قال الفتى: ما سمعت كاليوم كلاما أحسن موقعا في النفس، ولا أيسر مسلكا إلى القلب، ولا أقدر على تهدئة الضمير. لقد كنت أريد أن أفر بعقلي من قيصر وطغيانه، فإني الآن قد فررت إليك من عقلي وجموحه. فأشعر نفسي هذا الهدوء الذي تعرف كيف تذيعه في النفوس، وأزل عني هذا الاضطراب الذي لا أستطيع عليه صبرا، ولا أملك له احتمالا. أرحني من عقلي فقد سئمته وبرمت به، وأصبحت له مبغضا، وعليه مضغنا.
قال الراهب الشيخ: رفقا بنفسك يا بني، وإنصافا لعقلك هذا المسكين الذي تعبث به كما يعبث الطفل بلعبته. لقد كنت منذ أيام تحكمه في أمرك كله، وتسلطه على نفسك وعلى كل شيء، وتراه وحده الحكم الذي ترضى حكومته، والقاضي الذي لا يرد قضاؤه. فها أنت ذا قد أصبحت ترفض عقلك رفضا، وتنبذه نبذا، وتأبى صحبته. لقد كان عقلك يتمرد عليك، فأصبحت أنت تتمرد على عقلك. أليس من الممكن أن تجد لنفسك طريقا وسطا، وأن تصاحب عقلك مصاحبة الصديق للصديق لا مصاحبة العبد للسيد؟
قال الفتى: وهل إلى ذلك من سبيل؟ لقد كلفني عقلي ما لا أطيق. ما عرضت عليه شيئا إلا شك فيه، ولا دعوته إلى شيء إلا ارتاب به، ولا رغبته في شيء إلا رغب عنه، حتى بغض إلي كل شيء وزين في قلبي حب الموت. ولقد رأيتني يوم أقبلت أنت إلى المدينة أقرأ «فيدون» تهيؤا للموت. ولولا أن بيان أفلاطون شغلني عن نفسي وعن الموت، لما حمدت عاقبة ذلك الشك الذي كنت فيه.
قال الراهب وهو يضحك: فإن أمرك يا بني لا يخلو من فكاهة. ما أسرع ما فرقت بين نفسك وعقلك! وما أسرع ما أنشأت بينهما هذه الخصومة، كأنهما شخصان مختلفان قد أصبح كل منهما لصاحبه عدوا! ومع ذلك فأين الحدود التي تفرق بين هذين الشخصين؟! إن عقلك يا بني هو الذي يتحدث الآن، وهو الذي كان يتحدث أمس. قد كان عقلك مسرفا في الإيمان بنفسه فكان طاغية متمردا، ثم هو الآن مسرف في الارتياب بنفسه فهو ذليل مستكين. وكلتا الحالتين مرض يجب أن تبرأ منه لتنتهي إلى هذه المنزلة الوسطى، فتؤمن بعقلك إلى حد، وتجحد سلطانه إلى حد، وتأخذه بما ينبغي من التواضع الذي يتيح له الفهم والتفكير وإصلاح أمرك في الحياة، ويتيح لنفسك الإيمان واليقين وهذا النحو من الغذاء الروحي الذي لا تستطيع أن تحيا بدونه.
والأمر بينك وبين عقلك، يا بني، أيسر جدا مما تظن. لم تفكر قط في المعجزات ولم تقف عندها. فلما أظهرتك على أطراف منها اطمأن إليها ضميرك، ولم يسترح لها عقلك، فهذا مصدر ما أنت فيه من الاضطراب. ولو قد استطعت أن تلقي في روعك أن هذه المعجزات التي تخرق العادة وتخالف مألوف العقل من قوانين الطبيعة ليست في نفسها إلا مظاهر طبيعية كغيرها من المظاهر، إلا أن سلطان العقل لم ينبسط عليها، لعرفت أن سلطان العقل لم ينبسط ولا يمكن أن ينبسط على كل شيء. والله يجري هذه المعجزات على أيدي رسله وأنبيائه ليظهر العقل على أنه ما زال ضعيفا قاصرا، وعلى أن علمه ما زال بعيدا، وسيظل بعيدا عن أن يحيط بكل شيء. فخليق أن يذكر هذا ولا ينساه، وأن يسلك طريقا مستقيمة متواضعة إلى ما يريد من الحق، فإنه هالك إن لم يسلك هذه الطريق. وما أرى يا بني أن أمر هذا العقل سيصلح إلا حين يجري الله المعجزة الكبرى.
قال الفتى: المعجزة الكبرى! وما عسى أن تكون؟
قال الراهب الشيخ: هي هذه التي يفهمها العقل حق الفهم، ويكبرها كل الإكبار. يفهمها فلا يستطيع لها إنكارا، ويكبرها فلا يستطيع عليها تمردا ولا طغيانا.
قال الفتى: وتظن أن هذه المعجزة واقعة يوما ما؟
قال الشيخ: بل هي واقعة، وما أرى إلا أن وقتها قد أظلنا! فإن الله أحب لعباده وأرأف بهم وأعطف عليهم، من أن يخلي بينهم وبين هذا الطغيان العقلي الذي هم فيه.
ولقد تعهد الله عقل الإنسان، ينشئه وينميه، ويمده بالقوة شيئا فشيئا، ويظهر له المعجزات بين حين وحين، يعصمه بذلك من الغرور، ويحفظه من الطغيان، ويعدل به عن السبيل الجائرة، وهو يقدر أن هذا الطفل سيبلغ أشده يوما ما، وسيستطيع أن يضع نفسه موضعها وألا يتجاوز بها حدها، ولا يخرج بها عن طورها المقسوم لها. فإذا بلغ العقل أشده وانتهى إلى هذه المنزلة من النضج، أنزل الله عليه السكينة، وأظهر له المعجزة الكبرى التي تتجه إليه، وتنفذ إلى أعماقه، وتضطره إلى الإيمان بها عن فهم وروية ويقين، لا عن خوف وفزع وإذعان.
Halaman tidak diketahui