وإن ذلك لشأنه في تقويم كل قيمة، وتفضيل كل فضيلة. •••
وفي أخلاق عمرو «عقدة نفسية» لا تفتأ تصادفنا عند المقابلة بين نقائضه، كما تصادفنا في جميع العظماء من أمثاله وأشباههم في الطبيعة والملكة، ونعني بهم أولئك الذين يلتقي فيهم الطموح والحركة وضبط النفس في سبيل المطالب التي يطمحون إليها، فما منهم أحد إلا وجدت له نقائض من الحذر الشديد والاندفاع الشديد، أو من ضبط النفس كأنه لا يعرف جمحات الشعور، ومن المجازفة كأنه لا يعرف الروية، وهي نقائض في الظاهر وليست بنقائض في الحقيقة؛ لأن قوة الطموح تفسر لنا النقيضين، فإذا هما مستمدان من ينبوع واحد وهو قوة الطموح؛ إذ إن هذه القوة الطامحة لا تزال محضرة له الأمل شاخصا باهرا نصب عينيه، فيهون عليه أن يكبح شعوره الجامح في سبيل الوصول إلى أمله العظيم، أو في سبيل المحافظة عليه بعد الوصول إليه.
ثم يثقل الكبح على هذا الطماح لقوته فيلتمس الروح منه والمنفس من قيده بالمجازفة، كما يتوق الصائم إلى العيد، والفرس الملجم إلى المراح.
فساعة المجازفة وهي ساعة التسريح من القيد، وهي ألزم له من حالة التوسط التي لا قيد فيها ولا انطلاق.
وقد كان الذين يعرفون عمرا بالدهاء وكبح الهوى، يعرفونه كذلك بالاندفاع والهجوم على المهالك، فقال عثمان يحذر منه الفاروق - رضي الله عنهما: «إن عمرا لجريء الجنان، وفيه إقدام وحب للإمارة، فأخشى أن يخرج في غير ثقة فيعرض المسلمين للهلكة!»
وشاعت عنه روايات في المجازفة، يخيل إليك أنها من أطوار الحماسيين أصحاب الخيال، لولا أن العقال يغري بالانفلات من ربقته، فيقدم الرجل الحذور على شطحات قد يحجم عندها صاحب الخيال المشبوب!
قيل: إنه تعرض للموت مرات، لاقتحامه الحصون على أعدائه في هيئة رسول أو محارب من عامة الجند في جيش المسلمين؛ فلما طلب والي قيسارية رسولا من العرب يكلمه ذهب عمرو إليه، فأعجب الرجل بحديثه وعقله وخطر له أنه قد يكون أمير العرب فيستريح منهم جميعا بقتله، فأمر له بجائزة وكسوة وبعث إلى البواب: إذا مر بك فاضرب عنقه وخذ ما معه، قالوا: وتنبه عمرو، أو نبهه أحد إلى المكيدة فرجع إلى الوالي يقول: نظرت فيما أعطيتني فلم أجد ذلك يسع بني عمي، فأردت أن آتيك بعشرة منهم تعطيهم هذه العطية، فيكون معروفك عند عشرة خيرا من أن يكون عند واحد، فقال: صدقت! عجل بهم، وبعث إلى البواب أن خل سبيله.
ورووا عنه في الإسكندرية قصة تماثل هذه القصة، وهي أنه اقتحم بعض حصونها مع فريق من الجند، ثم ارتدوا وبقي هو وثلاثة من صحبه، فعرض عليهم الروم أن يخرجوا إليهم ليبارزوهم واحدا لواحد، فتصدى هو للمبارزة، لولا أن منعه صاحبه مسلمة بن مخلد، ووقف دونه وهو يقول له: «ما هذا؟ تخطئ مرتين فتشذ عنك أصحابك وأنت أمير، وإنما قوامهم بك وقلوبهم معلقة نحوك، لا يدرون ما أمرك حتى تبارز وتتعرض للقتل، فإن قتلت كان ذلك بلاء على أصحابك، مكانك وأنا أكفيك إن شاء الله.»
قالوا: ومثل بين يدي البطريق فعجب هذا من أنفته وقوة جوابه، فالتفت إلى من في مجلسه وقال لهم باليونانية: «يظهر من أنفة هذا الرجل وكبر نفسه أنه من وجوه العرب، وربما كان من كبار قوادهم فلا ينبغي أن نتخلى عن قتله.» وكان مولاه وردان يفهم اليونانية، فأحب أن يريهم خطأهم، وبين لهم أن الذي يكلمهم إنما هو رجل من عامة الجند، فأسرع إليه فلطمه صائحا به: ما أنت ولهذا يا لكع! دع هذا المقال لمن هو أولى منك بالكلام عن قومه! فكانت هذه اللطمة سبب نجاته.
ورويت عنه روايات أخرى من هذا القبيل إن صحت كلها أو صح بعضها، أو كانت كلها اختراعا من تلفيق الرواة، فالدلالة التي لا شك فيها على كل حالة من هذه الحالات أن الرجل كانت له شهرة بالمجازفة تقبل فيها أمثال هذه الروايات، وتدعو إلى تلفيقها بما يشبه الواقع المعهود من أخلاقه.
Halaman tidak diketahui