قال صبيح، وقد أخذت دموع هادئة تتساقط على وجهه، وقد ازداد صوته عذوبة، وحديثه رقة، وقد أخذ بزمام الراحلة: على رسلك يا مولاي! فإني انتظر هذا الحديث منذ أعوام طوال. وإنك لو تعلم شوقي إليه وكلفي به، وما احتملت في انتظاره من ألم، وما تكلفت من جهد، وما عانيت من لوعة، لرفقت بي، وأشفقت علي، وتلطفت معي في الحديث.
قال الشيخ: ما رأيت كاليوم غلاما روميا يعنى بأمر فتى من قريش. ثم رق له وعطف عليه وقال: سلني من أمر محمد عما أحببت يا بني؛ فما أرى إلا أن لإلحاحك في السؤال عنه شأنا!
قال صبيح: ألم يكن قد جهر بأمره حين تركته في مكة؟
قال الشيخ وقد أخذ يعجب مما يسمع، وقد أخذت نفسه تتنبه وتثوب: جهر بأمره! وأي أمر يا بني؟ وهل لمحمد أمر يسره ويريد أن يجهر به؟
قال صبيح: فقد كان الغيب يحجب أمره إذا حين تركته؟
قال الشيخ: أبن يا بني! فإني لا أفهم عنك منذ الآن. ما أمر محمد هذا الذي تسأل عنه؟ فإني لا أعرف لمحمد أمرا، وإنما أعرفه فتى كريما من قوم كرام، قد امتاز من أترابه بما لم نألف من طهارة النفس وشرفها، ومن سماحة الخلق وكرمه، ومن التنزه عن الصغائر والارتفاع عن الدنيات، وإنا لنحب ذلك منه ونحبه له، وتمتلئ قلوبنا إعجابا به وعطفا عليه، وإنا لنضربه مثلا لشبابنا، ونأخذهم بأن يتأثروه ويقتدوا به، فلا نكاد نبلغ من ذلك أيسر ما نريد؛ لأن هذا الفتى من فتيان قريش قد قدر له حظ من الكمال لم نألفه قط! فإنا لا نراه يوما من أمره على خير إلا رأيناه من الغد وقد ارتقى إلى خير مما عرفنا. أبن يا بني! ما أمر محمد هذا الذي تسأل عنه، وتنتظر أن يجهر به؟ ثم أشار الشيخ إلى غلمانه أن أنيخوا الراحلة، ففعلوا وأعانوه على النزول، واتخذ مجلسا، ودعا إليه صبيحا فأجلسه قريبا منه، ثم أشار إلى غلمانه فتنحوا شيئا. فلما فرغ للعبد وفرغ العبد له قال: أفصح يا غلام عن أمرك! فإن حديثك قد أهمني.
قال صبيح: فأفصح أنت يا سيدي عن أمرك؛ فإن احتفاءك بحديثي وإصغاءك إلي، ونزولك عن راحلتك، وتنحية غلمانك، وحرصك على أن تستقصي ما عندي، كل ذلك يهمني ويعنيني كما يهمك حديثي ويعنيك.
قال الشيخ: فتعلم يا بني أني رجل من قريش أنكرت من أمر قومي شيئا كثيرا، وهاجرت من أرضهم أطلب في بلادك وعند قومك ما لم أجد في بلادي وعند قومي. وقد طوفت في بلادك ثلاثة أعوام وبعض عام! وها أنا ذا أعود منها يائسا مخيب الأمل؛ لأني لم أجد فيها ما كنت أبتغي، ولأني سأجد في بلادي ما كنت أكره، وسألقى من قومي ما كنت أنكر، أو سأفارق هذه الحياة ولما أظفر بما أريد.
قال صبيح وقد أخذ منه الشوق مأخذه: ماذا أنكرت من قومك؟ وماذا ابتغيت عند قومي؟
قال الشيخ: أنكرت من قومي دينهم هذا الجافي الغليظ.
Halaman tidak diketahui