حبل المشنقة الذي لف حول عنق صدام ليخيف من يشق عصا الطاعة من الرؤساء.
ما الذي تعتز به الثقافة العربية عبر قرونها الطويلة كي يكون رمزا لها. الشعر العربي، المتنبي وأبي فراس؟ الوحي الإسلامي ممثلا في القرآن دون توظيفه سياسيا لتبرير نظم الحكم باسم الحاكمية والربوبية والألوهية والعبودية، وتحويل القرآن إلى مجرد عقوبات وواجبات دون حقوق ومتطلبات؟
الآثار العربية والإسلامية من عجائب الدنيا؛ تاج محل، قصر الحمراء بغرناطة، الجامع الأزرق بإستانبول، القلعة بالقاهرة، مسجد الحسن الثاني بالمغرب أو كوالالمبور في ماليزيا أو روما بإيطاليا. وهي في النهاية قصور ومساجد للأمراء، وليست من آثار الشعوب. هل رموز العلم الرياضي كالحسن بن الهيثم، أو الطبيعي كجابر بن حيان، أو الفلسفي كابن رشد؟ وهل بالضرورة أن يمسك الرئيس بيده شيئا يرفعه فوق رءوس الناس؟! ولماذا يكون بالضرورة هي «العصا»؟
من يريد الديمقراطية؟
7
كثر الحديث عن الديمقراطية في الآونة الأخيرة. امتلأت بها الصحف والقنوات الفضائية والندوات المحلية والمؤتمرات الدولية، وصب فيها رأس المال الدولي مئات الملايين من الدولارات، حتى ملأت الدنيا وشغلت الناس. وهي موجة من موجات الاستقطاب الذهني مثل العولمة، وحوار الحضارات، وحقوق الأقليات، وحقوق الإنسان، وحقوق المرأة، بعيدا عن مصالح الناس المباشرة؛ الفقر والفساد.
وكثرة الحديث عن شيء تعني أنه لا يتحقق، واستعمال الكلام كغطاء على إبقاء الأمر الواقع كما هو، القهر والتسلط والطغيان؛ لذلك يحدث رد الفعل عند جماعات العنف السياسي بإعطاء الأولوية للأفعال على الأقوال، والإعداد لقلب نظم الحكم التي أسهبت في استعمال الأقوال كغطاء يخفي العجز عن الأفعال، أو عدم القدرة عليها أو الرغبة فيها. وكثرة اليقين توحي بالشك؛ لأنه لا وجود ليقين مطلق. ما زال الحديث عن الديمقراطية يخضع لعقلية المفتاح السحري القادر على حل كل شيء، مثل «الإسلام هو الحل»، «الديمقراطية هي الحل»، من آثار «الفرقة الناجية»؛ إذ لا يوجد حل واحد لكل شيء، بل هناك عدة حلول لبعض الأشياء.
والسؤال هو: من يريد الديمقراطية بالفعل؟ من الصادق في قوله من بين آلاف المقالات والنداءات؟ وهل الذي يتحدث عن شيء يفعله أم إن الحديث مكتف بنفسه بدعوى التوعية كما هو الحال في الوعظ الديني؟ من هم أصحاب المصلحة الحقيقية في الديمقراطية على مستوى الأفعال وليس على مستوى الأقوال؟ ما هي العقبات التي أمامها والتي لا يزيلها أحد، ويكتفي بالبكاء والعويل أمام الحائط المنيع؟
هناك ثلاث قوى رئيسية تتحدث عن الديمقراطية إلى درجة الصراخ:
الأولى:
الولايات المتحدة الأمريكية والبلدان الأوروبية وإسرائيل، فيما يسمى بمشروع الشرق الأوسط الجديد أو الكبير؛ حتى يضم إسرائيل. ويطول الخطاب إيران وتركية. والدعوى هي القياس على العالم الحر، وتدعيم القيم «العالمية»، واتخاذ النموذج الغربي نموذجا للتحديث، وحتى تقل كراهية عالم الستار الحديدي ومحور الشر وجماعات الإرهاب عداءها للغرب: «لماذا يكرهوننا؟» وهي كلمة حق يراد بها باطل؛ إذ يعني المشروع الأمريكي الصهيوني بها الليبرالية الاقتصادية وليس السياسية، والخصخصة والسوق والربح، وتخلي الدولة عن سيطرتها على أدوات الإنتاج ؛ فالعالم قرية واحدة، والعولمة عصر الجميع، والمنافسة حرة، والمجتمع المدني المفتوح له الأولوية على الدولة الأيديولوجية المغلقة، والشعوب في حاجة إلى استهلاك والتمتع بمستوى الحياة الأمريكية، والإنتاج مهمة الدول الأخرى مثل مجموعة الثمانية الأكثر تصنيعا، والعدالة الاجتماعية مؤجلة. تعني الديمقراطية الرأسمالية الاقتصادية دون قيمها الليبرالية في العقلانية والترشيد واحترام قوانين المنافسة الحرة، دون احتكار أو تلاعب بالأسواق أو التهرب الضريبي.
والثانية:
نظم الحكم القائمة؛ فإنها تروج للديمقراطية في أجهزة الإعلام الرسمية، ملكية أكثر من الملك، رضوخا للضغوط الخارجية لتلقي المساعدات الأجنبية، ودفاعا عن نفسها ضد الكرباج الذي تلهب به القوى الخارجية ظهرها، وورقة الضغط الخارجي عليها مع ملفات أخرى، مثل ملف حقوق الإنسان وملف الفساد.
أحيانا تستعمل الديمقراطية من نظم الحكم للاستهلاك المحلي، ولاتقاء نقد أحزاب المعارضة والمزايدة عليها، وملء الساحة بالخطاب الديمقراطي حتى على مستوى الأقوال دون الأفعال. وإن حدثت أفعال فإنها تتم نفاقا ورياء، واجهة ديمقراطية دون مضمونها، مثل معظم مجالس الشعب والشورى القائمة التي أتت إما بانتخابات مزيفة لصالح الحزب الحاكم أو بالتعيين، كلها أو جزء منها. هي ديمقراطية الحزب الواحد بالرغم من التعددية السياسية الصورية.
لا ترى حرجا من تغيير مواد الدستور من أجل مد حكم الرئيس مدى الحياة، أو من أجل التوريث، أو من أجل سن قوانين ضد الديمقراطية، مثل الأحكام العرفية، وقوانين الطوارئ، وقوانين مكافحة الإرهاب، وتحريم انشغال الجمعيات الأهلية والجامعات بالسياسة، وملء السجون بالمعتقلين السياسيين، والتشريع لمعارضة مستأنسة دون السماح لأحزاب معارضة شعبية لها رصيدها في الشارع السياسي.
والثالثة:
بعض أحزاب المعارضة السياسية ذاتها التي تستعمل ورقة الديمقراطية كأداة ضغط على النظام ووسيلة لزعزعته؛ فهي من ضمن أدوات الصراع السياسي في الداخل. وبعض الأحزاب الليبرالية تستعمل الورقة لكسب رضا القوى الخارجية عليها كما يفعل الليبراليون الجدد الآن، بما في ذلك التطبيع الفوري مع إسرائيل. وفي نفس الوقت أيضا لتكسب رضا الشعوب التي تتوق إلى الحرية والديمقراطية. ولا ترتبط الديمقراطية بمشروع متكامل يضع مع الحرية العدالة الاجتماعية، ومع الديمقراطية التخطيط الشامل. أما الجمعيات الأهلية فإنها ما زالت محدودة الأثر، محاصرة، تخاطب النخبة. ويتصدر نشاطها موضوع حقوق الإنسان.
هنا تكمن أزمة الديمقراطية. لا تجد قوة سياسية تدافع عنها في الخارج أو الداخل، شكلا ومضمونا، دفاعا عن مصالح الشعوب.
لا أحد يؤمن بها، الكل يستغلها لصالحه الخاص، والخاسر هو الشعب. إنما يكون الإخلاص للديمقراطية بنزع جذور التسلط من الثقافة الوطنية الحامل لتراث طويل من ثقافة السلطان، التي تحولت إلى بنية اجتماعية تقوم على التسلط. خلقت مجتمع «سي السيد»؛ في الأسرة، الأب أو الأخ الأكبر. وفي المجتمع، الشرطي ورئيس المؤسسة أو الهيئة المتكرر في المديرين العموميين ورؤساء الهيئات والوزراء. وفي المؤسسات الإعلامية والتعليمية، رئيس التحرير وناظر المدرسة. وفي الدولة في شخص الرئيس وحرمه وابنه الأكبر أو الأصغر أو الوحيد.
تكمن أزمة الديمقراطية في سيادة الثقافة المضادة واستمرارها، بل وترسيخها بعد انهيار التجارب التحديثية المعاصرة، الليبرالية والاشتراكية والقومية، بل والإسلامية والماركسية؛ لأن الثقافة الوطنية الحامل للنهضة القومية ما زالت تقوم على عناصر مناهضة للحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وللمادية التاريخية. ما زالت الثقافة الوطنية تقوم على عناصر مناهضة للديمقراطية والتعددية السياسية والانتخابات الحرة، مثل حديث الفرقة الناجية الذي يشكك في صحته ابن حزم والعز بن عبد السلام، وهو ما وضعه الغزالي في «الاقتصاد في الاعتقاد» تحت عنوان «في ما يجب تكفيره من الفرق»، والخطورة في التوحيد بين الفرقة الناجية والفرقة الحاكمة؛ أي الحكومة التي تكفر المعارضة أو تخونها وتحكم بمفردها. هي أزمة التصور الرأسي للعالم الذي يجعل العلاقة بين طرفين، الحاكم والمحكوم مثلا، علاقة بين الأعلى والأدنى، وليست علاقة أفقية، المواطن والمواطن، علاقة بين الأمام والخلف من أجل تحويل مفهوم الرئاسة إلى مفهوم التقدم، ومفهوم التبعية إلى مفهوم المساواة. هي أزمة الأقوال المأثورة عن القدماء، مثل: «إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.» والتي تعطي الأولوية للحاكم على المحكوم، والسلطة السياسية على الحق السياسي. هي أزمة الفقه السياسي الذي يعطي السلطة المطلقة للحاكم، مثل أن طاعة الحاكم، أولي الأمر، من طاعة الله والرسول، وأن معارضة الحاكم فتنة، وأن الخروج عليه عصيان، وتهميش تراث فقهي آخر يقوم على النصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومقاضاة الحاكم أمام قاضي القضاة، بل وشرعية الخروج على الحاكم الظالم؛ فأعظم شهادة «كلمة حق في وجه إمام جائر». هي أزمة الأمثال العامية التي ترسبت في الوجدان الشعبي، مثل: «إن كان ليك عند الكلب حاجة قول له يا سيد»، «الباب اللي يجيلك منه الريح، سده واستريح»، «ابعد عن الشر وغني له».
الحل إذن هو إعادة بناء الثقافة الوطنية من الأساس، وإعادة تأسيسها ليس على ثقافة السلطة، بل على ثقافة المعارضة مثل شرعية الاختلاف، وأن الكل راد ومردود عليه، وأدب الحوار ضد امتلاك الحقيقة والاستئثار بالرأي، «لا خاب من استشار». وفي فقه الاختلاف لو خالف واحد إجماع الأمة يكون الإجماع ناقصا احتراما للرأي الآخر. كان الرسول
صلى الله عليه وسلم
يستشير أصحابه، وكان الصحابة يختلفون فيما بينهم دون تكفير أو تخوين. الحل هو تثوير الثقافة الوطنية، وجعلها الحامل الرئيسي للنضال السياسي والنهضة القومية. الحل هو تحريك الأغلبية الصامتة، وحشد الناس دفاعا عن مصالحهم العامة حتى تخرج الديمقراطية من معركة النخبة إلى نضال جماهيري واسع، فتعود الأمة إلى مسارها التاريخي دون توقف، وتستلهم تراثها، المصدر الرئيسي لثقافتها الوطنية، حتى تمارس الأجيال الجديدة ما حفظته في مراحلها التعليمية الأولى، مثل: «لماذا استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟»
الصحة والمرض
من مؤلفات أرسطو فيما يسمى «الطبيعيات الصغرى»، الصحة والمرض مع اليقظة والنوم، والشباب والهرم، والحاس والمحسوس. وهي ظواهر الحياة الإنسانية، وهي إقرار لواقع إنساني، ونتيجة لعلاقة النفس بالبدن. وهي ليست عيبا أو نقصا أو شيئا يخشى منه يخفيه الإنسان ويتستر عليه وينفيه، أو يتطير به شرا ويكذبه؛ فكل إنسان يصح ويمرض على التوالي. لا الصحة دائمة حتى عند شجيع وطرازان، ولا المرض دائم حتى عند العليل. ولا الشباب دائم لأنه ينتهي إلى الهرم، ولا الهرم دائم لأنه ينتهي بالموت، وهي نهاية الحياة الأرضية. ولا اليقظة دائمة، بل تذهب وتجيء، ولا النوم دائم حتى عند أهل الكهف. ولا الحاس دائم ؛ فقد يفقد الإنسان حواسه مثل الأعمى والأصم، ولا المحسوس دائم، بل يتغير أو يغيب.
المرض والنوم والهرم وفقدان الحواس من ضرورات الحياة مثل الموت، ولا يوجد إنسان لا يمرض ولا ينام ولا يهرم ولا تعمل حواسه على الوجه الأكمل كلما تقدم في السن، بل إن كل ذلك من عظمة الإنسان. الإنسان الذي لا يمرض من صنع الخيال، والإنسان الذي لا يموت يكون مسخا للكائنات؛ لذلك كتبت سيمون دي بوفوار «كل البشر فانون». وأصبح المرض والهرم والموت داخلين في نسيج الوجود الإنساني.
كان طرازان شخصية تلهب خيال الأطفال والمراهقين، وكذلك «شجيع السيما» و«بطل الشاشة» و«فتوة الحارة». الخلود لا يأتي إلا بعد الموت، بالسيرة العطرة، والآثار الحميدة، والولد الصالح، والصدقة الجارية، والذكرى الطيبة، والإمام العادل، والزعيم الخالد.
لذلك تأسست كليات الطب والتمريض، وصنعت الأدوية وأجهزة الكشف وأساليب العلاج المتعددة ابتداء من الطب النبوي حتى الطب الحديث، والعلاج وإجراء العمليات الجراحية بالخارج إن استعصى العلاج، وإجراء العمليات في الداخل، ما دام المريض قادرا على الدفع أو يعالج على حساب الدولة.
ولا تنطبق دورة الحياة والموت على الإنسان وحده، بل على كل الكائنات الحية، النبات والحيوان، من الحشرة إلى السوبرمان، ومن الدودة إلى الحاكم بأمر الله. ومهما تخيل الأدباء «إكسير الحياة» الذي يرد الإنسان من المرض إلى الصحة، ومن الهرم إلى الشباب (حبك شباب على طول)، ومن النوم إلى اليقظة (حتى في أحلى الأحلام)، ومن الموت إلى الحياة. إن اليهود فقط هم الذين يتمنون الحياة
ولتجدنهم أحرص الناس على حياة (البقرة: 96)،
أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة (النساء: 78).
وطبقا لقوانين الجدل، لكل إيجاب سلب، ولكل سلب إيجاب. والحياة هي هذا الجدل بينهما؛ فبفضل المرض أدرك الإنسان قيمة الصحة، ولولا الهرم لما أدرك الإنسان حلاوة الشباب، طبقا لقول الشاعر:
ألا ليت الشباب يعود يوما
فأخبره بما فعل المشيب
ولولا العمى والصمم لما أدرك الإنسان قيمة البصر والسمع، ولولا الموت لما حرص الإنسان على الحياة، ولولا الوردة الذابلة لما حن الإنسان إلى الوردة اليانعة. الورد الاصطناعي هو وحده الذي لا يذبل، ومع ذلك يعلوه التراب.
فلماذا اعتبار المرض أو الهرم أو النوم أو الموت شائعات، وهي وقائع لا يمكن إنكارها، وحقائق لا يمكن إغفالها. الله وحده هو الذي لا يمرض ولا يهرم ولا ينام
لا تأخذه سنة ولا نوم (البقرة: 255)، ولا يموت
هو الحي القيوم (البقرة: 255). أليس الحاكم بشرا؟ بل إن فرعون نفسه كان يمرض ويموت، وكان يخلد نفسه بعد الموت ببناء مقبرة عظيمة له يكتب على جدرانها آثاره. يضع في داخلها الطعام والشراب والحلي والأواني، حتى إذا عادت الروح فإنها تجد ما تأكله. وتنتظر الحساب، الثواب أو العقاب. الخلود من اختراع المصريين، واكتشفوا التحنيط حتى لا يبلوا.
وإذا كان فرعون يمرض وهو في القصور، فما بال باقي المصريين الذين يمرضون وهم في النجوع، من الأمراض المستوطنة، ومن العطش، ومن شرب المياه غير النقية؟ وإذا كان فرعون يضع في مقبرته ما لذ من الطعام والشراب، فما بال المصريين الذين يجوعون ويقفون الطوابير لشراء الخبز قبل أن يرفع دعمه، ولا يقدرون على البقاء مع غلاء الأسعار والدخل المحدود والأسرة الوفيرة. وإذا كان الحاكم قادرا على الشفاء والعلاج بالداخل في المستشفيات الاستثمارية الدولية الخاصة أو بالخارج، فما بال باقي المصريين الذين يمرضون ولا يستطيعون العلاج وشراء الدواء في المستشفيات العامة، أو في العيادات الخاصة أو الملحقة بالمساجد؟ وإذا كان الحاكم يخشى من المرض، فما بال المصريين الذين يتمنون الموت؟ وإذا كان يريد الحكم مدى الحياة لأنه باق إلى الأبد، فما بال باقي المصريين الذين يقتلون بعضهم بعضا من أجل بضعة جنيهات، والخلاف على الدين أو السكن أو الربح أو ينتحرون؟
فهل المرض تهمة يبرئ الإنسان نفسه منها؟ هل هو شائعة يروجها الخصوم، وتحتاج إلى دحضها وتكذيبها وتفنيدها واتهام من يروجونها وتوعدهم بالعقاب؟ هل هو خبر مغرض هدفه إثارة القلاقل، والطعن في الاستقرار، وتهديد الاستمرار، والمخاطرة بالنظام؟ هل هو مصيبة تحل بالإنسان، والصحة والمرض من الله كما قال المسلمون ردا على أرسطو الذي جعلهما من طبيعة الكائن الحي؟ هل هو كارثة وطنية تحل بالبلاد تهدد أمنه، وتقضي على حاضره ومستقبله؟ هل هو نهاية العالم وخراب الدنيا والآخرة بالانتظار؟
ربما تكون تمنيات الناس ورغباتهم المكبوتة وأحد مظاهر الخلاص ممن يجثم على صدورهم عقودا من الزمان . والتفكير بالتمني أحد مظاهر تفكير المضطهدين والمظلومين والمقموعين والمسجونين السياسيين والمعذبين في المعتقلات، بتمني الخلاص من الظالم، «لك يوم يا ظالم». هو نوع من الأمل في المستقبل بالخلاص القريب من كابوس الحاضر، وعدم استمراره في المستقبل بكوابيس أخرى من نفس النوع.
وتلك نتائج الحكم المطلق الذي يقوم على الفرد الواحد، والذي تتركز السلطة بيديه، وينفرد بالقرارات المصيرية للبلاد، في السلم والحرب، والفقر والغنى، في التسلط والطغيان. هذه حصيلة التوحيد بين الدولة والفرد، «أنا فرنسة» كما كان يقول ديجول، أو «أنا مصر» كما كان يقول فرعون. يظن أن المرض من علامات النهاية، وأن النوم موتة صغرى، وأن الهرم يتبعه الموت
إنك ميت وإنهم ميتون (الزمر: 30)،
لكل أجل كتاب (الرعد: 38).
وفي القرآن الكريم ذكر المرض في القرآن أربعا وعشرين مرة بمعنيين؛ مرض الجسد (عشر مرات)، وليس على المريض حرج في عدم صوم رمضان
فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر (البقرة: 184)، أو المشاركة في الجهاد والدفاع عن الأوطان
ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج (التوبة: 91)، ومرض القلب (خمس عشرة مرة)، وهو الأخطر؛ فمرض القلب يشمل الريبة والشك في قدرات النفس على أخذ مصيرها بيدها بدلا من التبعية، ويشمل أيضا الغرور والخيلاء، وهم المنافقون الذين يقولون ما لا يفعلون. وليس على المريض حرج أن يؤجل كل واجباته والتزاماته بما في ذلك الحكم والرئاسة؛ لأنه من باب تكليف ما لا يطاق. وقد أتت الشريعة رحمة للعالمين، حاكمين ومحكومين.
السلطة الرابعة
من المبادئ الدستورية المعرفة، ومن مكتسبات ثورات الشعوب مثل الثورة الفرنسية، ومن رؤى الفلاسفة مثل مونتسكيو، مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث؛ القضائية والتشريعية والتنفيذية. ويفضل بعض المحدثين استعمال لفظ «التمييز» بين السلطات بدلا من لفظ «الفصل» اعترافا بالواقع؛ إذ أثبتت التجارب والنظم السياسية المختلفة حتى الليبرالية منها استحالة الفصل التام بين هذه السلطات الثلاث.
ففي لحظات التحول الاجتماعي والسياسي وظهور زعيم يجسد ثورة المجتمع، تكون الأولوية فيه للسلطة التنفيذية على السلطتين الأخريين ، مثل ديجول في فرنسة أثناء تحريرها من الاحتلال النازي وتنظيم المقاومة في الحرب العالمية الثانية، ومثل عبد الناصر في الستينيات عندما جسد بشخصه مبادئ الثورة المصرية تشريعا وتنفيذا وقضاء بمحاكمة رجال الإقطاع السابق، والمعارضين السياسيين من الإخوان والشيوعيين، ومثل معظم زعماء العالم الثالث منذ باندونج حتى انتهاء عصر الزعامات التاريخية، نهرو، تيتو، سو كارنو، نكروما، سيكوتوري، كنياتا، وما زال كاسترو وموجابي مستمرين من روح العصر الجميل.
وتؤكد كل النظم السياسية بصرف النظر عن توجهها الأيديولوجي، اشتراكي أو رأسمالي، وطني أو قومي، على أولوية السلطة القضائية على السلطتين التشريعية والتنفيذية، واستقلالها عنهما لأنها تمثل العدل، والعدل أساس الملك. وهي التي تفصل بينهما في حالة النزاع وضياع حقوق المواطن بين قانون في صفه وتنفيذ ضده؛ لذلك يلجأ المواطنون إلى القضاء في المحكمة الإدارية لأخذ حقوقهم، بل ويستطيع المواطن مقاضاة رئيس السلطة التنفيذية، رئيس الجمهورية، باعتباره المسئول الأول عن ضياع الحقوق؛ فوظيفة القضاء ليس فقط حل النزاعات بين المواطنين حول عمليات البيع والشراء، والزواج والطلاق، والملكية واللاملكية، بل أيضا بين الحاكم والمحكوم.
قد جاء وقت في تاريخ بني إسرائيل غاب فيه الملوك، وانقطع فيه الأنبياء، فحكم القضاة؛ إذ يجمع القاضي بين قوة الملك وعدل النبي. وتاريخ القضاء في الإسلام أشهر من أن يستدعى؛ فطالما حكم القاضي للمحكوم ضد الحاكم، وللفقير ضد الغني، وللمقهور ضد القاهر؛ فالكل سواء أمام القانون، لا فرق بين أمير وغفير، وسلطان ورعية، وشريف وعامي. والقاضي مشهود له بالورع؛ لأنه إنما يقضي بجمرة من نار. وطالما نصر الذمي على المسلم، والمواطن على ابن الأكرمين طبقا للقصاص. وتاريخ القضاء في مصر مشهود له بدفاعه عن استقلاله ضد مذبحة القضاة، وميل بعضهم إلى أهواء الحكام، أو إلى بعض التيارات السلفية المتشددة فيما يتعلق بقضايا الرأي. وما تقوم به نوادي القضاة حاليا في الدفاع عن القانون ضد طغيان السلطة التنفيذية يشهد له الجميع في الداخل والخارج، بل إن قاضي القضاة في الفقه هو الذي يقود ثورة الناس ضد الحاكم الظالم إن لم يستمع إلى النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم ينفذ أحكام القضاء. يعين ولا يعزل.
وتأتي السلطة التشريعية في المرتبة الثانية؛ سلطة سن القوانين ووضع الدساتير وتنظيم علاقات الناس بين بعضهم البعض، وبينهم وبين السلطة التنفيذية. والسؤال هو: لصالح من يتم ذلك؟ ما هي هذه الهيئة المنوط بها سن القوانين أو تعديلها؟ وهل ترعى الصالح العام أو الصالح الخاص؟ ألا تفصل القوانين طبقا لرغبة الحاكم فيما يسمى «ترزية القوانين» من أجل التوريث، أو قوانين الحبس في قضايا النشر، أو إلغاء قانون الطوارئ ووضع قانون مكافحة الإرهاب، والمسمى واحد بصرف النظر عن اختلاف الأسماء، وتعديل قوانين الجامعات ولوائح الطلاب من أجل مزيد من سيطرة أجهزة الأمن على المؤسسات التعليمية؟ لذلك تطالب الحركة الإسلامية بالقرآن كدستور لأنه لا يظلم، وبتطبيق الشريعة الإسلامية لأنها تقوم على العدل. ويطالب رجال القانون باستقلال السلطة التشريعية مثل استقلال السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية.
ثم تأتي السلطة التنفيذية في نهاية المطاف. وهي التي تنفذ القانون ولا تعصاه أو تعتدي عليه، وهي التي تلتزم بأحكام القضاء وتنفذه بالقوة. وتتمثل أساسا في أجهزة الشرطة والأمن والدفاع. وما يحدث بالفعل هو استعمال الشرطة أحيانا القوة وحدها لتنفيذ رغبات السلطة التنفيذية مع مخالفات الإجراء القانونية. تعذب المواطنين في الأقسام وفي المعتقلات والسجون لاستدراجهم إلى اعترافات كاذبة، والمعتقل السياسي له الأولوية على المعتقل الجنائي مرتكب الجريمة. وكثيرا ما يتم تلفيق التهم للقبض على نشطاء المعارضة السياسية، وكثيرا ما عبر الأدباء والفنانون عن مفاسد الشرطة طبقا للمثل الشعبي: «حاميها حراميها.»
تقام المحاكم العسكرية للخصوم السياسيين باسم قوانين الطوارئ الذي يجيز الاعتقال لمدة أسبوعين، وتجديد الاعتقال لمدة ستة شهور دون تحقيق أو جريمة أو محاكمة. رئيس السلطة التنفيذية، هو رئيس الدولة، بيده كل شيء؛ فهو رئيس الجيش والشرطة والحزب وكل الأجهزة القضائية والتشريعية والتنفيذية.
السلطة التنفيذية هي التي تقرر، والسلطة التشريعية هي التي تصوغ القوانين، والسلطة القضائية فرع من السلطة التنفيذية.
والأهم من ذلك كله «السلطة الرابعة»، منذ ثورة المعلومات وانتشار الصحف والقنوات الفضائية والأجهزة المرئية والمسموعة وشبكات المعلومات والمواقع الإلكترونية، هي سلطة الرأي العام، والكشف عن الحقيقة، وتبصير الناس بحقوقهم. هي سلطة الخبر الصحيح والرأي والرأي الآخر. وهو ما سماه القدماء سلطة العلماء والفقهاء، والمحدثون «ولاية الفقيه». سلطة العلماء لها الأولوية على السلطة القضائية والتشريعية والتنفيذية. هي السلطة الأولى، سلطة الرأي العام الذي تحاول «هيئة المفوضين» التعرف عليه. هي سلطة الجهر بالحق وكشف الكذب.
ومن ثم فإن إلقاء قبض السلطة التنفيذية على رؤساء تحرير سبعة من صحف المعارضة وتقديمهم إلى السلطة القضائية، قضاء على الفصل بين السلطات، وعلى أولوية السلطة الرابعة على السلطات الثلاث الأخرى؛ إذ يقوم الصحفي اليوم بما كان يقوم به العالم والفقيه والإمام والمفتي بالأمس، الإعلان عن الحق. ولا مرجع له إلا صحة الخبر وضميره الحي. والرد على الخبر الكاذب بالخبر الصادق، وليس بالاعتقال، ومواجهة الرأي بالرأي وليس بالحبس. تسيء السلطة التنفيذية، وهي السلطة الأخيرة، استعمال سلطتها، وتطعن في السلطة الرابعة وهي السلطة الأولى، قلبا للموازين، واتباعا لسياسة الهرم المقلوب.
دور السلطة الرابعة هو الكشف عن الحقيقة التي يحكم بها القاضي، ويشرع بها المشرع، وتنفذها أجهزة الأمن.
السلطة الرابعة هي السلطة الأولى في المجتمع، سلطة الرأي العام، والوعي اليقظ، والتوعية بالحقوق، ومراقبة الحكام، وتحريك الشعوب. يقوم بها خطيب المسجد والإمام في تراثنا القديم قبل أن يلجأ المختصم إلى القاضي. لا يفتي إلا ابتغاء الحق، وليس إرضاء لرغبة السلطان، وأن أعظم شهادة قول كلمة حق في وجه سلطان جائر. وقد انهار حكم عاد وثمود لأنه اعتمد على القوة وحدها. وتحكم فرعون في عقول الناس
قال آمنتم له قبل أن آذن لكم (طه: 71)، قوة المال والبنون زائلة
كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا (التوبة: 69)، وتلك سنة التاريخ
أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق (غافر: 21)، والمال والسلطان لا يغنيان
أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون (غافر: 82).
حدود سلطة الرؤساء
يظن الرؤساء أن سلطاتهم بلا حدود، وأنهم يفعلون ما يشاءون بدولهم ونظمها السياسية وشعوبها، متشبهين بالإله؛ فأدوات السيطرة والقمع في أيديهم، الجيش والشرطة وأجهزة الأمن وجهاز الدولة ومصادر الثروة والمؤسسات التشريعية والانتخابات البرلمانية والصحافة القومية ونظم التعليم وأجهزة الإعلام، بل والقوى الخارجية والتي لا يعصون لهم أمرا؛ فالسيد في الداخل عبد للخارج، والحر في الداخل سيد في الخارج.
وهو تصور راجع إلى تصور تقليدي موروث لله من الأشعرية القديمة
فعال لما يريد (هود: 107)،
إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (يس: 82)،
وما تشاءون إلا أن يشاء الله (الإنسان: 31)،
وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى (الأنفال: 17). وهو إفراز للدولة السنية منذ انتصار الأمويين وانتقال الحكم وراثة من معاوية إلى يزيد إلى أمراء بني مروان؛ فهو وضع سياسي يجد له تشريعا في تصور ديني لما كان الدين هو الذي يعطي الشرعية للسياسة. وهو التصور الذي عارضه المعتزلة القائلون بالواجبات العقلية مثل سيادة القانون، وفعل الصلاح والأصلح، والتعويض عن الآلام، والاستحقاق، واطراد قوانين الطبيعة
كل في فلك يسبحون (الأنبياء: 33)،
لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار (يس: 40)،
ولن تجد لسنة الله تبديلا (الفتح: 23)،
ولن تجد لسنة الله تحويلا . (فاطر: 43). فالكون يخضع للسنن، والتاريخ يسير طبقا لقانون؛ لذلك كان النظر في الطبيعة والآثار جزءا من الاعتبار.
وفي النظم الديمقراطية سلطة الرؤساء يحدها الدستور، وإن خرق الرئيس الدستور يعزل. ويحدها البرلمان والسلطات التشريعية، وإلا حوكم. ويراقبها القضاء والمحكمة الدستورية العليا التي تحكم ضد الرؤساء إذا ما خرقوا الدساتير والقوانين. ويواجهها الرأي العام الذي تعبر عنه الصحافة الحرة؛ فالوظيفة العامة ملك للرأي العام، ورأس السلطة التنفيذية مسئول عن رعاية الصالح العام. تحدد سلطة الرؤساء من الداخل، من طبيعة النظام السياسي الديمقراطي؛ فقد نشأت الديمقراطية ضد تسلط الكنيسة والملكيات المطلقة والإقطاع. في النظم الرئاسية التي يجمع فيها الرئيس بين سلطة رئيس الدولة وسلطة رئيس الوزارة، تتحدد سلطة الرؤساء بالبرلمان والدستور. وفي النظم البرلمانية التي تفصل بين سلطة رئيس الدولة ورئيس الوزراء، يكون رئيس الوزراء هو المسئول أمام البرلمان، ولا يكون للرئيس إلا منصب شرفي (بروتوكولي)، إنما السلطة للشعب الذي ينتخبه ممثليه وحكامه.
وفي النظم التسلطية يظن الرؤساء أن سلطاتهم بلا حدود؛ فالدولة ملكية خاصة لهم، ضيعة ورثوها أو استولوا عليها بقوة السلاح. تسمى أسماء الدول بأسمائهم، والقرارات المصيرية في الحرب والسلام في الرأسمالية أو الاشتراكية، في العزلة والاحتجاب داخل الحدود القطرية، أو في الانتشار وتحمل المسئولية القومية بأيديهم. ملهمون من الله، أو تابعون لإملاءات القوى الكبرى، أو خاضعون لجماعات الضغط ورجال الأعمال التي بيدها السلطة والثروة. هو تصور أبوي موروث؛ فالرئيس هو «سي السيد» في الأسرة والمجتمع، في المدرسة والجامعة، في الوزارة وفي الإمارة، في قسم الشرطة وفي المعتقل. هو تصور شعائري قبائلي أسري طائفي أو عرقي؛ فالرئيس ينتمي إلى قبيلة أو عشيرة أو عائلة أو طائفة أو عرق. يدافع عن بني بلدته أو عن طائفته ومذهبه. ومن كثرة ممارسة هذا الاقتناع، أن سلطة الرؤساء بلا حدود، تبدأ المخاطر الخارجية والداخلية لتبين حدود سلطة الرؤساء بالغزو الخارجي المباشر كما حدث في العراق وأفغانستان، أو بالضغوط الخارجية كما يحدث في مصر، أو تفكيك الأوطان كما يحدث في السودان والصومال ولبنان، والذي قد يصل إلى حد الحروب الأهلية، تضحية بالوطن لصالح العشيرة والقبيلة أو الطائفة والمذهب.
وما يبين حدود سلطة الرؤساء هي المقاومة الداخلية بشتى أنواعها؛ فالأوطان والشعوب عصية على التطويع مهما بلغت سلطة الرؤساء المطلقة. ومن مظاهرها انقلاب الجيش كما حدث في أوائل الخمسينيات في الوطن العربي، بالرغم من سلطة الاستعمار والقصر والإقطاع والأمن. وقد تصحبه حركة اغتيالات الرؤساء كما اغتال الرؤساء زعماء المعارضة، واستعبدوا الشعوب والأوطان؛ فلا يفل الحديد إلا الحديد. وقد تتكون جماعات سرية أو علنية مسلحة لمقاومة سلطة الرؤساء، وتقاوم قوى الجيش والشرطة والأمن خاصة في الجبال كما حدث في الجزائر، وكما يحدث الآن في باكستان. وقد تقوم ثورة شعبية عارمة وتحركات جماهيرية واسعة كما حدث في مصر في مارس 1968م ضد هزيمة يونيو (حزيران) 1967م، وفي يناير 1977م ضد غلاء الأسعار، وفي يناير 1986م من الأمن المركزي ضد الأغنياء في الدولة. وقد تندلع مظاهرات جزئية فئوية ضد الجوع والغلاء والضنك والبؤس من العمال في كبرى المصانع، ومن الموظفين في كبرى الوزارات والمصالح المالية. وقد تتحول المعارضة إلى عصيان مدني في الشوارع مثل لبنان. وقد تتحرك نوادي القضاء وأعضاء هيئات التدريس بالجامعات والاتحادات والنقابات المهنية ومنظمات المجتمع المدني. وقد تتوالى مظاهرات الطلاب بالرغم من حصارها داخل أسوار الجامعات ضد اللوائح الطلابية المفروضة، وتدخل الأمن، وشطب الطلاب الإسلاميين أو الناصريين من قوائم الانتخابات. وقد يعلو صوت صحف المعارضة، وتتناول كل الممنوعات في العقل السياسي، سلطة الحزب الحاكم، تزوير الانتخابات، الرئاسة مدى الحياة، التوريث، فساد الطبقة الحاكمة، الاحتكارات، تهريب الأموال.
هنا يدرك الرؤساء أن هناك حدودا لسلطاتهم المطلقة، وأنهم لا يعيشون في دول خاوية من الشعب والمؤسسات، وأن الأوطان كيانات مستقلة عن النظم السياسية. قد يتحول الرئيس إلى أسد جريح عندما يدرك حدود سلطته، فيفقد أعصابه، وتطيش ضرباته، فيضع كل معارضيه في السجون كما فعل رئيس الجمهورية الثانية في مذبحة سبتمبر 1981م، أو تقديم سبعة من رؤساء صحف المعارضة أمام المحاكم العسكرية كما يفعل الآن رئيس الجمهورية الثالثة؛ فنتج عن الأول حادث المنصة، ولا ندري ماذا ينتج عن الحدث الثاني.
وقد يدرك الرؤساء حدود سلطاتهم بعد فوات الأوان بالموت الفجائي
إنك ميت وإنهم ميتون (الزمر: 30)، أو بما لا يمكن التنبؤ به في الواقع؛ فالعنف قادر على اختراق سياج الأمن مثل حادث المنصة في 6 أكتوبر 1981م، أو دس السم لرئيس يراد أعداؤه التخلص منه كما حدث لرئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، أو وقوع طائرته كما حدث لجون جارانج رئيس جبهة تحرير السودان.
إن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة ضد طبائع الأشياء؛ فالعالم متعدد القوى. بقاؤه في توازنها حتى لا يميل الميزان، وهو ما تثبته تجارب التاريخ ونهاية نظم الطغاة عند اليونان والرومان، وفي الغرب الحديث بإعدامهم في المقصلة. وهكذا كان مصير الفراعنة
ما علمت لكم من إله غيري (القصص: 38)،
وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين (يونس: 83)، وكما عبر عن ذلك حافظ إبراهيم في مصر تتحدث عن نفسها:
كم بغت دولة علي وجارت
ثم زالت وتلك عقبى التعدي
ولذلك رفعت الثورة الإسلامية في إيران شعار «الله أكبر قاصم الجبارين»، لا يبقى الطغاة حتى ولو كثرت أموالهم وأولادهم
كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا (التوبة: 69)، تلك سنة التاريخ
أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة (القصص: 78)، فلا يبقى الطغاة
أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون (غافر: 82)، فلا عصي الأمن المركزي ولا القوانين المقيدة للحريات قادرة على استمرار الطغيان. لقد استكبرت عاد وثمود
فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون (فصلت: 15)؛ لذلك وصف بعض المؤرخين مصر بسبب النظام الفرعوني السائد فيها بأنها «أرض الطغيان والنفاق».
حدود الأيديولوجيات وقوة الفقراء
كانت الأيديولوجيات دائما العنصر المحرك للثورة، سواء في المجتمعات الغربية والشرقية على حد سواء مثل الثورة الفرنسية ضد الملكية والإقطاع، والثورة الإسلامية في إيران ضد القهر في الداخل والتبعية في الخارج، والثورة الاشتراكية 1917م ضد القيصر والإقطاع، والثورة الأمريكية ضد الاحتلال البريطاني من أجل الحرية والاستقلال، والمسيرة الطويلة في الصين للفلاحين ضد الإقطاع. وتتداخل فيها عناصر السياسة والاقتصاد، القهر والفقر، دفاعا عن الحرية والمساواة.
وحدث نفس الشيء في تاريخ العرب الحديث. كانت الثورات الأيديولوجية أمرا طبيعيا؛ فالأحزاب السياسية التي تكونت منذ فجر النهضة العربية أحزاب أيديولوجية تمثل ممارسات عملية لتيارات فكرية؛ فالرأسمالية كنظام اقتصادي تقوم على الليبرالية كنظام سياسي؛ فإذا ما قامت الرأسمالية دون قيمها فإنها تتحول إلى نهب وسلب وفساد واحتكار واستغلال وتهريب رءوس الأموال إلى الخارج. والاشتراكية كنظام اشتراكي تقوم على أيديولوجيات المساواة والعدالة الاجتماعية، سواء كانت اشتراكية طوباوية أو دينية أو ليبرالية أو قومية أو علمية؛ أي ماركسية. والأيديولوجية القومية تقوم على تيار فكري يعتمد على وحدة الأمة والتاريخ واللغة والثقافة، وليس بالضرورة العرق أو الدين. والإخوان المسلمين كبرى الحركات الإسلامية في الوطن العربي والأحزاب الإسلامية الأخرى تقوم على الأيديولوجية الإسلامية، الإسلام عقيدة وشريعة، ونظم ومؤسسات
ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون (المائدة: 44)،
الضالون ،
الفاسقون . وهي التجارب السياسية التي مرت بها مصر والوطن العربي في النصف الأول من القرن العشرين. كانت الأولوية فيها للسياسة على الاقتصاد، وللفكر على الواقع، وللشعار على الوضع الاجتماعي؛ فالمجتمع التراثي أو الحديث له ولاؤه الأيديولوجي تعبيرا عن هويته قبل ولائه الاجتماعي تعبيرا عن فقره.
وكانت الأيديولوجية الوطنية هي القاسم المشترك بين هذه الأيديولوجيات السياسية؛ فالليبرالية في العشرينيات قادها باشوات مصر الوطنيون، والاشتراكية في الخمسينيات والستينيات قادها الضباط الأحرار حصيلة النضال الوطني في الأربعينيات. والحركة الإسلامية منذ الأفغاني ورشيد رضا إلى حسن البنا وسيد قطب قادها الوطنيون المصريون ضد الاستعمار والقصر. والماركسية التي حكمت في تحالف مع باقي الأحزاب، خاصة حزب البعث العربي الاشتراكي في سورية والعراق واليمن، حمل لواءها زعماء التحرر الوطني ضد الاستعمار.
وكانت الثورات الكبرى في مصر ثورات وطنية، سواء ثورة 1919م أو ثورة 1952م، بل إن بعض التحركات الشعبية قامت أيضا دفاعا عن الحرية والاستقلال مثل النضال الوطني في مصر في الأربعينيات، وحركات الجماهير في 1951م، وحرب الفدائيين في قناة السويس ضد الاحتلال البريطاني، وأزمة مارس في 1954م، ومظاهرة مارس 1968م ضد هزيمة يونيو (حزيران) 1967م، والأحكام المخففة على قادة الطيران. واستمرت المظاهرات الوطنية ضد العدوان الأمريكي على شعب العراق، والعدوان الإسرائيلي على شعب فلسطين؛ فالمعركة الوطنية لها الأولوية على المعركة الاجتماعية، ومواجهة العدوان في الخارج مقدم على مواجهة القهر في الداخل.
ثم توالت التحركات الجماهيرية بعد ذلك بدافع الفقر ضد غلاء الأسعار في الانتفاضة الشعبية في يناير 1977م، وتمرد قوات الأمن المركزي في يناير 1986م، ثم مظاهرات عمال النسيج في المحلة وموظفي وزارة المالية والضرائب العقارية هذا العام. وبدأت العدوى تسري لدى باقي العمال والموظفين، وينضم إليهم الفلاحون خارج نقاباتهم؛ فالطبقات المحرومة هي الأشد ضررا، وصوتها يصل مباشرة للناس دون القنوات المتوسطة، النقابات والاتحادات والأحزاب وأجهزة الدولة.
