فأجابه الهمجي على الفور: «تقصد رجلا يحلم بأشياء أقل مما يوجد في الأرض والسماء.» - «بالضبط، وسوف أقرأ لك أحد الأشياء التي حلم بها في إحدى اللحظات، أما الآن فأنصت إلى ما قال هذا المنشد الكبير.» وفتح الكتاب عند الصفحة التي أشير إليها بشريط من الورق، وقرأ ما يلي: «إننا لا نملك أنفسنا أكثر مما نملك ما بأيدينا، إننا لم نخلق أنفسنا، ولا نستطيع أن نعلو على أنفسنا، لسنا سادة على أنفسنا، نحن ملك الله، أليست سعادتنا إذن في هذه النظرة إلى الموضوع؟ هل نسعد أو نطمئن إذا ظننا أننا ملك لأنفسنا؟ قد يحسب ذلك الشباب والمترفون، قد يظن هؤلاء أن تسيير الأمور على هواهم - دون الاعتماد على أحد - أمر عظيم، فلا يفكرون في شيء بعيد عن الأنظار، ويخلصون من مشقة الاعتراف الدائم، والصلاة المتصلة، ونسبة أعمالهم دائما إلى إرادة غير إرادتهم، ولكن كلما تقدم الزمن أدركوا - كما أدرك الرجال الآخرون جميعا - أن الاستقلال لم يخلق للإنسان، وأنه حالة غير طبيعية، وأنه قد يغنينا فترة من الزمن، ولكنه لن يحملنا آمنين حتى النهاية ...» وسكت مصطفى مند لحظة، وألقى الكتاب الأول والتقط الآخر وأخذ يقلب صفحاته، ثم قال: «خذ هذا مثلا.» وشرع يقرأ مرة أخرى بصوته العميق: «إن الإنسان يتقدم في السن، ويحس في نفسه إحساسا قويا بالضعف، والفتور، والقلق، وهي إحساسات تلازم تقدم العمر، ولما كان هذا هو شعور الإنسان فهو يتصور أن به علة من العلل، ويخفف عن نفسه جزعها باعتقاده أن هذه الحالة التي سببت له الضيق، ترجع إلى سبب خاص بأمل أن يشفى منه كما يشفى من أي مرض من الأمراض، ذلك وهم باطل! تلك العلة هي الشيخوخة، وهي علة شنيعة.» يقولون: «إن الخوف من الموت ومما يأتي بعد الموت هو الذي يحول الناس إلى الدين كلما تقدمت بهم السن، ولكن تجربتي الخاصة أقنعتني أن العاطفة الدينية - بغض النظر عن هذه المخاوف والأوهام - تنمو في الإنسان كلما تقدمت به السن، وهي تنمو لأن الميول القوية تهدأ، والخيال والإحساسات تقل حدتها وتضعف قابليتها للتهيج، ويقل اضطراب العقل وما يخيم فوقه من أوهام ورغبات وأسباب للهو يهيم فيها، حينئذ يبرز الله وكأنه يخرج من خلف سحابة، وتحس الروح وترى وتتحول نحو مصدر النور كله تحولا طبيعيا لا مفر لها منه؛ وذلك لأن كل ما كان يعطي الحياة والسحر لعالم الإحساسات بدأ يفلت منا؛ ولأن الوجود الظاهري لم يعد يستند إلى الآثار الباطنة والظاهرة، فنحس بالحاجة إلى الاعتماد على شيء ثابت لا يخدعنا؛ على حقيقة واقعة، أو حق مطلق دائم، نعم لا مفر لنا من التحول نحو الله؛ لأن هذه العاطفة الدينية بطبيعتها صافية، تسر الروح التي تحس بها، فهي تعوضنا كل ما خسرنا.» وأغلق مصطفى مند الكتاب، ثم استند إلى مقعده وقال: «إن من الأشياء العديدة في الأرض والسماء التي لم يحلم بها هؤلاء الفلاسفة هو هذا (ولوح بيديه)، هو نحن، أو العالم الحديث.» لقد قيل: «إنك لا تستقل عن الله إلا إن كان لديك راحة وشباب، ولكن الاستقلال لا يحملك بأمان حتى النهاية . ونحن الآن نتمتع بأسباب الراحة والشباب حتى النهاية، فماذا يتبع ذلك؟ الاستقلال عن الله من غير شك، وقيل: «إن العاطفة الدينية تعوضنا كل ما خسرنا.» وليست لدينا خسائر نعوضها، فالعاطفة الدينية إذن نافلة من النوافل، ولماذا نتصيد عوضا عن رغبات الشباب، إذا كانت رغبات الشباب لا تفتر قط؟ وعوضا عن المسليات، إذا كنا لا ننقطع عن التمتع بالسخافات القديمة حتى النفس الأخير؟ ما حاجتنا إلى الراحة إذا كانت عقولنا وأبداننا تستمر في تمتعها بالنشاط؟ وما حاجتنا إلى السلوى وعندنا السوما؟ وإلى شيء ثابت وعندنا النظام الاجتماعي؟» - «إذن فأنت تعتقد أن ليس هناك إله؟» - «كلا، أظن أنه يحتمل أن يكون هناك إله.» - «إذن فلماذا ...؟»
فأسكته مصطفى مند قائلا: «لكنه يظهر على صور مختلفة لمختلف الرجال، كان يظهر في الأزمنة السابقة للعصر الحديث ذلك الكائن الموصوف في هذه الكتب، أما الآن ...»
فسأله الهمجي: «كيف يظهر نفسه الآن؟» - «إنه يظهر كأنه غائب، أو كأن لا وجود له البتة ...» - «هذا خطؤكم.» - «بل قل إنه خطأ المدنية، إن الله لا يتفق والآلات والطب العلمي والسعادة العالمية، ولا بد من الاختيار، وقد اختارت حضارتنا الآلات والطب والسعادة؛ لذا أراني مضطرا إلى الاحتفاظ بهذه الكتب في خزانة موصدة. إنها بذيئة، ويصدم الناس لو ...»
فقاطعه الهمجي قائلا: «ولكن أليس من الطبيعي أن يشعر المرء بوجود الله؟»
فقال المراقب متهكما: «كأنك تقول أليس طبيعيا أن يزر المرء سراويله بالمشبك، إنك تذكرني برجل آخر من أولئك القدامى اسمه برادلي. إنه عرف الفلسفة بأنها: التعليل السيئ لما يعتقد المرء بالغريزة، كأن المرء يعتقد في أي شيء بالغريزة! إن المرء يعتقد في الأشياء لأنه تكيف على الاعتقاد فيها، إنما الفلسفة هي التعليل السيئ لما يعتقد المرء لأسباب أخرى سيئة، إن الناس يعتقدون في الله؛ لأنهم تكيفوا على العقيدة فيه.»
فأصر الهمجي على رأيه وقال: «ولكن بالرغم من ذلك، أرى أنه من الطبيعي أن يعتقد المرء في الله أثناء الوحدة؛ الوحدة المطلقة، في ظلمة الليل، وهو يفكر في الموت ...»
فأجاب مصطفى مند بقوله : «ولكن الناس لا يكونون اليوم قط في وحدة، إننا نجعلهم يمقتون العزلة، ونرتب حياتهم حتى يكاد يستحيل عليهم أن يجدوها.»
فأومأ الهمجي برأسه مكتئبا، وتذكر أنه عانى كثيرا في مالبي؛ لأنهم أقصوه عن نشاط أهل القرية الاجتماعي، وأنه عانى في لندن كثيرا؛ لأنه لم يستطع أن يفر من ذلك النشاط الاجتماعي، ولم يهدأ وحده لحظة.
وقال الهمجي في النهاية: «هل تذكر هذه الأسطر التي جاءت في رواية «الملك لير»: «إن الآلهة عادلة، فهي تجعل من رذائلنا الممتعة أداء لبلائنا، إن ذلك المكان المظلم المرذول الذي أتى بك فيه قد كلفه عينيه».»
1
Halaman tidak diketahui