وفي الدرجة الثالثة يجرد العقل الشيء عن المادة المعقولة أيضا، فلا يبقى لديه سوى معنى الموجود، وهو معنى غير متعلق بالمادة بالذات؛ إذ قد يكون الموجود جسما وقد يكون روحا. كذلك يلحظ العقل بعض معان توجد تارة في مادة وتارة في غير المادة: كالجوهر والعرض والكيفية والإضافة والقوة والفعل والكلي والجزئي والعلة المعلول والغاية والوسيلة، فيعلم العقل أنها تلحق الموجود من حيث هو موجود لا من حيث هو جسم طبيعي أو رياضي، ويحصل بذلك على موضوعات ما بعد الطبيعة.
فالتجريد واسطة الاتصال بين العقل والوجود، وفيه ضمان موضوعية العلم وحقيقته. والفلاسفة الذين ينكرون العقل ويحاولون الاكتفاء بالحس (مثال هوبس لوك وهيوم ومل وسبنسر) ولا يستطيعون تسويغ العلم الذي يدور على الماهيات المجردة والقوانين الكلية، بينما الحس لا ينال سوى الجزئيات. والفلاسفة الذين يؤمنون بالعقل وينكرون هذا التجريد (أمثال ديكارت ومالبرانش وليبنتز وسبينوزا وكنط)، لا يستطيعون تعيين العلة الحقة للمطابقة بين العقل والأشياء. (2) المذهب الحسي والمعنى
ينكر الحسيون وجود معان في أذهاننا، ويبنون هذا الإنكار على اعتبارين: أحدهما أنه لما كان كل موجود حسيا، كانت معارفنا إما إحساسات أو راجعة إلى إحساسات. والاعتبار الآخر أن المعنى الكلي تصور متناقض يلغي عجزه صدره؛ إذ إن الكلية تمنع عن المعنى التعيين، بينما كل موجود وكل تصور فهو معين حتما. هل نستطيع تصور إنسان لا هو أبيض ولا أسود ولا أصفر ولا أحمر، ولا هو طويل أو قصير، ولا هو كذا أو كذا مما يسمى بالأعراض؟ هل نستطيع أن نتصور حركة متمايزة من الجسم المتحرك ولا هي سريعة ولا بطيئة، ولا مستقيمة ولا منحنية؟ هل نستطيع أن نتصور مثلثا لا يمثل نوعا من أنواع المثلثات ويشملها جميعا؟ ويقاس على ذلك سائر المعاني التي لها التجرد والكلية.
غير أنهم يجدون أنفسهم مضطرين للإقرار بما يشبه المعنى المجرد الكلي، فيحاولون تفسيره ابتداء من الحسي، فيقولون إنه صورة تكتسب بالانتباه على الخصائص المشتركة بين الجزئيات وفصلها عن الخصائص الذاتية لكل جزئي، وهذا هو التجريد عندهم، فنحصل على صورة ناقصة تحوي بعض خصائص الشيء دون بعض. وندل على هذه الصورة بلفظ، فنخلق بينهما علاقة عرفية يكون من أثرها أنه كلما سمعنا اللفظ أو قرأناه بدت في ذهننا صور أشياء حاصلة على تلك الخصائص، وهذه هي الكلية عندهم، تتسع أكثر فأكثر بتناقص عدد الخصائص المستبقاة في الصورة على ما تشير إليه كتب المنطق حين تعين العلاقة بين المفهوم والماصدق. ومن الحسيين من يعترف للذهن بفاعلية ذاتية في المضاهاة بين الخصائص والانتباه إليها، ومنهم من يرى أن الذهن منفعل وحسب، وأن تكرار الإحساس أو شدته تبرز الخصائص المشتركة وتفرض الانتباه على الذهن، فتحدث الصورة حدوثا آليا . والحسيون المعاصرون يؤيدون تفسيرهم للتجريد بتلك «الصور المركبة» التي حصل عليها جالثون حوالي سنة 1880؛ إذ وضع في فانوس سحري بضع ميداليات تمثل كليوباترة ووجه الضوء إلى موضع واحد، فظهرت صورة هي متوسط الميداليات. وكذلك صنع بميداليات تمثل إسكندر الأكبر، وبصورة شمسية تمثل أفراد إحدى الأسر، فكانت هذه التجارب دليلا ماديا على ترسخ المشابهات وتلاشي الفوارق. (3) المعنى والصورة
