Tentang Kebebasan Saya Bercerita
عن الحرية أتحدث
Genre-genre
الفصل العشرون
خطاب من مجهول
فضضت الغلاف فخرجت لي منه رسالة من صفحة ونصف صفحة من القطع الكبير، كتبت بإنجليزية جيدة، مضروبة على الآلة الكاتبة في أحرف نظيفة، لكنها خلت من توقيع كاتبها، كما خلت من تاريخ إرسالها ، ولما كنت قد فقدت اللمح بالبصر السريع، الذي كان في مستطاعه بنظرة خاطفة أن يدرك شيئا يدلني على طبيعة المادة المكتوبة؛ فقد أزحت تلك الرسالة جانبا حتى تأتيني اللحظة المناسبة التي أستجمع فيها كل ما عندي من قوة التركيز، وقدرة على الصبر، في استعمال العدسات الكاشفة، فلست ممن يهملون الرسائل قبل التيقن من أنها تستحق الإهمال.
وعدت إلى الرسالة بعد يومين، وقد كنت رجحت لنفسي أنه من ذلك النوع من الرسائل العجيبة التي يأمرك فيها كاتبوها أن تنسخ منه خمس نسخات ترسلها إلى خمسة أشخاص، وإلا أصابك السوء، وفي جميع تلك الحالات لا أتردد لحظة في تمزيقها وإلقائها مع المهملات، ولقد علمت من بعض أصدقائي أنهم في حالات كهذه يأخذون بالأحوط، ويفعلون ما أمروا أن يفعلوه، نعم، كنت ظننت أن الرسالة التي جاءتني هي من هذا النوع العجيب؛ لأني كنت استطعت قراءة أول جملة فيها، وهي التي تقول: «هذا خطاب جاد، من رجل جاد وصادق.» إلا أن الرسالة لو تحقق لي أنها من ذلك النوع الذي أشرت إليه، كانت الأولى في نوعها التي جاءتني بالإنجليزية، وفي مثل هذه الصياغة الجيدة، والطباعة النظيفة، لكنني حين قرأتها وجدتها أبعد ما تكون عما ظننت.
بدأت الرسالة المجهول كاتبها بما تكون ترجمته إلى العربية ما يلي: هذا خطاب جاد، من رجل جاد وصادق، إلى أستاذ جاد وصادق وبحاثة، ولقد تركت خطابي بغير توقيع، لأنني أرتاب في أن يكون بريدك مراقبا، فينكشف أمري، وهو ما لست أريده. «إنك تحاول جاهدا أن تقول إننا إذا أردنا لأنفسنا البقاء، مشاركين في حضارة العالم بما نضيفه إليها «كما كان شأننا في الماضي» فلا بد لنا من مزج تراثنا، أو - على الأقل - من تطعيمه بثقافات الآخرين، وبثقافة الغرب على وجه الخصوص، فإذا لم أكن أخطأت الفهم عنك، فأنا مؤيدك في حملتك ابتغاء التجديد، لكنني في حيرة، كيف يمكن تحقيق هذا الحلم؟ إن تراثنا إسلامي في الأساس ...»
وهنا أخذ صاحب الرسالة يضرب لي الأمثلة ليقول لي بها ما معناه أنه إما إسلام وإما ثقافة هذا العصر وحضارته، أما أن يتلاقى الاثنان فضرب من اجتماع نقيضين لا يجتمعان. والأمثلة التي يسوقها، بعضها يدخل في باب «العقائد»، وبعضها الآخر يقع في باب «الشريعة»، وعنده أن هذا وذاك معا لا يتسقان مع العلوم المأخوذ بها في هذا العصر، فكيف يكون التوفيق؟ ويذكر الكاتب في رسالته أنه مسلم، ربي على أن يكون قوي الإيمان بإسلامه، لكنه لم يعد يرى كيف يتحقق له ذلك، ويظل آخذا بأسباب الحياة مع العصر في حضارته وفي ثقافته، وهو ما يراه ضرورة لا مندوحة له عنها.
