Tentang Kebebasan Saya Bercerita
عن الحرية أتحدث
Genre-genre
وفي هذه المناسبة أروي عن بحث علمي كنت قد اطلعت على تفصيلاته وأفدت منه فائدة كبيرة، وهو بحث تجريبي قام به أستاذ علم الاجتماع في جامعة هارفارد، أراد به الباحث أن يعرف مدى الارتباط بين المادة التي يقرؤها أطفال المدارس في مطالعاتهم المقررة وبين ما يكون عليه المجتمع، ازدهارا أو ذبولا، عندما يكون هؤلاء الأطفال قد أصبحوا هم الرجال والنساء الذين على عواتقهم تقوم تبعات الحياة، فالارتباط الذي بحث عنه الباحث، وهو بين اللغة المقروءة في عهد الطفولة وبين ما يصيب المجتمع من تقدم أو تأخر، بعد ذلك العهد بنحو ثلاثين عاما، وكانت الطريقة التي اتبعها الباحث في دراسته تلك هي أن اختار من التاريخ الأوروبي فترات ازدهار وفترات انكماش، ثم ارتد بالسنين في كل فترة من تلك الفترات المختارة نحو ثلاثين سنة ليستعرض بالتحليل العلمي الدقيق ما كان يقرؤه أطفال المدارس عندئذ، وما هو إلا أن خرج من بحثه بنتائج فيها من الصواب رجحان حاسم، ومؤداها أن الارتباط قوي بين القراءة الحاثة بمضمونها على روح النشاط والابتكار والطموح، وبين ما يظهر بالفعل في حياة الناس العملية من تلك الصفات، بعد فترة القراءة لهؤلاء الأطفال، بمدة يصبحون بعدها هم الممسكين بالزمام في حياة المجتمع.
للكلمات كل هذا السلطان على عقول البشر؛ لأن الكلمات هي نفسها الأفكار، لا انفصال فيها بين مبناها ومعناها، وأقول ذلك لأني أعلم الخطأ الشائع بأن الكلمات كالأوعية الفارغة، التي قد تأتي لها المعاني فتملؤها، أو لا تأتي فتظل فارغة، أبدا ليس هذا هو حقيقة الأمر، فالكلمة تحتوي على معناها كما تحتوي الزيتونة على زيتها، أو كما تحتوي الوردة على أريجها، إذا فصلنا الزيت عن الزيتونة لم تعد زيتونة، وإذا فصلنا العطر عن الوردة لم تعد وردة، والذي يحدث - تقريبا - هو أن الزيتونة تترجم نفسها إلى زيت والوردة تترجم نفسها إلى عطر؛ وهكذا الحال في الكلمات ذات السلطان أو ذات القوة الدلالية حين تترجم نفسها إلى عمل، لولا أن الزيتونة والوردة تفنيان بعملية التحول كما تفنى دودة القز في شرنقة ثم في خيوط الحرير، فأما الكلمات فتظل محتفظة بسلطانها، لتتحول إلى عمل مرة ومرة وألف مرة، ما وجدت في الناس من يستجيبون لسلطانها، لكن هناك ما يشبه الكلمات وليس منها لأنها كلمات خاوية تستعصي على عملية التحول من حالة اللفظ إلى حالة العمل؛ لأن جوفها خواء ولا أشبه جوفها الفارغ هذا بجوف الطبلة كما تعود كثيرون أن يفعلوا؛ لأن تجويف الطبلة الفارغ هو أمر مقصود فيها لتؤدي وظيفتها حين يقرعها الطبال، وأما الكلمات الجوفاء فتصنع في نفسها ما لا يراد لكلمات اللغة أن تصنعه؛ إذ أريد بتلك الكلمات دائما أن تكون مثقلات بالفحوى، الذي من شأنه في الحالات السوية أن يغير من المتلقي قليلا أو كثيرا، ونحن هنا إنما نعني - بالطبع - كلمات اللغة حين تبنى في جمل؛ لأنها وهي مفردات، تشبه المادة الخام قبل تصنيعها.