ظهر أن للأيديولوجيات السياسية حدودا في قدرتها على تحريك الجماهير في العقود الأخيرة؛ فهي محصورة في النخبة، والنخبة المثقفة، قادتها من النخبة، مثقفين وكتابا وفنانين وأدباء. وجماهيرها من النخبة من الطلاب والمهنيين والنقابيين. هي قلة كما من حيث العدد، وكيفا من حيث التكوين. ينتمون إلى الطبقة المتوسطة التي لم تعايش الحرمان ولم تعرف الضنك، بالرغم من محاولات بعض الأحزاب التقدمية تكوين قيادات عمالية وفلاحية. تتسابق على السلطة، وتتنافس فيما بينها، كل منها يعتبر نفسه الفرقة الناجية. يغيب الحوار الوطني بينها؛ وبالتالي صعب تكوين جبهة وطنية، أو ائتلاف عريض لإنقاذ البلاد نظرا لغياب التعددية كأساس نظري وبنية ثقافية ورؤية سياسية. الجانب الاجتماعي فيها ما زال مهمشا؛ فالأولوية لنصرة المذهب السياسي على توفير لقمة العيش. صحيح قد يبرز هذا الجانب في حزب أكثر من آخر مثل الطليعة الوفدية، الجناح الاشتراكي في حزب الوفد التقليدي أو الناصرية، أو الإسلام الاشتراكي عند مصطفى السباعي وسيد قطب وتطويره في «اليسار الإسلامي» في مصر وتونس. ومع ذلك يظل أثره مبنيا على توجهات الكتلة الحزبية.
لذلك نمت قوة الفقراء، وبدأت في الانفجار بعد أن خذلهم الحزب الحاكم ولم تستطيع قوى المعارضة نيل حقوقهم. والثورة ضد الجوع أبلغ من أي نظرية أو أيديولوجية في الجوع. وكما قال جان بول سارتر: إن كل النظريات والقصائد والمقالات عن الجوع لن تمنع طفلا من أن يموت جوعا. إنما هي قطعة خبز؛ فالصراع من أجل البقاء أكبر دافع على التحرك من الانتساب الأيديولوجي أو الولاء المذهبي. الفقر والضنك والبؤس والعوز والمرض والعري والجهل والبطالة والمجاري الطافحة والمياه غير الصالحة للشرب والمواصلات المستحيلة والتشرد في الشوارع، كل ذلك واقع حسي مشاهد يدفع الناس إلى الصراخ، وإلى النزول إلى الشوارع دونما حاجة إلى مثقف نظري طليعي، أو موظف أيديولوجي في الحزب. وحركة الجماهير التلقائية ليست في حاجة إلى لجان التثقيف وأمانة التنظيم في الحزب.
ويزيد من تحركات الجماهير الظروف الخارجية ومآثر العولمة، واتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء، وانهيار النظم الاشتراكية، وسيادة قوانين السوق، وذيوع قيم الاستهلاك، وشراء الاحتياجات بالأسعار العالمية والمرتبات المحلية، ورفع الدعم التدريجي عن المواد الأولية، وتحويل كل شيء إلى قوانين العرض والطلب في التعليم والإسكان والعمل، واتباع وصايا البنك الدولي برفع الدولة أيديها عن الاقتصاد وتركه للقطاع الخاص، بما في ذلك قطاع خدمات التعليم والصحة، والماء والكهرباء والغاز، والإسكان والخبز.
ويزداد الواقع الاجتماعي تأزما، وتتسع الهوة بين الأغنياء والفقراء، وترتفع نسبة البطالة، ويصعب إيجاد السكن الرخيص، وتنتشر مظاهر البذخ للطبقات العليا ورجال الأعمال في الأحياء الراقية في المدن الجديدة أو المصايف، والأسماء الأجنبية للقرى المصرية (مارينا)، (ستيلا دي ماري)، أو العربية التابعة مثل «الريف الأوروبي» على أرض مصر. وينتشر الاحتكار للمواد الرئيسية مثل مواد البناء، ويتم التلاعب بالأسعار بلا أدنى قانون أو رابط. وتهرب أموال مصر إلى الخارج بما يعادل ضعف دينها العام، وتبلغ ثروات فرد واحد ضعف ديون مصر.
وتوارى العامل السياسي بالرغم من حضوره ومشاهدته بالعيان؛ عزلة مصر، والتفريط في أمنها القومي في الشام شمالا، والسودان جنوبا، والعراق والخليج شرقا، وليبيا والمغرب العربي غربا، وهي جزء من المغرب العربي الكبير. ولم تعد الجماهير تتساءل حول التبعية لأمريكة في السياسة الخارجية، والصلح والاعتراف والتطبيع مع إسرائيل. وضمر الخيال السياسي، وإيجاد أحلاف جديدة في المنطقة مع إيران وتركية للوقوف أمام نزعات التجزئة والحصار.
فإذا كانت الأولوية في حركات التحرر الوطني للسياسة على الاقتصاد، فإن الأولوية في خطاب ما بعد الاستعمار وضعف الدولة الوطنية للاقتصاد على السياسة، وللخبز على الحرية.
المفاتيح السحرية
كلما تشتد الأزمات ويصعب حلها، وكلما تزداد الصعاب والعقبات، ويعجز المجتمع عن مواجهتها؛ تكثر المفاتيح السحرية كنوع من الهروب إلى الأمام، والإيهام بالحل والقدرة على المواجهة، وتكثر الشعارات وتتوالى؛ فبعد هزيمة يونيو (حزيران) 1967م رفع شعار «العلم والتكنولوجيا»؛ فقد كانت هزيمة العرب أمام إسرائيل في العلم والتكنولوجيا لعدم استطاعتهم اتقاء ضربة الطيران الأولى. وبعد انتصار أكتوبر 1973م رفع شعار «العلم والإيمان»؛ فقد تمكن العرب من السيطرة على العلم بفن العبور والمدافع المائية، والزوارق المطاطية وعبور الساتر الترابي، وضربة الطيران الأولى، والجندي في مواجهة الدبابة، بل وحاربت الملائكة مع العرب، وعبرت القناة معهم كما حدث في غزوة بدر. وبعد أن بدأ التفريط في النصر العسكري الذي تحول إلى هزيمة سياسية بالصلح والاعتراف بالعدو الصهيوني في معاهدة كامب ديفيد في 1978م، ومعاهدة السلام في 1979م، رفعت شعارات «الإسلام هو الحل»، «الإسلام هو البديل»، «الحاكمية لله»، «تطبيق الشريعة الإسلامية».
توالت الشعارات الأخرى من العلمانيين، مثل «الليبرالية هي الحل» دفاعا عن الحرية السياسية، «الديمقراطية هي الحل» دفاعا عن تداول السلطة، «العلمانية هي الحل» في مواجهة الإسلاميين، «الخصخصة هي الحل» تخلصا من عيوب القطاع العام، لا فرق بين الاقتصاد والتعليم. «العولمة هي الحل»؛ فرأس المال لا وطن له.
وأخيرا رفع شعار «مجتمع المعرفة» نظرا لثورة الاتصالات، وتراكم المعارف، وانتشار البرامج وأجهزة الاتصالات الحديثة، «الكومبيوتر» والمحمول والشرائح التي تجعل العالم كله بين يدي الإنسان وعلى أطراف أصابعه، وتحويل العالم الفعلي في الخارج إلى عالم ضمني متخيل من خلال الشاشات الضوئية؛ فالمعلومات قوة، وأصبح من بين إمكانيات الإنسان الحديث «اللاب توب»؛ فكل شيء فيه. العلم فيه، والعمل فيه، مثل الكتب السماوية في المجتمعات التقليدية التي حوت كل العلوم والمعارف، وكل الإرشادات والتوجيهات، وبها خلاص العالم.
توهم الإنسان أن العالم بين يديه، وقد يكون للعالم قوانينه الخاصة التي تتفاعل معها الإرادات البشرية وحريات الاختيار؛ فلم تستطع كل أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية والأمريكية والأقمار الصناعية والتقاط الصور عن تحركات الجنود على ضفاف القناة ومحطات الإنذار المبكر، أن تتنبأ باندلاع حرب السادس من أكتوبر الساعة الثانية إلا خمس دقائق. واستطاع الفيتناميون بأدوات النضال التقليدية، الأنفاق تحت الأرض للجرذان البشرية، والاختباء بغصون الأشجار والصواريخ القصيرة المدى مثل سام 6 إسقاط أكبر الطائرات العسكرية الأمريكية إف 16، والانتصار على أعتى الجيوش عدة وعتادا. واستطاعت المقاومة الجزائرية الانتصار على الجيش الفرنسي، ومن ورائه حلف شمال الأطلنطي .
وتفعل الآن المقاومة الفلسطينية والمقاومة العراقية والمقاومة الأفغانية نفس الشيء مع قوات الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، والأمريكي في العراق وأفغانستان.
لا يقوم مجتمع المعرفة إلا في مجتمع مستقر استطاع إشباع حاجاته الرئيسية؛ الطعام ضد الجوع، والمياه النظيفة للشرب وليس المياه الآسنة الملوثة من البرك والمستنقعات، والإسكان ضد العراء والمخيمات والكهوف، واللباس ضد العري، والصرف الصحي ضد المجاري الطافحة، ونزع المخلفات الآدمية بالعربات من الأحياء الفقيرة، والعمل ضد البطالة، والتعليم ضد الجهل، والصحة ضد المرض، ورفع مستوى المعيشة فوق حد الفقر. دون إشباع هذه الحاجات الأساسية للإنسان لا يمكن أن يطالب بمجتمع المعرفة.
وإذا لبت بعض المجتمعات النامية بعض هذه المطالب، ولكنها تعيش في مجتمع القهر والفقر في الداخل، والتبعية للخارج، يكون مطلب الحرية والاستقلال والعدالة سابقا على مطلب مجتمع المعرفة؛ فالحرية مطلب أول للإنسان. الحرية تعبير عن الوجود، في حين أن المعرفة مطلب ذهني، والذهن أحد جوانب الوجود. حرية التعبير عن الرأي، واحترام الرأي الآخر، والتعددية السياسية، والكرامة الوطنية، والاستقلال الوطني، والإحساس بالرضا، والشعور بالولاء للأوطان، وبتعبير النظام السياسي عن اختيار المواطنين الحر، كل ذلك سابق على مجتمع المعرفة.
وتقوم المعرفة على العلم، ويقوم العلم على إعمال العقل. ويبدأ إعمال العقل بنقد كل مظاهر الجهل والخرافة والسحر والتحرر من سلطة القدماء قبل أن يبدأ بتأسيس العلم؛ فالعقل النقدي سابق على العقل العلمي. وفي المجتمعات التقليدية ما زالت السلطة هي التي تسود؛ سلطة النقل، وسلطة القدماء، وسلطة التقاليد، وسلطة رجال الدين والسياسة؛ فكيف يتأسس مجتمع المعرفة في مجتمع العقل فيه ليس سلطة، ولا يقوم بوظيفة النقد؟ الدعوة إلى إقامة مجتمع للمعرفة في المجتمعات التقليدية هو استبدال سلطة بسلطة؛ سلطة الجديد بسلطة القديم، سلطة المحدثين بسلطة القدماء، تقليد بتقليد، وإيمان بإيمان.
لا ينشأ مجتمع المعرفة إلا بعد استنفاد كل إمكانيات العلم التقليدي عن طريق التدوين والكتب والمعارف المتاحة بأشكالها التقليدية؛ فالأمي الذي أصبح متعلما يقرأ قبل أن يضغط على الأزرار، ويفك الخط قبل أن يفك الشفرة. وفي الجامعات الحديثة في المجتمعات التقليدية ربما يحتاج الطلاب إلى المكتبة المفتوحة التي يأخذ الطالب الكتاب منها بيده من على الرف ويطلع عليها قصدا أو عن غير قصد؛ فإذا ما تراكمت المعلومات، ووصلت إلى حد يصعب السيطرة عليها، هنا تبدأ الحاجة إلى تنظيمها وفهرستها وتحويلها إلى ذاكرة يسهل استدعاؤها، والتحول من العبارة إلى الكلمة، ومن الكلمة إلى الحرف، ومن الحرف إلى الرمز، ومن الرمز إلى الرقم.
وقد انعكس ذلك كله على مناهج التعليم العامي والبحث العلمي في الجامعات؛ فإدخال أجهزة المعلومات في المدارس العامة لا يعني أن التعليم قد تم تغييره؛ إذ يحل الجهاز محل الأستاذ، نقلا بنقل، وسلطة بسلطة، ويلحق الطلاب ببحوثهم قوائم المراجع والمصادر من أجهزة المعلومات لم يقرأها الطالب أو يطلع عليها، بل قرأ ملخصاتها.
إن تحديث المجتمعات لا يأتي عن طريق مظاهر الحداثة، خارج الزمان والمكان، زرع آلات حاسبة وشبكات معلومات متاحة للجميع، استبدال سحر بسحر، ومعجزة بمعجزة، وحديث بقديم. فالعقل لم يتغير، والموقف من مصادر المعلومات لم يتبدل، وهو التلقي والتعليم والتحصيل، مع أن العلم هو استنباط المجهول من المعلوم، وقراءة ما بين السطور.
المعرفة جزء من نهضة المجتمع الشاملة، وليست عنصرا منفردا ومعزولا عنه. هي جزء من كل وليس كلا من أجزاء. المعرفة لها شروط، ما لم تتوافر تكن زرعا بغير نبت، ونبتا في غير أرض، بالونة ملونة في الهواء سرعان ما تنفجر. لا يعني مجتمع المعرفة رفاهية النخبة، وديكور الحداثة، ومظهرا من مظاهر الدولة العصرية، والحياة ما زالت بدوية، والرؤية تقليدية. إن تطور المجتمعات، وانتقال المجتمع التقليدي من القديم إلى الجديد، ومن السلطة إلى التحرر، ومن التقليد إلى الاجتهاد، هو الطريق الطويل الطبيعي في مسار تاريخي ربما يكون مجتمع المعرفة أحد مراحله، وليس بالضرورة آخرها.
الفصل الثاني
الدين والثقافة والسياسية
الشريعة والدستور
1
كثر الحديث في الصحف هذه الأيام عن الشريعة والدستور، وهل تترك المادة الثانية في الدستور «الشريعة الإسلامية أحد المصادر الرئيسية للتشريع» كما هي دون تعديل كما تريد الدولة، أو تبقى وتعدل في صيغة أكثر تشددا إلى المصدر الرئيسي للتشريع كما يريد التيار الإسلامي والجناح المحافظ في الإخوان المسلمين، أو تحذف نهائيا كما يريد التيار العلماني والإخوة الأقباط.
وهي قضية مفتعلة، المقصود بها ملء مادة في الصحافة، وزيادة الفرقة بين الناس، وإشعال حرب أهلية بين التيارات الفكرية والسياسية الأساسية في مصر، بين الإسلاميين والعلمانيين؛ كي يضعف جناحا المعارضة الرئيسيان في مصر، وبين المعارضة والدولة؛ لإذكاء الخلاف حول موضوع فقهي نظري صرف لإبعاد النظر عن سياسات الدولة؛ التبعية والتحالف في الخارج، والقهر والفساد في الداخل. تخرج فيها الدولة منتصرة على خصومها السياسيين لتظهر أمام الناس كأنها الحامي للوحدة الوطنية، والتي تمثل الاعتدال والتوسط ضد التطرف والعنف.
ليس المقصود هو الظاهر، الخلاف على مادة في الدستور، بل تكشف صراعا مكبوتا على السلطة بين الإسلاميين والعلمانيين، وإشعال الحرب بين الإخوة الأعداء. كل فريق يتصور أنه الوريث للدولة الأمنية والنظام السياسي الحالي الذي وصل إلى طريق مسدود متوقفا عن السير، تدب فيه عناصر التفكك الاجتماعي والسياسي، وتتحول إلى شلل متصارعة وجماعات ومصالح متضاربة. المقصود أيضا كسب الدولة معركة تعديل الدستور ضد خصومها السياسيين. وكلها، المعارضة والدولة، تتملق أذواق الجماهير وقناعتها بالإسلام، عقيدة وشريعة، ويزايد كل فريق على الآخر؛ يزايد الإسلاميون على العلمانيين في المحافظة على التراث والدفاع عن الهوية وتطبيق الشريعة الإسلامية وإيمان المجتمع، ويزايد العلمانيون على الإسلاميين في الحداثة والمدنية والمواطنة. خطاب الفريق الأول موجه إلى الداخل لكسب الأصوات، وخطاب الفريق الثاني موجه إلى الخارج لكسب الدعم الخارجي. وتزايد الدولة على خصومها السياسيين تعبيرا عن الإجماع الوطني والرؤية الوسطية التي تلم الشمل وتحمي الوحدة الوطنية.
وهي قضية نظرية خالصة لا ينتج عنها أي أثر عملي؛ فسواء بقيت هذه المادة في الدستور أم ألغيت، وسواء ظلت على صياغتها التوافقية الحالية أم عدلت نحو أحد التيارين المتعارضين، فإن الدولة الأمنية باقية. والأمر كله مجرد ذر للرماد في العيون؛ فالدولة أول من يخرق بنود الدستور، بقانون الطوارئ والحبس الاحتياطي الذي يتجدد بمجرد إفراج النيابة عن المعتقلين لمدة أسبوعين، بحد أقصى ستة شهور؛ أي اثنتا عشرة مرة! ورجال الدولة، وهم رجال الأعمال، هم بؤرة الفساد. يجمعون بين السلطة والثروة، ويتعاملون مع الخارج قبل الداخل. كل ذلك إشعال للناس وللرأي العام بعيدا عن سياسات الدولة الخارجية، وترك العراق يذبح على مدى أربع سنوات، وفلسطين يصفى دم شعبها منذ الانتفاضة الأولى على مدى عشر سنوات، واحتلال الصومال، ومخاطر تفتيت السودان، وتهديد سورية وإيران وحزب الله والمقاومة في لبنان. كما أنه إبعاد لهم عن قضايا القهر والفساد وتزوير الانتخابات والمواجهة مع الإخوان والقضاء والجامعات والنقابات والاتحادات وأحزاب المعارضة وحركات المجتمع المدني.
إن الشريعة ليست كلا صامتا جامدا ثابتا متحجرا صلبا عبر التاريخ، بل هي متجددة متغيرة بتغير الظروف والمصالح، وبتبدل الزمان والمكان. الشريعة تعبير عن واقع كما يتضح ذلك من «أسباب النزول». الواقع يسأل، والشريعة تجيب
يسألونك عن الأهلة (البقرة: 189)،
ويسألونك عن المحيض (البقرة: 222)،
يسألونك عن الخمر (البقرة: 218)،
يسألونك عن الأنفال (الأنفال: 1)، والإجابة
قل .
معظمها إجابات عملية تهدف إلى تحقيق مصالح الناس؛ الأهلة لمعرفة المواقيت، والمحيض أذى يوجب الاعتزال عن النساء، والخمر بها مضار للصحة والعقل والمال، ولا جواب عن أسئلة نظرية لا ينتج عنها أثر عملي، مثل
ويسألونك عن الروح (الإسراء: 85). وهناك أسئلة انتهى عصرها، مثل السؤال عن الأنفال والغنائم؛ فلا توزع غنائم الحرب، في حالة الانتصار اليوم، سلاحا وعتادا وإماء على المحاربين، بل تصبح ملكا للدولة. والأسرى، نساء ورجالا، تحميهم المواثيق والمعاهدات الدولية. والشريعة متغيرة بتغير الزمان بدليل «الناسخ والمنسوخ»؛ فالأحكام الشرعية متطورة بتطور الزمان كما هو الحال في تحريم الخمر الذي تدرج كما هو معروف، من الضرر إلى عدم شربه وقت الصلاة إلى اجتنابه كلية. وأحيانا يتجاوز الواقع والزمان أحكام الشريعة، مثل أحكام الغنائم والإماء والصيد. وقد أوقف عمر العمل بحد السرقة عام المجاعة كما هو معروف، وأوقف سهم المؤلفة قلوبهم، وأفتى محمد عبده بجواز أخذ فوائد التوفير نظرا لانخفاض العملة عبر الزمان، وأفتى آخرون بإيقاف تعدد الزوجات كحق مطلق استنادا إلى تعليقه على شرط مستحيل، وهو العدل بينهن. ورأى آخرون إبقاءه بعد إخطار الزوجة الأولى. وشكلت لجان لإعادة تقنين الشريعة طبقا لأحوال العصر، وإعطاء صياغات جديدة لقانون الأحوال الشخصية بدلا من توقف المطلقات والأرامل، واللاتي يهاجر أزواجهن إلى مناطق جذب العمالة دون إخطار زوجاتهن. كل منهن تحمل على ذراعيها وليدها، أو تجر في أذيالها أبناءها وبناتها.
ولا الدساتير أيضا ثابتة، ولا شريعة نابليون التي اعتبرها الطهطاوي متفقة في روحها مع الشريعة الإسلامية أيضا ثابتة إلى يوم الدين؛ لذلك يدرس طلاب الحقوق تاريخ القانون لبيان تطوره عبر العصور. وتتغير القوانين الحديثة من عصر إلى عصر، ومن شعب إلى شعب، ومن ثقافة إلى ثقافة في القانون الجنائي والقانون المدني، وقانون المرافعات. والقانون التجاري يعكس موازين القوى الاجتماعية والتركيب الطبقي للمجتمع، والقانون الدولي العام والخاص تسيطر عليه القوى الكبرى في صياغاته وأهدافه، ويعبر عن موازين القوى الدولية في كل عصر. وطالما أدخلت تعديلات على كل الدساتير كملاحق لها، بل قد تتغير بتغير النظام السياسي من ملكي إلى جمهوري، والنظام الاقتصادي من رأسمالي إلى اشتراكي. والدستور المصري الحديث ليس ثابتا، بل أعيدت صياغته عدة مرات منذ دستور 1923م إلى دستور 1971م.
تختلف مدارس القانون في فهم طبيعة القانون بين أكثرها محافظة وأشدها تحررا؛ فالمدرسة المحافظة تعتبر القانون تعبيرا عن الإرادة الإلهية، وهو عام شامل مطلق مثلها لا يتغير بتغير الزمان والمكان. وتراه المدرسة العقلية تعبيرا عن العقل الخالص. والعقل أيضا ثابت لا يتغير، العقل البديهي البسيط. وتراه المدرسة الطبيعية تعبيرا عن الطبيعة الإنسانية وبنيتها الفطرية. وهي أيضا ثابتة لا تتغير. فالإنسان إنسان منذ الخلق حتى البعث.
يبدأ التصور الاجتماعي المتغير للقانون ابتداء من المدرسة الاجتماعية والتطورية التي تعتبر القانون تعبيرا عن نظام المجتمع، يتطور بتطور المراحل التاريخية للمجتمعات، وتاريخ التشريع ونظام القرابة شاهد على ذلك. ومنها من يعتبر القانون انعكاسا للصراع الطبقي في المجتمع وتوازن القوى فيه كما هو الحال في مصر؛ لذلك تتغير التشريعات ونظم التعليم والاقتصاد في كل جيل عدة مرات، بل إن هذا القانون ذاته يخضع لتأويلات وتفسيرات متعددة طبقا لفهم القانون عند المدعي العام والدفاع والقاضي . وصراع التأويلات هو صراع قوي ينعكس في طريقة فهم النصوص؛ لذلك نشأ صراع بين حرف القانون وروح القانون بين نفس المدرستين المحافظة والتحررية.
والشريعة ليست كلا واحدا، ورأيا واحدا، واتجاها واحدا، بل هي متعددة الآراء والاتجاهات بين المذاهب الفقهية الأربعة الشهيرة. ويختار كل شعب المذهب الذي يتفق مع خصوصيته. اختارت مصر الشافعية، الوسطية بين الحنفية والمالكية، وإن كانت جزءا من المنظومة المالكية للمغرب العربي، وفي الأحوال الشخصية حنفية. وأصبحت اليوم في السلوك اليومي حنبلية تحت تأثير التيار المحافظ في شبه الجزيرة العربية، وكرد فعل على انهيار الدولة الحديثة في مرحلة ما بعد الاستعمار، واستبعاد الحركة الإسلامية من المشاركة السياسية بعد الثورات العربية الأخيرة على مدى أكثر من نصف قرن، وفشل الأيديولوجيات العلمانية للتحديث؛ الليبرالية والقومية والماركسية.
ولا يعني تطبيق الشريعة تطبيق الحدود؛ أي قانون العقوبات؛ فلا واجبات بلا حقوق. وإذا كان من الواجبات تطبيق الأحكام الشرعية أوامر ونواهي، فمن الحقوق إعطاء كل فرد حقه في بيت المال، في الغذاء والكساء والإسكان والعلاج والتعليم والعمل والمشاركة في ثروات البلاد قبل تطبيق حد السرقة أو حد الزنا؛ فلكل حكم سبب وشرط ومانع، فلا يطبق حد السرقة بدافع الجوع والحرمان وبعموم البلوى إذا كان الكل سارقا. وهناك فرق بين السرقة من أجل البقاء والسرقة لنهب الأموال وثروات البلاد. ولا تتعلق الشريعة فقط بالأحوال الشخصية، بل بالأحوال العامة، ليس من الباب الضيق، من غرفات النوم، بل من الباب العريض، من النظام السياسي والاجتماعي. نظامها السياسي شورى ضد الاستبداد بالرأي وفردية القرار. يقوم على البيعة، وليس على الانقلاب العسكري أو الوراثة والتوريث. ونظامها الاقتصادي يقوم على الملكية العامة لوسائل الإنتاج، وعلى التوزيع العادل للدخل القومي طبقا لطبيعة العمل وحده. ونظامها القانوني يقوم على الحسبة والرقابة على الأسواق وجهاز الدولة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هي الوظيفة الرئيسية للحكومة الإسلامية حتى عند السلفيين. ونظامها القضائي يقوم على استقلال القضاء. مهمتها الذب عن البيضة؛ أي الدفاع وتقوية الثغور والحفاظ على استقلال البلاد الوطني ووحدة الأمة وتنمية مواردها وإعمار الأرض. والخروج على الحاكم الظالم واجب شرعي بعد استيفاء الشروط؛ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة لأولي الأمر، واللجوء إلى قاضي القضاة.
هناك فرق بين الجد والهزل، بين تحقيق المصالح العامة وإثارة المشاكل المفتعلة لملء الفراغ السياسي، والإيهام بمشاركة الشعب في تعديل الدستور. إن المصدر الأول للتشريع هو المصالح العامة، تحقيق أكبر قدر من المصلحة لأكبر عدد ممكن من الناس؛ فالمصلحة أساس التشريع كما قرر بذلك كل الفقهاء، وعلى رأسهم الشاطبي والطوفي إمام الحنابلة. وما يحدث اليوم من تعديلات للدستور إضرار بالمصالح العامة، وهي أساس الشريعة والدستور في آن واحد.
الإسلام والصراع على السلطة
2
يكثر الحديث عن الإسلام في الصحف اليومية والمحلات الأسبوعية والشهرية. وليس المقصود منه عرض الإسلام في ذاته، أو بيان حلوله لبعض المشكلات والأزمات الطاحنة التي تمر بها المجتمعات العربية والإسلامية، بل المقصود من كل خطاب، على الرغم من تنوع الخطابات، الصراع على السلطة؛ فالسلطة هدف الجميع، حكومة ومعارضة.
والحسابات الفلكية أدق وأضبط تستعمل الدولة، أي النظام الحاكم أو الحكومة بالتعبير الشعبي، الإسلام لصالح البقاء في الحكم والاستمرار في السلطة؛ فالإسلام في الصحف هو الإيمان ومضمونه العقائدي الغيبي أو الشعائري، السمعيات وليس العقليات، النظريات وليس العمليات. وهو الاعتدال ضد التطرف، والتسامح ضد العنف، والوحدة الوطنية ضد الفرقة، وبناء المساجد والكنائس على حد سواء، دون تمييز لفريق على فريق، وعيد ميلاد السيد المسيح إجازة رسمية مثل المولد النبوي سواء بسواء، وتقيم الدولة مسابقات تحفيظ القرآن، وتساهم في إقامة الأعياد والموالد للأولياء، وتحافظ على التراث، وتطبعه وزارة الثقافة، وتقوم الدولة من خلال وزارة الأوراق والشئون الدينية بذلك ، ومشيخة الطرق الصوفية تابعة لرئاسة الجمهورية مثل جامعة الأزهر مكتبة الإسكندرية، وتبقي على الإسلام دينا رسميا للدولة بالرغم من اعتراضات العلمانيين بأن الدولة لا دين رسمي لها لأنها تمثل جميع المواطنين بصرف النظر عن إيمانهم، وتبقي على المادة الثانية التي تنص على أن الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع حتى لا تزايد الحركات الإسلامية عليها. وهي تعلم أن كل ما يسن من قوانين في البلاد مثل قانون الطوارئ، والأحكام العرفية، وقانون مكافحة الإرهاب، كلها معارضة للشريعة الإسلامية التي تؤكد حرمة المسلمين؛ أعراضهم وأموالهم. وهي تعلم أيضا أن كل ما يحدث في البلاد من احتكار تجارة الحديد والأسمنت، وتلاعب بالأسعار، ومضاربات في العقارات، وبيع أصول مصر، مصانعها وجامعاتها وبنوكها، وربما قناتها، بدعوى الخصخصة والدخول في عصر العولمة والمنافسة واقتصاد السوق إنما هو ضد الشريعة الإسلامية التي تحرم الاحتكار لأن المحتكر ملعون، والتلاعب بالأسواق، وبيع الركاز؛ أي كل ما هو في باطن الأرض كالمعادن، أو ثابت لا يتحرك لا ينقل في الأسواق. وهي تمنع تأسيس أحزاب مثل الإخوان أو الوسط لأنها تقوم على أساس ديني؛ مما يؤدي إلى الفتنة الطائفية وقسمة أبناء الوطن الواحد إلى طائفتين. وهي تعلم أن الأحزاب «الدينية» أحزاب مدنية تقول بأن السلطة للشعب بناء على الاقتراع العام، وتقول بالتعددية السياسية. وليس الإسلام إلا الإطار المرجعي العام كالأيديولوجيات السياسية، الليبرالية والاشتراكية والقومية. والمحك هو البرنامج الحزبي.
والإسلام في أيدي الإسلاميين ليس المقصود به الإسلام في ذاته، بل الإسلام من أجل الوصول إلى السلطة، الإسلام في معترك الصراع السياسي؛ فهم المحافظون على تراث الأمة العريق من الاندثار والضياع، والداعون إلى التواصل معه. ولا يصلح هذه الأمة إلا ما صلح به أولها. وهم المدافعون عن تطبيق الشريعة الإسلامية ضد القانون الوضعي الذي يلاقي تحته المواطنون أشد ألوان العذاب في المكاتب الحكومية وفي أجهزة الدولة،
ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون (المائدة: 44)،
ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون (المائدة: 45)،
ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون (المائدة: 47). وهم المدافعون عن الهوية ضد التغريب، والمتمسكون بالأصالة دون الحداثة، والمحافظون على روح الأمة الخالدة ضد إغراءات الدنيا. وهم استمرار للخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين، وتابعي التابعين إلى يوم الدين. هم خلفاء الأمة. والعلماء ورثة الأنبياء. شعاراتها سلطوية إقصائية أحادية الجانب. «الإسلام هو الحل» مع أنه لا يوجد حل واحد لأي قضية. «الإسلام هو البديل»، والبدائل متعددة. ولا يوجد بديل واحد إلا في أوقات الهزيمة بحثا عن الخلاص وتعلقا بطوق النجاة. «تطبيق الشريعة الإسلامية» للثورة على القوانين الوضعية؛ وبالتالي الثورة على الدولة من أجل الحكم بما أنزل الله.
هدف هذه الشعارات هو تقويض ما هو قائم، وليس تغييره إلى ما هو أفضل والبناء عليه؛ فالهدم يأتي قبل البناء، والبناء يأتي بعد الهدم. الإسلام هنا وسيلة للوثوب إلى السلطة، وهو حق مشروع لكل القوى السياسية في البلاد؛ فليست السلطة حكرا على أحد، بل يتم تداولها طبقا لصناديق الاقتراع والانتخابات الحرة مهما تغيرت مواد الدستور إلى البقاء في السلطة أكثر من دورتين ثم إلى مدى الحياة.
والدين في أيدي العلمانيين يقوم على تشويه متعمد له من أجل إبعاد خصومهم الإسلاميين في الصراع معهم على السلطة عندما تضعف الدولة، ويصبح النظام السياسي تابعا للخارج وقاهرا للداخل، كي يكون أحد الجناحين، الإخوان أو الشيوعيون، هم السلطة البديلة القادمة بعد أن تتفتت السلطة القائمة؛ فالدولة الإسلامية دولة دينية، وليست دولة مدنية. يحكمها رجال الدين باسم الله ونيابة عنه. هي دولة ثيوقراطية، إمامها خليفة الله في الأرض مثل ولاية الفقيه. قضى عليها الغرب في عصوره الحديثة، واستبدل بها الدولة المدنية، وفصل الدين عن الدولة، والسلطة الدينية عن السلطة السياسية، والكنيسة عن الدولة. ولما شاعت ثقافة الغرب، وعم نموذجه، وتم إسقاطه على باقي الثقافات والشعوب؛ كره الناس الإسلام وخافوا منه. فمن يريد العصر الوسيط، وتحالف الكنيسة مع الملكية كنظام سياسي، ومع الإقطاع كنظام اجتماعي؟ وهل يرضى الأقباط أن يعيشوا في كنف الدولة الإسلامية كأهل ذمة؟ وأهل الذمة في الاستشراق الغربي الذي ذاع وانتشر مواطنون من الدرجة الثانية. أقلية وسط الأغلبية. تؤخذ منهم الجزية عن يد وهم صاغرون. والرأي العام العالمي، وأقباط المهجر جزء منه، يروجون لمثل هذه الأحكام الخاطئة طلبا لتأييد الغرب لحقوق الأقليات، واستعداء للدول الكبرى والمنظمات الدولية، خاصة الأمم المتحدة التي نصبت نفسها مدافعة عن الأقليات، وتصدر القرارات الدولية بمعاقبة الدول التي تنتهك حقوقها باسم الإسلام. والإسلاميون لا يسلمون بتداول السلطة، إذا وصلوا إليها فإنهم باقون فيها إلى الأبد، كما أعلن مرة رئيس جبهة الإنقاذ في الجزائر بعد نجاح الإسلاميين في الانتخابات البلدية أن هذه آخر الانتخابات. وما بعد الحق إلا الباطل؛ فأخاف الناس، وأثار الجيش، فانقلب عليهم، انقلاب على انقلاب، وسلطة على سلطة. يخلط الإسلاميون بين الدين والسياسة، ويستعلمون الدين لصالح السياسة دون كشف ذلك أيضا في منطق الدولة من أجل إقصاء الخصوم. والدين تجربة شخصية، في حين أن السياسة فضاء عام.
الدين علاقة الإنسان بينه وبين ربه، والسياسة علاقة الإنسان بأخيه الإنسان. الدين لله، والوطن للجميع. والإسلام ضد حرية الفكر، لا يقبل الحوار مع الخصوم، يكفرهم ويستبعدهم ويزيحهم ويقصيهم، بل ويصفيهم جسديا، ويستعمل كل وسائل العنف من أجل تخليص المجتمع من الفرق الهالكة باسم الفرقة الناجية. يحكمون بمفردهم، ولا يدخلون في جبهات وطنية مع باقي القوى السياسية، الليبراليين والماركسيين والقوميين؛ فقد اغتيل حسن البنا في العصر الليبرالي، وأعدم سيد قطب في العصر القومي الاشتراكي لممارسة العنف وتكوين التنظيمات السرية لقلب نظام الحكم. وقد لا يطيق فريقان إسلاميان بعضهما البعض، كل فريق يريد الحكم بمفرده كما هو الحال في السودان بين الإخوان في الحكم، والجبهة القومية في المعارضة. والشريعة الإسلامية هي فقط الحدود؛ قطع الأيدي والرقاب والجلد والرجم والصلب والتعليق على جذوع الأشجار والحريم وتعدد الزوجات والطلاق وعدم مساواة المرأة بالرجل والتخلف ومعاداة العلم والمدنية إلى آخر ما يقوله الاستشراق التقليدي. ولا فرق بين ما تروجه الدولة ضد الإسلاميين، وما يروجه العلمانيون ضدهم؛ فالعدو واحد، وهم الإسلاميون، مع أن الدولة والعلمانيين باعتبارهم أحد أجنحة المعارضة الرئيسيين للمعارضة رفاق نضال.
إن تشويه الإسلام من أبنائه في أتون الصراع السياسي ضد العلم وضد الوطن؛ فليس من مصلحة الدولة ولا العلمانيين ولا الإسلاميين تشويه الإسلام وتسليمه لأعدائه لصالح الصراع السياسي على السلطة. السلطة زائلة، وثقافة الأمة باقية.
الأصلح للجميع حفاظا على تراث الأمة الذي يكون الرافد الرئيسي في ثقافتها السياسية، التعامل مع الإسلام في ذاته، وكيف أنه قادر على الدفاع عن مصالح الأمة واستمرارها في التاريخ والدخول في تحديات العصر، تحرير ما تبقى من الأراضي المحتلة في فلسطين وكشمير وسبتة ومليلية، وما زاد عليها في العراق وأفغانستان والشيشان كما يريد الوطنيون جميعا، وتحرير المواطن من كل صنوف القهر السياسي والاجتماعي تحقيقا لشعار «لا إله إلا الله»، والجهر بالحق، وقول كلمة حق في وجه سلطان جائر كما يريد الليبراليون، وتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة بين الناس، وجعل العمل المصدر الوحيد للقيمة بدلا من هذا التفاوت الشديد بين الأغنياء والفقراء وتهريب الأموال والاتجار بالأرزاق كما يريد الماركسيون، والدفاع عن وحدة الأمة ضد مخاطر التجزئة والتفتيت العرقي والطائفي، وتحقيق التنمية المستقلة في أمة متكاملة في اقتصادها بين الثروات وعائدات النفط والعقول والسواعد كما يريد القوميون الوحدويون، والدفاع عن الهوية ضد التغريب والتميع كما يريد الإسلاميون، وتجنيد الجماهير وحشد الناس الذي تعاني من غيابه جميع فرق المعارضة. ليس من مصلحة أحد تشويه الإسلام من أجل الصراع على السلطة، بل من مصلحة الجميع إبراز قدرة تراث الأمة على تحقيق مصالحها الوطنية، وأن يكون وعاء للوحدة الوطنية التي يجتمع فيها كل الفرقاء على الحد الأدنى من المصالح العامة على مستوى العمل، مع أكبر قدر ممكن من التعددية السياسية وحق الاختلاف على مستوى النظر.
مصر وتركية وإيران
3
في عصر التكتلات السياسية والاقتصادية الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وحلف شمال الأطلنطي والاتحاد الأوروبي ومجموعة الثمانية، يقف الوطن العربي وحيدا مجزءا إلى أقطار، ومهددا بالتقسيم إلى دويلات طائفية؛ شيعية وسنية، وإسلامية وقبطية، أو عرقية؛ عربية، كردية، بربرية، زنجية، ثم إشعال الحروب بينها حتى تتحول إلى فتات تابع للتكتلات الكبرى. وحاولت دول أخرى إقامة تكتلات مماثلة في أمريكة اللاتينية، النافتا، وفي أفريقية، الاتحاد الأفريقي، وفي الوطن العربي، الجامعة العربية، وفي العالم الإسلامي، منظمة المؤتمر الإسلامي، وفي عالم النفط، منظمة الأوبك، وفي جنوب شرق آسيا، الآسيان، وأخيرا مجموعة الدول الأفريقية الآسيوية الأربع وعشرين ومركزها أندونيسية، وماليزيا، وإيران، وتركية، ومصر، ونيجيريا؛ لتنشيط دول مؤتمر باندونج، وتحويله من مستوى الوجدان إلى مستوى الفعل بعد ما يزيد على نصف قرن. ومع ذلك ظلت ضعيفة صورية خطابية، لا تستطيع الصمود أمام التكتلات الكبرى، وليس لها ثقل سياسي لأنها خالية من الثقل الاقتصادي الذي تستطيع به منافسة التكتلات الكبرى في السوق طبقا لحرية المنافسة وفي عصر العولمة.
فهل تستطيع مصر والوطن العربي مع دول الجوار، تركية وإيران، تكوين تكتل سياسي اقتصادي يحميها من التجزئة والتفتت والتقسيم، ويجعلها قادرة على الصمود أمام التكتلات الكبرى، وربما تكوين بؤرة لبداية قطب ثان في أفريقية وآسيا قادرا على أن يواجه القطب الأول في عالم متعدد الأقطاب؟
إن التاريخ المشترك بين مصر وتركية ظل أكثر من خمسة قرون منذ فتح سليم الأول مصر عام 1517م، وظلت درة الخلافة العثمانية كما كانت الهند في عصر الاستعمار درة التاج البريطاني. وبسبب نظام السخرة ونظام الالتزام والتسلط التركي ومركزية الباب العالي والنظام الملي وقهر شعوب البلقان، بدأ ضعف الخلافة العثمانية. ومع ذلك حاول محمد علي إحياءها من مصر بتأسيس دولة قوية جديدة أكثر استنارة من دولة الخلافة. وظلت العلاقة بين مصر وتركية حتى القرن العشرين إبان حركة التحرر الوطني ضد الاستعمار البريطاني في الحكم والمصاهرة.
وظلت نفس العلاقة المتينة بين مصر وإيران، أقوى دولتين في العالمين السني والشيعي. بينهما صلات رحم بين الأسرتين الحاكمتين، الشاه ومحمد علي، وأواصر صداقة بين الشعبين. جمعهما التراث الإسلامي، خاصة الشعر والتصوف، الفردوسي والرومي، والخيام وإقبال.
سبقت الثورة المصرية في 1952م بقيادة الضباط الأحرار، الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الأئمة الأحرار. واستلهمت تأميم القناة في 1956م من تأميم مصدق النفط في 1954م، وهروب الشاه بعد مغادرة ملك مصر والسودان البلاد. وظلت الثورة المصرية تؤيد زعماء الثورة الإيرانية بالمال والسلاح بعد عودة الشاه عن طريق العراق ضد العدو المشترك؛ أمريكة وإسرائيل، ثم بدأت القطيعة بين البلدين بعد انقلاب الثورة المصرية على نفسها، وتحولها إلى ثورة مضادة أثناء الجمهوريتين؛ الثانية في السبعينيات على مدى عقد من الزمان، والثالثة في الثمانينيات حتى الآن على مدى ثلاثة عقود من الزمان. وما زالت مستمرة بالبقاء في السلطة مدى الحياة، أو بمخططات التوريث وتعديلات الدستور وتأييد الولايات المتحدة وإسرائيل، بل تحالفت الثورة المضادة مع الولايات المتحدة في سياساتها الأمنية في الوطن العربي، وفي غزوها للعراق، وعقدها معاهدة صلح مع إسرائيل، وهي ما زالت تحتل أراضي ثلاث دول عربية.
إن القومية العربية ليست أيديولوجية سياسية مغلقة، بل مفتوحة على دائرة أوسع هي العالم الإسلامي. والعروبة ليست بأب أو أم؛ أي مفهوما عرقيا، إنما العروبة هي اللسان؛ فكل من تكلم العربية فهو عربي. وقديما تمت التفرقة بين العرب العاربة والعرب المستعربة. وربما كل العرب خارج شبه الجزيرة العربية وصحراء الشام الامتداد الطبيعي لها عرب مستعربة؛ فإعادة صياغة حدود القومية العربية بحيث تشمل دول الجوار غير العربية التي أخذت الإسلام دون اللسان تفترضه طبيعة التكتلات الكبرى الحالية، وتتجاوز بعض أوجه النقص في ممارسات النظم السياسية التي حكمت باسم القومية العربية في مصر وسورية والعراق.