ولعل هذه الحقيقة الأخيرة عن صاحب الرسالة هي التي دفعته إلى الحرص بأن يبقى مجهول الهوية حتى لا يتعرض للأذى، ومهما يكن من أمره فلقد شعرت شعورا قويا بعد قراءة تلك الرسالة، بوجوب الرد عليها؛ لأن محور الخطأ عنده، موجود عند كثيرين غيره، ممن لا يستطيعون توضيح موقفهم بمثل ما استطاع صاحب الرسالة توضيح موقفه، وأعني بذلك المحور تلك الفكرة الباطلة التي كأنما أصحابها يريدون أن يقولوا: إما إسلام وإما هذا العصر بكل علومه وتقنياته، وهي فكرة شاعت حتى أصابتنا بما يشبه الشلل، ولقد سبق لي في مناسبات كثيرة أن قاومتها؛ لأنني أومن بأنه لو كان المسلمون في قوتهم الأولى، مع هذا العصر وظروفه، لكانوا هم الذين أقاموا حضارة العصر وظروفه، لكانوا هم الذين أقاموا حضارة العصر وثقافته، بكل هذا الذي نراه حولنا من اختراق للآفاق، فليس في كل مقومات عصرنا الأساسية شيء يأباه الإسلام عقيدة وشريعة، والآن فلننظر إلى الأمر نظرة قريبة وفاحصة.
وعلى سبيل التمهيد، أوجه الخطاب إلى صاحب الخطاب، بعد أن أحيطه علما بما قد لا يعلمه عن البريد ومراقبته، وهو أنه لم يحدث قط أن فتح لي خطاب ليراجعه رقيب، وربما كانت إشارة صاحب الخطاب في ذلك إلى فترة زمنية غير الفترة التي نعيش في ظلها اليوم، وأنتقل إلى موضوعنا فأقول: إن خطابك يا صاحبي، باللغة الإنجليزية الجيدة التي كتب بها، يدل على أنك ضالع في الثقافة الإنجليزية إلى حد بعيد، فإني أوجه إليك هذا السؤال: اختر لنفسك من تشاء من رجال الثقافة في بريطانيا، بحيث تراه مجسدا بشخصه لروح هذا العصر الذي نعيش فيه، ثم افترض أن من اخترته قد أسلم، فما الذي يتغير في موقفه «العصري» بسبب إسلامه؟ وأرجوك أن تأخذ سؤالي هذا مأخذ الجد، فلقد بدأت خطابك معلنا أنك رجل «جاد وصادق»، وتأمل سؤالي في روية وأناة، فإذا وجدت أن المثقف العصري الذي اخترته لن تنتقص عصريته تلك مقدار شعرة بسبب إسلامه، كان معنى ذلك أنه لا تعارض بين عقيدة المسلم وبين رؤية عصرية يتخذها لنفسه، من ذا تريد أن تختار من رجال الثقافة المعاصرين في بريطانيا؟ هل توافق على اختيار علمين كانا صديقين ولكنهما اختلفا اتجاها، وأعني أولدس هكسلي وتشالز سنو؟ فأولهما نزع منزع الصوفية الشرقية، والثاني فاضل بين العلم والأدب في حياة الإنسان، فجعل الرجحان للعلم، وقد كان هو نفسه عالما وأديبا في آن معا! إذا وافقت على هذا الاختيار المزدوج، الذي يسمح لنا بشيء من المقارنة المفيدة، وإذا فرضنا أن الرجلين قد أسلما، فكيف تتأثر رؤيتهما «العصرية» بإسلامهما؟ نعم إن أساس العقيدة الدينية يتغير بالطبع، لكنهما لن يجدا في عقيدة الإسلام ما يحول أيا منهما دون أن يأخذ في دنيا ثقافته بما أخذ، فإذا فرضنا أن جانبا من أهم جوانب الرؤية عند أولدس هكسلي هو ارتيابه في أن يكون هذا التقدم السريع للعلوم يخدم حياة الإنسان، إلى الحد الذي جعله يصرخ بأن العلم يجب أن يقف في وثباته عند حد، وإذا رأينا أنه نزع إلى حياة المتصوفة نزوعا قويا، فهل يجد في عقيدة الإسلام ما يصده عن تلك الرؤية وما يرده عن هذا النزوع؟ ثم انظر إلى صديقه تشارلز سنو في إعلائه من شأن العلم على الأدب «وهو - كما قلنا - مرموق في العلم وفي الأدب معا.» فهل يجد في عقيدة الإسلام ما يستنكر عليه هذا الإعلاء للعلم على الأدب؟ إن المسلم بإسلامه يؤمن بأن الله أحد، وبأن الله صمد، وهذا التوحيد هو صميم الرسالة الإسلامية، فهل تقف عقيدة التوحيد حائلا بين المؤمن بها وبين الرؤية العصرية؟
