والحكم في تحصيل الجزية كما أثبته الفقهاء: «ألا يضرب أحد من أهل الذمة في استيدائهم الجزية، ولا يقدموا في الشمس ولا غيرها، ولا يجعل عليهم في أبدانهم شيء من المكاره، ولكن يرفق بهم ويحبسون حتى يؤدوا ما عليهم، ولا يخرجون من الحبس حتى تستوفى بهم الجزية.»
فإذا أسلم الذمي فرارا من الجزية فالإسلام لا يعفيه من الزكاة، ولا من خراج الأرض بحسب ما يلزم لإصلاحها وريها، ويوجب عليه «التجنيد» الذي يعفى منه الذميون، وليس في هذا تخفيف ولا إعفاء من وجهة التكاليف التي تناط بالأنفس أو الأموال.
وليس من غرض هذه الرسالة بسط القول في النظم الإدارية والمالية إلا من جانب واحد، وهو الجانب الذي له علاقة بمهمة الفتح وعمل عمرو فيه، فإذا نظرنا إلى نظام الضرائب ونظام الإدارة عامة في عهد الرومان، والتمسنا آثارها في فتح العرب مصر، كان أوضح هذه الآثار أنها يسرت مهمة الفتح تيسيرا عظيما، فاستطاع عمرو ببضعة آلاف من الجند ما لم يكن مستطيعه بأضعاف هذا العدد، إذ كانت هزيمة الروم نكبة على الروم نكبة على الروم، وكان انتصارهم نكبة يحذرها أبناء البلاد وإيذانا بظلم فوق ظلم؛ لأنه ظلم المنتصر الذي استقر له الأمر في بلد مغلوب يحس من أهله العداء والمناقضة في أمر العقيدة وأمر السياسة. وقد وصف ساويرس بن المقفع فرح الجماهير بلقاء رئيسهم بنيامين بعد اختفائه في منفاه، فقال: إنهم كانوا أشبه شيء بصغار النعم خلي بينها وبين ألبان أمهاتها، وقال البطرق نفسه في جوابه لأسقف نيخو الذي هنأه بزوال عهد الروم: «إنني وجدت في الإسكندرية ما كنت أوده من الطمأنينة بعد ما قاسيناه من الكفرة الظالمين!»
أما السياسة التي اتبعها عمرو في تحصيل الضرائب، فكانت في جانب المصلحة المصرية كلما اختلفت الآراء بين خطتين، فلما أشار عليه زعماء الجند بقسمة الأرض والمال أبى ذلك عليهم، وراجع الخليفة عمر بن الخطاب في ذلك فأقره على رأيه، ثم اقتصد في تحصيل الضرائب حتى ارتاب الخليفة في الأمر، وحاسبه علىه حسابا عسيرا كعادته في محاسبة العمال؛ إبراء لذمته من العبث ببيت المال، وفي الكتب التي دارت بين الخليفة وعمرو في هذا الصدد بيان عن سياسة عمرو، وبيان أوضح من ذلك عن خلقه وقوة شكيمته مع خليفة لم يجترئ عليه أحد من عماله مثل اجترائه، فلما كتب إليه الخليفة «يعجب من أن الأرض لا تؤدي نصف ما كانت تؤديه»، ويعرض له ببعض الشبهات، أجابه مغضبا فقال: «إننا عملنا لرسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ولمن بعده، فكنا بحمد الله مؤدين لأمانتنا، حافظين لما عظم الله من حق أئمتنا ... وإن الله قد نزهني عن تلك الطعم الدنيئة والرغبة فيها بعد كتابك الذي لم تستبق فيه عرضا ولم تكرم فيه أخا ...»
إلى أن قال - وهو أشد ما ووجه به خليفة وما ووجه به ابن الخطاب خاصة: «والله يا ابن الخطاب لأنا حين يراد ذلك مني أشد غضبا لنفسي ولها إنزاها وإكراما، وما عملت من عمل أرى عليه متعلقا، ولكني حفظت ما لم تحفظ، ولو كنت من يهود يثرب ما زدت، يغفر الله لك ولنا ...!»
وتكررت المعارضة منه في طلب الزيادة من مال مصر حتى عزله عثمان - رضي الله عنه - وقال له حين جاءه الخراج زائدا: «أرى أن اللقاح قد درت!» فأجابه: «حين أعجفتم فصالها!»
ولم يحاول المؤرخون الغربيون أن ينكروا هذه الخطة من عمرو، ولكنهم أكدوها واستدلوا منها على نية البقاء في المنصب أو نية العمل لنفسه في المستقبل، وليس هذا بالبعيد في رأينا ولا بالمستغرب من عمرو أو غيره من الولاة، ولكنه قول يلقى على عواهنه إذا أريد به أنه كان يقتطع أموال مصر لنفسه بعد الفتح، فإن الخليفة قد حاسبه على ما زاد من عطائه - وهو مائتا دينار - فوجد فضلا سأله عنه، فقال له: إنه من التجارة فلم يتقبل منه هذا العذر، وأرسل إليه من يقاسمه الزائد من المال كعادته مع الولاة في كل بلد، ثم عزله عثمان فلم يتخلف عنده من المال ما يغنيه بعد عزله، ولو تخلفت عنده بقية تحسب من الغنى لما قال عثمان: «إن جبتك قملت منذ عزلناك!»
هذه خطته في الإدارة ونظام الضرائب بعد هزيمة الرومان، وهي الخطة التي عاهد عليها من عاهدوه فيها، ولم يتغير منها بعد ولايته الثانية في أيام معاوية إلا أنه كان المسئول عن الحكم كله في أيام هذه الولاية، فلم يكن حفظ ما زاد من المال اختلاسا من حق مفروض عليه لبيت المال في دار الخلافة.
قيل: إن عثمان - رضي الله عنه - عزله لأنه أراد أن يجعله على الحرب ويولي عبد الله بن سعد تدبير أمر الخراج! ويخيل إلينا أن عثمان - رضي الله عنه - قد نظر في ذلك إلى نظام الدواوين كما بقي من عهد الروم، وأراد أن يجعل للدفاع وللحرب واليا غير ولاة المال، وقد كان الخلفاء الأولون يبتدئون هذه النظم على غير سابقة، فيرجعون إلى سوابقها في البلاد التي حكموها بعد الفرس والرومان، وأيا كان الباعث على معارضة عمرو في هذا النظام، فلقد كان على طريقته التي انتهجها قبل تحويل إدارة الدواوين شيئا فشيئا إلى النظام الذي استلزمه تغيير سياسة مصر، من ولاية تساس لتدبير طعام الدولة الرومانية وتزويدها بالمدد لخزانتها إلى قطر يقوم بشئونه ويرسل من فيضه حصة لا ينفرد بها بين الأقطار التي كانت تشترك في دولة واحدة. •••
Halaman tidak diketahui