إن تكتلا سياسيا اقتصاديا جديدا بين مصر وتركية وإيران يضم أكثر من مئتي مليون نسمة في نفس حجم سكان أوروبة، وأمريكة، واليابان. وتستطيع مصر أن تستدعي الوطن العربي معها؛ فهي بؤرته. والعالم الأفريقي معها؛ فهي جزء منه. وتستطيع تركية وإيران أن تجلب معها أواسط آسيا بما في ذلك باكستان وأفغانستان، وجنوب شرق آسيا، أندونيسية وماليزيا؛ فيعاد إحياء حركة تضامن شعوب آسيا وأفريقية من جديد، قلب باندونج بعد نصف قرن. الإمكانيات السكانية والصناعية بلا حدود. تعتمد على النفط والصناعات المدنية والعسكرية، والمنطقة الاستراتيجية والعمالة، السواعد والعقول، والأسواق، والاتصال البحري والبري، والإرث التاريخي المشترك، والثقافة الإسلامية الجامعة بين الشعوب. ومياه النيل ودجلة والفرات قادرة على جعل الزراعة مكتفية بذاتها، بدلا من الصراع حولها بين سورية والعراق من ناحية، وإيران من ناحية أخرى، وحول مياه النيل بين الدول المطلة على حوضه. يستطيع هذا التكتل الجديد أن يحافظ على عروبة فلسطين، واستقلال دولة فلسطين، واسترداد الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. كما يستطيع أن يقدم كل وسائل العون والحماية لدول الخليج التي هي مفترق الطرق بين العرب وإيران، والجسر الثقافي بين السنة والشيعة، وإحياء إعلان دمشق بدلا من المظلة الأمريكية الإسرائيلية ؛ وبالتالي ينتهي التناقض بين السنة والشيعة، بين العرب وإيران. كما تبتعد تركية عن إسرائيل، وقد بدأ. وتستقل عن الولايات المتحدة الأمريكية، وتبدع نموذجا جديدا للتطور والتنمية بعد النموذج الغربي الذي اختارته الثورة الكمالية في ظروفها التاريخية الأولى أثناء ضعف الخلافة ونهايتها.
كما تجد مصر عونا جديدا لها بدلا من الاعتماد الكلي على الغرب والولايات المتحدة في تنميتها وقضاياها الوطنية. كما يساعد التكتل الجديد على تحرير العراق واسترداد استقلاله ووحدة شعبه وأرضه، وعلى الدفاع عن سورية ضد مخاطر التهديد الإسرائيلي الأمريكي، بل يساعد على انصهار فرقاء النضال والخصوم السياسيين في إطار وطني واحد، في لبنان والمغرب العربي، والسودان والصومال، ونزع فتيل التوتر في شبه الجزيرة العربية، وحماية الأمن القومي الخليجي من الإحساس بالخطر الإيراني النووي والمذهبي.
والصحوة الإسلامية الحالية عنصر مشترك في مصر وتركية وإيران بأجنحتها المختلفة السلفية والإصلاحية، الليبرالية والاشتراكية. وليس فقط التاريخ المشترك على مدى آلاف السنين منذ ظهور الإسلام، بل أيضا الثقافة المشتركة التي توحد بين الشعوب، وكلاهما يوفران الحد الأدنى من التضامن بينها. لقد منعت تركية مرور القوات الأمريكية فوق أراضيها لغزو العراق من الشمال، واستعمال القاعدة الأمريكية إنجرليك لضرب العراق. والآن تبتعد تدريجيا عن إسرائيل، والتعاون معها في الصناعات العسكرية، وتأييد سياساتها الاستيطانية التوسعية؛ فقد وجدت في العرب البديل عن الغرب، وفي مصر البديل عن إسرائيل.
يستطيع هذا الثلاثي الجديد أن يحل باقي المشاكل العالقة بين تركية والعرب، مثل لواء الإسكندرونة على الحدود السورية التركية، وقضية الأكراد على الحدود العراقية التركية الإيرانية، وقضية التقسيم العادل لمياه دجلة والفرات بين العراق وسورية وتركية في عصر تشتد فيه أزمة المياه، وربما الحرب القادمة في المنطقة هي حرب المياه. كما يستطيع هذا التجمع حل مشاكل الجزر الإماراتية بما يحقق حسن الجوار على ضفتي الخليج في إطار من محافظات التكامل في مناطق النزاعات الحدودية التي تركها الاستعمار من أجل بث الفرقة بين الدول العربية والإسلامية. وفي هذه الحالة لا تخاف مصر من المد الإسلامي؛ إذ يصبح الإسلام أحد عناصر التعاون والترابط والحياة المشتركة، وينتهي الخوف من الخلاف السني الشيعي، أو المناطق الحدودية مثل عربستان، وحول تسمية الخليج العربي أو الفارسي؛ فالإسلام تجمع حضاري وليس جغرافيا. كما يحل النزاع بين سورية وتركية حول حزب العمال الكردستاني، وبين مصر وإيران حول التوجهات السياسية من أجل عودة العلاقات بين البلدين بعد انقطاعها على أكثر من ربع قرن، وهو ما لا يحدث في العلاقات الدولية، وكأن إيران تمثل خطرا على مصر أكثر من إسرائيل. كما ينتهي خوف إيران من ضربها من الولايات المتحدة الأمريكية عبر المنطقة العربية، وخوف الخليج من الخطر النووي المذهبي الإيراني.
إن تحقيق كومنولث بين مصر وتركية وإيران يعيد التوازن إلى المنطقة بدلا من ميل العرب نحو الغرب الأمريكي ومناهضة إيران له، وميل العرب إلى الصلح مع إسرائيل في مبادرة السلام العربية وخارطة الطريق وإنشاء دولة فلسطين في 1967م، وميل إيران إلى تحرير فلسطين من البحر إلى النهر، فلسطين 1948م، وفلسطين 1967م. وهو الذي يحمي المنطقة من الصراع المذهبي والعرقي، وإقامة تجمع سني في آسيا وأفريقية لمحاصرة المد الشيعي في العراق.
وهو الذي يعيد المعركة إلى جبهتها الأصلية في فلسطين، وحماية الأمة من الهيمنة الغربية الأمريكية بدلا من تغييب المعركة والانحراف بها إلى الداخل بين المذاهب والطوائف والأعراق.
وكما أن العصر هو عصر التكتلات الكبيرة، فإنه أيضا عصر الاستراتيجيات الكبرى التي يضعها الخيال السياسي ومسار الأمم في التاريخ.
الاستقطاب المصطنع
4
بالرغم من حالة التميع السائدة في السياسة الخارجية العربية يشتد الاستقطاب في السياسة الداخلية. الاستقطاب في الخارج شيء طبيعي بين العرب من ناحية، وإسرائيل والولايات المتحدة من ناحية أخرى، أما الاستقطاب في الداخل في حياة المواطنين فإنه مصطنع، يفرغ الطاقة، ويحيد عن الهدف. هو استقطاب مزيف لخلق معارك وهمية بدلا من المعارك الطبيعية التي حيدتها نظم الحكم في السياسة الخارجية في قضايا الحرب والسلام بالنسبة للقضية الفلسطينية، والتبعية والاستقلال بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية.
يصل حد الاستقطاب في الداخل إلى حد الحروب الأهلية كما حدث في لبنان والجزائر بين الإخوة الأعداء. فريق يكفر فريقا، وفريق يخون فريقا. فشق الصف الوطني، وضاعت وحدة الأوطان، واختفت ثقافة الحوار، وأصبحت الأوطان مهددة ليس فقط بقوى التفتيت الخارجية وإثارة النعرات الطائفية والعرقية، بل أيضا بقوى التفتيت الداخلية صراعا على السلطة بين فرقاء الوطن الواحد. الاستقطاب الخارجي استقطاب رئيسي تتحدد طبقا لقوانين الصراع فيه حياة الأمم والشعوب، في حين أن الاستقطاب الداخلي لا نفع منه في قضايا مفتعلة. وبلغة الأيديولوجيا، الاستقطاب الخارجي تناقض رئيسي، والاستقطاب الداخلي تناقض ثانوي. والرئيسي له الأولوية على الثانوي. الأول استقطاب عملي يغير مسار الشعوب، ويتحدد به مستقبل الأمم، في حين أن الثاني استقطاب نظري فقهي لا ينتج منه أي أثر عملي. ولا يحقق تقدما لشعب، بل يساهم في تأخره. ولا يحل مشكلة في حياة الناس، بل يزيد في تهميشها.
ومظاهر الاستقطاب كثيرة. أهمها الاستقطاب الديني: حجاب أم سفور؟ شريعة إلهية أم اختيار إنساني، جبر شرعي أم حرية شخصية؟ وبطبيعة الحال تنقسم الآراء بين فريقين؛ محافظين وليبراليين، تقليديين وتجديديين، سلفيين وعلمانيين. ويتحزب الناس، وينتصرون لذا الفريق أو ذلك. يزايد فريق في الدين والإيمان، ويزايد الفريق الآخر في الحداثة والعصرية. ويدخل الإحراج الشخصي والخوف الاجتماعي كحجج وبراهين؛ فلا أحد يجرؤ على عصيان الشريعة، ولا أحد يريد التنازل عن حرياته الشخصية. والله في القلب وليس وراء الأحجبة، في السرائر وليس في المظاهر. والفضيلة في السلوك وليست في الغطاء.
توحيد الأذان من مؤذن حسن الصوت من خلال أجهزة الإعلام الحديثة أم الإبقاء على تعدديته بأصوات كريهة، رجالا وأطفالا، تتداخل فيما بينها نظرا لقرب المساجد بعضها من بعض، وعلو مكبرات الصوت والمنارات .
يختلف الناس بين الإبقاء على التعدد في الأذان حتى ولو أدى ذلك إلى صراخ وصخب وصمم للآذان؛ فلكل مسجد أذانه، ولكل مؤذن صوته، وهي عامة الناس؛ وبين التوحيد المتناغم إبقاء على الغاية وهي اليقظة، مع حسن الوسيلة وهو الصوت الواحد المتناغم، وهو رأي النخبة والدولة.
استعمال مكبرات الصوت أم الصوت الطبيعي؟ يصر دعاة الإيمان على استعمال مكبرات الصوت؛ فلا فرق بين الإيمان والإعلام. ومكبرات الصوت أكثر قدرة على إيقاظ الوسنان وغفلة النائم. ولماذا لا تستعمل التكنولوجيا في الدين؟ ويتبارى الأغنياء في شراء أحدث الأجهزة الإلكترونية من مضخات الصوت من المحسنين والمتصدقين وفعلة الخير لنيل حسن الثواب في الآخرة بعد الثراء في الدنيا. ويرى دعاة الحياء والاطمئنان أن الصوت الطبيعي أقرب إلى القلب ومدعاة للخشوع من تضخيمه بالآلات الحديثة كما يتم في الأفراح والموالد وافتتاح المحلات التجارية. ويفترق الناس بين من يرى أن الإيمان إذاعة وانتشار ودعاية وإعلان وإعلام، وبين من يرى أن الإيمان أقرب إلى التقوى والقلب والصمت والاطمئنان الداخلي دون حاجة إلى صخب خارجي.
توحيد خطب المساجد يوم الجمعة أم تركها متنوعة طبقا لاختيار الأئمة؟ من يرى التوحيد هم رجال الدين الرسميون ووزراء الأوقاف والشئون الدينية، الذين يودون الإبقاء على خطب المساجد تحت رقابة الدولة حماية للبلاد من التطرف والشطط، وإدخال الدين في السياسة، واتقاء شر معارضة الحكومة بما للمساجد من أثر في تكوين أذهان العامة. وكما أفرزت المساجد فقهاء السلطان والحيض والنفاس، فإنها أيضا أفرزت فقهاء الأمة ومصالح الناس والثوار ضد الظلم والقهر والفساد والاحتلال. وينقسم الناس بين مؤيد لتوحيد الخطبة، وهم رجال الدولة مع بعض البسطاء من العامة، وبين المبقين على تعددها؛ فكل بيئة لها مصالحها، وأهل مكة أدرى بشعابها، وهي المعارضة.
كيف يحدد أول يوم العيد؛ بالعين المجردة أم بالحسابات الفلكية؟ العين المجردة يؤيدها النص القرآني
حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود (البقرة: 187)، والحسابات الفلكية أدق وأضبط من العين التي تختلف قوة وضعفا، والتي قد يمنعها الغمام والضباب والأتربة من حسن الرؤية. كيف يتم تحديد أول الشهر القمري والعالم الإسلامي ممتد من أقصى مشارق الأرض ومغاربها، من المغرب إلى الصين، كما انتشر في نصف الكرة الغربي أيضا. وقد تصل فروق التوقيت إلى أربع وعشرين ساعة؛ أي إلى يوم وليلة كاملين. ويتحزب الناس إلى كل من الرأيين، ويدب الخلاف بين المسلمين، وتبادل الاتهامات بالتخلف والتقليد أو بالجري وراء العلم الحديث، وتوحيد ما لا يوحد، وإلا لتعددت وقفة عرفات.
حلال أم حرام؟ في كل خطوة وفي كل فعل وأمام كل شيء حتى فقدت الأشياء براءتها الأصلية، وفقد المسلمون الثقة الطبيعية الخيرة، وتهيبوا العالم المملوء بالشرور والمحرمات حتى استولى عليه الأعداء وسيطروا عليه. الحلال والحرام معروف في الشرع، وما سكت عنه الشرع فهو في مرتبة المباح أو العفو. فلم السؤال والتضييق عما سكت عنه الشرع وتركه فسحة ورحمة؟ هذا ما فعله بنو إسرائيل بالسؤال، فيحرمه الله تدريبا لهم، فضاقت عليهم الشريعة فلفظوها، مثل السؤال عن لون البقرة ونوعها وشكلها وحجمها
يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم (المائدة: 101). ويفترق الناس فريقين؛ الأول مع التشديد مزايدة في الإيمان، والثاني مع التخفيف رحمة بالناس.
وهكذا يتم تفرع الاستقطابات الدينية، وتتحول من الاستقطاب الديني إلى الاستقطاب الاجتماعي؛ فساد الرهبان، وعلاقاتهم الجنسية الحرة من أجل إثارة الشقاق بين المسلمين والأقباط، الزواج المختلط بينهما، التنصير أو الأسلمة، تحول النصراني إلى الإسلام أو المسلم إلى النصرانية، إباحة الطلاق أو تحريمه في المسيحية حتى يختلف الناس بين الإباحة والتحريم، وتقع النزاعات الطائفية في الدول التي تخلو من النزاعات العرقية والمذهبية.
وقد يتجاوز الاستقطاب المستوى الديني الاجتماعي إلى المستوى الديني السياسي في عدة موضوعات أخرى. الإبقاء على مادة الشريعة المصدر الرئيسي للتشريع في الدستور أم إلغاؤها؟ إبقاؤها يرضي المؤمنين حتى ولو كانت صورية فارغة من أي مضمون؛ فما يقع في البلاد من فساد وقهر في الداخل وتبعية وتحالف مع أعداء الأمة في الخارج ضد الشريعة. وإلغاؤها يرضي العلمانيين؛ فالدستور للجميع وليس للمسلمين فقط، وبالبلاد أقباط لا تطبق الشريعة الإسلامية عليهم طبقا للشريعة ذاتها. ويحتدم الخلاف، وتنقسم الأمة على موضوع شكلي وإن كانت له دلالة رمزية، وتخاطر بوحدة عنصري الأمة المسلمين والأقباط، وينفر الناس من الشريعة إذا كان المقصود منها تطبيق الحدود دون إعطاء الحقوق. والشريعة واجبات وحقوق؛ فلا رجم إلا إذا توفرت للشباب إمكانيات الزواج المبكر، ولا قطع ليد إلا إذا توفرت له أسباب الحياة الكريمة من عمل وكسب ومسكن وتعليم وعلاج؛ أي الحاجات الأساسية للمواطن.
دولة دينية أم دولة مدنية؟ وهو استقطاب مقنع يخفي صراعا سياسيا بين الحكومة والإخوان. الحكومة تتهم الإخوان بالقول بالدولة الدينية، وهو مضاد للدستور الذي يمنع من تأسيس أحزاب سياسية على أسس دينية حماية للوحدة الوطنية. والإخوان يتهمون الحكومة بالدولة المدنية التي تطبق القانون الوضعي الذي قد يتعارض أحيانا مع الشريعة الإسلامية. والإخوان يقولون بالدولة المدنية، وتدخل في معترك الحياة السياسية كحزب مدني، الانتخابات والبرلمان. وتطالب بتعديل الدستور حفاظا على الحريات العامة وقواعد الديمقراطية وتداول السلطة كما تفعل باقي أحزاب المعارضة. والحكومة تمارس دور الدولة الدينية باستعمال الرموز الدينية في أجهزة الإعلام وجهاز الدولة وصفات الرئيس المؤمن.
سني شيعي؟ كلما اشتدت المقاومة العراقية في العراق، وغرقت القوات الأمريكية في رماله، كما غرقت من قبل في أوحال فيتنام، تحول الصراع بين المقاومة والاحتلال إلى الصراع بين السنة والشيعة. وبدلا من الحديث عن مآسي الاحتلال، يتم الحديث عن الخطر الشيعي على العراق والخليج وعلى أهل السنة بالإجماع. وكما تتزعم إيران المذهب الشيعي، تتزعم السعودية أو باكستان المذهب السني. وتقام أحلاف جديدة على أساس مذهبي سني شيعي، وليس على أساس وطني؛ استقلال وتبعية. ومع الخطر الشيعي الإيراني يأتي الخطر النووي الإيراني، وكأن الخطر الإسرائيلي لم يعد هو الخطر الأول.
ويزيد الاستقطاب الديني والاجتماعي والسياسي الاستقطاب الرياضي بين الأندية الرياضية، خاصة فرق كرة القدم. وتخرج المظاهرات في الشوارع تحمل الأعلام الحمراء ليس دفاعا عن الاشتراكية، والأعلام البيضاء ليس من أجل السلام. وتملأ أخبار النجوم والرياضة الصحف والمجلات أكثر من صور الشهداء وأبطال المقاومة.
وإن كان لا بد من الاستقطاب في الداخل فلا أحد يتحدث عن الاستقطاب بين القاهر والمقهور، بين الظالم والمظلوم، بين الأغنياء والفقراء، بين دعاة التوريث وأنصار تداول السلطة.
إن الاستقطاب ضد الحوار، كما أن التوحيد ضد الخلاف. وبدلا عن الاستقطاب الحوار بين وجهات النظر المتعددة. الاختلاف حق شرعي، وحله بالحوار الوطني، والاجتماع على حد أدنى من المصالح الوطنية ضد مخططات التجزئة والتقسيم. ولماذا تقع الأوطان بين المطرقة والسندان؛ مطرقة عوامل التفتيت العرقي والمذهبي والطائفي من قبل القوى الخارجية، وعوامل الاستقطاب الداخلي بفعل القوى الداخلية؟ ولماذا تصبح الثقافة الوطنية ضحية بين عجز أبنائه وجهل علمائه؟
العلمانية والسلفية
بعد تخلي مصر عن دورها الإقليمي في الوطن العربي والعالم الإسلامي، وانكماشها وانكفائها على ذاتها، والسعي وراء لقمة العيش، وضمور الخيال السياسي، ونسيان الدوائر الثلاث، العربية، والأفريقية الآسيوية، والإسلامية، التي تطبقها إسرائيل الآن باحتلالها مركز مصر في أفريقية وآسيا. أصبحت تركية وإيران أهم دولتين إقليميتين حول مصر، شمالا وشرقا. تتفاوض معها قوى الهيمنة الجديدة، الولايات المتحدة الأمريكية، على قضايا الوطن العربي في فلسطين والعراق، بل والعالم الإسلامي في أفغانستان.
وكما تحتاج مصر إلى ثقتها بنفسها وبقدرتها على التأثير في محيطها وفي مجالها الحيوي، تحتاج تركية وإيران أيضا إلى إعادة بنائهما من الداخل. تحتاج تركية إلى إعادة النظر في تاريخها الحديث منذ إلغاء الخلافة في 1923م وتبني النموذج الغربي. كما تحتاج إيران منذ ثورتها المعاصرة في 1979م إلى إعادة تكوين جبهتها الداخلية حتى تكون ركيزة تحديها لقوى الهيمنة الخارجية.
كان الضابط مصطفى كمال على حق أولا في القيام بثورته ضد نظام الخلافة الذي أدى في رأيه إلى احتلال اليونان لتركية حتى أبواب أنقرة، وقد كانت تركية من قبل باسم الخلافة على أبواب فيينا.
وكان على حق ثانيا في رؤيته مظاهر القهر الداخلي في تركية للمعارضين القوميين العرب والأرمن وباقي الأقليات، بعد أن كان نظام «الملة» من قبل قادرا على لم شمل أقطار الخلافة، كما فعل ميثاق المدينة من قبل في جمع العرب حول الدين الجديد. وكان على حق ثالثا في القضاء على مظاهر التخلف من شعوذة وخرافة وسحر وجهل وسيطرة رجال الدين، وتبني النموذج الغربي القائم على العقلانية والإنسانية والتقدم والمجتمع المدني والمؤسسات الديمقراطية والحداثة. وقد كانت هذه قيم الإسلام في عصره الذهبي، والتي أقام على أساسها العمران كما يشهد بذلك إبداع المسلمين في العلوم الرياضية والطبيعية، وآثارهم في الأندلس؛ غرناطة وأشبيلية وقرطبة وطليطلة. وإستانبول مدينة الألف مئذنة مثل القاهرة.
وبعد انقضاء أكثر من ثمانية عقود من الزمان على الثورة التركية بدأت المراجعة في الاختيار العلماني التركي؛ فلا هي بقيت ضمن العالم الإسلامي، ولا هي انضمت إلى الاتحاد الأوروبي. تعثر الاقتصاد التركي، وأصبحت تركية عضوا بحلف شمال الأطلنطي. وعلى أرضها القاعدة العسكرية الأمريكية «إنجرليك»، والتي تمثل قاعدة للعدوان على الوطني العربي كما حدث في العراق، وربما يتكرر في إيران. وظهرت حركات إسلامية أصولية أو تحديثية تبين أن ارتباط تركية بالإسلام لم يتوقف، وكما بدا ذلك في ظاهرة أربكان وحزب «رفاه»، ثم حزب «الفضيلة»، ثم حزب «العدالة والتنمية» الحاكم الآن.
ومع ذلك ما زالت العلمانية اختيارا مقدسا بنص الدستور، والجيش هو المدافع عنها. وأجيال جديدة تربت على هذا الاختيار ما زالت قادرة على النزول إلى الشوارع والتجمهر والتحزب دفاعا عنها ضد أي مساس بها، أو حتى قراءة جديدة لها بعد مرور أكثر من ثمانية عقود من الزمان على الاختيار الأول. أصبحت العلمانية الآن تهدد نفسها، وتهدم قيمها بنفسها، وتتخلى عن مبادئها. تحولت إلى علمانية سلفية تدافع عن الماضي أكثر مما ترنو إلى المستقبل.
أصبحت علمانية متوحشة شرسة، تتوعد وتهدد، وتنذر بالانتقام من الإسلاميين كما كان الحال في نهاية عصر الخلافة. صارت علمانية مطلقة مع أن العلمانية اتجاه نسبي، لا يمتلك الحقيقة المطلقة. صارت علمانية إقصائية، تستبعد الاتجاهات الأخرى حتى ولو كانت علمانية نسبية، إنسانية، ثقافية، إصلاحية، أو حتى تراثية؛ أي البحث عن جذور العلمانية في الثقافة والتراث والتاريخ. والدليل على ذلك قضية الحجاب الذي تحجر عليه العلمانية وتقصيه، مع أن العلمانية تقوم على الحرية والاختيار الشخصي واحترام الرأي الآخر؛ فالحجاب أو السفور كلاهما جزء من الحرية الشخصية.
انتقلت تركية في 1923م من خلافة إسلامية إلى خلافة علمانية دون المرور بمرحلة ليبرالية متوسطة تتحول فيها تركية من المطلق إلى النسبي. وهو أكثر اتفاقا مع روح العلمانية.
كان الاختيار العلماني لجمعية الاتحاد والترقي والقومية الطورانية مطلقا مضادا للعثمانية دولة الخلافة، فانتقلت تركية من مطلق إلى مطلق دون الأخذ بالاختيار الثالث، وهو الإصلاح الذي دافع عنه الأفغاني، التغير من خلال التواصل، التجديد دون التقليد، سواء كان التقليد للقدماء أو للغربيين المحدثين. وهو ما حدث أيضا في روسية في نفس الفترة أو قبلها بست سنوات في الثورة الاشتراكية في 1917م، عندما تحولت روسية من مطلق القيصرية إلى مطلق الاشتراكية، من نسق مغلق إلى نسق مغلق مضاد، دون المرور بمرحلة ليبرالية نقدية لتتحرر من ذهنية المطلق؛ فانهار الاختيار الثاني في 1990م كي تمر بمرحلة ليبرالية ديمقراطية جديدة تكون أساسا لأي اختيار آخر رأسمالي أو اشتراكي. وهو ما حدث في أوروبة الشرقية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عندما تحولت من المطلق الكاثوليكي إلى المطلق الماركسي مباشرة دون المرور بمرحلة متوسطة هي النسبية الليبرالية والعلمانية المتعددة. كان يحمي الخلافة في تركية جند السلطان، والآن يحمي العلمانية الجيش الوطني، وفي كلتا الحالتين سيطرة العسكر.
وبرز حزب العدالة والتنمية ليشق طريقا وسطا بين حزب الرفاه و«الأربكانية» والرومانسية الإسلامية التي قرأها البعض عودا إلى نظام الخلافة، وبين العلمانية القحة التي ترفض الحوار، وتتمسك بالاختيار القديم مهما تغيرت الظروف، وكأن الزمن لم يعد له حساب. يناضل من أجل تعددية سياسية وهي روح العلمانية، ومن أجل العودة إلى الشعب وسؤاله عن الاختيارات الرئيسية للبلاد، مثل انتخاب رئيس الجمهورية بالاقتراع العام وليس من خلال البرلمان. والديمقراطية روح العلمانية. ويحاول الاستقلال عن الهيمنة الأمريكية كما حدث في رفض مرور القوات الأمريكية على أراضيه لغزو العراق من الشمال، في حين قرر بعض الحكام العرب كقرار فردي الاشتراك مع أمريكة بأشكال متعددة في غزو العراق. ويبتعد عن إسرائيل، ويلغي اتفاقيات التسليح معها، ويتقارب إلى العرب خاصة مصر وسورية، ويساهم في عمليات التنمية والبناء في عديد من الأقطار العربية بما في ذلك مصر.
وتشهد تركية بفضل حزب العدالة والتنمية أكبر معدل في خطط التنمية والتصنيع والتحديث؛ فقد كانت سباقة في ذلك منذ «التنظيمات» التي كانت سائدة في القرن التاسع لتحديث المجتمع والدولة والمؤسسات. تصدر أكثر مما تستورد، وتصنع أكثر مما تزرع.
وهي الآن تعي موقعها الجغرافي السياسي كجسر بين الشرق والغرب، بين آسيا وأوروبة كما وعته مصر قديما بالإضافة إلى أفريقية ؛ فتركية ملتقى قارتين، ومصر ملتقى ثلاث قارات. وفتح السلطان سليم الأول مصر في 1517م وامتدادها إلى المغرب العربي حتى الجزائر. كان يضم أفريقية إلى آسيا وأوروبة، وتقوم بدور تركية ومصر في آن واحد. وهو ما حاوله محمد علي من جديد انطلاقا من مصر لتجديد المشروع العثماني. وانضمامها إلى الاتحاد الأوروبي إضافة لها وليس خصما منها لتوسيع حضورها في أوروبة، ولتخفيف التوتر بين الإسلام والغرب، والتخوف من هجرات العرب والمسلمين إلى أوروبة، وانتقال العمالة من جنوب البحر الأبيض المتوسط إلى شماله، وتغير الهوية الأوروبية إلى هوية إسلامية، أو على الأقل إسلامية أوروبية بعد أن أصبح الإسلام هو الدين الثاني في أوروبة بعد المسيحية، ووجود ما يقرب من أربعة عشر مليونا من المسلمين، الأتراك والعرب في أوروبة، ووجود جيلين من الأبناء والأحفاد من مواليد أوروبة وليسوا من المهاجرين كما كان في الآباء والأجداد.
إن بين العرب والأتراك تاريخا مشتركا منذ أكثر من ألف عام منذ دخول الإسلام إلى تركية، والشعب التركي إلى الإسلام. فتحت القسطنطينية، واستمرت دولة الخلافة أكثر من خمسة قرون. لها جوار مشترك مع سورية والعراق.
ينقصها حل المشكلة الكردية ليس فقط في تركية، بل حلها أيضا في شمال العراق وسورية وروسية وأرمينيا في إطار من الاستقلال الذاتي، وحدود مفتوحة، وهوية ثقافية وقومية في إطار الدول الوطنية القائمة. وهو نفس النموذج المطروح لقضية الصحراء في المغرب وجنوب السودان ودارفون، وهو النموذج السويسري الذي يضم ثلاث قوميات وثقافات ولغات، إيطالية وألمانية وفرنسية، في إطار من نظام سياسي موحد ودولة واحدة. وهو نموذج ميثاق المدينة في أول الرسالة. وبقيت قضية لواء الإسكندرونة التي يمكن حلها في إطار محافظات التكامل بين تركية وسورية، مثل حلايب وشلاتين بين مصر والسودان، وكل مناطق النزاعات الحدودية من مخلفات الاستعمار بين الأقطار العربية؛ حتى تتآكل فكرة الحدود السياسية لصالح وحدة الشعوب على طرفي الحدود؛ فالهوية من التاريخ والثقافة والحضارة قبل أن تكون من الجغرافية؛ السهول والأنهار والمياه.
أما المياه، مياه دجلة والفرات، فهي مصادر طبيعية للتنمية المشتركة بين تركية وسورية والعراق لإقامة السدود وزراعة الأراضي، أسوة بالدول المطلة على وادي النيل، وتجنبا لمدها إلى إسرائيل.
والأهم من ذلك تغيير صورة التركي في الذهن العربي؛ تلك الصورة التي رسمها الاستشراق وأجهزة الإعلام الغربية والأعمال الأدبية والفنية، حتى أصبح تعبير «رأس تركي» يعادل المتعصب الجاهل. وهي صورة الحريم والإماء والسبايا وتعدد الزوجات والسراي التي تثور عليها الحركات النسائية. وهي صورة السيطرة والقهر واستغلال الفلاحين، صورة الباشا والأغا، «أهلا يا بكوات».
إنها مسئولية العلماء لإعادة كتابة التاريخ العثماني لتركية بعيدا عن تصورات المستشرقين وأجهزة الاستعمار الغربي، التي كان الهدف منها القضاء على «الرجل المريض» من أجل تقطيع جثته وتوزيعها كأسلاب بين دول أوروبة الناهضة. إنها مسئولية القوميين والمؤرخين العرب لتجاوز الخلافات الأيديولوجية إلى البحث التاريخي الموضوعي، مساعدة للعرب والأتراك؛ فليست مشانق دمشق للقوميين العرب في 1913م هي كل التاريخ، ولا الملتزم التركي الذي يضرب الفلاحين بالسياط هي كل العلاقات بين تركية والعرب. وما الفرق بين مآذن الجامع الأزرق في إستانبول ومآذن القلعة في القاهرة؟
تدنيس المقدس
عرفت الثقافة العربية، إسلامية أو مسيحية أو يهودية، بتقديس المقدس وليس بتدنيسه، وإلا كان الجزاء القتل وهدر الدم، دم الكافر المرتد، وإنكار ما علم من الدين بالضرورة، وتمزيق القرآن ودهسه بالأقدام.
وفي لغتنا الكتاب المقدس، والروح القدس، والوادي المقدس؛ فالمقدس هو الكريم والطاهر والشريف. والقدوس اسم من أسماء الله الحسنى. والروح القدس، والملك القدوس، والوادي المقدس، والأراضي المقدسة. والتقديس فعل إنساني، يحافظ على القيمة مثل التسبيح
ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك (البقرة: 30).
ومع المقدس ألفاظ لها نفس الدلالات مثل القرآن الكريم، والسنة المطهرة، والكعبة المشرفة، ورمضان المعظم، والدين الحنيف. وعند الأصوليين، النفس أو الحياة المقصد الأول من مقاصد الشريعة. الحياة والموت أفعال إلهية وليست بشرية؛ فالله هو الذي يهب الحياة، وهو الذي يقرر لكل أجل كتابا. والقصاص حياة، وحياة الطفل والمرأة والشيخ
وإذا الموءودة سئلت * بأي ذنب قتلت (التكوير: 8-9).
وقد يكون الاقتتال بين حماس وفتح نهاية القاع التي لم تظهر بعد، إزهاق الروح، والكفر بالمقدسات، وتجاوز الخطوط الحمراء، إراقة الدم الفلسطيني بيد الفلسطيني. وقد ضحى عبد الناصر بالوحدة المصرية السورية، أول تجربة وحدوية عربية في التاريخ الحديث لأن العربي لا يريق دم العربي، وأمر بإرجاع الطائرة المحملة بالجنود المصريين لمساندة اللاذقية التي كانت ما زالت تهتف بالوحدة ضد الانفصاليين الانقلابيين المتآمرين في دمشق.
فكيف يتعارض الرمح الذي تمثله حماس، والدرع الذي تمثله فتح؟ كيف تتناقض المقاومة والسلطة، الداخل والخارج، القتال والتفاوض، الثورة والدولة؟ يد تقاتل ويد تصافح كما فعلت الثورة الفيتنامية، وهي تقاتل على الأرض وتفاوض في باريس مع العدوان الأمريكي على مدى خمس سنوات على نهاية الاحتلال. ليست فتح بيتان، وليست السلطة حكومة فيشي، حتى إذا كانت حماس تمثل ديغول والمقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي لفرنسة. وماذا لو اقتتلت فصائل المقاومة في العراق فيما بينهما ضد الاحتلال الأمريكي، سواء قبل الانسحاب أو بعده، وسال الدم العراقي بيد العراقي؟
إنه تدنيس المقدس مرة أخرى، والكفر بالمقاومة بعد الإيمان بها، وتمني عودة قوات الاحتلال للفصل بين المتقاتلين. وهي الذريعة التي يحتج بها الاحتلال للبقاء في العراق. وماذا لو تم الاقتتال بين فصائل المقاومة في الصومال قبل انسحاب قوات الاحتلال الأثيوبي أو بعدها؛ مما يعطي ذريعة للاحتلال وممثليه في الداخل لإضفاء الشرعية عليه حماية للسكان الآمنين، ودفاعا عن وحدة الأوطان؟ وهي نفس المأساة في السودان عندما يريق السوداني دم السوداني باسم الصراع بين الشمال والجنوب، أو بين الخرطوم ودارفور. وهي نفس الجريمة في لبنان عندما يفجر لبناني أو عربي ليقتل رئيسا للوزراء أو نائبا في البرلمان أو مصنعا أو متجرا أو منزلا فوق رءوس قاطنيه.
إن الثورة لا تكون في الحكم إلا بعد النصر طبقا لشعار المقاومة «ثورة حتى النصر». هذه هي تجارب الثورات المنتصرة في الصين وفيتنام وجنوب أفريقية ومصر. أتى هوشي منه إلى الرئاسة بعد انتصار الثورة الفيتنامية، وأصبح نيلسون مانديلا رئيسا لجمهورية جنوب أفريقية بعد هزيمة الحكم العنصري، وأصبح سعد زغلول رئيسا لوزراء مصر بعد ثورة 1919م، وعبد الناصر رئيسا لجمهورية مصر بعد ثورة 1952م. ثم يتم التحول من فورة الثورة إلى عقل الدولة. وقد أطلق بن جوريون النار على الهجرات اليهودية غير الشرعية إلى إسرائيل بعد إعلان تأسيس الدولة في 15 مايو 1948م؛ لأن الدولة هي التي تقوم الآن بتنظيم الدخول والخروج من البلاد.
إن السلطة في الدولة المحتلة، مثل فلسطين والعراق وأفغانستان، لا تكون إلا في الوحدة الوطنية بين فصائل المقاومة وفرقاء النضال، والاجتماع على الحد الأدنى في برنامج العمل الوطني، وفي مقدمته انسحاب المحتل.
أما السلطة تحت الاحتلال فهي سلطة دون سلطة، النصر قبل الثورة، القصر قبل القبر، العربة أمام الحصان.
إن تدنيس المقدس، وعبور الخط الأحمر وهو إراقة دم الفلسطيني بيد الفلسطيني، يجعل الفلسطيني يكفر بكل شيء؛ بمقاومته وبدولته، بفتح وحماس، وبالسلطة الوطنية؛ فلا فرق بين الوطني الفلسطيني والعدو الصهيوني في استباحة الدم الفلسطيني. وقد يكون المقاتل الفلسطيني الذي يحكم على مقاتل فلسطيني آخر بالإعدام، وينفذ فيه الحكم، ويسحله بالطرقات، أشد عداوة للفلسطيني من قتل العدو الإسرائيلي للفلسطينيين الأبرياء بهدم المنازل وقصف الأحياء بالصواريخ، أو التصفية الجسدية لنشطاء المقاومة وقياداتها.
وقد يكفر العرب بكل شيء، بالوطن؛ فالولاء للخارج والتعاون مع الأجنبي أكثر أمنا. ويكفون عن تأييد المقاومة باليد وباللسان، وحتى بالقلب. وقد يكفرون بالقومية لحساب الهويات البديلة، الطائفية المذهبية والعرقية لحماية نفسه من خلال الانتماء إلى الجماعة الصغرى بعد أن انقضت الجماعة الكبرى. ويكفرون بالإسلام وبالدين وبالإيمان وبالمسلمين. ففتح جذورها إسلامية إخوانية، وحماس انتماءاتها إسلامية إخوانية، والإسلام قد حرم الاقتتال بين المسلمين، وجعل دم المسلم وعرضه وماله حراما. ويكفرون بكل تاريخهم وماضيهم وحركاتهم الوطنية السابقة، وبتكاتفهم مع كل حركات الاستقلال الوطني في العالم الثالث، وبكل إنجازاتهم في الخمسينيات والستينيات ورموزها؛ فرانز فاتون، أميه سيزيه، نكروما، سيكوتوري، جيفارا، كنياتا، موجابي ... إلخ. ولماذا لا يعترفون بالصهيونية ويفاوضونها ويصالحونها، ولماذا لا يتحالفون مع قوى الاستعمار القديم والجديد ما دامت النهاية واحدة؛ إراقة الدم الفلسطيني الذي أصبح بلا ثمن؟
إن تدنيس المقدس هو الذي أدى بإلقاء صور ياسر عرفات رمز الثورة الفلسطينية على الأرض ودهسها بالأقدام، وهو ما لم تفعله إسرائيل، وهو الذي أدى إلى سيطرة حماس على غزة، وفتح على الضفة الغربية، وإسرائيل تسيطر عليهما معا بما في ذلك القدس.
إن الاقتتال بين فصائل المقاومة يحدث عادة بعد انتصار الثورة كما حدث في الجزائر، وفي تونس، وفي الثورة الاشتراكية في 1917م في روسية وليس قبلها. وكيف يقع الاقتتال على قسمة الغنائم والنصر لم يحدث بعد؟ حينئذ يكون نصرا في الهواء، وتكون السلطة وهمية، والاقتتال على وهم.
انقسمت الدولة قبل أن تقوم. حماس في غزة، وفتح في الضفة. ووقعت حرب أهلية قبل الاستقلال. ويتحقق التقسيم مبكرا للدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس؛ تطبيقا لمخطط التقسيم للوطن العربي كله. حماس تتهم فتح بالعمالة والخيانة، وفتح تتهم حماس بالانقلاب على السلطة الشرعية والخروج على القانون. والجامعة العربية تؤيد فتح، ولا تدين حماس؛ حرصا على وحدة الشعب الفلسطيني وسلامة أراضيه تحت الاحتلال. والعرب وإسرائيل والغرب يؤيدون السلطة، ويعدون بفك الحصار، وبوجود الشريك الفلسطيني أخيرا للتفاوض على مشاريع التسوية، خارطة الطريق أو مبادرة السلام العربية؛ تمهيدا لضرب حماس في غزة واستئصال المقاومة؛ العقبة الكئود أمام التسوية. وتعيد إسرائيل احتلال غزة، وتسقط فتح في الضفة؛ لأن الأخ لم يأت لمساعدة أخيه، وسلمه إلى الجلاد ما دام قد نال الاعتراف الدولي بشرعيته، حتى ولو كان تحت الاحتلال. اغتالت إسرائيل الشيخ ياسين وهي الآن تصفي أنصاره، ثم تدور الدائرة على فتح عندما يعرض عليها ما رفضته من قبل عندما كانت تمثل كل فلسطين. وينتهي مثل العرب: «أنا وأخويا على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب.»
ويعود تاريخ العرب من جديد أيام الفتنة الكبرى بين علي ومعاوية، ويتساءل الفقهاء: هل تجوز إمامة المفضول وهو معاوية، مع وجود الأفضل وهو علي؟ هل تجوز إمامة فتح وهي المفضول، مع وجود حماس وهي الأفضل؟ ويفتي مالك بالجواز حقنا لدماء المسلمين. القلوب مع علي، والمصالح مع معاوية.
الشرعية مع علي، والقوة مع معاوية. الثورة مع علي في الحجاز، والدولة مع معاوية في دمشق.
هل تدنيس المقدس إرهاصات لفلسطين الجديدة؛ حكومة يقودها المستقلون الوطنيون، وتبقى فتح وحماس في المعارضة، تمثل الرقابة الشعبية والثورة حتى النصر؟ أين حيدر عبد الشافي ليعيد سيرة سوار الذهب ورئيس المجلس العسكري الثوري في موريتانيا؟ فالسلطة ليست في القصر، بل في التاريخ.
الثورة الإسلامية في إيران: بين التحديات الخارجية والمخاطر الداخلية
فاجأت الثورة الإسلامية في إيران العالم كله باندلاعها في فبراير 1979م بعد أن ظنها الغرب، وعلى رأسها الشاه التابع لأمريكة والغرب، واحة أمان. تراكمت فيها محاولات الثورات السابقة، وتعذيب الثوار في السجون على أيدي السافاك، وتأميم مصدق البترول في 1954م الذي كان الملهم لتأميم ناصر لقناة السويس في 1956م، وهروب الشاه وعودته بعد الانقلاب الذي دبرته الولايات المتحدة الأمريكية ضد مصدق.
وكان «أول عناصر قوتها» زعامة قوية لا تساوم ممثلة في الخميني، الذي كان ناصر يساعده وهو في ملجئه في النجف في العراق، يساعد مجاهدي خلق، عصب الثورة وقوتها الضارية، ضد نظام الشاه، ثم في منفاه في باريس من خلال شرائط التسجيل التي يخاطب بها شعب إيران. «والإسلام الثوري هو عنصرها الثاني»، أيديولوجية شعبية نابعة من تاريخ إيران، تحمل آمالها في الحرية والاستقلال والدفاع عن الهوية الوطنية، لا خلاف عليها بين الطبقات الاجتماعية. وحدت الأيديولوجيات الثورية الأخرى داخلها، مثل الماركسية وحركة تحرير إيران ومجاهدي خلق، وفدائي خلق، طلبة وعمالا ومثقفين وجنودا، كما كان الشيخ إمام يغني: «عمال وفلاحين وطلبة.» «والعنصر الثالث» جماهير شعبية بالملايين في الشوارع تستولي على الكلية الحربية رمز نظام الشاه. تسد الطرقات، وتملأ الملايين.
