Dunia Empangan dan Sekatan
عالم السدود والقيود
Genre-genre
رأيت مرة طفلا صغيرا من الأطفال الذين يودعونهم سجن مصر ريثما ينقلونهم إلى سجن الأحداث في الجيزة، وكان هذا الطفل مع أقرانه الصغار ينتظرون الترحيل في فناء السجن المعرض لأنظار الرؤساء والسجانين، فمر به سجين من العائدين في جريمة السرقة، فرفع له الطفل رأسه وناداه بلهجة المسكنة الطبيعية التي يستشعرها الصغير في غيبة أهله وقال له: (جوعان)!
فتمهل اللص العائد هنيهة ثم قال له: «وماذا أصنع لك يا بني؟!» وانصرف آسفا فظننته لا يعود ولا يفكر بعد ذلك في الطفل المستغيث، ولكنه ما لبث أن عاد بعد دقائق ومعه رغيف سرقه من المخبز فقسمه نصفين وأعطى الطفل نصفه واستبقى لنفسه النصف الآخر، ولو نظروه وهو يسرق الخبز لما نجا من الجلد الأليم أو من السجن على انفراد.
ورأيت رجلا شيخا نازلا من درج المستشفى وهو لا يقوى على الحركة، ولا يجد الممرض الموكل به وبغيره من يقوى على حمله، وكان على مقربة منه يافع لم يتجاوز السادسة عشرة لا يدل مرآه على ضلاعة ولا على صحة سليمة، فشق عليه أن يبصر الشيخ المريض يتعثر في خطاه ويئن من وجعه، وتقدم إليه فحمله ومشى به على جهد شديد حتى أعياه حمله دون أن يكفله الممرض ذلك أو يخطر له أنه قادر على هذا العبء الفادح ليافع مثله.
وتلاحى شيخ فان وفتى عارم مشهور بالشر والعربدة في السجن وفي الحي الذي يعيش فيه، فسبه الشيخ سبا لا يطيقه من كان فتى في سنه، ولا يأمن من يسبه به أن يستهدف لضربة قاسية، فما صنع الفتى المسبوب إلا أن بدا عليه الدهش والتردد لحظة، ثم هز رأسه وقال لمن حوله: «انظروا إلى الرجل الشايب يعيب ولا يخجل! ...» وقال للرجل الشايب: «لو غيرك قالها لقتلته! ولكن ماذا عسى أن أعمل لك وأنت أكبر من أبي؟»
وهذه على التحقيق ظاهرة اجتماعية ملحوظة في أخلاق الأمة المصرية بأسرها، سببها فيما أرى قدم العهد في هذه الأمة بحياة الأسرة والحياة الاجتماعية والبيتية على إجمالها، ولهذه الظاهرة في تكوين الأخلاق وتحويل العادات قرار عميق لا يغفل عنه المصلح الاجتماعي المشغول بأطوار هذه الأمة العريقة، ومن زمام هذا الخلق الأصيل ينبغي أن يتناول المصلح الاجتماعي أهم دواعي الإصلاح فيمن يحتاجون إليه من الضالين والزائغين، سواء كانوا من نزلاء السجون أو من الطلقاء الذين نجوا من العقاب ولم ينج الناس مما يجترحون عامدين وغير عامدين.
الوعظ
من المناظر - ولك أن تقول من المسامع - القليلة المؤنسة في السجن حلقات الوعظ التي يعقدونها بين حين وآخر، ففيها يتسنى لمن بالسجن أن ينظروا إلى اجتماع إنساني يخاطب فيه السجناء خطاب أصحاب النفوس التي قد يثمر فيها الكلام وقد يرجى لها العلاج!
رأيت أول حلقة من هذه الحلقات يوما من أيام الاثنين على ما أذكر، إذ كان بعض الحراس ينطلقون بين الحجرات ينادون: «المسيحيين المسيحيين» وأنا أعجب لهذا النداء ولا أدري لماذا يجمعون المسيحيين وحدهم دون بقية السجناء، وقبل أن أسأل أحدا عن القصة رأيت الواعظ المسيحي في ثيابه السود، فذكرت الوعظ في السجون وانتظرت أثناء الرياضة الصباحية حتى أسمع ما يقول باسم الدين لهؤلاء الخارجين على الشرع والقانون.
وما هي إلا لحظات معدودات حتى أقبل السجناء المسيحيون أفرادا متفرقين من مذاهب شتى لا تجمعها كنيسة واحدة، فجلسوا بين يدي الواعظ القرفصاء إلى زاوية مشمسة في فناء السجن، وجلس هو على كرسي وفتح التوراة وأخذ يقرأ منها ما صادفه من القصص، ويشرح معناها بصوت يعلو ثم يعلو حتى يسمعه من في الميدان القريب.
ومنذ ذلك اليوم كان يطيب لي أن أشهد هذه الحلقات وأسمع ذلك الواعظ كل يوم اثنين؛ لأنه كان يتحدث عن قصص التوراة حديث الحاشية المخلصة عن النوادر الملكية التي تقع بين كبار السلاطين وكبار الأتباع ذوي الدالة عليهم، وكان يروي التجارب التي يبلو بها الله أنبياء بني إسرائيل كأنها مفاجآت الأب الشيخ الحكيم حين يمتحن مدارك الأبناء الصغار، ويغتبط بما يراه من حيرتهم البريئة وضعفهم المستسلم، ويضحك أحيانا ضحك العطف والرجاء حين يكشف لهم عن دعواهم القاصرة وغرورهم المتعجل، فيطيب لي أن أرى التوراة منقولة إلى عالم الخيال الفطري والتصوير الشعري والتمثيل الفني الذي لا تكلف فيه.
Halaman tidak diketahui