ومن هنا الصعوبة الكبرى في تغيير الأنظمة الاجتماعية؛ لأن هذه الأنظمة قد أحدثت في نفوسنا عواطف، وهذه بعثت عقائد نكاد نظن أنها طبيعية، وهذا يفسر لنا كيف أن فيلسوفا عظيما مثل أرسطوطاليس لم يجد في الرق ما يستحق الانتقاد، بل إن الأنبياء أنفسهم لم يعترضوا على نظامه ولم يفكروا في الانتقاد.
وخلاصة القول أن البيئة المادية التي تحيط بنا تحدث لنا عواطف وعقائد نسلم فيها بطبيعتها ونكره ذلك الوجداني الذي يرفض العواطف ويحاول أن يغير ويبدل في الأنظمة، ومن هنا الاضطهاد أو على الأقل الكراهة للاشتراكيين والبشريين ودعاة ضبط التناسل ونحوهم؛ لأنهم يشذون على قواعد المجتمع التي يمارسها أفراده بقوة العواطف.
فنحن مثلا نلبس ملابسنا على الزي الذي يرسمه لنا المجتمع، ونتحمل المشاق في سبيل الخضوع لقواعده هنا، حتى إننا في أشد الأيام الحارة وأجسامنا ترشح العرق من جميع أجزاء البشرة نلبس ملابسنا الكاملة بلا نقص، بل نحن أيضا نأكل - كما يطالبنا المجتمع - على آنية يرسمها لنا بنظام يجب ألا نخالفه فيه، ونحن نساير المجتمع في كل ذلك بإيحاء المحاكاة فنحب ألا نخالف.
وليست هذه المحاكاة مقصورة على اللباس والطعام؛ لأن العقائد العامة نفسها تجري مجرى اللباس والطعام؛ بحيث إننا ننظر إلى الرجل الذي يشذ عن قواعد الدين نظرتنا إلى رجل يسير في الشارع بلا رباط رقبة أو يأكل البصل على المائدة كما يأكل التفاح؛ فالمجتمع يكسبنا - بإيحاء المحاكاة - أزياء في اللباس والطعام كما يكسبنا أزياء في الأخلاق والعادات، ونحن نشمئز من المخالفة هنا كما لو كنا نخالف غريزة طبيعية، والحق أن الغرائز الاجتماعية مثل اجتناب لحم الخنزير أو التبول جهرا أو تحدي العادات الاجتماعية، هذه «الغرائز» تؤلمنا مخالفتها كما تؤلمنا مخالفة الغرائز الطبيعية، بل إن هناك من يعجز عن التبول في المراحيض العامة، أو في الفراش حين يكون مريضا؛ لأنه منذ طفولته درب على اجتناب التبول إلا منفردا متسترا، فهنا تتغلب «الغريزة» الاجتماعية على الرجع الانعكاسي الطبيعي للبول، وقس على هذا كثيرا من سلوكنا الاجتماعي الذي نعتقد أنه طبيعي.
وليس هناك ما يدل على أن الإنسان من الحيوانات الاجتماعية؛ أي: التي ترث غريزة الاجتماع بفطرتها كما هي الحال في الخرفان والغزلان والجاموس؛ لأن أبناء عمومتنا - القردة العليا - لا تزال إلى الآن انفرادية عائلية أو حتى غير عائلية، ولكن نشأتنا الاجتماعية تحملنا على الأخذ بالمقاييس والقيم الاجتماعية والتأثر بالإيحاء الاجتماعي، حتى إننا نتألم لمخالفة المجتمع كما نتألم لكظم عاطفة طبيعية.
والآن يصح أن نسأل: ما هو المجتمع الحسن؟ (1)
هو ذلك المجتمع الذي يحاول أن يجعل الوجدان (بالنظر الموضوعي والمنطق) فوق العاطفة في إيجاد الأنظمة، ولكنه لا يهمل قيمة العواطف. (2)
وهو الذي يجعل الأنظمة الاجتماعية بحيث يقل الكظم في الأفراد إلى أقل مقدار، ولكن مع ذلك لا يصح أن يزول الكظم تماما؛ لأنه إذا كان خفيفا فإنه يعد قوة محركة. (3)
وهو الذي يلغي الأقليات بأن يعاملها بالسواء كالأكثرية بلا أدنى فرق. (4)
وهو الذي ينتظم بحيث تكون «للذات العليا» الوجدانية القيادة في التفكير للذات الاجتماعية والذات البيولوجية (الحيوانية) عند الأفراد. (5)
Halaman tidak diketahui