ثم طعنها العرب في الخلف. غزاها النظام العراقي السابق بعد عامها الأول وهي تتحدى الولايات المتحدة بوازع منها وتشجيع على الغزو لإضعاف القوتين العسكريتين الإيرانية والعراقية؛ حماية لإسرائيل من الجبهة الشرقية بعد أن اتسع عمقها الاستراتيجي من سورية إلى العراق إلى إيران، بعد عزل الجبهة الجنوبية في مصر بعد كامب ديفيد في 1978م، ومعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل في 1979م، والإعلان المستمر على أن حرب 1973م هي آخر الحروب، وأن السلام اختيار استراتيجي للعرب. وقطعت مصر العلاقات السياسية معها إلى الآن ما يقرب من ثلاثين عاما، وكأنها أخطر على العرب من إسرائيل التي عقدت الصلح معها، واعترفت بها، وتبادلت السفراء معها تحت وهم تشجيع الحركات الإسلامية في مصر والوطن العربي، وأن يتكرر النموذج الإيراني في الثورة الإسلامية في باقي أرجاء الوطن العربي والعالم الإسلامي بإيحاء من الولايات المتحدة وإسرائيل. والثورة الإسلامية هي الناصرية مركبة على الإسلام؛ الحلم الذي راود الثورة المصرية في بدايتها، التعاون بين الضباط الأحرار والإخوان المسلمين. وقد كان بعض الضباط الأحرار منهم، بما في ذلك الوصي على العرش، لولا الشقاق الذي وقع بين الفريقين في أزمة مارس 1954م، والذي تعاني منه الثورة حتى الآن عبر الجمهوريات الثلاث. وظلت الولايات المتحدة وإسرائيل تضعان العقبات، وتوحي بالتناقضات بين الثورة الإسلامية في إيران والقومية العربية، مرة باسم الجزر الثلاث في مدخل الخليج، وقد كانت مناطق للتكامل على ضفتي الخليج، ورمزا لحسن الجوار كما فعل عبد الناصر في محافظة وادي حلفا كمحافظة تكامل بين مصر والسودان، وكما يمكن استمراره في محافظة حلايب وشلاتين حتى تبتلع الحدود المصطنعة التي وضعها الاستعمار بين كل دولتين عربيتين قبل الرحيل بين مصر وليبيا في واحة جعبوب، وبين مصر وفلسطين في مثلث العوجة، وبين الجزائر والمغرب في واحة تندوف، وبين اليمن والسعودية في عسير ونجران، وبين الإمارات وعمان في واحة البريمي، وبين سورية وفلسطين في وادي الحمة، وبين سورية ولبنان في مزارع شبعا، وبين الكويت والسعودية في مثلث تحت وصاية الأمم المتحدة، وبين الكويت والعراق على آبار النفط على الحدود، والتي كانت سبب غزو العراق للكويت في حرب الخليج الثانية.
ومشروع الثورة الإسلامية في إيران لفلسطين يتجاوز المشروع العربي في إزالة آثار العدوان، لا فرق بين نكبة 1948م ونكسة 1967م. وما زالت تتحدى الهيمنة الأمريكية دفاعا عن حقها في تخصيب اليورانيوم في منطقة تزخر بالسلاح النووي في إسرائيل وفي باكستان، وإسرائيل تهدد بضرب إيران بمفردها أو بالتعاون مع الولايات المتحدة، وحق الدفاع عن النفس حق مشروع. وهو ما يكشف المعيار المزدوج للغرب في التعامل مع إسرائيل التي لم توقع على معاهدة منع انتشار السلاح النووي، ولا تسمح أن يفتش على مفاعلها النووي.
النووي الإيراني قوة للعرب في مواجهة النووي الإسرائيلي. والثورة الإسلامية في إيران ظهير للثورة العربية، وهي الآن تعيد سيرة ناصر وهو يتحدى الاستعمار الغربي قبل العدوان الثلاثي في 1956م. وتقف الشعوب العربية والإسلامية مع الثورة الإسلامية في إيران في دفاعها عن استقلالها الوطني، وتحديها قوى الهيمنة والاستعمار الجديد الذي تمثله الولايات المتحدة الأمريكية.
والخطورة الآن على الثورة الإسلامية في إيران هي الجبهة الداخلية؛ إذ لا تستطيع الولايات المتحدة بالتعاون مع إسرائيل العدوان العسكري على إيران؛ إذ تستطيع إيران الرد العسكري على الأسطول الأمريكي القابع في الخليج. كما أن صواريخها تطول القوات الأمريكية في العراق والقواعد العسكرية ومطارات إسرائيل. وقد تنهار النظم العربية التابعة للولايات المتحدة الأمريكية لاحتمال ثورة الشعوب ضدها، كما هبت الشعوب العربية مع ناصر أثناء العدوان الثلاثي على مصر بعد تأميم القناة في 1956م، وتفجير أنابيب النفط في سورية، واندلاع الثورات العربية بعد ذلك في العراق في 1958م، واليمن في 1964م، وليبيا في 1969م. وقد تتغير الأوضاع في الخليج نظرا لتركيبته السكانية والطائفية والمذهبية.
تستطيع الولايات المتحدة اللعب في الجبهة الداخلية، والتآمر على الثورة الإسلامية من الداخل، وليس العدوان عليها من الخارج. تستطيع اللعب على القلق الاجتماعي كما ظهر في توزيع البنزين بالبطاقات في دولة من أكبر الدول المصدرة للنفط. تستطيع اللعب على التفاوت الشديد بين الفقراء والأغنياء والمشاكل الاجتماعية كالبطالة والإسكان. وقد خسر التيار الليبرالي الانتخابات الأخيرة لأن الحرية لم تشفعها العدالة الاجتماعية، وحوار الحضارات لم يقرن بتحدي قوى الهيمنة.
والأخطر من القلائل الاجتماعية الحريات العامة، وضيق الناس بالمحافظة الدينية، والتشدد في السلوك اليومي، والتدخل في حياة الناس الشخصية.
فما زال التناقض الرئيسي في الثورة الإسلامية هو قيامها على أساس محافظ، ديني إشراقي. يمثله صدر الدين الشيرازي الذي ينتسب الإمام الخميني إليه ويتتلمذ عليه، وليس على شريعتي ممثل اليسار الإسلامي قبل اندلاع الثورة، الإسلام الاشتراكي التقدمي. ويتضمن ذلك اللعب على القوميات الفارسية والأذرية وغيرها التي تكون شعب إيران، والمذاهب والطائفية، سنة وشيعة، الممتدة في الجبهة الشرقية في الوطن العربي وفي الإسلام الآسيوي، إيران وباكستان.
لقد قضي على الثورة المصرية ليس بالعدوان الخارجي عام 1967م؛ فقد تم تدمير المدمرة إيلات في نفس العام، وأعيد بناء الجيش، وقامت حرب الاستنزاف في 1968م، ثم قامت حرب التحرير في أكتوبر 1973م، بل قضي عليها بسبب الانقلاب الداخلي في 15 مايو 1971م من الجبهة الداخلية وبنفس الرجال، وتحولت الثورة إلى ثورة مضادة، من الاشتراكية إلى الرأسمالية، ومن التعاون مع الاتحاد السوفيتي إلى التبعية للولايات المتحدة، ومن القطاع العام إلى الخصخصة، ومن مجانية التعليم إلى الحاجات الخاصة، ومن القومية العربية إلى القطرية.
إن التعاون الإقليمي بين مصر وإيران وتركية يحمي النظم الثلاثة من العدوان الخارجي عليها، ويقلل المخاطر الداخلية فيها؛ فالديمقراطية والتعددية الحزبية مشهود لها في إيران وتركية دون مصر.
والدفاع عن الاستقلال الوطني والإرادة الوطنية مشهود له في إيران وتركية دون مصر. والطريق الثالث، الإسلام المستنير، مشهود له في تركية دون إيران ومصر. ومصر ما زالت الدولة القاعدة في محيطها العربي، ما يحدث فيها له ردود فعل في مائتين وخمسين مليون عربي دون إيران وتركية. وإن مجموع سكان الدول الثلاث ما يقارب من مائتي مليون. مواردها الطبيعية وإنتاجها الصناعي وتراثها الإسلامي المشترك يجعلها تجمعا إقليميا مركزيا قادرا على تجميع دول الجوار العربية والإسلامية توسيعا لمفهوم القومية العربية.
من السهل مواجهة التحديات الخارجية وتجميع الشعوب حوله كما حدث إبان حركات التحرر الوطني، ومن الصعب الوقوف أمام المخاطر الداخلية كما حدث بعد حركات التحرر الوطني والنزاع على السلطة بين رفقاء النضال بالأمس القريب. ويروى أن جهاد النفس أصعب من جهاد العدو لو صحت الرواية. لقد أتت الثروة والثورة للعرب والمسلمين، ولم يستعدوا لها بعد؛ فبددوا الثروة، وانقلبوا على الثورة. وفي التاريخ ضحى يهوذا بالسيد المسيح في مواجهة اليهود والرومان.
الدين ورجال الأعمال
العلاقة بين الدين والنشاط الاقتصادي عامة، والتجارة خاصة، معروفة عند علماء الاجتماع، كما فعل ماكس فيبر في دراسته الرائدة منذ حوالي قرن من الزمان «البروتستانتية وروح الرأسمالية»، مؤكدا على وجود علاقة بين القيم والأخلاق البروتستانتية من ناحية، وازدهار النشاط التجاري في البلدان والمناطق البروتستانتية في ألمانية وفرنسة من ناحية أخرى، الصلة بين القدر والرزق، بين الإيمان والنجاح، بين التقوى والكسب.
ولا يحتاج العربي إلى هذا التنظير وهو يلاحظ هذه العلاقة في الحياة اليومية في مجتمعه. وقد ضربت النماذج من قبل بشركات توظيف الأموال، واستعمال آيات مثل
وأحل الله البيع وحرم الربا (البقرة: 275)؛ من أجل تجميع أموال الناس، أغنياء لمزيد من الكسب، وفقراء من أجل عائد سنوي أو شهري صغير بدافع الإيمان، وبدعوى المشاركة في الربح والخسارة، وليس في الربح فقط كما هو الحال في البنوك الربوية، وللاطمئنان على دخل شهري حلال ثابت ضد البطالة والجوع. وتضارب هذه الشركات وتستثمر رءوس أموال المسلمين في البنوك الربوية للحصول على ربح سريع، وفي الغالب دون زيادة في الإنتاج، أو إتاحة فرص للعمل ضد البطالة، أو تنمية اقتصادية، أو بشرية في مشاريع كبرى.
وازداد الأمر في العقود الأخيرة باستعمال الإسلام كوسيلة ناجحة للربح، والنجاح التجاري باستعمال اسم الإسلام أو مشتقاته العقائدية أو التشريعية، كأسماء لمحلات تجارية كبرى مثل «التوحيد والنور»، «الإيمان»، أو «الإخلاص». ولما كان الهدف هو التجارة الداخلية والخارجية للاستفادة من العولمة يصبح اسم الشركة «إسلامكو». وتنتشر محلات الملابس الأنيقة بأزيائها وألوانها وجواهرها البراقة باسم «الحجاب» أو «الزي الإسلامي» أو «المايوه الشرعي» الذي يبرز قسمات الجسم مثل باقي «المايوهات» غير الإسلامية التي تبرز مفاتنه. وتكثر إذاعة الشرائط الدينية في المحلات العامة، إما القرآن الكريم، أو الحديث، أو شرائط الوعظ والإرشاد من مشايخ الفضاء أو الدعاة الجدد لإضفاء جو إسلامي على الأسعار، ومحو الشك في غلوها والمغالاة فيها؛ فالمسلم لا يغش ولا يحتكر ولا يستغل. ونافست شركات المحمول في وضع أغان إسلامية والأذان كألحان مميزة، مثل أغاني وألحان مشاهير المطربين والمطربات، قدماء ومحدثين. كما تخصص قاعات للصلاة للنساء والرجال في أحد الأدوار؛ فالحفاظ على الشريعة ترضي الله الذي يرزق من يشاء بغير حساب. ويخصص أصحاب العمارات الشامخة البدروم كمصلى حتى يعفى من العوائد، ويشرع بيع الشقة بالمليون أو أكثر. ويلبس معظم الباعة، اقتداء بصاحب المتجر، اللبس الإسلامي، الجلباب الأبيض.
ويتبع السنة العادية بإطالة الذقن وقص الشارب. وتأخذ بعض المنتجات أسماء إسلامية مثل بلح مكة، وعطر الرسول، والتين والزيتون، ورمان الجنة. وتخصص محلات العطارة قسما للعلاج بالأعشاب طبقا لتعاليم الطب النبوي. والعسل
فيه شفاء للناس (النحل: 69). وتوضع بعض الآيات القرآنية أو الأحاديث النبوية كيافطات للمحلات لجذب الزبائن باستعمال الوازع الديني. وتوضع المصاحف بالقطيفة الحمراء في السيارات، وتعلق المصاحف الذهبية الصفراء لتزيين جيد النساء البيضاء. وتحمل المصاحف بين يدي الأطفال بالملابس الأفرنجية السوداء، والبابيون حول العنق أمام الزفة مع الشمعدان، وترش عليه الورود وحبات الملح، والرقص الشرقي في المقدمة؛ فيتحول المصحف إلى وثن وديكور. وتذكر أسماء الله الحسنى في بداية حفل الزفاف وعزاء الموتى وعيد ميلاد الأطفال كوصلة غنائية حتى تحل البركة على الجميع. ويختلط ذلك كله بالأمثال العامية على ظهر عربات النقل مع الصلاة على النبي، مثل: «العين صابتني ورب العرش نجاني»، والبسملة والحوقلة، والسائق يسير مخدرا ليلا، وسائق الأجرة يغالي في الأسعار بعد أن توقف العمل بالعداد.
وفي أوقات الصلاة توضع على أبواب المحلات، بما في ذلك الصيدليات والمكتبات العامة: «مغلق لأداء الصلاة.»
ويضع المرتشون من الموظفين العموميين فوق رءوسهم يافطات يختلط فيها الديني بالشعبي، مثل: «القناعة كنز لا يفنى»، «الرزق على الله». ويوضع لفظ «إسلامي» لوصف كل ما يراد ترويجه وتسويقه، مثل الزراعة الإسلامية، التجارة الإسلامية، الصناعة الإسلامية، التعليم الإسلامي في المدارس الخاصة، المواصلات الإسلامية لفصل الرجال عن النساء بصرف النظر عن أسعارها ومستوى خدمتها. ويخرج الحاج من منزله محرما ويعود محرما بعد الحج، ويأخذ لقب حاج ينادى به في الأسواق. وعلى متجره «حج مبرور، وذنب مغفور»؛ فتكون له الأولوية في المعاملات التجارية، وتقوى ثقة العملاء به.
وتمتلئ القنوات الإعلامية بمشايخ الفضاء بأرديتهم البيضاء، وذقونهم السوداء، للحديث عن الإسلام الشرعي والعبادات، وضرورة التمسك بحرفيتها دون التعرض لمصالح الأمة ومآسيها في العدوان الأمريكي على العراق وأفغانستان، والاحتلال الإسرائيلي لكل فلسطين أو حتى القدس برؤية إسلامية، والاحتلال السوفيتي للشيشان، والهندي لكشمير .
لا فرق بين مشايخ الفضاء وأساطين الغناء وفتيات الإعلانات وراقصات «الفيديو كليب»، والتكسب بالدين والوعظ والإرشاد تخديرا للناس، وإبعادهم عن قضاياهم الاجتماعية والسياسية. وتطعم إعلانات التهنئة ببعض الآيات والأحاديث حتى تلقى الحظوة لدى الرئيس أو الوزير أو المدير؛ فالتهنئة من القلب، ومعها اسما المهني والمهنى، وأسماء شركاتهما ومناصبهما، وكيفية الاتصال بهما، وما تقدمه من منافع وفرص عظيمة. وتتوالى التهنئة بقدوم الشهر الكريم، واسم المهني وشركته وبضاعته، ونصب موائد الرحمن على أبواب المتاجر، فيطعم الجائع والفقير من ناحية، وتكثر الزبائن من ناحية أخرى.
في الظاهر التدين، وفي الباطن الربح والتجارة والمكسب دون الخسارة. ولا فرق في هذه الممارسات بين الطبقات الاجتماعية الدنيا والمتوسطة والعليا. الدنيا لأن الدين غذاؤها، عزاؤها وأملها، والوسطى لأن الدين هو القانون والنظام، وهو ما ترعاه الطبقة الوسطى باعتبارها القائمة على الأمن والاستقرار. والعليا كغطاء شرعي للثروة والفساد والاحتكار والاستغلال، والأرزاق مقدرة من قبل، وليست من كسب الفقراء بالحلال، أو من احتكار رجال الأعمال وفسادهم بالحرام.
ولا فرق في ذلك بين الاقتصاد والسياسة، بين المحكوم والحاكم؛ فإذا ما سقطت شرعية الحاكم لتبعيته للخارج، وصلحه وتطبيعه مع المحتل، وقهره في الداخل، وسلبيته أمام الفساد ابتداء من الحاشية حتى المجتمع الكبير، فإنه يستعمل شرعية الدين. يحضر احتفالات توزيع الجوائز على الفائزين في مسابقات تحفيظ القرآن الكريم، ويتصدر الاحتفالات بالأعياد والموالد الدينية. يلبس ملابس الإحرام، والزبيبة على الرأس، والعصا في اليد، والدعاء على اللسان، وتسبيل العينين تقوى وخشوعا. وبعضهم يأخذ لقب «أمير المؤمنين»، «خادم الحرمين»، «الرئيس المؤمن»، «خامس الخلفاء الراشدين»، أو «آخر فراعنة مصر»، كما تأخذ حرمه لقب «ملكة مصر» بدلا من «السيدة الأولى». يختلط الديني بالدنيوي، وتتداخل السلفية مع العلمانية. والغاية إيجاد شرعية للرئيس ولنظام غير شرعي.
والعجيب أنه في مصر والوطن العربي والعالم الإسلامي يزدهر القطاع الخاص على حساب القطاع العام بدعوى العولمة، وفي نفس الوقت تزداد الحمية الدينية والتمسك بالمحافظة الإسلامية. كل منهما يغذي الآخر ويدعمه. الدين كغطاء شرعي للربح، والربح كغطاء شرعي للدين. كلاهما من عند الله ؛ فالله هو الهادي والموفق، وهو الرازق والعاطي. وما من مولود يولد إلا ورزقه معه. وفي الأمثال العامية: «المتعوس متعوس ولو علقوا على راسه فانوس»، «يا متعوس غير رزقك ما تحوش».
وفي مصر أيضا عديد من الأمثال العامية التي تدحض هذا التداخل بين الدين والتجارة: «اللي عايزه البيت يحرم على الجامع.» فالحياة لها الأولوية المطلقة على الدين، «خذ من كلام الشيخ ولا تأخذ من أفعاله.» لأن كلامه مجرد غطاء شرعي لأفعال مناقضة للأقوال. الدين والمصلحة الشخصية متداخلان؛ فإذا بال الكلب على حائط الجار عليه أن يهدمه ويبنيه سبع مرات، وإذا كان الحائط هو حائط الشيخ فقليل من الماء يطهره.
نقد الوعظ الديني
يبلغ الوعظ الديني ذروته في شهر رمضان. وقد مر نصفه الأول، وبدأ نصفه الثاني. وهو وقت مراجعة النفس والفكر وتقديم الحساب. ما الذي جنيناه على مستوى الوعي الديني، وهو أساسا الوعي بالحياة وبالواقع وبالتاريخ؟ ما الجديد بالنسبة لما قيل في الأعوام الماضية، وربما ما سيقال في الأعوام القادمة؟ أليست مجرد خطب ووصايا ومواعظ نمطية «رمضانية» عن فائدة الصيام وأركانه، والتي تمتلئ بها أيضا صفحات الفكر الديني وأجهزة الإعلام المرئية والمسموعة، والتي يعرفها الأطفال والتلاميذ في المدارس والأبناء في المنازل؟ هل يؤدي الوعظ الديني وظيفته أم إنه أصبح حرفة يتكسب بها الوعاظ والدعاة كما يتكسب بقراءة القرآن على المقابر بدعوى طلب الرحمة على الموتى؟
الوعظ الديني نشاط ذهني ونفسي على مستوى الكلام وليس الفعل، باللسان وليس باليد. في حين أن الفعل يتطلب السكوت، «واستعينوا على قضاء حاجتكم بالكتمان». وكتب الفقهاء مثل ابن أبي الدنيا عن آفة الكلام وفضيلة الصمت. والصمت عند الصوفية لغة أبلغ من الكلام، غايته التأثير في السامعين، واستجداء استحسانهم وتصفيقهم وتهليلهم وتكبيرهم. يقوم الخطاب الوعظي على جماليات اللغة وفنون الإلقاء وكل صنوف المحسنات البديعية، خاصة التشبيهات والمجازات والاستعارات وضرب الأمثال. هو عالم مستقل بذاته لا يشير إلى عالم آخر خارج نطاق اللغة وسحرها وبلاغتها في ثقافة الشعر قلبها، والقرآن مركزها لدرجة اتهام بعض المستشرقين لها بأنها ثقافة صوتية، مع أنه فنون السمع أقرب إلى القلب وأعمق وأكثر قدرة على التعبير عند هيجل من فنون الصورة والشكل.
وهو خطاب مناسبات في الأعياد والموالد، وفي المآتم والأفراح على المقابر وأمام العروسين في عقد القران. وقد استمعنا إلى كثير منه على موائد الإفطار الرسمية في رمضان التي تقيمها المؤسسات والهيئات من كبار الدعاة ورؤساء الطوائف بملابسهم وألوانها الزاهية، وكأننا في سوق عكاظ ومهرجانات الشعر والخطابة.
أصبح الوعظ الديني حرفة لها رجالها وخطباؤها ومدارسها ومعاهدها الرسمية والأهلية. الوعظ صناعة بتعبير القدماء، تخصص فيها مشايخ الفضاء بملابسهم الفضفاضة البيضاء، وذقونهم الطويلة السوداء، وملامح الوجه المليح، والعيون التي يشع منها بريق الإيمان، والشباب الصبوح القادر على سحر النساء، والدخول إلى القلب مباشرة عن طريق الإيمان الذي يحتاج إليه الناس بعد أن تم بيع كل شيء والتجارة بكل شيء. وأصبحت القلوب فارغة من أي ولاء، والنفوس شاغرة من أي مبدأ أو قضية. وفي ذلك يتنافس مشايخ الفضاء نجوم الفن وأساطين الغناء. كلاهما طرب، طرب القلوب في الوعظ الدين، وطرب النفوس في الفن والغناء. وتحولت شخصية الواعظ إلى شخصية رئيسية في الأعمال الدرامية، في الرواية والقصة والمسرح والسينما مثل مشاهير النجوم
وفي ذلك فليتنافس المتنافسون (المطففين: 26).
والوعظ المرئي جزء من فن التمثيل والإلقاء بالإضافة إلى الأزياء والماكياج. هناك الأضواء والأصوات والأثاث وكل عناصر الإخراج في العمل الفني؛ حتى يصبح الوعظ فنا متكاملا من المقدمة الموسيقية أو التلاوة القرآنية الأولى حتى الابتهالات والدعوات والصلوات والبكائيات الأخيرة. وتضاف إلى فنون الإخراج فنون التمثيل ولغة الجسد والحركة، وهز الكتفين، ورفع الحاجبين، وطريقة الجلوس على كرسي الوعظ المرتفع، والمستمعون أمامه يستحسنون الإلقاء، لا فرق بين المغني والواعظ، كلاهما منشد، أو بالتعبير الشعبي «صييت».
وحضور حلقات الاستماع شرف كبير للمستمعين. يتهافت عليها الصغار والكبار، الرجال والنساء؛ ليستمعوا إلى الوعظ الجديد، ويظهرون في التليفزيون. يبحث الناس عن بطل بعد أن عز الأبطال بانقضاء الستينيات. يبحون لا شعوريا عن شجيع وفتوة، ويتوقون إلى مخلص ولو بالنبوت كما صور نجيب محفوظ في «ملحمة الحرافيش».
الناس في حاجة إلى زعيم وقائد لا يجدونه في الواقع فيوجدونه في الخيال. يغيب في الحياة فيحضرونه في الوعظ الديني. تتوق الأمة إلى من يأخذ بيدها، يهديها ويرشدها إلى الطريق المستقيم، وينقذها مما هي فيه من آلام ومآس وأحزان، ويحميها مما تنتظره من كوارث ومصائب تمس لقمة العيش.
والمستمع ابن وقته مثل الصوفي، يعيش لحظته لينسى الزمان الممتد العريض قبل لحظة الوعظ وبعدها. أتى إلى الوعظ ليفرج همه، ويخفف كربه، ويستريح نفسيا، ثم يغادر الوعظ ليشحن من جديد بمنغصات الحياة، والصراع من أجل البقاء، وإشباع الحاجات الأساسية وتوفيرها للزوجة والأولاد، وللآباء والأمهات، وللإخوة والأخوات الذين يعولهم. يجد في الوعظ خلاصا وقتيا، وسعادة لحظية، وراحة مؤقتة عن الهم الدائم والشقاء المستمر. لا يهمه موضوع الوعظ، بل الوعظ نفسه؛ جماله ولغته وأسلوبه وصوته وخيالاته وأوهامه. يهمه الشكل دون المضمون. يعجب بالواعظ بشخصه بصرف النظر عن وعظه؛ جماله وصوته وملامح وجهه وإشراقه، يكفيه حتى ولو نطق كفرا. المستمع يتوق إلى مهارة وسحر وإبداع وتفوق وعبقرية وخيال يجده في الواعظ الذي يشبع فيه حاجاته النفسية التي لم يشبعها فيه المجتمع، ولم توفرها له الدولة.
أصبح الوعظ أقوى مؤسسة دينية تنافس جميع مؤسسات المجتمع المدني وجمعيات حقوق الإنسان والطفل والشيخ والمريض والمعتقل السياسي.
الوعظ أقرب إلى الخداع منه إلى الصدق، يقول ما لا يفعل، ويفعل ما لا يقول
يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون (الصف: 2-3). يسحر الناس بالكلام مثل الحقنة المخدرة دون أن يساهم في يقظة الوعي بالذات وبالعالم. يجتزئ الآية عن سياقها وعن مجموع الآيات كلها. يدعو إلى الإيمان دون العقل، وإلى الرضا دون الغضب. يذكر أن الله يحب المتقين والمقسطين، ويكتم أن الله لا يحب المعتدين والظالمين والخائنين والمختالين. يتناول العدل دون الظلم، والغنى دون الفقر، والسعادة دون الشقاء. يؤمن ببعض الكتاب ويكفر بالبعض الآخر. يستعمل الآية خارج أسباب النزول حتى يعلم الناس كيف غيرت الآية واقع الناس، وأن وظيفتها في التغيير الاجتماعي وليس فقط مجرد السماع. يستعملها خارج الناسخ والمنسوخ، وهو ما يبين تغير الأحكام الشرعية بتغير الزمان. لا يختار إلا الكلام الآمن عن المحبة والسلام، دون الكلام الخطر عن الكراهية والحرب، مع أن الله يحب ويكره، والأمة تسالم من يسالمها، وتعادي من يعاديها
وإن جنحوا للسلم فاجنح لها (الأنفال: 61)، والعدو يعتدي كل يوم في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير.
والقرآن يتحدث عن الوسط
وكذلك جعلناكم أمة وسطا (البقرة: 143)، كما يتحدث عن الصراع
ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض (البقرة: 251).
الوعظ من أخطر أنواع الخطاب الديني على حياة الناس. يساهم في الاغتراب عن العالم، والخروج خارجه، والوقوع في دائرة الوهم، خاصة لو كان الموضوع المعاد والأخرويات، وما يحدث للإنسان بعد الموت، ابتداء من عذاب القبر ونعيمه حتى عذاب النار ونعيم الجنة، مرورا بالحشر والصراط والميزان والحوض والشفاعة. يساهم الوعظ في تزييف الوعي، ويقوم بنفس الدور الذي يقوم به الخطاب السياسي للحزب الحاكم في إعطاء الوعود والإيهام بالحلول. يوهم الوعظ بأن المشكلة في النفس وليست في الواقع، في تربية المواطن وليست في الأوضاع الاجتماعية، في الأخلاق وليست في السياسة. والحل في الكلام وليس في الفعل، في الفرد وليس في المجتمع، في الإعلام وليس في الشارع، بكثرة الدعاة والوعاظ وليس بالطلائع الثورية للعمال والفلاحين والمثقفين. هناك فرق بين التخدير واليقظة، بين المسرح والحياة، بين الجلوس أمام الشاشة الضوئية والمشاركة في إضراب العمال في المصانع، بين الرضا عن النفس والغضب من الزمان. (قدر أحمق الخطى سحقت قامتي خطاه.)
الفتنة بين السلفيين والعلمانيين
5
وهل يحتاج الوطن العربي إلى فتنة جديدة تزيده تقسيما وتفتيتا وتجزئة؟ وكيف يتم ذلك بأيدينا وليس بأيد أجنبية؛ أمريكية صهيونية؟ وفي نفس الوقت نقرأ تاريخنا ونعيب على أنفسنا وقوعنا في الفتنة الكبرى الأولى بين علي ومعاوية، وننعى لأنفسنا ضياع الأندلس للحروب بين ملوك الطوائف وسقوط الإمبراطورية العثمانية للفتنة العرقية فيها بين الأتراك والأرمن والعرب ومختلف القوميات في أوروبة الشرقية.
إن الخصومة الدائرة الآن بين السلفيين والعلمانيين إنما تساهم في تفتيت الأوطان من الداخل، وهي في أشد الحاجة إلى التمسك بالوحدة ضد مخاطر التفتيت من الخارج، والوقوف أمام المخطط الأمريكي الصهيوني لتفتيت الأوطان بداية بالعراق، وكما قرر الكونجرس الأمريكي بجلسته أخيرا إلى مناطق ثلاث؛ كردية في الشمال، وسنية في الوسط، وشيعية في الجنوب. والصراع بين عشائر وقاعدة، وليس بين المقاومة والاحتلال. وهو ما يجري الحال الآن بالنسبة إلى السودان وتقسيمه إلى شمال عربي إسلامي، وجنوب زنجي مسيحي، وغرب عرقي، وشرق قبلي. والخطر ما زال قائما على الخليج كله، وتقسيمه طائفيا ومذهبيا إلى سنة وشيعة، أو عرقيا بين عرب وآسيويين، والأمم المتحدة بالمرصاد تتلقى توجيهات الدول الكبرى باسم حقوق الإنسان وحقوق الأقليات. والخطر يهدد المغرب العربي كله وتقسيمه إلى عرب وبربر، والمغرب إلى مغاربة وصحراويين، وتشاد ومالي ونيجيريا إلى شمال عربي مسلم وجنوب زنجي مسيحي. بل ويهدد شبه الجزيرة العربية كلها إلى نجديين في الوسط، وحجازيين في الغرب، ورافضة وسنة في عمان، وزيدية وشوافع في اليمن. ويهدد التقسيم لبنان إلى مسلمين وموارنة كما حدث في الحرب الأهلية، أو إلى موالاة ومعارضة كما يحدث الآن. والخطر يهدد الأردن وتقسيمه إلى بدو وحضر. ويهدد سورية بتقسيمها إلى علويين في الحكم، وسنة في المعارضة. وقد تقع حروب أهلية بين السلفيين والعلمانيين لتهدد وحدة الأوطان كما يحدث في الجزائر دائما، وفي المغرب أحيانا. وقد يقع الشقاق بين السلفيين والإصلاحيين كما يحدث في الكويت. وهو ما يهدد الأمن القومي في مصر في الفتنة النائمة بين المسلمين والأقباط، بالرغم من ادعاءات الوحدة الوطنية، ومظاهرها المفتعلة، وقضايا التنصير والطلاق والزواج المشترك، والسلوك المعيب لبعض الرهبان، والفتاوى الرنانة لبعض المشايخ بالنسبة لإرضاع الكبار، أو التبرك ببول الرسول، أو التوتر داخل الحزب الحاكم بين الرعيل الأول والرعيل الثاني، أو بين الحكومة والمعارضة على كل المستويات، الحكم والتوريث والخصخصة والفساد، وآخرها حبس رؤساء تحرير الصحف المستقلة.
وأخيرا برزت في مصر فتنة جديدة بين أبناء الوطن الواحد بين السلفيين والعلمانيين. العلمانيون يهاجمون السلفيين آراء ومواقف وشخصيات وكأنه لا يوجد خطر في البلاد إلا منهم، ولا يهاجمون المطبعين مع إسرائيل والمتأمركين باسم الليبراليين الجدد، ولا الأغنياء الجدد في مارينا وسواحل البحر الأحمر والأبيض، ولا احتكار الحديد والأسمنت، ولا بيع القطاع العام والمؤسسات والشركات والبنوك باسم الخصخصة، ولا تزوير الانتخابات، ولا قوانين الطوارئ أو قانون مكافحة الإرهاب، ولا حبس الصحفيين، ولا التفاوت الشديد بين الأغنياء والفقراء، ولا مظاهر الفساد الاقتصادي والسياسي، ولا الشللية في الحكم وجماعات الضغط؛ ومن ثم يضع العلمانيون أنفسهم في نفس الخندق مع الحكومة التي تعتبر الإسلاميين ممثلين في الإخوان المسلمين عدوهم الأول، وخندق الأمريكيين في اعتبار الحركات السلفية الجهادية في العراق وأفغانستان وفلسطين، وفي أمريكة وأوروبة عدوها الأول، والذي بمواجهته يجد المحافظون الجدد شرعية لوجودهم، وتبريرا لسياساتهم العدوانية على الشعوب، وذريعة لتكوين الإمبراطورية الأمريكية الجديدة.
والصراع بين السلفيين والعلمانيين في حقيقته ليس صراعا فكريا؛ فهناك سلفية علمانية، وهناك علمانية سلفية. هو صراع على السلطة! ونيل الحظوة لدى الحاكم، والتسرب إلى أجهزة الدولة ومواطن السلطة فيها، اقتصادية وسياسية وثقافية واجتماعية، بل وقضائية. وقد استثمر الحكام هذا الصراع على السلطة والتسابق إليها بالاعتماد على العلمانيين مرة لاستبعاد السلفيين، أو بالاعتماد على السلفيين مرة أخرى لإقصاء العلمانيين حتى يضعف الجناحان، ويقوى القلب، ولا يكون هناك بديل آخر، لا «الإسلام هو الحل» ولا «العلمانية هي الحل»، بل «الحكومة هي الحل».
والحقيقة أن الاستقطاب الحالي بين السلفيين والعلمانيين هو استقطاب مفتعل نظرا لوجود تيارات علمانية داخل الحركة السلفية مثل حزب الوسط، بل والإخوان المسلمين أنفسهم في مصر وسورية ولبنان واليمن والمغرب. تقول بالدولة المدنية، وبأن السلطة للشعب، وتدافع عن التعددية السياسية، وتلجأ إلى صناديق الاقتراع؛ فالمسافة بينها وبين العلمانيين ليست كبيرة. والإطار المرجعي العام الإسلامي أو الغربي يلتقيان في المصالح العامة؛ فالمصلحة أساس التشريع، والشريعة وضعية كما قرر الشاطبي مثل القانون الوضعي. ومن العلمانيين من يسلم بأن الإسلام هو التراث القومي للأمة وثقافتها الوطنية.
هناك إذن جسور التقاء بين السلفيين والعلمانيين تسمح بالحوار الفكري والوطني بينهما من أجل مواجهة العدو المشترك؛ والقهر والفساد في الداخل، والتبعية للخارج والاعتماد عليه. وحركة النهضة التي يعتز بها العلمانيون، الأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين والطهطاوي وطه حسين والعقاد، جذورها ومنطلقاتها وأطرها المرجعية سلفية.
وليست كل الحركات السلفية تمارس العنف ضد الأبرياء؛ فالسلفيون يجاهدون في فلسطين والعراق وأفغانستان وكشمير، ويقاومون حكم الفرد المطلق والنظام العسكري القهري في باكستان. السلفية في النهاية رد فعل طبيعي على الحركات العلمانية للتحديث التي تمت تجربتها في حياتنا المعاصرة، ليبرالية وقومية وماركسية، وكانت النتيجة مزيدا من الاحتلال؛ فقد ضاع نصف فلسطين في 1948م في العصر الليبرالي، وضاع النصف الثاني في 1967م في العصر القومي، وازدادت المسافة بين الأغنياء الجدد والفقراء الجدد، واشتد القهر، وضاعت قيم الحرية والعدالة معا. السلفية صرخة احتجاج ضد مآسي العصر؛ تبعية النظم وعجز الشعوب.
تشتعل الفتنة بالهجوم المستمر للعلمانيين على السلفيين وملء الصحف بالسخرية منهم، فيلجأ السلفيون إلى القضاء للثأر منهم، ويستصرخ العلمانيون حرية الرأي والتعبير دون الدعوة إلى الحوار الوطني بين فرقاء الأمة، ويستنجدون بالرأي العام بل وبالدولة لحمايتهم من أحكام القضاء ضدهم بالتعويض. وهو ما تتخذه القوى الأجنبية ذريعة للدفاع عن حقوق الإنسان وحرية الرأي والتبشير بالديمقراطية وبقيم العالم الحر، وينشغل الناس بالفتنة بين مؤيد لهذا الفريق ومناصر للفريق الآخر؛ فتنقسم الأوطان إلى فريقين متصارعين تاركين الصراع الحقيقي بين الداخل والخارج، بين الاستقلال الوطني والتبعية الخارجية. وتفتح جبهة جديدة تشتت الجهود، وتبعد الناس عن الجبهات الحقيقية في الداخل؛ حرية الصحافة والرأي ضد قانون حبس الصحفيين، مواجهة الفساد والقهر والتزوير والتوريث وحكم الفرد المطلق، ومعارك العمال وإضراباتهم لنيل حقوقهم، والمخاطر التي تواجه سورية ولبنان والسودان وإيران. وبدلا من الهجوم في الصحف من العلمانيين، واللجوء إلى القضاء من السلفيين، هناك الحوار الوطني بين اتجاهات الأمة المختلفة؛ فالكل راد والكل مردود عليه. كلا الفريقين ضحايا الفرقة الناجية؛ فالسلفيون يعتبرون أنفسهم الفرقة الناجية، والعلمانيون الفرق الضالة. والعلمانيون يعتبرون أنفسهم الفرقة الناجية، والسلفيون الفرق الضالة. والحكومة تعتبر نفسها الفرقة الناجية، والمعارضة الإسلامية ممثلة في الإخوان، واليسارية ممثلة في كفاية والناصريين ومؤسسات المجتمع المدني، هي الفرق الضالة. البنية واحدة في تكفير المخالفين في الرأي، وهو ضد الإسلام الذي يقر بحق الاختلاف، وضد التعددية التي تقرها العلمانية باسم حرية الرأي والتعبير.
إن الفتنة نائمة، لعن الله من أيقظها. التناقض بين السلفيين والعلمانيين تناقض فرعي في الداخل، والتناقض بين الوطن وأعدائه في الخارج، أمريكة والصهيونية، وفي الداخل، القهر والفساد، تناقض رئيسي. إن الحرص على وحدة الأوطان مشروط بوحدة الداخل في مواجهة الخارج
أشداء على الكفار رحماء بينهم (الفتح: 29)، والسلطة ليست للحكومة أو للمعارضة، بل للشعب والتاريخ.
العدالة والتنمية في تركية والمغرب
6
العدالة والتنمية ليسا اسمين لحزبين سياسيين في تركية والمغرب نجحا في الانتخابات الأخيرة في المرتبة الأولى في تركية، وفي المرتبة الثانية في المغرب، بل هما تجربتان حضاريتان تاريخيتان نهضويتان حديثتان استرعتا انتباه العرب والمسلمين، الخاصة والعامة، في الداخل والخارج. أسعدتا أصحاب الحوار ومد الجسور والاعتدال، وأشقيتا أصحاب المواقف الحدية الأيديولوجية؛ إسلامية سلفية، أو علمانية غربية.
هما تجربتان رائدتان ليس فقط سياسيا، ممارسة للديمقراطية، بل أيضا حضاريا، كيفية التعامل مع التاريخ والتراث الوطني للشعوب. التعددية السياسية بلا حدود، وحرية الاقتراع بلا قيود أو تدخل من الحاكم أمام سمع وبصر الجميع. تشهد على أن العرب والمسلمين يعرفون كيف يمارسون الديمقراطية دونما حاجة إلى فرضها من الخارج على أسنة الرماح وبالغزو العسكري المباشر.
لم تعد نتيجة الاقتراع 99,9٪ في المائة لصالح المرشح الأوحد، بل تكفي الأغلبية النسبية التي تقل عن 50٪ من مجموع الأصوات؛ مما لا يسمح بالانفراد بالحكم إلا عن طريق تحالف عريض وجبهة وطنية تجمع باقي التيارات السياسية، أو على الأقل التالي في الأغلبية، بحيث يكون الحكم بمجموع الثلثين، أكثر أو أقل.
وبالرغم من أنهما تجربتان سياسيتان منفصلتان إلا أنهما تدلان على واقع واحد، وهو إمكانية تجاوز الاستقطاب الحاد بين السلفيين والعلمانيين، والحفاظ على الوحدة الوطنية، وحماية الوطن من جماعات العنف والتهميش السياسي والكبت النفسي والفكري للحركات السرية. تركية دولة إسلامية غير عربية، والمغرب دولة إسلامية عربية، يتشابهان في التجربة السياسية الحضارية كما أفرزتها الانتخابات الأخيرة.
لقد خضع تاريخ تركية الحديث لقانون الفعل ورد الفعل، فكانت الثورة الكمالية رد فعل طبيعيا على انهيار نظام الخلافة التي أدت إلى احتلال اليونان لتركية حتى مشارف أنقرة، ووصف الغرب للدولة العثمانية أنها الرجل المريض.
فكان من الطبيعي أن ينهض الضابط الشاب بروح وطنية والاستقلال للقضاء على رمز التخلف الداخلي وتحرير الوطن من الاحتلال الخارجي. ونظرا لأن نظام الخلافة العثمانية بما يمثله من تخلف وقهر كان يحكم باسم الإسلام، وكان الغرب يتقدم باسم العلمانية والتحديث، كان من الطبيعي أن يصبح الغرب نموذجا للتحديث، وتلغى الخلافة، وتتبنى تركية القيم العثمانية؛ العقل، والعلم، والتقدم، والحرية، والديمقراطية، والمساواة، والعدالة، وهي قيم إسلامية في جوهرها؛ عند المعتزلة أنصار التحسين والتقبيح العقليين، وعند المالكية أنصار أن ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن، وعند ابن رشد في النظر العقلي والانفتاح على الأخرين والتأسيس الأخلاقي للشريعة، بل وعند الصوفية الذين كانوا يجاهدون الاستعمار في الزوايا والرباط مثل السنوسية في ليبيا، والمهدية في السودان.
وعلى مدى نصف قرن خف رد الفعل، واسترجع الوعي التركي تاريخه الطويل وتراثه الممتد في أعماق الشعور؛ فحدث رد فعل آخر على الكمالية الأولى ممثلا في حزب الرفاه، والعودة إلى الحمية الإسلامية، وربما إحياء الخلافة. وامتدت سياسة تركية الخارجية إلى الوطن العربي من جديد وإلى أواسط آسيا لتثير الخيال القديم والحلم المستقبلي عن وحدة الأمة في عالم متعدد الأقطاب ، «الإسلام هو الحل»؛ فحدث رد فعل آخر من العلمانيين، ويمثلهم الجيش، ضد التيار الإسلامي الأممي؛ فقضي على التجربة، وحرم على رئيس الحزب العمل السياسي، ثم أصبحت الحركة الإسلامية أكثر وعيا في حزب الفضيلة، ثم حزب العدالة والتنمية جمعا بين الفعل ورد الفعل. واستطاع تهدئة مخاوف العلمانيين من الإسلام السلطاني، وتهدئة مخاوف الإسلاميين من العلمانية الجذرية التي هي في الحقيقة سلفية مضادة؛ فكلاهما يعتقد بأنه الفرقة الناجية، والآخر هو الفرقة الضالة.
الإسلاميون يكفرون العلمانيين، والعلمانيون يخونون السلفيين. استطاع حزب العدالة والتنمية بما لديه من خبرة في العمل السياسي ووعي حضاري تحييد الجيش والحوار معه، وإقناعه بأن الإسلام الحضاري يقوم على القيم العلمانية، وأن القيم العلمانية في حقيقتها قيم إسلامية احتكرها الغرب وجعلها ضد الدين، وهي في الإسلام نابعة منه. كما استطاع التخفيف من حدة الإسلاميين السلفيين، وإقناعهم بالإسلام الحضاري القادر على الدخول في العالم أكثر من الإسلام الحرفي النصي العقائدي الشرعي المؤسسي.
