قال الراهب مبتسما: لو استطعت أن أنتزعكم جميعا، وأخرجكم عما أنتم فيه، وأهديكم إلى هذا الدير، أو أهدي إليكم الحياة في هذا الدير، لكنت أسعد الناس وأخلقهم بالغبطة والابتهاج. فإن الله لم يتح لأحد منا نعمة تعدل القدرة على استنقاذ الناس من أنفسهم، واستخلاصهم له من آثام الحياة وسيئاتها. وأي شيء آثر عند الرجل الكريم من أن يستنقذ صديقه من الشر، ويهديه سبيل الخير! وإني ما أقبلت عليكم لأنتزع منكم أحدا، ولا لأنتزعكم من أنفسكم وأوطانكم، وإنما دعيت فأجبت، ثم سنحت الفرصة فأنا أنتهزها.
قال «كلكراتيس» ضاحكا: فإن نفسي لم تنضج بعد لحياة الدير، وما أرى أنها قريبة النضج.
قال حاكم المدينة باسما وهو يلتفت إلى الراهب: فإني قد دعوتك لأيسر من هذا. وإني أستطيع الآن، وقد حضر هذان الصديقان أن أظهرك وأظهرهما على جلية الأمر؛ فإنك لا تعلم منها شيئا، وهما لا يعلمان منها إلا قليلا.
قال الراهب: وما ذاك؟
قال حاكم المدينة: فإن مكانك منا بحيث تعلم، وقد كنت لآبائنا صديقا، وكنت بنا رفيقا. وكثيرا ما عقدت بنا الآمال، ونطت بنا الأماني. وكثيرا ما تحدثت إلينا وإلى آبائنا بأنك تدخرنا لتجارتك الواسعة، في أقطار الأرض العريضة. ثم كانت رحلتك تلك إلى بلاد العرب، ثم كانت عودتك منها، ثم كان اعتزالك للحياة والأحياء، وانقطاعك لله في ذلك الدير البعيد القائم في طرف من أطراف الصحراء.
أعرضت عنا ولم تفكر فينا، ولم تحفل بما ألم أو ما كان يمكن أن يلم بنا من الأحداث والخطوب. وما ندري ماذا صنعت بتجارتك الضخمة، وثروتك الواسعة. وما أتحدث إليك في ذلك عاتبا ولا لائما! فإنك لم تسئ إلينا، ولم تقصر في ذاتنا، وإنما ألهاك عنا ما ألهاك من أهلك ومالك ونفسك. إنما أذكرك بهذا كله لتعلم أنك إن نسيتنا فإننا لم ننسك، وإن شغلت عنا فإنا لم نشغل عنك. ثم لتعلم أني لم أدعك ولم ألجأ إليك، إلا لأنا تعرضنا لما نحتاج معه إلى رأيك ومشورتك، وإلى سلطانك العظيم على نفوسنا، وتأثيرك العميق في قلوبنا، فاعلم الآن أن قد ارتفعت الأنباء إلى قسطنطينية بأن هذين الصديقين يرتابان في دينهما، ولا يتحرجان من الإعراض عنه، وقد يستبيحان في بعض خلوتهما العبث به والإلحاد فيه. وجاء إلي الأمر من قسطنطينية أن أمتحنهما وأكشف جلية أمرهما، فإن ظهرت منهما على ريبة، أخذتهما بالتوبة أخذا شديدا، فإما قبلاها، وإما أخذتهما بالعذاب الشديد. وما أخفي عليك، وما أظنني أستطيع أن أخفي عليك أن ما ارتفع من أمر الصديقين إلى قسطنطينية حق كله، بل هو بعض الحق؛ فإنهما لا يرتابان وحدهما في الدين ولا يعبثان وحدهما بالدين، وإنما يشاركهما في الريبة والعبث ثالث لهما، هو الذي يتقدم إليه قيصر في تخييرهما بين التوبة والعذاب. وما أحسب إلا أن الأنباء ارتفعت إلى قيصر بأمري، كما ارتفعت إليه بأمرهما. وما أحسبه إلا يمتحنني بهذا الأمر الذي أصدره إلي. وقد أشرت، بعد أن دعوتك، إلى صديقي بهذا الخطب في شيء من التلطف والتلميح. فأما أحدهما، وهو «أندروكليس»، فقد أظهر مرونة ولينا وحسن استعداد لاتقاء الفتنة. وأما الآخر فتستطيع أن تنظر إليه، فإن ما يظهر على وجهه من العبوس والثورة خليق أن ينبئك ببعض أمره إن لم ينبئك به كله.
