Tentang Kebebasan Saya Bercerita
عن الحرية أتحدث
Genre-genre
لست كثير القراءة لما كتبه المتصوفة المسلمون، لكن القليل الذي قرأته منه قد زودني بزاد روحاني هو خير الزاد، وكان من أشد المعاني التي اكتسبتها منهم نفاذا إلى نفسي، هو الشرور التي تنجم عن «التجزؤ» لما هو بطبيعته وحقيقته كيان موحد، فعندئذ تصبح تلك الأجزاء التي انحلت عراها وتفككت أوصالها فتبددت أيدي سبأ، تصبح الأجزاء وكأنها الحجب الكثيفة التي تحول بين الإنسان وبين الحق الذي يتطلع إلى بلوغه، وكان مقصد المتصوفة من هذا الكلام أو ما يشبهه، هو معرفة المخلوق لخالقه كيف تستحيل عليه إذا هو لم يعبر الفجوة التي تفصل الإنسان عن ربه، ومن هنا تكون مجاهدة المتصوف ورياضته لنفسه حتى يتغلب الفرد الإنساني على شعوره بجزئيته وانفراده اللذين يفصلانه عن الله سبحانه وتعالى، وإذا حطم الفرد الجزئي من الناس ذلك الحجاب الذي ينحصر وراء جدرانه؛ انفتح له الطريق إلى شهود المولى جل وعلا، وبذلك يكون بمثابة من خرج من ظلام إلى نور، فالجزئية حجاب، والحجاب ظلام، واختراقه خروج إلى النور.
ومن هذا المعنى عند المتصوفة المسلمين، يمكننا الانتقال إلى «التنوير» وما نعنيه نحن بهذه الكلمة، عندما نسعى إلى استنارة تشمل أفراد الشعب جميعا بسنائها وسناها؛ إذ ماذا يكون «التنوير» إلا أن يكون انتقالا من جهل إلى معرفة؟ ثم ماذا يكون الجهل في شتى حالاته إلا أن يكون الإنسان الجاهل بمثابة من لفه ظلام فحجب عنه حقائق الأشياء، حتى إذا ما أزاح عن نفسه ذلك الحاجز، وخرج من ظلمة إلى نور، استطاع أن يرى ما لم يكن رآه وهو خلف حجاب؟
ربما يكون أولئك المتصوفة قد أسرفوا في نزوعهم نحو أن يحطموا جدران الطبيعة البشرية ليخترقوا حجاب التجزؤ المظلم بجهالته، وليخرجوا منه إلى معرفة الله سبحانه وتعالى بطريق الشهود المباشر، وإن كاتب هذه السطور - على الأقل - لا يستطيع أن يرى كيف يكون ذلك ممكنا - من جهة - وكيف يكون حتى إذا كان ممكنا أمرا مرغوبا فيه من جهة أخرى؛ لأن تلك الطريقة البشرية في الفرد الواحد هي المسئولية يوم الحساب عما قدمت في حياتها، لكن ذلك لا يمنع أن يكون لنا من موقف المتصوفة درس بالغ الأهمية والفائدة؛ لأنه يلفت أنظارنا إلى الخطر الداهم الذي يحيق بأي جماعة يتجزأ أفرادها تجزؤا يميل بكل فرد على حدة أن يتصرف وكأنه هو العالم بأسره، وكأنه ليس هنالك أفراد سواه يقاسمونه وطنا واحدا، وحياة واحدة.
وموقف المتصوفة يلفت أنظارنا كذلك إلى حقيقة هامة من حقائق المعرفة البشرية، والمعرفة - كما أسلفنا - هي النور، لا يسطع لنا ضياؤه إلا إذا اخترقنا حجب الجهالة بظلامها، وأعني بتلك الحقيقة عن المعرفة البشرية؛ كون الإنسان إذا وقف بمعرفته لشيء معين، عند ذلك الشيء وحده فهو لا يعرف عنه عندئذ إلا أقل من القليل، فأنت لا تعرف أي شيء إلا إذا عرفته في ذاته أولا، ثم جاوزته لتعرف كذلك ما عداه، مما هو متصل به بعلاقات، إنك قد تعرف كل شيء عن الأرض التي نعيش على سطحها، ولكنها تظل معرفة ناقصة ما لم تجاوز بعلمك حدود الأرض في ذاتها، لتعرف العلاقات التي تربطها بالقمر والشمس وكواكب المريخ وزحل والزهرة وعطارد، إلى آخر أجزاء المجموعة الشمسية؛ لأنها جميعا «أسرة» واحدة، لا نعرف واحدا من أعضائها إلا إذا عرفنا روابطه بسائر أعضاء أسرته، وهل في مستطاعك أن تعرف معنى العدد سبعة - مثلا - إلا إذا عرفت سوابقه ولواحقه من سلسلة الأعداد التي هو حلقة فيها؟ هل في مستطاعك أن تعرف نظرية معينة من نظريات الهندسة، ولتكن - مثلا - نظرية فيثاغورس عن المثلث القائم الزاوية، إلا إذا عرفت سوابقها التي جاءت تلك النظرية نتيجة لها؟ هل تزعم لنفسك معرفة بشخص ما، إذا أنت لم تجاوز شخصه إلى الأسرة التي هو عضو فيها وإلى مجموعة أصدقائه، وإلى نوع العمل الذي يؤديه وهكذا؟ إن والد البنت حين يتقدم إليه خاطب لابنته يشعر بضرورة أن «يسأل عنه» (كما نقول) بمعنى أن يسأل عمن هم ذوو علاقة به لكي يعرفه؛ إذ إن شخصه وحده لا يكفي لمعرفة شخصه ... كل ذلك يدلنا دلالة قوية على أن الفرد الواحد محال أن تكتمل له حقيقته إلا وهو منسوب للآخرين ممن يكونون معه مجموعة واحدة، سواء أكانت تلك المجموعة أسرة أم جماعة أصدقاء، أم أمة بأكملها هو أحد أفرادها، وربما طاف بذهنك سؤال: وماذا إذا تفرد واعتزل؟ فنقول: إن ذلك - لو كان ممكن الحدوث أصلا - فهو إنما يجعل منه فردا منقوص الوجود، ومصيره حتما إلى ذبول وضمور في كل مقومات حياته، كالفرع ينفصل عن الشجرة التي تغذى وجوده بوجودها.
لماذا نشترط للعمل الفني أو الأدبي أن يكون ذا وحدة عضوية؟ أود قبل الإجابة أن ألقي بعض الضوء على معنى عبارة «وحدة عضوية» فأقول: إنها الوحدة التي تشبه الوحدة في أي كائن حي؛ فالكائن الحي - شجرة كان أو حيوانا - مؤلف من أعضاء وأجزاء قد لا تقع تحت الحصر، لكن تلك الأعضاء والأجزاء متصل بعضها ببعض اتصالا وثيقا، بحيث لا يمكن لواحد منها أن تستمر له الحياة إذا بتر عن بقية الأعضاء والأجزاء، وهذا الوضع نفسه هو ما يطلب وجوده في العمل الفني أو الأدبي، تشبيها له بالكائن الحي، ومن هنا تنبه كبار نقادنا منذ العشرينيات إلى ضرورة مراعاة تلك الوحدة في أعمالنا مما نبدعه في دنيا الفن والأدب، على زعم منهم في هذا الصدد، بأن الأدب العربي القديم قد فاته هذا الركن الأساسي من البناء الفني، وجاءت قصيدة الشعر - مثلا - أبياتا متلاحقة في غير بنيان عضوي؛ لأن هذا البنيان العضوي لا يتوافر للقصيدة إلا إذا كان كل بيت فيها يؤدي إلى الذي يليه، وإلا إذا أخذت الحالة النفسية التي أراد الشاعر نقلها، تنمو وتتكامل في ذهن المتلقي بيتا بعد بيت، حتى إذا ما فرغ المتلقي من تلاوتها، كانت الحالة النفسية التي أرادها الشاعر قد اكتملت، كذلك عند ذلك المتلقي، وبعد هذا أعود إلى السؤال: لماذا نشترط مثل تلك الوحدة العضوية في أعمال الفن والأدب؟ والجواب هو نفسه الجواب الذي قدمناه فيما يختص باستحالة أن يكتمل لأي جزء وجوده إلا وهو منسوب إلى الكل الذي هو جزء منه.
وها هي ذي قصاصات الورق التي مزق بها الطفل اللاهي ورقة كانت مثقلة بمضمونها الفني، ترى كل قصاصة منها كالعمياء لا تبصر، وكالخرساء لا تنطق. ضاع مضمونها حين انفصلت عن أمها، وفقدت دلالتها حين استقلت وحدها جزءا مبتور الصلة بالكيان الموحد الذي كان يحتويه، ونسأل: ماذا أصاب المصري في مرحلته التاريخية الراهنة، حتى أصبحت الصلات التي تربطه بالمصري الآخر مبتورة أو كالمبتورة؟ والجواب هو أنه اجتزأ وجوده اجتزاء حصره في حدود فرديته، ففقدت تلك الفردية نفسها جوهر وجودها، كالذي يحدث للعضو الواحد من أعضاء البدن، يبتر ويلقى به في مكان وحده يعزله عن أصله الذي كان ينتسب إليه! لكن ذلك التجزؤ في الأفراد إنما هو لحسن الحظ تجزؤ على سطح الحياة، لكنه - كما أسلفنا - لم يضرب بجذوره المريضة إلى عمق وجوده، مما يؤكد أن العلة مؤقتة في حياتنا لأسباب تحتاج إلى تحليل وتوضيح ولن تلبث أن تزول.