وفي نفس الوقت تم الحوار مع دول الجوار العربي والإيراني والآسيوي، والابتعاد عن المحور الإسرائيلي بالرغم من قضية الأكراد. وما زال يصر على الانضمام للاتحاد الأوروبي، والاستجابة إلى مطالبه فيما يتعلق بملف حقوق الإنسان، وبعض أحكام الشريعة الخاصة بالقصاص، دون التفريط في الرموز الحضارية كغطاء الرأس. وهي رموز موجودة في كل ملة ودين، وتميز كل ثقافة وحضارة. وكذلك الإبقاء على المدارس الدينية أسوة بالمدارس الخاصة الأجنبية الفرنسية والإنجليزية والألمانية. لم تضع لفظ الإسلام كاسم للحزب أو علامة عليه، بل «العدالة والتنمية»، وهما قيمتان إسلاميتان؛ العدل الذي قامت على أساسه السموات والأرض ونظم الحكم، وإمام كافر عادل خير عند الله من إمام مسلم ظالم، والعدل هو الشرط الأول للإمامة قبل القوة عند بعض الفقهاء.
والتنمية إعمار الأرض، وتحويلها من صحراء قاحلة صفراء، هشيم تذروه الرياح، إلى أرض زراعية خضراء، أصلها ثابت وفرعها في السماء كما يصور القرآن. والتنمية الصناعية أيضا؛ تليين الحديد واستعمال النار؛ أي الطاقة، جعل تركية قلعة صناعية وعمرانية يشهد لها الجميع. وعلى الصعيد الداخلي، وبما لها من رصيد شعبي، تحاول تغيير الدستور حتى يكون انتخاب الرئيس بالاقتراع الشعبي المباشر. وتحاور الأكراد اعترافا بحقوقهم في إطار من وحدة الأراضي التركية والعراقية والسورية والروسية؛ فليست الدولة الوطنية ذات العرق الواحد هو النموذج الوحيد للكيان السياسي. ومعظم الدول تحتوي مللا وأعراقا مختلفة مثل سويسرا، وكما قرر ذلك دستور المدينة.
وبدأ المغرب العربي حياته السياسية بحزب الاستقلال الذي يجمع بين الوطن والعروبة والإسلام. وهو القاسم المشترك في المغرب العربي الكبير كله دون أن تتدخل القومية كحاجز أو مانع أو نقيض للوطن والإسلام، كما حدث في الشام كرد فعل على الخلافة العثمانية أولا، والقومية الطورانية ثانيا في تركية. وبفضل حزب الاستقلال نال المغرب استقلاله السياسي من فرنسة بفضل علال الفاسي ورفاقه، ثم تكون في رحم حزب الاستقلال اتحاد القوى الشعبية، ثم الاتحاد الاشتراكي كجناح يساري يضيف إلى الوطن والعروبة والإسلام التقدم والعدالة والتنمية.
وحدث تداول للسلطة من حزب الاستقلال أولا إلى الاتحاد الاشتراكي ثانيا. والفقر والبطالة ما زالا مستمرين، ثم نشأت الحركة الإسلامية السلفية لتنافس الاثنين، وتمارس بعض أجنحتها السرية العنف السياسي، ودون حوار وطني بين الحزبين، ثم نشأ حزب العدالة والتنمية كجسر بينهما باسم الإسلام المستنير، أو الإسلام الاجتماعي، أو الإسلام الحضاري، أسوة بالتجربة التركية. ولما كانت التجربة ما زالت وليدة، ونقصها الحوار الخصب الجاد مع الحزبين السابقين، لم تستطع الحصول على الأغلبية البرلمانية في الانتخابات الأخيرة. وراود الناس الحنين لحزب الاستقلال الذي قاد حركة التحرر الوطني دون الحصول على الأغلبية إلا بالتحالف مع الجبهة الشعبية، أو الاتحاد الاشتراكي، أو كليهما معا. وهو القادر على الدخول في حوار مع الحركة الأمازيغية كما فعل حزب العدالة والتنمية في تركية مع الأكراد. لم يجعل الإسلام عنوانا له، بل العدالة والتنمية، قيمتان إسلاميتان علمانيتان في نفس الوقت مثل مقاصد الشريعة، وهي الضروريات الخمس؛ الحياة والعقل والدين أي القيمة، والعرض أي الكرامة، والمال أي الثروة الوطنية. وقد تم هذا بفضل الملكية المستنيرة والحكم الدستوري والتعددية السياسية الذي كان حلم الحركة الإصلاحية منذ الأفغاني حفاظا على الوحدة الوطنية، أرضا وشعبا.
ولقد استطاعت ماليزيا خوض نفس التجربة التركية المغربية دون مدخل أيديولوجي، سلفي أو علماني، بل بالتوحيد بين الإسلام والوطن. والبداية ببناء الدولة الوطنية الحديثة، وصياغة مشاريع تنموية زراعية وصناعية جعلتها في معدلات التنمية الثانية بعد الصين. التكنولوجيا قبل الأيديولوجيا، ونحن في الوطن العربي ما زلنا في الأيديولوجيا قبل التكنولوجيا. ما زلنا في حالة استقطاب شديد بين السلفية والعلمانية، مع غياب حوار جاد بين الجناحين، وغياب الحوار شبه التام مع الدولة. وكل محاولة لإقامة الجسور، مثل حزب «الوسط» في مصر، وحزب «النهضة» في تونس، بل والصياغات الأخيرة لبرامج الإخوان في مصر والأردن ولبنان واليمن، وتأكيدها على الدولة المدنية، والتعددية السياسية، والحرية والديمقراطية، متجاوزة الحاكمية وتطبيق الشريعة، تلقى آذانا صماء من نظم الحكم باعتبارها منافسا خطيرا لها في حالة انتخابات حرة يخسر فيها الحزب الحاكم. ما زال الصراع على السلطة هو المحرك الأول، وليس جبهة الإنقاذ الوطني التي يشارك فيها الجميع. وشتان ما بين حزبي العدالة والتنمية في تركية والمغرب، وحزب التنمية والعدالة في دارفور غرب السودان؛ بين نظرة توحيدية للوطن، ونظرة تجزيئية له.
تستطيع التجربة التركية والمغربية أن تساعد مصر وليبيا والجزائر وتونس والسودان وسورية وشبه الجزيرة العربية في الوسط والأطراف على خوضها تحديثا للإسلاميين، وإخراج النخبة العلمانية من عزلتها، وإيجاد مخرج لأزمة الحكم. ومصر حلقة اتصال بين تركية شمالا، والمغرب غربا، وشبه الجزيرة العربية وماليزيا شرقا، والسودان جنوبا. ولها لدى شعوبها رصيد من الحضارة والتاريخ.
الدين والثقافة والسياسة في رمضان: عتاب على الإعلام العربي
7
انقضى شهر رمضان. واسترجاع حوادث الشهر الكريم وسلوكياته جزء من مراجعة النفس والنقد الذاتي وتحسين الأداء عاما وراء عام، وعدم تكرار الأخطاء أو الاستسلام للعادات.
وما يدعو للتأمل والعجب وضع الدين والثقافة والسياسية في الإعلام العربي، خاصة في مصر، في شهر رمضان، في الصحافة والإعلام، المسموع والمرئي، المدون والشفاهي؛ ففي الصحافة تلغى صفحات التحليل السياسي وصفحات الثقافة، وتتحول إلى صفحات دينية يفتي فيها المشايخ والأطباء؛ فيتحول العام إلى خاص، وقضايا الأمة الكبرى وما تعم به البلوى إلى قضايا جزئية خاصة بالطعام والشراب وأنواع الغذاء والاختيار بين أفضله، والفقير يصارع كل يوم في طوابير الخبز للحصول على الرغيف المدعم الذي يشتريه الغني لإطعام مواشيه ولإقامة موائد الرحمن. بعد الدين عن الهم اليومي ومناظر دماء المسلمين في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان والسودان، واقتصر على الغذاء كالحيوان. ابتعد الدين عن أزمة العصر الكبرى، احتلال أراضي المسلمين، والذي كان السبب الأول في الحركات الإصلاحية، وقيام حركات التحرر الوطني باسم الإسلام والعروبة والوطن. وفي نفس الوقت تزرع إسرائيل المستوطنات وتتوسع فيها، وتقام القواعد العسكرية الدائمة في العراق، ويزداد تدخل القوى الأجنبية في السودان والصومال. والإذاعة تغني «أهلا رمضان»، «رمضان جانا وفرحنا له»، وإذا قارب على الانتهاء «والله لسه بدري يا شهر الصيام» حزنا على فراقه. واستعدوا لأغان نمطية أخرى «أهلا، أهلا بالعيد» مع أطفال الشهداء والثكالى. والبعض يقول في سره مع المتنبي: «عيد بأية حال عدت يا عيد؟»
وانقسمت الأمة إلى قسمين؛ قسم يجاهد ويقاوم ويستشهد ويحاصر ويتظاهر من أجل يوم القدس العالمي في فلطسين ولبنان وإيران، وقسم يقف في طوابير الخبز واللحم والكنافة والقطايف، أو يشاهد بالساعات المسلسلات الرمضانية التي يستعد لها التليفزيون شهورا قبله مع إعلان حالة الطوارئ. ويتأسف المشاهدون لغياب الفوازير نقصا في النجوم وليس نقصا في المال والرجال. يتم التخلي عن قضايا الأمة وما يهددها من مخاطر خارجية لصالح فتاوى رمضان على مدى شهر كامل، مع أن غزوة بدر كانت في رمضان، وحرب أكتوبر كانت في رمضان، وأجلت أمريكة عدوانها على العراق حتى مارس احتراما لشهر الصيام؛ فإراقة دماء المسلمين حرام في رمضان، حلال قبل شهر الصيام أو بعده.
ولا تتناول صفحات الفكر الديني خلال شهر رمضان قضايا السياسة الداخلية من هموم المواطن اليومية؛ الفقر والقهر والفساد وضنك العيش.
ورمضان أساسا والحكمة من الصيام هو الإحساس بجوع الفقراء. لم تتعرض ليالي رمضان إلى مظاهر الغنى الفاحش ومظاهر الفقر المدقع في الأمة، أغنى أغنياء العالم منها، وأفقر فقراء العالم فيها. لم تتعرض لمظاهر الفساد والاحتكار والاستغلال لقطاعات الحديد والأسمنت، ولتهريب الأموال من خلال البنوك والتهرب الضريبي. لم تتعرض لقضايا الحريات العامة وحبس الصحفيين، والرقابة على المصنفات الفكرية والأدبية والفنية، وتكفير المفكرين والكتاب والفنانين. لم تتعرض لقوانين الطوارئ، أو قانون مكافحة الإرهاب، أو تزوير الانتخابات، أو إعداد المسرح السياسي للتوريث، وهو ما يناقض الشريعة الإسلامية التي تقول بالانتخاب الحر: «الإمامة عقد وبيعة واختيار.» بتعبير الفقهاء. لم تتعرض لقضايا التعددية السياسية، وسيطرة الحزب الحاكم، وتشتت المعارضة وضعفها، ورفض شرعية الحركة الإسلامية، سواء حزب الوسط أو الإخوان المسلمين، بالرغم من تأكيدهما على الدولة المدنية وليس الدينية، وعلى الدستور والقانون والمؤسسات وليس الحاكمية. وترفض الترخيص لحزب الكرامة الذي يمثل جيلا جديدا من الناصريين لإنقاذ البلاد، بينما تسمح بإقامة حزب الخضر في بلد 94٪ من مساحته صحراء قاحلة. والأولى بها حزب الصفر لوضع خطة لكيفية التعامل مع الرمال. لم تتعرض صفحات الفكر الدين إلى أن الدين النصيحة، وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحسبة للرقابة على الأسواق والميزانية العامة، واقتراح إلغاء ديوان المحاسبة وخصخصته لإفساد شركات المحاسبة الخاصة بالرشاوي للتغطية على الفساد والاختلاس والرشاوي في جهاز الدولة. غابت القضايا العامة التي تعم بها البلوى من البرامج الدينية في رمضان؛ الفقر والجهل والمرض قضايا أجيال مضت، وقضايا الفقر والقهر والفساد والبطالة والهجرة لهذا الجيل.
يكفيها فتاوى فقهاء السلطان عن التبرك ببول الرسول أو إرضاع الكبير أو التنصير أو الزواج المشترك أو طلاق النصارى لإشعال الفتنة الطائفية؛ فأصيب المواطن بالازدواجية بين الدين والحياة. الدين لا يتعرض لشئون الحياة فضمر، والحياة لا يتناولها الدين فضاعت.
والأخطر هو إلغاء الصفحات الثقافية في بعض الصحف القومية، وتحويلها إلى صفحات للفكر الديني، وكأن الدين بديل عن الثقافة، في حين أن الدين هو تراث الأمة، ثقافة وحضارة وعلما وعمرانا. كانت الثقافة طريق النهضة في تاريخ العرب الحديث، وكانت تياراتها الرئيسية الإصلاح الديني، والفكر العلمي والعلماني، والتيار الليبرالي السياسي. وهي تيارات فكرية أساسا قبل أن تتولد منها حركات سياسية وطنية تحررية من الإصلاح الديني عند الأفغاني، ولا مركزية ديمقراطية من التيار العلمي العلماني عند شلبي شميل، وتأسيس دولة مركزية عماد التحديث عند الطهطاوي، ثم ليبرالية عند أحمد لطفي السيد.
وما زالت قوة الوطن العربي ورصيده الأول في ثقافته وأدبه وفنه قبل زراعته وصناعته. لم تتناول صفحات الفكر الدين التي حلت محل الصفحات الثقافية لأزمة الثقافة العربية، وحالة الاستقطاب الشديد بين السلفية والعلمانية، بين أنصار القديم وأنصار الجديد، وغلبة النقل من القدماء ومن المحدثين على الإبداع، وأولوية المشروع القومي للترجمة وغياب المشروع القومي للنشر، والمشروع القومي للتأليف.
فالإبداع الثقافي مشروط بتفاعل الوافد أي الترجمة، مع الموروث أي النشر. وقد كان هذا هو هدف «اللجنة المصرية للتأليف والترجمة والنشر ». وقد نزل القرآن في شهر رمضان، والقرآن هو
اقرأ ؛ أي الثقافة والعلم والمعرفة. وقد تذهب الأمة، ويقضى على نظام الخلافة، ولكن تبقى ثقافتها وعلمها وحضارتها محفوظة في مئات من مكتبات العالم ومحفوظات ومعاهد مخطوطاته.
ونتيجة لإبعاد الدين عن السياسة والثقافة في رمضان، يبتعد الدين عن الحياة، ويتحول إلى عبادات وشعائر ورسوم، وينزوي في ركن خاص؛ الطعام والشراب؛ فيغترب الناس عن العالم، ويخلق الدين لهم عالما وهميا بديلا؛ فمن الناس من لم ينالوا من رمضان إلا الجوع والعطش. الدين المعاملة، ويغيب الوعي بالمجتمع وبالعالم.
وبعد رمضان يعود الناس إلى همومهم اليومية كما كانوا قبل رمضان؛ ففيه نسيت الهموم، وكبرت الكروش، وزاد الاستهلاك. وبمزيد من الصلاة، وإقامة السنن مع الفرائض، والحرص على صلاة التراويح وختم القرآن، يتطهر المواطن، ويخرج من رمضان خاليا من الذنوب كما ولدته أمه، والاستعدادات على أشدها لضرب سورية وإيران وحزب الله.
وعلى هذا النحو يتحول الدين إلى كهنوت، ويصبح دين المناسبات والأفراح والأعياد والجوائز والمكافآت في الأرض لتحفيظ القرآن، وفي السماء جزءا للوعد. مع أن الإسلام نشأ ضد الكهنوت اليهودي وسيطرة الأحبار، وضد الكهنوت المسيحي الذي أصبح واسطة بين العبد والرب. وارتبط تقدم الغرب بالثورة على رجال الدين والكنيسة من أجل العودة إلى العالم بلا سلطة دينية، واكتشاف قوانين الطبيعة دون اللجوء إلى الكتاب المقدس، وإعمال العقل دون استبدال الإيمان به.
ونحن نزيد على رجال الدين رجال الأعمال ورجال الدولة ورجال الحزب الحاكم؛ حتى يتأصل الكهنوت الديني في الكهنوت الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.
إن استبدال صفحات الفكر الديني بصفحات الثقافة والسياسة في رمضان جريمة لا تغتفر في حق الدين والثقافة والسياسة؛ فالدين ليس عالما منفصلا عن الحياة، خاصة ونحن نعاني من الحركات السلفية التي تجعل الدين غاية في ذاته، وجريمة في حق الثقافة؛ فالعقل أساس النقل، والنظر أساس الإيمان، والاستدلال طريق التصديق. وجريمة في حق السياسة؛ فالإسلام عمل والتزام، ومن لم يهتم بشئون المسلمين فليس منهم، حتى لو اتسعت عمامته، وطالت ذقنه، واسود قفطانه.
الخليج بين إيران ومصر
8
عاش العرب طموحات الوحدة منذ الحرب العالمية الأولى، وبلغت ذروتها في الخمسينيات والستينيات إبان حركات التحرر الوطني والحقبة الناصرية، وقامت تجارب عديدة بعد إنشاء جامعة الدول العربية كمنظمة إقليمية للدول، جمهورية مصر العربية المتحدة 1958-1961م، ثم الوحدة الرباعية بين مصر والعراق والأردن واليمن. وبعد حربي الخليج الأولى والثانية انفك العقد، واستبدل بذلك كله لجان التنسيق بين كل دولتين جارتين، مصر وليبيا، مصر والسودان، مصر والأردن، أو جارتين عربيتين بينهما تواصل تاريخي وثقافي واقتصادي بصرف النظر عن التواصل الجغرافي مثل مصر وتونس، مصر والجزائر، مصر والمغرب.
ومن أنجح تجارب طموحات الوحدة، تجربة مجلس التعاون الخليجي بفضل التواصل الجغرافي والتاريخي والثقافي واللغوي، وبمبادرة من قادة دول الخليج، وبنوع من الاستمرارية والتدرج، وفي عصر التجمعات الإقليمية والتكتلات الكبرى. لا حدود بين دولها، ولا تأشيرات دخول، ولا مواطنة مجزئة. والعملة الموحدة في الطريق، وأخيرا تم إنشاء السوق الخليجية المشتركة.
فالاقتصاد عصب السياسة كرد فعل على التجارب الوحدوية الأولى التي كانت سياسة بلا اقتصاد، ودولا بلا شعوب، ونظما سياسية متباينة دون رؤية قومية واحدة. ورءوس الأموال متوافرة من زيادة عوائد النفط المتتالية منذ حرب أكتوبر 1973م، والتي بلغت أكثر من ثلاثين ضعفا، ومرشحة للازدياد إلى ستين ضعفا في السنوات القادمة، خاصة إذا اندلعت الحرب لأي سبب في المنطقة بسبب عدوان إسرائيلي أمريكي على إيران بحجة تخصيب اليورانيوم ، وإمكانية تحويله إلى أسلحة نووية، أو من طامع في عوائده وأصوله في الآبار حتى لا تبقى للعرب قوة عسكرية بعد تدمير العراق، أو اقتصادية بعد تغيير موازين القوى في الخليج. وإذا كان العرب قد أضاعوا الثورة فما زال الأمل موجودا في عدم ضياع الثروة، واستثمار عوائد النفط المتراكمة في التنمية الشاملة للوطن العربي الذي يمتلك المال والأرض والمياه والعمالة والخبرة الكافية؛ كي يتحولوا من دول نامية إلى دول متقدمة. وتجارب ماليزيا وأندونيسية وسنغافورة وكوريا الجنوبية وتايوان وإيران وتركية خير شاهد على ذلك.
وللخليج موضع جغرافي فريد؛ فهو على الضفتين العربية والآسيوية في الغرب والشرق، تمنحه قدرة على أن يكون مركز اتصالات عالمية بين الشرق والغرب. وهو ما يحدث الآن في دبي. وهو نقطة التقاء بين الشمال العربي في العراق والشام الكبرى والجنوب الأفريقي، كما فعلت الهجرات الهندية إلى أفريقية، والتي منها خرج غاندي مدافعا عنها.
ويكون للخليج نفس المركز الذي لقناة السويس في ربط الشرق بالغرب، والشمال بالجنوب. وهو المركز الذي تطمح له إسرائيل بشق قناة مائية جديدة بين البحر الميت والبحر المتوسط لخلق مركزية إسرائيلية جديدة، بدلا من المركزية العربية في الخليج ومصر.
يحتاج الخليج إلى سياسة توازن بين شرقه الآسيوي وغربه العربي، بين سكانه الآسيويين وسكانه العرب الأصليين أو المهاجرة من الشام ومصر، وليس توازنا بين شيعة وسنة؛ فهذه أسطورة خلقها الغرب لبث الفرقة بين أبناء الأمة الواحدة، وزرع الشقاق بين دول الجوار، إيران والخليج، أو إيران ومصر، أو إيران والعراق، وحتى لا يميل الميزان نحو إحدى الضفتين بفعل القرب الجغرافي أو الثقل السكاني أو المصالح المشتركة.
لقد كان من التوفيق وحسن السداد دعوة إيران لحضور اجتماع مجلس التعاون الخليجي الأخير لإنشاء السوق الخليجية المشتركة؛ فإيران دولة خليجية مثل دول الخليج، والمصالح الاقتصادية معها أكبر من المصالح مع الغرب الأوروبي والأمريكي والشرق الأقصى الآسيوي. الخلاف المذهبي هو نوع من التعددية الفكرية داخل المذاهب، وداخل كل مذهب هناك تعدديات وفروع لا تنتهي. والتعارض النووي والتهديد العسكري أسطورة خلقها الغرب بوجه عام، وأمريكة بوجه خاص، لإزاحة التعارض بين العرب وإسرائيل، أو العرب وأمريكة.
وهو تعارض فعلي بعد غزو أمريكة للعراق، واحتلال إسرائيل لكل فلسطين، وخلق تعارض وهمي بين إيران والعرب. وإيران تقف مع الحق العربي في فلسطين لأبعد الحدود. والتعاون الاقتصادي كفيل بالتعاون السياسي، وحل قضية الجزر بما يحقق مصالح الطرفين. فعل ذلك عبد الناصر في محافظات التكامل بين مصر والسودان في وادي حلفا، ويمكن أن تتكرر في حلايب وشلاتين. وجود الشعوب على أرض مشتركة خير وسيلة لحل قضية الحدود التي زرعها الاستعمار بعد نشأة الدول الوطنية لمنع التعاون الإقليمي، وخلق بؤر توتر دائم قد تنتهي إلى حد الصراع المسلح، وتغليب التناقض الفرعي بين العرب والعرب مثل المغرب والجزائر في قضية الصحراء، أو العرب والمسلمين مثل قضية الجزر، على التناقض الرئيسي؛ الصراع العربي الإسرائيلي وحقوق شعب فلسطين.
ومن أجل الحفاظ على أمن الخليج بالحفاظ على توازنه بين جناحه الشرقي الآسيوي، وجناحه الغربي العربي، فإنه يمكن دعوة مصر أيضا لحضور مجلس التعاون الخليجي والانضمام إلى السوق الخليجية المشتركة؛ فمصر وإيران هما ميزان الثقل في المنطقة، يجمعهما الجوار المشترك، والتاريخ المشترك، والحضارة المشتركة، والمصالح المشتركة، والمخاطر المشتركة. يستطيع ميزان التعادل هذا المحافظة على عروبة الخليج سكانيا ولغويا وثقافيا في الحياة اليومية، وسياسيا واقتصاديا في الحياة العامة. وقد كان هذا هو الهدف من إعلان دمشق. ويمكن إعادة تفعيله لمصلحة الأمن القومي في الخليج على الأمد الطويل.
وعلى هذا النحو تصبح العمالة العربية في الخليج عنصرا إيجابيا لا سلبيا لإيجاد التوازن قدر الإمكان مع العمالة الآسيوية التي هي الآن العنصر الغالب. وإذا كانت القوى الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، قادرة على توجيه قرارات الأمم المتحدة لصالحها، وإملاء إرادتها عليها، فإنه يمكن في لحظة غضب على الخليج، ورفضه التطبيع مع إسرائيل قبل إحلال السلام وقبول مبادراته التي تنص على «الأرض مقابل السلام»، إصدار قرار بتحويل العمالة الآسيوية إلى مواطنين كاملين، لهم حق الاقتراع العامة؛ وبالتالي تنتهي عروبة النخبة الحاكمة، ويصبح العرب كلهم خليجيون ومهاجرون أقلية، والآسيويون هم الأغلبية. وتستطيع الهند مقايضة هذا الخطر بكشمير، وبالتحالف الهندي الإسرائيلي.
وحرصا على عروبة الخليج، وإيجاد عنصر التوازن بين ضفتيه الآسيوية والعربية، يتم استثمار جزء من عوائد النفط لتنمية الوطن العربي من أجل تكامله اعتمادا على العمالة العربية، وحلا لمشكلة البطالة فيه. كما يساعد ذلك على تدعيم الأمن القومي الداخلي في الخليج، وتقليل المخاطر الخارجية المحتملة من إسرائيل وأمريكة، واحتلال آبار النفط بدعوى حرمان إيران منها، ودفاعا عن الأمن القومي لأمريكة بتأمين مصادر النفط، وتهديد الأمن القومي الإسرائيلي من القوة العسكرية والاقتصادية للخليج بضفتيه الشرقية والغربية، الآسيوية والعربية. وهو تحقيق لاتفاقية الدفاع العربي المشترك التي ما زالت حبرا على ورق، والتي لم تستطع صد الغزوات على الوطن العربي من خارجه، أمريكة وإسرائيل، أو من داخله، العراق. وفي هذه الحالة لا لزوم للقواعد العسكرية الأجنبية داخل الوطن العربي وفي مياهه الإقليمية؛ فدفاع الوطن العربي عن نفسه كاف لحمايته من الأطماع القطرية والأجنبية.
من المخاطر المحدقة بالوطن العربي تآكله من الأطراف؛ من الطرف الآسيوي شرقا في العراق والخليج، ومن الطرف الأفريقي جنوبا، السودان والصومال وزنجبار وموريتانيا، وانحسار العروبة في شمال تشاد ومالي، وانحسار الإسلام في باقي الدول الأفريقية في جنوب الصحراء. كما قد تتآكل حدود الوطن العربي الشمالية من مخاطر الفرانكفونية والتوجه الغربي نظرا للقرب الجغرافي بين المغرب العربي وأوروبة، وإقامة تعاون مغاربي أوروبي لحساب فرنسة بدلا من مشاريع الشرق الأوسط الجديد أو الكبير لحساب الولايات المتحدة الأمريكية، وابتلاع الوطن العربي كله شرقه وغربه وشماله وجنوبه ووسطه في مصر عبر الأطلنطي، وكمجال حيوي للإمبراطورية الأمريكية الجديدة. فإذا غاب المركز ضمرت الأطراف أو شلت
أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها (الرعد: 41). وإذا احتجبت مصر انفرط العقد، وتفرق العرب ذرافات ووحدانا.
وفديناه بذبح عظيم
9
انقضى عيد الأضحى المبارك، وهو أكبر أعياد المسلمين، حيث يقف الملايين منهم على جبل عرفات، يهللون ويكبرون بصوت رجل واحد من مختلف القبائل والشعوب، ويحمدون الله على ما أنعم به عليهم من الإيمان والتوفيق والإسلام خاتم الرسالات.
تتوالى الأعياد عبر السنين، ويظل المعنى واحدا ثابتا يتأكد في كل عيد، واللسان يردد: «عيد بأية حال عدت يا عيد؟» نظرا للتفاوت الشديد بين دلالة المناسبة وواقع المسلمين، بين ما يجب أن يكون وما هو كائن، بين المثال والواقع. وانحسار الفعل الإنساني المنوط بتحقيق الوحي كنظام مثالي للعالم.
والدلالة العظمى لعيد الأضحى المبارك مستنبطة من اسمه «الأضحى»؛ أي الضحية،
وفديناه بذبح عظيم (الصافات: 107). والواقعة معروفة، سواء كانت تاريخية عند الفقهاء، أو متخيلة عند الفلاسفة. والدلالة معروفة أيضا؛ الإنسان قيمة مطلقة، حياته مقدسة، يصارع الموت حتى ولو كان بأمر إلهي. فالله حياة لا يأمر إلا بالحياة. من قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحيا نفسا فكأنما أحيا الناس جميعا، في التوراة وفي القرآن.
وقد بعث المسيح أيضا، وتغلبت الحياة على الموت، والرفع إلى السماء على الدفن في الأرض.
والتضحية بالحيوان بديل عن التضحية بالإنسان. وقد كانت القرابين عند الساميين أحد مظاهر التقوى والعبادة، ومنها الختان في اليهودية والإسلام؛ سيلان الدم رمز الحياة باسم الله. ضحى قدماء المصريين بالإنسان في احتفال مهيب بعروس النيل حتى يعم الفيضان والرخاء، وأنقذ الإسلام الإنسان، ونسخ الأمر الأول الذي وقع في منام إبراهيم بذبح ابنه إسماعيل بأمر ثان، وهو التضحية بكبش تنفيذا للأمر الإلهي، وفي نفس الوقت اعترافا بأن الإنسان قيمة مطلقة، وذبح الحيوان لإنقاذ الإنسان، بل إن بعض الملل والنحل أيضا تحرم ذبح الحيوان كما هو الحال في الهند، أو لدى جماعات الرفق بالحيوان الحديثة.
أما واقع المسلمين اليوم فهو على عكس ذلك. يتم التضحية بالإنسان والحيوان معا؛ فكم من الزعماء والقادة تم اغتيالهم وتصفيتهم جسديا، مثل شهدي عطية وبن بركة، بأيدي النظم السياسية، ومثل عز الدين القسام والشيخ ياسين بأيدي العدو الصهيوني! وكم من أفراد المقاومة وزعماء المعارضة يتم تعذيبهم في السجون والمعتقلات! وكم من المعتقلين يتم احتجازهم طبقا لقانون الطوارئ والحبس الاحتياطي!
وكم من المواطنين يستشهدون في بالوعات غير مغطاة، أو بصعق الكهرباء، أو بأسلاك عارية في الطرقات، أو بحوادث طرق غير ممهدة دون حد أدنى للأمان، أو من حرق قطارات أو تصادمها، أو من غرق عبارات في البحار، أو من غرق قوارب محملة بالهجرات غير الشرعية من الوطن العربي إلى شواطئ أوروبة؟
وكم من الفقراء يموتون جوعا وقحطا من المسلمين في السودان والصومال وتشاد ومالي وبنجلاديش! وكم من عرايا الأجساد والمتشردين بلا مأوى يموتون من البرد والعراء! وكم من القوانين تسنها الدولة ضد حقوق الإنسان وإشباع حاجاته الأساسية في الغذاء والكساء والإيواء والتعليم والصحة وحرية التعبير، بحجة الخصخصة، ورفع الدعم، وقانون العرض والطلب، ومنطق السوق، ومتطلبات الجودة والكفاءة، والحفاظ على الأمن العام حتى يستقر النظام، ويأتي المستثمرون هرولة لإنقاذ البلاد من الفقر والبطالة.
ونشأت جمعيات حقوق الإنسان كأحد تنظيمات المجتمع المدني، وظلت ضعيفة الأثر، تتبناها النخبة، وتثار حولها من الدولة وأعدائها شبهة التمويل الأجنبي، وتبني جدول الأعمال الغربي، وتواري حقوق الشعوب لصالح حقوق الإنسان، وتهميش حقوق الجماعة لصالح حقوق الأفراد.
لم تتحول حقوق الإنسان إلى ثقافة شعبية عامة؛ ربما نظرا لتهميش تراث الإنسان في موروثنا الثقافي الديني القديم؛ فقد غاب مبحث الإنسان كمفهوم مستقل في تراثنا القديم، وظهر بصورة مغلفة داخل مفاهيم دينية وفلسفية وصوفية وفقهية أخرى. الإنسان في صورة الإله في علم أصول الدين مع مشاركة في الصفات، طبقا للحديث الشهير: «إن الله خلق الإنسان على صورته ومثاله.» فالعلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والكلام والإرادة صفات مشتركة بين الإنسان والله. وإن أطلقت على الإنسان مجازا تطلق على الله حقيقة، وإن أطلقت على الإنسان حقيقة تطلق على الله مجازا طبقا لقياس الغائب على الشاهد.
وظهر الإنسان عند الصوفية في نظرية «الإنسان الكامل» الذي تتحد فيه أيضا صفات الله وصفات الإنسان عند ابن عربي والجيلي. وظهر الإنسان في علوم الحكمة؛ أي الفلسفة، كنفس وبدن، أو روح وجسم، بين الإلهيات والطبيعيات؛ جسم في الطبيعيات، وعقل في الإلهيات، وليس الإنسان الواحد الوجودي الموجود في الزمان والمكان؛ فالإنسان بين عالمين كما قال الكندي. كما ظهر الإنسان العامل في الفقه الذي ينفذ الأوامر ويجتنب النواهي بدافع الطاعة والإيمان والتقوى والعمل الصالح.
وقد ذكر الإنسان في القرآن الكريم خمسا وستين مرة؛ مما يدل على أنه موضوع رئيسي؛ فقد خلق الإنسان ولكنه علم البيان،
خلق الإنسان * علمه البيان (الرحمن: 3-4).
خلق هشا ضعيفا متعجلا، لا يعي الزمان، تحركه الدوافع، وتسيره الانفعالات. يطلب العون في ساعة الشدة، شاك، جاهل، مجادل، وسواس، متأمل، ناس. يترصد له عدوه الذي ينكر كرامته ويرفض أن يسجد له، ويهدد قيمته ووجوده. وهنا تبرز مسئولية الإنسان وتحمله الأمانة،
إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان (الأحزاب: 72). ومع ذلك يتحول الإنسان الهش إلى إنسان صلب، يحقق الكمال في الأرض،
لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم (التين: 4). يحترم والديه احترام الإنسان للإنسان،
ووصينا الإنسان بوالديه حسنا (العنكبوت: 8). وهو ما حاولت الحركات الحديثة إبرازه، خاصة إقبال.
لذلك ظل الغرب يزهو علينا بأنه وحده الذي أعطى العالم مفهوم حقوق الإنسان منذ نشأة النزعة الإنسانية في القرن السادس عشر عند أراسموس والكوجيتو الدي كارتي «أنا أفكر فأنا إذن موجود» في القرن السابع عشر، والإنسان مركز الكون في الثورة الكوبرنيقية عند كانط، ومثال من مثل التنوير في الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر. وصور الشعراء كما فعل شيلي في «برمثيوس طليقا» بعد أن قيده آلهة اليونان لأنه أراد سرقة نار العلم ونور المعرفة. صحيح أن الإنسان هو الإنسان الغربي في الممارسة، الإنسان الأبيض القوي المتحضر، النموذج الأوحد، السوبر مان، وليس الإنسان الأفريقي الآسيوي، الأسود أو الأسمر أو الأصفر.
وصحيح أيضا أنه مجرد فرد لا جماعة. يدافع الغرب عن حقوق الإنسان وينتهك حقوق الشعوب. أعطى للعالم «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان»، ولكنه نسي «الإعلام العالمي لواجبات الإنسان». في الغرب حقوق بلا واجبات، ولدينا واجبات بلا حقوق.
الدولة والثقافة
يبدو أنه لا يوجد حل للأزمة العربية الراهنة على الأمد القصير؛ فالأزمة تتفاقم يوما بعد يوم، والسكون العربي لم يتغير، ووهم العجز العربي ما زال مستمرا، والتغيرات الكيفية لا تحدث إلا إذا وصل التراكم الكمي إلى حده الأقصى في سورية ولبنان والسودان والصومال وإيران، وتفجير المنطقة العربية كلها إلى شظايا يسهل ابتلاع القوى العالمية والمحلية لها، كما حدث في تفتيت دولة الخلافة بعد الحرب العالمية الأولى واحتلال معظم ممتلكات «الرجل المريض». ولم يشفع البديل، القومية العربية، في لم الشتات إلا إلى حين، عقدين من الزمان، بداية بثورة يوليو في أوائل الخمسينيات، ونهاية بهزيمة يونيو (حزيران) 1967م في نهاية الستينيات.
لم يبق إذن إلا العمل على الأمد الطويل، واستعداد لمرحلة قادمة قد تكون أشد وأصعب؛ فقد تعودت القوى الكبرى اللعب في الوطن العربي على مدى أربعة عقود ظانة أن الساحة خالية أمامها؛ أوطان تحتل، ونظم سياسية عاجزة أو تابعة أو مغلوبة على أمرها، أو فقدت الخيال السياسي، أو قنطت من رحمة الله.
والعمل على الأمد الطويل هو العمل الثقافي؛ إعداد وجدان الأمة للنهوض من جديد.
وكما بدأت الأمة بالفكر، وتغيير رؤيتها للعالم ومعاييرها للسلوك؛ أي انتفاضة الذهن، وثورة العقل، والنقد الحضاري للماضي والحاضر، فإنها قادرة اليوم من جديد على إحداث ثورة فكرية ثانية. وتبدأ هذه المرة بالمفكرين الأحرار بعد أن بدأت في تجربتها الأخيرة منذ أكثر من نصف قرن بالضباط الأحرار. والبداية بالفكر الحر هو الشرط الأول لقيام المجتمع الحر. هكذا بدأ التنوير قبل اندلاع الثورة الفرنسية، وامتدت آثاره حتى اندلاع الثورة الأمريكية، وانتشرت الأفكار الاشتراكية قبل اندلاع الثورة البلشفية، وظهر الإسلام الوطني قبل اندلاع حركات التحرر الوطني منذ الأفغاني حتى اليوم، وتأسس الإسلام الثوري قبل اندلاع الثورة الإسلامية في إيران.
توقف العامل الثقافي عن أن يكون عاملا فعالا بعد تأسيس الدولة الوطنية الحديثة وتحويل الثقافة إلى إعلام. وظيفتها تبرير النظام السياسي. إن اختار النظام الاشتراكية فثقافتها اشتراكية، وإن بدل إلى رأسمالية فثقافتها رأسمالية، وإن كان قوميا فثقافتها قومية، وإن بدل إلى قطرية فثقافتها قطرية. فقدت الثقافة استقلالها، وأصبحت جزءا من إعلام الدولة بعد أن سيطرت الدولة عليه.
وأسست «وزارة الثقافة والإعلام»، وأحيانا يضاف «والإرشاد القومي». ولم ينج من ذلك إلا بعض المثقفين الذين آثروا الابتعاد عن الساحة الوطنية ، والأدباء؛ فمنهم عبروا عن ضيقهم بلغة الأدب الرمزية تخفيا من عين الرقيب. والتأويل متعدد، وحماية النفس ضرورية.
أصبحت مهمة المؤسسات الثقافية إعلامية. تقترب أو تبعد من أجهزة الإعلام لتجميل النظام في الداخل مثل مؤسسات القاهرة، أو في الخارج مثل مؤسسات الإسكندرية. وهي على مقربة من المتوسط جنوب أوروبة، وتوحي بمجدها الثقافي القديم. وماذا يفيد الطلاء الخارجي والمبنى من الداخل خاو، والأساس مزعزع؟ الهدف هو جمع المثقفين في مؤتمرات متتالية بحضور العرب والأجانب من أجل إثبات حيوية النظام، والتفاف المثقفين حوله مع درجة عالية من التنظير. ولا ضير من القيام بخطاب نقدي ما دام الأمر لا يتعدى الكلام المغلق في قاعات المجالس أو صالات الفنادق؛ فالكلام صرخة في واد، ليس لها صدى لا عند المثقفين ولا عند الناس، ولا حتى عند النخبة السياسية؛ لأنها هي التي أخرجت المسرحية واختارت الممثلين.
وبين المؤلف والمخرج والممثل مصالح مشتركة، منها إبقاء النظام وتجميله ضد تشويهه من جماعات الانحراف والتطرف، وخصوم النظام وأعدائه. ومنها توزيع المناصب الثقافية القيادية على الفريق الذي تتغير أدواره طبقا لمهارته في اللعبة الشهيرة للكراسي الموسيقية. وبدلا من أن تكون الثقافة مستمرة والنظام السياسي متغيرا، أصبحت الثقافة متغيرة والنظام السياسي ثابتا وإن تغيرت اختياراته السياسية، من نخبة إلى نخبة.
وتنوع المثقفون وتعددت أدوارهم؛ فهناك المثقف المبرر للنظام، وهو ما سمي في الأدبيات المعروفة مثقف السلطة. يقوم ليس فقط بتجميلها، بل بتبريرها حتى لو قلب الحق باطلا والباطل حقا، وحتى لو كان هذا التبرير ضد قناعته الشخصية قبل أن يصبح خادما للنظام. وهناك نقيضه، معارض النظام، يشارك أحيانا في النشاط الثقافي لإسماع صوته
وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه (غافر: 28)، و«الساكت عن الحق شيطان أخرس». وقد يعزف عن المشاركة ويقاطع كدليل على الرفض والمشاركة في المسرحية، ولو من موقع المشاهد والمتفرج.
وهناك المثقف الذكي؛ يد مع النظام، ويد مع المثقفين على كافة اتجاههم، يساريين ويمينيين، اشتراكيين وليبراليين، ماركسيين وإسلاميين مستنيرين، قوميين وقطريين، شرقيين وغربيين؛ لإظهار قدرته على الحشد والتجميع ؛ فالكل وراء النظام، ويعمل في كنفه، وتحت رعايته ومراقبته. يستفيد من المنصب القيادي طامحا إلى ما هو أعلى منه حتى قمة المؤسسة الثقافية، ويحظى بالاحترام الواجب من جماهير المثقفين. ويزيد الحشد بالكتابة في الصحافة القومية والعربية داخل الأوطان وخارجها، وكلما زاد الانتشار قويت الثقة به، واقترب أكثر من الرياسة؛ الهدهد بين سليمان وسبأ. يوظف الثقافة لصالح النظام ضد أعداء النظام؛ فالثقافة سلاح مثل الجيش والشرطة والأمن. الاستقرار الثقافي ضرورة للاستقرار الأمني. والوعي الزائف واحد؛ الوعي السياسي أو الوعي الثقافي.
والحقيقة أن هناك تناقضا بين الإعلام والثقافة، بين الدولة والثورة، بين النظام والنقد. الدولة شرطة وجيش وأمن ونظام، والثقافة شك ونقد ورفض وغضب . في الدولة، المواطن الصالح تسليم وطاعة. وفي الثقافة، المثقف الوطني ثورة ومقاومة. وظيفة الدولة الإبقاء على الوضع القائم من أجل الاستقرار والتنمية وجلب رءوس الأموال، ومهمة الثقافة تغيير الوضع القائم إلى ما هو أفضل من أجل الرقي والتقدم، بحثا عن الكمال. تبغي الدولة إقصاء خصومها السياسيين وإبعادهم عن مراكز إصدار القرار. وغاية الثقافة المعارضة في مراكز التأثير. هدف الدولة الضبط الجماعي، وتأجيل الصراع الاجتماعي إلى جيل آخر، ونظام سياسي لاحق. ودور الثقافة الحراك الاجتماعي في هذا الجيل، وإحداث التغير الاجتماعي المطلوب في الحاضر دون تأخير أو تأجيل. الدولة حكومة، والثقافة أهال؛ فلا الدولة تقوم بدور الأهالي، ولا الأهالي تقوم بدور الدولة. وطالما تحدث الفلاسفة والمفكرون من قبل عن عقل الدولة وعقل الثورة كعقلين نقيضين. غاية الدولة الإمساك بالحاضر وإيقاف الزمن، محو الماضي وإلغاء المستقبل. وغاية الثقافة تحريك الحاضر، واستلهام الماضي، والإعداد للمستقبل. في الدولة، الوحدة فضيلة، والتعددية رذيلة. وفي الثقافة، الوحدة رذيلة، والتعددية فضيلة. وقد بلغ التعارض بينهما إلى حد استحالة تحويل الدولة إلى ثورة في النظم التسلطية، وتحويل الثورة إلى دولة في النظم الثورية.