نقسم ردنا على هذه الأقوال إلى قسمين: الأول مقارنة بين المعنى والصورة، والثاني مقارنة بين المعنى واللفظ. ونبدأ بالكلام على الصورة المركبة، فنقول: إن الحصول على صورة من هذا القبيل يقتضي أن تكون الصور الجزئية قليلة العدد شديدة التشابه، فإذا حذفت إحداها أو أضيفت أخرى تعدلت الصورة الناتجة عنها. فالصورة المركبة صورة متوسطة للصور الجزئية المستخدمة في إنتاجها، ولها فقط؛ وهي لا تعتبر مشتركة في الحقيقة إلا بالقياس إلى الصور الجزئية الحادثة هي عنها، وبالقياس إلى الذي يعرف هذه الصور الجزئية. أما إذا لم نعرفها، فالصورة المركبة تكون بالقياس إلينا صورة جزئية معينة بأعراض خاصة كواحدة من تلك الصور؛ إذ إنها إنما تمثل الملامح المحسوسة لطائفة من الموجودات معينة. وعلى ذلك يستحيل الحصول على صورة مركبة إذا ما تباعدت المشابهات المحسوسة بين أصناف النوع الواحد، ومن باب أولى بين أنواع الجنس الواحد: كيف نحصل على صورة متوسطة للإنسان باستخدام صور الأصناف البشرية من أبيض وأسود وأسمر وأصفر وأحمر؟ على أي شكل يظهر فيها الرأس والعينان والأنف والشفتان والقامة؟ إن كل أولئك يظهر على شكل مشوه لمميزات كل صنف. وكيف نحصل على صورة متوسطة للحيوان باستخدام صور الأنواع الحيوانية، كالإنسان والقرد والأسد والثور والفرس والحوت والخفاش والقط ... إلخ؟ وكيف نحصل على صورة متوسطة لمثلث أو اللون أو لغير ذلك من الأجناس؟
هذا فضلا عن أن الصورة المركبة أيا كانت هي صورة محسوسة، فلا يمكن أن تتكرر بالذات في كثيرين، بينما المعنى ينطبق بالذات على عدد لا يحصى من الأفراد. قال ابن سينا (في كتاب النجاة): «إن الحس لا ينال الإنسان المقول على كثيرين، وكذلك الخيال؛ فإنك أي صورة أحضرتها في التخيل أو في الحس الجسماني، لم يمكنك أن تشرك فيها سائر الصور الشخصية؛ لأن ما يرتسم في الحس أو الخيال يكون مع عوارض من الكم والكيف والأين والوضع غير ضرورية في الإنسانية ولا مساوية لها.» وقال أيضا: «ليس يمكن في الخيال البتة أن يتخيل صورة هي بحال يمكن أن يشترك فيه جميع أشخاص ذلك النوع (أي الممثل بالصورة)؛ فإن الإنسان المتخيل يكون كواحد من الناس.» وهكذا نعتقد أننا قد فرغنا من أمر الصورة المركبة وأبطلنا استشهاد الحسيين بها.
على أننا نسلم بوجود الصورة المشتركة في مخيلتنا ومخيلة الحيوان الأعجم، يأتي اشتراكها من غموضها واقتصارها على خطوط عامة قليلة التعيين، وإنما يمكن ذلك؛ لأن الخيال قوة حية لا جامدة، وأن الإدراك فعل معنوي لا مادي فيحتمل التعيين. وإذا عدنا إلى التفاوت في أنفسنا، وجدنا أن المعرفة تتدرج من العام إلى الخاص: ففي دائرة المعرفة الحسية نذكر أننا إذا رأينا شيئا عن بعد، فإننا ندرك كونه جسما قبل كونه حيوانا، وكونه حيوانا قبل كونه إنسانا، وكونه إنسانا قبل كونه هذا الشخص المعين. ويلاحظ أرسطو في مطلع كتاب السماع الطبيعي - تأييدا لهذه القضية - أن الأطفال يميزون بين الإنسان واللاإنسان قبل أن يميزوا بين إنسان وآخر، ويدعون كل رجل أبا وكل امرأة أما قبل أن يفردوا الأب والأم الحقيقيين عن باقي الرجال والنساء. وكذلك الحال في دائرة المعرفة العقلية؛ فإن العقل يدرك الماهيات في أول الأمر إدراكا إجماليا، ثم يخصص هذا الإدراك ويستكمله بتحليل الأشياء إلى عناصرها أو خواصها، أي بتجريدات متتالية.