رسالات السماء كلمات، ورسالات المصلحين من البشر كلمات، والعلوم كلمات، أو هي رموز كالكلمات، مبدعات الشعراء والأدباء الناثرين كلمات، لكن الكلمات في تلك الحالات كلها إنما هي من ذوات السلطان، تجيء وفيها من القوة ما يدفع الناس دفعا إلى مجاهدات ومغامرات، ومنشآت تنسج خيوطها بعضها مع بعض لتصبح آخر الأمر هي ثقافة الإنسان وحضارته، وبين الثقافة والحضارة ما بين الروح والجسد ، فالحضارة منشآت تراها الأبصار وتمسها الأيدي أدت إليها ثقافة تسري فيها بقيمها وأذواقها ومعتقداتها سريان الروح في الجسد، فترى الجسد ناشطا بفعلها ، لكنك لا تراها، فإذا سألتني: ومتى تكون جملة الكلمات ذات سلطان على الناس؟ أجبتك بقولي: انظر إليها كم تحرك بها الناس نحو أن يغيروا ما بأنفسهم ليغير لهم الله ظروف معاشهم، فإذا وجدت الجملة قد وقعت بكلمات على صمم، فقل عنها إنها قد كانت - لأمر ما - كالهباء يسقط على الأجساد فلا تحسه الأجساد، فالكلمات بنتائجها، وأذكر أن ابن جني الذي حدثتك عنه وعن كتابه في خصائص اللغة العربية منذ حين، أذكر أنه قد فرق لنا بين «القول» و«الكلام»، بأن القول تتحرك به الشفاه، سواء أكان له أثر يدوم في حياة الناس أم لم يكن، وأما «الكلام» فهو من الأصل اللغوي نفسه الذي منه جاءت لفظة «كلم» (بتسكين اللام) وهو الجرح، والمكلوم هو الجريح، فالكلام هو الذي يحز الجلود حزا ليدوم له في حياة الناس أثرا، وليترتب عليه - بالتالي - فعل يغير من صورة تلك الحياة.
وهنا أشعر بضرورة التنبيه إلى أن مجموعات الكلمات ذوات السلطان في تغيير الحياة، ليس كلها من نوع واحد، ففيها ما سلطانه مباشر على ما يراد استحداثه وتغييره، وهذه هي العلوم، أو ما يدور مدارها من ضروب الكلام الذي تنصب دلالته على دنيا الواقع انصبابا مباشرا، ولكن منها كذلك ما يفعل فعله بطريق غير مباشر، وتلك هي مبدعات الأدب أو ما يسير مسارها؛ لأن العمل الأدبي كقصيدة الشعر أو الرواية، غايته هي أن يترك عند المتلقي «انطباعا» من شأنه أن يميل به على المدى القصير أو المدى البعيد نحو أن يكون لنفسه «اتجاها» معينا نحو الحياة وأوضاعها، ولكي أزيد الواضح وضوحا بمثل أقدمه أقول: قارن مهندسا في تخطيط المدن وهو يجري تغييرات جغرافية على بعض شوارع القاهرة، قارنه بأديب يكتب عن سلوك القاهريين نحو مدينتهم ليتبين القارئ مقدار ما يكنه أهل القاهرة من ولاء نحو مدينتهم، فبينما المهندس يغير بعلمه ما يريد تغييره على أرض القاهرة في مدة يعرف حسابها، ترى الأديب - إذا كان موفقا - يعرض على قارئه صورة يرسمها في روايته - مثلا - لحياة الناس كما تقع فيتأثر القارئ بما قرأ، ويختزن في نفسه ذلك الأثر لينضاف إليه أثر ثان من عمل أدبي آخر، وأثر ثالث ورابع، فتنسج من هذه التأثرات «حالة» وجدانية، قد يشتد بها ضيقا فيتحرك ضميره ليغير من سلوكه نحو مدينته، فكلمات العلم عند المهندس وكلمات الأدب عند الأديب، كلتاهما من ذوات السلطان، إلا أن الأولى تفعل فعلها - كما أسلفنا - مباشرة، والثانية تؤدي عملها مرورا بأنفس القراء وتحولها التدريجي نحو «اتجاه» جديد.