لذلك دعا كثير من الفلاسفة والسياسيين الوطنيين إلى استقلال الثقافة عن الدولة، ورفع أيديها عن حوارات المثقفين، وعدم التدخل لنصرة فريق دون فريق. هكذا دعا اسبينوزا في «رسالة في اللاهوت والسياسة». قد تدعم الدولة أجهزة الثقافة ومؤسساتها، ولكنها لا تدخل في المعارك الثقافية وقضاياها وتعدد الآراء فيها. ورقابة الدولة على المصنفات الفنية والمطبوعات هي قمة المأساة في تدخل الدولة في الثقافة للسيطرة عليها وتحويلها إلى إعلام. ولا يكون وزراء الثقافة وأمناء مجالسها أعضاء في الحزب الحاكم؛ حرصا على الاستقلال الثقافي وليس الولاء السياسي.
تتغير النظم السياسية وتظل الثقافة مستقلة عنها. ولا يعني الاستقلال الثقافي العزلة الثقافية عن واقع الأمة، بل يعني الحرص على مصالح الأمة الثابتة، والالتزام بها إذا ما عصفت النظم السياسية بها. استقلال الثقافة مثل استقلال القضاء واستقلال الجامعات، هي العناصر الثابتة في وجدان الأمة؛ حرية الفكر، والعدل بين الناس، والنقد الاجتماعي.
الثقافة والحزب
كما تكون الثقافة مستقلة عن الدولة، تكون أيضا مستقلة عن الحزب؛ فالدولة سلطة كلية، والحزب سلطة جزئية. الحزب سلطة داخل السلطة، والدولة سلطة مجموع الأحزاب. الدولة سلطة شرعية بالاقتراع العام لكل الشعب، والحزب سلطة شرعية باقتراع خاص لأعضاء الحزب. أتى كلاهما عن طريق الانتخاب الديمقراطي الحر. شرعية الدولة تأتي من شرعية الحزب لأنه هو الذي اختار نظامها السياسي، وشرعية الحزب من شرعية الدولة لأنه يعمل في إطار القانون العام.
فإذا ما عملت الدولة لحساب الحزب الحاكم تسقط شرعيتها؛ لأن الدولة نظام موضوعي، في حين أن الحزب اختيار سياسي. وإذا ما عمل حزب المعارضة لصالح نفسه وليس لصالح الدولة، فقد أيضا شرعيته باعتباره ممثلا للصالح العام وليس للصالح الخاص. وتضاربت المصالح بين الدولة والحزب، بين الكل والجزء؛ مما قد يهدد بالصراع بين الشرعيتين، وربما بالانفصال وتفكك الدولة إذا مثل الحزب أحد طوائف الدولة أو أعراقها أو مناطقها الإقليمية. يصبح الحزب دولة صغرى، وتصبح الدولة حزبا كبيرا. وتضيع الوحدة الوطنية، وينتهي الولاء للوطن الأم.
وهنا تأتي أهمية الثقافة كعنصر توحيد بين الدولة والحزب، وقاسم مشترك بين السلطتين الشرعيتين في البلاد؛ سلطة الدولة وسلطة الحزب. فبالرغم من الصراع السياسي بين الاثنين إلا أنه يدور في إطار وطني عام تحميه الثقافة وترعاه. الثقافة إذن هي اللغة المشتركة بين الدولة والحزب، والجسر الموصل بينهما.
وتكمن الخطورة إذا ما تحزب الحزب ثقافيا وليس فقط سياسيا. يكيف الثقافة طبقا للسياسة، ويرد الكل إلى الجزء؛ فيتحول الصراع بين الأحزاب كما يتحول الصراع بين الأحزاب والدولة من صراع سياسي إلى صراع ثقافي، ومن خلاف في الفروع إلى اختلاف حول الأصول، ومن اختيارات سياسية إلى خيارات ثقافية، ومن برامج حزبية إلى دولة داخل الدولة.
الثقافة توحد، والأحزاب تفرق. الثقافة هي العنصر المشترك بين جميع المواطنين بصرف النظر عن انتماءاتهم الحزبية، والحزب هو التفضيل الخاص لبرنامج حزبي على برنامج حزبي آخر. وكلها برامج وطنية تعطي الأولوية للحرية والديمقراطية على المساواة والعدالة الاجتماعية، أو العكس تعطي الأولوية للعدالة الاجتماعية، وإعادة توزيع الدخل بين الأغنياء والفقراء، وسيطرة الدولة على وسائل الإنتاج، على الحرية الاقتصادية والليبرالية السياسية. وكلاهما صحيح، إنما القضية في التفضيل. كلاهما مطلبان فعليان، ولكن الخلاف في فقه الأولويات، وهو فقه شرعي.
مهمة الحزب ليس التقوقع على النفس، والانغلاق على الذات، وإلا ضمرت قواعده، وجمدت حيويته، إنما مهمته فتح أبوابه، ومد الجسور مع باقي الأحزاب، وتوسيع قاعدته من أجل تحقيق تحالف وطني عريض، وإقامة جبهة وطنية عامة، أو ائتلاف وطني تنصهر فيه الأحزاب من أجل عرض اختيارات بديلة للحزب الحاكم. مهمته التفرقة بين التناقضات الفرعية والتناقضات الرئيسية؛ فالحزب الليبرالي قد يتحد مع الحزب الاشتراكي كما هو الحال في معظم الأحزاب الليبرالية الاشتراكية أو الديمقراطية الاشتراكية. أما التناقضات الرئيسية فهي بين الحزب الليبرالي والحزب التسلطي، وعادة ما يكون هو الحزب الحاكم، بين الحزب الاشتراكي والحزب الرأسمالي الإقطاعي الذي عادة ما يكون حزب النخبة السياسية التي بيدها السلطة والثروة، وبين الحزب القطري، مصر أولا، الأردن أولا، الكويت أولا، والحزب القومي الذي يعطي الأولوية للمصلحة القومية على المصلحة القطرية، بين الحزب الذي يدعو إلى الصلح والتطبيع مع إسرائيل، والأراضي العربية ما زالت محتلة في فلسطين وسورية ولبنان، والحزب الذي يدعو إلى أنه لا صلح ولا اعتراف ولا تطبيع مع إسرائيل قبل أن تنسحب من الأراضي المحتلة، وتلتزم بالشرعية الدولية الخاصة بتقسيم وعودة اللاجئين، والحدود المعترف بها دوليا، وعدم جواز احتلال أراضي الغير بالقوة.
مهمة الثقافة هنا مد جسور الحوار بين الأحزاب السياسية والتمسك بالثوابت الوطنية؛ فالثقافة الوطنية هي القاسم المشترك بين الأحزاب. وفلسطين أمانة في عنق العرب بصرف النظر عن أيديولوجية الأحزاب السياسية، ليبرالية أو اشتراكية، إسلامية أو ماركسية، قطرية أو قومية. الثقافة الوطنية رصيد مشترك لدى كل المواطنين، تعبر عن تاريخهم ووجودهم المشترك قبل اختياراتهم الحزبية. الثقافة وجود الأمة الدائم عبر التاريخ تعبيرا عن هويتها. والأحزاب اختيارات طبقية وقتية، تتغير بتغير المصالح والتركيب الطبقي للمجتمع والتحالفات الحزبية، والتي تهدف إلى الوصول إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع، وليس بالضرورة عبر الهوية الثقافية.
يموت الحزب إذا ما انغلق على نفسه، وأصبحت الثقافة الوطنية هي الثقافة الحزبية. يجف من داخله إذا لم يسمح بضخ دم جديد لقلبه، حتى ولو كان من الأقلام غير الحزبية، والتي لها وزن ثقافي وطني كبير. يموت الحزب إذا ما تحزب وانعزل ولم يجد القاسم المشترك الذي يجمعه مع باقي الأحزاب أو مع المستقلين، وأصبح كالجهاز العصبي في الجسم يعبر عن مجموع حركته، وليس عن حركة عضو واحد حتى ولو كان القلب أو الدماغ. وتتحجر الثقافة الوطنية إذا ما تحولت إلى ثقافة حزبية، وضحت بالوطن في سبيل السلطة، وبالماضي والمستقبل في سبيل الحاضر، وبالعقل في سبيل القصر، وبوجدان الناس من أجل الاعتماد على أصواتهم للوصول إلى السلطة، ثم طلب الطاعة منهم باسمها.
وبالمثل يموت الدين إذا ما تحول إلى عقيدة، وينتهي الفكر إذا تحول إلى مذهب، ويتجمد الفن إذا ما تحول إلى تقليد. وبعد أن تنغلق الأحزاب على أنفسها يحارب بعضها بعضا بدلا من الحوار. كل منها يستبعد الآخر. حزب يخون حزبا، وحزب يكفر حزبا. والحزب الحاكم سعيد بالاقتتال بين الإخوة الأعداء الذين ينافسونه على الحكم، فيضعف الجناحان، ويقوى القلب. ويكون رجال الحزب مثل رجال الدين، كهنوتا مغلقا وسلطة أيديولوجية وسياسية على أعضائه وعلى غيره من الأحزاب، بل وعلى الدولة ذاتها. يتحول مثل الكنيسة إلى دولة داخل الدولة، وسلطة داخل السلطة، ثم يحدث الانشقاق الحزبي والصراع بين الجيل القديم والجيل الجديد، بين التقليديين والتجديديين، بين المحافظين والليبراليين، بين المنغلقين والمنفتحين؛ فيبدأ الحزب دورة جديدة كما بدأ، تعبيرا عن الثقافة الوطنية أساس البرنامج الحزبي، وعاقدا لحوار مع باقي الأحزاب لتكوين تحالف حزبي وطني عريض قادر على التصدي للمخاطر الكبرى التي تواجه البلاد. هكذا قامت حركات التحرر الوطني وحركات الاستقلال على تحالف وطني عريض قائم على ثوابت الأمة في التاريخ.
وهنا يأتي دور المستقلين الذين حرصوا على عدم الدخول في شرنقة الحزب وبوتقته كحلقة وصل بين مختلف الأحزاب. قلوبهم مع ذلك الحزب، وعقولهم مع الحزب الآخر. وعادة ما يكونون هم ميزان الاعتدال في الحياة السياسية إذا ما غامرت الأطراف، كل طرف يشد الوطن إلى ناحيته، فتميل الدولة إلى هذا الطرف أو ذاك. والدولة مثل الجبل، لا يميد ولا يميل.
وهنا أيضا يأتي دور كبار الكتاب والمفكرين والساسة الذين يتجاوزون بقاماتهم بوتقة الأحزاب؛ فنجيب محفوظ ليس وفديا وإن كان تعاطفه مع حزب الوفد، وعبد الرحمن الشرقاوي ليس ماركسيا وإن كانت الماركسية هي انتماؤه الأيديولوجي، ومحمد إقبال وعلي أحمد باكثير وسيد قطب ليسوا إسلاميين وإن كان ولاؤهم الأيديولوجي للإسلام، ويوسف شاهين ليس يساريا، ولا حسن الإمام يمينيا؛ إذ يعبر كلاهما عن ثوابت أمة وروح شعب. روائعهما تنسب إليهما وليس إلى انتمائهما الأيديولوجي. والمفكرون والكتاب كذلك؛ فليس محمد حسين هيكل ولا طه حسين ولا العقاد مفكرين وكتابا ليبراليين، ولكنهم مفكرون وكتاب خارج التصنيف الأيديولوجي، يعبرون عن ثقافة أمة ونهضة شعب. وهكذا أيضا كان كبار القادة الوطنيين في العالم الثالث في الخمسينيات والستينيات؛ عبد الناصر، سوكارنو، نكروما، جومو كنياتا، سكوتوريه، شوين لاي، ماوتسي تونج، تنكو عبد الرحمن، غاندي، نهرو، يعبرون عن أوطانهم عبر الهويات الثقافية بالرغم من انتماءاتهم الحزبية التي تقوم على الجبهة الوطنية. وما زال كاسترو وموجابي يعبران عن هذا النمط البطولي القديم. وما زالت الأوطان تولد مثلهم طالما ظهرت أشكال جديدة من الهيمنة والاستعمار؛ شافيز في فنزويلا، ومحمود أحمدي نجاد في إيران. والوطن العربي ما زال ينتظر من يملأ الفراغ، ويخرج من ضيق أروقة الحكم إلى رحاب الثقافة الوطنية.
الثقافة الخائفة
الثقافة الخائفة هي إحدى أنماط علاقة الثقافة بالسلطة. ليست الثقافة المبررة للسلطة، وليست الثقافة المعارضة للسلطة، وهما النمطان الشهيران، بل الثقافة الهامشية التي تسير بجوار السلطة وعلى حافتها، لا تبرر ولا تعارض، ولا تثبت ولا تنفي، بل تجعل الثقافة منفصلة عن السياسة والواقع، عالما مستقلا بذاته، لا ينفع ولا يضر طعام
لا يسمن ولا يغني من جوع (الغاشية: 7)، وظيفته ملء الفراغ، وإظهار أحد مكونات الدولة الحديثة. هي ثقافة المؤتمرات الدولية التابعة للدولة، والتي يعد إليها إعدادا جيدا من الناحية التنظيمية؛ فنادق الدرجة الأولى، الانتقالات المنظمة بعربات الرئاسة أو وزارة الثقافة، الاستقبال، إعداد الأوراق وطباعتها قبل انعقاد المؤتمر ... إلخ.
موضوعاتها نظرية خالصة، علمية جامعية، مستقاة من أعماق التاريخ مثل الإيمان والعقل، الدين والعلم. طرف من عندنا وهو الدين والإيمان، وطرف من عندهم، العقل والعلم، لإلحاق القديم بالجديد، والماضي بالحاضر، والتقليد بالتجديد؛ تأكيدا على الهوية والإيمان أمام الجماهير؛ فالنظام السياسي في حاجة إلى سند شرعي من الدين لكسب الجماهير التقليدية في الداخل، وهو في حاجة إلى تحديث وتجديد وعصرية لكسب ثقة المثقفين العلمانيين في الداخل، ورضا النظم السياسية في الخارج. العلم من التاريخ، والفكر محايد موضوعي لا ينحاز لشيء، وإلا خرج عن الموضوعية.
يعتني بالكم دون الكيف، ما دام الكم غير مؤثر، والكيف غير وارد. المطلوب المهرجان والغطاء العلمي على الواقع السياسي. ليس له هدف ولا غاية إلا ملء الفراغ السياسي والثقافي. جمهوره صغير من العلماء المتخصصين في الداخل والخارج. يفتتحه رجال الرئيس؛ وزراء الثقافة والتعليم والشئون الدينية. وصورة الرئيس بملابسه الرسمية ووشاحه وأوسمته وعصا المارشالية التي ترمز إلى السلطة والأمن والجيش والشرطة؛ فالعبد يقرع بالعصا، والحر تكفيه الملامة. وفي خطب الافتتاح الرسمية يستشهد بأقوال الرئيس؛ فهو العالم الأول في كل الموضوعات، يعرف كل شيء، ويوجه كل نشاط، ويقترح كل موضوع، ويدعو كل ضيف. يذكر اسمه مع أفلاطون وأرسطو، والفارابي وابن رشد، وديكارت وكانط، وهيجل وماركس من القدماء، ودريدا وديلوز من المحدثين.
والفنادق على أطراف المدينة، لا يشعر بها أحد، ولا يقف المتظاهرون على الأبواب يحملون لافتات عن حقوق الإنسان، والمطالبة بالحريات العامة، ومناهضة أمريكة وإسرائيل لتعطيل حركة المرور وسط المدينة، أو لإثارة الشغب بفعل المندسين العملاء. معارك في الهواء، دخان يملأ الجو. فالثقافة غطاء وليست كشفا، تعمية وليست إيضاحا. الثقافة لا تنقد الوضع القائم، بل تضع فوقه ركاما من النظريات والمنقولات من القدماء أو المحدثين. يقوم بذلك موظفون في الدولة من أساتذة الجامعات أو وزارات الثقافة أو رجال الإعلام، وكلهم مرضي عنهم من النظام. وأساتذة من الخارج يشاركون في هذه التمثيليات الثقافية للإبقاء على الوضع القائم ؛ إمعانا في تغريب الثقافة بدعوى الموضوعية والحياد ضد الشغب السياسي والاختيار الأيديولوجي، وبيع الثقافة وشرائها في سوق السياسة.
يتوجس جميع المشاركين خيفة من أن يفلت اللسان، ويعبر عما يجيش في القلب. ويضع المثقف الوطني القيود على لسانه، والحواجز على قلبه، والإغلاق على ضميره؛ حتى يستطيع أن يتكلم بما لا يعتقد، ويقول ما لا يؤمن به، ويتفوه بالمطلوب منه قوله وفعله بالعربية وهو النادر، أو بالفرنسية وهو الشائع حتى يشارك الأجنبي لغته، ويبعد عن نفسه شبهة العروبة والإسلام في الداخل؛ فهو غربي فرانكفوني كما يريد النظام السياسي والقوى الخارجية. يقود عربته وفرامل اليد مرفوعة حتى تسير ببطء، ويتحكم في سرعتها حتى لا تنطلق العربة على سجيتها، ويعيش ازدواجية الخارج والداخل، القول والضمير، الكلام والاعتقاد (تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها).
ويصول الحضور ويجول بالفرنسية أكثر من العربية؛ فهو لا يقل حماسا عن المتحدثين. والكل لديه غيرة على العلم والحقائق العلمية حتى وإن غاب الوطن، وينفعل بتلك النظرية أو تلك لإخفاء انفعالاته الحقيقية بواقع الأمة وغياب حرياتها العامة، وديمقراطية الحكم، والتعددية السياسية، وحق الاختلاف، والرأي والرأي الآخر.
وتظهر القدرات اللغوية للفرانكفونيين استجداء لإعجاب الأجانب، واستعلاء على باقي الباحثين الوطنيين الذين ساروا في التعرب نصف شوط، وندموا على ما فعلوا بعد أن ولى عصر العروبة، وكاد يولي عصر الإسلام في حضور العولمة الطاغي في نظم التبعية لأمريكة وإسرائيل. ولعل أحد المسئولين يكون حاضرا فيلمح مثقفا جديدا يمكن تجنيده كمثقف للسلطة، يجمع بين الثقافة والسلطة بدلا من الصراخ في الهواء الذي يفيد فقط في جذب الانتباه وإن لم يفد في توعية الناس.
وكما بدأ المؤتمر الدولي بمبادرة من الرئيس، كذلك ينتهي بإرسال برقية شكر وتأييد للرئيس على رعايته للمؤتمر، وعلى فكرته العبقرية التي لولاها لما عقد مؤتمر، ولا تم نقاش، ولا فتح فم، ولا سمع صوت.
وقبل انفضاض الحفل يكافأ المدعوون بيوم سياحي في آثار الدولة المضيفة، رومانية أو عربية؛ فالقديم له بريقه وإن انطفأ بريق الجديد، والماضي له عظمته وإن ضاعت عظمة الحاضر. ويقبل الضيوف الأجانب الدعوة؛ فالعلم سياحة، والسياحة علم. أما الضيوف العرب فيسارع أكثرهم بالرحيل؛ فالمشاركة في أحد فصول المسرحية أخف وطأة على النفس من المشاركة في باقي الفصول حتى إنزال الشعار وسماع تصفيق الحضور.
كل ذلك نشاط ثقافي مصطنع لا يخرج من القلب، ولا يؤثر في قلوب الناس. إنها ثقافة ملء الفراغ، وحتى يبدو الرئيس إمام المثقفين وليس سجانهم وجلادهم. أهم ظاهرة فيها مشاركة الأجنبي، أولي الأمر بالأمس، ومبادرة الرئيس، أولي الأمر اليوم. والشعب في كلتا الحالتين مأمور بأولي الأمر، مطيع لهم، يقلد الأولين؛ فالمغلوب مولع بتقليد الغالب كما قال ابن خلدون من قبل منظر ثقافة البلاد. ويخشى الآخرين لما للسلطان من رهبة في القلوب، وعسس حول المنازل والقاعات، وبصاصين في المجالس والمنتديات. وتظهر معاملة البسطاء المزدوجة للعربي والأجنبي؛ فالأول بخيل في الإكراميات، والثاني كريم. الأول يدفع بالعملة المحلية، والثاني بالأجنبية. الأول لا يصرف كثيرا في مشروبات ومأكولات إضافية، والثاني ينعم بالحياة. فقد أتى عالما وسائحا. والسياحة المصدر الرئيسي للدخل القومي، وليس الزراعة أو الصناعة كما هو الحال في النفط في الدولة الريعية. ومهما حيا العربي بلغة الضاد قارئا السلام التقليدي أو التحية الحديثة «صباح الخير» و«مساء الخير»، قيل له «بون جور» و«بون سوار» حتى من عاملات النظافة، وخادمي المطاعم، وعاملي المصاعد؛ حتى يكونوا على نفس مستوى الأجنبي؛ فلم يعد للوطن قيمة في ذاته، لا في السياسة ولا في الثقافة، لا في الوطن ولا في الفكر، بالرغم من مشاريع العالم الثالث عن الثقافة الوطنية، وعن الاستقلال الثقافي للشعوب.
فإلى متى يضيع الوقت والجهد والمال في الثقافات الهامشية الخائفة التي تسير بجوار الحائط حتى لا تصطدم به، وتمشي على قشر بيض حتى لا ينكسر، أو على قشرة موز حتى لا تنزلق القدمان؟ أليس الساكت عن الحق شيطانا أخرس؟ ومتى تتحول ثقافة الهامش إلى ثقافة المركز؟ ومتى تصبح الثقافة الخائفة ثقافة المواجهة، وثقافة النظام السياسي إلى ثقافة المقاومة؟ ولماذا يتقدم الآخرون ويتوقف الزمن عندنا، يصنعون مركبة التاريخ، ويحددون مسارها، ونحن نصعد إليها في زمن ليس زماننا، وفي اتجاه ليس اتجاهنا؟ متى تسترد الشعوب وعيها، تتحمل مسئوليتها، وتحمل أمانتها؟
إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا (الأحزاب: 72).
الصالونات الثقافية للملوك والأمراء
للعرب باع طويل في الثقافة الشاملة التي تضم العلم والأدب والفن دون السياسة؛ فهي جزء مكون للشخصية العربية. قد يندثر حكم العرب كما اندثر في الأندلس وتبقى ثقافتهم ممثلة في قصر الحمراء، ومسجد قرطبة، ومساجد طليطلة وأسوارها، ومئذنة أشبيلية (الخيرالدا)، والألفاظ العربية التي تحولت إلى الإسبانية وعديد من اللغات الأوروبية.
فقد عرف العرب قديما بأسواق الشعر، عكاظ وغيره، يتبارى فيها الشعراء. كان الشعر العربي مرآة للحياة العربية قبل الإسلام وبعده، ذاكرة العرب الجماعية، ومرآة لحياتهم الاجتماعية والسياسية والأخلاقية. ووضعت المعلقات السبع على جدار الكعبة؛ فالشعر مقدس مثل بيت إبراهيم. الشعر دين العرب قبل الإسلام، ودين العرب هو الشعر بعد الإسلام.
واستمر الأمر على ما هو عليه في بلاط الخلفاء والأمراء، وانضم إلى الشعراء الفقهاء والعلماء والفلاسفة وأصحاب النحل والفرق، بل والزنادقة والملاحدة؛ فالدولة منتصرة، ولا خوف عليها من المعارضة الفكرية والخصوم السياسيين. وتندثر الأسر الحاكمة والدول التي سميت باسم ملوكها، وتبقى الصالونات الأدبية وسيرتها وعلماؤها وفقهاؤها.
وفي العصر العثماني احتكر بلاط الخلفاء والأمراء فقهاء السلطان العثمانيون، وبدأ اضطهاد الأصوات الإصلاحية المعارضة، وأصبحت ثقافة الصالونات ثقافة سياسية مبطنة نظرا لضعف الدولة، وحصارها بين خصومها في الداخل، وأعدائها في الخارج. ومع ذلك تمثل السياسة عنصر الانقطاع، في حين تمثل الثقافة عنصر الاتصال.
وبعد قيام الدول الوطنية الحديثة أنشأت وزارات الثقافة مع قلق في أسمائها واستقلالها بين وزارة الثقافة والإرشاد القومي؛ فمهمة الثقافة التربية الوطنية مثل وزارة التربية والتعليم، ووزارة الثقافة والإعلام؛ فمهمة الثقافة تبرير سياسة الدولة من خلال الإعلام المقروء والمسموع والمرئي، ووزارة الثقافة والتراث القومي تأكيدا على أهمية ارتباط الثقافة بالتراث القومي، خاصة إذا كان تراث فرقة ومذهب، ووزارة الثقافة دون ربطها بغاية أخرى. ومع ذلك ظلت جزءا من جهاز الدولة تعبر عن سياستها، ولا تسمح بالرأي الآخر إلا في حدود غير مؤثرة كما هو الحال في باقي أنشطة الدولة، مثل التعليم والإعلام والدين والسياسة ممثلة في الحزب الحاكم.
ثم تأسست الجمعيات الأدبية والعلمية والفنية والثقافية، وتكونت جماعات الشعر والقصة، والنقد الأدبي والفني والسينمائي، ثم قامت الاتحادات العامة للكتاب والفنانين والأدباء لتساهم في النشاط الثقافي المستقل وإن كانت، طبقا للقانون، تخضع لإشراف وزارة الشئون الاجتماعية، مثل جماعات المسنين والمهاجرين والصعايدة من أجل الضبط الأمني، وليست جزءا من وزارة الثقافة التي قد تعينها ماليا حتى لا ينفصل الجنين عن الأم، ويبقى الحبل السري قائما في علاقة تبعية علنية أو ضمنية.
وفي نهاية المطاف انضم الملوك والأمراء إلى الثقافة مساهمين في نشاطها وحركتها من داخل القصور؛ فيعقد الملك صالونه الثقافي خاصة في رمضان بمناسبة الشهر الكريم، ويسميه باسمه الأول مثل المسجد تيمنا به. ويجتمع مع العلماء، وهم في الغالبية الفقهاء، بالملابس الرسمية، كما هو الحال في حفلات البلاط أو المسرح أو الأوبرا أو في الأفراح والمآتم الرسمية لرجال الدولة والأعمال. ويتناقش الملك مع العلماء، عالما مع عالم، وفقيها مع فقهاء، بالحجة والبرهان؛ فالملك هو العالم الأول، والفقيه الأول، والفنان الأول. وهو ما سماه الفلاسفة قديما العقل الأول أو النفس الكلية. يغلب عليها الثقافة الدينية؛ فالدين هو أساس الدولة، ويعطيها شرعيتها. والملك هو أمير المؤمنين، ورئيس لجنة القدس التي ما زالت محتلة، وإن لم يصل بعد إلى خليفة المسلمين. وقد تتغير الثقافة الدينية إلى ثقافة علمية؛ فقد خرج العلم في تراثنا القديم من الدين، وكان الفقهاء علماء، والعلماء فقهاء؛ ومن ثم يظهر الملك عصريا؛ فالعصر عصر العلم. وتشارك النساء الرجال حتى يبدو الملك عصريا أمام الغرب الذي يتهم الإسلام والمجتمع الإسلامي بالذكورة والتخلف دفاعا عن حقوق المرأة ومساواتها بالرجل، وضد شبهات تعدد الزوجات والطلاق والميراث وعدم جواز رئاستها للدولة؛ الإمامة الكبرى، وإن جازت لها الإمامة الصغرى؛ الصلاة بالنساء. وقد تكون الغاية من ذلك كله التغطية على النظام السياسي، وما يمثله من قهر وتصفية للمعارضين ، وتحسين صورة الملكية في ذهن الشعب، والدخول إلى القلوب من باب الثقافة والفن بعد أن انسد باب السياسة والحكم. ويقبل فقهاء السلطان المشاركة في هذا «الديكور» الثقافي، ويتقبلون الهدايا والعطايا، وينالون الحظوة والتكريم، والكرم من شيم الملوك، في حين يستبعد فقهاء الشعب وعلماء الأمة الذين يمثلون مصالح الجماعة، ويفتون لصالح الناس. وفي تاريخنا انقسم الفقهاء قسمين؛ الأول نال الخلعة والصرة والمركبة والمنصب، وهم فقهاء السلطان؛ والثاني اعتقل وسجن وعذب وطرد وقتل، وهم فقهاء الأمة. والتاريخ يكرر نفسه.
وقد تنضم زوجات الأمراء لهذه الصالونات الثقافية؛ فالثقافة زينة المجالس وتاج الملوك وصولجان الأمراء، مثل السيوف المعلقة على جنوبهم، والخناجر المدفونة في خواصرهم، مذهبة ومرصعة بالجواهر، ولهم فيها مآرب أخرى.
وظيفة الثقافة بالإضافة إلى الزينة قضاء الوقت؛ فاليوم طويل، وزوجات الأمراء لا يظهرن في الاحتفالات العامة، ولا يصحبن أزواجهن في الأسفار الرسمية، ولا توجد ألقاب «السيدة الأولى». وتقع المنافسة بين زوجات الأمراء والملوك والرؤساء حول الصدارة الاجتماعية، والتسابق نحو خدمة المعاقين والأطفال والمسنين والمحتاجين، ونشر الثقافة بين الناس، وزيادة المدارس وملاجئ الأيتام دون المعذبين والمعتقلين في السجون. والهدف هو التغطية والتعمية عن سياسات ذكورية أخرى تتعاون مع الأجنبي المحتل، وتسمح بإقامة قواعد عسكرية على أراضيها، ومراكز قيادة لأساطيل في مياهها لضرب جيرانها العرب والمسلمين.
وقد يكون الهدف أقل من ذلك التشدق بحرية الرأي، واحترام الرأي والرأي الآخر، والانفتاح على ثقافات العالم في عصر العولمة، واللحاق بالعصر مثل المباني الشاهقة، والمطارات الدولية الشاسعة، والموانئ الضخمة والشركات العالمية، والتحول من دولة صغيرة إلى دولة كبرى، ومن جزيرة في بحر إلى قارة من القارات. وزهرة الصالون الثقافي في آية من الجمال والأناقة واللباقة، تسر الناظرين، يهرع إلى صالونها المثقفون والأدباء والعلماء لنيل الحظوة والشرف مع العشاء الفاخر في قصر السلطان، وفتح أبوابه مثل قصر الجبلاوي في «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ الذي يهابه الناس، وقد يكون خاويا إلا من شبح يسهل التخلص منه.
الصالونات الثقافية مثل دوائر الحكم للنخبة وليست للشعب. ثقافة عالمة وليست ثقافة شعبية. قد يتم تناول الفن الشعبي والشعر الشعبي كفن شعبي دون أي مردود ثقافي أو سياسي، أو تحليل لأنساق القيم السلبية فيه، والتي هي خير دعامة للنظام السياسي. وقديما غنى أساطين الغناء رجالا ونساء للفنون ورعايتها من الملوك.
لم يتغير الكثير في حياة العرب إبان الثورات العربية الأخيرة على مدى أكثر من نصف قرن من ثقافة صالونات الملوك والأمراء إلى ثقافة الرؤساء، عسكريين من الجيش أو الشرطة من خلال المؤسسات الثقافية التابعة للدول. وما دام الله في التصور سلطانا فإن السلطان في الواقع يتحول إلى إله، ويغني الفنان لمديح الله والسلطان.
المال والثقافة
ازدادت أسعار النفط إلى حد كبير هذه الأيام، ووصل سعر البرميل الواحد حدود المائة دولار، ويتوقع البعض وصوله إلى حدود المائتين إذا ما اعتدت أمريكة أو إسرائيل أو هما معا على إيران، أو إذا ما اعتدت إسرائيل على سورية أو لبنان، أو إذا ما وقع حرب في الوطن العربي لسبب أو لآخر.
وبالرغم من أن قسطا كبيرا من العوائد تعود إلى شركات النفط، وباقي حقوق العرب في البنوك الأجنبية، والأقل منها يستثمر داخل الوطن العربي، إلا أن استثمارات هذه العوائد تقوم بها شركات البناء الأجنبية لأضخم المطارات في العالم، وأعلى البنايات، وأوسع الطرق وأمتنها، وشبكات الاتصالات داخل كل القطر العربي الذي به آباره. وكلها من مظاهر الدولة الحديثة. ولا يتم تخطيط ذلك على مستوى الوطن العربي كله، حمايته لوحدته، وربط مدنه بشبكة طرق سريعة، أو بشركات طيران عربية، أو اتصالات عربية، أو بإعادة البنية التحتية للأقطار الأقل تميزا، أو إقامة مشاريع تنموية مشتركة، خاصة ما يتعلق منها بالغذاء والصناعة والتعليم، حتى إذا ما نضب النفط، فهو سلعة مؤقتة تنفد بمرور الزمن، وجدت صناعات تحويلية بديلة قادرة على توفير العوائد البديلة.
ومن ضمن مظاهر الدولة الحديثة المشاريع الثقافية؛ فلا دولة بلا ثقافة، ولا ثقافة بلا عصرية، ولا عصرية بلا تعرف على أهم الإبداعات الثقافية للعصر عن طريق الترجمة.
فالحضارات الأخرى، غربا وشرقا، تبدع ونحن نستهلك، تؤلف ونحن نترجم. ويكون منهجنا في التحديث نقل المعلومات ممن يعرف إلى من لا يعرف، من المركز إلى المحيط؛ فالتحديث يأتي عن طريق الوافد مثل مواد الصناعة والبناء الحديثة. مصدر العلم خارجي كما أن الوحي خارجي. هذا من الأرض، وذاك من السماء. ولا تحتاج الترجمة إلى جهد كبير باستثناء ممول وناشر ومترجم. والتمويل موجود من عوائد النفط المتراكمة، والناشرون موجودون في شتى أقطار الوطن العربي، خاصة في مصر ولبنان، والمترجمون موجودون أيضا، فرص عمل كبيرة، وأجر مجز ومضمون؛ فنقل المعلومات أسهل من إبداعها، والترجمة أسرع من التأليف.
والحقيقة أن هذا وهم كبير؛ فالترجمة بمفردها لا تصنع ثقافة، ولا تقيم نهضة، ولا تؤسس حضارة. الترجمة أحد ثلاثة عناصر في النهضة الثقافية مع النشر والتأليف كما فعلت مصر منذ قرن في «اللجنة المصرية للتأليف والترجمة والنشر»، والنشر العنصر الثاني، وبتفاعل الوافد والموروث، أي الترجمة والنشر، ينتج التأليف.
الترجمة وسيلة وليست غاية. تهدف إلى التعرف على ثقافات الغير. هي مقدمة وليست نتيجة، آلة وليست هدفا. وتقوم على أسس اختيار واعية، وليس مجرد ديكور ثقافي بترجمة أهم الإبداعات الإنسانية قديما وحديثا بصرف النظر عن مدى الاحتياج إليها، ووجود جمهور لها، وتأثيرها في المرحلة التاريخية الراهنة التي يمر بها المجتمع العربي. تكون بؤرا ثقافية عالمة ومتعالمة لنخبة من المتعلمين قادرين على قراءة أصولها الأجنبية إذا كانت باللغة الإنجليزية .
والترجمة في الغالب ذات اتجاه واحد، من المركز إلى الأطراف، ومن الغرب إلى العرب، وليست مزدوجة الاتجاه في اتجاه معاكس أيضا، من العرب إلى الغرب، إحساسا منا بأننا لا ننتج ثقافيا بل نستهلك فحسب. صحيح أن إبداعاتنا الأدبية في الشعر والرواية والقصة والمسرح ترجم البعض منها إلى اللغات الأجنبية بعد حصول بعض مبدعينا على الجوائز العالمية، ولم يخفف ذلك من عقدة النقص أمام الآخر الذي لم يتخفف هو الآخر من عقدة العظمة، ومع ذلك لدينا إبداعاتنا في العلوم الإنسانية وفي الفكر العربي المعاصر تجهلها الثقافات الأخرى. وإذا كانت الترجمة ليست مجرد نقل لغة إلى لغة، أو ثقافة إلى ثقافة، بل تفاعل الحضارات ، فإنها تكون ذات اتجاهين، من الغرب إلى العرب، ومن العرب إلى الغرب؛ حتى تتغير الصور النمطية التي كونها الغرب عنا على مدار السنين، ونظرها العلماء بحيث أصبح التفكير والتنظير حكرا على الغرب وحده دون غيره.
ويقوم بعض الشباب، خريجي الجامعات الأجنبية، بما لديهم من قدرات لغوية وبراعة في العلاقات العامة بالعمل داخل هذه المؤسسات والهيئات الجديدة للترجمة. ويكتفي أصحاب رءوس الأموال برئاستها وتوجيهها عن بعد، ووضعها في إطارها المطلوب، وتوظيفها في الأهداف المحددة المعروفة سلفا. الناشرون العرب في الصف الأول، ويلحق الناشرون الأجانب حتى لا تفوتهم قسمة الغنائم من ودائع النفط، ومرحبون بهم؛ فهم من بلاد أهل التأليف والإبداع. والمترجمون، أي العلماء، هم الذين ينادي عليهم الناشرون لتوقيع العقود بعقلية الوسطاء التجاريين، والوكلاء لأصحاب رءوس الأموال؛ فهم الناشرون والموزعون والمعدون لصناعة الكتاب، خاصة وأن النشر الثقافي المستقل يعاني من أزمة التأليف والطباعة والنشر نظرا لغلو أسعار مواد الطباعة وتكاليفها، وبطء عائدها، ومطاردة العلماء لهم لدفع حقوقهم والتهرب منهم.
في هذه الأوضاع، المال لا يصنع ثقافة؛ فالثقافة ليست ترجمة وطباعة ونشر مجلدات فخمة لا يقرؤها أحد، توزع هدايا لعلية القوم وأصحاب رءوس الأموال، وتوضع زينة في المكتبات العامة والخاصة. الثقافة أحد عوامل نهضة الشعوب وتقدم الأمم إذا كانت تعبيرا عن واقعها، وتلبي حاجاتها في المرحلة التاريخية التي تمر بها . ودون تحليل هذه المطالب والاحتياجات تظل الثقافة نخبوية عالمة لا تحرك ساكنا. مهمة الثقافة في مناطق تراكم عوائد النفط هي الدفاع عن لغتها الوطنية، وعروبتها، بتعريب العمالة الوافدة، والمحافظة على تجانس سكانها وثقافتها الوطنية، والتخطيط لمستقبلها القومي.
الثقافة جزء من وجود الدول ذاته؛ فإذا ما هددته المخاطر الداخلية أو الخارجية تحولت الثقافة إلى أداة دفاع ومقوم وجود. ومنذ أن احتمت الأمة بالقومية العربية في القرن الماضي كبديل عن الدولة العثمانية، وهي الآن تحتمي بالدولة القطرية بعد هزيمة يونيو (حزيران) في 1967م، وحرب الخليج الأولى في 1980م، والثانية في 1990م، تواجه الدولة القطرية الآن مخاطر التفتيت والتجزئة إلى دويلات طائفية عرقية مذهبية كما يحدث الآن في العراق والسودان. هنا تأتي الثقافة الوطنية التي تنصهر فيها الأعراق والطوائف والمذاهب كقارب نجاة.
وفي العالم ذي القطب الواحد، واستئساد الولايات المتحدة وإسرائيل به بعد غزو أفغانستان والعراق وكل فلسطين، لن يسمح بوجود قوة أخرى عسكرية واقتصادية وعلمية كما حدث في العراق، أو قوة مالية في مراكز تراكم ثروات النفط. فكيف تترك الذئاب والأسود غزالا يتمختر أمامها بالحداثة والعصرية ومركز اتصالات بين الشرق والغرب؟ الخوف على هذه الثروات المتراكمة من انهيار العملات الأجنبية كما حدث في جنوب شرق آسيا منذ عقد من الزمان، أو مصادرة الودائع في البنوك الأجنبية كما يحدث الآن لكل من يخرج على بيت الطاعة الأمريكي مثل إيران بتهمة النووي، ومثل المنظمات الأهلية الإسلامية في الولايات المتحدة الأمريكية بتهمة الإرهاب، أو بتدمير الآبار في حالة عدوان أمريكي إسرائيلي على إيران، والآبار في مرمى الصواريخ من كل الجهات للقضاء على قوة مالية متنامية قادرة على شراء أصول الشركات الصناعية الكبرى في مجموعة الثمانية. وبعد حصار مصر وتهديد أمنها القومي في الشمال وفي الجنوب، في فلسطين وفي السودان، يصبح الوطن العربي كله لقمة سائغة لمن يشاء القضم والهضم.
ليست مهمة المشاريع الثقافية، الترجمة أو غيرها، توزيع بعض عوائد النفط لديكور ثقافي من مظاهر الحداثة في الدولة الريعية، بل الحرص على وجود الدولة ذاتها عن طريق الأمن الثقافي. ليست الغاية من البرامج الثقافية والمهرجانات الدولية للفنون توزيع البيض الذهبي على المشاركين، بل المحافظة على الدجاجة التي تبيض ذهبا. ليس الهدف من النشاط الثقافي توزيع الألبان من البقرة الحلوب، بل المحافظة على البقرة ذاتها من الذبح أو الاستغلال في تدوير السواقي وطواحين الإنتاج الغربي. ولماذا التضحية بالآجل في سبيل العاجل؟ لماذا التضحية بالصالح العام من أجل المصالح الخاصة؟ لماذا تكون الثقافة عالمة وافدة، وليست وطنية مقاومة؟ لماذا يكون رأس المال بلا وطن وهو قادر على الحفاظ على الأوطان؟
الفصل الثالث
أوروبة وأمريكة وإسرائيل
الاستشراق السياحي
1
الاستشراق هو دراسة الغرب لغيره من الحضارات. الغرب ذات، والحضارات الأخرى موضوع. الغرب ملاحظ، والحضارات الأخرى ملاحظ. الغرب دارس، والحضارات الأخرى مدروس. واكب في نشأته صعود الغرب الحديث واحتلاله مكان الصدارة في العالم بعد سقوط غرناطة، آخر مدن الأندلس، وطرد المسلمين واليهود من إسبانية إلى المغرب العربي من حيث أتوا. تمثل فيه منذ البداية روح العنصرية والعداء والاسترداد؛ أي العودة إلى احتلال أراضي الغير بحرا، التفافا حول القارات، فيما سمي بالكشوف الجغرافية، بعد أن فشل برا عن طريق التوجه إلى القلب في فلسطين، والحضارة الإسلامية في آخر مرحلتها الأولى في القرن السادس الهجري. فظهرت فيه منذ البداية أهداف الاستعمار ورؤيته للعالم. بدأه المبشرون والقواد والحكام والمغامرون والمسحورون بالشرق من الغرب حتى الصين، وأنشئوا مجالات للدراسات الحضارية للصين والهند وفارس ومصر والمسلمين، وأخيرا العرب والشرق الأوسط.
وقد تطور الاستشراق في الغرب الحديث. تنوعت أهدافه، وتعددت مناهجه وأساليبه طبقا لتطور مناهج البحث العلمي ومدارس العلوم الإنسانية في الغرب.
بدأ بالاستشراق الديني الذي صاغه بعض المبشرين بعد أن زاروا الشرق أثناء الحروب الصليبية، وتعرفوا على لغات الشرق وثقافاته وعادات شعوبه، وظهر فيهم العداء لهذه الثقافات والشعوب التي أتاها مصاحبا للغزوات العسكرية أو لحملات التبشير.
ولما كان الإسلام هو السائد في الشرق فلم يعترف بالوحي الإسلامي كاستمرار للوحي منذ إبراهيم حتى عيسى، واعتبر هرطقة يهودية مسيحية ظهرت في بلاد العرب، تقوم على الحس والجنس والتعصب والعنف والانغلاق والعبودية والحريم.
