وعليه حريصا، يكرمه ويؤثره بالخير ويمنحه من الحنان والود ما كان يفيض به قلبه الكريم، وكأنه كان قد جمع في قلبه نصيب ابنه عبد الله من حبه أكثر من ست سنين يزيده وينميه، حتى إذا ضم الصبي إليه أخذ يمنحه هذا الحب ويختصه بهذا الحنان. وأخذ الطفل يحس ذلك وينعم به، ويألف جده ويطمئن إليه بل يطمع فيه، ويبلغ من الجرأة عليه ما لم يكن يبلغه صغار بنيه وكبارهم. كانوا لا يدنون منه إلا أن يدنيهم، ولا يجلسون منه إلا مجلس الإكبار والإجلال، وكان الطفل يدنو منه متى شاء، وينصرف عنه متى أحب. وتبلغ الجراءة به أن يسبقه إلى مجلسه فيجلس فيه ويستأثر من دونه بالفراش. وكان أعمامه وعماته يرون منه هذا فيحاولون رده عنه وتأديبه بآداب الأسرة، ولكن الشيخ كان يكفهم عنه ويقول: دعوا ابني إنه ليؤنس ملكا.
ولم يكن هذا الشيخ يسميه إلا بهذا الاسم الحلو، كان إذا تحدث عنه قلما يذكر محمدا أو أحمد، إنما كان يقول جاء ابني وذهب ابني. وكان يقول لبركة: استوصي بابني. وكان يقول لأبي طالب: احتفظ بابني. فليس غريبا أن يلم المرض بالشيخ ويثقل عليه فيكتئب اليتيم ويمتلئ قلبه حزنا وألما. وما يمنعه أن يكتئب وما يمنعه أن يحزن ويألم، وقد كان يعيش في ظل جده عيشا إن لم يكن يسرا كله ودعة كله، فقد كان حبا كله وحنانا كله! ويصبح الشيخ ذات يوم مثقلا مكدودا يحس كأن الحياة تفارقه، وكأن الموت يسعى إليه، فلا يشك في أن هذا اليوم آخر عهده بالدنيا. هنالك فكر الشيخ في هذا الدهر الطويل الذي أنفقه بين الناس جاهدا في الخير ما استطاع، باذلا معروفه ما وسعه البذل، مطوفا في أقطار الأرض بتجارته وتجارة قريش، ومقيما في مكة بين نسائه وبنيه، يذهب من داره إلى المسجد ويعود من المسجد إلى داره، لا يغدو إلا مفكرا في خير، ولا يروح إلا مفكرا في معروف. والناس من حوله ينعمون ببره بهم وعطفه عليهم، فيحبونه ويؤثرونه ويصفونه المودة ويصدقونه الولاء. وفكر الشيخ في هذه المحن والخطوب التي ألمت به وألحت عليه، فلم تلن قناته ولم تفلل حده، وإنما تركته كما لقيته صلبا جلدا حازما ماضي العزم، كأنه الشجرة العظيمة قد ثبت أصلها في الأرض وامتدت أغصانها القوية في الجو، فهي مستقرة في مكانها تختلف عليها العواصف فلا تضطرب ولا تميل. وفكر الشيخ في ابنه عبد الله كيف كان يحبه ويألفه ويضن به على المكروه، وكيف لم يمنعه هذا الحب من أن يقدمه ليوفي به ما كان قد فرض على نفسه من النذر، وكيف جد في ذلك، وجد الفتى في الطاعة والإذعان، حتى اقترح عليه الفداء، وكيف فادى ابنه فغالى في الفداء، وكيف اغتبط وابتهج حين قبل الآلهة فداءه وتركوا له ابنه، ثم كيف أرسله إلى الشام ليموت في يثرب بعد أن اتجر فأفاد ربحا كثيرا.
