قال «كلكراتيس»: فإن أصحاب هذا الدين الذي يفرضه علينا قيصر يزعمون أن هذه القوة ليست في الأرض ولكنها في السماء، وأنها أضخم ملكا وأعظم بطشا وأوسع سلطانا من كل ما يملك قيصر، وأنها خليقة أن تكبحه إذا جمح، وترده إذا طغى.
قال «أندروكليس»: هذا كلام يقال، وما أستطيع أن أومن لهذه القوة حتى أراها، وما أستطيع أن أذعن لها حتى أرى أثرا من آثارها أو مظهرا من مظاهرها. فما أكثر ما يطغى قيصر ويبغى! وما أكثر ما يجور عماله ويظلمون، فلا تردهم هذه القوة ولا تصدهم، وكأنها تدفعهم إلى البغي دفعا، وتمد لهم أسباب الظلم والجور!
قال حاكم المدينة وعلى ثغره ابتسامة لا تخلو من سخرية: فإنكما تجهلان من هذا الأمر أكثر مما تعلمان.
تجهلان أن بين الأرض والسماء حلفا منذ فرض الدين الجديد على الناس، وأن قيصر يمثل هذا الحلف وينطق عنه، فإذا أجاز قيصر أجازت السماء، وإذا منع قيصر منعت السماء، وإذا حل قيصر أو عقد فإنما يحل ويعقد بأمر السماء. وما ينبغي أن تنكرا من ذلك شيئا. وقد كان أمر قيصر في ظل الدين القديم على مثل ما هو عليه في ظل الدين الجديد: كان ينطق بلسان «جوبتير»، ويبطش بيده، ويمزق بسلاحه، ويحرق بناره أولئك المستضعفين من النصارى، فهو الآن ينطق بلسان المسيح، ويبطش بيده، ويصب بأسه على الأثينيين.
قال «كلكراتيس»: إن دل هذا على شيء فإنما يدل على أن قيصر إنما ينطق بلسان نفسه، ويبطش بيد نفسه، ويصب على الناس ظلم نفسه وجورها! وما كان «جوبيتير» ليكلف القياصرة ما تكلفوا من شطط. ولست أعرف المسيح، ولكني ما أظنه أقل رحمة للناس ورفقا بهم من «جوبيتير» وما أرى إلا أن قيصر يبغي علينا ويبغي على آلهتنا كما يبغي على إلهه هو.
قال «أندروكليس»: فالأمر كما تقول. ولكن ما الذي تستطيع أن تفعل؟ وما الذي تريد أن تفعل؟ إنك لا تستطيع أن ترد على قيصر أمره، ولا أن تلقى بغيه وعدوانه بما يشبهما من البغي والعدوان. فليس لك إلا أن تذعن فتحيا، أو تأبى فتموت.
قال حاكم المدينة: والخير في الإذعان! لأن الحياة خير من الموت، فنحن نعرف الحياة، ونبلو لذاتها، ونذوق آلامها، ولا نعرف من أمر الموت وما وراءه شيئا. ويجب أن تكون للآلهة أسرار لا تستطيع عقولنا أن تبلغها أو ترقى إليها. فما لإله قيصر لا يصد قيصر عن ظلمه! وما لآلهتنا لا تحمينا من هذا الظلم؟! كأنما انصرف إله قيصر وانصرفت آلهتنا عن الأرض وما يقع فيها من بغي وعدوان، وعن الناس وما يجني بعضهم على بعض من ظلم وجور.
قال «أندروكليس»: وما يدريك؟! لعل ما يحدث في السماء ونجومها ليس خيرا مما يحدث في الأرض، ولعل وراء هذا الكون من عظيم الأمر ما يشغل الآلهة عما يحدث فيه من الأحداث.
قال «كلكراتيس»: وإذا؟!
قال حاكم المدينة: وإذا فلنلق الحياة كما نستطيع، ولنحتمل منها ما نطيق، ولنأخذ من لذاتها ما يتاح لنا، ولنؤد إلى قيصر ثمن هذه اللذات طاعة وإذعانا نخلص فيهما ما وسعنا الإخلاص، وننافق فيهما إن اضطررنا إلى النفاق.
Halaman tidak diketahui