ثم تحول إلى الاستشراق التاريخي عندما سادت مناهج البحث التاريخي، وانتشرت المدرسة التاريخية، وسادت النزعة التاريخية في الغرب. كان الهدف هو جمع أكبر قدر ممكن من المعلومات عن الشعوب والثقافات غير الأوروبية؛ لجمع المعلومات واستخدامها من أجل إحكام السيطرة عليها بعد الغزو العسكري المباشر، وخلق طبقات جديدة متعاونة معه باسم التحضر والتمدن والحداثة والتثقيف، اعتناق المسيحية أولا، ثم الثقافة الغربية ثانيا، حتى ينسلخ المواطن عن دينه وثقافته وشعبه، ويصبح مواليا للغرب وممثلا لثقافة الرجل الأبيض داخل الشعوب السوداء في أفريقية، والسمراء في العالم الإسلامي، الشرق الأدنى، والصفراء في الصين واليابان وكوريا والهند الصينية والفلبين، الشرق الأقصى، بالنسبة لمدى قربها أو بعدها عن القوى الاستعمارية في الغرب الحديث، إنكلترة وفرنسة وإسبانية والبرتغال وبلجيكا وهولندا وأخيرا إيطاليا.
ثم تحول الاستشراق التاريخي إلى استشراق لغوي بالتركيز على اللغة لمعرفة التراث المدون، ولحسن المخاطبة مع الشعوب شفاها، ثم قادت اللغة إلى الأدب، والأدب إلى الثقافة، والثقافة إلى الحضارة بوجه عام. ووضعت القواميس والمعاجم وكتب قواعد اللغة للحضارات الأفريقية والآسيوية؛ فانتشرت ثقافاتها داخل المركز الأوروبي، وأثرت في أدبه وثقافته كما يظهر ذلك في الحركة الرومانسية الألمانية، وتأثرها بسعديا وحافظ والرومي.
ثم تحول الاستشراق اللغوي إلى الاستشراق الأنثروبولوجي والاجتماعي بالتركيز على الإنسان الأفريقي الآسيوي؛ عاداته وسلوكياته ومنظومات قيمه وذاكرته ورؤيته للعالم؛ حتى يمكن الاستيلاء عليه إلى الأبد بعد حركات الاستقلال الوطني، والتحول من الاستعمار العسكري والاقتصادي المباشر الوقتي إلى الاستعمار الثقافي والحضاري الأبدي عن طريق الفرانكفونية والأنجلوفونية والهسبانوفية والبرتغافونية. حدث في كندا والمكسيك ودول أمريكة اللاتينية والهند والفلبين ومعظم دول أفريقية.
ثم تحول الاستشراق الأنثروبولوجي الاجتماعي إلى الاستشراق السياسي بعد الصحوة الإسلامية والثورة الإسلامية في إيران، وانتشار الإسلام في أوروبة، وظهور دول إسلامية مثل ألبانيا والبوسنة والهرسك في شرق أوروبة؛ فبدأ التعامل مع الظاهرة الإسلامية والحركات الإسلامية الممثلة لها، ومستقبل الإسلام السياسي. وانضم الجيل الجديد إلى المستشرقين التقليديين علماء السياسة، وتم التحول من دراسة الماضي إلى الحاضر من أجل التنبؤ بمستقبل هذه المنطقة، وإعداد سيناريوهات المستقبل للسيطرة عليها حتى لا يؤخذ الغرب على غرة كما حدث في الثورة الإسلامية في إيران. وانتشرت المؤلفات عن الإسلام السياسي، وعقدت مئات المؤتمرات الدولية والندوات المحلية والإقليمية في الموضوع لمعرفة ماذا يجري في العالم الإسلامي الآن. وهل هي صحوة تريد العودة إلى الخلف؟ وكيف يمكن إجهاضها وهي في بدايتها حتى لا تكون قطبا ثانيا في مواجهة القطب الأوحد بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية باسم العولمة، والقضاء على المصالح الغربية على حدوده الجنوبية والشرقية؛ النفط وعوائده، والمواد الأولية والأسواق، والموقع الاستراتيجي، وإسرائيل إذا ما عادت الحرب الباردة، وعاد الاستقطاب؟
ثم تحول الاستشراق السياسي إلى الاستشراق الصحفي عندما تحول الإسلام إلى بضاعة رائجة، وأصبح على كل لسان. حدث ذلك بعد الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م لإشباع نهم الغرب لمعرفة ما هذا الإسلام الذي استطاعت إحدى تنظيماته، القاعدة، تدبير مثل هذا الهجوم المباغت على أهم مدينتين، نيويورك وواشنطن، في أقوى دولة في العالم، الولايات المتحدة الأمريكية، وتدمير رموزها، مركز التجارة العالمي، ووزارة الدفاع؛ أي المجتمع الاقتصادي والعسكري. واختلط الاستشراق بالإعلام، وأصبح الإعلاميون كبار المستشرقين يملئون الصحف والعواميد الخاصة، وافتتاحيات رؤساء التحرير بمقالات وأحاديث، ومقابلات عن الإسلام والمسلمين، وعلاقة الإسلام بالغرب وخطر الإسلام، والعنف والجهاد في الإسلام. وتحول الاستشراق من قراءة النص إلى تحليل الواقع الاجتماعي والسياسي للمسلمين، من وصف التاريخ إلى وصف منظومة القيم الإسلامية ورؤية الإسلام للعالم، وإصدار الأحكام المطلقة على جوهره وحقيقته. وانتشرت مناهج الملاحظة والمقابلة بدعوى الرغبة في معرفة «الإسلام الحي» الذي يعيشه الناس، يحدد تصورهم للعالم، ويعطيهم قواعد للسلوك.
والأخطر من ذلك كله تحول الاستشراق الصحفي إلى الاستشراق السياحي؛ فقد انضم إلى جوقة الصحفيين جوقة أخرى من الأساتذة الشبان، بل وطلاب الدراسات العليا، للحضور إلى العالم الإسلامي، وملاحظة ما يدور فيه، والحديث مع بعض علمائه ومثقفيه وقادته وسياسييه، ولو أمكن بعض أمراء الجماعات الإسلامية وأعضائها لحكاية تجاربهم وقص حياتهم. هي دراسات حية أكثر تشويقا من الاستشراق التاريخي اللغوي القديم، بل تحولت معظم أقسام الدراسات الإسلامية والعربية في الجامعات الغربية إلى أمثال هذه الدراسات المعاصرة، وتم الانتقال من المتنبي إلى سيد قطب، ومن ابن سينا إلى محمد عبد السلام فرج، ومن ابن رشد إلى أربكان، ومن المعتزلة إلى القاعدة، ومن الأشعرية إلى جماعات الجهاد. وانضمت دور النشر إلى المهرجان، تدعم الباحثين الشبان بالمال، وتحدد لهم موعد إنهاء الدراسة بستة شهور أو سنة على أكثر تقدير لإعداد أنجح كتاب عن الإسلام والمسلمين وأوسعها انتشارا؛ فتربح الملايين. لا فرق بين المنطق الإسلامي والبساط السحري، بين مؤلفات الفارابي وعالم الحريم، بين رسائل إخوان الصفا وألف ليلة وليلة. وهرع الأساتذة الشبان من جميع التخصصات من العلوم السياسية والاجتماعية والأدبية واللغوية والدينية وتاريخ الأديان لملء فراغ السوق بعد أن راج الكتاب الإسلامي، وصدرت عشرات الطبعات له، وكسب المؤلف والدار، وعمت الأفكار المسبقة، وأطلقت الأحكام النمطية. وضم إلى الكتاب بعض الصور المثيرة عن عصر الحريم وبذخ الأغنياء؛ الخيمة والقصر، الجمل والمرسيدس. هجر معظم الباحثين الشبان العلم، تركوا الجامعات، وعملوا في دور النشر وبعض مؤسسات الرأي العام، يتطلعون للشهرة والكسب بعيدا عن الكتب العلمية غير الرائجة، وبطالة العلماء وأساتذة الجامعات.
العصر عصر الإعلام، والاتصالات، والثقافة الاستهلاكية، والوجبات السريعة. وتدخلت رءوس الأموال الأمريكية والصهيونية والمحافظين الجدد لنشر مثل هذه الكتب تحقيقا لمقولة صدام الحضارات، وإخراجها من عمل الخاصة إلى شغل العامة. وتم الترويج لبعض الصور النمطية عن الإسلام والعنف والإرهاب والتخلف وتهميش المرأة وانتهاك حقوق الإنسان والتسلط والقهر. فيزداد العداء للإسلام والمسلمين، ويسخر من رموزه وشعائره كل يوم في أجهزة الإعلام، ويثار غضب المسلمين ويتظاهرون ويحتجون.
ويكسب الغرب من جديد، وينصب نفسه حاميا لحرية التعبير والرأي أمام فتاوى قتل الروائيين والسينمائيين والإعلاميين التي يصدرها علماء المسلمين تأكيدا لسلطتهم الدينية والسياسية، والقدس لا تجد من يدافع عنها أو يفتي بعدم جواز الصلاة في الدار المغصوبة كما أفتى القدماء؛ فيبتعد المسلمون عن قضاياهم الوطنية، ويصبح الإسلام محاصرا بين أعدائه وجهل علمائه وعجز أبنائه.
هل تعود أوروبة لاستقلالها؟
2
بدأ تصدع الجبهة المعادية للحكومة الفلسطينية، وبدأ الحلف الأوروبي الأمريكي الصهيوني في التفكك بعد تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، وتعيين وزراء الخارجية والداخلية والمالية من المستقلين لإزاحة ذريعة مقاطعة حماس، وأصبح موقف الرباعية أكثر تفهما لحاجات الشعب الفلسطيني وتطلعاته لحياة كريمة، وبدأت البلاد الشمالية وفي مقدمتها النرويج بكسر هذا الحصار بالتعامل مع حكومة الوحدة الوطنية؛ فالسلطة الوطنية وليدة أوسلو. وكانت روسية من قبل قد كسرت الحصار بالتعامل مع حماس، وهي الصديق التقليدي لحركات التحرر الوطني في العالم الثالث.
فكيف تسترد أوروبة استقلالها عن الولايات المتحدة الأمريكية، وتستعيد ثقتها بنفسها، وتسترد قيادتها التقليدية للعالم قبل بزوغ نجم الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، ووراثة أوروبة في السيطرة على مستعمراتها، بل واحتلال أوروبة نفسها بزرع القواعد العسكرية في ربوعها خاصة في ألمانية؟ كيف يعود إلى أوروبة وعيها المفقود باستقلالها الذي طالما دافعت عنه في فلسفاتها منذ ديكارت وكانط وفشته وباور وهوسرل وبرجسون، خاصة في ألمانية، وهي التي تتبع في سياستها الخارجية الانحياز إلى الولايات المتحدة؟
لقد سببت سياسة انحياز أوروبة إلى الولايات المتحدة خسارة كبيرة لأوروبة وأمريكة ولباقي شعوب العالم؛ فقد زادت كراهية العالم الثالث لأوروبة بعد انضمام بعض دولها، خاصة بريطانية، إلى قوات الغزو الأمريكي للعراق وأفغانستان، وبعد أن ظنت أن حركات التحرر الوطني قد نجحت في الحصول على الاستقلال، وتأسيس الدول الوطنية المستقلة.
عادت أوروبة إلى إرثها الاستعماري بتحالفها مع الولايات المتحدة، بعد أن ظنت الشعوب المستعمرة أنها تخلت عنه بعد هزيمة فرنسة في فيتنام والجزائر، وانسحاب باقي القوات البريطانية والبرتغالية والإسبانية والهولندية والإيطالية من المستعمرات خارج حدودها. كما جعلت شعوب العالم الثالث تكره الغرب، ثقافة وحضارة ومدنية ومثلا وقيما وتراثا. ووحدت بين أوروبة الحضارية وأوروبة الاستعمارية الجديدة. وعادت التنوير الأوروبي، ومبادئ الثورة الفرنسية؛ الحرية والإخاء والمساواة، والذي طالما كان نموذجا لفجر النهضة العربية في القرن التاسع عشر، سواء في الإصلاح الديني عند الأفغاني، أو في الفكر الليبرالي عند الطهطاوي، أو في التيار العلمي العلماني عند شبلي شميل. ووقفت أوروبة عاجزة عن الدفاع عن إرثها التقليدي ومناطق نفوذها في أفريقية وآسيا وأمريكة اللاتينية. وتنازلت عنه طواعية للقوة الأمريكية الجديدة الصاعدة. وهي بتحالفها معها الآن تريد أن تسترد بعضا من عنفوانها الإمبراطوري التقليدي منذ غزوها للهند والقضاء على إمبراطورية المغول. تلحق بذيل الولايات المتحدة بعد أن كانت في مقدمتها.
لم تستطع أوروبة كبح جماح المحافظين الجدد الطامحين لإنشاء الإمبراطورية الأمريكية الجديدة كوعد إلهي بإعطائها العالم كله، تجاوزا للوعد الإلهي الذي يعطي إسرائيل ليس فقط فلسطين بل أيضا إسرائيل الكبرى، من النيل إلى الفرات. لم تستطع أوروبة ممثلة في أنظمتها السياسية، وليست في شعوبها، تحسين صورة الغرب الأمريكي، وهي تشارك معه جغرافيا في اسم الغرب، وأمريكة تحارب الحركات الدينية في كل مكان بدعوى الإرهاب والعنف وكراهية الولايات المتحدة .
متى تسترد أوروبة استقلالها الدفاعي، وتطالب بتفكيك القواعد العسكرية الأمريكية من على أراضيها وسجونها السرية للمخطوفين السياسيين بدعوى القضاء على الإرهاب ومحاكمة الإرهابيين، كما هو الحال في سجون غوانتامو وأبي غريب؟ لقد انتهى الخطر الأحمر وراء الستار الحديدي الذي من أجله أقيمت هذه القواعد وحلف شمال الأطلنطي بانتهاء الحرب الباردة، وسقوط الأنظمة الاشتراكية، واستتباب الأمر لعالم ذي قطب واحد، وعولمة جعلت العالم كله سوقا لمجموعة الدول الثمانية التي لا يستطيع أن ينافسها أحد؛ مما أدى إلى احتكار معظم الإنتاج الصناعي الثقيل في العالم.
إن أوروبة جغرافيا وسط العالم القديم، تقع في منطقة متوسطة بين أفريقية جنوبا والبلاد الإسكندنافية شمالا، وروسية شرقا. وبين هذه الجهات الثلاث هناك اتصال أرضي بين أوروبة والشمال، وبين أوروبة والشرق، واتصال بحري عبر البحر الأبيض المتوسط جنوبا، والذي لا يبعد شاطئه الشمالي في إسبانية مثلا عن شاطئه الجنوبي في المغرب أكثر من عشرين كيلومترا في مضيق جبل طارق، أو مائتي كيلومتر بين جزيرة جربة في تونس، وجزيرة صقلية في جنوب إيطاليا. أما في الغرب فيفصل أوروبة عن الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من خمسة آلاف كيلومتر، يفصلها المحيط الأطلنطي بأكمله. أوروبة وآسيا وأفريقية في نصف الكرة الشرقي، وأمريكة في نصف الكرة الغربي. فالأقرب إلى أوروبة جغرافيا الضفة الجنوبية لحوض البحر الأبيض المتوسط وشرق الأورال في آسيا ابتداء من أوروبة الشرقية. أفريقية وآسيا خاصرتان لأوروبة في الجنوب والشرق. ربط أوروبة بآسيا طريق الحرير، من الصين حتى البندقية. وربطت أوروبة بشمال أفريقية فرنسة فيما وراء البحار، وبأفريقية تجارة العبيد.
وأوروبة تاريخيا وحضاريا على علاقة بمحيطها الإقليمي منذ آلاف السنين قبل الهجرات الأوروبية إلى العالم الجديد بعد كولومبوس منذ ما يزد قليلا على خمسة قرون. كانت اليونان القديمة على صلة دائمة بمصر كعبة العلم، وبالشام أرض كنعان، وببابل وآشور وحضارات ما بين النهرين، كما عرض مارتن رينال أخيرا في «أثينا السوداء». والعلاقات بين فارس والهند وأوروبة منذ قديم الزمان، حتى إن اللغات الأوروبية تسمى اللغات الهندية الأوروبية في مقابل اللغات السامية.
كانت أوروبة في النهضة الحديثة في أفريقية وآسيا نموذجا للتحديث، في تركية ألمانية، وفي الهند وفي السودان واليمن والخليج بريطانية، وفي المغرب العربية وسورية ولبنان فرنسة. ولم تظهر أمريكة في المنطقة العربية إلا بعد الثورات العربية الأخيرة في منتصف خمسينيات القرن الماضي، وفرض سياسة الأحلاف على القوى السياسية الجديدة التي مثلها الضباط الأحرار؛ حلف بغداد، الحلف الإسلامي، وسياسة المحاور؛ محور الرياض - طهران - كراتشي.
بدأت أمريكة بإدانة العدوان الثلاثي على مصر، وإنذار أيزنهاور الشهير المتزامن مع الإنذار الروسي، ثم عادت الولايات المتحدة حركة التحرر العربي الممثلة في القومية العربية، وأيدت تأييدا مطلقا إسرائيل وحروبها التوسعية حتى الآن.
كانت لأوروبة رسالة حضارية في عصورها الحديثة، القضاء على الإقطاع والملكية والكنيسة ومحاكم التفتيش وكل رموز القهر والتسلط، واعتمدت على العقل لفهم قوانين الطبيعة التي يمثلها نيوتن، وفي قوانين المجتمع ونظرية العقد الاجتماعي التي يمثلها روسو، ودافعت عن قيم الحرية والديمقراطية. وفيها تم الإعلان الأول والثاني لحقوق الإنسان والمواطن. وقد جسدتها أيضا مثل التنوير؛ العقل والحرية والطبيعة والمساواة والتقدم والتحديث. وقد قامت الثورة الأمريكية على هذه المثل كما عبر عنها الدستور الأمريكي ووثيقة الاستقلال. أما أمريكة فلم تكن لها منذ نشأتها رسالة، إنما قامت منذ البداية على الغزو والنهب والسلب واستئصال الشعوب الأصلية والعبودية والبحث عن الذهب . وما زالت صورة الأمريكي في أذهان الناس صورة راعي البقر والمسدسات وسرقة الأبقار واغتيال أصحابها. قارة زرع فيها الرجل الأبيض حضارته، وشعب بلا وعي تاريخي، لا يدرك إلا الآني، عقدته الشعوب ذات الحضارات العريقة مثل مصر والعراق والصين.
أوروبة هي التي اكتشفت أمريكة بداية من إسبانية بعد أن غادرها المسلمون وسقطت غرناطة، بفضل خرائط العرب ونظرياتهم في كروية الأرض. والأوروبيون هم الذين عمروها وصنعوها وجعلوا منها القوة الأولى في العالم. فكيف يكون الأصل تابعا للفرع، والأب تابعا للابن؟ أمريكة من صنع المهاجرين والمغامرين الأوروبيين، فكيف يكون الأوروبيون عبيدا لما صنعوه بأيديهم؛ عبدة للأصنام؟
إن أمريكة الأسطورة التي بنتها نفسها كما فعلت إسرائيل غير أمريكة الواقع والحقيقة . أمريكة القوية ينخر فيها الضعف؛ ضعف المبادئ والسياق اللاأخلاقي الذي يتم فيه استعمال القوة. أمريكة بوتقة الانصهار تمارس أبشع أنواع التمييز العنصري طبقا للون بين السود والملونين والبيض، وتقتل أنصار الحقوق المدنية والمساواة بين الأعراق مثل مارتن لوثر كينج، ويمارس أنصار كلوكس كلان أبشع أنواع الاضطهاد العنصري باسم الدين وحماية له. تدافع عن الحرية وتقضي على الحريات العامة كما حدث في عصر مكارثي. تؤسس الديمقراطية وتتجسس على أحزاب المعارضة كما هو الحال في حادثة «ووترجيت» الشهيرة. تدافع عن قيم العالم الحر وتغزو أفغانستان والعراق. تهدد إيران وسورية وتعبث بمصالح لبنان والسودان. تحكمها المصالح ورجال الأعمال والشركات الكبرى، والمجمع الصناعي العسكري، والهوس الإمبراطوري، وجماعات الضغط، والمنظمات الصهيونية.
فما لأوروبة وهذا كله؟ ألا تستطيع أوروبة أن تفك الارتباط مع هذه القوة الغاشمة الجديدة، وتعود إلى أصولها التاريخية والثقافية، وتسترد موقفها السياسي باعتبارها ميزان الثقل في العالم، وسطا بين الشرق والغرب مثل الوطن العربي، لا يميل شرقا أو غربا؟ عندئذ يعود لعالم اتزانه، وللعقل حركته، وللحقيقة نبضها.
هل تستطيع أوروبة أن تحاور غيرها؟
3
في زيارة على مدى عشرة أيام لبعض المعاهد الأوروبية لدراسات الشرق الأوسط والجامعات المنتمية لأكبر المؤسسات الدينية لتعزيز الحوار بين الضفة الشمالية للمتوسط والضفة الجنوبية، وبناء على التجارب الحية، وليس تحليل الوثائق والبيانات والإحصائيات والمصادر والمراجع، يمكن القول بأن نفس المشكلة ما زالت باقية لم تتغير، مشكلة الحوار العربي الأوروبي، أو بين الشمال والجنوب، أو بين الإسلام والغرب كما جرت العادة في التسمية الجديدة. ويقصد بالإسلام المسلمون، وبالغرب الدول الغربية على اختلاف نظمها السياسية ومواقفها من الهجرة من المغرب العربي، خاصة المغرب الأقصى.
ليست القضية هي الخلاف حول جدول الأعمال؛ الاقتصاد في الجانب الغربي، فتح الأسواق وتنظيم العمالة المهاجرة، وإسقاط الحواجز الجمركية طبقا لقوانين السوق والمنافسة الحرة كما تفرض ذلك الآن العولمة. والسياسة في الجانب العربي، وفي مقدمتها فلسطين، والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة، وانسحاب إسرائيل إلى حدود 1967م، بما في ذلك القدس.
وليست القضية تعارض المصالح بين الشمال والجنوب، الشمال يريد السيطرة كشرط للتنمية، والجنوب يريد التنمية دون شروط مع المحافظة على الاستقلال.
ليست القضية الحوار على الأمد القصير والمصالح العاجلة كما يريد الغرب، أو الحوار الاستراتيجي على الأمد الطويل في شراكة تقوم على الجوار والتعاون الإقليمي كما يريد العرب، وليست القضية هي الخلاف الثقافي والحضاري في رؤية العالم والإدراك المتبادل بين الطرفين القائم على صراع تاريخي ما زال يؤثر في اللاشعور منذ الحرب الصليبية حتى الاستعمار الحديث، بل القضية هي اعتراف أوروبة بالآخر، والتسليم بوجود طرف محاور متكافئ؛ فأوروبة لا تعترف إلا بنفسها، ولا تحاور إلا ذاتها. هي الطرف والطرف الآخر في نرجسية حضارية تاريخية شديدة. الآخر هو مجالها الحيوي، والمحقق لحاجاتها، وامتداد لنشاطها. أوروبة هي الأنا والآخر، الذات والغير، الشمال والجنوب، الموافق والمعارض، المماثل والمختلف.
ويقبع ذلك في اللاوعي الأوروبي المتراكم عبر التاريخ منذ أن أصبحت أوروبة مركزا للعالم بعد سقوط غرناطة في 1454م، والذهاب إلى ما وراء الأطلنطي إلى نصف الكرة الغربي، وإلى جزر الهند الشرقية عبر جنوب أفريقية إلى نصف الكرة الشرقي. وامتدت جنوبا إلى أفريقية بدعوى اكتشافها. أصبحت أوروبة مركزا جغرافيا للعالم، وتراكما حضاريا في التاريخ، وإبداعا علميا بعد ترجمة العلوم العربية والإسلامية قبيل عصر النهضة. واستند ذلك كله إلى عنصرية بيضاء تقوم على التفرقة بين البشر طبقا للون البشرة، الأبيض والأسود والأسمر والأصفر. وصاغت النظريات العنصرية في طبيعة الأجناس البشرية وخصائصها النفسية والثقافية في علم نفس الشعوب، والتي بلغت أوجها في القرن التاسع عشر؛ ذروة الاستعمار الأوروبي.
فالجنس الأبيض الآري هو الذي له حق السيادة على باقي الأجناس السامية الأخرى. ولا يختلف الاختيار العرقي والتفوق في الأجناس عن الاختيار الإلهي الذي غذته اليهودية في صياغتها الصهيونية بعقائد شعب الله المختار، وأرض الميعاد، والمدينة المقدسة، والمعبد والهيكل. وما زال هذا الدافع وراء الغزو المستمر لأوروبة لغيرها، والانتشار خارج حدودها؛ فالعالم كله مجالها الحيوي، وإسرائيل مركزها. والعالم الجديد، أمريكة، خير وريث لها، بلا تاريخ ولا جغرافية. ووقع التنافس بين العالم القديم والعالم الجديد، كل منهما لا يعترف بالآخر في اللاوعي الشعوري، بالرغم من التعاون الخارجي والأحلاف والحروب المشتركة. أوروبة هي التاريخ، والولايات المتحدة هي الجغرافية في نظر الأوروبيين. وأمريكة هي القوة والمركز الجديد لإمبراطورية ممتدة إلى كل أرجاء المعمورة بما في ذلك أوروبة القديمة. أمريكة هي الفتى الشاب الذي يرث أوروبة العجوز، وإسرائيل في قلب الاثنين، والقرابة المشتركة بينهما.
في طريقة الاستقبال والتوديع، ما زال العربي الوافد، الطرف الثاني للحوار، هو الغريب القادم. على وجهه ينعكس العنف والإرهاب والهجرة والبحث عن العمل والرزق والكسب.
وجوده خطر، وحضوره يقضي على الهوية الأوروبية وتماثل أوروبة مع نفسها. حضر كي يتم الحوار، ولكنه حضور مهمش، زائد، لإكمال الشكل، واستيفاء العدد. لا يسمع الأوروبي ولا يريد أن يعرف أو يعي أن العالم يتغير، وأن ميزان القوى يتبدل. لم يعد لديه شيء يقوله. نسي تاريخه، وفقد ذاكرته. يقرأ من ورق، ولا ينظر إلى الآخرين لأنه لا يرى إلا نفسه، ولا يتحدث إلا إلى ذاته. لم تعد له قضية إلا الاستمرار في الصدارة بخلق أساطير جديدة مثل ما بعد الحداثة، والعولمة، وثورة الاتصالات، والعالم قرية واحدة، وصدام الحضارات، ونهاية التاريخ. ومهما حاول الطرف الآخر التوضيح والكشف عن البديل، وفتح آفاق جديدة للتفكير، فإن الرسالة لا تصل. وإن وصلت اندهش الأوروبي من هذا الذي يعيد للأوروبي ذاكرته وهو في بداية عصوره الحديثة، النهضة والتنوير، وكأنه يسمع جديدا، ويعجب بهذا الصوت الحالم البعيد الذي ما زال في بداية الطريق، وما زال أمامه شوط بعيد كي يقطعه. ولا يمثل خطرا مباشرا عليه إلا في الخيال ومعارك الصور الذهنية والبدائل الحضارية.
إن معركة التحرر لم تنته بعد؛ فليس الاستعمار فقط هو الاحتلال العسكري والاستغلال الاقتصادي والتبعية السياسية، بل أيضا الهيمنة الثقافية والسيادة الحضارية؛ فإذا كان المغلوب ما زال مولعا بتقليد الغالب كما لاحظ ابن خلدون، وكما هو مشاهد أحيانا في المغرب العربي، فإن الغالب أيضا لم يتخل عن تصوره للمغلوب؛ أنه كان سيدا عليه في الماضي بالاحتلال العسكري، وما زال سيدا عليه في الحاضر في التنمية والمساعدة الخارجية، وسيظل سيدا عليه في المستقبل نظرا لأبدية العلاقة النفسية والذهنية بين السيد والعبد.
لم تتغير صورة الغالب عن نفسه حتى بعد مرحلة التحرر الوطني واستقلال الشعوب، وصورة المغلوب الذي أصبح غالبا في ذهنه لم تتغير. استبدل بالسيد الغربي السيد الوطني، وبالنهب الخارجي الفساد المحلي، وبالسيادة بالقوة الجبرية السيادة الاختيارية بطلب الحماية، وإقامة القواعد الأجنبية، والمشاركة في التمرينات العسكرية.
ومهما حاول الجنوب التحرر من جديد من هذا الأسر التاريخي، ومهما حاول العربي إثبات وجوده كطرف محاور، إلا أنه سيظل يتحرك في المكان. لقد أخذت أوروبة في بداية عصر نهضتها العلم والحضارة منه وأنكرته، بل وأعطته الهيمنة والاستعمار بكل أشكاله القديمة والجديدة، جزاء سنمار.
ومهما حاول العربي أن يسمع صوته ويبين رؤية الجنوب إلى الشمال في مقابل رؤية الشمال للجنوب، فإن الشمال لا يسمع؛ لأنه لم يتعود على أن يكون موضوعا للرؤية. أوروبة هي التي ترى وتلاحظ وتحلل، وغيرها هو الموضوع. هو الذي أنشأ المتاحف ووضع حضارات الآخر فيه. هو الذي أنشأ الدراسات الصينية والهندية والفارسية والبابلية والآشورية والمصرية القديمة والعربية والإسلامية، أما هو فليس موضوعا للدراسة. لا يوجد متحف لأوروبة؛ فأوروبة ذات وليست موضوعا. ما زالت حية، وباقية إلى الأبد، لا تموت حتى تصبح موضوعا للمتاحف والأثريات.
تحتاج أوروبة إلى يقظة جديدة بدلا من العدم التي وضعت نفسها فيه، والثبات على المركزية، ونسيان ذاكرتها التاريخية. تحتاج إلى وعي بمكوناتها الخارجية من العرب والمسلمين والشرق القديم الذي صب في اليونان. تحتاج إلى العودة إلى نهضتها الأولى وتنويرها وهي في ذروتها، مع التخلي عن ازدواجية المعايير. التنوير والعقلانية والعلم والتقدم والحرية والديمقراطية داخلها، ونقيضها من جهل وخرافة وأسطورة وتخلف وقهر وتسلط خارجها؛ فأوروبة التي بلغت ذروة التقدم في القرن التاسع عشر في داخلها، بلغت ذروة استعمار غيرها خارجها منذ قضاء إنكلترة على إمبراطورية المغول في الهند، واحتلال فرنسة الجزائر، واحتلال إنكلترة وفرنسة باقي الوطن العربي والعالم الإسلامي في أوائل القرن العشرين، مع احتلال إسبانية والبرتغال أراضي الأندلس القديمة، وهولندا وبلجيكا وإيطاليا العالم القديم في أفريقية وآسيا.
تحتاج أوروبة إلى استرداد وعيها التاريخي، وليس اعتبار التاريخ مجرد ذاكرة فردية في الرواية، بل هي ذاكرة جماعية في الوعي التاريخي الحضاري كي تعيد تحمل مسئوليتها في فترة ثانية من مسارها تتجاوز به العدمية الحالية؛ ما بعد الحداثة، والتفكيك، والكتابة في درجة الصفر، وموت المؤلف.
إن مسار التاريخ يتغير بين المركز والأطراف، وميزان القوى يتبدل بين الشمال والجنوب، وبين الشرق والغرب. الآن تنهض آسيا ممثلة في اليابان وكوريا وماليزيا وإيران وتركية، وتنهض أمريكة اللاتينية ممثلة في فنزويلا والبرازيل وشيلي. والعدوى قادمة إلى الوطن العربي بداية بتخلي الحكم العسكري في موريتانيا عن سلطته إلى انتخابات حرة من الشعب لاختيار ممثليه. تعود حركات التحرر الوطني من جديد في مرحلة ثانية لاستعادة سلطة الدولة الوطنية المستقلة اعتمادا على حركة الشعوب، وتكوين نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، والتحرر من النظام الأحادي القطب. ما زال التحول في البداية
ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا (الإسراء: 51).
السحر والإعلام في الوعي الغربي
4
يشمل الوعي الغربي الأوروبي والأمريكي معا مع اختلاف في الدرجة وليس في النوع، في درجة انتشار السحر، في أمريكة أكثر منه في أوروبة، درجة أثر الإعلام الذي يخلق حقائق وهمية كبديل عن الواقع أكثر مما يكشف عن الواقع نفسه. وهو أكثر منه أيضا في أمريكة عنه في أوروبة؛ فأمريكة بلد العجائب أكثر منها بلد الحقائق، وأوروبة بلد الوقائع أكثر منها بلد الخيال.
ومعرفة الوعي الغربي جزء من معرفة الآخر الذي تعيش الذات في حوار وتفاعل معه، أو في صراع وجدل منذ حوالي ثلاثة قرون، بل إنه أصبح جزءا من الذات عند العلمانيين، نموذجا للتحديث لكل الشعوب.
الغرب هو حصيلة الإنسانية كلها، ويستعملونه في مواجهة الحركات «الأصولية» المدافعة عن الخصوصية، والتي تريد العودة بالتاريخ إلى الوراء.
والمناسبة هي «هاري بوتر»؛ هذه الرواية الخيالية التي وصلت إلى الجزء السابع لكاتبة بريطانية. بدأت مغمورة، وعرضت الجزء الأول على الناشرين بأجر زهيد، ثم سرعان ما ذاعت الرواية وانتشرت، وأصبحت سباعية . توزع مئات الملايين من النسخ في شتى أرجاء العالم، ويقف القراء بالطوابير عدة أيام للحصول على إيصال دفع ثمن نسخة يتم الحصول عليها فيما بعد، مثل طوابير الماء والخبز في العالم الثالث بما في ذلك مصر للحصول على الحاجات الأساسية لحياة البشر. فأصبحت ظاهرة إعلامية فريدة تجاوزت شهرة سمبسون القاتل، والطالب الكوري في كلية الهندسة في فرجينيا الذي قتل ما يقرب من ثلاثين طالبا وطالبة في الولايات المتحدة الأمريكية، وسلمان رشدي الذي كان كاتبا مغمورا ثم أصبح ظاهرة إعلامية بعد رواية «آيات شيطانية»، عندما أصبح أشهر روائي في بريطانية بعد فتوى قتله من إيران لنيله من الرسول، والانتفاضة الفلسطينية الأولى في أوجها، والعالم ينظر إليها بإعجاب ودهشة، وعودة الصورة النمطية للوطن العربي والعالم الإسلامي؛ القهر والكبت والقتل للمفكرين والكتاب، في مقابل ما تنعم به أوروبة من حرية الفكر والتعبير.
حدث ذلك في بريطانية؛ هذا البلد العريق في العلم والحقائق الموضوعية؛ ففيه نشأ إسحاق نيوتن وفرانسيس بيكون وجون استيوارت مل، وواضعو المنهج التجريبي العلمي الحديث. وفيه أيضا استند القانون إلى الحالات السابقة والوقائع، وكان انتشارها عبر الأسطول والتوسع البحري عبر المحيطات للالتفاف حول العالم القديم، وتأمين خطوط المواصلات البحرية في جبل طارق وقناة السويس وعدن والرجاء الصالح طريقا إلى الهند، واقعا عسكريا وليس خيالا علميا وانتشارا إعلاميا. وعرف إعلامها بالدقة والموضوعية، وأصبح رمزها
BBC ، ثم تصبح اليوم مهدا للسحر والإعلام على الطريقة الأمريكية؛ فقد تجاوز التبعية البريطانية للولايات المتحدة الخيارات السياسية إلى أيضا وسائل الإعلام الأمريكية، وما يسود المجتمع الأمريكي من سحر وخرافة وأساطير تبثها الجماعات الدينية المغلقة واليمين المتطرف والمحافظون الجدد.
بدأت الكاتبة بتدوين قصصها التي كانت ترويها لأطفالها. البعض من قراءاتها، والبعض الآخر من خيالها، ثم فكرت في التدوين كتابة لما ترويه شفاها، وأدب الأطفال رائج بطبيعته في الغرب؛ فهو تأليف من القلب والخبرة الذاتية والواقع، وليس من مصادر ومراجع، ومعاجم وقواميس، وتجارب وقياسات علمية. والكتابة من القلب أفضل من الكتابة الموثقة. الأولى للعامة، والثانية للخاصة. الأولى علمية، والثانية أدبية . والخيال الإنساني في أدب الطفل يفوق الخيال العلمي في أدب الشباب. والكاتبة امرأة، وهو في حد ذاته يفتح لها الأبواب؛ لما للحركة النسائية في الغرب من حظوة، ولما للأدب النسائي من أنصار. وهي شقراء بها مسحة من جمال قديم؛ نموذج المرأة الأوروبية.
واستحوذ الكتاب المطبوع على لب القراء بطبعته المجلدة الفاخرة مع صورة الغلاف التي تشد الانتباه؛ صورة البطل التلميذ البريء الهمام، القادر على الاستحواذ على العالم بالسحر، وشد انتباه معلميه ومجتمعه، وإشباع حس المغامرة فيهم، والبحث عن المستقبل، والسيطرة على مساره.
وكان الوعي الأوروبي في بداية العصور الحديثة قد نفر من الكتاب ورموزه؛ منطق أرسطو، فلك بطليموس، الكتاب المقدس، أقوال آباء الكنيسة؛ لأنه يمثل سلطة القدماء على إبداع المحدثين. توجه العقل مباشرة نحو الطبيعة لتأسيس العلم الطبيعي، ونحو المجتمع لتأسيس العلم الإنساني، دون وساطة النص. ونشأ علم نقد النصوص بوجه عام، خاصة النقد التاريخي للتحرر من سلطته.
وفي نهاية العصور الحديثة الآن يعود النص ليصبح مركزا للوعي الأوروبي، النص الديني الآسيوي أو الأفريقي، أو النص الشعري أو الروائي، أو النص الإسلامي، القرآن والحديث. فازدهرت علوم التأويل، وقراءة النصوص، وعلم النصوص
Textology . وأصبحت الرواية أكثر الكتب مبيعا بعد الإنجيل، كما أصبح القرآن بعد حوادث سبتمبر 2001م أكثر الكتب مبيعا على الإطلاق، وذاع انتشار الكتب عن الإسلام، عقيدة وشريعة، دينا وثقافة، علما وحضارة، فنا ورؤية، مثل «إحياء علوم الدين» في أندونيسية بعد البخاري.
وجد الوعي الأوروبي في الكتاب المدون نصرا جديدا أو تكئة قوية لاستنهاض ذاته، والعثور على بؤرة جديدة له بعد أن قضت ما بعد الحداثة والتفكيكية على البؤرة القديمة في بدايات عصر النهضة؛ العقل والطبيعة.
ثم تلقفه الإعلام الذي يصنع الحقائق بطريقة روايتها وتوجيه الخبر والتعامل معه. والإعلام هو صانع الرأي العام، والمؤثر في انتخابات الجماهير، والموجه لسلوكهم في الحياة الخاصة والعامة؛ فالحقيقة هي كيفية روايتها، وكيفية الرواية قائمة على الأهداف غير المعلنة، والتي قد تغطي على الحقيقة ذاتها لدرجة تزييف الحقائق، وتغييب الوعي؛ تهميش المركز ومركزة الهامش كما يحدث في الإعلانات التجارية عندهم، والفيديو كليب عندنا.
وقد كشف عن ذلك من قبل هربرت مركوزه في «الإنسان ذو البعد الواحد» في المجتمعات الصناعية المتقدمة. وملأت أخبار الرواية وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، وتصدرت عناوين الصحف الرئيسية، وغطت على مآسي العالم في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير وجرائم الغرب، مع إبراز جرائم العرب في دارفور والصومال؛ فما زال المركز الأوروبي هو الموجه للإعلام العالمي بالعولمة وأشكال الهيمنة الجديدة، أو بالغزو العسكري المباشر؛ الشكل القديم.
والموضوع هو السحر. وهاري بوتر ساحر قادر على فعل الأعاجيب؛ فقد تشبع الوعي الأوروبي بالعلم والعقل والواقع والمحسوس، وبه الآن شغف شديد للخيال والمعجزة والأسطورة والغيب والخرافة؛ فقد قضى الغرب بنفسه على مثل التنوير، وقطع أنفه بيديه. هدم العقل والعلم والإنسان والمساواة والحرية والتقدم لصالح اللاعقل والخبل والخرافة والآلة والنخبة وسيطرة الأنظمة وشبكات المعلومات. ويبحث عن بطل جديد يحل محل طرازان القديم، ورامبو الأمريكي الأول والثاني والثالث. تعلم البطل السحر في المدارس وليس في العلم، وأظهر براعته في السحر وليس في العلم، ومهد الخيال العلمي السحري للخيال السياسي؛ للاستيلاء على العالم والهيمنة عليه كما تفعل أنظمة المعلومات والقوى الكبرى الآن. فالوعي الأوروبي ما زال قادرا على عمل المعجزات للسيطرة على العالم بعد أن رفض من قبل معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء وأعاجيب القديسين، وتنازل عن دفاعه المستميت القديم عن حتمية قوانين الطبيعة. وانتقل من العلم إلى السحر، ومن العقل إلى الأسطورة، ومن النهاية إلى البداية من جديد.
هل هذه نهاية حضارة وبداية أخرى؟ هل تمت دورة العود الأبدي في مسار الحضارات؟ ما يسعى إليه الغرب من سحر وخرافة وأسطورة وإعلام وتغييب للوعي، هو ما نسعى نحن الآن في التخلص منه لصالح العلم والعقل والواقع والتقدم والتاريخ. وما ينقده الغرب من مثل التنوير في القرن الثامن عشر هو ما نستدعيه نحن منذ الطهطاوي، مركبا إياها على التراث الاعتزالي ووضعية الشريعة الإسلامية كما حددها الشاطبي.
وستسرع دور النشر العربية في ترجمة سباعية هاري بوتر؛ ليس بدافع مضمونها، بل من أجل التوزيع والكسب السريع. وتبقى عشرات الكتب العلمية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية لا تجد لها ناشرا إلا إذا دفع المؤلف كليا أو جزئيا مصاريف الطباعة. الكتابة والقراءة ظاهرتان اجتماعيتان تعبران عن ظروف كل حضارة ومسارها في التاريخ. ومن يدري؟ فربما يخلق «هاري بوتر» عربي، «هاني جوهر»!
هل تحرر الوعي الأوروبي من الاستعمار؟
أثارت زيارة ملك إسبانية للمدينتين المغربيتين المحتلتين سبتة ومليلية مشاعر العرب والمسلمين، وذكرتهم بماضي أوروبة الاستعماري الذي لم يتوقف حتى الآن.
فالاستعمار دفين في الوعي الأوروبي. يكمن أحيانا، ويتفجر أحيانا أخرى. لم يتخلص الوعي الأوروبي في رؤيته للعالم وللآخرين من الاستعمار؛ فالآخر والعالم لا وجود لهما في ذاتهما إلا من خلال تأكيد أوروبة لذاتها كقوة وحيدة في العالم، ووجود وحيد للذات؛ فلا وجود لغير المركز، والباقي أطراف. ولا وجود لأوروبة غير الحقوق، وعلى الآخرين الواجبات.
لقد صدرت الحضارة الأوروبية نفسها، وأوهمت العالم من خلال تدوين التاريخ أنها حضارة الحرية والديمقراطية والعلم والتقدم والإنسان. وهي مثل التنوير التي جسدتها مبادئ الثورة الفرنسية الثلاثة، الحرية والإخاء والمساواة، كما جسدت حركة التحرر العربي في مصر وسورية مبادئها في شعار «الحرية والاشتراكية والوحدة»، بصرف النظر عن الترتيب والأولوية للحرية في مصر، وللوحدة في سورية.