نعم! وفكر الشيخ في آمنة كيف خطبت للفتى، وكيف احتملت فقده كريمة أبية. ثم فكر في هذا الطفل اليتيم وفي هذه الأطوار الغريبة التي أحاطت بمقدمه إلى الأرض ودخوله في الحياة، فكر في هذا كله فرضي عن نفسه كما رضي عنه الناس، وحزن على نفسه كما حزن عليه الناس، وكان واثقا بأن ما رأى من الأحداث التي لم ير الناس مثلها لم يرسل إليه عبثا ولم يسلط عليه إلا لأمر يراد. وكان يقدر أن هذا الأمر الذي يراد إنما يراد بابنه اليتم. وكان يود لو مدت له الحياة فرأى من أمر ابنه ما لم يكن يشك في أنه واقع محتوم. ولكن الحياة لا تنال بالرغبة والموت لا يدفع بالكره، والأيام لم تعط الناس عهدا بأن تكون عند ما يريدون. وهل مدت أسباب الحياة لعبد الله حتى يرى ابنه وليدا! بل هل مدت أسباب الحياة لعبد الله حتى يعلم أنه قد ترك وارثا! لقد مات وهو يعلم حق العلم أنه لم يعقب، ولو قد كشف عنه الحجاب لعلم أنه أعقب لا كما يعقب الناس. وهل مدت أسباب الحياة لآمنة حتى تسعد بابنها اليتيم! لقد ولدته فاختطفته منها المرضع واحتفظت به زمنا طويلا. ولم تكد الأم تنعم بابنها حتى أقبل الموت فقطع ما بينهما من سبب، وأبى إلا أن ينقلها إلى جوار زوجها الذي طالما كانت تذكره وتفكر فيه. فلم تمد أسباب الحياة للشيخ وقد أنفق في الأرض أكثر من مائة سنة ذاق فيها خير الحياة وشرها، وبلا فيها حلو الحياة ومرها! لم تمد له أسباب الحياة وكل شيء من حوله ومن حول الطفل يدل على أن حياة هذا الصبي لن تكون كحياة غيره من الصبيان، يسيرة لا عوج فيها ولا التواء، وإنما ستكون حياة فيها امتحان وبلاء، وفيها تصفية وتطهير! لقد فقد أباه وفقد أمه، وهو الآن سيفقد جده، وسيصبح بعد ساعات يتيما حقا، ووحيدا حقا، ليس له من يعطف عليه أو يرق له إلا هذه الأمة التي تحضنه، وعمه الذي سيكلفه كما يكفل الأعمام أبناء الإخوة!
وكان الشيخ يفكر في هذا ويحس أنه يزداد ثقلا على ثقل، ويشعر كأنه يفارق ما حوله ومن حوله قليلا قليلا، لا يتقدم في الزمان لحظة حتى يخطو إليه الموت خطوات. وكان الشيخ يحب أن يسمع من أصوات الناس أكثر ما يستطيع أن يسمع قبل أن يغمره الموت فلا تصل إليه الأصوات. وكان أحب الأحاديث إلى الشيخ في هذه اللحظات القليلة الباقية حديث نفسه، فيدعو بناته ويطلب إليهن أن يبكينه كما يبكي النساء الموتى، ويلح عليهن في ذلك؛ لأنه يريد أن يسمعهن أو لأنه يريد أن يسمع رثاء نفسه. ولعله لو استطاع أن يرثي نفسه بنفسه لفعل. وهؤلاء بناته من حوله يرفعن أصواتهن نادبات نائحات، معددات مآثره ومفاخره، مصورات هذا الحزن العميق الذي يسعى حثيثا إلى قلوبهن، كما كان الموت يسعى حثيثا إلى الشيخ. والصبي قائم من وراء السرير يرى ويسمع ويمتلئ قلبه بما يرى وما يسمع وتنهل من عينيه دموع صامتة لعلها لو رآها الشيخ لأرضته!