وربما يكون من المفيد في توضيح الصورة العامة التي أود لها أن ترسخ في الأذهان أن أقول: صور لنفسك هذا العالم الذي نحيا بين جنباته وكأنه صفحتان منشورتان بين يديك، إحداهما هي الكون بكل ما فيه من كائنات والأخرى هي مجموعة الكلمات التي أثبتها الإنسان على طول تاريخه في كتب وصحف وما شئت أن يكون مضافا إليها مجموعة الألفاظ التي تدور بها الأحاديث بيننا، فعلى يسارك أشياء وظواهرها، وعلى يمينك رموز لغوية أو ما يشبهها من رموز العلوم. ثم وجه إلى نفسك هذا السؤال: متى أحفل ومتى لا أحفل بما هو موجود في هذه المجموعة الضخمة من المركبات اللفظية التي تملأ الصحف والكتب وتجري على ألسنة الناس أحاديث يتبادلونها بعضهم مع بعض؟ فبماذا تجيب عن سؤالك هذا؟ أما أنا فأجيب لك عنه، وأقول إن المعول فيما أحفل به وما لا أحفل به هو مقدار علاقة المركب اللفظي الذي على يميني بالأشياء وظواهرها (وبينها الإنسان نفسه) التي على يساري فإذا وجدت في دنيا اللفظ كلمات بث فيها سلطان تقوى به على تثبيت الصالح وتغيير ما عداه حتى يصلح احتفلت بها لأنها هي الأداة الفعالة التي أسلح نفسي بها عند مواجهتي لأجزاء العالم الذي أعيش فيه، أما إذا وجدت في دنيا اللفظ مركبات لا تقوى على أن تغير لي شيئا أو على أن تثبت لي ما أريد له أن يثبت؛ أدرت لها أذنا صماء إلا أن أجريها في ساعات اللهو دردشة ألغو بها مع من ألغو في ساعات السمر.
ولكن لماذا قلت كل هذا الذي قلته؟ فعلت ذلك لأثير في نفسك - أيها القارئ - شيئا من الخوف كالخوف الذي ثار في نفسي من أن يكون بين العلل الكبرى التي أدت إلى كثير من مواضع النقص في حياتنا أن إحدى الصفحتين في دنيانا، وهي صفحة المركبات اللفظية التي نكتبها ونقرؤها لا تمس الصفحة المقابلة لها، وأعني عالم الأشياء وظواهرها إلا مسا رقيقا، فبحر الألفاظ منبسط فسيح نسبح فيه ونبلبط في لهونا وجدنا معا، وعالم الأشياء وظواهرها قائم هناك على يسارنا لا نغير منه إلا القليل، ولا تغضب أيها القارئ لهذا القول ولا تقذفه متسرعا بتهمة التشاؤم؛ لأنني لو كنت متشائما ليئست وتركت القلم في علبته، لكنني أكتب وأتحمل الصدمات.
أراد الله تعالى للإنسان أن «يقرأ» أولا ليجيء إيمانه على ضوء ما قرأه إيمانا بصيرا، وذلك رمز يراد به أن تكون للمعرفة منزلة أولى حتى يكون الإيمان إيمان العارفين، فالكلمات ذوات السلطان هي كالمصابيح ويجيء الإيمان الصحيح على هداها، فإذا رأينا من يعكس ترتيب الخطوات أدركنا أنه قد ضيع على نفسه نور المعرفة وقوة الإيمان معا، ولم يبق له إلا طيبة قلبه، وليكن واضحا أنني قصدت بهذا الترتيب الأولوية المنطقية لا الأسبقية الزمنية، بمعنى أنني قد أبدأ مع طفلي الصغير ببث روح الإيمان في قلبه، أملا أن يعود في المرحلة المناسبة من عمره فيعمل على كسب المعرفة التي يقيم عليها صرح إيمانه، ولقد روى لنا التاريخ الأوروبي قصة صدام نظري عنيف حدث في أوروبا عند لحظة من أولى لحظات التحول مما يسمى في تاريخهم بالعصور الوسطى إلى ما يسمى في تاريخهم أيضا بالعصور الحديثة، وأعني بها تلك المعركة الفكرية التي دارت بين «أبيلار» وخصومه، والتي تتلخص في قول هؤلاء الخصوم بأن الإنسان لكي يعرف لا بد له أن يؤمن أولا. فكانت صيحة أبيلار هي أن العكس أصوب إذ لا بد للإنسان من أن يعرف أولا لكي يؤمن مستندا في إيمانه إلى عقل مستنير.
وكان أول ما نزل من القرآن الكريم هو قوله تعالى:
اقرأ ، ولعل في ذلك ما يتضمن وجوب أن تكون المعرفة الصحيحة أساسا للإيمان الصحيح، ويبقى أن نسأل: معرفة ماذا؟ فنجيب على هدي القرآن الكريم: معرفة خلق السموات والأرض وما بينهما، وهنا أعود بك إلى ما صورته لك من صفحتين واسعتين منشورتين بين يديك: صفحة الكلمات من جهة، وصفحة الكون وكائناته من جهة ثانية، والحياة المثلى هي أن تكون الكلمات موصولة بالكون ليكون لها على الأشياء سلطانها.
الفصل الثامن عشر
Halaman tidak diketahui