فحين نقول إن التصور الساذج إدراك الماهية، لا نقصد أن العقل ينفذ فورا إلى صميم الأشياء ويبلغ دفعة إلى خصائصها الجوهرية. إننا لا نزعم للعقل الإنساني مثل هذه المقدرة، بل لا نخشى أن نعلن أنه لا يصل أبدا إلى ماهيات الماديات ولا يكشف عن فصولها النوعية، فلا يحدها الحد الذي يشترطه المنطق في العلم الكامل، اللهم فيما سوى الماهية الإنسانية التي نعرف أن النطق فصلها النوعي . ولعجز العقل عن حد الماديات فإنه يقنع برسمها أي بتعريفها تعريفا تجريبيا وصفيا بأعراض خارجة عن الماهية دالة عليها مميزة لها مما عداها باجتماعها لها دون غيرها. كما نشاهد في علومنا الطبيعية حيث تعرف العناصر الكيميائية بوزنها وألفتها وآثارها، وتعرف النباتات والحيوانات بالهيئة الخارجية والتكوين الداخلي ونوع الغذاء وما إلى ذلك. فليست المعاني سواء في كمال التصور، ولكنها تتفاوت: فمنها الغامض والواضح، ومنها المختلط والمميز.
الفارق الجوهري بين المعنى والصورة المشتركة، أو بين الحد والرسم، هو أن الصورة تشتمل على أعراض الشيء وأجزائه كما تبدو للحواس وحسب، وأن المعنى يتضمن علة الخصائص التي يمثلها. فحين نحد الإنسان بأنه حيوان ناطق، نحن نعلم أن الحيوانية والنطق علة جميع أفعاله وجميع خصائصه، كالحرية والأخلاق والدين واللغة والعلم والفن والاجتماع، فإن أولئك جميعا راجعة إلى النطق لازمة عنه. وحين نعدد عناصر الصورة المشتركة للإنسان، فنقول إنه جسم حي حاس غير ذي ريش ولا وبر يمشي على قدمين رأسه مرتفع إلى أعلى، نجد أننا نجمع عناصر محسوسة بعضها إلى بعض، ولا نعلم علة وجود هذه العناصر للإنسان. بل حين نعرفه بالخصائص المعقولة اللازمة عن النطق دون النطق نفسه، فلا يكون تعريفنا إلا رسما كالرسم الجامع للعناصر المحسوسة، ولا يصير حدا إلا بذكر النطق أولا باعتباره الخاصية الأساسية المقومة للماهية المعبرة عما «هو» الإنسان والمفسرة لجميع خصائصه؛ لأنها هي العلة في كون الإنسان إنسانا وكون هذه خصائصه. والأمر كذلك في الصورة المشتركة للساعة أو القاطرة أو الطائرة أو غيرها من الآلات؛ فإن الحيوان الأعجم يتصورها، ويتصورها الإنسان الجاهل حقيقتها، ولكن علة وجود أجزائها وعلة اجتماعها لا تدرك إلا في معنى الساعة وهو أنها آلة لقياس الزمان، أو في معنى القاطرة أو في معنى الطائرة، وهذه المعاني معقولة غير محسوسة.
فإذا كنا قد سلمنا أن الإنسان لا يتبين المعنى المعقول في الماديات، فقد كان مرادنا التبين الصريح، وما نزال ندعي أن الإنسان يتبين الماهيات المادية نوعا من التبين، مستشهدين بالتجربة التي ترينا الحيوان الأعجم يستظل بالشجر ، ويأكل العشب والثمر، وينتفع بغير ذلك من الأشياء، ثم لا يستعيض عما يفوته منها، ولا يحدث أي أثر إيجابي فيما حوله. بينما الإنسان يستنبت الشجر والعشب ويستخدم الأشياء وخصائصها على وجوه شتى كثير منها لم يعرض في الطبيعة. والعجماوات هي التي تقف عند الظاهر المحسوس الذي يقتصر عليه الحسيون، والإنسان ينفذ إلى ما وراء المحسوس من المعقول.
Halaman tidak diketahui