تشققت القشرة الخارجية واللب باق على حالته وسلامته بإذن الله، وكان بعض العوامل التي أحدثت التشقق مما لا حيلة لنا فيه؛ إذ هي رجة عنيفة ارتجت لها شعوب الدنيا بأسرها، جاءت بدايتها مع الحرب العالمية الأولى، ثم اشتدت قوتها مع أعقاب الحرب العالمية الثانية، وكان ما بين الحربين عهدا شهد ثورات ودكتاتوريات قلبت أوضاعا كثيرة، ففيها نشبت الثورة الشيوعية في روسيا وظهرت فاشية موسوليني في إيطاليا، ونازية هتلر في ألمانيا واشتعلت الحرب الأهلية في إسبانيا، وما إن بلغت الحرب العالمية الثانية ختامها؛ حتى أخذت نتائجها تتوالى - وهي لا تزال تتولى - وكان من أهم تلك النتائج قيام هيئة الأمم المتحدة، وتحرر الشعوب المستعمرة ومعظمها في أفريقيا وآسيا، واستتبع هذا التحرر زوال النموذجية الغربية في الحضارة والثقافة، فبعد أن كانت حضارة الغرب وثقافته هي المعيار الذي يقاس به مدى ما تحضر بلد أو تثقف، ارتفعت أصوات احتجاج هنا وهناك تقول: لماذا ثقافة الغرب دون ثقافات الشعوب الأخرى؟ ولماذا حضارة الغرب دون الحضارات القديمة يحييها أصحابها؟
لكن صيحات المحتجين شيء، وقوة الواقع شيء آخر، وكان ذلك الواقع القوي هو أن أخذت علوم الغرب وصناعاته تمضي تقدما وارتفاعا، وماذا يجدي صياح أمام ذلك الجبروت؟ فأصبحت خلاصة الموقف أمام الشعوب الضعيفة هي: إما أن تأخذ بأسباب القوة، وإما أن تنهار ليتحكم فيك صاحب القوة، وإن لم يكن ذلك التحكم في صورة الاستعمار القديم؛ فليكن في صورة أخرى، والصور في ذلك كثيرة، وهذا هو الذي كان، وعلى ضوء هذا التحليل (وقد يكون خاطئا) انظر إلى أي بلد شئت من البلاد التي تحررت من الاستعمار القديم، ثم أخذتها العزة بالضعف فأبت أن تمضي في طريق القوة كما يعرفه عصرنا، وأعني طريق العلم المبدع والإدارة الصارمة في دقتها، تجد أمرين متناقضين وإن يكونا متجاورين: فهناك قشرة على سطح الحياة تضطرب بنشاط، ظاهره طموح وحقيقته انتهازية وفوضى، وتحت القشة جوف جامد لا يكاد يتغير من جوهره شيء! والحق أن مثل هذه الازدواجية قد تراها على مستوى دولي كذلك! فهنالك هيئة الأمم المتحدة، لأمم غير متحدة، على قشرتها الظاهرة تعاون بين الدول على مساواة وعدل وسلام، وتحت القشرة أمم تظن كل منها أنها فوق الجميع، وعفاء على المساواة وعلى العدل وعلى السلام.
وبينما الخواطر تجري على هذا النحو نظرت إلى قطع الورق التي بعثرها الطفل اللاهي على أرض غرفتي، فأخذتني الرغبة في أن أعيد بنائها، وجمعتها ووضعتها على ظهر مكتبي، وأخرجت بكرة من الشريط اللاصق، وأخذت أبحث في القصاصات لكل جارة عن جارتها لأضمها معا بقطعة من الشريط اللاصق، ولا تسلني كم ساعة استغرقتها عملية الترميم، وكم من الجهد الجهيد بذلته بين الكلمات المتقطعة، أي الورقات تكون جارة لأيها، حتى تكاملت لي الورقة لا لتصبح كما كانت، إلا كما يعود من انكسرت رجلاه، ومشى حجلا يتكئ على العصا، إلى ما كان عليه وهو يمشي على رجليه مستويا، فالأجزاء الملصقة قد تركت بينها فجوات تتعثر عندها عين القارئ، حتى ولو كانت عينا سليمة لا تلجأ إلى عدسات لتبصر، ولكن «إلا تكن إبل فمعزى» كما كان العرب يقولون.
فلما عادت ورقتي بعد تمزقها وتجزئها إلى ما يشبه الوحدة، كانت كأنها انتقلت من ظلام إلى نور، من خرس إلى نطق، من جهل إلى معرفة، من أشلاء ميتة إلى كائن حي ... وهكذا - يقينا - تكون حالنا إذا ما أفقنا من الغيبوبة التي فرقتنا أفرادا يعمل كل لحساب نفسه وعلى حساب الضعفاء والمعوزين، فتعود بعد ذلك التجزئة إلى وحدة حقيقية، فلا حياة لجزء لا ينتسب إلى الكل الذي يحويه.
Halaman tidak diketahui