ولكن الشيخ يسرع إلى الموت أو يسرع إليه الموت، فهو يسمع بناته ولا يستطيع أن يرد عليهن أو يتحدث إليهن، فيكتفي بما لا بد له من أن يكتفي به من الإيماء. ثم يسرع إلى الموت ويسرع الموت إليه حتى يلتقيا فلا إيماء ولا حراك، قد سكت الشيخ وسكت بناته لحظة. ثم تمضي حياة الناس في طريقها، فيشغل أهل الشيخ بالشيخ ليقطعوا هذه الأسباب الواهية التي بقيت بينه وبين الأحياء والأشياء، ليغيبوه في قبره، وليفرغوا لشئونهم، وليحتفظوا منه بهذه الذكرى التي تملأ القلب كله، ثم تتضاءل شيئا فشيئا حتى تتخذ لها مكانا ضيقا خفيا تستقر فيه، يحسها الرجل حينا ويجهلها أحيانا.
والصبي محزون كئيب، يذكر أمه، ويذكر جده، وينظر إلى حاضنته وينظر إلى عمه، ويفوض أمره بعد هذا إلى الله.
وقد شمله الله برعاية لا تفتر، وكلأه بعناية لا تغفل؛ فلم يلق من الناس في طفولته وشبابه شرا ولا نكرا، ولا احتمل منهم ألما ولا مكروها. عطف عليه عمه كما كان يعطف عليه جده، حتى آثره بالمودة واختصه بالبر. ولقي منه عمه مثل ما كان يلقى جده حبا بحب وودا بود. وكان أبو طالب رجل مروءة وصدق وحسن بلاء، ولكنه كان فقيرا كثير العيال، وكان يجد جهدا عظيما في إقامة عياله الكثيرين وسد خلاتهم. فلما ضم إليه هذا اليتيم صلح أمره وحسنت حاله، ووجد البركة والسعة فيما كان يتاح له من القليل. كان يكسب لعياله ما يستطيع، ثم يجمعهم حوله فلا يستطيعون إلا أن يمسوه مسا رفيقا، ثم ينصرفون وقد استنفدوه وما زالوا جياعا. فلما ضم الرجل إليه ابن أخيه اليتيم لم يزد ما كان يكسب، ولكن الله بارك فيه وزكاه. فكان الرجل يجمع عياله، ومعهم يتيمه هذا، حول هذا القليل، فلا يقومون إلا وقد أدركوا ما يدفع عنهم ألم الجوع ويبلغهم الرضا والاطمئنان.
وكذلك أنفق اليتيم طفولته وصباه بين هذين القلبين الرحيمين: قلب عمه وقلب حاضنته.
ولست أعرف صبيا تأثر بحياة الصبا واحتفظ بحوادثه وذكرياته ما أقام في هذه الدنيا، ووفى للذين بروا به وأحسنوا إليه كهذا الصبي. لم يكد يقدر على البر وإسداء المعروف وإظهار شكره للنعمة، واعترافه بالجميل، حتى ضرب للناس في ذلك أروع الأمثال وأبلغها تأثيرا في القلوب.
أرضعته أمة لأبي لهب يقال لها ثويبة أياما قبل أن تأخذه حليمة. فلما علم ذلك من أمرها حفظ لها هذه النعمة وعرف لها هذا الجميل! فلم يكد يقدر على شكرها والبر بها حتى جهد في ذلك، وإذا هو يحمل زوجه خديجة على أن تسعى عند أبي لهب في أن تشتري منه هذه الأمة لتعتقها، فيأبي أبو لهب، فيتصل معروف الرضيع بأمه هذه ما أقام بمكة، حتى إذا هاجر إلى المدينة لم ينس أمه ولم يهملها، وإنما أرسل إليها الصلات والكسوة من حين إلى حين. حتى إذا عاد من خيبر وقيل له: إن ثويبة قد ماتت سأل عن قرابتها لينالهم بما كان ينالها به من المعروف، فأنبئ بأنها لم تترك أحدا.
Halaman tidak diketahui