والآن فاعكس الاتجاه، واختر من شئت من المسلمين الذين عرفوا بتشربهم للثقافة الغربية، وانظر في عمق إلى ما قد طرأ عليهم من تغير بسبب تلك الثقافة، ثم قل لي بعد إمعان النظر إذا كان إسلامهم قد اهتز، لا، بل إني لأجد نقيض ذلك تماما، وهو أن التزود بثقافة الغرب من شأنه - على الأرجح - أن يفيد صاحبه في عمق نظرته إلى الإسلام، عمقا قد يؤدي به إلى فهم لا يتاح مثله لمن لم يتسع أفقه بمقارنة الثقافات بعضها ببعض، فكثيرون جدا هم علماء الإسلام في عصرنا هذا، الذين نالوا درجاتهم العلمية في جامعات الغرب، ولم يكن ذلك ليؤثر فيهم إلا بأن ازدادوا بإسلامهم وعيا ولإسلامهم فهما، وذلك كله لأن الإسلام وثقافة العصر ليسا نقيضين، وإنما تجيء الثقافة إلى إسلام المسلم فتلقى فيه رحابة صدر وحسن قبول، ومن أين يأتي التناقض والإسلام أساسا رسالة أخلاق، وثقافة الغرب والمعاصرة - أساسا - ثقافة عصبها علوم، والذي بين الأخلاق والعلوم إنما هو أن تضاف تلك إلى هذه، لا أن يصطرع الطرفان، وإنني لأجد المعنى غزيرا في قول الإمام محمد عبده، عندما زار إنجلترا، بما معناه: لقد تركت في بلدي إسلاما بغير مسلمين، وجئت هنا لأجد مسلمين بغير إسلام، فالإسلام مبادئ أخلاقية، قد يتخلق بها الإنسان إذا أحسنت تربيته، دون أن يكون في عقيدته مسلما، والعكس وارد أيضا، وهو أن يكون الإنسان بعقيدته محسوبا على الإسلام دون أن يعلو بتربيته إلى ممارسة المبادئ الأخلاقية التي يدعو إليها الإسلام.
وننتقل مع صاحب الخطاب - بعد هذا التمهيد الطويل - إلى الخطأ الأساسي في محور التفكير عنده، مما أدى به إلى الحيرة التي عبر عنها في خطابه، ثم إلى ما بعد الحيرة من اهتزاز في العقيدة، وذلك الخطأ الأساسي عنده - كما أراه - هو في الخلط بين رسالة «الأخلاق» ورسالة «العلم» خلطا جعله يتوقع من الأولى أن تتحدث إليه باللغة التي تتحدث بها الثانية، ولو أنه فرق التفرقة الواضحة بين المجالين، لما وجد ما يدعو إلى حيرة، فضلا عن أن يجد ما يدعو إلى التشكك في العقيدة، فالعلم تجريبي، يصحح نفسه بنفسه عصرا بعد عصر، والعقيدة التي تحمل في طيها رسالة خلقية، مطلقة لا تتغير بتغير الزمان والمكان، وإن تغيرت مواقف تطبيقها، وإذا لجأ العلم إلى «رموز» تضبط له معانيه؛ كانت هي رموز الرياضة أو ما يشبهها، وأما إذا لجأت عقيدة الأخلاق إلى رموز توضح معانيها، كانت هي رموز البلاغة في التصوير والتوضيح. وأقول ذلك لأنك - والخطاب موجه إلى صاحب الخطاب - قد أردت - في الأمثلة التي سقتها - أن تفهم لغة العقيدة الأخلاقية على الأساس الذي تفهم به لغة الفيزياء والكيمياء، فوقعت في حيرتك وما هو بعد الحيرة.
Halaman tidak diketahui