فأجابته من الغرفة الداخلية بصوت نسائي أجش قائلة: «إني آتية.»
وانتظروا، ووقعت أبصارهم على بقايا وجبة، أو وجبات عديدة من الطعام في الأواني الملقاة فوق الأرض.
وانفتح الباب، فإذا بامرأة من الهنود الأمريكيين، بدينة شقراء تطأ العتبة، ثم تقف ناظرة إلى الغريبين محدقة فيهما، فاغرة فاها لا تصدق ما ترى، وتقززت ليننا عندما لاحظت أن المرأة كان ينقصها اثنتان من الأسنان الأمامية، وأن لون ما بقي لها من أسنان ... واقشعر بدنها، لقد كانت أسوأ من الشيخ، بدينة، وجهها مجعد، مترهلة، متغضنة، وقد تجوف خداها وتلطخا بلوثات أرجوانية اللون، وظهرت الحمرة في عروق أنفها، والتهبت عيناها، وما أقبح جيدها، وذلك القماش الغليظ الذي غطت به رأسها، ما أقذره وما أشد تمزيقه، وقد برزت بطنها وردفاها وثدياها تحت ذلك الرداء البني الذي يشبه الجوال. حقا لقد كانت أسوأ من الرجل العجوز! وتفجر هذا المخلوق فجأة بتيار جارف من الكلام، ثم اندفعت نحوها بذراعين ممدودتين، يا لله يا لله! لقد كانت منفرة جدا، ولو بقيت لحظة أخرى لخرت ليننا عليلة، ثم التصق بها نتوء بطنها وثدييها وقبلتها. يا لله! أفتقبلها، وقد سال لعابها وانتشرت منها الرائحة الكريهة؟! لا شك أنها لم تستحم قط، وكانت تفوح منها رائحة تلك المادة الكريهة، التي توضع في قوارير «د» و«ه» (وليس صحيحا ما يقال عن برنارد)، وتنتشر منها رائحة الكحول ، فحاولت ليننا أن تفر بأسرع ما استطاعت، فالتقت بوجه شائه باك، فقد كانت المرأة تبكي بصوت مرتفع.
وأخذت العجوز تتدفق في الكلام وهي تبكي، وقالت: «عزيزتي، لو عرفت مقدار سروري - بعد كل هذه السنوات - لرؤية وجه متمدن، وزي متمدن، لقد كنت أحسب أني لن أرى قطعة من حرير الحامض مرة أخرى.» ثم لمست بأصبعها كم قميص ليننا، وكانت أظافرها سوداء، ثم قالت: «وهذه السراويل القصيرة الباهرة من المخمل اللين! هل تعلمين يا عزيزتي أني ما زلت أحتفظ في أحد الصناديق بملابسي القديمة التي قدمت فيها أول مرة، وسوف أطلعك عليها فيما بعد، وإن تكن الخروق قد كثرت في الحرير الحمضي، ولكن ما أجمل حزام الكتف الأبيض، وإن كنت أقر بأن حزامك المراكشي الأخضر أجمل منه، غير أني لم أفد كثيرا من حزامي.» وبدأ الدمع ينحدر من عينيها ثانية، ثم قالت: «أحسب أن جون قد أخبرك، لقد عانيت كثيرا، ولم يكن عندي جرام واحد من السوما، لم يكن لدي سوى شراب المسكال، أتناول منه الفينة بعد الفينة، كلما أتاني به بوبي، وبوبي هذا ولد عرفته، ولكن هذا الشراب له أثر سيئ على الحس فيما بعد، إنه يصيب شاربه بمرض البيوتل، وهو فوق ذلك يبعث في الشارب في اليوم التالي إحساسا شديدا بالخجل، ولقد خجلت جدا، هل تتصورون أني حملت وأنا من «ب»، ضعوا أنفسكم مكاني (وهذه الإشارة المجردة أصابت ليننا بالرعدة)، ولكني أقسم لكم إن الخطأ لم يكن مني؛ لأني ما زلت أجهل كيف حدث هذا، وقد قمت بالتدريب المالتسي كله - وهو بالعدد كما تعلمون: 1، 2، 3، 4 - وأقسم أني ما قصرت، ولكن الحادث برغم ذلك قد وقع، وبالطبع لم يكن هنا مركز للإجهاض. وبهذه المناسبة، هل لا يزال مركز الإجهاض في شلسي؟ (فأجابتها ليننا بالإيجاب) وهل لا تزال تنعكس فوقه الأضواء أيام الثلاثاء والجمعة؟ (فأجابت ليننا بالإيجاب مرة أخرى) ما أجمل ذلك البرج الزجاجي القرنفلي!» ورفعت لندا المسكينة رأسها، وبعينين مغمضتين أعادت إلى مخيلتها - وهي مذهولة - صورة ذلك البرج اللامع، ثم قالت في همس: «وما أبدع النهر في المساء!» وتسرب الدمع الغزير على مهل من بين جفنيها المغمضين، ثم قالت: «وأذكر أنا كنا نعود بالطائرة مساء من ستوك بوجس، ثم نأخذ حماما ساخنا ونستخدم آلة التدليك المذبذبة المفرغة ... ولكن كفى كفى!» وتنهدت تنهدا عميقا، وهزت رأسها، وفتحت عينيها ثانية، واستنشقت مرة أو مرتين، ثم أفرغت مخاط أنفها فوق أصابعها، ومسحته في الجزء الأسفل من ردائها، وكشرت ليننا اشمئزازا وهي لا تشعر، فأجابتها لندا قائلة: «إني آسفة وما كان ينبغي لي أن أفعل ذلك، إني آسفة، ولكن ماذا يفعل المرء إذا لم يكن لديه منديل؟ أذكر كيف كنت أتقزز من مثل هذه القذارة، وليس عندي مطهر، ولقد أصبت بجرح كبير في رأسي عندما أتوا بي هنا أول مرة، وإنك لا تتصورين المادة التي وضعوها عليه، قذارة، وليس غير. وكنت دائما أقول لهم: «المدنية تعقيم.» وأخذت أنشدهم - كأنهم أطفالي - محببة إلى نفوسهم النظافة والحمامات والمراحيض، ولكنهم بالطبع لم يفقهوا قولي، وكيف يفقهون؟ ولكني أعتقد أني اعتدت طبائعهم في نهاية الأمر. وعلى أية حال، كيف يستطيع المرء أن يحتفظ بنظافة الأشياء، إذا لم يكن لديه ماء ساخن، ثم انظري إلى هذه الملابس، إن هذا الصوف الخشن ليس كالحرير الحمضي، إنه يتحمل كثيرا، وعلينا أن نرتقه إن تمزق، ولكني من «ب» وكنت أعمل في حجرة التلقيح، ولم أتعلم شيئا مثل هذا، فلم يكن من عملي، ثم إني تعلمت أن رتق الملابس ليس من الصواب في شيء، كنا نرميها إذا ظهرت فيها الخروق ونشتري غيرها، ومبدؤنا «إذا كثر الإصلاح قل الثراء» أليس كذلك؟ فإصلاح الأشياء ليس أمرا اجتماعيا، ولكن الأمور هنا تسير على غير ذلك، وكأننا نعيش مع المجانين، كل ما يفعلونه يدل على الجنون، ثم تلفتت حولها، وعرفت أن جون وبرنارد قد تركاها وأخذا يسيران جيئة وذهابا في التراب والقاذورات خارج البيت، ولكنها برغم ذلك أخفضت صوتها، وأسرت إلى ليننا وقد مالت عليها والتصقت بها، حتى إن هبوب دخان سم الجنين قد هز الشعر فوق خدها (وقد تصلبت ليننا وانكمشت)، وهمست بصوت خشن قائلة: «خذي مثلا علاقة أحدهم بالآخر هنا، إنهم مجانين كما قلت لك، بل وفي منتهى الجنون، نحن نعلم أن كل فرد يتعلق بكل فرد آخر، أليس كذلك؟» ثم جذبت كم ليننا وهي تتحمس في كلامها، فحولت ليننا عنها رأسها وأومأت إيجابا، ثم أطلقت نفسها المكتوم واستطاعت أن تتنفس تنفسا آخر غير ملوث نسبيا، وواصلت الأخرى حديثها قائلة: «أما هنا؛ فإن الفرد لا يتعلق بأكثر من فرد واحد، فإذا كانت علاقة أحد الأفراد بالآخرين كما عهدنا، ظنه الناس شريرا يعادي المجتمع، وكرهوه وازدروه، وقد حدث مرة أن جماعة من النسوة أتين إلي، وتشاجرن لأن رجالهن قد أتوني، ولماذا لا يأتون؟ واندفعن نحوي، وكان منظرا مريعا، لا أستطيع أن أحدثك عنه.» وغطت لندا وجهها بيديها وارتعدت فرائصها، ثم قالت: إنني أمقت النساء هنا أشد المقت، إنهن مجنونات قاسيات، وهن بالطبع لا يعرفن شيئا عن تدريب مالتس، أو القوارير، أو التفريغ، أو ما شابه ذلك؛ ولذا فهن يلدن دائما - كالكلاب، وهو شيء منفر، وإني لأصعق حينما أذكر أني ... يا لله، يا لله! ومع ذلك فلقد كان لي في جون عزاء جميل، ولست أدري ماذا كنت أصنع بغيره، وذلك رغم أنه يرتبك أشد الارتباك كلما رأى رجلا ... حتى حينما كان طفلا صغيرا. ولقد حاول مرة - لما شب قليلا ما - أن يقتل وايهو سيده المسكين - أو لعله كان بوبي - لأنه كان يتردد علي بين الحين والحين؛ وذلك لأني لم أستطع قط أن أفهمه أن ذلك هو ما ينبغي للمتمدنين أن يفعلوا، وإني أعتقد أن الجنون معد، ويظهر أنه انتقل من الهنود إلى جون؛ لأنه كان يرافقهم كثيرا، وذلك رغم قسوتهم عليه وحرمانه من أداء ما يفعل غيره من الصبيان، وكان ذلك حسنا من ناحية؛ لأنه يسر لي تكييفه إلى حد ما، وإن كنت لا تتصورين ما لاقيت في ذلك من مشقة، وكثير من الأمور لا يعلمه المرء، ولم يكن من شأني أن أعلم به، وأعني أن الطفل يسألك: «كيف تسير الطائرة؟ أو من خلق الدنيا؟ فبماذا تجيبين إن كنت من «ب» تشتغلين دائما في حجرة التلقيح؟ بماذا تجيبين؟»
الفصل الثامن
كان برنارد وجون يسيران مبطئين جيئة وذهابا خارج البيت، في التراب وفوق القاذورات (وكانت الكلاب عندئذ أربعة).