قدمت الحضارة الأوروبية في عصورها الحديثة نفسها بأنها ثورة ضد التسلط، وتحرر من القهر ورموزه؛ الكنيسة، والإقطاع في الحاضر في الدين والسياسة، وأرسطو وبطليموس والشروح العربية الوافدة في الثقافة والعلم. واستمرت الثورة في بداية العصور الحديثة ضد الملكية والرأسمالية حتى قامت الثورات الجمهورية والاشتراكية.
ويبدو أن المعيار المزدوج كان مصاحبا منذ البداية للوعي الأوروبي الحديث، مبادئ التحرر من التسلط، والحرية ضد القهر فقط لأوروبة، والهيمنة والاستعمار والسيطرة على غيرها. فمنذ أن أصبحت أوروبة هي مركز العالم الجديد بعد سقوط غرناطة وطرد المسلمين من الأندلس، انتشرت خارج حدودها الجغرافية إلى ما وراء البحار، اعتمادا على خرائط المسلمين ونظرياتهم في كروية الأرض، حتى وصلوا إلى النصف الكرة الغربي عبر الأطلنطي واحتلال القارتين القديمتين شمالا وجنوبا باسم الكشوف أو الاستكشافات الجغرافية، وكأن نصف الكرة الغربي لم يكن موجودا قبل قدوم الرجل الأبيض إليه، وكأن السكان الأصليين لا وجود لهم. وإن وجدوا يستأصلوا عن بكرة أبيهم حتى تخلو الأرض للمستعمر الجديد، وإحلال سكان آخرين محلهم؛ رقيق أفريقية الذين تم اصطيادهم كالحيوانات بالملايين. منهم من غرق في المحيط، ومنهم من وصل إلى الأرض عبيدا أرقاء لتعمير الأرض.
حدث ذلك في عصر الإصلاح الديني عند لوثر وكالفن. في الوقت الذي كانت فيه أوروبة تحرر نفسها من تسلط الكنيسة والإقطاع على يد لوثر ومونزر، كانت تستعبد غيرها وتلف حول البحار، وتعبر المحيطات غربا للوصول إلى جزر الهند الشرقية، أو شرقا عبر جنوب أفريقية والمحيط الهندي وبحر العرب من أجل الالتفاف حول العالم القديم كله. وفي عصر النهضة الذي تلا الإصلاح الديني احتلت القوى الأوروبية الجديدة السواحل، إنكلترة وفرنسة وإسبانية والبرتغال، نصف الكرة الغربي، وإنكلترة جنوب أفريقية. وقضت على إمبراطورية المغول الإسلامية في الهند. وانضمت هولندا إلى الركب فاحتلت جنوب شرق آسيا، أندونيسية، أكبر أرخبيل في العالم، واحتلت إسبانية الفلبين، وفيما بعد احتلت إنكلترة ماليزيا وإيران وأفغانستان. وفي عصر الثورة الفرنسية المجيدة احتل نابليون مصر. وبلغ الاستعمار الذروة في القرن التاسع عشر في وقت بلغت الرومانسية في أوروبة أوجها والدفاع عن قيم الحرية، وما سماه لسنج «العاصفة والاندفاع» باحتلال فرنسة وإنكلترة وبلجيكا أواسط أفريقية، وفرنسة الجزائر. وبعد خسارة تركية الحرب العالمية الأولى في القرن العشرين، وفي وقت بدأت أوروبة تكمل عصر العلم والصناعة، احتلت فرنسة وإنكلترة الوطن العربي في المشرق والمغرب، وروسية والجمهوريات الإسلامية في أواسط آسيا.
لم تختلف إذن العصور الحديثة رمز الحرية والتحرر والثورة ضد السلطة والتسلط عن الوعي الاستعماري الأوروبي القديم منذ اليونان والرومان، الذين استعمروا الشرق حول البحر الأبيض المتوسط، واندفع الإسكندر نحو مصر والهند وأواسط آسيا والشرق لتكوين إمبراطورية يونانية تفتت بعد موته بين قواده. كما اندفع قياصرة الرومان حول سواحل البحر الأبيض المتوسط لجعله بحيرة رومانية، وحررها العرب بعد ظهور الإسلام. واستأنف الصليبيون نفس الاندفاع الاستعماري بدعوى تخليص المدينة المقدسة من أيدي المسلمين، وانتصر عليهم صلاح الدين، واستعاد أراضي المسلمين في الشام، ثم استؤنفت الحروب الصليبية في المغرب بعد فشلها في المشرق، وأخرج المسلمون من إسبانية، واحتلت مدن الساحل الشمالي الأفريقي سبتة ومليلية، وفي الساحل الجنوبي في الصحراء. وأثناء حركة التحرر الوطني قايض الإسبان الصحراء الجنوبية بالمدن الشمالية. وفضل المغرب الانسحاب من الجنوب، وتأجيل الانسحاب من مدن الشمال. واحتلت إنكلترة طنجة وجبل طارق، كما احتلت مالطة وقبرص وقناة السويس والمنافذ البحرية خارج البحر الأبيض المتوسط في عدن ورأس الرجاء الصالح وسنغافورة؛ حتى تسيطر سيدة البحار على العالم من خلال السيطرة على طرق المواصلات البحرية.
وقد دافعت الإمبراطورية العثمانية عن سواحل المغرب العربي حتى الجزائر، وحررت ثماني مدن وهي في أوج انقضاض الغرب على «الرجل المريض» وتقطيع أوصاله. وبعد حركات التحرر بقي الوعي الأوروبي وعيا استعماريا يعاود هيمنته كلما ضعف الآخر، لا فرق في ذلك بين إسبانية ممثل الاستعمار القديم، وأمريكة ممثل الاستعمار الحديث.
في هذا الإطار التاريخي يمكن قراءة زيارة ملك إسبانية للمدينتين المغربيتين المحتلتين، سبتة ومليلية، بعيدا عن تراثها الجمهوري الحديث أثناء الحرب الأهلية، وتراثها الأندلسي القديم أثناء حكم العرب والمسلمين، والذي ما زالت تفخر به أمام العالم في غرناطة وقرطبة وأشبيلية وطليطلة. وماذا عن إعلان برشلونة الذي أصبح نموذجا للتعاون بين دول البحر الأبيض المتوسط؟ وماذا عن عودة الروح إلى إسبانية عن طريق الأندلس الجديدة، واعتزازها بثمانية قرون من التراث العربي الإسلامي؟
إن الوعي الأوروبي الاستعماري يتفجر من جديد بعد نكوص الحركات الوطنية والتفريط في مكتسباتها، وتحولها إلى نظم سياسية قاهرة للداخل، وتابعة للخارج. وقد بدأ ذلك بالاحتلال الأمريكي لأفغانستان والعراق، واحتلال إسرائيل لكل فلسطين، وتهديد إيران وسورية وحزب الله، محور الشر، والعمل على تفتيت السودان والصومال، وتحويل الوطن العربي والعالم الإسلامي إلى دويلات طائفية وعرقية ومذهبية، تصبح إسرائيل بينها دولة يهودية، كما صرح بذلك رئيس وزرائها، وليست مجرد دولة علمانية حديثة، تقوم بدور مصر في تحديث الوطن العربي، وتأخذ شرعية جديدة من طبيعة الجغرافية السياسية المحلية للمنطقة، وليست من أساطير الميعاد القديمة، شعب الله المختار وأرض الميعاد.
إن زيارة ملك إسبانية للمدينتين المغربيتين المحتلتين رمز وإشارة. رمز على أن الوعي الأوروبي الاستعماري لم ينته بعد، وإشارة على أن استمرار الهجرات المغربية إلى إسبانية، والعربية إلى أوروبة، هو احتلال غير مباشر، وفتوحات جديدة من الجنوب في الشمال عن طريق العمالة المهاجرة، في حاجة إلى حركة «استرداد» جديدة، ومد من الشمال إلى الجنوب. وإذا كان «الإرهاب» الإسلامي قادما من الجنوب إلى الشمال، فإن «الاستعمار» الغربي قادم من الشمال إلى الجنوب. وقد تكون عودة أوروبة إلى وعيها الاستعماري القديم أحد الحلو لحل أزمات أوروبة الداخلية؛ فقد الروح وخواء النفس، وما سماه بعض الفلاسفة «أفول الغرب»، أو «أزمة الوعي»، أو «قلب القيم».
فإذا كان المشروع الأوروبي القديم لا يستهوي الأجيال الجديدة، أكبر قدر ممكن من الإنتاج لأكبر قدر ممكن من الاستهلاك لأكبر قدر ممكن من السعادة، فلعل الوعي الاستعماري القديم للمحافظين الجدد والباحثين عن الذهب من الذين عبروا المحيطات إلى نصف الكرة الغربي، يعطي دفعة جديدة لأوروبة. وقد توقفه حركة تحرر عربي وطني ثانية لرد الهجمة الاستعمارية الجديدة. إنما تستطيع الأجيال الجديدة أن تبدأ عصورا حديثة أوروبية جديدة، خالية من المعيار المزدوج؛ الحرية والتحرر لأوروبة، والهيمنة والتسلط على غيرها، وتعمل لأجل إنسانية واحدة، دون مركز ومحيط ، وشمال وجنوب، وغرب وشرق.
العنف الأمريكي في الداخل أيضا
العنف الأمريكي ليس في الخارج وحده، العدوان على العراق وأفغانستان، والسودان وليبيا من قبل، وتهديد لبنان وسورية وإيران والصومال بالتدخل؛ فهي شرطي العالم الذي يفرض قانونه بالعصا على كل من يشق عصا الطاعة على «فتوة» الحي. وما يحدث في الخارج من عدوان على الشعوب، يحدث في الداخل أيضا بالعدوان عليه من مواطنيه؛ فالمجتمع مفرغ من الداخل. وبقدر ما تستعمل الولايات المتحدة الأمريكية القوة ضد الخارج، القوة المنظمة بالجيوش وأسلحة الدمار الشامل، تستعمل القوة ضدها في الداخل بنفس العدوانية وقتل الأبرياء. الجريمة المنظمة في الخارج تقوم بها الدولة، والجريمة المنظمة في الداخل يقوم بها الأفراد.
هذا ما حدث منذ شهر تقريبا في ولاية فرجينيا في كلية الهندسة بمدينة بروزبرج، عندما أطلق مهاجر أمريكي من أصل كوري جنوبي النار على الطلاب والأساتذة، فقتل اثنين وثلاثين من الأمريكيين والأجانب بدم بارد مع سبق الإصرار والترصد، وتسجيل العملية منذ بدايتها بالصوت والصورة في مجتمع يعشق الإعلام ويقدسه.
اندماج المهاجرين حتى من الجيل الثاني لم يتحقق، وبوتقة الانصهار التي أرادتها أمريكة مجرد أسطورة.
فالمجتمع ما زال فسيفساء من المهاجرين طبقا للون والأصل العرقي، وعلى مراتب كما هو الحال في نظام الطبقات في الهند. أعلاها الأنجلوسكسونيون البيض البروتستانت الذين هاجروا أول مرة من بريطانية، واستقروا على الساحل الشرقي حيث السلطة والمال، ثم تتراتب الطبقات من الأعلى إلى الأدنى؛ الألمان، والإيطاليون طبقا لطبقاتهم الأصلية في أوروبة، ثم يأتي في ذيل القائمة الإسبان ثم السود.
مع أن الإسبان هم الذين اكتشفوها، والسود هم الذين بنوها بعد أن تم اصطيادهم من أفريقية عبيدا ليحلوا محل الملايين من السكان الأصليين الذين تم استئصالهم. ومن تبقى منهم وضعوا في محميات للسياحة ولاستديوهات هوليود. لم يندمج القاتل من أصل آسيوي في المجتمع الأمريكي. وشتان ما بين أمريكة وآسيا، بين العالم الجديد والعالم القديم، بين قارة الذهب والمال، وقارة الديانات والحضارات.
والطالب في كلية الهندسة؛ أي في كلية عملية تقوم على العقل والعلم. عاش الطالب القاتل وحيدا نفسيا لا يشارك المجتمع قيمه. عاش متوحدا مع نفسه، ومتغربا مع غيره؛ مما أدى إلى الانفصال الكامل بين الفرد والمجتمع، بين المواطن والدولة. ويبدو أن العلوم الطبيعية والرياضية لا تملأ الفراغ الروحي لدارسيها كما تفعل العلوم الإنسانية، ولا تشبع فيهم البحث عن معاني الحياة والوجود والمصير. إنما يظهر التنظيم الهندسي في الجريمة المنظمة التي تقوم بها أمريكة في الخارج عن طريق أجهزة الاستخبارات والجيوش النظامية، ويقوم بها الأفراد في الداخل عن طريق الإعلام وأجهزة التسجيل الصوتي والمرئي. وهي ليست حادثة فردية معزولة، بل نمط سلوكي أمريكي في رفض المجتمع وقيمه، والدولة ونظامها كما حدث من قبل في تفجير المبنى الفيدرالي الأمريكي في أوكلاهوما من أمريكي أبيض تيموتي ماكفاي، لا يعترف إلا بالقوة الفردية واستقلال الولاية. والقاتل الانتحاري الجديد يستأنف عملية القتل التي تمت في جامعة كولومبيا. دبرها أيضا أمريكيان أبيضان، ديلان كليبولد وأريك هاريس. ولن تكون الأخيرة طالما العنف هو نموذج السلوك الأمريكي؛ العنف في الخارج على الآخرين، والعنف في الداخل على النفس.
وفي تسجيله الصوتي المرئي على مدى عشر دقائق، وألف وثمانمائة كلمة، وثلاث وأربعين صورة، وسبع وعشرين لقطة فيديو، عبر الطالب عن رفضه لقيم المجتمع الأمريكي، وأسلوب الحياة الأمريكي، والحلم الأمريكي، وأسطورة التفوق الأمريكي، والغرور الأمريكي، والرموز الأمريكية، المرسيدس وثقافة العربات والطرق السريعة وصناعة السيارات في دترويت وغيرها. والقلادة الذهبية التي تزين بها النساء جيدها مظهر من مظاهر الغنى. وقد كان البحث عن الذهب أحد أسباب الاندفاع نحو الغرب الأمريكي في الهجرات الأولى. وحسابات البنوك والودائع والمدخرات حياة الأمريكي، خاصة بعد التقاعد؛ لينعم بالحياة بعد أن شقي في الإنتاج الذي قضى فيه شبابه. والوفرة الأمريكية تؤدي إلى الإشباع الكامل لحاجات البدن، ولكنها لا تؤدي إلى سعادة الروح. الوفرة الزائدة عن الحاجات تصيب الإنسان بالغثيان. والفودكا والكونياك رمز السكر والعربدة، والانغماس في ملذات الدنيا. ويضاف إليها اللبان والآيس كريم والكوكاكولا، وهو ما لا يستطيع الأمريكي الاستغناء عنه وهو في قلب المعارك وفي أتون الحروب. الأمريكيون هم أسباب الشقاء في العالم، أطفال السوء، والرجال الأشقياء، ورسل الخطيئة، وغواية الشيطان.
قتل الطالب منذ السابعة صباحا طالبين لإبعاد الانتباه عما تبقى من الجريمة، وانخدعت الشرطة، وحاصرت المبنى الأول الذي قتل فيه الطالبان، وزادت في العدد، وأحضرت الأسلحة، وحشدت القوات. وباقي الجريمة تتم بعد ذلك بثلاث ساعات في قاعة الدرس، حيث اجتمع عشرات الطلاب في الصباح للاستماع إلى الأستاذ الذي أغلق الباب وحصنه حتى لا يهرب أحد. والشرطة ما زالت في المحل الأول، واقعة تحت الخداع ضد أسطورة الشرطة الفائقة العدة والعتاد، والتي قتلت من قبل عشرات المعارضين السياسيين وقادة المظاهرات والاحتجاجات السوداء. وتم قتل ثلاثين طالبا من مسدسين آليين كما يفعل رامبو في العراق؛ من قتل الآمنين، ودك المنازل بمن فيها على من فيها بالطائرات. فاستعراض القوة يشبع غرور النفس، وقتل الأبرياء وتعذيبهم يشبع عقدة الصادية عند الأمريكي، وتلذذه بإيلام الآخرين.
وقبل تنفيذه العملية الانتحارية التي طالما أدانتها أمريكة في العراق، بالرغم من الفرق بين العدوان على الأبرياء في الداخل، ومقاومة العدو المحتل في الخارج، قام القاتل بالتدرب عليها، وسجلها بالصوت والصورة في مجتمع الإعلام حياته، وارتدى لباس رعاة البقر؛ النموذج الأمريكي في استعمال القوة، وإظهار الشجاعة والبطولة الفردية. واعترف أمام أجهزة الإعلام الخاصة به بالجريمة والدافع عليها، مثل أبطال جان بول سارتر وهم يسجلون حياتهم وأفعالهم قبل الانتحار.
هو قدر لا فكاك منه، واختيار أوحد لا بديل عنه. والسبب هو المجتمع الأمريكي الذي لم يترك له خيارا آخر. كانت هناك مائة بليون فرصة لمنع هذه الجريمة وتفادي الحادثة، ولكنه دفع هذا المواطن البريء إلى أقصى مدى، وجهه إلى الحائط. كان يمكن للمجتمع الأمريكي الذي قام على مبادئ الثورة الفرنسية، الحرية والإخاء والمساواة، أن يتمسك بإعلان الاستقلال، ومبادئ الدستور، وبمثل الآباء المؤسسين الأوائل.
كان يمكن للمجتمع الأمريكي أن يدافع عن الحرية في العالم؛ حرية الأفراد وحرية الشعوب، بدلا من الاكتفاء بتمثال الحرية في ميناء نيويورك، وتشدق الإدارة الأمريكية بأنها بغزوها العراق وأفغانستان إنما تدافع عن العالم الحر وقيم الحرية والديمقراطية. كان يمكن أن يشارك باقي الشعوب في ثرواته بدلا من أن يمتلك أقل من 5٪ من سكان العالم نسبة 90٪ من ثروات العالم. كان يمكن أن يساهم في مشاريع تنمية قدرات العالم الثالث، ويقضي على التصحر في أفريقية الذي سببه الرجل الأبيض عندما أخذ من أفريقية أكثر مما أعطاها؛ لأنه يعلم أنه راحل. ويقضي على الجفاف والجوع والأمراض التي تحصد الملايين سنويا في تشاد ومالي وجنوب السودان والصومال وإريتريا وبنجلادش. كان يمكنه أن يقيم السدود، ويبني الجسور، ويشق القنوات لزيادة مساحة الأراضي المزروعة، بدلا من تدميرها كما يفعل في العراق وأفغانستان.
إنها مسئولية المجتمع الأمريكي إذن. هو السبب غير المباشر في اقتراف الجرائم وتلويث دم الشباب بالدماء؛ لأنه تعود على سفك دماء الأبرياء؛ لذلك قرر هذا الطالب الشاب المواجهة وعدم الهروب والفرار، وقرر تخليص المجتمع الأمريكي من مآسيه وشروره وآثامه، كما قرر تخليص أسرته، أبنائه وإخوته، وتحمل أخطاء البشر جميعا كما فعل السيد المسيح؛ فالمسيح يصلب من جديد لأنه يصلب كل يوم في العراق وأفغانستان وفلسطين والشيشان وكشمير وسورية وإيران والسودان، يصلب في الداخل وفي الخارج. وكما تتحمل أمريكة أوزار العالم، فإن هذا الشاب يتحمل أوزار أمريكة في العالم؛ فهو الضحية، وأمريكة الجلاد، وليست أمريكة هي الضحية وهو الجلاد. أمريكة تواجه قدرها في الداخل، كما أن الشعوب تواجه قدرها بالعدوان الأمريكي عليها. وتنتهي الحرية إلى قدرية، وينتهي الاختيار إلى حتمية.
انهيار أمريكي من الداخل هو الذي سيؤدي إلى انهيارها في الخارج. وفاقد الشيء لا يعطيه. العدوان الأمريكي في الخارج يحدث رد فعل بعدوان الأمريكي على مجتمعه في الداخل؛ حتى تذوق أمريكة على يد أبنائها من المرارة التي تسقيها هي للآخرين. إن المجتمع المفرغ من الداخل لا يستطيع أن يكون مصمتا في الخارج، والمجتمع الخاوي من الداخل لا يستطيع أن يكون صامدا في الخارج. وبالرغم من استعمال أمريكة القوة المفرطة في الخارج، وجميع أنواع أسلحة الدمار الشامل، فإن العدم ينخر فيها من الداخل. وقد تقضي النملة في أذن الفيل عليه بإثارته وإثبات عجزه مهما التوى خرطومه وطالت أنيابه.
إن شو، وهو اسم الطالب الضحية، هو نموذج مصغر للمجتمع الأمريكي المدجج بالسلاح لقتل الأبرياء، ولكنه في النهاية يقتل نفسه؛ فيتحول الجلاد إلى ضحية. وكما يقول الإنجيل: «تقتلون بنفس السيف الذي به تقتلون.»
الصهيونية والمحافظة الجديدة
أيديولوجيتان للهيمنة سادتا العصر الحديث؛ الصهيونية للهيمنة على الوطن العربي، بل والعالم الإسلامي في أفريقية وآسيا، وعلى العالم الغربي، أوروبة والولايات المتحدة الأمريكية؛ أي على العالمين القديم والجديد معا. والمحافظة الجديدة للهيمنة على العالم كله، خاصة في أفريقية وآسيا وأمريكة اللاتينية، مصادر الطاقة والثروة الطبيعية والعمالة الرخيصة والاستهلاك. وقد عانى العرب والمسلمون منهما معا. احتلت أوطانهم، واستعبدت شعوبهم، وتابعت نظمهم السياسية، تجد فيهما التأييد الخارجي بعد فقدانها الشرعية الداخلية.
وهناك اتفاق في النشأة والبنية والهدف بين الأيديولوجيتين والدولتين اللتين تبنتهما إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية؛ فقد نشأت كلتا الدولتين على أنقاض شعب آخر؛ الشعب الفلسطيني، وسكان أمريكة الأصليين. تحول الشعب الفلسطيني إلى مجموعة من اللاجئين خارج فلسطين، في المخيمات وفي أوروبة وأمريكة وفي باقي بقاع العالم. وحلت محلهم هجرات يهودية من كل بقاع العالم تحت شعار «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض».
وكما عاش ما تبقى من سكان أمريكة الأصليين (الهنود الحمر) في محميات داخل وطنهم، كذلك يعيش عرب 1948م في قرى داخل وطنهم المغتصب.
وكما فشلت أمريكة في جعل نفسها «بوتقة انصهار» للشعوب المهاجرة، وظلت القضية العنصرية أحد قضاياها الرئيسية بين البيض والسود، والإسبان والآسيويين، والعرب والمسلمين، كذلك ظلت المسألة العرقية مسألة رئيسية في إسرائيل بين اليهود الشرقيين (السفرديم) واليهود الغربيين (الأشكناز)، بين الدينيين والعلمانيين، بين الأغنياء والفقراء، بين أنصار الحرب وأنصار السلام.
كلاهما دولتان حديثتان، نتاج العصر الحديث؛ فقد وصل كولومبوس أمريكة عام 1494م، بعد سقوط غرناطة 1492م آخر معاقل المسلمين بالأندلس، وبنفس الخرائط العربية التي تتحدث عن كروية الأرض؛ فعمر الولايات المتحدة حوالي خمسة قرون مقارنة بالشعوب العربية، وعمرها آلاف السنين، مصر القديمة والعراق وحضارات ما بين النهرين وفلسطين أرض كنعان وشبه الجزيرة العربية وحضارة اليمن السعيد.
وقد تحولت الأيديولوجيتان من نزعتين دينيتين إلى أيديولوجيتين سياسيتين؛ فقد نشأت الصهيونية نزعة روحية في القرن التاسع عشر من أجل المحافظة على التراث الروحي اليهودي عند الكالي بعد أن فشل التنوير العقلاني عند اسبينوزا ومندلسون، ثم تحولت إلى أيديولوجية سياسية في القرن العشرين إثر اضطهاد اليهود في مجموع أوروبة شرقا وغربا بعد حادثة درايفوس الشهيرة في فرنسة، وبداية الاضطهاد النازي للملل والأعراق غير الجرمانية مثل اليهود، والتي رفضت الانتماء الوطني واستثمار رءوس أموالها في مشاريع التنمية الوطنية، وآثرت العزلة والخصوصية وحياة الجيتو. وحدث نفس التحول في النزعة المحافظة الجديدة التي نشأت نزعة دينية للمحافظة على التراث المسيحي ضد النزعة المادية الدنيوية الأمريكية، وقبل أن تتحول إلى أيديولوجية سياسية عند المحافظين الجدد في الإدارة الأمريكية الحالية.
وتقوم الأيديولوجيتان على الاختيار الإلهي؛ فقد اختار الله أمريكة لإنقاذ العالم وقيادته، وكما هو مدون على الدولار «نثق بالله»، بل إن بعض الفرق المسيحية الأمريكية تدعي بأن المسيح قد ظهر لها، وأن نبوة جديدة قد أعطيت لأحد أنبيائها للتأكيد على إنقاذ الرجل الأبيض للعالم؛ فهي أيديولوجية من السماء، ودعاتها رسل وأنبياء، ومحققوها قديسون وأولياء. لا يخطئون، ولا توجههم مصالح. أطهار أتقياء أصفياء.
وكلاهما يقوم على وعد إلهي بالنصر حتى لو تكررت الهزائم، هزيمة إسرائيل في حرب أكتوبر 1973م، وأمام حزب الله في حرب لبنان في يوليو 2006م؛ فجيش الرب في إسرائيل لا يقهر، والقوة الأمريكية قادرة على غزو العالم كله، حتى ولو لم تصمد أمام المقاومة العراقية والأفغانية.
وكلاهما لا يعترف بالآخر؛ ففي إسرائيل لا يوجد إلا شعب الله المختار، وغيرهم «جونيم»؛ أي أغيار،
قالوا ليس علينا في الأميين سبيل (آل عمران: 75). يجوز لهم الذبح والقتل والتدمير وتجريف الأراضي والقضاء على الزرع والحرب والبشر، نساء وأطفالا وشيوخا. وفي أمريكة لا توجد إلا الحرية والديمقراطية، نموذج العالم الحر، والنموذج الأمريكي هو النموذج الذي يقتدي العالم كله به.
كلاهما يستعمل القوة والعنف وكافة أساليب الحرب والدمار لتحقيق أغراضه، ويذاع أن أقوى جيشين في العالم هما الجيش الأمريكي والجيش الإسرائيلي؛ فأمريكة بلا حدود، وتستطيع أساطيلها وصواريخها وطيرانها من خلال قواعدها المنتشرة في كل أنحاء العالم الوصول إلى كل قارات العالم الخمس. وإسرائيل أيضا بلا حدود، حدودها هي ما يستطيع جيش الدفاع الإسرائيلي الوصول إليه إلى أواسط آسيا وأفريقية وأوروبة. كلاهما إمبراطورية للتوسع والانتشار، من النيل إلى الفرات في إسرائيل، وكل العالم الحر في أمريكة.
كلاهما يعبد القوة والمال والثروة والسيطرة على المقدرات الاقتصادية والمالية للعالم، والبنوك والشركات والاستثمارات والصناعات الكبرى والشركات المتعددة الجنسيات، العابرة للقارات. ومن خلال الاقتصاد تسيطر على السياسة.
كلاهما ذو مصالح مشتركة؛ السيطرة على النفط العربي الإسلامي وعوائده واستثماراته، والسيطرة على الأسواق العربية وكل مصادر الثروة الطبيعية في العالم. كلاهما تتحكم فيه القيم المادية
وما يهلكنا إلا الدهر (الجاثية: 24). دينية في الظاهر، ومادية في الباطن.
كلاهما يشيعان ثقافة الاستهلاك بدعوى الرفاهية والوفرة. كلاهما يبغي القضاء على استقلال الشعوب، ثقافيا وسياسيا واقتصاديا؛ حتى تتم لهما السيطرة على العالم.
وبالرغم من الخلاف في الظاهر، إسرائيل دولة صغيرة، وأمريكة قارة كبرى، إلا أن الدولة الصغرى تقوم بدور الدولة الكبرى من خلال النفوذ في العالم، والدولة الكبرى تقوم بدور دولة صغرى قصيرة النظر دون وعي تاريخي ورؤية بعيدة لمصالحها ومستقبلها. وبالرغم من أن إسرائيل تعتمد في وجودها على العون الخارجي في المال والسلاح، وإحساس الغرب بالذنب تجاهها لما اقترفته النازية وكافة أشكال الاضطهاد لليهود في العالم، إلا أنها تقوم بلعبتها الخاصة، وترسم سياسات الدول الكبرى لما اكتسبته من خبرات مختلف الشعوب وتراثها التاريخي الطويل. وكذلك أمريكة بالرغم من أنها تملك كل المقومات الداخلية الاقتصادية، إلا أنها خاضعة لجماعات الضغط المختلفة، ومنها اللوبي الصهيوني لتوجيه سياسات الولايات المتحدة لصالحها.
هذا الاتفاق في النشأة والبنية والأهداف هو الذي يوحد بين الصهيونية والمحافظة الجديدة، بين السياسة الأمريكية والسياسة الإسرائيلية إلى حد التطابق الأعمى؛ فغزو العراق لصالح إسرائيل أولا، وتهديد إيران لحماية إسرائيل أولا، والسلام والتطبيع لصالح إسرائيل أولا، ومناهضة العنف لصالح الاعتدال لمصلحة إسرائيل أولا، بل لقد وحدت الصهيونية المسيحية أو المسيحية الصهيونية بينهما في أيديولوجية واحدة تحقق الأهداف المشتركة.
ولقد خلقت الأيديولوجيتان والسياستان الصهيونية والأمريكية موجة عداء لهما في كل أنحاء العالم، حتى في قلب العالم الحر، باعتبارهما عنصرية وهيمنة وتوسعا. تبشر بعالم جديد يقوم على العدل وليس على القوة، على المساواة بين الشعوب وليس على الاستعلاء العنصري. وقد دفع ذلك بعض فلاسفة التاريخ والحركات المناهضة إلى التنبؤ بسرعة انهيار الأسطورتين؛ التفوق الإسرائيلي والتفوق الأمريكي، بل وبنهاية إسرائيل والإمبراطورية الأمريكية في المستقبل، طال الأمد أم قصر، أسوة بقوم عاد وثمود، وفرعون وهامان.
الدولة اليهودية
عاشت إسرائيل منذ نشأتها على أسطورة أنها دولة ديمقراطية، بل واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط وسط ديكتاتوريات عربية، ملكية أو عسكريات انقلابية. وهي دولة تعددية بها شرقيون سفارديم، وغربيون أشكناز . تأتيها الهجرات اليهودية من كل الأجناس، بيضاء وسوداء وصفراء، من الدياسبورا إلى العاليا. والقدس مفتوحة لكل الأديان، والمقدسات الإسلامية والمسيحية في حماية الدولة العلمانية التي ترعى حرية العبادة. ولو امتلك المسلمون الأقصى من فوق الأرض، فإن إسرائيل تملكه تحت سطح الأرض حتى قواعد هيكل سليمان.
وكان هذا مدونا في الميثاق الوطني الفلسطيني منذ إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية، دولة علمانية تعددية يعيش فيها كل المواطنين على قدم المساواة، بصرف النظر عن العرق والدين والطائفة.
ولم تعترف به إسرائيل لأنها كانت تريد في الحقيقة دولة يهودية خالصة خالية من العرب أو المسلمين أو النصارى. وكانت الدولة التعددية العلمانية مجرد دعاية أمام الغرب؛ لأن أعداءها الذين يريدون إلقاءها في البحر من الإخوان المسلمين وزعيم مقاومتهم الشيخ عز الدين القسام، ورئيسهم مفتي فلسطين. وهو ما ظهر بعد ذلك في حماس والشيخ ياسين والجهاد الإسلامي.
وقبل مؤتمر أنابوليس وضعت إسرائيل شرطا للاعتراف بالدولة الفلسطينية التي ما زالت في الأذهان وفي الأقوال، دون الأرض والأفعال، وهو أنها دولة يهودية. وفي خطاب الرئيس الأمريكي الافتتاحي قال إن إسرائيل دولة قومية لليهود، وهو ما يتفق مع قرار التقسيم في 1948م، دولتان؛ واحدة للعرب والثانية لليهود. والغاية من ذلك الدفاع عن الكيان الصهيوني على الأمد الطويل، والنظر إلى الآجل دون العاجل.
ما دامت إسرائيل لم تستطع الحفاظ على توسعها واحتلالها لأراضي دول الجوار إلى ما لا نهاية بعد ازدياد المقاومة، والإصرار العربي على أنه لا سلام ولا اعتراف إلا بعد الانسحاب من الأراضي المحتلة منذ 1967م، وكما قررت بذلك المؤتمرات السابقة في مدريد وأوسلو، وكما عبرت عن ذلك بوضوح مبادرة السلام العربية؛ الأرض في مقابل السلام، الانسحاب الكامل في مقابل التطبيع الكامل؛ فالانتصار العسكري والتوسع الاستيطاني لهما حدود. لا تستطيع إسرائيل قضم ما لا تستطيع أن تهضم. المقاومة تشتد، والمقاطعة مستمرة، والرفض ما زال هو الغالب على الوجدان العربي بصرف النظر عما تفعله أو تريده الحكومات.
وبهذا المطلب الجديد، الدولة اليهودية، تريد إسرائيل تحقيق أربعة أهداف:
الأول:
إخراج عرب 1948م من إسرائيل بعد أن أصبح التزايد السكاني لأكثر من مليون عربي منذ الاحتلال هما ثقيلا على إسرائيل. والتقارير تفيد أنه حتى عام 2050م يتجاوز العرب في إسرائيل عدد الإسرائيليين مهما ازدادت الهجرات، «تناسلوا تكاثروا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة.»
والغربيون أنانيون لا يحبون التكاثر خوفا من انخفاض مستوى المعيشة. وإذا ما انضم على الأمد الطويل اليهود العرب إلى إخوانهم، فإن العرب يكونون الأغلبية في إسرائيل، وتضيع هوية الدولة وشرعيتها، ويتحول عرب إسرائيل إلى مواطنين من الدرجة الأولى لما كانت لهم الأغلبية، وليسوا مواطنين من الدرجة الثانية كما هو الحال الآن. وفي أحسن الأحوال يتم تبادلهم مع المستوطنين الإسرائيليين بعد 1967م الذين قاربوا ثلاثة أرباع المليون، عرب في إسرائيل في مقابل إسرائيليين في الدولة الفلسطينية إن قامت.
الثاني:
حل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين منذ 1948م، بالإضافة إلى لاجئي 1967م المقيمين في المخيمات في لبنان وسورية والأردن ومصر، والمنتشرين في كافة الوطن العربي، بل وفي الخارج في أوروبة وأمريكة، وفي الشتات في كل بقاع العالم؛ ومن ثم يمكن التخلص من تجمعات سكانية يسهل فيها تجنيد شبابها في المقاومة، وممارسة العنف وتفريخ «الإرهاب» بلغة أمريكية وإسرائيل. وحماس في غزة شاهد على ذلك، وحزب الله في جنوب لبنان شاهد آخر. ولا يحق لهم العودة إلى دولة يهودية وهم غير يهود، مسلمين ونصارى. وينتهي الوطن لصالح الدين، وهوية المواطن لصالح الطائفة.
الثالث:
شرعية هجرة يهود العالم إلى إسرائيل، الدولة اليهودية، استمرارا من الشتات إلى العليا، بحيث يمكنها استيعاب ثمانية مليون يهودي خارج إسرائيل إلى الداخل؛ وبالتالي تصبح إسرائيل أربعة عشر مليونا، وهم عدد اليهود في العالم، بما فيهم يهود أمريكة عامة، ونيويورك خاصة. وهو نوع من الأمن الكمي السكاني وسط المحيط العربي، ثلاثمائة وخمسون مليون عربي وسط مليار وربع من المسلمين. فبعد حرب أكتوبر (تشرين) 1973م، وحرب لبنان وفي مقدمته المقاومة اللبنانية، وحزب الله في قلبها عام 2006م، أحسن العرب الكيف، وإدارة الحرب، واستعمال الصواريخ. وإيران تقوى يوما بعد يوم، والحمية الإسلامية هي المسيطرة على الشوارع، ومسلمو أندونيسية وبنجلاديش والملايو وأواسط آسيا والصين يتوقون إلى الاستشهاد في القدس؛ فالدولة اليهودية تقابل كما بكم حتى ولو كان في صالح العرب والمسلمين. يكفيها نصرة الغرب وأمريكة لها، وعداؤها للعرب والمسلمين.
الرابع:
إعطاء شرعية جديدة للكيان الصهيوني، لا تقوم على أساطير أرض الميعاد وشعب الله المختار المستمدة من قراءة خاصة للتوراة، بل على طبيعة الجغرافية السياسية في المنطقة بعد تجزئتها إلى دويلات طائفية سنية وشيعية، إسلامية وقبطية، أو عرقية، تركمانية وكردية، عربية وبربرية وزنجية؛ وبالتالي تكون إسرائيل دولة يهودية تجمع بين العرق والدين مثل باقي شعوب المنطقة.
والعجيب أن تعلن ذلك أمريكة نفسها، وهي التي تضرب بنفسها المثل في النظام الديمقراطي التعددي، بوتقة الانصهار التي يتساوى فيها الجميع. وهي دعاية أخرى نظرا لاضطهاد الأقليات «السوداء» و«السمراء»، وتصدي «الواسب»
WASP ، وهي اختصار للبرتستانت البيض الأنجلوساكسون. ولو أن فلسطين المقاومة أعلنت أنها ستكون دولة إسلامية لقامت الدنيا ولم تقعد، وتم اتهامها بالأصولية والعنف والإرهاب. وماذا عن نصارى الشام وهم عرب، هل ينضمون للدولة القومية العربية أم يكونون دولة نصرانية كما فعل غساسنة الشام قبل الإسلام؟ وماذا عن لبنان، هل يعلن نفسه دولة عربية أم مارونية أم سنية أم شيعية؟ وماذا عن الخليج، هل يعلن نفسه دولة سنية أم شيعية؟ وماذا عن اليمن، هل يعلن نفسه دولة زيدية أم دولة شافعية؟ وماذا عن السودان، هل يعلن نفسه دولة عربية أم زنجية، إسلامية أو مسيحية أو وثنية؟ وماذا عن دول المغرب العربي، هل تعلن عن نفسها دولة عربية أم دولة بربرية (أمازيغية)؟
كانت حجة أمريكة لغزو أفغانستان أنها دولة أصولية إرهابية يحكمها الطالبان وأسامة بن لادن. وإرهاب إسرائيل الدولة اليهودية لا يقل عن إرهاب أفغانستان الدولة الإسلامية. وتعادي أمريكة كل الحركات الإسلامية التي تعلن عن حقها في إنشاء دولة إسلامية. وتعادي أمريكة الحكم الإسلامي في إيران وتتهمه بالإرهاب، والحكم الإسلامي في السودان وتحاول فصل الجنوب وكردفان عنه، وتعارض وصول المحاكم الشرعية إلى الحكم في الصومال، وتساعد أثيوبية على غزوه، أو تأييد الحكم العسكري الديكتاتوري في باكستان، وهي ترفع شعار الديمقراطية في الشرق الأوسط الكبير أو الجديد خوفا من وصول المعارضة الإسلامية فيه إلى الحكم، بل إنها لا ترحب بوصول الإسلاميين المعتدلين أو الإسلام المستنير إلى الحكم في تركية والمغرب، ممثلا في حزبي العدالة والتنمية. وترفض دخول تركية الاتحاد الأوروبي لأنها ذات ثقافة مغايرة ودين مختلف، في حين تقبل انضمام الدولة اليهودية. وتعتبر الإسلام تهديدا لأمريكة والغرب، خاصة بعد أحداث سبتمبر في واشنطن ونيويورك.
لا فرق بين المحافظين الجدد والصهيونيين الجدد؛ فكل من الفريقين نزعتان أصوليتان يحكمون باسم الاختيار الإلهي، في حين أن حماس والجهاد منظمتان إرهابيتان.
والحقيقة أن «الدولة اليهودية» ستذهب مثل باقي الدول الثيوقراطية؛ لأنه لا توجد يهودية واحدة، بل عدة مذاهب يهودية، أرثوذكسية وليبرالية وإصلاحية، شرقية وغربية، عربية وغربية، سلفية وعقلانية. فأي يهودية ستقوم عليها الشرعية الجديدة للكيان الصهيوني؟ ستذهب كما ذهبت أساطير الميعاد وشعب الله المختار، وستنتهي الدولة العنصرية كما انتهى النظام العنصري في جنوب أفريقية
بأسهم بينهم شديد (الحشر: 14).
المراجع
الاتحاد، 14 أبريل 2007م؛ الدستور، 19 أبريل 2007م؛ العربي الناصري، 22 أبريل 2007م.
الاتحاد، 23 يونيو 2007م؛ الدستور، 12 يوليو 2007م؛ العربي الناصري، 24 يونيو 2007م.
الاتحاد، 30 يونيو 2007م؛ الدستور، 5 يوليو 2007م؛ العربي الناصري، 1 يوليو 2007م.
الاتحاد، 28 يوليو 2007م ؛ الدستور، 26 يوليو 2007م؛ العربي الناصري، 29 يوليو 2007م.
الاتحاد، 15 سبتمبر 2007م؛ العربي الناصري، 16 سبتمبر 2007م.
الاتحاد، 29 سبتمبر 2007م؛ الدستور، 30 سبتمبر 2007م؛ العربي الناصري، 30 سبتمبر 2007م.
الاتحاد، 6 أكتوبر 2007م؛ الدستور، 11 أكتوبر 2007م؛ العربي الناصري، 25 نوفمبر 2007م.
الاتحاد، 13 أكتوبر 2007م؛ الدستور، 18 أكتوبر 2007م؛ العربي الناصري، 2 ديسمبر 2007م.
الاتحاد، 20 أكتوبر 2007م؛ العربي الناصري، 21 أكتوبر 2007م.
الاتحاد، 22 ديسمبر 2007م؛ الدستور، 19 ديسمبر 2007م.
الاتحاد، 29 ديسمبر 2007م.
الاتحاد، 19 مايو 2007م؛ الدستور، 17 مايو 2007م؛ الزمان، 15 مايو 2007م؛ العربي الناصري، 20 مايو 2007م.
الاتحاد، 26 مايو 2007م؛ الدستور، 24 مايو 2007م؛ العربي الناصري، 27 مايو 2007م.
الاتحاد، 2 يونيو 2007م؛ الدستور، 31 مايو 2007م؛ الزمان، 30 مايو 2007م؛ العربي الناصري، 3 يونيو 2007م.
الاتحاد، 17 نوفمبر 2007م؛ العربي الناصري، 18 نوفمبر 2007م.
الاتحاد، 15 ديسمبر 2007م؛ العربي الناصري، 16 ديسمبر 2007م.
الاتحاد، 10 مارس 2007م؛ الدستور، 12 مارس 2007م.
الاتحاد، 7 أبريل 2007م؛ الدستور، 10، 12 أبريل 2007م؛ الزمان، 5 أبريل 2007م؛ العربي الناصري، 15 أبريل 2007م.
الاتحاد، 21 يوليو 2007م؛ الدستور، 19 يوليو 2007م؛ العربي الناصري، 22 يوليو 2007م.
الاتحاد، 18 أغسطس 2007م؛ الدستور، 16 أغسطس 2007م؛ العربي الناصري، 19 أغسطس 2007م.
الاتحاد، 24 نوفمبر 2007م؛ الدستور، 22 نوفمبر 2007م.
الاتحاد، 12 مايو 2007م؛ الدستور، 10 مايو 2007م؛ الزمان، 9 مايو 2007م؛ العربي الناصري، 13 مايو 2007م.
الاتحاد، 5 مايو 2007م؛ الدستور، 8 مايو 2007م.
الاتحاد، 8 ديسمبر 2007م؛ الدستور، 6 ديسمبر 2007م؛ الزمان، 6 ديسمبر 2007م؛ العربي الناصري، 9 ديسمبر 2007م.
Halaman tidak diketahui