وهم «كلكراتيس» أن يتكلم، ولكن الراهب قال في صوت رقيق رفيق: إني لأرحمكم يا بني وأرثي لكم، لا من شك قيصر فيكم وارتيابه بكم، وتعريضه إياكم للفتنة والبلاء! فذلكم أيسر الخطب وأهونه، بل من شككم في الدين وارتيابكم به، وإعراضكم عنه وإلحادكم فيه. ولكني على ذلكم لا ألومكم ولا أنكر عليكم، وإنما أفهم موقفكم حق الفهم؛ فإن هذه الحياة التي تحيونها، وهذه البيئة التي تضطربون فيها، وما يختلف بين أيديكم كل يوم من الحوادث، وما يعرض من الأمر، وما ترون من سيرة القادة والسادة والوعاظ والهداة، كل ذلك خليق أن يشككم فيما تشكون فيه، ويريبكم بما ترتابون به، ويدفعكم إلى ما تندفعون إليه من هذه الحياة العابثة الماجنة التي لا ترجو لأحد ولا لشيء وقارا.
وكيف ألومكم أو أنكر عليكم وقد أنفقت أكثر عمري فيما تنفقون فيه شبيبتكم! ولولا هذه الرحلة وما رأيت وما سمعت وما بلوت فيها وما تبينت، لما كنت إلا واحدا منكم، يشارككم في العبث واللهو إن قدر على مشاركتكم فيهما، أو ينعم باستمتاعكم بالعبث واللهو إن ردته السن عن أن يأخذ بحظه منهما.
ولو تعرفون يا بني هذه اللوعة التي تحرق قلبي تحريقا، وهذه الحسرة التي تفرق نفسي تفريقا، وهذا الندم اللاذع الذي لا يفارقني يقظان ولا نائما، لو تعرفون هذا أو بعض هذا، لرحمتم أنفسكم مما أرحمكم منه، ولعدلتم بأنفسكم عن هذه الطريق التي عدلت بنفسي عنها، ولكني لا أدري كيف أنقل إلى قلوبكم ما أجد في قلبي، وكيف أشيع في نفوسكم بعض ما يشيع في نفسي، كيف أبين لكم بعض ما تبين لي من أن هذه الحياة باطل كلها، ومن أننا ننشأ آثمين، ولا نخطو في حياتنا خطوة ولا نتقدم في عمرنا لحظة، إلا علقت بنا أدران الإثم، ولصقت بنا أوضار الخطيئة، ومن أننا لو خلونا إلى أنفسنا، وانقطعنا عن الناس جميعا، وعن الأشياء جميعا، وفرغنا للندم على ما قدمنا وقدم آباؤنا الآثمون الخاطئون، والاستغفار مما جنينا وجنى آباؤنا المذنبون المسيئون، لما أزلنا عن أنفسنا بعض ما علق بها من إثم، ولما غسلنا عن قلوبنا بعض ما لصق بها من وضر. وما أعرف مع هذا كله أن إظهاركم على بعض ذلك يتأتى بالحوار والخطاب، أو يتاح بالحجة والدليل، وإنما هي رحمة من الله تمس العقول، فتكشف لها عن الحق، وتهديها سواء السبيل.
قال «كلكراتيس»: فإن هذه الرحمة لم تمس عقولنا بعد، وما أدري أتمس عقولنا في يوم من الأيام. وإذا كنا لم نرحل رحلتك إلى بلاد العرب ولم نر فيها ما رأيت ولم نبل فيها ما بلوت، فنحن معذورون إن لم نضق بحياتنا هذه ذرعا، ولم نخرج عنها ونسلك طريقك تلك التي سلكتها إلى الدير.
Halaman tidak diketahui