قال برنارد: «يشق علي كثيرا أن أدرك أو أن أتصور، لكأننا نعيش فوق كوكب آخر وفي قرن غير هذا القرن، ما معنى الأمهات، وهذه القاذورات، والآلهة، والشيخوخة، والمرض ...» ثم هز رأسه وقال: «تلك الأشياء لا يكاد يتصورها العقل، ولن أفهم حتى تشرح لي.» - «أشرح ماذا؟» «هذا» وأشار إلى القرية و«ذلك» مشيرا إلى المنزل الصغير خارج القرية، «اشرح لي كل شيء، وفسر لي حياتك كلها». - «ولكن ماذا عساي قائل؟» - «ابدأ من أول الأمر، وعد بذاكرتك إلى الماضي على قدر ما تستطيع.»
فقطب جون جبينه مرددا: «سأعود بذاكرتي إلى الماضي على قدر ما أستطيع.» ثم كان صمت طويل.
كان الجو حارا وقد تناولا قدرا كبيرا من خبز المكسيك ومن الحنطة الحلوة، وقالت لندا: «تعال أيها الطفل وارقد.» واستلقت إلى جانبه فوق السرير الضخم، وأخذت تتغنى بنشيد من أناشيد الأطفال، فيه حث على النظافة وفيه إشارة إلى التفريغ، ثم انخفض صوتها شيئا فشيئا.
وعلا الضجيج فاستيقظ ابنها مذعورا، وإذا برجل ضخم مربع يقف إلى جوار السرير، وكان يلقي بحديث إلى لندا، ولندا تضحك، وكانت لندا قد رفعت غطاءها حتى ذقنها، فجذب الرجل الغطاء إلى أسفل، وكان شعره كحبلين أسودين، وحول ذراعه سوار فضي جميل مرصع بالأحجار الزرقاء، وقد أعجب السوار ابنها ولكنه ذعر برغم ذلك، فأخفى وجهه في جسم لندا، ووضعت لندا يده فوقه فأحس بالطمأنينة، ووجهت إلى الرجلين كلاما لم يدركه كل الإدراك، قالت: «لا تفعل، وجون هنا.» فوجه الرجل إليه بصره، ثم وجهه إلى لندا، وأسر إليها بضع كلمات بصوت ناعم، أجابته لندا بقوله: «لا.» غير أن الرجل انحنى على السرير نحوه، وكان وجهه ضخما مربعا، وقد مس الغطاء بشعره الأسود المضفور، فكررت ليننا قولها: «لا .» وأحس الولد بيدها تضغط عليه بشدة وهي تقول: «كلا، كلا!» ولكن الرجل قبض على إحدى يديه، وآلمته فصاح، وأخرج الرجل يده الأخرى ثم رفعه إلى أعلى، وما برحت لندا ممسكة به، وهي تقول: «كلا، كلا.» وتفوه الرجل غاضبا بكلمات موجزة وأبعد يديها بغتة، فركله الطفل بقدميه وتلوى قائلا: «لندا، لندا.» لكن الرجل حمله إلى الباب في جانب الغرفة الآخر، وألقى به أرضا وسط الغرفة الأخرى، ثم انصرف بعدما أغلق خلفه الباب، فنهض الولد، وركض نحو الباب، ووقف على أطراف أصابعه حتى استطاع أن يبلغ المزلاج الخشبي الكبير، فرفعه ودفع الباب ولكنه لم ينفتح، فصاح: «لندا، لندا»، ولكنها لم تجبه.
Halaman tidak diketahui