وكان من أهم أعمال التعمير التي تمت على يديه بأمر الخليفة فتح الخليج الذي سماه بخليج أمير المؤمنين بين نهر النيل والبحر الأحمر، فكان ممرا صالحا للسفن التي تحمل الميرة من مصر إلى الحجاز، وطالما احتاج الحجاز إلى تلك الميرة في أعوام القحط والمجاعة.
وبنى مدينة الفسطاط حول مسجده المعروف باسمه إلى اليوم، وإذا صح ما قيل في سبب تسميتها بالفسطاط، فقد بقي عمرو «الشاعر» يقظان الحس والخيال تحت آكام السياسة وأنقاض الحروب، قيل: إنه أراد أن يقوض فسطاطه فرأى يمامة قد باضت في أعلاه فقال: لقد تحرمت بجوارنا وأمر الجند أن يقروا الفسطاط حتى تطير فراخها، فبقي حتى بنيت المدينة في مكانه وسميت بالفسطاط، أو لعل السياسي هنا كان أيقظ من الشاعر؛ لأن حماية يمامة وديعة في جوار وال لهي أجدى له من البأس والرهبة في استمالة القلوب العصية إلى «الحماية» الغريبة التي فرضت عليها. •••
ومن تمام القول في سمعة الحكم الإسلامي بعد فتح مصر، أن نعرض لمسألة طال فيها الأخذ والرد بين المؤرخين وناقدي الإسلام، وهي مسألة إحراق المكتبة الكبرى بالإسكندرية!
وخلاصة هذه المسألة أن عمرا رفع إلى الفاروق خبر المكتبة، فجاءه الجواب بما نصه: «أما الكتب التي ذكرتها فإن كان فيها ما يوافق كتاب الله ففي كتاب الله عنه غنى، وإن كان فيها ما يخالف كتاب الله فلا حاجة إليه، فتقدم بإعدامها.» فوزعت الكتب على أربعة آلاف حمام بالمدينة، ومضت ستة أشهر وهي تستخدمها في وقودها.
ولم تذكر هذه الرواية إلا بعد انقضاء ستة قرون على تاريخ الفتح، فلم يعرض لها البطرق يوتيخوس الذي توسع في الكلام على فتح الإسكندرية، وكذبها ظاهر من المبالغة في عدد الكتب التي تغني أربعة آلاف حمام عن الوقود ستة أشهر! مع العلم بأن الرق الذي كانت الكتب تسطر عليه في تلك العصور لا يصلح للوقود، وأن الوالي الذي يريد إعدامها لا يسلمها لمن لعله يبيعها أو يحفظها ولا يفوته أن يعهد في نقلها إلى أصحابها وقد حملوا معهم متاعهم الذي طلبوا حمله وهم ذاهبون إلى أرض الروم، وقد حدث أن هذه المكتبة أحرقت مرات في عهد يوليوس قيصر، وعهد العاهل ثيودسيوس الذي أباد آثار الوثنية، سواء من الكتب أو التماثيل.
وكفى لتكذيب هذه الأسطورة أنها لا تشبه عملا من أعمال الفتح الإسلامي الذي اقترن بالتعمير ولم يقترن قط بالتنكيل والتدمير، ومهما يكن من صدق القول المعزو إلى عمرو في وصف مصر: «أن نيلها عجب وترابها ذهب، وأمراءها جلب، وهي لمن غلب.» فإنه لم يأخذها قط بسلطان الغلبة والرهبة، ولم يشرع فيها شرعة إلا كان رائده فيها الرفق والمودة.
الفصل الخامس
البلاد والسكان
قبل الاسترسال في بقية هذه السيرة إلى نهايتها من أعمال عمرو في مصر، نرى أن هذه السيرة تستلزم بيانا مفصلا عن حالة البلاد المصرية كما صارت إليه في الآونة التي تم فيها الفتح وقضى فيها على سيادة الدولة الرومانية، فهذه الحالة من الأسباب التي لا يغفل عنها عند تقدير عمل الفاتح العربي، وتقدير العوامل التي يسرت له الغلبة على الرومان.
وقد راجعنا بعض المراجع التي لم نقف لها من قبل، وانكشفت في السنوات الأخيرة نيات فئة من المؤرخين الغربيين الذين كتبوا عن تاريخ الرومان بمصر، كأنهم أناس من الرومان يذكرون مصابا لحق بهم، ويلتمسون العزاء عنه تارة، ويلتمسون العلة التي تعفيهم من وصمته تارة أخرى. وقد نظرنا إلى تعليلاتهم وتحليلاتهم بالنظرة التي تنبغي لها فرددنا كثيرا منها، وهتكنا الحجاب عن كثير مما كان يخفى على من يقرءون تاريخ هذه الفترة على غير التفات إلى هذه الأهواء التاريخية، بل هذه التواريخ العصرية التي تمليها في هذا الزمن «بواعث حية» كما سيرى القراء، ولعلهم يستوضحون ذلك من مواجهة الحقائق في أمر البلاد والسكان، وأبطال التاريخ المشتركين في حوادث الفتح على ذكر من هذه النيات. •••
Halaman tidak diketahui